وأضرابه في جماعة من الغوغائيين ، تنادوا بالتحكيم ، واكثروا اللغط في الجيش ، وفتّوا في عضد الإمام حتى ألجأوه إلى التحكيم كرهاً .
     وقد تكون لهذا الأمر أبعاده التّآمرية المنظّمة من قبل معاوية والمندسين في جيش الإمام من أنصاره ، فما أسرع ما استجاب العراقيون للتحكيم دون رويّة ودراية ، وما أسرع ما نهض الأشعث بالمهمة بدّقة متناهية ، وما أسرع ما تجمع حول الإمام من لا يستطيع أن يتفاهم معهم ، فأكرهوا الإمام على كفّ القتال مع غضب قيادته ، ومعارضة أصحاب الجباه السود الذين غضبوا على التحكيم حتى ثاروا بالأشعث وأرادوا قتله .
     وقد كان الإمام عليه السلام برماً بهذا الخليط العجيب من أصحابه ، وهذا المناخ الجديد في تسيير الأمور جزافاً ، فهو محكوم عليه بهذا النفر ، يمتلكون عليه أمره ، ولا يملك أمرهم ، وقد أوضح لهم بلين وأناة تارة ، وشدة وغضب تارة أخرى أن معاوية كره حد السيف ، وأنه على أبواب الهزيمة ، وليس هو ولا أصحابه بأهل قرآن حتى يحكم بينهم القرآن ، فما استمعوا لهذا ، وركبوا رؤوسهم عناداً وخلافاً وفرقة ، فأوعز الإمام للاشتر بالكف عن القتال وإيقاف الحرب ، فاستمهله فواق ناقة ليأتيه برأس معاوية ، ولكن الأشعث ورجاله المشبوهين قد أحدقوا بالإمام وهددوه بالقتل إن استمرت الحرب ، فوقفت الحرب .
     ونظر عليٌّ عليه السلام إلى المأساة تتجدد عليه ، وإلى السواد يغالبه على أمره ، ولم يترك الإمام ليدبّر الأمر بحكمته ، ولا أن يسير بالحرب إلى أهدافها القريبة ، ولا أن يأخذ بكظم الباطل فيصرعه ، مُنِيَ بهؤلاء الغوغائيين وذوي المآرب الخفيّة والجليّة ، وذهبوا إلى التحكيم دون إحكام للأمر ، وما تركوا للإمام فرصة من يمثله في هذا التحكيم ،


292
وأشرأبت العصبية القبلية بعنقها المهزوز لتفرض أبا موسى الأشعري ممثلاً عنه في هذه المحنة ، وأبو موسى هو صاحبه بالأمس الذي خذّل عنه الكوفيين ، وأراد الإمام ابن عباس أو الأشتر للتمثيل ، ولكن الأشعث أبى ذلك ، فكان الأشعري ممثل الإمام ، وكان عمرو بن العاص ممثل معاوية ، وكان الإمام مكرهاً بقبول الهدنة ، ومكرهاً في اختيار ممثله ، وسارت الأمور كما شاء أعداؤه ، فتولى الأمر من ليس جديراً به ، ولم يستطع الإمام حتى ترشيح الأحنف بن قيس ليكون تالياً لأبي موسى .
     وهكذا اجتمع الفريقان بعد خطوب وخطوب ، فكتبوا صحيفة بوضع الحرب ، وتشخيص الحكمين ، وتحديد الزمان والمكان ، للبتّ في الأمر ، وتأليب المسلمين على من خالف بنود هذه الصحيفة ، وكان جوهرها : « أننا ننزل عند حكم الله ، وبيننا كتاب الله فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته ، نحيي ما أحيا ، ونميت ما أمات » كان هذا لب الحكومة ، وفحوى الصحيفة ، وفيها : « فما لم يجداه في كتاب الله ، عملا فيه بالسنة الجامعة غير المفرّقة » .
     وكان كل هذا حبراً على ورق ، وبيتاً من ثلج ، فكتاب الله يدعو إلى قتال الفئة الباغية صراحة حتى تفيء إلى أمر الله ، وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تؤخذ من علي عليه السلام فهو وريثها الشرعي ، والسنّة لا تهادن باطلاً ، ولا تدفع حقاً ، ولا تؤوي باغياً ، وواضح من نصوص الصحيفة التي كتبت دون مراجعة الإمام أن كتابّها لم يحكموا الأمر ، وإنما أوقفوا الحرب ، وقد تناست هذه الصحيفة أهم ما قامت عليه الحرب : امتناع معاوية عن بيعة الإمام أولاً ، ومطالبة معاوية بدم عثمان ثانياً .


293
     وقد طوي هذان الموضوعان المهمان طياً عجيباً ، فكانت الصحيفة تنبي عن مكر وغدر عظيمين ذهب ضحيتهما كيان الإسلام .
     وهنا بدرت شعيرة الخوارج « لا حكم إلا الله » واعترضوا على تحكيم الرجال في دين الله . وكان شعار الإمام كما أرادوا استمرار القتال للفئة الباغية وجوهره « لا حكم إلا لله » ما في ذلك شك ، ولكنه كان مغلوباً على أمره ، فرفق بهم ، ورآهم قلة لا تغني مع الكثرة الساحقة ، فنصح لهم وأمرهم بالهدوء ، وهدأوا حيناً ما ، ولكنه الهدوء الذي يسبق العاصفة كما سنرى .
     وقد ضاق الإمام ذرعاً بأصحابه ، فألقى الحبل على الغارب ، وأبان لهم : أن إمامهم يطيع الله وهم يعصونه ، وأن إمام أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه ، وتمثل بقول دريد بن الصمة :

أمَرتُهُمُ أمَري بِمُنعَـرجِ اللِـوى فَلَمَّا عصوني كنتُ فِيهم وقد أرى وَهَل أنا إلاّ مِن غُزِيَةَ إن غَوَت فلم يَستبينوا النصحَ إلاّ ضُحى الغَدِ غِوايَتهُـم ، وأنني غيرُ مُهتـدي غَويتُ ، وإن تُرَشَد غُزَية أرشُـدِ

     إستكره عليّ عليه السلام على ترك القتال ، وإستكره أيضاً على قبول الحكومة ، وإستكره أيضاً ولم يشاور في كتابة الصحيفة ، وأنكر الخوارج التحكيم ، واعتزلوا الفريقين ، وأنحازوا إلى حروراء ، ولم يدخلوا الكوفة بعد الحرب ، وكان هناك جدل وتطاول وإحتجاج بين الذين اتبعوا الإمام مسلمين ، وبين هؤلاء الخارجين ؛ وكان عليٌّ عليه السلام يصرح بأنه استكره على ترك القتال ، وإنما الناس أرادوا العافية وكرهوا القتال ، وأراد الإمام أن يرجع الخوارج إلى الجماعة ، وأن يجنبهم سوء المنقلب ، وأن يستصلح القسم الأوفر منهم ، فكانت مناظرات انتصر الإمام في أغلبها ، وأصلح ما استطاع منهم ، وأبان أن الله قد حكمّ في


294
الصيد الناس ، وحكمّ في الشقاق الناس ، وكانت آية التحكيم في كل منهما سبيلاً إلى إعذاره عندهم ، وقالوا قد محوتَ أنك أمير المؤمنين ، كأنك شككت في إمرتك لهم ، فأبان أن رسول الله محا في صحيفة الحديبية وصفه بأنه رسول الله ، وهو رسول الله حقاً ، فثاب منهم جماعة ، ورجع آخرون ، ودخلوا الكوفة ، وأصرت طائفة كبيرة منهم على العناد ، فأرسل الإمام إليهم ابن عباس استصلاحاً لشأنهم ، وأمره بأن لا يحاججهم بالقرآن فإنه حمّال ذو وجوه ، وإنما يحاججهم بالسنة ، فناظرهم ابن عباس بهما مناظرة مقنعة ، فثاب إلى الرد منهم جماعة تقدر بألفين أو ثلاثة آلاف ، وعادوا مع ابن عباس إلى الكوفة .
     وحينما أنكر الخوارج تحكيم الرجلين ؛ أبان لهم الإمام بأنه أخذ عليهما العهد أن يحكما بما في كتاب الله ، فإن حكما بذلك فالحكم لله ، وإن خالفا عما في كتاب الله فلا حكم لهما ولا طاعة .
     وقد تأثر القوم بما ساقه الإمام من الحجج الدامغة ، فانصاعت منهم طائفة كبيرة ، فقال لهم الإمام : « ادخلوا مصركم رحمكم الله » . فدخل القوم بانتظار أمر الحكمين ، ودفع الإمام بالتي هي أحسن ، ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة .
     وعاد علي عليه السلام إلى الكوفة ، ومعه جمهرة لا يستهان بها من هؤلاء ، قد إعتقد بأنه أصلحهم أو أقنعهم أو أفحمهم ، ولكن قسماً منهم لم يكن كذلك ، فما لبثوا أن حكموا في المسجد يقاطعون خطب الإمام بشعارهم : « لا حكم إلا لله » فكان يقول : « كلمة حق أُرِيدَ بها باطل » إذ لا بد للناس من حاكم بأمر الله .
     وقد ظهرت معارضة هؤلاء في الكوفة على أشدّها حتى خرج بعضهم منها منابذاً ومغاضباً ، وترك لهم الإمام الحرية وقال :


295
     إن سكتوا تركناهم ، وإن تكلموا حاججناهم ، وإن أحدثوا فساداً قاتلناهم » .
     وكان السكوت حيناً ، والإحتجاج حيناً آخر ، والقتال أخيراً لأنهم أفسدوا في الأرض .
     ومحنة هؤلاء الذين طلبوا الحق فأخطأوه ، أنهم لا تهدأ لهم ثائرة ، ولا تخبو لهم نائرة ، وهم أصحاب جباه سود من كثرة السجود ، وهذه محنة أخرى ، يخدع فيها الجاهل ، ويتأثم عندها العارف ، ولهم في الليل دويٌ كدوي النحل في قراءة القرآن ، وتلك محنة ثالثة توهم بأنهم أهل عبادة ، وهم غلاظ شداد في هذا كله ، ولقد أخطأوا السبيل إلى الهدى فساقتهم الهلكة سوقاً ، وأسلمهم القدر إلى المصير المحتوم : القتل حيناً ، والتشريد حيناً آخر ، وأسلموا أنفسهم هم لقطع السابلة حيناً ، وللإفساد في الأرض حيناً آخر ، ولسفك الدماء في غير حلّها ثالثة . والإمام في هذا الوسط المحموم يعمل نهاره جاهداً ، ويسهر ليله مفكراً ، يأسى لهؤلاء ، ويكافح أولئك ، وينصح ما استطاع نصحاً ، وهو مع ذلك يمنحهم الحرية بأوسع مفاهيمها ، ولا يحرم أحداً عطاءً ، ولا يفرض على أحد إقامة ، ولا يكره أحداً على قتال ، وهم بين ذلك يتربصون به .


296
(9)
الوفاء بشأن التحكيم ... ومعركة النهروان

     وأشاع الخوارج في الكوفة أن علياً عليه السلام يرى رأيهم في القتال ، وأنه رفض الحكومة ، فأرسل معاوية للإمام يستعجله الوفاء بأمر التحكيم .
     فأشخص الإمام أبا موسى الأشعري ، ومعه أربعمائة من فرسانه ، وعليهم ابن عباس للصلاة ، وشريح بن هاني أميراً .
     وأرسل معاوية ، عمرو بن العاص ومعه أربعمائة من أصحابه .
     وقد حاول الحكمان استدراج من إعتزل الفريقين لحضور الاجتماع كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وعبد الله بن الزبير ، فلم يستجب لهما أحد من هؤلاء فيما ذكر المؤرخون .
     واجتمع الحكمان بدومة الجندل ، يتفاوضان في الأمر ، ويجيلان الرأي ، وكان عمرو بن العاص يتظاهر بالتضاؤل أمام أبي موسى ، ويقدمه للصلاة ، ويجلس بين يديه عند الطعام ، ويعطيه صدر المجلس ، فتراخى أبو موسى لهذا التصنع ، وطرب لهذه المظاهر ، وكان ذلك تمهيداً دقيقاً لخداع أبي موسى ، وأبو موسى هذا بعيد عن الإمام في


297
شعوره وتفكيره ودينه ، وقد عجمه الأحنف بن قيس وأعطى رأيه فيه للإمام ، وقد خذّل أبو موسى عن الإمام في حرب الجمل ، وقد عزله علي عليه السلام عن إمارة الكوفة ، وقد تبعه المهوسون يستريحون إليه في حب السلامة ، وفي نفسه موجدة على عليّ نتيجة عزله ، وفيه أزورار عنه لتهاونه بشأنه ، وقد ظهر بمظهر الورع والتحرج وهو بعيد عنهما ، وقد تلهف على الشورى ، بل ونادى بالطيب بن الطيب عبد الله بن عمر على حد تعبيره ، وتمطى بسذاجة مخلة أو شيطنة مبطنة بوقت واحد ، فاستغل عمرو بن العاص كل هذه المخلفات استغلالاً كبيراً حتى أودى به وقلب له ظهر المجن .
     كان الإجتماع بدومة الجندل حيناً ، وفي أذرح حيناً آخر ، وتفاوض الحكمان مدة مديدة في الأمر ، وقد كثرت آراء المؤرخين فيما تفاوضا فيه ، فذهبوا في ذلك أكثر من مذهب . ولكن المؤكد أن الحكمين قد اتفقا على خلع علي ومعاوية ، وجعل الأمر شورى بين المسلمين ، وواضح أن هذا الاقتراح كان مكيدة من عمرو ، واستغفالاً لأبي موسى ؛ إذ ما هو معيار هذه الشورى ؟ وإلى من تعود ؟ وفيمن يرشح لها ؟ وكيف الحال عند المسلمين ، فالعراقيون يرشحون علياً ، والشاميون يرشحون معاوية ، فتعود جذعة كأن لم يصنعا شيئاً ، وإن رُدّت الشورى إلى أهل الحل والعقد ، فأهل الحل والعقد قد بايعوا علياً ؛ فلماذا الشورى حينئذٍ ؟
     في هذا المقترح ـ إذن ـ يكمن غدر ابن العاص ، وتغافل أبي موسى ، فابن العاص مخطط متمرس للقضية ، ومنظر دقيق لها ، وأبو موسى في خدعة مستمرة لا يستفيق ، عمرو يخدعه وهو يخادع نفسه ، ولا يرعوي بينهما إلى سند وثيق .


298
     وفجأة ظهر الحكمان أمام الناس بعد احتجاب طويل استغرق عدة أشهر ، وأعلنا عن اتفاقهما بما فيه الرضا للمسلمين ، والنصح للدين ، واستمر الخداع هذا في هذا الموقف فقدم عمرو أبا موسى لإعلان ما اتفقا عليه ، وأشفق ابن عباس من هذا التقديم ، وأشار بإصرار على أبي موسى بالتأخر ريثما يعلن ابن العاص ما عنده ، فما استجاب له أبو موسى ، ولا استمع إلى نصحه ، وإنما تقدم إلى المنبر ، وأعلن أنه وعمرو بن العاص اتفقا على خلع علي ومعاوية ، ورد الأمر شورى بين المسلمين ، ثم قام عمرو بن العاص ، وقال : إن هذا قد خلع صاحبه ، وأنا أخلعه كما أخلع خاتمي هذا ، وأثبت صاحبي كما أثبت هذا الخاتم .
     فقال أبو موسى : مالك لا وفقك الله ، غدرت وفجرت ، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، فأجابه عمرو بن العاص : إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً .
     وانتهت مهزلة الحكمين بهذا الشكل المريع ، فماج الناس واضطربوا ، وتراشقوا بالكلام والسياط ، وأدرك أبو موسى خزيه فضرب راحلته ورمى بها مكة ، وأقبل عمرو بن العاص وأهل الشام وسلّموا على معاوية بأمرة المؤمنين ، وعاد أهل العراق بخفيّ حنين ، وأدرك المسلمون أن الحكمين جارا في الحكم ، وعدلاً عن القصد . وبلغ علياً ذلك فقال معاوداً : إن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن .
     واغتبط معاوية لهذه النتيجة ، فقد كسب الموقف ، وقد أراح أصحابه من الحرب ، وقد ثبّته صاحبه بالخلافة .
     وأفاق العراقيون بعد سكرة موقتة ، فرأوا الأمور تدار في صالح


299
الضلالة ، وأن الحق مغلوب على أمره ، وإن إصرارهم على الإمام بقبول التحكيم كان خطأ العمر الذي لا يتداركه شيء إلا الحرب والقتال عوداً على بدء ، فعادوا إلى الكوفة يستعدون للقتال فيما يزعمون ، وكان الإستعداد قضية مؤقتة أيضاً ، إذ انشغل الإمام بما هو أفدح من ذلك ، فقد انشق عليه فريق من أصحابه بالأمس ، ونجم قرن الخوارج حينما تحقق نبأ الحكمين فأعجله ذلك عن أهل الشام ، لمعالجة الخرق الجديد .
     وكان الإمام عليه السلام قد خطب أصحابه بعد أخبار الحكمين فقال :
     « الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله . أما بعد :
     فان معصية الناصح الشفيق المجرب تورث الحسرة وتعقب الندم . وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وهذه الحكومة بأمري ، ونخلت لكم رأيي لو يُطاع لقُصير رأي ، ولكنكم أبيتم إلا ما أردتم ، فكنت واياكم كما قال أخو هوازن :

أَمَرتُهُمُ أَمرِي بِمُنعَرِجِ الِلوى فَلَم يَستَبِينُوا الرُشدَ إلاّ ضُحَى الغَدِ

     ألا إن الرجلين اللذين اخترتوهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما ، وإرتأيا الرأي من قبل أنفسهما ، فأماتا ما أحيا القرآن ، وأحييا ما أمات القرآن . ثم إختانا في حكمهما فكلاهما لا يرشد ولا يسدد . فبريء الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين ، فاستعدوا للجهاد ، وتأهبوا للسير ، وأصبحوا في معسكركم يوم الاثنين إن شاء الله » .
     وغدا الناس إلى معسكرهم كما أمر الإمام ، وسرح إليه ابن عباس كوكبة من جنود البصرة ، واستقر رأي الإمام على النهوض بجيشه إلى


300
الشام ، إلا أن طلائع الخوارج في النهروان قد عرقلت المسيرة ، وأرجأت الزحف ، فقد تداعوا سراً وعلناً وعادوا إلى التحكيم ، وخرجوا زرافات ووحداناً إلى النهروان ، وإنهم لفي طريقهم إذ أدركوا الصحابي الجليل عبد الله بن خباب بن الأرت ، وهو وأبوه من المعذبين في الإسلام على أيدي طواغيت قريش ، التقوا بعبد الله هذا ، وفي عنقه كتاب الله تعالى طلباً للأمان ، ومعه امرأته وهي حامل استدراراً للعطف والرحمة ، فقتلوه ذبحاً ، وقتلوا زوجته وولدها ذبحاً أيضاً ، وتركوهم قتلى مجردين على شاطىء الفرات ، ذلك أنهم استطلعوا رأيه في الإمام فأثنى عليه خيراً ، وقال حقاً .
     ووصل النبأ إلى الإمام عليه السلام فأرسل إليهم يستنكر هذا الإفساد في الأرض ، ويطلب إليهم تسليم القتلة ، فامتنعوا عن ذلك ، وأجابوا : كلنا قتلة ابن خبّاب ، وسار إليهم الإمام بنفسه فوعظهم ما شاء له الوعظ ، وحذرهم ما استطاع إلى التحذير سبيلاً ، فركبوا رؤوسهم ، وطلبوا إليه أن يشهد على نفسه بالكفر فقال لهم :
     « بعد إيماني بالله وهجرتي ، وجهادي مع رسول الله ، أشهد على نفسي بالكفر ، لقد ضللت إذن ، وما أنا من المهتدين ، وَيحَكُمْ بم إستحللتم قتالنا والخروج عن جماعتنا ؟ » فما كان جوابهم إلا أن امتشقوا السيوف ، وشهروا الرماح وتنادوا من كل جانب « هل من رائح إلى الجنة » ويجيب بعضهم بعضاً « الرواح إلى الجنة » وإذا بهم يشدّون على ميمنة الإمام وميسرته ، فينفرق لهم الجيش ، ويستقبلهم الرماة بالنبل ، وتحتدم المعركة ، ويندلع لهيبها عالياً ، ويباشر الإمام القتال بنفسه ، وإذا بالقوم صرعى كأمس الدابر .
     وكان عليّ عليه السلام قد أخبر أصحابه عند القتال بأنه : لا يقتل