يصلي عليها أحد منهم ، وأن يدفنها ليلاً ، إذا هدأت العيون ، ونامت الأبصار ، وأن يعفي قبرها » .
     وتوفيت الزهراء غروباً ، فضجت المدينة ضجة واحدة ، واجتمع الناس إلى عليّ عليه السلام يريدون تشييعها ودفنها ، فخرج إليهم سلمان وقال : إن ابنة رسول الله قد أخر إخراجها هذه العشية . ولما انصرف القوم غسّلها عليّ عليه السلام ، وحنطها بفاضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلى عليها ، وأخرجها بعد هزيع من الليل ، ودفنها ليلاً سراً ، وعفّى قبرها .
     واختلف في موضع قبرها ؛ فقيل في البقيع ، وقيل في الروضة بين قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنبره ، وقيل إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو في القرب منه وهو الأقرب في أكبر الظن ، لأن عليا عمّى موضع القبر ، وصنع في البقيع عدة قبور للتغطية ، فأشكل عليهم موضع القبر وموقعه ، وهو نفسه يشير إلى أنها في جوار أبيها كما سيأتي .
     ووقف عليّ عليه السلام على قبر الزهراء عليها السلام ، وهو يرمقه بطرفه ، ويحول وجهه إلى جهة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول ، وهو يغصّ بالشجا ، والدموع تترقرق بين عينيه ، والحسن والحسين بين يديه :
     « السلام عليك يا رسول الله ، عني وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك ؛ قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري ، ورقّ عنها تجلدي ، إلا أن في التأسي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك موضع تعزّ ، فلقد وسدتك في ملحود قبرك ، وفاضت بيين نحري وصدري نفسك ، بلى وفي كتاب الله لي نعم القبول ، إنا لله وإنا إليه راجعون . قد أسترجعت الوديعة ، وأخذت الرهينة ، واختلت الزهراء ، فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله ، أما حزني فسرمد ،


142
وأما ليلي فمسهّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم ... وستنبئك إبنتك بتضافر أمتك على هضمها ، فاحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكم الله ، والله خير الحاكمين . والسلام عليكما سلام مودّع لا قالٍ ولا سئم ، فإن انصرف فلا عن ملالة ، وإن اقم عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين ... فبعين الله تدفن ابنتك سراً ، ويهضم حقها ، وتمنع إرثها ، ولم يطل العهد ، ولم يخلق منك الذكر ، إلى الله يا رسول الله المشتكى ، وفيك يا رسول الله أحسن الغراء ، صلى الله عليك ، وعليك وعليها السلام والرضوان » .
     قال الحاكم في المستدرك لما ماتت فاطمة قال علي بن أبي طالب :

لكلّ إجتماعٍ من خليلينِ فرقة وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمد وكل الذي دون الفراق قليلُ دليل على أن لا يدوم خليلُ

     وعاد عليّ عليه السلام إلى منزله يتجرع ألم فراق الزهراء ، ويعاني من ضروب الوحشة ما شاء أن يعاني ، فقد كانت الزهراء سلوته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس رسول الله مما يسلى عنه ، وعطف إليه ولديه الحسن والحسين ، وثلة صغيرة من بني هاشم والأنصار ، ونظر في الأفق البعيد ، فرأى الأجدر به أن يبايع القوم ، فلقد قلّ ناصره بعد الزهراء ، وقد لاحت إمارات الأرتداد في الأفق ، وعليّ أولى الناس بالغيرة على جوهر الإيمان ، وهو أكثر الناس رفقاً ، وأمسهم رحماً بوشائج الناس ، وهو قد أبلغ في الإعذار إلى ربه وإلى المسلمين وإلى نفسه في كشف ظلامته ، وتناهت أخبار هذا العزم إلى أبي بكر ( رض ) فقصده إلى داره ، وأقبل مهرولاً إليه ، فاستقبله عليّ استقبال الصديق ، وهش إليه أبو بكر ، وكأن


143
شيئاً لم يكن ، فعليّ حريص كل الحرص على مظاهر الكمال والأدب واللياقة ، وهو أزهد الناس بالأثرة والنفع الخاص ، وهو أبعد الناس عن زبارج الدنيا وزخارف الحياة ، وما عليه إلاّ أن يري القوم آداب الإسلام ، وملامح العرفان ، ونقاء السريرة ، فالتفت إلى أبي بكر ، وقال : « إنه لم يمنعنا من أن نبايعك نفاسة عليك ، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقاً ، فاستبددتم به علينا » .
     وحتى في هذا الموقف الدقيق الذي شرح فيه صدره للألفة ، وفتح قلبه ليتناسى الماضي القريب ، أكد حقّه في الأمر ، وأبان وجهة نظره في إيجاز واقتضاب .
     ومهما يكن من أمر فقد دخل في بيعة الرجل ، ودخل معه من امتنع عن ذلك ، وكان هذا أول الهدوء الذي دخل على أبي بكر ، وأول العزوف لعلي عن قيادة الحكم ، وكان عليّ من خلال هذا وذاك عيبة نصح ، وخزانة أمانة ، وكنز معرفة ، يُسأل فيجيب ، ويُستشار فيشير ، ويُؤتمن فيوّفي كلما حزب بالمسلمين أمر ، وكلما فجأهم حدث ، وكلما تعثرت الخلافة في مسيرتها ، ولم يكن ذلك جديداً على عليّ عليه السلام ، فهو أول متخرج في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أول منظّر لها علمياً وعملياً ، وهو بعد وفيّ كل الوفاء لمبادئ هذه المدرسة روحاً وإنسانية ، وهو حدب على إعلاء كلمتها وإبقاء عطائها ، وانتشار مناهجها ، حتى ولو كان ذلك على حسابه الخاص .
     يالها من بصيرة نافذة ، ونية صادقة ، جعلته في مصاف الخالدين .


144
(4)
الثورة المضادّة للإسلام وأعاصير الرِدّة

     عصفت أعاصير الثورة المضادّة للإسلام عند بيعة أبي بكر ( رض ) وهبت رياح الردّة والإنتكاس لدى تسلمه السلطة ، فكان المرتّدون يغشون أطراف الجزيرة العربية بعامة ، ويحتلون غربيها وجنوبيها بخاصة .
     وكان مصطلح الإرتداد ، يعني جماعة المتنبئين الكذبة من جهة ، ويشير إلى الممتنعين عن أداء الزكاة من جهة أخرى ، فكان الأسّود العنسي ، وطليحة الأسدي ، ومسيلمة الكذاب يدعّون النبوّة زوراً وبهتاناً ، وكان بنو حنيفة وطوائف من العرب يمتنعون عن دفع الزكاة . وكان الملحظ الأخير متأطراً بثلاثة مظاهر :
     الأول : إلغاء فرض الزكاة فلا تدفع باعتبارها أثاوة لا تعرفها العرب .
     الثاني : التوقف من دفع الزكاة حتى يتجلى أمر القائمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
     الثالث : دفع الزكاة ولكن لغير الخليفة الرسمي ، فهي موقوفة كما تشير إليه بعض النصوص ، حتى قال قائلهم : أين الذي بخبختم له في الغدير ، ومعنى هذا احتجاز الزكاة وتسليمها إلى الإمام علي عليه السلام .
     وكان ادعاء النبوة حيناً ، ومنع الزكاة حيناً آخر ، يشكّلان خطراً لا


145
على البيعة فحسب بل على الإسلام والنظام الجديد كله .
     وكان على أبي بكر وقيادته التهيؤ لذلك في مجابهة جدّية لا هوادة معها ، وإعداد القوة الكافية لهذا الخرق الكبير ، فيظمّت البعوث ، وسيرّت الجيوش ، وتناخى المسلمون لذلك ، وقامت المعارك على قدم وساق ، كان فيها النصر المحتم للإسلام دون شك .
     وكان لا بد أن تحصل جملة من التجاوزات لطيش القادة ، وفتك المتسلطين ، كما حصل هذا المعنى لخالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة وعشيرته الأقربين ، دون مسوّغ شرعي ، فهم مسلمون صالحون ما بدلوا ولا غيروا ، مما أغضب عمر بن الخطاب غضباً شديداً ، وهم بخالد ومعاقبته ، ولكنه جوبه بعفو أبي بكر وصفحه .
     وكان على علي عليه السلام ، وهو القائد المجرب والإمام المحنّك ، أن ينظر لما حوله من الأحداث الجديدة بعين اليقظة والحذر ، وأن يتدارك من الخطر ما عسى أن يحصل ، وهذا وذاك يقتضيان منه التريث في شأن حقوقه في قيادة الأمة ، فالإسلام الآن في محنة حقيقية ، والدعوات الضالة تريد إقتلاعه من الجذور ، فتجاوز عن كثير من الإساءات الأساسية التي وجهت إليه ، ونصح للإسلام بكل ما يستطيع ، إبقاءً للشهادة ، وتحوطاً للمسلمين ، وحرصاً على وحدة الكلمة .
     كان على علي عليه السلام الانشغال بالأهم عن المهم ، والإلتفات إلى الحق العام دون حقه الخاص ، وهذا شأن الصديقين ودعاة الحق ، وهكذا كان ، إذ أن ما حدث للعرب من الإرتداد ، وما صاحب بعضهم من منع الزكاة ، حريّ بأن يجر على الإسلام من الوهن والضعف ، والله أعلم بحقيقته لو ترك دون مجابهة .


146
     فما أراد عليّ بنفسيته المتألقة النقض والإبرام ، ولا حاول الأخذ والردّ ، وإنما أبقى الأمور على طبيعتها ، وترك السياسة على سجيتها ، ناصحاً حيناً ، وموجهاً حيناً آخر . وما يدرينا فلعله رمق الأفق ، وتطلع إلى ما فيه من تناقض ، وأدرك ما عليه الناس من الفوضى ، وما تهيأه الأقدار من الظروف الشاقة على الإسلام ، وما تفرزه النفوس القلقة من الأحقاد ، فألقى حبلها على غاربها في حدود أحقيّته بالأمر ، وإضطلاعه بالمسؤولية ، إذ لا يطاع لقصير أمر ، وقد سبق السيف العذل كما يقال .
     وما علمنا مشاركة علي عليه السلام في هذه الأحداث الجسام قائداً أو محارباً ، إما اعتزالاً لها ، أو منعاً من التحرك باتجاهها كما هو الظاهر ، فقد كان هو وأمثاله من عليّة المهاجرين قد ضرب النطاق حولهم في عدم الغزو أو السفر أو الإرتياد ، فعليهم أن يحيط بهم سور المدينة وحده ، لا يختلفون إلى الناس ، ولا يختلف الناس إليهم ، فقد كفاهم من الجهاد ما جاهدوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
     كانت هذه سياسة القوم ، وكان على عليّ عليه السلام أن ينفذها راغباً أو راهباً .
     وقد قسم عليّ حياته على أنحاء في إدارة شؤون آخرته ودنياه :
     1 ـ التفرغ لجمع القرآن تنزيلاً وتأويلاً .
     2 ـ الدعوة إلى الإسلام من خلال بيان تعليماته ، ونشر أحكامه .
     3 ـ الخروج إلى ينبع وأطراف المدينة للمزارعة والمساقاة .
     4 ـ التواري عن المناخ القيادي ، فهو أحد الناس له ما لهم وعليه ما عليهم .


147
     لم يتجاوز عليّ عليه السلام هذه المحاور في أكبر الظن ، وما كان ليتجاوزها ولا أن يخرج عنها وهو الناقد البصير ، إذ وجد نفسه محاطاً بالعيون والأرصاد خشية كرّته في المطالبة بالأمر .
     وما كان لعلي عليه السلام وهو الزاهد المجاهد أن يقوم بحركة ما يكون ضحيتها الإسلام في كيانه واستقراره ، ويكون وقودها الخيرة الصالحة من أتباعه ومؤيديه ، بل ذهب إلى ما هو خليق به في صيانة الإسلام ، والإبقاء على أعيان الصحابة من الإستئصال والفناء ، ولم يمنعه هذا من شرح قضيته ، وإعلان مظلوميته بالوسائل السلمية ، إيذاناً بالحق لا رغبة في متاع أو سلطان ، وترجماناً لمعالم الطريق في الهداية والتبصر لا حباً للمعارضة والتذمر .
     ولم تكن تخفى هذه الحقائق على أعلام المهاجرين وأعيان الأنصار ، ولم يكن بمنأى عن ادراكها الحزب الحاكم بأقطابه الثلاثة ، فوقف بعضهم منه موقف المنتظر الراصد ، ووقف بعضهم الآخر موقف المترصد الرقيب ، وسلم من بين هذين الرجل الذي إستحب تولية المستضعفين في الأرض ، وتهيأة رائدي عدالة السماء في الأرض ، وإنعاش أصحاب الحقوق الضائعة في الأرض ، ليقيم حقاً ، ويدحض باطلاً ليس غير ، وسدر عنه من سار بركاب الحكم لا يلوي على شيء من تلك الموازين .
     كانت شخصية أمير المؤمنين تتجلى كلمّا أدلهمّ الخطب ، ونفسيته تتألق كلما ازداد النكر والغدر ، وعقليته تتفوق كلما هبطت المطامع بالعقول ، فبدا مناراً شامخاً لا تهزّه العواصف ، وكوكباً هادياً لا تحجبه الأستار ، يتمتع بالهيبة من العدو والصديق ، ويتجلبب بالعزّة لدى القريب والبعيد ، يُلتجأ إليه في الشدائد فيشق غمارها بثاقب رأيه ،


148
ويلتمس عند المحن فيكشف ظلمتها بحديد نظره ، مرتفعاً بمستواه القيادي عن صغائر الأمور ، متواضعاً في نفسه عند مواضع الزهو والفخر ، تحسبه مطمئناً وهو يضطرب تحرقاً على الإسلام ، وتخاله مضطرباً وهو أثبت من الجبال الرواسي ، لم يألف الدنيا ولم تألفه الدنيا ، كان وكده كلمة التوحيد ، وكان شغله توحيد الكلمة ، وإن ظل جليس بيته حيناً ، ورهين مزرعته حيناً آخر .
     وكانت ضخامة تضحيته في هذا الملحظ تتناسب وضخامة الأحداث ، فما كان المسلمون لينشغلوا بمنحى الردّة ، وحروب الردّة ، ونتائج الردّة ، وينشغل عليّ بطلب الحكم وإيثار السلطان ، فقد نشأت نفسه وترعرت في نصرة دين الله ، وقد صحت عزيمته وقويت شكيمته في الذود عن دين الله ، فليتناس عليّ حقه إذن ولو إلى حين ، وليضرب صفحاً عن هذا الحق المضيع فقد أباه قومه عليه دون مسوغ واع ، ولكنه نكير سيفه على المشركين ، وشدة وقعته على قريش ، وقد تألبت القلوب عليه ، ولا سبيل إلى صفائها ، وقد كرهت القبائل صولته وجولته في صدر الإسلام ، ولا أمل في التحبب إلى نفوسها ، وذو الفقار يقطر من دماء فتيانهم في بدر وأحد ، ورؤوس أبطالهم تندر بسيف علي في المشاهد كلها .
     هذا هو السبب الحقيقي الأول في الإغماض عنه ، والتنكر له ، وتر القلوب ، وأوغر النفوس ، والجاهلية هي هي في أحقادها ، وأنى تنزع هذه الأحقاد ، وتنسى تلكم الأوغار ، وعليّ هو هو في صلابته ، وذلك السيف بيده ، وإن عادوا عاد .
     وناحية ثانية ليست أقل أهمية من الأولى ، كونه امتداداً لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجدوا من محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا النضال المستمر ، والحمل


149
على الطريق المستقيم ، وهذه الدنيا تلقي بزهرتها في أحضانهم ، وتزجر بنعيمها بين ظهرانيهم ، فليس لهم إذن مع علي إلا النضال نفسه ، والزهد نفسه ، والحمل على الجادّة نفسها ، والنفوس أميل إلى الترف والبذخ والدعة منها إلى القصد والاعتدال والمجاهدة .
     وظاهرة ثالثة توازي ما تقدم إلا وهي حب الرئاسة والإنفراد بالأمر والإستيلاء على السلطة ، وتلك طبيعة قريش في أُرستقراطيتها ، وذلك منهجها في إثرتها ، وعليّ في مقتبل العمر وعنفوان الشباب ، وعسى أن تطول مدته ويتمهل الزمن ، وإذا حدث ذلك فقد رسخ حكمه ، واستقر نظامه ، ولا أمل في العودة إلى الوراء .
     كل أولئك وسواء كان وراء إقصائه عن المرجعية في الدين .
     فإذا أضفنا إلى ذلك قرب العهد بالجاهلية ، وضعف الوازع الديني ، وإنشقاق الأنصار فيما بينهم ، وإشفاق المهاجرين من ضياع الفرصة ، وقد فجأ الإسلام حدث الشقاق ، ودهم المسلمين خطر الإرتداد ، وجدنا الأمثل بأمير المؤمنين أن يسلّم للأمر الواقع راضياً وساخطاً ، راضياً بقدر الله وقضائه ، ساخطاً على تجاهل قدره وهوان منزلته ، ولكن هذا وذاك لم يمنعه من الإعتداد بنفسه إعتداداً شامخاً ، ولم يبخل من أجله بتسخير مواهبه ومعارفه ، فنصب ذاته علماً للدين ، فما استطاعوا أن يصرفوا الأنظار عنه ، فكانت معضلات المسائل وأمهات المشاكل تنتظر حلوله الدقيقة ، حتى قال أبو بكر في أكثر من موضع :
     « بأبي يا أبا الحسن يا فرّاج الكروب ومزيل الهم » .
     ولم تمنعه عزلته الظاهرية عن إقامة السنن وإبانة الفروض ، فكان


150
الشاخص لذلك ساء ولاة الأمر أم لم يُساؤوا ، بل وقد يذهبون إليه يلتمسون عنده المخرج فيما لا يجدون فيه مخرجاً ، وقد يلجؤون إليه أيضاً في بيان أحكام القرآن ، وكشف غوامض التنزيل ، وما أكثر ما حدث ذلك ، وكان إلى جانب هذا معنياً بجمع القرآن مرتباً حسب نزوله ، ومفسراً له حق تفسيره ، مشيراً إلى عامه وخاصه ، ومطلقه ومقيده ، ومفصله ومجمله ، ومبينه ومبهمه ، ومحكمه ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه ، وعزائمه ورخصه ، وعبره وأمثاله ، وسننه وآدابه ، حتى أملى ستين نوعاً من أنواع علوم القرآن ، وكان أول من عني بذلك ، فإليه يرجع علم التفسير ، ومنه انطلقت علوم القرآن ، وبه قامت سنن الكتاب . وكان هذا الاتجاه مما تمليه عليه مصلحة الإسلام ، ومما يقتضيه تسيير العلم .
     وكان القضاء والإفتاء من الظواهر الكبرى التي اختص بها في عهد الشيخين ، فكم من مبهمة قد أبانها ، وكم من معضلة قد حللها ، وكم من مسألة كان إستنباطه فيها هو القول الفصل .
     ولم يغب عن بال جملة من المسلمين قول الرسول : « أقضاكم علي » فكان يوكل إليه القضاء فيما لا بد منه ، وفي القضاء والإفتاء فرض عليّ وجوده العلمي رغم الضباب الكثيف المهيأ لحجب مسيرته العلمية أيضاً ، وكتب التأريخ والأحاديث والصحاح مليئة بجزء كبير من هذا الملحظ في حياته أيام الشيخين ، حتى قال عمر محذراً ومعلناً بوقت واحد : « لا يفتينّ أحدُكم في المسجد وعليٌّ حاضر » .
     وانتشر فقه عليّ في الحلال والحرام ، وبرز في الفروض والميراث ، وتميز بالحدود والديات ، وهناك مئات الجزئيات لهذا