السيف فقتلوا منهم اربعين رجلا صبرا ! يتولى منهم ذلك الزبير خاصة ، ثم هجموا على عثمان فأوثقوه رباطا وعمدوا الى لحيته ـ وكان شيخا كثّ اللحية ـ فنتفوها حتى لم يبق منها شيء ، وقال طلحة : عذبوا الفاسق وانتفوا شعر حاجبيه واشفار عينيه واوثقوه بالحديد . فلما اصبحوا اجتمع الناس اليهما وأذن مؤذن المسجد لصلاة الغداة فرام طلحة ان يتقدم للصلاة بهم فدفعه الزبير وأراد ان يصلي بهم فمنعه طلحة ، فما زالا يتدافعان حتى كادت الشمس ان تطلع فنادى اهل البصرة : الله الله ، يا أصحاب رسول الله ، في الصلاة نخاف فوتها ! فقالت عائشة : مروا ان يصلي بالناس غيرهما .
فقال لهم يعلى بن منية : يصلي عبد الله بن الزبير يوما ومحمد بن طلحة يوما حتى يتفق الناس على امير يرضونه ، فتقدم ابن الزبير وصلى بهم ذلك اليوم (1) .
اما صورة كتاب الصلح فهو :

بسم الله الرحمن الرحيم
« هذا ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومن معه من المؤمنين والمسلمين ، وعثمان بن حنيف ومن معه من المؤمنين والمسلمين :
إن عثمان يقيم حيث ادركه الصلح على ما في يده ، وإن طلحة
____________
(1) انظر : مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 283 ، انساب الاشراف 1 : 227 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 181 ، تاريخ الطبري 4 : 468 .
( 41 )

والزبير يقيمان حيث ادركهما الصلح على ما في ايديهما ، حتى يرجع امين الفريقين ورسولهم كعب بن سور من المدينة ، ولا يضار واحد من الفريقين الاخر في مسجد ، ولا سوق ، ولا طريق ، ولا قرضة (1) ، بينهم عيبة مفتوحة ، حتى يرجع كعب بالخبر ، فإن رجع بأن القوم أكرهوا طلحة والزبير ، فالامر امرهما ، وإن شاء عثمان حتى يلحق بطيته (2) ، وإن شاء دخل معهما ، وان رجع بأنهما لم يكرها فالامر أمر عثمان ، فإن شاء طلحة والزبير ، أقاما على طاعة علي ، وإن شاءا خرجا حتى يلحقا بطيتهما ، والمنجون اعوان الفالج (3) » (4) .

عائشة أم المؤمنين تنبحها كلاب الحوأب
لقد حذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءه من بعده ، في اظهار الخلاف والولوج في الفتنة التي اخبر بها صلى الله عليه وآله وسلم وسمى القائمين بها بالناكثين وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الحادثة ضمن ذكره لكثير من انباء الغيب الذي اوصى الله تعالى به لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم .
وجاء هذا التحذير في جمع من نسائه ، ففي رواية عصام بن قدامة البجلي ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنسائه :
____________
(1) القرضة : الموضع من النهر يستقي منه ، ومن البحر محط السفن .
(2) طيته : اي لوجهه الذي يريده .
(3) الفالج : الظافر الفائز .
(4) جمهرة رسائل العرب 1 : 321 .

( 42 )

« ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب (1) ، تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها وشمالها خلق كثير ، كلهم في النار ، وتنجو بعد ما كادت » (2) .
وفي حديث آخر فيما قال صلى الله عليه وآله وسلم لنسائه ، ثم اردفه بتحذير شديد الى عائشة :
« كأني بأحداكن وقد نبحتها كلاب الحوأب » ثم قال لعائشة : « اياك ان تكونيها » (3) ومرة اخرى يصرح صلى الله عليه وآله وسلم باسمها علنا كما جاء في رواية علي بن مسهر ، عن هشام بن عروة ، عن ابيه ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا عائشة إني رأيتك في المنام مرتين ، أرى جملا يحملك في سدافة (4) من حرير ، فأكشفها فإذا هي انت » (5) .
وفي رواية سالم بن ابي الجعد ، انه ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خروج بعض نسائه فضحكت عائشة ، فقال : « انظري يا حميراء لا تكونين هي « ثم التفت الى علي فقال : « يا ابا الحسن إن وليت من أمرها شيئا فارفق بها » (6) .
____________
(1) الادبب : الجمل الكثير الشعر ، القاموس : 109 .
(2) اعلام النبوة : 155 ، مناقب آل ابي طالب 3 : 149 .
(3) ورد الحديث بهامش الكامل في التاريخ 3 : 366 .
(4) السدافة : الحجاب والستر .
(5) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 432 ، بحار الانوار 32 : 285 .
(6) بحار الانوار 32 : 284 .

( 43 )

اذن ، جميع القرائن الواردة في احاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، سواء كانت تلويحا أو تلميحا تدل على ان المعنية بصاحبة الجمل هي عائشة . وكانت هي ايضا تعلم علم اليقين بأنها هي التي تنبحها كلاب الحوأب ! كيف لا تعلم هي صاحبة الجمل وكثير من المسلمين يعرفون بأن لها يوما تنفر فيه مع الغادرين والناكثين ؟
فعن حذيفة قال : لو احدثكم بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوجمتموني (1) ! قالوا : سبحان الله نحن نفعل ؟ قال : لو احدثكم أن بعض أمهاتكم تأتيكم في كتيبة كثير عددها شديد بأسها تقاتلكم ، صدقتم ؟ قالوا : سبحان الله ومن يصدق بهذا ؟
قال : تأتيكم أمكم الحميراء في كتيبة يسوق بها أعلاجها من حيث يسؤكم وجوهكم (2) .
بعد هذه المقدمة الموجزة ، هل يمكننا ان نصدق على ان عائشة عند مسيرها الى البصرة ، وعلمت بالموضع أنه هو الحوأب الذي اخبرها رسول الله به ، استرجعت وأرادت الرجوع . كما ورد الخبر عند كثير من الرواة ، فيذكر المسعودي : ( وسار القوم نحو البصرة في ستمائة راكب ، فأنتهوا في الليل الى ماء لبني كلاب يعرف بالحوأب ، عليه ناس من بني كلاب ، فعوت كلابهم على الركب ، فقالت عائشة : ما
____________
(1) يقال وجم الشيء اي كرهه .
(2) مناقب آل ابي طالب 1 : 140 .

( 44 )

اسم هذا الموضع ؟ فقال لها السائق لجملها : الحوأب ، فاسترجعت وذكرت ما قيل لها في ذلك ، فقالت : ردوني الى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لا حاجة لي في المسير ، فقال الزبير : بالله ما هذا الحوأب ، ولقد غلط فيما أخبرك به ، وكان طلحة في ساقة الناس ، فلحقها فأقسم ان ذلك ليس بالحوأب ، وشهد معهما خمسون رجلا ممن كان معهم ، فكان ذلك أول شهادة زور أقيمت في الاسلام ) (1) .
فمن يقرأ الحديث في الوهلة الاولى يعتقد أو يتصور ان عائشة المسكينة قد غرر بها ، وأرادت الاصلاح بين فئتين مؤمنتين عند مسيرها الى البصرة ، وعندما بلغت الموضع الذي نبحتها كلابه ، واستفسرت من سائق جملها واعلمها انه الحوأب تذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها ، فأسترجعت وصاحت ردوني ، كأنها ندمت على خروجها ، وأرادت العودة لولا قسم الزبير وطلحة بأن هذا ليس هو الحوأب ! وايضا لولا شهادة الخمسين علجا لصفعت الزبير وطلحة على فعلهما القبيح ، ولعقرت الجمل الذي يحمل على ظهره السوء والمنكر .
لكن عائشة كانت تعلم علم اليقين أن هذه الشهادة هي شهادة زور ، وهي على قناعة بأن هذا المكان هو الحوأب بعينه ، وان الجمل الذي يحملها هو الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وهذا ما يؤيده كثير من القرائن والحجج الدامغة التي خلفتها لنا ام المؤمنين عائشة .
____________
(1) مروج الذهب 3 : 366 .
( 45 )

فهي ألم تترك قول الله تعالى خلف ظهرها ؟ وتخرج متبرجة بين الملأ من الناس والعسكر ، مخالفة لامر الله تعالى ، والله تعالى يقول في خطابه لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( وقرن في بيوتكن ولا تتبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة واتين الزكاة )(1) .
وإذا كانت ارادت الرجوع لمجرد سماعها اسم الموضع ، فما بالها لم ترجع عندما تواقف الجيشان واطبقت حلقات الفتنة ، ثم انها لم تكتف ان تجلس في بيتها وتراقب الموقف وما ستؤول إليه الامور ، بل خرجت الى الحرب ووقفت امام جيش الغدر تحرض وتؤلب الناس على القتال ، وتلقي عليهم الخطب الرنانة لأثارة الحماس فيهم والاستبسال في القتال لكسب هذه الجولة التاريخية ، وتنهي حكومة العدل بقيادة ابن عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
هل استرجعت وقررت الخروج ولو في اللحظات الحالكة التي مرت بها عندما نشب القتال ، وهي ترى الناس حولها أكواما من الجثث مقطوعة الايدي والرؤوس ؟
هل كانت ستعظم ما فعلته من إباحة دماء المسلمين ويتم اطفالهم ، وزعزعة الحياة الاجتماعية في البصرة .
لكن قول الامام علي عليه السلام لها كان شافيا ، وقاطعا عنها كل سبيل ،
____________
(1) الاحزاب 33 : 33 .
( 46 )

ففي رواية الاصبغ بن نباتة ، قال : لما عقر الجمل وقف علي عليه السلام على عائشة ، فقال لها : « ما حملك على ما صنعت ؟ » قالت : ذيت وذيت (1) . فقال : « اما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لقد ملأت أذنيك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يلعن أصحاب الجمل وأصحاب النهروان ، أما أحياؤهم فيقتلون في الفتنة ، وأما أمواتهم ففي النار على ملة اليهود » (2) .
هذه عائشة ام المؤمنين صاحبة الجمل الادبب ، وقد جاءت مصداقا لقوله تعالى : ( التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا ) (3) وقد سئل الامام الصادق عليه السلام عن معنى هذه الاية فقال : « عائشة هي نكثت ايمانها » (4) .
وقوله تعالى : ( مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ) (5) كما روى سالم بن مكرم عن ابيه في معنى هذه الاية الكريمة ، قال : سمعت ابا جعفر عليه السلام يقول : هي الحميراء .
واخيرا نقف عند قول الصادق الامين صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث يجلو الحيرة ويزيح اللثام عن نفسيات ونوازع هذه المرأة العجيبة ، حيث جاء في صحيح البخاري بأسناده عن نافع ، عن عبد الله ، قال : قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم
____________
(1) ذيت وذيت ، مثل كيت وكيت .
(2) الكافية : 34 ح 35 .
(3) سورة النمل 92 : 16 .
(4) رواه العياشي في تفسيره 2 : 269 ح 65 .
(5) العنكبوت : 41 ، رواه الكراجكي في كنز الفوائد 1 : 430 ح 7 .

( 47 )

خطيبا واشار نحو مسكن عائشة فقال : « هنا الفتنة ـ ثلاثا ـ من حيث يطلع قرن الشيطان » (1) .

حديث عائشة عن هزيمة اصحاب الجمل
لقد اصطف الطرفان في الموضع المعروف بالخريبة القريب من البصرة ، ومن ثم تهيؤا للقتال ، وكان امير المؤمنين يناشدهم بالرجوع الى العقل وحقن دماء المسلمين ، لكنهم أصروا على الحرب ، وكانت عائشة على ظهر جملها ( عسكر ) (2) تؤلب وتحرض الناس على القتال .
وإذا كان ( عسكر ) في بداية الامر عند خروج عائشة من مكة تريد البصرة متباهيا على اقرانه ، حيث كلف بحمل ام المؤمنين على ظهره دون غيره ، وما هذا الا تكريم له ، لكن المسكين لا يدري ما تؤول إليه عاقبة امره ، حتى وقف في ذلك اليوم العصيب وهو يوم الخميس 10 جمادى الثانية سنة 36ه‍ ، وكانت على ظهره ام المؤمنين عائشة والسهام تتساقط عليه كالمطر ، ورمي الهودج بالنشاب والنبل حتى صار
____________
(1) بحار الانوار 32 : 287 .
(2) عسكر : اسم جمل عائشة اشتراه يعلى بن منيه عامل عثمان على اليمن وقد هرب منها عند بيعة الامام عليه السلام بالخلافة ، فأتى مكة وصادف فيها عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم واخرين من بني امية ، فأعطى عائشة وطلحة والزبير اربعمائة الف درهم ، وبعث الى عائشة بالجمل المسمى عسكرا ، وكان قد اشتراه بمائتي دينار .
انظر : مروج الذهب 3 : 366 .

( 48 )

كالقنفذ (1) ، لابد انه لعن ذلك اليوم الذي استوت فيه على ظهره عائشة ، وكم كان بوده ان يقذا هذه الهودج الذي يحمل الشر بداخله الى الجحيم ويهرب بجلده ، لكنه لا يستطيع حيث بني ضبة يتسابقون على مسك زمامه ، وكلما قطعت يد ماسك الزمام ، أخذه رفيقه الاخر حتى تقطع يده ، وهكذا أربت الايدي التي قطعت على السبعين يدا (2) ، فأين يجد المسكين عسكر فرصة للهروب ، حتى ضربه رجل على عجزه فسقط لجنبه ، وفي خبر حبة القرني قال : كأني اسمع عجيج الجمل ما سمعت قط عجيجا اشد منه (3) . اما عن حديث عائشة عن هزيمة القوم ، فقد روى الواقدي ، عن رجاله العثمانية عن عائشة ، في ذكر الحال وهزيمة القوم في الحرب وشرح الصورة ورأيها فيما كان ذلك ، فقال : حدثنا محمد بن حميد ، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة ، عن امها كبشة بنت كعب ، قالت : كان أبي لقي على عثمان حزنا عظيما وبكاه ولم يمنعه من الخروج إلا ان بصره ذهب ، ولم يبايع عليا ولم يقربه بغضا له ومقتا ، وخرج علي عليه السلام من المدينة فلما قدمت عائشة منصرفة من البصرة
____________
(1) مروج الذهب 3 : 375 .
(2) مروج الذهب 3 : 375 .
(3) مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 382 .
وروى الواقدي ، عن موسى بن عبد الله ، عن الحسين بن عطية ، عن ابيه ، قال شهدت الجمل مع علي عليه السلام ، فلقد رأيت جمل عائشة وعليه هودجها وعليه دروع الحديد ؛ ثم لقد رأيت فيه من النبل والنشاب أمرا عظيما ، ثم عقر فما سمعت كصوته شيئا قط .
انظر : مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 377 ، نهاية الارب 20 : 77 .

( 49 )

جاءها أبي فسلم على الباب ، ثم دخل وبينها وبينه حجاب فذكرت له بعض الامر ولم تشرحه له ، فلما أمسينا بعثنا الى عائشة واستأذنا عليها فأذنت لنا ، قالت كبشة : فدخلت في نسوة من الانصار فحدثتنا بمخرجها وأنها لا تظن الامر يبلغ الى ما بلغ .
ثم قالت : لقد عمل لي على هودج جملي (1) ، ثم ألبس الحديد ودخلت فيه ، وقمت في وسط من الناس أدعو إلى الصلح والى كتاب الله والسنة ، فليس أحد يسمع من كلامي حرفا ، وعجل من لقينا بالقتال ، فرموا النبل وصرعتهم القوم فلا أدرك حتى قتل من أصحاب علي رجل أو رجلان ، ثم تقارب الناس ولحم الشر فصار القوم ليس لهم همة إلا جملي ، ولقد دخلت علي سهام فجرحتني ـ فأخرجت ذراعها وأرتنا جرحا على عضدها فبكت وأبكتنا ـ قالت : وجعل كلما أخذ رجل بخطام جملي قتل ، حتى أخذه ابن أختي عبد الله ، فصحت به وناشدته بالرحم أن يتجافاني .
فقال : يا أماه ! هو الموت ، يقتل الرجل ـ وهو عظيم الغنى عن الأصحاب ـ على نيته خير من أن يدرك وقد فارقته نيته .
____________
(1) روى بن ابي سبرة ، عن علقمه بن ابي علقمة ، عن ابيه ، قال : جعلنا الهودج من خشب فيه مسامير الحديد ، وفوقه دروع من حديد ، وفوقها طيالسة من خز أخضر ، وفوق ذلك أدم احمر ، وجعلنا لعائشة منه منظر العين ، فما أغنى ذلك من القوم .
انظر : الاخبار الطوال : 149 ، الفتوح م 1 : 488 ، مناقب الخوارزمي : 188 .

( 50 )

فصحت : واثكل اسماء ! فقال : يا أماه ! الزمي الصمت وقد لحم ما ترين ! فأمسكت . وكان ممن معنا فتيان احداث من قريش وكان لاعلم لهم بالحرب ولم يشهدوا قتالا ، فكانوا جزرا للقوم ، فإنا لعلى ما نحن فيه وقد كان الناس كلهم حول جملي فأسكتوا ساعة ، فقلت : خير ام شر ؟ إن سكوتكم ضرس القتال ، فإذا ابن ابي طالب أنظر إليه يباشر القتال بنفسه واسمعه يصيح : « الجمل ! الجمل ! » . فقلت : أراد والله قتلي ، فإذا هو قد دنا منه ومعه محمد بن أبي بكر أخي ومعاذ بن عبيدالله التميمي وعمار بن ياسر فقطعوا البطان ، وأحتملوا الهودج فهو على أيدي الرجال يرفلون به ، إذ تفرق من كان معنا فلم أحس لهم خبرا ، ونادى منادي علي بن ابي طالب : « لا يتبع مدبر ، ولا يجهز على جريح ، ومن طرح السلاح فهو آمن » .
فرجعت الى الناس أرواحهم فمشوا على الناس واستحيوا من السعي ، فأدخلت منزل عبد الله بن خلف الخزاعي وهو والله رجل قد قتل وأهله مستعبرون عليه ، ودخل معي كل من خاف عليا ممن نصب له ، وأحتمل ابن أختي عبد الله جريحا ، فوالله إني لعلى ما انا عليه وأنا أسأل ما فعل أبو محمد طلحة ؟ إذ قال قائل : قتل ! فقلت : ما فعل أبو سليمان ؟ فقيل : قد قتل ! فلقد رأيتني تلك الساعة جمدت عيناي وانقطعت من الحزن واكثرت الاسترجاع والندامة ، وذكرت من قتل فبكيت لقتلهم فنحن على ما نحن عليه ، وأنا أسأل عن عبيدالله ، فقيل لي : قتل فأزددت هما وغما حتى كاد ينصدع قلبي ، فوالله لقد بقيت


( 51 )

ثلاثة ايام بلياليهن ما دخل فمي طعام ولا شراب ، وإني عند قوم ما يقصرون في ضيافتي ، وإن الخبر في منازلهم لكثير ، ولكني أعالج الشبع من الطعام فما أقدر ، فنعوذ بالله من الفتنة ! ولقد كنت ألبت على عثمان حتى نيل منه ما نيل ، فلما قتل ندمت وعلمت أن المسلمين لا يستخلفون مثله أبدا ، كان والله أجلهم حلما ، وأعبدهم عبادة ، وابذلهم عند النائبة ، وأوصلهم للرحم .
قالت كبشة بنت كعب ، فرجعت الى أبي فقال : ما حدثتكم به عائشة ؟ فأخبرته بما قالت . فقال : يرحم الله عائشة ويرحم الله أمير المؤمنين عثمان ، هي كانت أشد الناس عليه ، ولقد فزعت وثابت وأرادت ان تأخذ بثأره فجاء خلاف ما أرادت فرحمهما الله جميعا ، ثم قال : رحم الله عمر بن الخطاب كان والله يرى هذا كله ، قال يوما : إن كان يصير اختلاف فأنما يكون بينكم ، وإن كان بينكم دخل عليكم ما تكرهون (1) .

* * *

____________
(1) انظر مصنفات الشيخ المفيد م 1 : 387 ، 379 ، 380 .
( 52 )



( 53 )

ترجمة المؤلف

اسمه ونسبه :
هو السيد ضامن ابن السيد شدقم بن زين الدين علي بن بدر الدين حسن النقيب ابن حسين الشهيد ابن علي بن شدقم بن ضامن بن محمد الحمزي الحسيني المدني ، من ذرية ابي القاسم الطاهر المحدث بن يحيى النابه بن الحسن بن جعفر الحجة ابن عبيدالله الاعرج ابن الحسين الاصغر بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليه السلام (1) .
وجده بدر الدين الحسن النقيب مؤلف ( زهر الرياض ) سنة 922 الذي ينقل عنه السيد ضامن في كتابه ( التحفه ) (2) .
ولم نعثر على سنة مولده ، وأما سنة وفاته فيستفاد مما جاء في مجلة المجمع العراقي (3) ، وفي مجلة سومر العراقية (4) ، من الحديث
____________
(1) اعيان الشيعة 7 : 392 .
(2) الذريعة 3 : 419 .
(3) مجلة المجمع العراقي 6 : 227 .
(4) مجلة سومر 13 : 50 .

( 54 )

عن الجزء الثالث من كتابه ( تحفة الازهار ) انه كان حيا سنة 1088 هـ (1) .

مكانته العلمية :
كان المصنف رحمه الله عالما فاضلا اديبا كاتبا مشهورا ، قال المرحوم محسن الامين : « والذي وجدته في مسودة الكتاب ( تحفة الازهار ) هو كما ذكر : ضامن بن شدقم بن علي المعروف بين المؤلفين » .
وابوه ايضا كان عالما كما ذكر المرحوم محسن الامين : « في كتاب يظن انه اسمه كتاب ( الانوار ) مؤلفه من اصحابنا من اهل أواسط القرن الثالث عشر ، رأيته في بغداد عام 1352 ما صورته :
السيد ضامن ابن السيد العالم السيد شدقم المدني » (2) .
وقال عنه صاحب الاعلام : ضامن بن شدقم بن علي بن حسن النقيب المدني : أديب إمامي ، له علم بالانساب . صنف ( تحفة الازهار وزلال الانهار في نسب الائمة الاطهار ) نسخة منه في المكتبة القادرية ببغداد تحت رقم ( 657 ) ، ونسخة ثانية مجلدان ، في مكتبة محمد رضا كاشف الغطاء ، بالنجف (3) .
وذكر هذا الكتاب صاحب الذريعة ، فقال : وهو كبير في مجلدين المجلد الاول في الحسنين أوله : ( الحمدلله المحسن المتفضل الكريم
____________
(1) الاعلام 3 : 213 .
(2) اعيان الشيعة 7 : 32 .
(3) الاعلام 3 : 213 .

( 55 )

الوهاب ، ذو الجود والنعم الجسام بغير حساب . . إني قد جمعت هذه الحديقة الفائقة الانيقة الزاهرة المثيرة ، فرتبتها على أحسن ترتيب في نسل ابي محمد الحسن ) .
وأول المجلد الثاني : ( الحمد لله الذي لا ند له فيبارى ، ولا ضد له فيجازى ، ولا شريك له فيوازي . . لما من الله تعالى علي باتمام الجلد الاول من تحفة الازهار وزلال الانهار ، فحداني الشوق الى إلحاق الجلد الثاني ، وهو مختص بنسب أبناء ابي عبد الله الحسين السبط ، ورتبته على ترتيب المجلد الاول المختص بنسب اولاد ابي محمد الحسن ، والعقب في الحسين منحصر في إبنه علي الاوسط زين العابدين . . .
وعند ذكر جعفر الحجة كما جاء في نسبه قال : الى عامنا هذا سنه ثمان وثمانون والف (1) .
وعن الكتاب قال السيد محسن الامين : وفي النسخة التي رأيناها في طهران قال في بعض المواضع فيها : يقول جامعه الفقير الى الله الغني ، ضامن بن شدقم بن علي الحسيني المدني : وصلت الى البصرة في شهر ربيع الثاني سنة 1068 هـ فأجتمعت بالسيد الشريف الحسيب النسيب عمدة السادة النجباء ، وزبدة الاماثل الاطباء ، أو الطبيب الحاذق ، وبقية الحكماء الفائق ، عبد الرضا بن شمس الدين بن علي . وفي موضع آخر يقول : جامعه الفقير الى الله الغني ضامن بن شدقم بن
____________
(1) الاعلام 3 : 213 .
( 56 )

علي الحسيني المدني ، وصلت الى الدورق (1) في العشر الاول من جمادى الثانية سنة 1068 هـ ، وفي شهر ذي الحجة سنة 1092 هـ اجتمعت في البصرة بالسيد ناجي الخ . . وفي شهر شوال سنة 1080 هـ اجتمعت بالسيد يحيى في اصفهان الخ . . وفي جمادى الثانية سنة 1082 هـ اجتمعت في اصفهان بالسيد يعقوب الخ . . فذكروا لي انسابهم .
ويظهر من كتابه انه ساح وكتب في سياحته جملة من الانساب . ومن شعره :

سبحان من اصبحت مشيئته * جارية في الورى بمقــدار
في عامنا اغرق العراق وقد * احــرق ارض الحجاز بالنار

كان من المعاصرين للسيد زين العابدين بن نور الدين بن علي بن الحسين الموسوي ـ يروي السيد عبد الرضا بن شمس الدين بن علي الحسيني نزيل البصرة ، من العلماء الاجلة في عصره ، ويظهر انه من تلاميذ البهائي ، والسيد الداماد (2) .

***

____________
(1) الدورق : بفتح اوله ، وسكون ثانيه ، بلد بخوزستان ، وهو قصبة كورة سرق يقال لها : دورق الفرس ، فيها آثار قديمة لقباذ بن دارا ، وقد نسب إليها قوم من الرواة ، منهم : أبو عقيل الدورقي الازدي التاجي ، واسمه بشير بن عقبة ، سمع الحسن وقتادة وغيرها . وقد نسب قوم الى لبس القلانس الدورقية منهم : احمد بن ابراهيم بن زيد الدورقي ، وقيل ان الانسان إذا نسك في ذلك الوقت قيل له : دورقي .
أنظر : معجم البلدان 2 : 483 .
(2) اعيان الشيعة 7 : 392 .