أشدد حَيازيمكَ للمَوتِ ولا تَجزَع من المَوتِ كَمَا أضحَكَـكَ الدَهرُ فإنَّ الموتَ لاقِيكَـا إذا حـلّ بواديِكَـا كَذَاكَ الدَهرُ يَبكِيكَا

     وكان رعيل من الخوارج يشهدون الموسم في الحج ، فتذاكروا ـ بزعمهم ـ شؤون المسلمين ، وذكروا أمير المؤمنين ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص ، وائتمروا فيما بينهم ، أن يريحوا الناس من هؤلاء الثلاثة ، وأن يثأروا من عليّ بخاصة لإخوانهم من الخوارج في النهروان .
     وانتدب عبد الرحمن بن ملجم المرادي لقتل أمير المؤمنين ، وانتدب الحجاج بن عبد الله الصريمي لقتل معاوية ، وانتدب عمرو بن بكير لقتل عمرو بن العاص ، وإتعدوّا لذلك وقتاً معيناً لتنفيذ الاغتيال في اليوم التاسع عشر من رمضان فجراً عند خروجهم لصلاة الفجر من شهر رمضان لعام أربعين من الهجرة .
     وأقام هؤلاء بمكة يتذاكرون الموعد ، ويحبكون الخطة ، مصممين على التنفيذ ، حتى إعتمروا في رجب وتفرقوا لأداء المهمّة .
     أما صاحب معاوية ، فأقدم عليه ولم يبلغ منه شيئاً ، ولا أصاب منه مقتلاً ، فقبض عليه وقتل .
     وأما صاحب ابن العاص ، فأقدم عليه ولم يصبه ، وكان قد مرض أو تمارض ، فأناب صاحب شرطته خارجة بن حذافة العدوي ، فقتل واجتمع عمرو بن العاص بالقاتل ، فقال : إنما أردت عمراً ، فقال عمرو : ولكن الله أراد خارجة . وقتله .
     وأما عبد الرحمن بن ملجم ، فذهب إلى الكوفة ، وأقام بها يوثق


352
الصلات بأعداء أمير المؤمنين ، فكان يجتمع بالأشعث بن قيس تارة ، ويتعد مع اثنين من الخوارج هما شبيب بن بحران ووردان بن مجالد تارة أخرى ، وكان الأشعث متحمساً للفتك بأمير المؤمنين ، وعبد الرحمن بن ملجم في ضيافته ، يتعهده بالألطاف ، ويبرّه في المأكل والمشرب .
     ويروي أبو الفرج الأصبهاني أن الأشعث كلم الإمام في أمر ، فأغلظ له الإمام وانتهره ، فعرض له الأشعث أنه سيفتك به ، وفهم الإمام تعريضه فقال :
     « أبالموت تخوفني وتهددني ، فوالله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت عليّ » . وكان الإمام يستصغر قدر الأشعث ، ويحتقر ذكره .
     وحانت ساعة الإغتيال ، فالتفت الأشعث إلى ابن ملجم وقال : النجاء النجاء بحاجتك فقد فضحك الصبح . مما يعني أن الأشعث كان ظالعاً بالمؤامرة مع الخوارج وسواهم دون شك ، في إيوائه لابن ملجم ، وفي تهديده للإمام ، وفي علمه بالتوقيت ، وفي إعجاله لابن ملجم على تنفيذ الاغتيال .
     وأحسب أن الأشعث هذا ، وأمثال الأشعث ممن لم يذكر التأريخ أسماءهم ، كانوا يدبرون لهذا الاغتيال ، بالاتفاق مع معاوية ، ومعاوية يبذل لهم الأموال الطائلة يشتري بذلك دينهم وولاءهم وضمائرهم إن كانت لهم ضمائر ، حتى أن قلهاوزن يذهب : أن قتل الإمام علي قد تم على عدة بين ابن ملجم ومعاوية ونسبه إلى الطبري . ولا مانع لدى معاوية أن يستعين بابن ملجم والأشعث وسواهما لقتل الإمام .
     وهناك نص أدبي يرويه أغلب المؤرخين ، وهو عبارة عن أبيات


353
لأبي الأسود الدؤلي صاحب الإمام ، قد وجهها إلى معاوية ، ينسب فيها قتل الإمام لمعاوية وأنصاره ، يقول :

ألا أبلغ معاوية بن حـرب أفي شهر الصيام فجعتمونا قتلتم خير من ركب المطايا ومن لبس النعال ومن حذاها فلا قرّت عيون الشامتينـا بخير الناس طراً أجمعينـا وذللها ، ومن ركب السفينا ومن قرأ المثاني والمئينـا

     ومما يتقدم يبدو أن المؤامرة قد أشرف على تنفيذها هذا الثلاثي الذي شكّل الجبهات الثلاث المعادية لأمير المؤمنين ، وأن الخوارج لم يستقلّوا بذلك وحدهم ، وإن كان لهم أمر التنفيذ .
     ومهما يكن من أمر ، فقد خرج الإمام لصلاة الصبح وهو ينادي بالمسلمين : الصلاة الصلاة ، بما رواه أبو الفرج عن أبي مخنف عن عبد الله بن محمد الأزدي ، قال : إني لأصلي في تلك الليلة بالمسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يصّلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره ، إذ نظرتُ إلى رجال يصّلون قريباً من السدّة ، قياماً وركوعاً لا يسأمون إذ خرج عليهم : علي بن أبي طالب عند الفجر ، فأقبل ينادي : الصلاة الصلاة ، وبعدها رأيت بريق السيف ، وسمعت قائلاً يقول : الحكم لله لا لك ياعلي . ثم رأيت بريق سيف آخر ، وسمعت قائلاً يقول : لا يفوتنكم الرجل ، وكان الأشعث بن قيس قال لابن ملجم : النجاء لحاجتك قبل أن يفضحك الفجر .
     هذه رواية شاهد عيان للحادثة ، وغير هذه الرواية يتفق معها .
     وقد عقب أبو الفرج على الرواية بقوله : « فأما بريق السيف الأول فإنه كان سيف شبيب بن بحران ، وقد ضرب الإمام فأخطأه ، ووقعت ضربته في الطاق ، وأما بريق السيف الثاني فإنه ابن ملجم ضربه على


354
رأسه ، فأثبت الضربة في وسط رأسه » .
     وكان ابن ملجم قد أمهل الإمام في صلاته الركعة الأولى ، وقام الإمام الى الثانية ، وأهوى الإمام إلى السجود ، وحينما رفع جبهته من السجدة الثانية ، أهوى عليه بالسيف ، فعممه على رأسه ، وبلغت ضربته الدماغ ، وهو يقول : « الحكم لله يا علي لا لك » والإمام فيما يروي المؤرخون يقول : « فزت ورب الكعبة » .
     وكذلك يروون أن آخر كلام سمع منه قبل أن يموت هو تلاوته لقوله تعالى : ( فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرّةٍ خَيراً يَرَهُ * وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (1) .
     واضطرب الناس في مسجد الكوفة عند سماع أمير المؤمنين يقول : لا يفوتنكم الرجل ، فشدوا على ابن ملجم من كل مكان فقبض عليه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وصرعه وأخذ السيف منه ، وأدخل على أمير المؤمنين فقال : « النفس بالنفس » إن أنا متُ فاقتلوه ، وإن سلمت رأيت فيه رأيي » .
     فقال ابن ملجم : لقد اشتريت سيفي بألف ، وسممته بألف ، فإن خانني فأبعده الله ، وأحدق الناس بابن ملجم يريدون قتله ، وهم يقولون : يا عدو الله ماذا صنعت ، لقد أهلكت أمة محمد ، وقتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ساكت لا يتكلم .
     واستدعى أهل الكوفة الأطباء للنظر في جرح الإمام ، وفي طليعتهم الجراح العربي المعروف أثير بن عمرو بن هاني ، وكان يداوي الجراحات الصعبة ، فلما نظر في جرح الإمام بكى وقال :
(1) الزلزلة : 7 ، 8 .
355
     اعهد عهدك يا أمير المؤمنين فإن ضربة اللعين قد وصلت أم رأسك .
     فأستقبل الإمام النبأ باليقين والصبر الجميل ، وكان الإمام في هذه اللحظات الحرجة متيقظاً تماماً فلم ينسَ النصح لأمة محمد ، والتفت إلى أبنائه قائلاً من وصيته عند الموت :
     « الله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم ، الله الله فيما ملكت أيمانكم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر ما أوصى به قال : أوصيكم بالضعيفين مما ملكت أيمانكم » .
     ومضى عليه السلام يقول : قولوا للناس حسناً كما أمركم الله ، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى ذلك غيركم ، وتدعون فلا يستجاب لكم ، وعليكم بالتواضع والتباذل ، وإياكم والتقاطع والتفرق ، وتهاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان » .
     وأوصاهم بأداء الصلاة وتلاوة القرآن .
     وجمع إليه بنيه وأوصاهم بإطاعة الحسن والحسين لأنهما إمامان قاما أو قعدا ، ونصّ على إمامة ولده الحسن عليه السلام .
     وظل الإمام يعاني من ضربته تلك حتى قضى نحبه صابراً شهيداً محتسباً ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان عام أربعين من الهجرة .
     ومضى علي عليه السلام شهيد عظمته ، وقتيل مبادئه الصارمة ، لم يخلف بيضاء ولا صفراء (1) .
(1) ظ : في نصوص الفصل الثاني ووقائعه كلاً من :
     ابن الأثير | الكامل في التأريخ + الأمين العاملي | أعيان الشيعة + البلاذري | فتوح البلدان + ابن حجر | الصواعق + ابن أبي الحديد | شرح النهج + هاشم =

356
     وجلل الحزن الجزيرة العربية والأقاليم الإسلامية ، وتجاوب صدى الفاجعة في آفاق الدنيا ، فبكاه القريب والبعيد ، وحمل نعشه ليلاً الحسن والحسين وخلص أصحابه إلى النجف الأشرف من ظهر الكوفة ، ودفن بين الذكوات البيض حيث مرقده الشريف وحيث ضريحه المقدس اليوم .
     وبلغت وفاته عائشة فقالت :

فَألقَت عَصاها وإستقرَّ بها النَوى كَمَا قرّ عَينَاً بالأيابِ المُسافِرُ

     ولست أعلم أكانت أم المؤمنين شامتة أم مؤبنّة .
=
     معروف | سيرة الأئمة الاثني عشر + الجاحظ | البيان والتبيان + الخطيب البغدادي | تأريخ بغداد + ابن خلدون | المقدمة + الصدوق | الخصال والأمالي + الطبرسي | الاحتجاج + الطبري | التأريخ + طه حسين | الفتنة الكبرى + عبد الفتاح عبد المقصود | الإمام علي بن أبي طالب + جورج جرداق | صوت العدالة الانسانية + العقاد | عبقرية الإمام + الأصبهاني | مقاتل الطالبيين + توفيق الفكيكي | الراعي والرعية + توماس كارليل | الأبطال + المسعودي | مروج الذهب + المفيد | الأرشاد + ابن النديم | الفهرست + نصر بن مزاحم | وقعة صفيّن + نوري جعفر | علي ومناوؤه + ابن هشام | السيرة النبوية .

357
قصيدة الشيخ علي الصغير
في أمير المؤمنين الإمام علي عَليهِ السَّلام

     جرت العادة في هذه الموسوعة أن تختم كل كتاب بإحدى قصائد المؤلف . وآثرنا نشر قصيدة والد المؤلف سماحة العلامة الشاعر الشيخ علي الصغير رحمه الله ، وقد ألقيت في مهرجان الغدير الخالد في جامع الخضراء في النجف الأشرف في 18 | 12 | 1370 هـ بحضور الإمام محمد الحسين كاشف الغطاء وبقية المراجع العظام والعلماء الأعلام ، والشباب العراقي المتحفز ، فكان لها صدى كبير في ظروف اجتماعية معينّة ونشرت في شعراء الغري للأستاذ علي الخاقاني 6 | 497 | عام 1953 م .

ولاك من الله إيمانها وحبك فرضٌ بهذى الرقاب وآي المودة تنزيلها وأنت من الذكر أمُّ الكتاب فإن جهلتك نفوس الطغام وإنك من أنفس المؤمنين وإنك ميزان أعمالها فدع أمة حزبها الظالمون فأنت بحق وصيُّ النبيّ ونهجك للحق قرآنها وإن يأب ذلك طغيانها بحبك صرّح تبيانها ومن ( سورة الدهر ) إنسانها فإنك في النفس عرفانها هداها اليقين وإيمانها إذا خف في الحشر ميزانها لنا شأننا ولها شانُها وصرّح في ذاك فرقانها
* * *


358
علمت بأن ولاك السفين وقلت هو البحر طامي العباب فقلت لنفسي هنا مرفأٌ وهذي السفينة آل النبي فسرت على أسمك نحو الرشاد وهللت باسمك حيث الصلاة وبالرغم أنت فصول الأذان ووجهك قبلة أهل الولاءِ فإن كفرت أمة في ولاك فقد عبدوا الشركَ طاغوتهم وقد نسبوا الهجر للمصطفى وحبُّك في الحشر ربانها إذا فاض في البعث طوفانها وهذي النجاة وشطآنها ستنجيك إن هاج طغيانها إذا ضل في الغي حيرانها ولاكَ ... وإنك أركانها وإن أرغمت فيك آذانها وإن يأب ذلك عدوانها فقدما تمركز كفرانها إلها ومن قبل أوثانها وذاك على الله بهتانها

* * *
هدى المتقين وللعاطفات وهل يستطيع بأن يرتقي ولكنها ثورةٌ في الفؤاد حببتك في المهد عند الرضاع وغنيت باسمك عند الشباب ونظمت حبي اغرودةً وناجيت حبك من فرحتي وناديت صحبي هنا السلسبيل هنا كوثر الخلد فلتستقي فجاءتك باسم شباب الولاء (1) فنظمت قلبي في باقةٍ وقلت هو العيد (عيد الغدير) خضوع ببابك أوزانها لمعناك في الشعر شيطانها وزمجرةٌ ثار بركانها فتغذو ولاءَك ألبانها فمن لحن قدسك ألحانها فهذا فؤادي ديوانها فزالت من النفس أحزانها هنا العاطفات وميدانها ليروِ بذلك ظمآنها تحييك في الحب شبانها من الحب تهتز أغصانها وخير الهدية اثمانها

(1) يشير إلى الحفل الذي القيت فيه القصيدة وقد أقامه شباب شعراء الإمام الحسين العرب في مسجد الخضراء في النجف الأشرف .
359
فقدمت قلبي قربانه وحبك للنفس قربانها
* * *
على قدس مجدك تهفو السنين وفي الذر والكون في ظلمة ولحت على العين فاستبشرت وطفت على الروح فاستنشقت فمن لطف معناك أشواقها فلولاك حاربها كفرها فأنت إلى الله عنوانها وتعشق ذكرك أزمانها تجليت فازدان كيوانها بك العين إذ أنت إنسانها ولاك وإنك سلطانها ومن قدس ذاتك إيمانها عن الحق غياً وطغيانها وأنت على الحق برهانها
* * *
ومذ لحت في الكون فاستبشرت فقد كنت في العرش نوراً لها تدرجت من عالم مشرق ولولا وجودك في آدم فقد كنت من روحه توبة ولدت بمكة في بيته ونلت الشهادة في مسجد ومت وفي شفتيك الصلاة ولم تك تشغل عن فرضها وكم لك في الحرب تكبيرة نديمك فيها إله السماء كلا مسجديك وسوح الجهاد سهول البطاح وكثبانها وأمناً به سار ركبانها ذكا لم تدنسك أدرانها فطينته ساء جثمانها فأنت من الله غفرانها فخرت لذلك أوثانها وخانك في ذاك شيطانها ليرضى بذلك ديانها إذا أسعر الحرب فرسانها كأن المحاريب ميدانها إذا اشغل القوم ندمانها لصدق العبادة برهانها
* * *
حياتك سفر إلى العارفين وذاتك في كتب المرسلين يخلد بالنور عنوانها يضيق عن العقل تبيانها


360
فعن وصفها ضل أحبارها فخبر إنجيلها عن علاك فهل أنت معجزة المرسلين وهل أنت من سرهم آية وفي فهمها حار رهبانـها وبشر في ذاك فرقانــها وهل أنت في الأمر ثعبانها إذا اتضحت زاد كتمانـها
النجف الأشرف

علي الصغير