11
الفيّاض ، أخلصت فيها القصد ، وصدقت بها النية ، وانفقت في ظلالها ثلاثة أعوام من هذا العمر القصير ، عسى أن تكتب عند الله في الباقيات الصالحات ، وعسى أن تلقى من المسلمين قبولا في استكناه سيرة علي وقيادته .
     وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
النجف الأشرف

الدكتور محمد حسين علي الصغير


12


13
الفصل الأول
عليّ في عصر النبوة

1 ـ من الميلاد حتى الهجرة
2 ـ الإعداد الخاص حتى معركة بدر الكبرى
3 ـ عليّ في عنفوان شبابه ، ومرحلة الزهد والإيثار
4 ـ عليّ فارس المهمّات الصعبة
5 ـ عليّ يتحرك نضاليا في المشاهد كلّها
6 ـ الراية العظمى في كل الفتوح
7 ـ فتح مكة وموقع الإمام عليه السلام
8 ـ أنباء تكدر الفتح ، وعلي يذود الكتائب
9 ـ عليّ رفيق النبي في حربه وسلمه
10 ـ عليّ في حجة الوداع وبيعة الغدير
11 ـ النبيّ يمهّد الأمر للإمام ويلتحق بالرفيق الأعلى
12 ـ قيادة قريش تقتحم السقيفة وتبعد أهل البيت
13 ـ بيعة أبي بكر ومرجعية الصحابة


14


15
(1)
من الميلاد حتى الهجرة

     في الثالث عشر من رجب ؛ وقبل البعثة بعشر سنين : ولد هذا الشعاع الهادي والنموذج الأرقى ؛ علي بن أبي طالب عليه السلام .
     ولد في البيت الحرام ليطهره من الأصنام بعد حين بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتحلت عيناه بالنور عند الكعبة ، ودرجت قدماه بالسير في رحاب أبيه ، وكانت أمه فاطمة بنت أسد ، وأبوه أبو طالب شيخ البطحاء وعمّ النبي ؛ هاشميين ، فهو هاشمي من هاشميين ، وكان لهذا أثر بعيد في عرف القوم ، يريدون بذلك النسب المحض والنقاء الخالص، فكان له ما أرادوا من فخر وسؤدد .
     وكفله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صباه ، كما كفل أبو طالب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صباه ، فكأنه أراد مكافأة عمه في ذلك ، أو الإعراب له عن وفاته له عند ضيق ذات يده ، وتضخم عائلته وولده ، فنشأ عليّ في ظلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغذوه بتربيته ، ويوجهه بسيرته ، فيقتبس منه حسن السمت ورتابة الهدي .
     وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان عليّ عليه السلام : أول القوم إسلاما ، وهو بذلك أقدمهم إيمانا وهو في العاشرة من عمره ، أو أكثر من ذلك بقليل . بعث النبي يوم الأثنين وأسلم عليّ يوم الثلاثاء ، وقد قبل النبي إسلامه


16
صبيا ، وتلك إحدى كراماته في الأقل ، واحتضنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتضان الأخ الشقيق لأخيه ، وأقام على تربيته أولا بأول ، فقد ربيّ ـ إذن ـ في حجر الإسلام ، ورضع من ثدي الإيمان ثاني أثنين هو وخديجة بنت خويلد زوج النبي وأم المؤمنين ، ولم يسجد لصنم قط شأن أترابه ، ولم يألف حياة الأصنام كما ألفها سواه ، فقيل : كرّم الله وجهه ، وهذه كرامة أخرى تضاف الى كرامات سبقت ، وفضائل تقدمت منذ قليل : ولادته في الكعبة ، ونشأته في حجر النبي صلى ا لله عليه وآله وسلم ، وقبول إسلامه مبكرا « فامتاز بين السسابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة ، وامتاز كذلك بأنه نشأ في منزل الوحي بأدق معاني هذه الكلمة وأضيقها » (1) .
     وكان عليّ في أول عهده بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلبث هذا التأمل الدائم في تفكير محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويترصد هذه الخلوة الروحية لديه ، وهو يقلب وجهه في السماء ، ويتجه بضميره لله في حالة من الخشوع والترقب والابتهال ، حتى إذا فجأه الوحي ، وعى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الانقطاع الكلي الى ما يوحى إليه ، وتبصّر في هذا التلاحم ـ الغريب على حياة العرب ـ بينه وبين الله تعالى ، وإذا بنفسه تمتلأ غبطة بما يشاهد ، وإذا بالرؤى تزدحم عليه فيما يجد ، حياة روحية خالصة .
     والاندماج متواصل مع الوحي ، ومناخ جديد يربط الأرض بالسماء ، فمحمد يتلقى من السماء ما يبلغه الى الأرض بكل أمانة ، والسماء تمدّه بأنبائها ، والأرض ـ بعد ـ ساكنة لم تتحرك ، والحياة هادئة لم تضطرب ، ماذا عسى أن يكون بعد هذا الهدوء ، وما عسى أن ينفجر بعد ذلك السكون ، ذلك ما يحدده مستقبل الرسالة . وعليّ عليه السلام يلمح هذا بعين الناقد البصير ، ويفقهه الفقه كله ، تصل إليه هذه النفحات ،
(1) الدكتور طه حسين | الفتنة الكبرى 1 | 151 .

17
وتغمره تلك الامدادات ، فيفتح لها قلبه ويستقبلها استقبال الفاتحين ، فتتوهج في ذاته هذه الشعلة التي لا تنطفىء أبدا ، ويسري في عروقه هذا الدم الجديد ، فيضطم عليه صدره حريصا ، وتتفجر الحكمة في قلبه ، فتمحضه الإيمان المطلق محضا ، ويقبل على هذا الدين فيلتهم تعاليمه من ينابيعها الأولى ، ويسبغ مفاهيمه عقليا ومناخا نفسيا ، فينصهر فيه إنصهارا تاما ، ويستولي عليه إستيلاء حثيثا ، هذا الانصهار وذلك الاستيلاء منذ عهد مبكر في الإسلام كانا أساسا صلبا لما بنى عليه الإمام حياته المستقبلية في قيادته العليا للإسلام فيما بعد .
     وكان لعبادة النبي الصادقة ، وهينمته الهادئة : آناء الليل وأطراف النهار ذلك الأثر البليغ في حياته الليلية عند المناجاة ، وخشوعه المترامي في الذات ، فتراه مطرقا مفكرا حينا ، ومسّبحا متبتلا حينا آخر، وهو في جدّ مستمر وجهد جهيد لا يجد إلى الراحة سبيلا .
     وكابد عليّ ما كابد محمد من شظف العيش ، ومرارة الجوع والظمأ ، وكان أسوة له في مكاره الدهر وعاديات الزمن ، ومحمد يعلن دعوته في حذر ، ويعرض رسالته في أناة ، فلا هي علنية كما يشاء الإعلان ، ولا هي سرية بحيث لم تعرف ، ولكنها شيء بين ذلك ، حتى إذا نزل قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (1) جمع النبي بني هاشم وعرض عليهم الإسلام ، فكان مشهدا عاطفيا مؤثرا ، مجتمع الأهل والعشيرة والأقربين ، ولكنه كان مثيرا ومتوترا في الوقت نفسه ، فعليّ يولم لهذا الجمع بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقدم لهم ما أولم ، ولو قدّم لأحدهم لأتى عليه كله ، ولكنه الشبع للجميع ، ويسقيهم ما طاب وطهر فيتملكهم الري ، فينطلق أبو لهب قائلا : ( سحركم والله محمد ) وينفّض الجمع ،
(1) سورة الشعراء ، الآية : 214 .

18
والنبي لا يعبأ بهذا الهراء ، ولكنه يجمعهم ثانية ، ويطلب إليهم بيسر : « قولوا لا إله إلا الله تفلحوا » الشهادة فحسب ، ويطلب المؤازرة أيضا ، ويستنفر الضمائر بشيء من المودّة حينا ، ومن التلويح بشيء آخر حينا ؛ فمن ذا يسانده ويعاضده عل أن يكون أخاه ووزيره وخليفته من بعده ، وهذا شيء جديد ، بأمر جديد ، وقد وجم القوم ، ولاحت إمارات الغضب يمثلّها أبو لهب فيقول : ألهذا جمعتنا يا محمد ، تبا لك ولما جمعتنا له ، وينزل قوله تعالى : ( تبّت يدآ ابي لهب وتبّ ) (1) وتظهر ضحكات الهزء والسخرية حينا ، حينما ينعم عليّ له بالاجابة ثائرا : « لا يحزنك والله إعنات القوم فعليهم ضلالهم ، وإني يا رسول الله عونك ، أنا حرب على من حاربت » . إجابة بالرضا من وجه ، وإعلان للنضال من وجه آخر ، وهما معا يبدءان العمل بين محمد وعلي ، فيعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للملأ من قريش مخاطبا عليا : « أنت أخي ووزيري وخليفتي من بعدي » فيلتفت ممثل قريش لأبي طالب عاتباً : » مرحاً لك فقد أمّر إبنك عليك« وتتكرر هذه البادرة مرات لا يستجيب لها إلا علي بن أبي طالب عليه السلام فيمنحه النبي ما منح من الأخوّة والوزارة والوصية والإستخلاف بحسب تعدد النصوص الروائية المستفيضة .
     وتبدأ أيام النضال ، وحياة المجابهة ، فقد اشتدت قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذه العصابة اليسيرة من أهل بيته وصحابته ممن آمن معه من ضعفاء القوم ، فالأذى لا يبرح ، والعبث لا يهدأ ، والسخرية في القول والعمل يتحدان بمنظور واحد ، والخوف يملأ نفوس المسلمين ، فلا النهار مشرق القسمات ، ولا الليل ضاحك الأسارير ، ولم تقف قريش عند هذا التجاوز ، ولكنها آمعنت في التضييق ، فتعاهدت فيما
(1) سورة المسد ، الآية : 1 .

19
بينهما ، وكتبت الصحيفة السوداء في مقاطعة النبي وأهل بيته ، وألجأت بني هاشم الى شعب أبي طالب ، لا يكلمهم أحد ، ولا يصهر إليهم أحد ، ولا معاملة من بيع أو شراء ، ويشارك عليّ محمدا في هذه المحنة بجميع أبعادها وأقسى ظروفها وشتى مآسيها ، فهما كبني هاشم لا يأكلان إلا الجشب ، ولا يلبسان إلا الخشن ، ولا يتصلان بأحد إلا لماما ، ولا يصل إليهم أحد إلا لماما أيضا ، وتؤثر المقاطعة أثرها ، ويبلغ الحصار شدّته ، ولا سبيل إلا الصبر ، ويموت كافل محمد ومراسله الى قريش أبو طالب ، فيشتّد عليه الطلب ، وتشتد عليه قريش أيضا قسوة وكرها ومقاومة ، وعليّ الى جنبه يتجرع مرارة الغيظ .
     عليّ في مكة ـ والحالة هذه ـ ينظر ظواغيت قريش وجبابرة الارض يكيلون للنبي حقدا لا ينتهي ، ويوجهون من الأذى ما لا يحتمل ، في كل شيء : في نفسه وأسرته وصحابته حتى يقول : « ما أودذي نبيّ مثلما أوذيت » يوضع الشوك في طريقه ، وترسل الحجارة عليه من خلفه ، ويصبّ الفرث والدم والسلا على ظهره ، وهو في الكعبة يسجد لله ، يستمع إلى قوارص القول ، ويصكّ بنوابي الكلم ، ويقذف بالداهية العظمى ، وعليّ يبصر هذا ويألم له أشد الألم ، وقد يدافع أصدق الدفاع .
     ولم يكن هذا وحده يؤرق عليا ، فهناك ما يضاهيه أو يزيد عليه، فقد كان ينظر الى هؤلاء المستضعفين في مكة : ياسرا وسمية أبوي عمار ، يصبّ عليهم العذاب صبا ، حتى يموتوا تحت العذاب شهداء ، ويمثل بهم أقسى تمثيل لم يشهد له العرب مثيلا من قبل ، ويشاهد عمارا إبنهما ، وقد عذب عذابا شديدا حتى كادت تزهق نفسه ، ويضطره هؤلاء إلى كلمة الكفر ، فيقولها بلسانه ، وقلبه عامر بالإيمان ، وينزل القرآن


20
بذلك يسدده ويسليه ( إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (1) .
     وينظر الى هذا الضعيف المسكين بلال الحبشي ، وقد استولى عليه الطاغوت القرشي يرهقه من أمره عسرا ، وهو يسفه آلهة قريش ، فتلحّ عليه بالإشراك فيأبى ذلك ويقول : « أحد . أحد » ولا يصلون معه الى ما يرضيهم ، فيكررون الكيد إثر الكيد ، ويضاعفون التعذيب والنكال ، ويعاودون الضغط والإكراه ، وهو صامد في وجه هذا ، وثائر في وجه ذلك ، كان عليّ يأرق لهذه المشاهد ويأسى لهؤلاء المستضعفين : عمار وأبويه وبلال وخبّاب بن الأرت ، وغيرهم ممن شرح الله صدره للإسلام ، فتمتلىء نفسه غيظا وكمدا ، وتنفجر عينه دمعا ودما ، وتتحرق روحه حزنا وألما ، ولكنه يتذرع بالصبر الذي أمر به النبي ، ولكن مناظر العذاب والتعذيب بين الحديد والنار ولفح الهجير ، تبقى مخلفات في ذاته ، وتحكم سياجا على تفكيره ، ويدفعه ذلك فيما بعد أن ينصب نفسه علما لهذا الدين يحارب أعداءه ، فالنصر آت عن قريب ، وإن تطاولت قريش بجبروتها ، ومخزوم في علوها ، وثقيف في زهوها ، ولا بد للمحنة أن تنجلي .
     ويوحى الى النبي بهجرة المستضعفين من آله وصحابته الى الحبشة مرة وأخرى ، فيهاجر من هاجر ، يدعو الى الحق ويبشر بالدين الجديد وكان في طليعتهم شقيق علي جعفر بن أبي طالب ، ويبقى علي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى التوجيه ، ويصمد للأحداث الجسام ، فما كان له أن يهاجر ويترك أخاه فهو إلى جنبه حتى النهاية وقد كان ذلك . ولكن الأسى يحزّ في النفس ، ولكنه الأسى لا اليأس ، والألم لا القنوط ، فيركب ما ركبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مصاعب ، يواكبه الإصرار والتحدي ،
(1) سورة النحل ، الآية : 106 .