241
(2)
استقبال خلافة الإمام بين المحرومين
والأُستقراطيين

     استقبل الضعفاء والمحرومون خلافة الإمام بالغبطة والسرور ، وتلقتها الطبقة الأُرستقراطية من قريش بالحقد والكراهية ؛ وكان المناخ الاجتماعي في المدينة يضم أهل الورع والتقوى يعتضد بهم الإمام ، ويضم أيضاً أهل النفاق والشقاق فيضيق بهم الإمام ، وكان المسرح الإداري من ذي قبل يعجُّ ويضجُّ بأهل الطمع والأثرة ، فالولايات تحتجن ، والمناصب يستولي عليها المقربون والأصهار ، وكان المناخ السياسي مضطرباً أشد الإضطراب في واقعه ، وإن بدا أول الأمر متماسكاً بعض الشيء .
     وتحشد الطامعون بالأمر يجمعون شتاتهم ويعلنون عصيانهم ، وكانت الحجاز والكوفة والبصرة واليمن في طاعة الإمام حينما بويع له ، وكان أمر الشام لا يريد أن يستقيم للإمام ، ففي الشام معاوية بن أبي سفيان ابن عم عثمان ، ومن الإمكان أن يتظاهر طالباً بدم عثمان ، وأن يأوى إليه المردة من أعداء الإمام ، وأصحاب الدنيا ممن فارق أو سيفارق الإمام ، وقد بدت علائم ذلك تظهر في الأفق تدريجياً وبانتظام ، فها هو يترصد في البيعة بل يتلكأ عنها ، وها هو يدير أمره بدقة وحذر شديدين ، ويحكم أمره بأناة وصبر طويلين ، وهو لا يتورع من الإغراء


242
والبهتان وتسخير المال ، وشراء الرجال إزاء السلطان كما سترى .
     واستقبل الإمام تخطيطه في ضوء الإسلام وبهدي القرآن وأضواء السنة بكثير من التقوى والورع ، فأسند الولاية لأصحابها ، وكان جديراً بأن يختار الأمثل فالأمثل وقد فعل هذا بكل أمانة .
     فما إن فرغ من البيعة حتى لبى نداء الضمير الإنساني في عزل ولاة عثمان ، واستبدلهم بغيرهم من الصالحين والمؤهلين من أصحابه ، وكان الأنصار في حرمان أيام الشيخين وعثمان ، فرّد إليهم الإعتبار السياسي من خلال كفاياتهم ، فاستعمل منهم ثلاثة أعلام لثلاثة أمصار ؛ فأرسل قيس بن سعد بن عبادة والياً إلى مصر ، واستعمل عثمان بن حنيف على البصرة ، وعيّن سهل بن حنيف والياً على الشام .
     وعاد عليّ إلى قريش فأرسل خالد بن العاص بن المغيرة المخزومي إلى مكة والياً ، وعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب عاملاً على اليمن .
     وأقر بإشارة مالك الأشتر أبا موسى على الكوفة ، فبعث إليه بالبيعة ، وقيل أرسل عمارة بن شهاب إلى الكوفة ، فلقيه في الطريق من أشار عليه بالرجوع لأن أهل الكوفة لا يرضون بغير أبي موسى الأشعري أميراً ، وكان يتضاعف لهم ، ولا يهمه أمرهم .
     وتوجه عمال الإمام إلى أقاليمهم ، فدخل عثمان بن حنيف البصرة ، فإرتحل عنها عامل عثمان عبد الله بن عامر بن كريز ، وحمل معه ما في بيت المال جميعاً وأتى مكة ، ودخل ابن عباس اليمن فرحل عنها عامل عثمان يعلى بن أمية ، واحتمل بيت المال وأتى مكة . وسار قيس بن سعد بن عبادة إلى مصر ، ودخلها في غير جهد ولا مشقة وأخذ


243
البيعة لعلي عَليهِ السَّلام من أهلها . وذهب خالد بن العاص المخزومي إلى مكة فأبى أهلها مبايعة علي وأخذوا عهده ورموه في زمزم . وتوجه سهل بن حنيف إلى الشام ، فلقيته في حدودها خيول معاوية ، فسألوه عن شأنه ، فأخبرهم بأنه أمير الشام ، فقالوا إن كنت أميراً من قبل عثمان قبل قتله فدونك إمرتك ، وإن كنت أميراً من قبل غيره فارجع إلى من أرسلك .
     والبحث العلمي يشكك في تعيين ابن حنيف على الشام أميراً ، وفيها معاوية ، وليس كل ما روي يقطع بصحته كما سترى .
     وكان الإمام قد أرسل إلى معاوية كتاباً يطلب فيه أن يبايع ، وأن يقبل إلى المدينة في أشراف أهل الشام ، ولم يذكر في الكتاب عزله أو إقراره في ولايته . فلما وصل الكتاب إلى معاوية لم يجب الإمام بشيء ، وأخذ يتربص بالأمر ، وأعجله الرسول على الجواب فتلكأ ثم أرسل طوماراً إلى الإمام ، وكتب في أعلاه : من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ، وقدم الرسول المدينة وأشهر نفسه فيها ، وأوصل الطومار إلى الإمام ، وفضّ الإمام الكتاب ولا شيء فيه إلا : « بسم الله الرحمن الرحيم » .
     وأستأمن الرسول علياً فآمنه ، وكان من عبس ، فقال للإمام والناس تسمع : إني تركت أهل الشام وقد صمموا أن يثأروا لعثمان ، ونصبوا قميصه للناس ، وليس عندهم إلا السيف .
     وكان المغيرة بن شعبة ـ فيما يزعم الرواة ـ قد أشار على عليّ عليه السلام إبقاء معاوية على الشام حتى تتم بيعته ومن ثم يعزله ، فأبى ذلك الإمام ، كما أبى إبقاء ولاة عثمان عموماً ، لأن دينه وورعه يمنعانه من ذلك ، وقال :


244
     « والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ، ولا وليّتُ هؤلاء ، ولا مثلهم يُولى ... لا أدّهن في ديني ، ولا أعطي الدني من أمري » .
     وكذلك أشار عبد الله بن عباس بمثل هذا « أبقه شهراً وأعزله دهراً » .
     فأبى الإمام ذلك وقال بما معناه : عليك أن تشير وعليّ أن أرى ، فإذا عصيتك فأطعني . فقال ابن عباس : « إن أيسر حالك عندي الطاعة » .
     وكان عليٌّ عليه السلام صاحب حق وصاحب دين ، فلا يداخل أحداً في دينه ، ولا يتنازل أبداً عن حقه ، فدعا إليه وجوه الناس وفيهم طلحة والزبير ، وجملة المهاجرين والأنصار ، فأخبرهم بما عليه معاوية ، من خلع الطاعة ومفارقة الجماعة ، وانبأهم أن الحل يتحدد بمقاومته عسكرياً قبل أن تستشري الفتنة ، وعلم الناس رأي الإمام ، وعلموا أيضاً أنها الحرب ، وآخر الدواء الكي .
     وكان طلحة والزبير يقدّران أن الإمام سيوليهما على بعض الأقاليم ، وأنه محتاج إليهما ، أو يستدفع خطرهما ، لأنهما من أصحاب الشورى ، وهما قد أسلما عثمان وخذلاه ، بل أعانا عليه وألبا حتى قتل ، وهما قد أقبلا على بيعة الإمام طائعين ، وأول يد بايعته يد طلحة وكانت جذاء ، وتشاءم الناس من ذلك ، وكان الأمر كذلك .
     صرح طلحة والزبير للإمام بطلب الولاية على المصرين : الكوفة والبصرة ، فأبى عليهما الإمام ، وتلطف بهما برفق ، وقال :
     « أحب أن تكونا معي أتجمل بكما ، فإني أستوحش لفراقكما » .


245
     وأحسّ الشيخان أن لا مقام لهما مع عليّ ، وأنهما كبقية المسلمين وأن علياّ سيستأنف معهما ومع غيرهما سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهما كغيرهما من أعيان المهاجرين ، وأعلام الأنصار يسوسهم الإمام بالشدّة واليقين لا التسامح واللين ؛ فأعرضا عن البصرة والكوفة ، وأستأذنا بالعمرة ، فقال علي عليه السلام :
     ما العمرة تريدان وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة ، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولا نكث بيعته يريدان ، وما رأيهما غير العمرة ، قال لهما : فأعيدا البيعة لي ثانية ، فأعاداها بأشد ما يكون من الإيمان والمواثيق ، فأذن لهما ، فلما خرجا من عنده ، قال الإمام لمن كان حاضراً : والله لا ترونهما إلا في فتنة يقتلان فيها .
     قالوا : يا أمير المؤمنين فمر بردهما عليك ، قال الإمام : ليقضي الله أمراً كان مفعولاً .
     وخرج طلحة والزبير في طريقهما إلى مكة ، فلم يلقيا أحداً إلا قالا له :
     ليس لعلي في أعناقنا بيعة ، وإنما بايعناه مكرهين ، فبلغ قولهما علياً عليه السلام فقال :
     « أبعدهما الله وأغرب دارهما ، أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل ، ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم ، والله ما العمرة يريدان ، ولقد أتياني بوجهي فاجرين ، ورجعا بوجهي غادرين ناكثين ، والله لا يلقياني بعد اليوم إلا في كتيبة خشناء يقتلان فيها أنفسهما ، فبعداً لهما وسحقاً » .
     وكان الإمام عليه السلام في هذا الحين يتجهز لحرب أهل الشام ،


246
وإنه لفي ذلك ، إذ بلغه إجتماع عائشة وطلحة والزبير في مكة ، وهم يريدون البصرة بجمع ممن تخلف عن البيعة ، وولاة عثمان المعزولين ، وبني أمية ، وطواغيت قريش ، ورعاع الناس ، فثنى عزمه عن لقاء أهل الشام ، وصحّ عنده التوجه حيث توجه الناكثون .


247
(3)
المتمرّدون في مجابهة الإمام متظاهرين بالثأر لعثمان

     لم تقعد بعليّ عليه السلام حنكته السياسية ، ولم تعجزه مقدرته الإدارية عن اتخاذ الاجراءات الكفيلة بخنق الأنفاس ، وكبت الحريات ، ومنع التصرف ، فقد كان بامكانه إحتجاز طلحة والزبير في المدينة وصرفهما عن وجههما إلى مكة ، وقد كان بمقدوره فرض الإقامة الجبرية عليهما ، ومتابعتهما أمنياً بالعيون ، ولكنه ذو سياسة يتمحض عنها الإيمان بأدق معانيه ، وذو إدارة يلقي بثقلها الإسلام بأصدق مفاهيمه ، فليس للضغط مستقر في منظوره ، ولا للإكراه سبيل إلى إدارته ، أراد أن يذيق الناس مفهوم الحرية بأوسع معاييرها الفذة ، وأن يحمل الناس على سنن الإسلام وإن أرهقته ، وأن يتجمل بالصبر تارة ، وبالأناة تارة أخرى في إمتصاص الأحداث وهو على بصيرة من أمره ، وسيأتي في سياسته مع الخوارج ما يدل على ذلك .
     والمنطق الإسلامي يقضي على علي عليه السلام أن يحكم بالظاهر ، فليس له إلى القلوب سبيل وإن أدرك خفايا النيات ، واستقرأ الغيب المجهول ، وهو على صحة من عزيمته وصدق من نيته ، يعلم بما يضمر طلحة والزبير من الغدر والنكث والخلاف ، ولكنه تركهما ييممان شطر البيت الحرام لأنهما أظهرا العمرة وإن أرادا سواها .
     وقد قصد مكة المكرمة ولاة عثمان المعزولون لأنها حرم آمن لا


248
يزعج من فيه ، فكان هناك يعلى بن أمية وعبد الله بن عامر ، وسعيد بن أبي العاص ، وجملة من الأمويين بقيادة مروان بن الحكم ، وفر إلى هناك من أراد الإنحياز عن علي عليه السلام ، والابتعاد عن الأحداث كعبد الله بن عمر وأمثاله ، واستقر هناك أعداء عليّ من المقيمين بمكة ، والقادمين إليها من الآفاق ، وكان هناك من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة وحفصة وأم سلمة في تأدية المناسك ، وقد أكملت عائشة أم المؤمنين حجها ، وإنها لفي طريقها إلى المدينة وإذا بالأنباء تنعى إليها عثمان ، وأخبرت ـ خطأ أو إختباراً ـ ببيعة طلحة ، فاهتزت لذلك طرباً وقالت : إيهاً ذا الأصبع ، إيهاً يا ابن العم . وطلحة تيمي من رهط أبي بكر ، وما اكتفت بهذه الفرحة بل أظهرت سروراً عظيماً بمقتل عثمان ، وقالت فيما قالت : أبعده الله .
     ولكن الفرحة لم تتم لها إذا أنبأها بعض من في الطريق بحقيقة الأمر ، وأن علياً عليه السلام قد بويع له بالخلافة ، فضاقت عليها الأرض بما رحبت ، وقالت :
     ليت السماء أطبقت على الأرض ، ردوني فقد قتل عثمان مظلوماً . والله لأطلبن بدمه ، وكان وليّ دم المقتول ، والقيم على امور المسلمين .
     عادت السيدة عائشة إلى مكة ، وعمدت إلى حجر إسماعيل فاتخذت فيه ستراً ، وجعلت منه مقراً ، واختلف إليها الناس فأسمعتهم من عذر عثمان ما أعجبهم ، وأظهرت من المطالبة بالثأر له ما أحفظهم ، وكانت تقول :
     « لقد غضبنا لكم من لسان عثمان وسوطه ، وعاتبناه حتى أعتب وتاب إلى الله ، وقبل المسلمون منه ، ثم ثار به جماعة من الغوغاء والأعراب فماصوه موص الثوب الرخيص حتى قتلوه ، واستحلوا بقتله


249
الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام » .
     سمع الناس من عائشة هذا وأكثر من هذا ، فتأثروا بها ، فبينا هي تنعى على عثمان أعماله ، وتنكر عليه أشد الإنكار ، وتدعوا إلى قتله ، وإذا بها تتظلم له ، وتتفجع عليه ، فكان الناس أسرع إليها من إسراع الفراش إلى النار ، ومن إسراع النار في الحطب الجزل .
     واتخذت عائشة هيئة استشارية من عبد الله بن الزبير ، ومحمد بن طلحة ، ومروان بن الحكم ، ويعلى بن أمية ، وعبد الله بن عامر ، وتوجهت بعلمين من أعلام الشورى هما طلحة والزبير ، فكانت مثابة للناس ، ومأوى للمتمردين على علي عليه السلام .
     وحقد عائشة على عليّ قديم منذ حديث الإفك ، إذ يقال إنه أشار على النبي بطلاقها ، وأنه قال : إن النساء غيرها كثير . وكون علي عليه السلام أباً للذرية الطاهرة من الزهراء ، والزهراء ابنة ضرّتها خديجة ، وخديجة أحب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها ، وعليٌّ ذو المنهج الواضح بإلغاء الإمتيازات ، وعلي حبيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان يضايقها ذلك ، وعليّ قد هتف باسمه المعارضون لإستخلاف أبيها . كل أولئك أسباب لموجدتها على عليّ عليه السلام ، ولا ذنب له في ذلك ، ولكنها إمرأة سبقت إلى عاطفتها وتركت عقلها ، وإذا جاشت العواطف وتحركت الأحاسيس الكامنة ، صمت منطق الرشد ، وتلاشى سلطان العقل .
     قصدها والي عثمان على مكة وقال : ما ردّك يا أم المؤمنين ؟ قالت : ردي أن عثمان قتل مظلوماً ، فاطلبوا بدم عثمان تعّزوا الإسلام .
     إنها دعوة صريحة إلى النخوة ألفت آذاناً صاغية من رجال الحكم


250
البائد ، وأسماعاً واعية من دعاة التمرد على حكم الإمام الجديد ، وكأن عائشة كانت تتكلم بتفويض من الشعب ، أو نيابة عن الأمة ، فانتشر حديث هذه الدعوة الجامحة في الأمصار ، وامتد إلى آفاق الدنيا ، ووصلت الأنباء إلى علي في المدينة يحدو بها الركبان ، وينقلها الحجيج بعد أن أدّوا مناسكهم .
     وجهد المتمردون متظاهرين بالثأر لعثمان ، وتجمع حولهم الحاقدون على الإمام ، وكان أمامهم عدة خيارات أهونها الصعب في تنفيذ المخطط ، فرأى بعضهم الغارة على المدينة ، ورأى بعضهم الذهاب إلى الكوفة ، وقد أشفقوا من هذين الرأيين ، فعليّ عليه السلام لهم بالمرصاد في المدينة ومعه المهاجرون والأنصار ، والكوفة من الأقاليم الثائرة على عثمان ، ورجالها في قوتهم ضد عثمان ومن تكلم باسم عثمان ، فقرروا الاتجاه إلى البصرة إذ زعم لهم عبد الله بن عامر ، أن فيها رجاله وصنائعه ، وكان قد فرّ منها بعد عزله ، فاضطروا إلى الخيار الأخير إضطراراً فيه كثير من المغامرة ، وانتدبوا الناس لذلك ، فاستجاب كل حاقد وإنتهازي موتور ، وأمدهم يعلى بن أمية بالمال والسلاح ، وزودهم ابن عامر بالظهر والكراع ، وساروا في جحفل عدته ثلاثة آلاف مقاتل ، يتقدمهم الأقطاب الثلاثة : عائشة ، طلحة ، الزبير .
     وتوجهت أم سلمة لعائشة تنهاها فما استمعت ، بل حاولت جر حفصة وحملها على الخروج ، فأجابت بادئ ذي بدء ، ولكن أخاها عبد الله ردّها ومنعها .
     وبلغت الأنباء علياً عليه السلام ، فاستشار الناس ، فأشار عليه قوم بالخروج في أثرهم ، وأشار آخرون بأن لا يتبعهم ولا يرصد لهم القتال ، فعمل بالرأي الأول ، ورفض الأخير ، وقال :