الفصل السادس عشر
موقف الأمويين من النياحة على الحسين عليه السلام
لقد بذل الأمويون ولا سيما ملوكهم وأمراؤهم بعد يزيد ، جهدهم لعزل ذكر الحسين عن ذهنية المسلمين . وذلك بفصل الناس عن زيارة قبره الطاهره ومنعهم عن إقامة العزاء والنوح عليه ، بكل ما عرفوه من الوسائل السرية والعلنية . وكان الأمويون لا يتورعون عن اتخاذ أية وسيلة إرهابية في منع الناس عن مراودة القبر الشريف بكربلاء ، وإقامة المآتم والمناحات على الحسين عليه السلام وصحبه وآله سراً وعلناً ، في جميع الأقطار الاسلامية التي كانت سيطرتهم عليها نافذة ، فكانوا قد أحاطوا البقعة التي ضمن جثمان الشهيد في كربلاء بحراسة شديدة ومراقبة واعية ، منعاً من وفود الزوار عليها وإقامة المناحات حولها . حتى أن كثيراً من الوافدين لقوا حتفهم فور وقوعهم في شباك تلك الحراسة ، وكان قد اشتد هذا المنع في أوائل عصر الامام الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام على عهد هشام بن عبد الملك . وذلك على أثر خروج زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام في الكوفة ومقتله فيها سنة «121 هـ» فصار جلاوزة هشام يشددون المنع ، ويمثلون بمن يقع بأيدي المسالح من الزوار .
وروى التاريخ حوادث كثيرة في ذلك ، منها :
1 ـ جاء في الصفحة «95» من كتاب « إقناع اللائم » ما نصه :
« روى ابن قولويه في الكامل بسنده عن مسمع كردين قال : قال لي أبو


( 108 )

عبد الله : يا مسمع ، أنت من أهل العراق ، أم تأتي قبر الحسين ؟ قلت : لا ، أنا رجل مشهور من أهل البصرة ، وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة ، وأعداؤنا كثيرة من أهل القبائل من النصاب وغيرهم ، ولست آمنهم أن يرقبوا حالي عند ولد سليمان فيميلوا عليّ . قال : أفما تذكر ما صنع به ؟ قلت : بلى . قال : فتجزع ؟ قلت : إي والله أستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ ، فأمتنع عن الطعام حتى يستبين ذلك في وجههي . قال : رحم الله دمعتك أما انك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا ، والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ، ويأمنون إذا أمنا ... » .
الى أن يقول مسمع : « ثم استعبر واستعبرت معه ، فقال : الحمد لله الذي فضلنا على خلقه بالرحمة ، وخصنا أهل البيت بالرحمة يا مسمع ، إن الارض والسماء تبكي منذ قتل أمير المؤمنين ، رحمة لنا وما بكى لنا من الملائكة أكثر ، وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا ، وما بكى أحد رحمة لنا ، وما لقينا إلا رحمه الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه ... » (1) .
أقول : أما سليمان ، فهو سليمان بن عبد الله بن العباس الذي كان أمير البصرة .
2 ـ جاء في مقال للشيخ باقر شريف القرشي نشر في العددين 3 ـ 4 من نشرة « أجوبة المسائل الدينية » المنشورة في كربلاء ما عبارته : « نشأ الامام زيد ، ولكنه لم يفتح عينه إلا على نفوس قد أذابها الحزن وأفناها الألم ، ولا يسمع إلا البكاء والعويل والنادبات من عماته ، يندبن سيد الشهداء ، ويعدون رزاياه وما حل به من فادح الخطب وفاجع الرزء ، ويشاهد أباه زين العابدين وقد نخر الحزن قبله ، وهو يواصل أوقاته بالبكاء والحزن على أبيه . قد انهكت العبادة جسمه حتى صار كأنه صورة جثمان » .
أقول : كانت هذه حالة شيعة آل علي عليه السلام على عهد بني أمية ، الذين لم يألوا
____________
(1) كامل الزيارات : 101 .
( 109 )

جهداً في إيذاء أهل البيت وأصحابهم ومواليهم ، مقاومة من ينوح على الحسين عليه السلام ويزور قبره بأشد العقوبت .
3 ـ وهذا البيت لأحد الشعراء على عهد الامويين ، من قصيدة له في رثاء الامام الشهيد ، يدل على ما كان يلاقيه الموالون لآل علي وأولاده عليهم سلام :
تجاوبت الدنيا عليك مأتماً * نواعيك فيها للقيامة تهتف

فكان عقاب هذا الشاعر التعذيب والموت على يد حكام آل أبي سفيان .

***


( 110 )



( 111 )

الفصل السابع عشر
التوابون ينوحون الحسين عليه السلام ويثورون على الأمويين
وما دخلت سنة «65» هـ حتى تفاقمت حركة التوابين في الكوفة ، فأخذوا يطالبون بدم الحسين عليه السلام ، وينادون بنداء « يا لثارات الحسين » ولم يكتموا أمرهم ولا عمدوا الى الخفاء وصاروا يشترون السلاح ، ويتجهزون من كل جانب ، طالبين التوبة مما بدر منهم بشأن عدم تلبية نداء الحسين عليه السلام لهم يوم عاشوراء ، وصار عمال بني أمية في الكوفة يشاهدونهم بسلاحهم منطلقين ، ساعين نحو قبر الحسين بكربلاء ، لإقامة المآتم والمناحات على قبر الحسين عليه السلام ولا يستطيعون اتخاذ أي إجراء ضدهم . وعندما بلغ هؤلاء التوابون في بعض انطلاقاتهم قبر الحسين عليه السلام صاحوا صيحة واحدة بالعويل والبكاء ، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ، قائلين : « اللهم ارحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد . اللهم إنا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبيهم . اللهم إنا خذلنا ابن بنت نبينا فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين » .
ولقد وصفت كتب التاريخ هذا الحادث على الوجه التالي :
1 ـ جاء في الصفحة «70» من كتاب « مدينة الحسين » السلسلة الثانية المار ذكره ما نصه :
« وقد جمع سليمان ـ يعني سليمان بن صرد الخزاعي أصحابه وجماعة وساروا الى النخيلة وعسكروا بها ، وكان ذلك في غرة ربيع الثاني ، سنة «65» هـ ثم رحلوا


( 112 )

عنها بعد أن أقاموا فيها ثلاثة ايام يستكملون قواهم حتى بلغت أربعة آلاف مقاتل ، ثم ساروا حتى أتوا أقساس بني مالك على شاطئ الفرات ، ثم أصبحوا عند قبر الحسين في كربلاء وذلك في العقد الأول من ربيع الثاني سنة «65» هـ فلما وصلوا موضع القبر صاحوا صيحة واحدة ، وضجوا بالبكاء والعويل ، فلم ير يوماً أكثر بكاء حول قبر الحسين من ذلك اليوم . وقد خطب فيهم خطباء كثيرون » .
ثم يستطرد الكاتب فيقول : « وازدحموا على لثم القبر كازدحام الحجاج على لثم الحجر الاسود في الكعبة ، ثم ودعوا القبر ورحلوا عنه . وبقي سليمان بن صرد مع ثلاثين نفراً من أصحابه عند القبر ... » .
ويواصل الكاتب كلامه فيقول :
« ثم قام من بينهم وهب بن زمعة الجعفي وهو يبكي عند القبر الشريف ، أنشد أبياتاً من قصيدة عبيد الله بن الحر الجعفي :

تبيت النشاوى مــن أمية نوماً * وبـالطف قتلى ما ينـام حميمها
ومــا ضيع الاسـلام إلا قبيلة * تآمر نوكاهــا ودام نعيمـهــا
وأضحت قناة الدين في كف ظالم * إذا اعوج منها جانـب لا يقيمهـا
فأقسمت لا تنفك نفسي حزينــة * وعيني تبكي لا يخــف سجومها
حياتي أوتلقى أميــة خزيــة * يذل لهـا حتى الممات قرومهــا

ثم ساروا عن كربلاء بعد أن باتوا ليلتهم .
أقول : أما العلامة السيد محسن الأمين العاملي فقد ذكر جميع القصيدة ونسبها الى وهب بن زمعة في الصفحة «169» من المجلد «4» القسم الرابع من « أعيان الشيعة » وهذه هي :

عجبت وأيام الزمان عجائـب * ويظهر بين المعجبات عظيمها
تبيت النشاوى من أمية نومـاً * وبالطف قتلى ماينـام حميمهـا
وتضحى كرام من ذوابة هاشم * يحكّم فيها كيف شـاء لئيمهـا



( 113 )

وربات صــون ماتبدت لعينهــا * قبيل الصبــا إلا لوقت نجومهــا
تزاولهــا أيــدي الهوان كأنمـا * تقحــم ما لا عفــو فيـه أثيمهـا
وما أفسـد الاسـلام إلا عصابــة * تآمــر نوكاهــا ودام نعيمهــا
وصارت قناة الدين في كـف ظالـم * أذا مــال منها جانب لا يـقيمهـا
وخاض بها طخياء لا يهتـدى لهـا * سبيل ولا يرجو الهدى من يعومهـا
الى حيث القاها ببيـداء مجهــل * تضل لأهل الحلم فيهــا حلومهـا
رمتها لأهل الطـف منهــا عصابة * حداها الى هـدم المكــارم لومهـا
فشفّت بها شعــواء في خير قتيـة * تخلت لكسب المكرمات همومهــا
أولـئــك آل الله آل مـحـمــد * كــرام تحدت مــاحداها كريمها
يخوضون تيــار المنايا ظوا ميـا * كما خاض في عذب الموارد هيمهـا
يقوم بهم للمجـد أبيــض ماجــد * أخو عزمــات أقعدت من يرومهـا
فأقسمــت لا تنفك نفسي جزوعـة * وعيني سفوحاً لا يمـل سجومهــا
حياتي أو تلقى أميـــة وقعــة * يذل لهــا حتى الممات قرومهــا

ووهب بن زمعة هو أبو دعبل الجحمي ، المعاصر لمعاوية وابنه يزيد .
2 ـ جاء في الصفحة «764» من « موسوعة آل النبي » مختصراً عن الطبري (1) وابن الأثير عن نهضة التوابين وقيامهم ضد الأمويين ما عبارته :
« وما دخلت سنة «65 هـ» حتى كانت صيحة التوابين : ( يا لثارت الحسين عليه السلام ) تزلزل الأرض تحت بني أمية ، وحتى كانت الكوفة تشهدهم في سلاحهم ينطلقون ساعين نحو قبر الحسين وهم يتلون الآية : ( فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم ) [ البقرة : 54 ] فلما بلغوا القبر صاحوا صيحة واحدة ، فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم ، وأقاموا عنده يوماً وليلة
____________
(1) تاريخ الطبري 4 : 451 احداث سنة خمس وستين .
( 114 )

يتضرعون ... » .
وتستطرد الكاتبة فتقول : « وغادروا القبر وقد ازادادوا ندماً وحماسة ، فاندفعوا كالموج مستبسلين يلقون الالوف المؤلفة من جند بني أمية وأقصى أمانيهم أن يقتلوا في ثار الحسين » .
وتواصل الدكتورة عائشة بنت عبد الرحمن الشهيرة ببنت الشاطئ كلامها في الصفحة «765» من مسوعتها عند ذكر مناحات التوابين ، وتعرج على إثارة السيدة زينب النفوس وإلهابها في الأخذ بثأرالحسين من بني أمية ، وتقول :
« وكانت السيد زينب هي التي جعلت من مصرع الحسين مأساة خالدة لاتعرف ما هو أبعد أثراً في تطور العقيدة عند الشيعة ، وصيرت من يوم مقتله مأتماً سنوياً للأحزان والآلام .
وكانت زينب هي التي صيرت من ليلة العاشر من المحرم مأتماً سنوياً للأحزان والآلام يحج فيه أحفاد التوابين الى المشهد المقدس في كربلاء ، حيث يعيدون تمثيل المأسات ، ويفرضون على أنفسهم أقسى أنواع العذاب الجسدي ، تكفيراً عن خطيئة آبائهم وأجدادهم الذين قتلوا الحسين وآله وصحبه ، وبقى شعار التوابين الى أن انقرضوا » .
وتستطرد هذه الدكتورة فتقول :
« وما أحسب أن التاريخ قد عرف حزناً كهذا طال مداه حتى استمر بضعة عشر قرناً دون أن يفتر ، فمراثي شهداء كربلاء هي الأناشيد التي يترنم بها الشيعة في عيد حزنهم يوم عاشوراء في كل عام ، ويتحدون الزمن أن يغيبها في متاهة النسيان .. » .
ثم تستأنف الكلام وتقول :
« وكذلك كانت زينب عقيلة بني هاشم في تاريخ الاسلام وتاريخ الانسانية بطلة استطاعت أن تثأر لأخيها الشهيد ، وأن تسلط معاول الهدم على دولة بني


( 115 )

أمية ، وأن تغير مجرى التاريخ ... » .
3 ـ جاء في الصفحة «99» من كتاب « المجالس الحسينية » السالف ذكره مانصه :
« وقد ندم التوابون بعد قتل الحسين على تركهم نصرته فنهضوا ، وثاروا ، وقتلوا . ولكن عملوا بعد قتل الحسين ، ولا عمل بعد قتله إلا الحسرة والتلهف . قال شاعرهم عبيد الله بن الحر :

فيا لك حسرة مــا دمت حيــاً * تردد بيــن حلقـي والتراقــي
فلو علــق التلهــف قلب حيًّ * لهــمّ اليــوم قلبــي بانفلاق
فقد جاء الأولى نصروا حسينـاً * وخاب الآخــرون الى النفـاق

4 ـ جاء في الصفحة «190» من المجلد الأول ، قسم كربلاء من « موسوعة العتبات المقدسة » نقلاً عن المستشرق « رينولد نطلس » في كتاب ( تاريخ العرب الأدبي ) عند ذكر فاجعة كربلاء ما نصه :
« وخلال بضع سنوات من مصرع الحسين عليه السلام أصبح ضريحه في كربلاء محجاً تشد اليه رحال الشيعة ، وعند ما ثار التوابون سنة 674 م ـ 65 هـ قصدوها ورفعوا عقائرهم منتحبين بصوت واحد ، وبكوا وتضرعوا الى الله ان يغفر لهم لتنكرهم لسبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة شدته وضيقه ، وصاح زعيمهم : ربّ ارحم الحسين ، الشهيد ابن الشهيد ، المهدي ابن المهدي ، الصديق ابن الصديق : ربّ اشهد أننا اتباع دينهم وسبيلهم ، وأننا أعداء قاتليهم وأحباء محبيهم .. » .
أجل هاهنا تكمن نواة التعازي والمشاهد الدينية التي تمثل كل سنة في العاشر من محرم حيثما وجد الشيعة .
5 ـ جاء في الصفحة «375» من الجزء «8» من المجلد الرابع من مجلة « المرشد » البغدادية ، عند البحث عن مدينتي الأنبار والمسيب في العراق ومنشئيهما ، ثم الكلام عن التوابين ، يقول الكاتب السيد علي نقي النقوي الكهنوري


( 116 )

ما نصه :
« إن الذي نعهده من التاريخ أن أولئك الثائرين ـ أي التوابين ـ لم يزالوا في الكوفة من أول بيعتهم لسليمان حتى خرجوا منها في المحرم سنة «65 هـ» ، فكان معسكرهم عندئذ النخيلة ، وهناك كانت تنظم الثوار ، ويهيئون العدة والعتاد . وارتحلوا منها ، فاتفقت كلمتهم على زيارة أبي عبد الله الحسين في الطف ، فحضروا هناك ، وباتوا ليلتهم ، باكين ، متضرعين ، صارخين بالاستغفار والإنابة الى الله تعالى . وفي صباح الغد ساروا منها متوجهين الى ارض الشام ... » .

***


( 117 )

الفصل الثامن عشر
بكاء الائمة على الحسين عليه السلام
أما حزن الائمة عليهم السلام من أولاد الحسين عليه السلام وذريته وسائر العلويين ، ونياحتهم عليه في سرهم وعلنهم ، وفي محافلهم الرسمية ومجالسهم الخاصة ، وفي دورهم وأنديتهم ودواوينهم ، فحدث عنها ولا حرج ، حيث أنها لم تنقطع ، بل استمرت استمرار حياتهم .
ولقد تحدثت الروايات وتناقلت الاسفار والكتب ذلك بوفرة وكثرة . منها : ما ذكرته عن بكاء وحزن الامام الرابع علي بن الحسين زين العابدين وسيد الساجدين مدة أربعين سنة عاشها بعد استشهاد والده المظلوم ، وبكاء الامام الصادق عليه السلام لمصيبة جده الشهيد واستنشاده الشعر في رثائه ، وكذا الامام الكاظم عليه السلام الذي كان لا يرى ضاحكاً إذا أقبل شهر محرم الحرام ، وكان يرى كئيباً حزيناً في العشرة أيام الأولى من هذا الشهر ، وهكذا الامام الرضا عليه السلام وغيرهم من الأئمة .
وها إني أنقل تالياً ما روي عن حزن الأئمة ونياحهم وبكائهم على جدهم الحسين الشهيد عليه السلام ، وحثهم اسرهم وشيعتهم المفجوعين بإحياء هذه الذكرى الأليمة والمأساة العظمى باستشهاد الامام الحسين وصحبه الميامين يوم العاشر من محرم سنة «61 هـ» :
قال السيد محسن الأمين العاملي في الصفحة «93» من تأليفه « إقناع اللائم »


( 118 )

عند بحثه عن نياحة الأئمة عليهم السلام على جدهم الشهيد ما نصه :
« اما انهم ـ اي الائمة ـ بكوا على الحسين ، وعدوا مصيبته أعظم المصائب وأمروا شيعتهم ومواليهم وأتباعهم بذلك ، وحثوا عليه ، واستنشدوا الشعر في رثائه ، وبكوا عند سماعه ، وجعلوا يوم قتله يوم حزن وبكاء ، وذموا من اتخذه عيداً وأمروا بترك السعي في في الحوائج ، وعدم ادخار شيء فيه . فالاخبار فيه مستفيضة عنهم ، تكاد تبلغ حد التواتر ، رواها عنهم ثقات شيعتهم ومحبيهم بأسانيدها المتصلة اليهم .. » .
أ ـ حزن الامام الرابع زين العابدين عليه السلام
وقد شهد الامام علي بن الحسين عليه السلام زين العابدين وسيد الساجدين مصرع أبيه وأخوته وبني عمه وأصحاب أبيه وغيرهم وتجرع الغصص والغم والألم من هذه المشاهد المفجعة . ثم قاسى مرارة الأسر ولم تنقطع عبرته على ذلك ما دام حياً .
1 ـ جاء في الصفحة «82» من كتاب « زين العابدين » تأليف عبد العزيز سيد الأهل ما عبارته عند ذكر ورع الامام :
« بل كان علي كلما جاء وقت الطعام وفتحت مصاريع الأبواب للناس ووضع طعامه بين يديه دمعت عيناه . فقال له أحد مواليه ذات مرة : ياابن رسول الله ، أما آن لحزنك أن ينقضي ؟ فقال له زين العابدين : ويحك إن يعقوب عليه السلام كان له اثنا عشر ابناً فغيب الله واحداً منهم فابيضت عيناه من الحزن ، وكان ابنه يوسف حياً في الدنيا . وأنا نظرت الى أبي ، وأخي وعمي ، وسبعة عشر من أهل بيتي ، وقوماً من أنصار أبي مصرعين حولي ، فكيف ينقضي حزني ؟.. » .
أقول : وقد نقل هذا الحديث كل من العاملي في « أعيان الشيعة » وابن شهر


( 119 )

آشوب في بعض مؤلفاته (1) .
2 ـ روى ابن قولويه في « الكامل » بسنده قال :
« أشرف مولى لعلي بن الحسين وهو في سقيفة له ساجد يبكي فقال له : يا علي بن الحسين ، أما آن لحزنك أن ينقضي ؟ فرفع رأسه اليه . فقال : ويلك ـ أو ثكلتك أمك ـ أما والله لقد شكا يعقوب الى ربه في أقل مما رأيت ، حتى قال : يا أسفى على يوسف . وانه فقد ابناً واحداً وأنا رأيت ابي وجماعة من أهل بيتي يذبحون حولي » (2) .
ولقد نقل هذه الروايات وأمثالها عن الامام زين العابدين كثير من كتب الحديث وغيرها مع تغيير طفيف في العبارة .
3 ـ وروي ايضاً كما في « أعيان الشيعة » : إن الامام علي بن الحسين بكى حتى خيف على عينيه . وكان إذا أخذ ماء بكى حتى يملأه دمعاً . فقيل له في ذلك ، فقال : كيف لا أبكي وقد منع أبي من الماء الذي كان مطلقاً للسباع والوحوش ؟ وقيل له : إنك لتبكي دهرك ، فلو قتلت نفسك لما زدت على هذا . فقال : نفسي قتلتها وعليها ابكي .
4 ـ نقل كتاب « إقناع اللائم » (3) رواية عن ابن قولويه في كامله بسند معتبر عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام انه قال : « ما اختضبت منا امرأة ، ولا ادهنت ، ولا اكتحلت ، ولا رجلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد . وما زلنا في عبرة بعده . وكان جدي علي بن الحسين عليه السلام إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته ، وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه ، وإن الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كل من في الهواء والسماء من الملائكة ...
____________
(1) مناقب ابن شهر آشوب 4 : 166 .
(2) كامل الزيارات : 107 .
(3) اقناع اللائم : 98 .

( 120 )

الى ان قال عليه السلام : وما من عين أحب الى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه وما من باك يبكيه الا وقد وصل فاطمة وأسعدها عليه ، ووصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدى حقنا . وما من عبد يحشر الا وعيناه باكية الا الباكي على جدي ، فانه يحشر وعينه قريرة ، والبشارة تلقاه والسرور بيّن على وجهه »(1) .
5 ـ وفي « إقناع اللائم » (2) أيضاً برواية عن ابن شهر آشوب في مناقبه عن الامام الصادق عليه السلام إنه قال :
« عاش (3) علي بن الحسين أربعين (4) سنة وما وضع طعام بين يديه إلا وبكى ، حتى قال له مولى له : جعلت فداك ، يا ابن رسول الله ، إني أخاف أن تكون من الهالكين ، قال عليه السلام : ( إنما أشكو بثي وحزني الى الله وأعلم من الله مالا تعلمون ) إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة » (5) .
6 ـ جاء في الجزء «1 : 155» من كتاب « المجالس السنية » ما عبارته :
« وعن الصادق عليه السلام إنه بكى على أبيه الحسين أربعين سنة ، صائماً نهاره ، قائماً ليله ، فاذا حضره الافطار وجاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه ، فيقول : كل يا مولاي (6) فيقول : قتل ابن رسول الله جائعاً ، قتل ابن رسول الله عطشاناً ، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه ، ثم يمزج شرابه بدموعه . فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل » .
7 ـ جاء في الجزء «1 ـ 155» من الكتاب نفسه ما لفظه :
« قال الصادق عليه السلام : البكاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت
____________
(1) كامل الزيارات : 81 .
(2) اقناع اللائم : 94 .
(3) في المصدر ( بكى ) .
(4) في المصدر ( عشرين ) .
(5) مناقب ابن شهر آشوب 4 : 165 .
(6) ليس في المصدر « كل يا مولاي » .

( 121 )

محمد ، وعلي بن الحسين ـ الى أن يقول عليه السلام ـ : وأما علي بن الحسين عليهما السلام فبكى على أبيه الحسين أربعين سنة . وما وضع طعام بين يديه إلا بكى حتى قال له مولى له : جعلت فداك ، يا ابن رسول الله ، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين . قال : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ) ( يوسف : 86 ) إني لم أذكر مصرع ابن فاطمة إلا خنقتني العبرة » .
8 ـ وجاء في الجزء «1 : 156» من نفس الكتاب ما عبارته :
« روي انه كان إذا حضر الطعام لإفطاره ذكر قتلاه وقال : واكرباه (1) ، يكرر ذلك . ويقول : قتل ابن رسول الله خائفاً ، قتل ابن رسول الله عطشاناً ، حتى يبل بالدموع ثيابه .
وحدّث مولى له ، أنه مر (2) يوماً الى الصحراء قال : فتعقبته (3) فوجدته قد سجد على حجارة خشنة . وقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه وأحصيت عليه ألف مرة وهو يقول : لا إله إلا الله حقاً حقاً . لا إله إلا الله تعبداً ورقاً . لا إله إلا الله إيماناً وتصديقا . ثم رفع رأسه من سجوده وإذا لحيته ووجهه قد غمرا بالماء من دموع عينه (4) . فقلت : يا سيدي ، أما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقل ؟ فقال لي : ويحك .. » الى آخر القصة التي مر ذكرها .
9 ـ جاء في الصفحة «249» من موسوعة « أعيان الشيعة » المجلد «4» القسم الأول ، عند ذكر شعر الامام زين العابدين هذه الابيات :

نحن بنو المصطفى ذوو غصص * يجرعهــا في الأنام كاظمنــا
عظيمــة في الأنـام محنتنـا * أولنــا مبتلــى وآخرنـــا

____________
(1) في المصدر ( واكربلاه ) .
(2) في المصدر ( برز ) .
(3) في المصدر ( فتبعته ) .
(4) في المصدر ( عينيه ) .

( 122 )

يفــرح هــذا الورى بعيدهـم * ونحــن أعيـادنــا مآتمنــا
والناس في الامـن والسرور وما * يأمن طــول الزمـان خائفنـا
وما خصصنا به من الشرف الطا * ئــل بيــن الانــام آفتنــا
يحكم فينــا والحكــم فيه لنـا * جاحدنــا حقنــا وغاصبنــا

10ـ وفي الصفحة «107» من كتاب «أقناع اللائم» ماعبارته :
« روي عن علي بن ابراهيم في « تفسيره »(1) ، وابن قولويه في «الكامل»(2) ، والصدوق في «ثواب الاعمال»(3) باسانيدهم : ان الامام الخامس الناقر عليه السلام قال : كان علي بن الحسين يقول : «أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي عليهما السلام دمعة حتى تسيل على خده (4) لأذى مسنا من عدونا في الدنيا بواه الله مبوا صدق في الجنة » .
11ـ وروي في «الكامل» بسنده عن أبي جعفر الصادق عليه السلام قال : « كان علي بن الحسين يقول : من ذكر الحسين عنده فخرج من عينه من الدمع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على الله عز وجل ولم يرض له بدون الجنة »(5) .
12ـ جاء في الصفحة «645» من «موسوعة آل النبي» عند ذكر اسم الامام زين العابدين في سلسلة أسماء البكائين ما نصه :
« ويضاف اسمه ـ أي اسم زين العابدين ـ الى أسماء البكائين فيقال : وبكى زين العابدين أباه الحسين ...» .
____________
(1) تفسير علي بن ابراهيم 2: 291 .
(2) كامل الزيارات لابن قولويه : 100 .
(3) ثواب الاعمال للصدوق : 83 .
(4) في التفسير زيادة ( بواه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا ، وأيما مؤمن دمعت عيناه دمعا حتى تسيل على خده لأذى ... ) .
(5) كامل الزيارات : 100 .

( 123 )

ب ـ بكاء الامام الخامس محمد الباقر عليه السلام .
أما الامام الخامس محمد بن علي بن الحسين عليه السلام الباقر فقد شحت الروايات عن ذكر اقامة المآتم والنياحات العلنية على عهده . وسبب ذلك هو شدة ضغط الأمويين عليه وعلى آله وصحبه ، الأمر الذي كان يدعو الامام عليه السلام وآله الى اتخاذ جانب الحيطة والحذر والتقية ، واقامة مثل هذه المآتم في بيوتهم الخاصة وراء الاستار الكثيفة ولم يحضرها سوى خاصتهم ، وفيما يلي بعض الروايات عن ذلك :
1ـ جاء في الصفحة «152» من كتاب «نهضة الحسين» ما نصه :
« يحدثنا التاريخ الاسلامي عن أعلام أهل البيت النبوي انهم كانوا يستشعرون الحزن كلما هل هلال المحرم ، وتفد عليهم وفود من الشعراء العرب لتجديد ذكرى الحسين لدى أبنائه الأماجد . وقد ألقوا روائع في فن الرثاء والتسلية والتذكير باسلوب ساحر أخاذ ، وظل شعرهم خالدا رغم كر العصور .
فقد كان الشاعر العربي الكميت بن زيد الأسدي من شعراء العصر الأموي ، والمتوفى في سنة «126هـ » قد جعل معظم قصائده في مدح بني هاشم وذكر مصائب آل الرسول عليهم السلام حتى سميت قصائده بالهاشميات ، وكان ينشد معظمها في مجالس الامام الصادق ، وأبيه محمد الباقر ، وجده علي بن الحسين عليهم السلام » .
2ـ جاء في « كامل الزيارات » لابن قولويه صفحة «175» عن مالك الجهني قال :
« ان الباقر قال في يوم عاشورا : وليندب الحسين ويبكه ويأمر من في داره بالبكاء عليه ، ويقيم في داره مصيبة باظهار الجزع عليه ، ويتلاقون بالبكاء عليه ، بعضهم في البيوت . وليعّز بعضهم بعضا بمصاب الحسين . فانا ضامن على الله لهم اذا فعلوا ذلك أن يعطيهم ثواب ألفي حجة وعمرة وغزوة مع رسول الله والائمة الراشدين » .