فصل . . في خروج ام المؤمنين عائشة رضي الله
عنه الى البصرة ونصح ام سلمة زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها
قال أبو علي احمد بن الحسين بن احمد بن عمران : فيما استخرج من كتاب « الاختصاص » (1) حدثني محمد بن علي بن شاذان ، قال : حدثنا احمد بن يحيى النحوي أبو العباس [ ثعلب ] (2) ، قال : حدثنا احمد بن سهل أبو عبد الرحمن ، قال : حدثنا يحيى بن محمد بن اسحق بن موسى ، قال : حدثنا احمد بن قتيبة أبو بكر ، عن عبد الحكيم [ القتيبي ] (3) ، عند ابي [ كبسه ] (4) ، ويزيد بن رومان ، قالا :
لما قصدت عائشة رضي الله عنه الخروج على امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام (5) أتت الى ام سلمة بمكة المشرفة ، وقالت لها :
يا بنت ابي (6) امية لقد كنت كبيرة امهات (7) المؤمنين ، وكان رسول
____________
(1) الاختصاص : 113 .
(2) سقطت من النسخة .
(3) في النسخة : القبعي ، وهذا تصحيف سببه الناسخ والصواب كما في الاختصاص .
(4) في النسخة : كبشه ، والصواب كما في الاختصاص .
(5) في الاختصاص : لما اجمعت عائشة على الخروج الى البصرة .
(6) سقطت من النسخة واثبتناها من الاختصاص .
(7) في النسخة : رؤساء امهات .

( 102 )

الله صلى الله عليه وآله وسلم يقيم ببيتك ويقسم لنا وينزل عليه الوحي ، [ قالت لها يا بنت ابي بكر ] (1) ولقد زرتني [ وما كنت زوارة ولامر ما تقولين ] (2) . [ قالت : ان اخي ] (3) وابن اخي اخبراني ان عثمان قتل مظلوما ، وان بالبصرة مائة الف [ سيف يطاعون ] (4) ، فهل لك في الخروج معي لعل الله ان يصلح امر المسلمين من التشاجر بين الفئتين ؟
[ فقالت : يا بنت ابي بكر أبدم عثمان تطلبين ] (5) ؟ فلقد كنت اشد الناس عليه عداوة ، وان كنت لتدعينه بالتبريء ، ام امر ابن ابي طالب تنقضين (6) !
____________
(1) سقطت من النسخة وأثبت من الاختصاص .
(2) في النسخة : ولست بزائرة ولا تمن تقبلين هذا المقال .
(3) سقطت من النسخة وأثبت من الاختصاص .
(4) في النسخة : سيأتي يطلبوني .
(5) سقطت من النسخة واثبتناها من الاختصاص .
(6) في نصيحة ام سلمة رضي الله عنه لعائشة بعدم الخروج ، ثم رأتها لا تتعظ ، قال الشيخ المفيد ( اعلا الله مقامه ) في كتابه ( الجمل أو النصرة في حرب البصرة ) ( ص 128 ) : « ثم انفذت ام سلمة الى عائشة ، فقالت لها : وقد وعظتك فلم تتعظي ، وقد كنت اعرف رأيك في عثمان ، وانه لو طلب شربة ماء لمنعتيه ، ثم انت اليوم تقولين انه قتل مظلوما ، وتريدين ان تثيري لقتال أولى الناس بهذا الامر قديما وحديثا ، فاتق الله حق تقاته ، ولا تعرضي لسخطه ، فأرسلت إليها عائشة : أما ما كنت تعرفينه من رأيي في عثمان فقد كان ، ولا أجد مخرجا منه إلا الطلب بدمه ، واما علي فأني آمره برده هذا الامر شورى بين الناس ، فأن فعل وإلا ضربت وجهه بالسيف حتى يقضي الله ما هو قاض .
فأنفذت إليها ام سلمة : اما أنا فغير واعظة لك من بعد ، ولا مكلمة لك جهدي وطاقتي ، والله اني لخائفة عليك البوار ثم النار ، والله ليخيبنك ظنك ، وينصرن الله ابن ابي طالب على من بغى وستعرفين عاقبة ما أقول والسلام » .

( 103 )

ولقد نص عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والان قد بايعته المهاجرون والانصار ، وان ذلك سدة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين امته ، وحجابه مضروب على حرمه ، وقد جمع [ القرآن ذلك ] (1) فلا [ تبذخيه ] (2) وسكني عقيراك فلا تضحي بها [ الله من وراء ] (3) هذه الامة ، قد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانك ، ولو أراد ان يعهد اليك فعل .
وقد نهاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الفراطة في البلاد ، فأن عمود الاسلام لا يرأبه النساء ان اثلم ولا يشعب بهن ان انصدع ، حماديات النساء غض الاطراف وقصر الوهادة ، وما كنت قائلة لو ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرض لك ببعض الفلوات وانت ناصة قلوصا من منهل الى آخر بعين الله مهواك ، وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تردين قد وجهت سدافته وتركت عهده .
اقسم بالله لئن سرت مسيرك هذا ، ثم قيل لي : ادخلي الفردوس لاستحييت ان القي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هاتكة حجابا قد ضربه علي ، فأجعلي حصنك بيتك (4) ، وقاعة الستر قبرك حتى تلقيه وانت على
____________
(1) في النسخة : ذلك لك .
(2) سقطت من النسخة .
(3) سقطت من النسخة .
(4) وكانت ام سلمة تطالبها بتطبيق قوله تعالى ( وقرن في بيوتكن ) ، ففي تفسير روح المعاني للالوسي ، روى البزاز عن انس : ان النساء جئن الى رسول الله بعد نزول الاية فقلن : لقد ذهب الرجال بالفضل والجهاد ، فهل لنا عمل ندرك به فضل

=


( 104 )

ذلك اطوع [ ما تكونين لله ما التزمتيه ، وابصري ما تكونين للدين ما جلست عند بيتك ] (1) .
ثم قالت : لو ذكرتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسا في علي عليه السلام لنهشتيني نهش الحية الرقشاء المطرقة ذات الحبب. اتذكرين اذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرع بين نسائه إذا أراد سفرا ، فأقرع بينهن فخرج سهمي وسهمك ، فبينا نحن معه وهو هابط من قديد ومعه علي عليه السلام يحدثه ، فذهبت لتهجمي عليه ، فقلت لك : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه ابن عمه ولعل له إليه حاجة ، فعصيتني ورجعت باكية فسألتك ، فقلت : إنك هجمت عليهما ، فقلت له يا علي : انما لي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم من تسعة أيام وقد شغلته مني ! فأخبرتيني انه قال لك : أتبغضينه ؟ فقلت : كيف أبغضه وهو أخوك وابن عمك ، واحب الناس اليك .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ما يبغضه أحد من اهلي ولا من امتي إلا خرج من الايمان . قالت : نعم .
____________
=
المجاهدين ؟
فقال : من قعد منكن في بيتها تدرك عمل المجاهدين .
وقال السيوطي : ان سودة بنت زمعة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تحج بعد نزول الاية فقيل لها في ذلك ، فقالت : اني حججت واعتمرت ، وأمرني ربي تعالى شأنه ان أقر في بيتي حتى تخرج جنازتي .
وأخرج مسروق : ان عائشة كلما قرأت وقرن في بيوتكن تبكي حتى تبل خمارها .
انظر : روح المعاني 22 : 6 ، الدر المنثور 5 : 196 .
(1) لم تر هذه العبارة في الاختصاص .

( 105 )

[ ويوم اراد ] (1) رسول الله صلى الله عليه وآله [ سفرا ] (2) وانا أجش له جشيشا فقال [ ليت شعري ] (3) ايتكن صاحبة الجمل الاحدب (4) تنبحها كلاب الحوأب ، فرفعت يدي من الجشيش ، وقلت : اعوذ بالله من ذلك ان اكون .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : والله لا بد لاحدكما ان يكونه [ إتقي الله ] (5) يا حميراء ، ان تكونيه ! ! ، أتذكرين هذا ؟ ! قالت : نعم .
ويوم تبذلنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلبست ثيابي ولبست ثيابك ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى جنبك .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : أتظنين يا حميراء اني لا اعرفك ؟ اما ان لأمتي منك يوما [ مرا أو يوما ] (6) ، أتذكرين هذا ؟ قالت : نعم .
ويوم كنت انا وانت ذات يوم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاء ابوك وصاحبه يستأذن الدخول ، فدخلت الخدر .
فقالا : يا رسول الله ، انا لا ندري قدر مقامك فينا ، فلو جعلت لنا انسانا نأتيه بعدك .
____________
(1) سقطت من الاصل .
(2) سقطت من الاصل .
(3) في الاصل عبارة غير واضحة واثبتت من الاختصاص .
(4) سقطت من الاصل .
(5) سقطت من الاصل .
(6) في الاصل عبارة غير واضحة .

( 106 )

فقال صلى الله عليه وآله وسلم : اما اني اعرف مكانه واعلم موضعه ، فلو أخبرتكم به لتفرقتم عنه كما تفرقت بنو اسرائيل عن عيسى بن مريم عليه السلام .
فلما خرجا خرجت إليه انا وانت حزينة عليه ، فقلت له : يا رسول الله من كنت جاعلا لهم ؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : خاصف النعل [ وغاسل الثوب ] (1) وكان علي عليه السلام عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويغسل ثوبه إذا اتسخ .
فقلت : ما أرى إلا عليا ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : هو ذاك ، أتذكرين هذا (2) ؟ قالت : نعم .
قالت : يوم جمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت ميمونة فقال صلى الله عليه وآله وسلم :
يا نساء (3) النبي ، أتقين الله ولا يسفرن (4) بكن احد ، أتذكرين هذا (5) ؟ قالت : نعم .
[ يا حميراء إنك لتقاتلين عليا وانت ظالمة له !! ] (6) قالت نعم .
فقالت عائشة رضي الله عنه : لقد سمعت وفهمت قولك [ وقبلت نصحك
____________
(1) لم ترد في الاختصاص .
(2) في الاختصاص : يا عائشة .
(3) في الاختصاص : يا نسائي .
(4) في الاختصاص : لا يسفر .
(5) في الاختصاص : يا عائشة .
(6) لم ترد في الاختصاص .

( 107 )

ووعظك لي ] (1) وأسمعني لقولك فأن اخرج ففي غير حرج ، وان أقعد ففي غير بأس .
ثم انها أمرت ان ينادى في الناس : من أراد الخروج فليخرج ، فأن ام المؤمنين نأت عن الخروج .
فدخل عليها عبد الله بن الزبير بن العوام [ فنفث في أذنيها كنفث الحية لسمها ، وقلبها في الذروة ] (2) ، فأمرت ان ينادى في الناس ان ام المؤمنين خارجة فمن أراد الخروج فليخرج معها . فأنشأت ام سلمة تقول هذه الابيات شعرا (3) :

لـوان معتصمــا من زلــة احــد * كانت لعائشة [ العتبى على ] (4) الناس
كـم سنــة لرســول الله تاركــة * وتلـو آيٍ مــن القــرآن مدراس
قد ينــزع مــن انـاس عقولهــم * حتــى يكون الذي يقضى على الناس

____________
(1) في الاختصاص : ما أقبلني لوعظك .
(2) في الاختصاص : فنفث في اذنها وقلبها في الذروة .
(3) ذكر ابن الجوزي في تذكرة الخواص : 38 ، نهي ام سلمة لها فلما رأتها لا تقبل قالت :

نصحت ولكن ليس للنصح قابل * ولو قبلت ما عنفتهــا العــواذل
كان بها قد ردت الحرب رحلها * وليس لهــا الا الترحــل راحل

وذكر البيهقي في المحاسن والمساوئ 1 : 231 ان ام سلمة حلفت ان لا تكلم عائشة من اجل مسيرها الى حرب علي ، فدخلت عائشة عليها يوما وكلمتها . فقالت ام سلمة : الم أنهك ؟ ألم أقل لك ؟ قالت : اني استغفر الله كلميني .
فقالت ام سلمة : يا حائط ألم انهك ؟ ألم اقل لك ؟ فلم تكلمها ام سلمة حتى ماتت .
(4) في النسخة : الدنيا بغي ، وصوابه كما في الاختصاص .

( 108 )

فيرحــم الله ام المؤمنيــن لقد * كانت تبدل [ إيحاشا بايناس ] (1)

تحرك القوم الى البصرة
قال : فكان قصدهم الشام ، فصادفهم في اثناء الطريق عبد الله بن عامر عامل عثمان على البصرة قد صرفه امير المؤمنين بحارثة بن قدامه السعدي واخذ البيعة من اهلها ، فقال لهم عبد الله بن عامر : اعلموا أني امس منكم خبرا بمعاوية ، انه لا ينقاد اليكم ولا يعطيكم ما هو ضامر عليه في نفسه ، فمشورتي عليكم ان تنتحوا عنه ، وعليكم بحفظ البصرة فأنها كثيرة الضياع والعدة ، وجهزهم بألف الف درهم (2) ومائة من الابل وغير ذلك .
واما يعلى بن منية اعطاهما أربعمائة الف درهم (3) ، وكراعا وسلاحا ، والجمل المسمى بـ ( عسكر ) الذي ركبته قد اشتراه بمائتي دينار ، فكان عسكرها ثلاثين الفا ، وعسكر امير المؤمنين علي عليه السلام عشرين الفا .
فلما انتهى بهم المسير الى الموضع المعروف بالحوأب (4) احد
____________
(1) في النسخة : الحاسا بالناس ، وصوابه كما ورد في الاختصاص .
(2) في الاصل : الف درهم ، والصواب كما في مروج الذهب م 2 : 366 .
(3) في الاصل : اربعمائة الف دينار ، وصوابه كما ذكره المسعودي .
(4) الحوأب : بالفتح ثم السكون ، وهمزة مفتوحة ، وياء موحدة ، وأصله في اللغة ، يقال : حافر حوأب ، وأب صعب ، والحوأبة : العلبة الضخمة ، والحوأب :

=


( 109 )

منازل بني عبس ، وجدوهم نازلين على مائة فعوت بهم كلابهم .
فقالت عائشة رضي الله عنه : ما اسم هذا الموضع الذي عوت بنا كلاب اهله ؟
فقال لها قائد جملها : هذا الحوأب « الحوأب احد منازل بني عبس » وهذه كلابهم ، فتذكرت ما قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالت : ردوا بي الى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لا حاجة لي في هذا المسير وكان طلحة والزبير في الساقة ، فلحقا بها واقسما لها ان ليس هذا بالحوأب ، انما سائق الجمل غلط في قوله لك ! ! وشهد لها خمسون رجلا ممن معهم !! فكانت هي أول شهادة زور وقعت في الاسلام .
فسارت حتى قدمت البصرة ، فمانعهم دونها عثمان بن حنيف والخزان والموكلون بها من قبل امير المؤمنين عليه السلام .
ففي بعض الليالي نزغ لهم الشيطان فثاروا عليه وضربوه وأسروه
____________
=
الوادي الوسيع ، والحوأب : موضع معروف في طريق البصرة ، قال أبو زياد : ومن مياه ابي بكر بن كلاب الحوأب ، وهو من المياه الاعداد وقديم جاهلي . وقيل سمي الحوأب بالحوأب بنت كلب بن وبرة وهي ام تميم وبكر .
قال ياقوت الحموي : ان عائشة لما رأت المضي الى البصرة في وقعة الجمل مرت بهذا الموضع فسمعت نباح الكلاب ، فقالت : ما هذا الموضع ؟ قيل لها : هذه موضع يقال له الحوأب ، فقالت : إنا لله ما أراني الا صاحبة القصة .
قيل لها : واي قصة ؟ قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول وعنده نساؤه : ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب سائرة في كتيبة الى الشرق ! وهمت بالرجوع فغالطوها وحلفوا لها انه ليس بالحوأب . انظر : معجم البلدان 2 : 314 .

( 110 )

ونتفوا لحيته ! وأرادوا قتله ، إلا انهم خافوا من أخيه سهيل .
وفي رواية فساروا حتى انتهوا بالحوأب ، اسم موضع لبني كلاب ، فوجدوهم عليه فعوت بهم كلابهم ، فقالت عائشة رضي الله عنه : ما اسم هذا الموضع ؟ قال سائق الجمل : هذا الحوأب ! فذكرت ما قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : ردوني لا حاجة لي بهذا المسير .
فقال طلحة والزبير وخمسون رجلا منهم : تالله ما هذا الحوأب ! ! فهي اول شهادة زور وقعت في الاسلام .
ثم قدموا البصرة ، فمانع عنها عثمان بن حنيف والخزان والموكلون ، فوقع بينهم القتال ، فقتلوا منهم سبعين رجلا ، ثم اصطلحوا ، ثم اسروا عثمان وضربوه ونتفوا لحيته ، وأرادوا قتله إلا انهم خافوا من اخيه سهيل (1) .

فصل في توجه أمير المؤمنين عليه السلام الى البصرة
قال : بعد مضي اربعة اشهر توجه امير المؤمنين عليه السلام في سبعمائة
____________
(1) ذكر المسعودي في مروج الذهب بعد قدوم القوم الى البصرة وما فعلوه بعثمان بن حنيف ، قال : وأرادوا بيت المال فمانعهم الخزان والموكلون به وهم السبابجة ، فقتل منهم سبعون رجلا غير من جرح ، وخمسون من السبعين ضرب رقابهم صبرا من بعد الاسر ، وهؤلاء أول من قتل ظلما في الاسلام وصبرا ، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي ، وكان من سادات عبد القيس وزهاد ربيعة ونساكها .
انظر : مروج الذهب م 2 : 377 ـ 367 .

( 111 )

راكب ، فمنهم اربعمائة من المهاجرين والانصار ، وسبعون بدريا ، والباقون من الصحابة (1) .
ثم لحق به خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين وستمائة رجل من طي ، فلما انتهى به المسير الى الربذة (2) من الكوفة ، قال الشيخ المفيد رحمه الله في ارشاده (3) :
روي عن ابن عباس قال : اتيت امير المؤمنين عليه السلام فوجدته يخصف نعلا ، فقلت له : جعلت فداك ، هل علينا اصلاح ما يحتاج إليه من الامور ؟ فلم يجبني ، حتى فرغ من خصف النعل ، ودفعها الى صاحبتها ، ثم قال : « قومها » .
فقلت : ليس لها قيمة .
____________
(1) ذكر ابن الاثير في الكامل في التاريخ 3 : 221 ، قال : قال أبو قتادة الانصاري لعلي [ عليه السلام ] : يا أمير المؤمنين ان رسول الله ، صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، قلدني هذا السيف وقد اغمدته زمانا وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين [ لا ] يألون الامة غشا ، وقد احببت ان تقدمني فقدمني .
وقالت ام سلمة : يا امير المؤمنين لولا اني اعصي الله وانك لا تقبله مني لخرجت معك ، وهذا ابن عمي ، وهو والله اعز علي من نفسي ، يخرج معك ويشهد شاهدك .
(2) الربذة : قال ياقوت الحموي : وفي كتاب العين : الربذ خفة القوائم في المشي وخفة الاصابع في العمل ، والربذات العهون التي تعلق في اعناق الابل . والربذة من قرى المدينة على ثلاثة ايام قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة ، وبهذا الموضع قبر ابي ذر الغفاري رضي الله عنه .
معجم البلدان 3 : 24 .
(3) الارشاد 1 : 247 ـ 248 .

( 112 )

فقال عليه السلام : « على ذلك » .
قلت : كسر درهم .
فقال عليه السلام : « والله ، انها احب إلي من أمركم هذا ، إلا أن اقيم حقا أو ادفع باطلا » .
فقلت : ان الحاج قد اجتمعوا ليسمعوا كلامك ، أفتأذن لي أن أتكلم ، فإن كان حسنا كان منك ، وإن كان غيره فهو مني .
قال : « لا ، بل انا أتكلم » ، ثم وضع يده في صدري وكان شثن الكف (1) ، فآلمني . ثم قال : فأخذت بثوبه .
فقلت : ناشدتك الله والرحم .
قال : « لا تنشدني » ، ثم خرج عليه السلام فاجتمع عليه الناس ، فحمد الله واثنى عليه ، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قال :
« اما بعد ، ايها الناس : فإن الله عزوجل بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وليس في العرب أحد يقرأ كتابا ، ولاي دعي نبوة ، فساق الناس إلى منجاتهم ، أم والله ما زلت في ساقتها ما غيرت ولا بدلت ولا خنت (2) ، حتى تولت بحذافيرها . مالي ولقريش .
أيم الله ، لقد قاتلتهم كافرين ، ولأقاتلنهم مفتونين ، وان مسيري
____________
(1) شثن كفه : اي خشنت وغلظت ، « الصحاح ـ شثن ـ 5 : 2142 » .
(2) في الاصل : حدثت ، والصواب كما ورد في الارشاد .

( 113 )

هذا على عهد الي فيه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
أم والله ، لا بقرن الباطل حتى يخرج الحق من خاصرته .
ما تنقم منا قريش ، ألا وان الله عزوجل اختارنا من عين خلقه عليهم فأدخلناهم في حيزنا » (1) .
ثم انه عليه السلام انشد يقول :

ذنب لعمري شريك المحض خالصا * وأكلك بالزبد المقشرة (2) البجرا (3)
ونحـن وهبنـاك العلاء ولم تكن * عليا وحطنا حولك الجرد والسمرا (4)

قال : فلما انتهى مسير امير المؤمنين عليه السلام الى الربذة من الكوفة على طريق الحارة ، كاتب عامله بها أبا موسى الاشعري ليستنفر له اهلها ، فلم يكن منه إلا انه ثبتهم على خلافه ، حتى انه قال لهم : انما هي فتنة . فبلغه ذلك [ عليه السلام ] فعزله ، واقام عوضه موص بن كعب الانصاري .
وكتب إليه [ عليه السلام ] : « اعتزل عن عملنا يا ابن الحياكة مذموما مدحورا » .
قال الشيخ المفيد رحمه الله في أرشاده :
____________
(1) في الاصل : وادخرهم في خيرتنا ، وصوابه كما ورد في الارشاد .
(3) المقشرة : الرطب المقشر .
(3) البجر : جمع بجراء ، وهي المنتفخة البطن ، يعني التمر الجيد الكبار .
لسان العرب 4 : 40 .
(4) الجرد والسمر : يعني الخيل .

( 114 )

روي عبد الحميد بن عوان العجلي ، عن سلمة بن سهيل ، قال : لما انتهى مسير امير المؤمنين عليه السلام الى ذي قار ، بعث ابنه الحسن عليه السلام وعمار بن ياسر الى اهل الكوفة ، ليستنفرا اهلها ، فأتوه بذي قار [ اي اهل الكوفة ] ، فأخذ عليهم البيعة ، ثم قام فيهم خطيبا ، فحمد الله واثنى عليه ، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قال :
اما بعد ، ايها الناس :
( « قد جرت علينا أمور صبرنا عليها ـ وفي اعيننا القذى ، وفي القلب شجى ـ تسليما لأمر الله تعالى فيما امتحن به عبده ، رجاء الثواب على ذلك ، فكان الصبر عليها أمثل من أن يتفرق المسلمون ، وتسفك دماؤهم ، فنحن أهل بيت النبوة ، وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأحق الناس بسلطان الرسالة ، ومعدن الكرامة ، التي أبتدأنا الله تعالى بها ، ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) (1) .
يا أهل الكوفة :
إنكم من أكرم المسلمين ، [ وأصدقهم تقوى ] (2) ، وأعدلهم سنة ، وأفضلهم سهما في الأسلام ، وأجودهم في القرب مركبا ونصابا ، أنتم أشد القرب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيته ، وإنما جئتكم ثقة ـ بعد الله ـ بكم للذي بذلتم من أنفسكم عند نقض طلحة والزبير وخلعهما طاعتي
____________
(1) الجمعة : 4 .
(2) في الارشاد : واقصدهم تقويما .

( 115 )

[ واقبالهما بعائشة للفتنة ] . [ خرجا محتالان على فساد العباد واخراب البلاد ، ألا وإنهما قد بايعا لي طائعين راغبين مختارين ، ثم أستأذناني في الذهاب الى العمرة ، فأذنت لهما ، فأكثرا القول عليها [ اي عائشة ] ، حتى أخرجاها من بيتها يجرانها كما تجر الأمة عند شرائها ، حتى قدما بها البصرة ، فحبسا [ نساءهم في بيوتهم ] (1) ، وأبرزا حبيس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهما ولغيرهما في جيش ، فضربوا عاملي بها وأسروه ، وخزان بيت مال المسلمين الذي بيدي ، وعلى اهل المصر [ الذين ] كلهم في طاعتي وعلى بيعتي ، فشتتوا شملهم ، وفرقوا كلمتهم ، وأفسدوا علي جماعتهم ، ووثبوا على شيعتي فقتلوا طائفة منهم ، وطائفة ، عضوا على أسيافهم وضاربوا بها حتى لقوا الله صادقين في الله .
لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا معتمدين لقتله بلا جرم ، لحل قتل ذلك الجيش كله ، إذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد ، مع ما إنهم قتلوا من المسلمين العدة التي دخلوا بها عليهم .
فالذي قتل من السبابجة اربعمائة رجل ، وعزروا بولاتها ] (2) .
____________
(1) في الاصل : نسائها وبيوتها ، وهو تصحيف وقع فيه الناسخ حيث كان يقصد طلحة والزبير .
(2) لم يذكر الشيخ المفيد في الارشاد نص الخطبة بهذا الشكل وقال في 1 : 250 [ واقبالهما بعائشة للفتنة ، وإخراجهما إياها من بيتها حتى اقدماها البصرة ، فأستغووا طغامها وغوغاءها ، مع أنه قد بلغها أن أهل الفضل منهم وخيارهم في الدين قد اعتزلوا وكرهوا ما صنع طلحة والزبير ] .

( 116 )

اللهم ، إنهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي ، وألبا الناس علي ، فأحلل ما عقدا ، ولا تحكم ما أبرما ، وأرهما المساءة فيما عملا .
فقال له أهل الكوفة : « يا امير المؤمنين ، إنا نحمد الله عزوجل الذي من علينا برؤياك ، وخصنا بجوارك ، وجعلنا من شيعتك وأنصارك واعوانك على أعدائك ، ولو دعوتنا الى اضعافهم احتسبنا الخير ورجونا الشهادة بين يديك ، فطب نفسا وقر عينا بظفرك على اعدائك ان شاء الله تعالى » (1) .
قال : فلم يزل الكوفيون وغيرهم يقدمون إليه زمرا ، زمرا ، وهو عليه السلام مقيم بذي قار .

وصول الامام امير المؤمنين عليه السلام واصحابه الى البصرة
ثم توجه بهم الى البصرة وقام في اصحابه خطيبا ، فحمد الله واثنى عليه ، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال (2) :
____________
(1) في الارشاد 1 : 250 ثم سكت فقال اهل الكوفة : نحن أنصارك وأعوانك مع عدوك ، ولو دعوتنا الى اضعافهم من الناس احتسبنا في ذلك الخير ورجوناه .
فدعا لهم أمير المؤمنين عليه السلام وأثنى عليهم ، ثم قال : قد علمتم - معاشر المسلمين - أن طلحة والزبير بايعاني طائعين راغبين ، ثم استأذناني في العمرة فأذنت لهما ، فسارا الى البصرة فقتلا المسلمين وفعلا المنكر .
اللهم إنهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي وألبا الناس علي ، فأحلل ما عقدا ، ولا تحكم ما أبرما ، وأرهما المساءة فيما عملا .
(2) الارشاد 1 : 251 .

( 117 )

« اما بعد ، ايها الناس :
إن الله عزوجل فرض على عباده الجهاد ، وعظمه وجعله نصرة له ، والله ما [ صلحت ] (1) دنيا ولا دين إلا به ، الا وإن الشيطان قد جمع حزبه ، واستجلب خيله ، [ وشب ] (2) في ذلك وخدع ، وقد بانت الأمور ( فتمخضت ) (3) .
والله ما انكروا علي منكرا ولا جعلوا بيني وبينهم [ نصفا ] (4) ، الا وإنهم يطلبون حقا تركوه ، ودما سفكوه ، ولئن كنت شركتهم فيه إن لهم نصيبهم فيه ، ولئن كانوا ولوه [ دوني ] (5) [ فما تبعتهم إلا قبلهم ] (6) ، وإن أعظم حججهم لعلى أنفسهم ، وإني لعلى بصيرتي [ ما لبست علي ] (7) ، وإنها الفئة الباغية [ الحمى والحمة ] (8) قد طالت هلبتها (9) وامكنت درتها ، يرضون أما [ فطمت ] (10) ، يجيبون بيعة تركت ، ليعود الضلال الى نصابه .
____________
(1) في النسخة : علمت ، وهو تصحيف ، والصواب كما ورد في الارشاد .
(2) في النسخة : وسب .
(3) في النسخة : فسخط .
(4) في النسخة سقطت : نصفا ، وقد اثبتناها من الارشاد .
(5) في النسخة : ديني .
(6) في النسخة : فما بيعتهم إلا قتلهم ، والصواب كما في الارشاد .
(7) في النسخة : من امري كما كتبت علي .
(8) في الاصل : اللحم والجلد وتفتقد من التصحيفات الناسخ .
(9) هلب : هو شعر الذنب ، وفرس مهلوب : مجزوز الهلب .
(10) في النسخة : ما عظمت .

( 118 )

ما أعتذر مما فعلت ، ولا أتبرأ مما صنعت ، [ فياخيبة للداعي ومن دعا ، لو قيل له : الى من دعواك ؟ والى من أحببت ؟ ومن إمامك ؟ وما سننه ؟ ] (1) ، إذا لزاح الباطل عن مقامه ، ولصمت لسانه فما نطق .
وايم الله ، لأمرطن لهم حوضا أنا [ ماتحه ] (2) ، لا يصدرون عنه ، ولا يلقون [ بعده ريا ] (3) ابدا ، وإني لراض بحجة [ الله عليهم وعذره فيهم ، إذ أنا داعيهم ] (4) ، فمعذر إليهم فان تابوا وقبلوا فالتوبة [ مبذولة ] (5) والحق مقبول وليس على الله كفران ، وإن [ أبوا أعطيتهم ] (6) حد السيف ، وكفى به شافيا من باطل وناصرا للمؤمنين ) (7) .
قال : ولما وصل امير المؤمنين الى البصرة ، أرسل الى القوم يناشدهم الله تعالى ، ويذكرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، متعوذا منهم على ما اصروا عليه ، فلم يجيبوه لذلك ، بل تعصبوا على القتال ، فقام عليه السلام في اصحابه خطيبا ، فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قال عليه السلام :
____________
(1) سقطت من النسخة الخطية واثبتناها من الارشاد .
(2) متح : وهو الذي ينزع الدلو ، وقد سقطت من النسخة واثبتناها من الارشاد .
(3) في النسخة : معدوما ، وصوابة كما في الارشاد .
(4) في النسخة : اسألهم وعذرهم فيها إذ انا فازعتهم ، والصواب كما جاء في الارشاد .
(5) في النسخة : هذه ولهم ، والصواب كما في الارشاد .
(6) في النسخة : لم يأتوا تائبين فأعطهم ، والصواب كما في الارشاد .
(7) انظر الخطبة في : الاستيعاب 2 : 221 ، نهج البلاغة 1 : 38 | 9 و 55 | 21 ، ونقلها العلامة المجلسي في بحار الانوار 32 : 116 ح 93 .