( 11 )
تفاقم الأمر على عثمان ومصرعه

     وتفاقم الأمر على عثمان ، فقد تألبت عليه الأمصار ، وقد أجلب عليه البعيد والقريب ، وقد ملّ الناس وعده الماطل ووعيده النازل ، وقد ترك نصح بقية المهاجرين والأنصار ، وقد نصحه علي عَليهِ السَّلام وبالغ في الجهد فما إنتصح ، فما عليه إلا أن يشاور رجاله الأثيرين عنده والمقربين لديه ، وكان يلتقي عماله وولاته في الموسم من كل عام فيسمع منهم ويسمعون منه ، فلما لقيهم سنة أربع وثلاثين جمعهم للمشورة ؛ وكان في طليعتهم : معاوية ، وعبد الله بن عامر ، وابن أبي سرح ، وسعيد بن العاص ، فقال لهم عثمان :
     « إن لكل أمير وزراء ونصحاء ، وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي ، وقد صنع الناس ما قد رأيتم ، وطلبوا إليّ أعزل عمالي ، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون ، فاجتهدوا رأيكم » .
     وكان أمر هذا الشيخ عجباً في أوله وآخره ، كيف يترك رأي عليّ وذوي السابقة في الإيمان والهجرة ، ويستند إلى هؤلاء ممن عرف بالغدر والمكر والدخل ، ممن لا يغنون عن الحق شيئاً ، ولا يتألمون من الباطل إقترافاً وإجتراحاً ، وليسوا بأمناء على دنيا ولا دين ، وممن نقم عليه الناس إستهتارهم و استئثارهم ، وهم الداء فكيف يتطلب منهم الدواء .


222
     ومهما يكن من أمر ، فقد أشار عليه معاوية أن يكفيه امراءُ الأجنادِ الناس ، وأن يكفيه هو الشام .
     وأشار ابن أبي سرح أن يعطي الناس المال ويتألفهم .
     وأشار سعيد بن العاص عليه أن يقتل قادة المعارضة فإن لكل قوم قادة متى يهلكوا يتفرقوا ، ولا يجتمع لهم أمر .
     وأشار عبد الله بن عامر : أن يشغل الناس بالجهاد ويوجههم للثغور .
     وبهذا الرأي الأخير عمل عثمان ، ورد العمال إلى أمصارهم ، وأمرهم بالشدة وإرسالِ الناس إلى الغزو والحرب ، وأمرهم بتجهيز البعوث ، وحرمان الناس من أُعطياتهم إن عصوا .
     فاستقبل المسلمون ذلك بالنقمة ، ورأوا فيه شراً مستطيراً ، فلما دخلت سنة خمس وثلاثين ، تكاتب أعداء عثمان وبني أمية في البلاد ، وحرّض بعضهم بعضاً على خلع عثمان عن الخلافة ، وعزل عماله عن الأمصار على حد تعبير الطبري . وتداعى الناس لذلك فدعا عثمان علياً وطلحة والزبير فحضروا وعنده معاوية فتكلم كلاماً لم يرضِ المجتمعين ، فنهره علي فسكت مغضباً ، ورفق عثمان وهدّأ الموقف بتلبية طلب الجماعة باسترداد ما أعطى لعبد الله بن خالد بن أسيد من مبلغ قدره خمسون ألف دينار لبيت المال ، وماأعطى لمروان من مبلغ قدره خمسة عشر ألف دينار ، كبداية لردّ الظلامات وإستصلاح الحال ، فهدأت الخواطر شيئاً ما ، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة . فقد قدم المدينة ثائرون من الكوفة كما أسلفنا ، وتبعهم ثائرون من البصرة ، وإذا بالمصريين يرسلون وفداً ضخماً في رجب سنة خمس وثلاثين ليناظر


223
عثمان ، والتقوا به في قرية خارج المدينة فناظروه وحكّموا المصحف بينه وبينهم ، فأقنعهم عثمان ظاهراً ، وخرج إلى المسجد الجامع ، وخطب فأثنى على المصريين ، وانصرف المصريون راضين أول الأمر .
     واستنجد عثمان بعلي عَليهِ السَّلام ومحمد بن مسلمة ، فأنجداه بالوساطة الكريمة ، ووعدهم برفع المظالم ، وقضاء الحوائج ، والإنتصاف من العمال والولاة ، ولكن مروان أفسد الحال ، ورّد الناس ردّاً عنيفاً ، وكانت هنالك أحداث ومحاججات ، وكان هناك غدر بالعهود والمواثيق ، حتى بلغ السيل الزبى ، فخرج المصريون في ستمائة فارس فأتوا علياً ، فصاح بهم وطردهم ، وأتى البصريون طلحة فشايعهم بذلك ، وأتى الكوفيون الزبير فمالئهم .
     وتعقدت الأمور تعقداً عجيباً وسريعاً أيضاً ، فقد تداعى الثائرون من أهل الأمصار بالمدينة ، ونادوا بالأمان لمن كفَ يده ، وحصروا عثمان في الدار ، فاستنجد عثمان بأمراء الأجناد للمنع عنه ، والذب دونه ، فتراخى معاوية ، وتربص ابن أبي سرح ، وتثاقل عبد الله بن عامر ، وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو لنجدة عثمان ، فلما انتهى الخبر إلى الثائرين ، جمعوا أمرهم ، واستقر رأيهم على خلع عثمان وعلى قتل عثمان أيضاً .
     وخرج عثمان يوم الجمعة يصلي بالناس ، فوعد وأوعد وهدد وأنذر ، ووعظ وذكر ، فجبهه حكيم بن جبلة ، وقتيرة بن وهب ، وثار القوم بعثمان وحصبوه حتى صُرع مغشياً عليه ، وأدخل داره ، واستقتل نفر دونه ، منهم : الحسن بن علي عليهما السلام ، وسعد بن أبي وقاص ، وزيد بن ثابت كما يقول ابن أبي الحديد .


224
     وأقبل عليّ عَليهِ السَّلام ، وطلحة والزبير ، فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته ، فأساء مروان لعلي فقام مغضباً هو ومن معه .
     وتدهورت الحالة ، وساءت الأوضاع جداً ؛ فقد مُنِعَ عثمان من الصلاة ، وأقام الثائرون أبا حرب الغافقي زعيم المصريين للصلاة ، ثم منعوا الماء عن عثمان حتى إشتد به العطش هو واهله ، ثم إن أهل المدينة تفرقوا عنه ، ولزموا بيوتهم ، فكان لا يخرج أحد منهم إلا بسيفه يمتنع به ، واستمر حصار عثمان أربعين يوماً كما يقول الطبري .
     وزجر عليّ عَليهِ السَّلام الثائرين فقال : إن الذي تصنعون ليس صنيع المؤمنين ولا صنيع الكافر ، وإن الفرس والروم ليأسرون فيطعمون ويسقون . واستطاع عليّ بالقوة والزجر ، ولمكانته في النفوس ، أن يدخل الماء على عثمان ومن في الدار . وهي نجدةُ ما بعدها نجدةٌ في عرف القوم .
     وتداعى جماعة بني أمية لحماية عثمان ، واستقلت طائفة من أبناء المهاجرين والأنصار في الدفاع عن عثمان ، وكان في طليعتهم الحسن والحسين عليهما السلام ، وعبد الله بن عمر ، وعبد بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، وكان أميرهم ابن الزبير .
     وكان علي عَليهِ السَّلام يدفع عن عثمان قدر المستطاع ، ولكن الثورة كانت عارمة ، والمدينة محكومة بالثوار ، والثوار لا يحكمهم أحد ، واستجار به عثمان ، وقال له : لك منزلة عند الناس ، وهم يسمعون منك ، وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني ، فإن في دخولهم عليّ وهناً


225
لأمري وجرأة عليّ ، فقال عليهِ السَّلام :
     إني كلّمتك مرة بعد أخرى ، فكل ذلك تخرج وتقول ، وتعد ثم ترجع ، وهذا من فعل مروان ومعاوية وابن عامر وعبد الله بن سعد ، فإنك أطعتهم وعصيتني .
     فقال عثمان : فإني أعصيهم وأطيعك .
     وتدارك عليٌّ ما استطاع من الفتنة ، فأمر الناس أن يركبوا معه ، فركب ثلاثون من المهاجرين والأنصار ، فكلم عليّ الناس ، فاستمع إليه أغلبهم ، وأمر عثمان : بأن يتكلم بكلام يسمعه الناس ، ويعدهم به بالتوبة ، وقال له عليّ :
     « إن البلاد قد تمخضت عليك ، ولا آمن أن يجيء ركب من جهة أخرى ، فتقول لي يا علي : إركب إليهم ، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك ، وإستخففت بحقك » .
     فاستجاب عثمان لتوجيه علي عَليهِ السَّلام ، وخطب الناس ، ووعد بتنحية مروان وذويه ، وتداعى الناس إلى باب عثمان ، لردّ الظلامات ودفع الحقوق كما وعد ، فنهاه مروان عن ذلك ، واستقبل الناس بالزجر والسباب ، ورجع الناس خائبين .
     ووجم الإمام علي لما حدث ، فقال :
     « أي عباد الله ، يالله للمسلمين ، إني إن قعدت في بيتي قال لي : تركتني وخذلتني ، وإن تكلمت فبلغت له ما يريد ، جاء مروان فتلعب به ، حتى صار له سيقة ، يسوقه حيث يشاء ، بعد كبر السن وصحبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وقام مغضباً من فوره حتى دخل على عثمان ، وقال له :


226
     « أما يرضى مروان منك إلا أن يحرفك عن دينك وعقلك ، فأنت معه كجمل الضعينة يقاد حيث يسار به ، والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا عقله ، وإني لأراه يوردك ولا يصبرك ، وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك ، أفسدت شرفك ، وغُلبت على رأيك ... ثم نهض .
     وكان هذا آخر دخول لعلي على عثمان .
     ولقد صح ما توقعه الإمام ، فقد سلّم عثمان الأمر كله إلى مروان ، فَتلعبَ به مروان كما قال الإمام ، وأورده موارد الهلكة ولم يصدره ، فلم يكن ذا دين ، ولم يكن ذا رأي ، ولم يكن ذا منزلة .
     وتطورة الأحداث تطوراً سريعاً ، فالمصريون يكتشفون أنبوبة رصاص مع رسول عثمان إلى مصر ، وفي الأنبوبة صحيفة تأمر الوالي بالقتل أو الصلب وبالنفي والتشريد لجملة من المصريين ، وعثمان بين ذلك يثني على المصريين ويعد علياً بأن ينصف الناس من نفسه ومن عماله ، ومروان يفسد الأمر عليه ، وعثمان يقول لعلي : لست آمن الناس على دمي فارددهم عني ، فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي ومن غيري ، فيقول له علي عَليهِ السَّلام :
     « إن الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك ، وإنهم لا يرضون إلا بالرضا ، وقد كنت أعطيتهم من قبل عهداً فلم تفِ به ، فلا تغرر في هذه المرة ، فإني معطيهم عنك الحق » .
     قال عثمان : إعطهم فوالله لأفين لهم . فما أعطاهم عثمان شيئاً ولا وفى لهم .
     وعلم الثائرون أن لا شيء بيد عثمان ، لا عزل ولا منع ، ولا دفع مظلمة ، وإشتدّ الحصار بعثمان ، وإشتدّ الثائرون بمطالبهم ، وإستعجل


227
الأمويون القتال ، واستعجل الثائرون القتال أيضاً ، فقد بلغهم أن الإمداد في طريقه إلى المدينة ، وإذا وصل الإمداد من الأقطار إلى المدينة ، فسيدخلون حرباً مع أنصار عثمان لا مع عثمان .
     والحق أنه عمال عثمان قد غدروا بعثمان ، فقد تباطؤوا عنه دون شك ، وقد أسلموه للقتل راغبين ، فكأنهم جميعاً قد تواطؤوا على ذلك ، ويمكن أن تكون تلك خطة مدروسة مبرمجة يترأسها معاوية ، ليتسلم الحكم فيما بعد ، فيُقتل عثمان ويطالب هو بدم عثمان ، فيكون ولي الدم المسفوك ، وهكذا كان ، وإلا فما يدرينا ما مغزى قول معاوية لحبيب بن مسلمة الفهري ، وهو يجهزه للخروج إلى نصرة عثمان ، فيأمره بالمرابطة حول المدينة ، ويعهد إليك مؤكداً أن لا يتقدم عن ذلك شبراً ، ويقول له :
     « هذا أمري فلا تتقدم وتقول : يرى الحاضر ما لا يرى الغائب ، فأنا الحاضر وأنت الغائب » .
     وما بال المسلمين في الموسم لم يهبوا لنجدة عثمان وهو محصور ، وكان عثمان قد أمر ابن عباس على الحج على الحج وكتب معه كتاباً يستنجد به الناس ، وما بال والي مكة من قبل عثمان لم يسعفه بشيء على قرب المسافة .
     لا أشك أن مؤامرة سرية بقيادة معاوية بن أبي سفيان كانت وراء هذا التقاعس الغريب عن نصرة عثمان أو الدفاع عنه ، وكان الأمر يدار بخفاء وكتمان حتى يقتل عثمان ، وينهض من ينهض بطلب ثأره ، وقد كان الأمر هكذا ، فقد علم معاوية أن الناس لا يعدلون بعلي أحداً ، وإذا كان كذلك كان الطلب بثأر عثمان ، وسيلة من الوسائل للإستيلاء على الحكم ، وقد أنطلت هذه اللعبة على المغفّلين ، ورفع معاوية ـ فيما


228
بعد ـ قميص عثمان ، ولكنه بعد إستيلائه على الحكم لم يذكر عثمان بشيء ، ولا طالب بدم عثمان ، بل لم يعرف حتى أبناء عثمان ، واستأثر بالملك وحده .
     ومهما يكن من أمر ، فقد تَسَوَرَ الثائرون على عثمان الدار ، وقد دعاه رجل يسمى نيار بن عياض الأسلمي ، وهو صحابي ، دعا عثمان ووعظه ونصحه وأعذر إليه ، وأمره بخلع نفسه ، وإنه لفي ذلك إذ رمي بسهم أو حجر فقتل .
     فنادى الثائرون : ادفع لنا يا عثمان قاتل صاحبنا فنقيد منه ، فقال عثمان : ما أعرف له قاتلاً فأدفعه إليكم ، أأدفع إليكم رجلاً ذبّ عني وأنتم تريدون قتلي .
     فاستشاط الثائرون غضباً ، واقتحموا الدار اقتحاماً مروعاً من غير بابها ، لأن الإمام الحسن بن علي عليهما السَّلام كان مرابطاً في باب الدار يحامي عن عثمان ، وهجم الثائرون هجوماً جنونياً على الدار ، ينهبون ما فيها ، ويحرقون أبوابها ، وخرج أهل الدار يقاتلون ، فجرح عبد الله بن الزبير جراحات بليغة ، وصرع مروان حتى ظن به الموت ، وقتل آخرون وهم يدافعون عن عثمان ، وانتهى الأمر بقتل عثمان بصورة شنيعة لا أسيغ تفصيلها .
     وبقتل عثمان فتح على المسلمين باب شر عظيم ، فقد أنقسم المسلمون شِيّعاً وأحزاباً ، وتضعضعت هيبة الحكم ، ووهن سلطان الإسلام ، وأصبح حكم المدينة بيد الثائرين لا طول لأحد فيها ولا حول .
     وقد أوجز عليّ عَليهِ السَّلام أمر عثمان والناس بقوله :


229
     « استأثر فأساء الأثرة ، وجزعتم فأسأتم الجزع ، ولله حكم واقع في المستأثِر والجازع » (1) .
     وهذا من أبلغ الكلام وأفصحه في تصوير الحال .
(1) ظ : في نصوص هذا الفصل ووقائعه التأريخية والسياسية كلاً من :
     ابن الأثير | الكامل في التأريخ + الأمين الحسيني العاملي الشقرائي | أعيان الشيعة + البلاذري | أنساب الأشراف + الجاحظ | البيان والتبيين + إبن حجر | الصواعق المحرقة + ابن أبي الحديد | شرح نهج البلاغة + هاشم معروف | سيرة الأئمة الأثني عشر + ابن خلدون | تأريخ ابن خلدون + إبن سعد | الطبقات + الطبراني | المعجم الكبير + الصدوق | الخصال + الطبرسي | مجمع البيان + الطبري | تأريخ الرسل والملوك + طه حسين | الفتنة الكبرى + إبن أبي طيفور | بلاغات النساء + عبد الفتاح عبد المقصود | الإمام علي + أبو الفدا | المختصر في أخبار البشر + ابن قتيبة | الإمامة والسياسة + قدامة بن جعفر | الخراج وصنعة الكتابة + القندوزي | ينابيع المودة + الدسوقي | أيام طه حسين + المسعودي | التنبيه والأشراف + المفيد | الإرشاد + المفيد | الافصاح في إقامة علي بن أبي طالب + أبو نعيم | حلية الأولياء + الواقدي | المغازي | اليعقوبي | التأريخ .