حصلت عليه ، واتجهت نحو مكة بعد تردد في الأمر ، ولم يأمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بياتها ، فدعا علياً عليه السلام ، وقال له : « أخرج في آثار القوم ، فإنهم إن ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن إلى مكة ، وإن ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهو الإغارة على المدينة ».
     وسارع الإمام في أثر القوم في مهمة صعبة لم تجد منفذّاً لها سواه ، واستمع إلى مناجاة القوم ، واكتشف نياتهم ، ورأى الإبل تمتطى ، والخيل تجنّب ، وأقبل على رسول الله والمسلمون حوله ، وقال : يا رسول الله قد جنبوا الخيل.
     فتنادى المسلمون بالرحيل ، وقفلوا إلى المدينة ، وخرج الرجال لاستقبال الرجال ، والنساء يحملن الزاد والماء والضماد ، وخرجت ابنة محمد : فاطمة الزهراء تلتمس أباها ، وقد أقبل يتهادى بين السعدين : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فإعتنقته ومسحت الدم عن وجهه ، وذهب عليٌ فأتى بماء من المهراس ، وقال لفاطمة : امسكي هذا السيف غير ذميم ، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مختضباً بالدم فقال : لئن كنت أحسنت القتال اليوم ، فلقد أحسن عاصم بن ثابت ، والحارث بن الصمة ، وسهل بن حنيف ، وسيف أبي دجانة غير مذموم ، هكذا روى الواقدي.
     وروى محمد بن إسحاق أن علياً عليه السلام قال لفاطمة :

أفاطم هاء السيف غير ذميم لعمري لقد جاهدت في نصر أحمدٍ فلست برعديدٍ ولا بلئيم وطاعة ربٍّ بالعباد رحيم

فقال رسول الله : لئن صدقت القتال اليوم لقد صدق معك سماك بن خرشة ( أبو دجانة ) وسهل بن حنيف.


42
     حقاً لقد صدق علي في هذه المعركة القتال ، وصدق النية ، وانتهت المعركة بثباته إلى حيث انتهت ، ولولا جملة هؤلاء الثابتين ، لكان الإسلام أثراً بعد عين.

(5)
عليّ يتحرك نضاليا في المشاهد كلها

     ما كان لعليّ أن يستريح بعد معركة بدر ، فالمنافقون واليهود في حلف سري بالمدينة ، والأحابيش والمشركون في حلف علني بمكة ، والمسلمون بين هذين بين فكي أسد كما يقال ، فكانت غزوة أحد بما حملت بين طياتها من أسباب الفشل وعوامل النكسة كما سبق ، وما ترك علي حمل لواء في بدر حتى لواء في أحد ، وما طرح لواء في أحد حتى حمل الوية أخرى في الغزوات الصغيرة والمشاهد المتلاحقة ، فعزوة بني سليم ، وغزوة بني قينقاع ، وغزوة السويق ، وغزوة ذي أمر ، وغزوة بحران تتلاحق تباعا واحدة تلو الأخرى ، وعلي يضطرب فيما بينها فلا يهدأ ، ويتحرك بأزائها فلا يسكن ، وما استقرت الحال حتى نجمت غزوة بدر الصغرى في منتصف السنة الرابعة من الهجرة إذ خرج لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ألف وخمسمائة فارس يحمل لواءه علي بن أبي طالب ، وخرج أبو سفيان في ألفين حتي انتهى بجيشه إلى مرّ الظهر ان، و أمر قومه بالرجوع لأن العام عام جدب ثم كانت غزوة ذات الرقاع ، فغزوة دومة الجندل ، حتى أهل شعبان من السنة الخامسة للهجرة ، فكانت غزوة بني المصطلق ، وكان لعلي فيها بلاء عظيم ، انتهى بالنصر للمسلمين ، والغنائم للمحاربين ، وشهد فيها علي ضربا من العصبية القبلية شهر فيها السلاح بين المسلمين بدعوة جاهلية أبطلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما أسكتهم وأمرهم بالرحيل .
     هذه الأحداث صغيرها وجسيمها خلقت من علي مناضلا فذا يشار


44
إليه بالبنان ، وبطلا من أبطال هذا المناخ القتالي ، فطار صيته في الآفاق ليطل به ذلك على غزوة الأحزاب ومعركة الخندق ، فكان لعلي بها صدى الفارس المعلم ، وصوت الشجاع المطرق ، وعاد يومها فارس العرب الأول ، والمدافع الحقيقي عن الإسلام ، وبشخصه ـ وحده ـ قذف الله الرعب في قلوب المشركين ، وبضربته البكر ذلك اليوم أعزّ الله حمى الإيمان .
     وحينما أجلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهود بني النضير ، ساروا الى خيبر واتصلوا بقريش يدعمهم بذلك بنو قينقاع ، ونقضوا بهذا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبقي بنو قريظة في عهده ، حتى أغرى بهم حيي بن اخطب بتحريض من أبي سفيان فنقضت العهد أيضا ، وأفاقت المدينة لتستمع جلبة اجتماع الأحزاب ، وتنظر صلف قريش وكبريائها تقود هذا الجمع الباغي في اربعة آلاف من العرب والأحابيش واليهود يريدون أن يلتهموا الإسلام التهاما .
     وأجال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين الرأي في الصمد لهذا الزحف ، فأشار سلمان الفارسي بحفر الخندق فاستراح له المسلمون ، ونفذّوه في سرعة مذهلة ، وفوجئت قريش بهذا الأسلوب الجديد ، وتملكها الاضطراب لهذا الإحتراز الفاعل ، وعسكر المسلمون الى سفح سلع فكان خلفهم ، والخندق بين أيديهم ، واستوحشت قريش لهذا الإجراء الدقيق ، وطالت عليه المدة في الإنتظار ، وحذرت أن تخمد العزائم وتجف الهمم ، فأقبل فوارسهم بقيادة عمرو بن عبد ود ، وصاروا الى مكان ضيّق من الخندق أغفله المسلمون إحكاما ، فضربوا خيولهم فإقتحمته ، فكانت بين الخندق وسلع ، وإذا بهم أمام المسلمين وبين ظهرانيهم وجها لوجه .


45
     وكانت مفاجأة للمسلين ليست في الحسبان ، فسيطر عليهم الرعب ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فهم بين متلوم لا يلوي إلى شيء ، ومضطرب لا يسكن الى اطمئنان ، وأرجف بهم المنافقون ، وتناهي إليهم غدر اليهود من معاهديهم ، وكانت الهجمة تفوق ما أعدوا واستعدوا له ، فسرى بينهم الخوف القاتل والذعر المسيطر والقلق الدائم .
     وقد أوجز القرآن العظيم هذا المدرك النفسي ، والواقع التحشدي الهائل ، وتنطع المنافق بعبارات دقيقة ، غاية في البلاغة والإيجاز ، وقمة في تصوير المشهد المروع :
     قال تعالى : ( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون بالله الظنونا *هنالك أبتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلاّ غرورا ) (1) .
     هذا هو المشهد كما عبّر عنه القرآن ، ولك أن تمعن في دلالته لتقف على الحقيقة المذهلة في استقراء المناخ النفسي للمسلمين .
     قال الطبري وابن هشام وسواهما : وخرج علي بن أبي طالب عليه السلام في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، فأسقط في يد عمرو بن عبدود وزمرته ما أقدم عليه عليّ ، فطأطأت له الكبرياء المهلهلة ، وكان نزوله عليهم كالصاعقة في عنفها ، وكالهدة في وقعها ، إحتملتها نفوسهم رياء ، وضاقت بها أحلامهم ذرعا ، فإستشعرت المهانة والذلة بعد العزّة ، وحصدت الخيبة والفشل
(1) سورة الأحزاب ، الآيتان : 10 ، 12 .
46
بعد الزهو والغرور ، ولم يمنع هذا عمرا من تيهه وغطرسته ، ولم يهذّب من غلوائه و إعجابه ، فاندفع يطلب البراز ، ولا مجيب ، يشق صدى صوته البيداء ، والمسلمون في ذهول ، وكأن على رؤوسهم الطير ؛ ولكن القائد الواثق ، والفارس المجرب ، يستجيب لهذا النداء من الأعماق فيقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنا له يا رسول الله ... أنا له يا نبي الله ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ضنينا بعلي ، فقد فقد عبيدة في بدر ، والحمزة بأحد فقال له : « أجلس ... إنه عمرو » .
     وكررها عمرو مرتجزا :

ولقد بححـت من النــداء بجمعكــم هل من مبـارز

     فقام علي الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : أنا له يا رسول الله ، قال : أجلس إنه عمرو ، ولم يجب أحد سواه ، فاستغلها عمرو ساخرا وعاتبا وقال :
     أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها ، أفلا يبرز إلي رجل ؟
     فقام علي للمرة الثالثة وقال : أنا له يا رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه عمرو ، فقال علي وإن كان عمرا ، أو قال النبي : إنه عمرو ، فقال عليّ : وأنا علي .
     فأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمبارزة ، وأعطاه سيفه ذا الفقار ، والبسه درعه وعمامته ، وقال : اللهم أعنه عليه .
     فأهتز عليّ لهذا الإذن ، ومضى على بصيرة من أمره ، وقوة من عزمه ، يبدد خوف المسلمين ويكشف رهبتهم ، وانحدر الى عمرو كما ينحدر السيل من الجبل ، وقد حرص عليّ بهذا الموقف على الموت


47
فمنحه الله الحياة ، وانتشار الذكر والأثر ، وبرز مرتجزا :

لا تعجلــن فقــد أتــاك ذو نيــــة وبصـيــرة إنـــي لارجــوا أن أقيم من ضــربة نجلاء يبقـى مجيب صوتك غيـر عـاجز والصــدق منجي كـل فائز عليــك نــائحـة الجنائز صيتها بعــد الهــزاهـز

     فحمي عمرو لذلك ، وقال له : من أنت ؟ فقال علي ، قال ابن من ؟ قال : ابن عبد مناف ؛ أنا علي بن أبي طالب .
     إرتهب عمرو من الاسم ، وأبدى تريثا في دهاء ، وأظهر إشفاقا في إفتعال ، فقد طار صيت علي في بدر وأحد وسواهما ، وعمروُ المرتث في بدر ، وهو العارف بمبارزه هذا حقا ، فقال : « يا ابن أخي ... قد كان أبوك لي صديقا في الجاهلية ، وكنت له نديما ، وأكره أن أهريق دمك . فقال علي : لكني والله ما اكره أن أهريق دمك ، فحمي عمرو ثانية وغضب لذلك ، فبدره عليّ وقال له : قد كنت تعاهد الله لقريش أن لا يدعوك رجل الى خلّتين إلا قبلت منه أحدهما . قال : أجل ، فقال علي : فإني أدعوك الى الله عز وجل والى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام . فقال : لا حاجة لي في ذلك . قال فإني ادعوك الى البراز . فأجابه الى ذلك ، واتفقا على البراز ، وهنا اشتهر عن النبي أنه قال : « برز الإيمان كله الى الشرك كله » .
     ونزل عمرو عن فرسه فعقرها ، وأقبل على عليّ وسل سيفه كأنه شعلة نار ، وضرب عليا على رأسه فشجّه ، وضربه علي على حبل عاتقه فسقط الى الارض كالجبل وقد أثقلته الجراح ، فجلس علي على صدره ، وثارت لهما غبرة ، كبّر علي ، فعلم المسلمون بمصرع عمرو ، وكبّر المسلمون ؛ ولما قتل عمرو هرب الذين معه بخيولهم حتى


48
اقتحمت بهم الخندق ، وأدرك عليّ نوفل بن عبدالله بن المغيرة فضربه بالسيف وقطعه نصفين ، وكان مع عمرو ابنه حسل فقتله علي عليه السلام .
     وكرّ علي راجعا ، ولا تسلّ عن الفرحة الكبرى عند المسلمين ، ولا تسلّ عن الحقد الذي انطوت عليه جوانح المنافقين غيظا وحسدا، وإمتلئت قلوبهم حقدا وتحرّفا ، كيف فاز بها علي وأخفقوا ، وكيف وقف لها علي وتخاذلوا .
     أقبل علي عليه السلام ، وقد إحتز رأس عمرو فألقاه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام أبو بكر وعم فقبّلا رأس علي .
     وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ « لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من أعمال أمتي الى يوم القيامة » .
     وما أراح عليّ نفسه ، بل رجع الى مقامه الأول ، ووقف بحيث الثغرة من الخندق ، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر ، وسارت الركبان بالنبأ ، واهتزت الصحراء بالمعركة ، وصدع الوحي :
     ( وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ) (1) .
     وبعث الله على المشركين الريح في ليال شاتية ، شديدة البرد والقرّ ، فجعلت تكفأ قدورهم ، وتطرح أبنيتهم ، وتزعزع أخبيتهم ، فاستبد بهم الفزع وتملكهم الذعر . فقال أبو سفيان : يا معشر قريش : ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخفّ ، فإرتحلوا فإني مرتحل » .
     وعاد المشركون بالهزيمة الى مكة ، وعاد المسلمون بالنصر الى المدينة .
(1) سورة الأحزاب ، الآية : 25 .
49
     وانتهى نعيّ عمرو الى أخته عمرة بنت عبد ود ، فقالت :

لو كان قاتل عمرو غيــر قاتله لكنّ قاتـل عمـرو لا يعاب بـه لكنت أبكـي عليـه آخر الأبد من كان يدعى قديماً بيضة البلد

     ولك أن تفسر قولها : أكان رثاء لعمرو أم مديحا لعلي .


50
(6)
الراية العظمى في كل الفتوح

     ونقضت بنو قريظة العهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقطعت ما أمر الله به أن يوصل ، فكان اليهود منهم من المفسدين في الأرض ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخندق أمر بلالا فنادى : من كان سامعا مطيعا فلا يصليّن العصر إلا في بني قريظة . ودعا عليا عليه السلام فدفع إليه رايته العظمى ، وأمره بالخروج لهم ، فسار في جمع من الخزرج حتى دنا من الحصون ، فسمع منهم مقالة قبيحة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكره ذلك وأكبره ، وأشرف اليهود من الحصون فلما رأوا عليا عليه السلام تنادوا : قد جاءكم قاتل عمرو !! وألقى الله في قلوبهم الرعب ، وركز علي عليه السلام الراية في أصل الحصن فأضطربوا لذلك اضطرابا شديدا ، وطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم يسبونه ولا يفقهون فناداهم : يا إخوة القردة والخنازير : إنا إذ أحللنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين . فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسا وعشرين ليلة ، حتى جهدهم الحصار فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مضطرين بعد خطوب يطول شرحها ، وحكّم فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ رحمه الله ، فحكم بأن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذراري والنساء ، وتكون الديار ـ ديار بني قريظة ـ للمهاجرون دون الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة . وحبسوا في دار رملة بنت الحارث من بني النجار .