وقد ذكرت بعض المصادر هذا الكتاب من دون ذكر الشهود (1).

تأمّلات في الكتاب :
« قال الخطيب : في هذا الحديث نظر ، وذلك أن أول مشاهد سلمان مع رسول الله (ص) غزوة الخندق ، وكانت في السنة الخامسة من الهجرة ، ولو كان يخلص سلمان من الرق في السنة الاولى من الهجرة ، لم يفته شيء من المغازي مع رسول الله (ص).
وأيضاً .. فان التاريخ بالهجرة لم يكن في عهد رسول الله (ص) ، وأول من أرخ بها عمر بن الخطاب في خلافته» (2).
وقال العلامة المحقق الاحمدي : « وأما الشهود فان فيهم أبا ذر الغفاري (ره) وهو لم يأت المدينة إلا بعد خندق ، مع أن صريح الكتاب : أن ذلك كان في السنة الاولى من الهجرة.
وتوصيف أبي بكر بالصديق يخالف رسوم كتب صدر الاسلام» (3).
قال هذا حفظه الله بعد أن ذكر : أن الخطيب قد تنظر في الكتاب ، وأنه لم يذكر الشهود.
كما وذكر حفظه الله أن ابن عساكر ونفس الرحمان لم يذكرا الشهود أيضاً (4).
____________
(1) ذكر أخبار اصفهان ج1 ص 52 ، وتاريخ بغداد ج1 ص170 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص199 ومجموعة الوثائق السياسية ص328 عن الاولين وعن جامع الآثار في مولد المختار ، لشمس الدين محمّد بن ناصر الدين الدمشقي وطبقات المحدثين باصبهان ج1 ص 226 | 227 ، ونفس الرحمان في فضائل سلمان ص 20 | 21 ، عن تاريخ گريدة ومكاتيب الرسول ج2 ص409 من أكثر من تقدم ، وقال : « وأوعز اليه في البحار عن الخرائج» .
(2) تاريخ بغداد ج1 ص170.
(3) مكاتيب الرسول ج2 ص410.
(4) المصدر السابق.

( 27 )

الردّ على الشكوك المشار إليها
ونقول :
إنّ لنا هنا ملاحظات .. سواء بالنسبة لما ذكره الخطيب ، أو بالنسبة لما ذكره العلامة الأحمدي ..
فأما بالنسبة إلى ما ذكره الخطيب فنشير إلى ما يلي :
أولاً : قوله : إن مشاهد سلمان الخندق ، وذلك ينافي ما ورد في الكتاب من أنه قد كوتب في السنة الاولى للهجرة ..
هذا القول .. لا يصح؛ وذلك لما يلي :
1 ـ إن من الممكن أن يتحرر في أول سني الهجرة ، ثم لا يشهد أياً من المشاهد ، لعذرٍ مّا ، قد يصل إلينا ، وقد لا يصل ..
2 ـ إن مكاتبته في السنة الاولى لا تستلزم حصوله على نعمة الحرية فيها مباشرةً ، إذ قد يتأخر في تأدية مال الكتابة ، فتتاخر حريته .. وإن كنا قد ذكرنا آنفاً : أن سلمان لم يكن كذلك ، بدليل نفس ما ورد في ذلك الكتاب الآنف الذكر ، وأدلة اُخرى .. ولكننا نريد أن نقول للخطيب : إن ما ذكرته ليس ظاهر اللزوم في نفسه ، ولا يصح النقض به ، مجرداً عن أي مثبتات اُخرى ، كما يريد هو أن يدعيه ..
3 ـ إن البعض قد ذكر : أن سلمان قد شهد بدراً واُحداً أيضاً (1).
ويظهر من سليم بن قيس عدّ سلمان في جماعة أهل بدر (2).
____________
(1) الاستيعاب ج2 ص58 بهامش الاصابة. وراجع : الاصابة ج2 ص62 وشرح النهج للمعتزلي ج18 ص35 والبحار ج22 ص390 وتهذيب التهذيب ج4 ص139 والدرجات الرفيعة ص206 ونفس الرحمان ص20.
(2) راجع سليم بن قيس ص 52 ، ونفس الرحمان ص20 عنه.

( 28 )

ولعل هذا يفسر لنا سبب فرض عمر له ، خمسة آلاف ، الذي هو عطاء أهل بدر (1).
وقد حاول البعض : أن يقول : إن مراد القائلين بحضوره بدراً : أنه حضرها وهو عبد ، ومراد القائلين بأنه قد شهد الخندق فما بعدها : ولم يحضر بدراً أنه لم يحضرها وهو حر (2) .
ونقول : إن هذا جمع تبرعي ، لا يرضى به لا أولئك ، ولا هؤلاء ، لان مدار النفي والاثبات هو أصل الحضور والشهود ، من دون نظر إلى الحرية ، والعبودية ، ولذا تجد في بعض العبارات المنقولة التعبير بأنه : لم يفته مشهد بعد الخندق ، فانه يكاد يكون صريحاً في فوات بعض المشاهد ، قبل ذلك ..
وثانيا: قول الخطيب: ان التاريخ الهجري لم يكن في عهد الرسول ، وأن عمر بن الخطاب هو أول من أرّخ به.
لا يمكن قبوله ، فقد أثبتنا في كتابنا: الصحيح من سيرة النبيّ (ص) : أن النبيّ هو واضع التاريخ الهجري ، وقد أرّخ به هو نفسه (ص) أكثر من مرة ، وهذا الكتاب يصلح دليلاً على ذلك أيضاً.
وأما بالنسبة لكلام العلامة البحاثة الاُحمدي ، فنحن نشير إلى ما يلي :
أ : قوله : إن الحطيب ، وابن عساكر ، ونفس الرحمان لم يذكروا الشهود ، ليس في محله ، كما يعلم بالمراجعة.
ب : إن ما ذكره حول توصيف أبي بكر بالصديق .. صحيح ، وقد تحدثنا في كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ الاعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم ج2 ص 263 ـ 268 : أن تلقيبه بهذا اللقب ، لا يصلح لا في الاسراء والمعراج ، ولا في
____________
(1) شرح النهج للمعتزلي ج12 ص215 وراجع ج18 ص35 وذكر أخبار أصبهان ج1 ص48 والاستيعاب بهامش الاصابة ج2 ص58 وقاموس الرجال ج4 ص424 وتاريخ الامم والملوك ج3 ص614.
(2) راجع : نفس الرحمان ص20 وراجع: تاريخ الامم والملوك ج2 ص566.

( 29 )

أول البعثة ، ولا في قضية الغار ، حسب اختلاف الدعاوى .. وذكرنا هناك : أن الظاهر : هو أن اللقب قد خلع عليه بعد وفاة النبيّ (ص) بمدة ليست بالقصيرة.
ونضيف إلى ذلك : أنه إن كان أبو بكر نفسه قد كتب هذه الكلمة على كتاب عتق سلمان ، فنقول :
إن من غير المألوف : أن يطلق الانسان على نفسه القاب التعظيم والتفخيم ، بل إن الانسان العظيم ، الذي يحترم نفسه ، يعمد في موارد كهذه إلى اظهار التواضع ، والعزوف عن الفخامة والابهة.
وإن كان الآخرون هم الذين اطلقوا عليه لقب « الصديق» ، وأضافوه إلى الكتاب من عند أنفسهم ، تكرماً وحباً ، ورغبة في تعظيمه ، وتفخيمه..
فذلك يعني : أنهم قد تصرفوا بالكتاب ، وأضافوا إليه ما ليس منه ، دون أن يتركوا أثراً يدل على تصرفهم هذا ، وهو عمل مدان ، ومرفوض ، إن لم نقل : انه مشين ، لاسيما وأنهم اهملوا صديقه عمر بن الخطاب؛ فلم يصفوه بالفاروق ، كما وأهملوا غيره أيضاً..
ولا يفوتنا التذكير هنا : بأن النوري قد أورد الكتاب في : نفس الرحمان ، عن : تاريخ گزيده وليس فيه وصف أبي بكر بـ « الصديق» ، بل وصفه بـ « ابن أبي قحافة» وهو الانسب ، والأوفق لظاهر الحال.
ج: وأما قولهم : ان أبا ذر لم يكن قد قدم المدينة حينئذٍ؛ لاُنه إنما قدمها بعد الخندق.
فاننا نقول : المراد : أنه انما قدمها مستوطنا لها بعد الخندق. أما قبل ذلك ، فلعله قدمها للقاء رسول الله (ص) ، أو لبعض حاجاته؛ فصادف كتابة هذا الكتاب؛ فشهد عليه ، ثم عاد إلى بلاده. وثمة رواية اُخرى ، تشير إلى حضوره (1)؛ فلتراجع.
____________
(1) راجع : البحار ج22 ص358 واكمال الدين ج1 ص 164 | 165 وروضة الواعظين ص2276 ـ 278
( 30 )

د : اضف إلى ذلك : أن وصف بلال بأنه مولى أبي بكر ، قد يكون من تزيُّد الرواة أيضاً؛ إذ قد ذكرنا في كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ الاعظم ج2 ص 34 ـ 38 : أن بلالا لم يكن مولى لابي بكر ..
وأخيرا.. فان مما يدل على أن الرواة والكتّاب قد زادوا شيئاً من عند أنفسهم : إضافة عبارة : « رضي الله عنهم» إلى الشهود؛ إذ لا شك في أن ذلك قد حصل بعد كتابة ذلك الكتاب. بل ويحتمل أن يكون الشهود جميعاً قد اضيفوا بعد ذلك ، وإن كان هذا احتمالاً بعيداً جداً..

حديث الحرية .. بطريقة اُخرى :
وقد جاء في بعض الروايات : أن الرق قد شغل سلمان ، حتى فاته بدر واُحد ، حتى قال له رسول الله (ص) : كاتب يا سلمان ، فكاتب سيده على ثلاث مائة نخلة (وقيل : على مائة وستين فسيلة ، وقيل خمس مائة وقيل على مائة فقط ، و و) يحيها له ، وأربعين اوقية من ذهب.
فقال رسول الله (ص) : اعينوا أخاكم بالنخل.
فاعانه اصحاب النبيّ (ص) بالخمس والعشر ، حتى اجتمعت عنده؛ فأمره (ص) أن يفقّر لها ، ولا يضع منها شيئاً حتى يكون النبيّ (ص) هو الذي يضعها بيده؛ ففعل ، فجاء رسول الله (ص)؛ فغرسها بيده؛ فحملت من عامها.
وقال (ص) له : إذا سمعت بشيء قد جاءني؛ فأتني ، أغنيك بمثل ما بقي من فديتك. فبينا رسول الله (ص) ذات يوم في اصحابه ، إذ جاء رجل من أصحابه بمثل البيضة من ذهب. فقال (ص) : ما فعل الفارسي المكاتب؟.
فدعي له سلمان؛ فقال : خذ هذه؛ فأدّبِها ما عليك يا سلمان..
____________
والدرجات الرفيعة ص203 عن اكمال الدين ، ونفس الرحمان ص6 ص22 عن الحسين بن حمدان وص5 وصححها عن اكمال الدين ، وعن الراوندي في قصص الأنبياء ، وعن روضة الواعظين ، وعن الدر النظيم.
( 31 )

إلى أن تقول الرواية : فأخذها ، فأوفى منها حقهم كله : أربعين اوقية (1) ، وفي بعض المصادر : أنه بقي منها مثل ما أعطاهم.
وأعتق سلمان ، وشهد الخندق ، ثم لم يفته معه مشهد (2).

مناقشات لا بدّ منها :
إننا نشك في بعض ما جاء في هذه الرواية :
1 ـ لانها تقول : إنه هو الذي كاتب سيده ، واعانه الصحابة على أداء دينه ، واعانه الرسول أيضاً بالذهب..
مع أن صريح كتاب المفاداة : أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي أدى جميع ما على سلمان ، وأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد اشتراه ، واعتقه ، وأن ولاءه لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأهل بيته.. وقد دلت على ذاك نصوص اخر ستأتي إن شاء الله تعالى .
____________
(1) الاوقية : وزن أربعين درهما..
(2) راجع : الثقات ج1 ص256 | 257 وتاريخ الخميس ج1 ص468 وحلية الاولياء ج1 ص195 وتاريخ بغداد ج1 ص169 (وراجع ص 163 و164) وطبقات المحدثين باصبهان ج1 ص209 ـ 222 ودلائل النبوة لابي نعيم ص213 ـ 219 وسيرة ابن هشام ج1 ص228 ـ 236 ط ليدن ، واسد الغابة ج2 ص 330 وطبقات ابن سعد ج4 قسم 1 ص56 ـ 58 والشفاء لعياض ج1 ص332 وشرح الشفاء للقاري ج1 ص384 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص197 ـ 199 عن أبي يعلى ، والمصنف للصنعاني ج8 ص418 و420 وتهذيب الاسماء ج1 ص227 ومجمع الزوائد ج9 ص335 ـ 337 و340 وقاموس الرجال ج4 ص427 و428 وانساب الاُشراف (سيرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم) ج1 ص487 و486 والبحار ج22 ص265 و367 و390 وشرح النهج للمعتزلي الحنفي ج18 ص35 وص39 والاستيعاب بهامش الاصابة ج2 ص57 وصفة الصفوة ج1 ص532 | 533 عن أحمد ، وفي هامشه عن ابن هشام وعن الطبراني في الكبير ، وعن الخصائص للسيوطي ج1 ص48 عن دلائل البيهقي ، ونفس الرحمان ص12 و16 عن قصص الانبياء للراوندي وعن المنتقى للكازروني وعن السيرة الحلبية ، وعن سيرة ابن هشام وراجع : مسند أحمد ج5 ص438 و439 و440 441 ـ 444.

( 32 )

إن كونه قد اُعتق في السنة الخامسة ، أو الرابعة ، مشكوك فيه ايضاً ، وقد قدمنا بعض ما يرتبط بذلك وأنه قد اُعتق في أول سني الهجرة..
2ـ قول الرواية : انه قد فاته بدر واُحد .. قد عرفنا : أنه أيضاً غير مسلم ، فقد قيل : انه حضرهما أيضاً..
أضف إلى ذلك : ان رواية ابن الشيخ تنص على أنه قد أخبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بأنه قد كاتب سيده ، فور اسلامه ، حين مجيء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة مباشرة (1).
كما أن القول بأن الصحابة قد اعانوا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على أداء دينه فيما يرتبط بفداء سلمان.. هو الآخر لا يصح ، إذ قد كان على الرواي أن يقول ذلك ، ويصرح به ، وكان على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : أن يطلب منهم أن يعينوه هو ، لا أن يعينوا أخاهم سلمان ، كما هو صريح الرواية ..

الرواية الاقرب إلى القبول :
ولعل الرواية الاقرب إلى القبول هي : أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قد غرس النوى ، وكان علي عليه السلام يعينه؛ فكان النوى يخرج فوراً ، ويصير نخلاً ، ويطعم بصورة اعجازية له صلّى الله عليه وآله وسلّم .
كما ظهرت معجزته صلّى الله عليه وآله وسلّم ، في وزن مقدار أربعين اُوقية ذهباً ، من حجر صار ذهباً (2) أو من مثل البيضة أيضاً ، أو من مثل البيضة أيضاً ، أو من مثل وزن نواة.

***

____________
(1) طبقات المحدثين باصبهان ج1 ص215.
(2) نفس الرحمان ص21 والبحار ج22 ص367 والخرايج والجرايح ج1 ص144 وذكر غرس النوى في حديث آخر ، فراجع : روضة الواعظين ص278 والبحار ج22 ص358 واكمال الدين ص 165 والدرجات الرفيعة ص203 ونفس الرحمان ص6 عن بعض من تقدم ، وعن قصص الانبياء للراوندي ، وعن الحسين بن حمدان ، وعن الدر النظيم.

( 33 )

النخلة التي غرسها عمر :
ونجد في بعض المصادر : أن عمر بن الخطاب قد شارك في غرس نخلة : واحدة ، ولكنها لم تعش ، فانتزعها النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وغرسها بيده ، فحملت (1).
وفي رواية اُخرى : أن التي لم تعش كان سلمان هو الذي غرسها (2).
أما عياض ، فلم يسم أحداً ، وان كان قد ذكر غرس غيره أيضاً (3).
ولعلها كانت فسيلةً حاضرةً لدى عمر ، أو سلمان ، فأحب المشاركة في هذا الامر ، فغرسها ، ولعله غرس نواةً ، كانت في حوزته ، وإن كانت الروايات قد صرحت بالاُوّل لا بالنواة.. فيتعين ذلك الاحتمال..
وقد حاول العبض الجمع بين الروايتين المشار إليهما ، أعني رواية غرس عمر للنخلة التي لم تعش ، ورواية غرس سلمان لتلك النخلة :
بأن من الممكن أن يكونا ـ عمر وسلمان ـ قد اشتركا في غرسها ، فصح نسبة ذلك لهذا تارة ، ولذاك اُخرى (4).
____________
(1) مجمع الزوائد ج9 ص 337 عن أحمد ، والبزار ، ورجاله رجال الصحيح ، وتاريخ الخميس ج1 ص468 وشرح النهج للمعتزلي الحنفي ج18 ص35 والاستيعاب بهامش الاصابة ج2 ص58 وقاموس الرجال ج4 ص227 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص198 | 199 وشرح الشفاء لملا علي القاري ج1 ص384 ومزيل الخفاء ، في شرح الفاظ الشفاء (مطبوع بهامش الشفاء نفسه) ج1 ص332 والبحار ج22 ص390 ، والدرجات الرفيعة ص205 ونفس الرحمان ص16.
(2) طبقات ابن سعد ج4 قسم 1 ص 57 | 58 وشرح الشفاء للقاري ج1 ص384 عن البخاري ، ومزيل الخفاء عن الفاظ الشفاء (مطبوع بهامش الشفاء) ج1 ص332 عن البخاري في غير صحيحه ، ونفس الرحمان ص16 ومسند أحمد ج5 ص440.
(3) الشفاء ج1 ص 332.
(4) شرح الشفاء لملا علي القاري ج1 ص384 ومزيل الخفاء عن الفاظ الشفاء (مطبوع بهامش الشفاء) ج1 ص332.

( 34 )

« ويجوز أن يكون كل واحد من سلمان وعمر غرس بيده النخلة ، أحدهما قبل الآخر» (1).
ولنا أن نعلق على ذلك : بأنه بعد نهي النبيّ لسمان عن ذلك؛ فلا يعقل أن يقدم على مخالفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وسلمان هو من نعرف في انقياده ، والتزامه المطلق ، بأوامر الله سبحانه ، ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ فلا يمكن أن نصدق : أنه قد خالف أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ..
وكيف لم يتدخل في غرس مائتين وتسع وتسعين ، وتدخّل في خصوص هذه الواحدة ، دون سواها ؟ !
هذا بالاضافة إلى صحة سند ما روي عن عمر .. وكثرة الناقلين له ، وعدم نقل ذلك عن سلمان إلا عند ابن سعد في طبقاته..
وإذا كان الراجح ـ إن لم يكن هو المتعين ـ أن سلمان لم يتدخل في هذا الأمر ، ولا خالف النهي المتوجه إليه من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ..
وإذا كان النهي إنما توجه إلى سلمان ، لا إلى عمر ، فان إقدام عمر على هذا الأمر ، يصبح أكثر معقولية ، وأقرب احتمالاً..
فهو قد أراد أن يجرب حظه في هذا الامر أيضاً ، ولعله يريد اظهار زمالته ، للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وهو القائل « أنا زميل محمّد» (2) فكما أن النخل يثمر على يد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فانه يثمر على يده أيضاً .. وكما أن الرسول يقوم ببعض الأعمال؛ فان غيره أيضاً قادر على أن يقوم بها؛ فليس ثمة كبير فرق ـ فيما بينهم ، وبينه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، على حدّ زعمه ، أو هكذا خُيّل له على الأقل ..
____________
(1) نفس الرحمان ص16.
(2) راجع : تاريخ الاُمم والملوك للطبري ج3 ص291 ط الاستقامة .

( 35 )

وأما أنه لماذا لم يغرس سوى نخلة واحدة ، فلعله يرجع إلى أنه حين رأى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ينهى سلمان عن أن يغرس شيئاً منها ، فانه قد تردّد في ذلك ، وحاذر من أن يتعرض لغضب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وانكاره .. ثم تشجع أخيراً ، وجرب حظه في نخلة واحدة .. الامر الذي تفرد فيه دون سائر الصحابة الآخرين ، ولم يقدم عليه لا أبو بكر ، ولا غيره.. وقد يكون السبب في ذلك هو أنه لم يكن في حوزته سوى هذه النخلة.
ولكن قد شاءت الارادة الإلهية : أن يحفظ ناموس النبوة ، وأن تخيب كل الطموحات ، وتتحطم كل الآمال ، التي تريد أن تنال من ذلك الناموس ، أو تستفيد منه في مسارٍ انحرافي آخر ، لا يلتقي معه ، ولا ينتهي إليه. وتجلى هذا اللطف الالهي في أن النخل قد اثمر كله ، سوى هذه ، حتى أعاد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غرسها بيده الشريفة من جديد ، فظهرت البركات ، وتجلت الكرامة الإلهية..

دور خليسة في عتق سلمان :
وقد جاء في بعض روايات عتق سلمان : أنه كان لامرأة اسمها خليسة ، كانت قد اشترته ، ثم بعد أن أسلم سلمان أرسل إليها رسول الله (ص) علياً عليه السلام ، يقول لها : أما أن تعتقي سلمان ، واما أن اعتقه؛ فان الحكمة تحرمه عليك.
فقالت له : قل له : إن شئت ، اعتقته ، وإن شئت فهو لك.
قال رسول الله : اعتقيه أنت؛ فاعتقته.
قال : فغرس لها رسول الله (ص) ثلاث مائة فسيلة..
وفي لفظ آخر : فقالت : ما شئت؛ فقال : اعتقته.. (1).
____________
(1) راجع : تاريخ الخميس ج1 ص469 واسد الغابة ج5 ص440 والاصابة ج4 ص286 عن ابن
( 36 )

ونقول :
1 ـ إن الرواية التي قدمناها في مكاتبته لمولاه على غرس النخل ، حتى تطعم ، وعلى أربعين أوقية.. وغير ذلك مما دل على أن الرسول (ص) قد اشتراه ، واعتقه ، ينافي ذلك ..
2 ـ إن كتاب المفاداة المتقدم ينافي ذلك أيضاً ، لاُنه كتب باسم عثمان بن الاشهل القرظي..
إلا أن يدعى : أن خليسة كانت زوجة لعثمان هذا ، أو من أقاربه ، أو غير ذلك ، فلا مانع من كتب الكتاب باسمه نيابة عنها.
ولكن ذلك يبقى مجرد احتمال ، يحتاج إلى شاهدٍ وعاضد ، وهو مفقود.
3 ـ لماذا يأمرها النبيّ (ص) بعتق سلمان ، ولم يأمر غيرها؛ من الذين كانوا يملكون أرقاء مسلمين (1)؟ !.
4 ـ ما معنى قوله : اما أن تعتقيه أنت ، أو أعتقه أنا؛ فهل يريد (ص) استعمال ولايته في هذا المجال ؟ ! .
5 ـ وإذا كانت قد اسلمت قبل أن يرسل إليها بهذا الأمر (2)؛ فما معنى قوله (ص) : فان الحكمة تحرمه عليك؟ ! .
فهل كانت قد تزوجته ، ولا يصح تملك المرأة لزوجها؟ أم أنه كان اباً لها ؟ ! أم ماذا ؟ ! .
هذا مع أنه حتى لو فرض ذلك ، فانه ينعتق عليها قهراً في الفرض الثاني ، وينفسخ النكاح في الفرض الاول ..
____________
مندة ، وقالوا : أخرجه أبو موسى ، في الاحاديث الطوال .. ونفس الرحمان ص22 عن المنتقى ، وأشار إلى ذلك في تهذيب التهذيب ج4 ص138 | 139 عن العسكري.
(1) قد يقال بعدم وجود أرقاء مسلمين في أيدي غير المسلمين. ولكن يرد عليه : أن خليسة قد أسلمت حسب نص الرواية فلماذا يوجب عتقه عليها.
(2) راجع: تاريخ الخميس ج1 ص469.

( 37 )

6 ـ وإذا كانت لم تملكه لابه كان حراً ، وقد ظلموه؛ فباعوه لها؛ فان ذلك لوصح أنه كافٍ في ذلك؛ لمنع من أصل عبوديته؛ فلا حاجة بعد ذلك لعتقه ، لا من قبله (ص) ، ولا من قبلها..
7 ـ وإذا كانت تملكه ، ولا بد من عتقه؛ فلماذا لا يشتريه منها؟ أو لماذا لا تكاتبه هي؟ ! . ولماذا تؤمر بعتقه من الاساس؟ ! إلا على سبيل الحث والترغيب في الاُجر ، لا على سبيل التهديد ، وبأسلوب القهر..
9 ـ وما معنى التناقض في رواية عتقها له تارة ، وعتق النبيّ (ص) نفسه له تارة اخرى؟ ! .
بقي علينا أن نعرف :

من الذي حرّر سلمان؟ :
هناك نصوص كثيرة تفيد : أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي حرّر سلمان من الرق .
1 ـ وقد عدّه كثير من العلماء والمؤرخين من موالي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (1).
2 ـ وعن بريدة : « كان لليهود؛ فاشتراه رسول الله (ص) بكذا وكذا درهما ، وعلى أن يغرس له نخلاً ، يعمل فيها سلمان حتى تطعم ، فغرس رسول الله (ص) النخل» (2).
____________
(1) رجال ابن داود ص175 وخلاصة الاقوال للعلامة ص41 والفهرست للشيخ الطوسي ص158 وتاريخ الامم والملوك ط الاستقامة ج2 ص419 وراجع المصادر التالية : ذكر أخبار اصبهان ج1 ص54 وشرح النهج للمعتزلي ج18 ص34 ومصابيح الانوار ج1 ص356 عن القرطبي ، والاستيعاب بهامش الاصابة ج2 ص57 وقاموس الرجال ج4 ص433 عنه ، والبحار ج22 ص390 وحلية الاولياء ج1 ص195 ونفس الرحمان ص20 و21 عن بعض من تقدم ، والمناقب لابن شهرآشوب ج1 ص171.
(2) مجمع الزوائد ج9 ص337 عن أحمد ، والبزار ، ورجاله رجال الصحيح. وشرح النهج للمعتزلي الحنفي

( 38 )

3 ـ وسئل الشعبي : هل كان سلمان من موالي رسول الله ؟ قال : نعم. أفضلهم . كان مكاتباً؛ فاشتراه؛ فأعتقه (1).
4 ـ وقال الخطيب البغدادي : « أدى رسول الله (ص) كتابته ، قهر إلى بني هاشم» (2).
(5) وقال المبرد : « وكان (ص) أدى إلى بني قريظة مكاتبة سلمان ، فكان سلمان مولى رسول الله (ص) ؛ فقال علي بن أبي طالب عليه السلام : سلمان منّا أهل البيت» (3).
6 ـ وقال أبو عمر : « .. وقد روي من وجوه : أن رسول الله (ص) اشتراه على العتق» (4).
7 ـ وتقدم كتاب المفاداة ، الذي ينص على أن ولاء سلمان هو لمحمّد بن عبدالله رسول الله ، وأهل بيته ، فليس لاحد على سلمان سبيل..
8 ـ وفي مهج الدعوات ، في حديث حور الجنة ، وتحفها ، مسنداً عن فاطمة عليها السلام ، قالت : فقلت للثالثة : ما اسمك؟ قالت : سلمى. قلت : ولم سميت سلمى ؟ قالت : خلقت أنا لسلمان الفارسي ، مولى أبيك رسول الله (ص) (5).
9 ـ وفي رسالة سلمان إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، كتب له سلمان : من سلمان مولى رسول الله (ص) (6).
10 ـ وروى الحاكم أن علي بن عاصم ذكر في حديث اسلام سلمان : أنه كان عبداً؛ فلمّا قدم النبيّ (ص) المدينة ، أتاه ، فأسلم ؛ فابتاعه النبيّ (ص) ، واعتقه (7).
____________
ج18 ص35 ، وشرح الشفاء لملا علي القارى ج1 ص384.
(1) أنساب الاشراف (قسم حياة النبيّ « ص» ) ج1 ص487 وقاموس الرجال ج4 ص429 عنه.
(2) تاريخ بغداد ج1 ص164 و163.
(3) الكامل ج4 ص14 .
(4) الاستيعاب ، بهامش الاصابة ج2 ص57.
(5) نفس الرحمان ص21.
(6) الاحتجاج ج1 ص185 ونفس الرحمان ص21 عنه.
(7) معرفة علوم الحديث ص198.

( 39 )

11 ـ وفي حديث سلام سلمان على أهل القبور ، قال رحمه الله : سألتكم بالله العظيم ، والنبيّ الكريم ، إلا أجابني منكم مجيب؛ فأنا سلمان الفارسي ، مولى رسول الله (ص) (1) .
12 ـ وعن ابن عباس قال : رأيت سلمان الفارسي رحمه الله في منامي؛ فقلت له : يا سلمان ، ألست مولى النبيّ (ص) ؟
قال : ؛ بلى ؛ فاذ عليه تاج من ياقوت إلخ .. (2).
13 ـ هذا بالاضافة إلى الحديث الذي يقول سلمان في آخره : فأعتقني رسول الله (ص) ، وسماني سلماناً .. (3).

أبو بكر وعتق سلمان :
وبعد كل ما تقدم ، فاننا نعرف : أن دعوى : أن أبا بكر قد اشترى سلمان ، فأعتقه (4) ، لا يمكن أن تصح بأي وجه..
ويكفي في ردها حديث كتاب المفاداة المتقدم ، بالاضافة إلى النصوص الآنفة الذكر .. إلى جانب النصوص الاخرى ، التي تدعى : أنه قد اعانه الصحابة ورسول الله (ص) حتى ادى ما عليه من مال الكتابة ، وإن كان اتضح : أنها أيضاً غير خالية عن المناقشة ..

***

____________
(1) نفس الرحمان ص 21 عن فضائل شاذان بن جبرائيل القمي.
(2) روضة الواعظين ص281 ونفس الرحمان ص21 عنه.
(3) روضة الواعظين ص278 والبحار ج22 ص358 والدرجات الرفيعة ص203 واكمال الدين ص165 ، ورواه في نفس الرحمان ص6 عن بعض من تقدم ، وعن قصص الانبياء للراوندي ، وعن الحسين بن حمدان ، وعن الدر النظيم.
(4) تاريخ الخميس ج1 ص469 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص199 عن البيهقي ، ونفس الرحمان ص21 عن المنتقى والحديث بطوله في مستدرك الحاكم ج3 ص599 ـ 602.

( 40 )

لماذا يكذبون :
ولعل أهمية سلمان ، وعظمته وجلالته في المسلمين ، قد جعلت البعض يرغبون في ان يجعلوا للشخصيات التي يحترمونها ، ويهتمون في حشد الفضائل لها ، نصيباً في هذا الرجل الفذ ، وفضلاً لها عليه .. حتى ولو كان ذلك على حساب كرامات وفضائل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نفسه ، فان الإغرة على بعض فضائله وكراماته صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ونسبتها إلى غيره ، لا تنقص من شأنه ـ بزعمهم ـ شيئاً ؛ إذ يكفيه شرفاً : أنه النبيّ الهادي لهذه الامة ، وأنه رسول الله.
كما ان ذلك يمكن أن يكون ردة فعل على تلك الرواية التي لا يجدون دليلاً ملموساً على ردها وتكذيبها ، والتي تقول :
إنه أسلم في مكة ، وحسن اسلامه؛ وأن النبيّ (ص) شاوره ـ امتحاناً له ـ فيمن يبدأ بدعوته في مكة ، فجال سلمان في أهل مكة يَخٍبُرهم ، ويشيرهم ، ويجتمع مع النبيّ (ص) وأبي طالب لهذا الغرض ، ثم أشار بدعوة أبي بكر؛ لاُنه معروف بين العرب بتعبير الاُحلام ، وهم يرون فيه ضرباً من علم الغيب ، مع معرفته بتواريخ العرب ، وانسابها ، بالاضافة إلى أنه معلم للصبيان ، ويطيعه ويجله من أخذ عنه من فتيانهم ، ولكلامه تأثير فيهم؛ فاذا آمن فلسوف يكون لذلك أثره ، ولسوف تلين قلوب كثيرة .. لا سيما وان معلمي الصبيان راغبون في الرياسة ، فاستصوب النبيّ (ص) ، وأبو طالب ذلك ، وشرح سلمان في دلالة الرجل ، وادخاله في الاسلام (1).
فلعل سلمان ـ كما تدل عليه هذه الرواية ، ويظهر من غيرها ـ كان في بدء
____________
(1) راجع : نفس الرحمان ص48 عن بعض الكتب المعتبرة وص 27 | 28 عن كتاب الكشكول فيما جرى على آل الرسول للعبيدلي .
( 41 )

أمره في مكة واسلم هناك ، ثم انتقل إلى المدينة.
وعن تقدم اسلام سلمان ، نجد عدداً من الروايات تشير إلى ذلك (1). ومن ذلك : أن اعرابياً سأل النبيّ (ص) عنه فقال : أليس كان مجوسياً ، ثم أسلم؟ ! فقال (ص): يا أعرابي ، اُخاطبك عن ربي ، وتقاولني؟! إن سلمان ما كان مجوسياً ، ولكنه كان مضمراً للايمان ، مظهراً للشرك (2).
____________
(1) راجع : ذكر أخبار اصبهان ج1 ص51 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص193 والبحار ص355 ـ 359 ، واكمال الدين ص162 ـ 165 وروضة الواعظين ص275 ـ 278 والدرجات الرفيعة ص203 ونفس الرحمان ص 5 ـ 6 عن بعض من تقدم وعن غيرهم.
(2) الاختصاص ص222 والبحار ج22 ص347 وقاموس الرجال ج4 ص429 ونفس الرحمان ص4.

( 42 )


( 43 )
الفصل الثالث

وعي .. ومسؤولية


( 44 )


( 45 )

بداية :
هناك الكثير من الروايات التي تؤكد ، على علم سلمان وفضله ، ومقامه الشامخ في الايمان ، والاسلام والمعرفة .. وعلى زهده ، وتقواه ، وعلى كريم خصاله ، وحميد فعاله..
وهناك أيضاً أحداث ، وقضايا ، ومواقف كثيرة تثبت ذلك ، وتؤكده ، كما وتثبت بُعد نظره رحمه الله ، وثاقب فكره ، ونفاذ بصيرته..
ولا نريد هنا : أن نستقصي ذلك كلّه بالدراسة والتحليل ، فانه أمر متعسر ، بل متعذر علينا فعلاً ، وإنما نريد ذكر نموذج من ذلك ، تذكرة لانفسنا ، ووفاء منا لحقيقة وللتاريخ ، ونترك سائر ذلك إلى جهد الباحثين ، وعناء الدارسين .. فنقول :

إذا اقتتل القرآن والسلطان :
قال سلمان لزيد بن صوحان : كيف أنت يازيد إذا اقتتل القرآن والسلطان؟!
قال : أكون مع القرآن.
قال : نعم الزيد أنت إذن (1)..
____________
(1) تهذيب تاريخ دمشق ج6 ص16.
( 46 )

إن هذا النص يعطينا : أن سلمان قد وضع اصبعه على أمر دقيق. وهام للغاية ، وله دور أساس ورئيسي في تكوين شخصية الانسان المسلم ، وله تأثير مباشر ، وقوي فيما يتخذه من مواقف ، وفيما يقوم به من أعمال.
ثم هو يمس بالتالي ، مستقبل الامة الاسلامية ، ومصيرها ، ومستوى ومنطلق ونوع تعاملها في القضايا الكبرى ، التي تواجهها ، هذا.. عدا عن مساسه بالتركيبة السياسية ، التي لا بد وان تترك آثاراً كبيرة وعميقة على المجتمع المسلم ، وعلى جميع خصائصه ، وأوضاعه بصور عامة.
وذلك لان القاء نظرة فاحصة على حالات الناس وافكارهم ، وخصوصاً في تلك الفترة ، توضح لنا : أن الناس كانوا على حالات شتى.
ففريق منهم لا يرى الحق والخير ، إلا من خلال ذاته ، ونفسه ، فهو المعيار ، والميزان ، والمحور لذلك ، فمبقدار ما يجلب له نفعاً ، ويدفع عنه ضراً في هذه الحياة الدنيا ، فهو خير ، وحق ، وحسن ومقبول ، تجب نصرته على كل أحد ، ولا ضير في أن يضحي الآخرون بكل غالٍ ، ونفيس ، ـ حتى بأنفسهم ـ من أجله ، وفي سبيله .. شرط أن لا تصل النوبة إلى شخص هؤلاء بالذات ، لاُن المفروض هو أن المسؤولية ، كل المسؤولية ، تقع على عاتق الآخرون دونهم.
وهكذا .. فان القرآن والاسلام لا يمثل لهذا النوع من الناس شيئاً ، إلا بالمقدار الذي يتفق مع هذه النظرة ، ويحقق لهم هذه النتائج ، حتى إذا رأوا : أن مصالحهم الخاصة ومآربهم الشخصية تتعرض للخطر ، فان على القرآن ، والاسلام ، والحق أن يتراجع ، وأٌ يعترف بأنه مخطيء ، بل ومسرف في الخطأ ، وحيث لابد من احترام القرآن والاسلام ، فلا أقل من اتهام المسلمين ، والعلماء ، وغيرهم بالخطأ ، أو بتعمد الخطأ في فهمهما..
وفريق آخر : يرى : أن الحق كل الحق دائماً في جانب القوي ، ومعه؛ فلابد من اعطاء الحق لذي الحق مهما كلف الأمر ، ومهما تكن النتائج.
وذلك بسبب ضعف في نفوس هذا النوع من الناس ، وانهزام في ذواتهم


( 47 )

وشخصياتهم..
وفريق ثالث : قد احاط الحاكم بهالة من الاحترام والقداسة ، لا لشيء إلا لانه حاكم ومتسلط ، ويدين الله بالخضوع له ، والالتزام بأوامره ، والانتهاء إلى نواهيه؛ وذلك لانه قد خدع بما حاول الحكام أن يشيعوه ، من أن سلطتهم سلطة إلهية ، مفروضة على الناس ، لا يمكن لهم الخلاص منها ، لان تلك هي ارادة الله سبحانه ومن هنا .. فإن الله سبحانه قد طلب من الناس أن يُدخلوا في عقائدهم وأحكامهم ، عقيدة عدم جواز الخروج على السلطان ، من كان ، ومهما كان ، لانه يمثل ارادة الله سبحانه على الاُرض ، فمعصيته ، والاعتراض عليه يوجب العقاب والعذاب الاُليم يوم القيامة .. بل لقد حاول البعض أن يقول : إنه ليس على السلطان ـ الخليفة ـ عذاب ولا عقاب يوم القيامة (1) ، مهما فعل من موبقات ، ومهما اقترف من جرائم.
وبعد ذلك كله .. فقد كان سلمان يعي وجود هذا التيارات المنحرفة في المجتمع الاسلامي ، ويعرف في المسلمين ما يعطي أن كثيراً منهم يتعامل مع الامور من خلال هذه النظرة ، أو النظرية ، أو تلك..
وهو يعتبر : أن ذلك انحراف عن الخط الاسلامي القويم ، لان الاسلام يرفض: أن يعتبر الانسان نفسه وذاته كشخص محوراً للحق والباطل ، والخير والشر.
ويرفض أيضاً : أن يصبح الانسان المسلم على درجة من الضعف والانهزام ، إلى حدّ أن يعتقد : أن الحق للقوي ، ومعه ..
ويرفض كذلك تقديس الحاكم لمجرد كونه حاكماً ، فان القداسة ما هي إلا بالتزام طريق الاستقامة والتقوى ، والعمل الصالح..
كما ويرفض أيضاً : نظرية الجبر الألهي ، في حاكمية الطغاة ، والجبارين ،
____________
(1) البداية والنهاية ج9 ص232.
( 48 )

والمستبدين ، والمنحرفين ..
نعم .. إن سلمان يعي ذلك كله .. فينطلق من موقع المربي ، والمسؤول ، في محاولة اكتشاف أي خلل أو خطل حتى في مثل شخصية زيد الرجل العظيم ، والمتميز ، فيحاول أن يثير فكره ووعيه ، وان يرضده بدقة ليعرف إن كانت شخصيته قد تلوثت بهذه الاوبئة ، وتأثرت بهاتيك الانحرافات.. من أجل أن يعالجه بالدواء الناجع ، بعد معرفة الداء ، ان كان ..

التوازن في شخصية الانسان المسلم :
ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يتعامل فيه سلمان مع اخوانه من موقع المربي والناصح والمسؤول ، فهناك مواقف كثيرة له ، لها هذا المنحى التربوي الهادف ، ولا نريد استقصاء ذلك في حياته رضوان الله تعالى عليه..
بل نكتفي هنا بتسجيل حادثة واحدة له ، مع زيد بن صوحان ، ولعلها أيضاً ـ تكررت له مع أبي الدرداء ، حسبما ورد في بعض النصوص الاخرى.
فاننا نجد سلمان ـ قد اكتشف في زيد جنوحاً إلى العبادة ، والعزوف عن الدنيا بصورة تجاوز فيها حالة الاعتدال ، الامر الذي من شأنه أن يحدث خللاً ـ غير مسموح به ـ في تعامله مع ما ومن يحيط به.. ويفقد معه قسطاً كبيراً من حالة التوازن ، التي يفترض أن تكون قائمة في مجال الاستفادة من أعمال البر والخير ، بحيث لا يؤثر ذلك على تعامله مع جهات اُخرى لا بد له من تحقيق مستوى معين من التعامل معها..
وواضح : أن مسألة التوازن مسألة حساسة وخطيرة ، تمس شخصية الانسان المسلم في العمق ، وترتبط بمجمل مواقفه ، وسلوكه ، وكل شؤون حياته. وان الاخلال بها معناه حدوث نقص في الدين ، لابد من التحرز منه ، والمبادرة الى تصحيحه قبل أن يتحول إلى كارثة حقيقية..
نعم .. وقد أحس سلمان أيضاً : أن زيداً قد بدأ يتعامل مع العبادات


( 49 )

الدينية تعاملاً قشرياً ، يجعله يستغرق بالحقحقة ، حتى يبتعد عن روح الشريعة ، ويحبس نفسه في قمقمٍ جدب ، ومقفل ؛ ويحرم نفسه من العيش في رحاب الله سبحانه ، فلا يوفق للانطلاقة الهادفة في آفاقه الرحبة ، الزاخرة بالعطاء ، الغنية بالمواهب.
نعم.. إن سلمان حينما أحسّ أن زيد بن صوحان يتعرض لهذا الخطر الاكيد ، ويوشك أن تزل به قدمه.. فانه من موقع المربي المشفق ، يعمل على تصحيح الخطأ ، واعادة الامور إلى نصابها ..
يقول النص التاريخي عن زيد :
إنه : « كان يقوم الليل ، ويصوم النهار ، وإذا كانت الجمعة أحياها ، وإنه ليكرهها إذا جاءت ، لما يلقى بها؛ فبلغ سلمان ما كان يصنع ، فأتاه ، فقال :
أين زيد؟ فقالت امرأته : ليس هاهنا.
قال : فاني أقسم عليك : لمّا صنعت طعاماً ، ولبست محاسن ثيابك.
ثم بعث إلى زيد ، فقرب إليه الطعام ، وقال له :
كل يا زيد.
فقال: إني صائم.
فقال : كل يازيد ، لا تنقص دينك ، إن شر السير الحقحقة ، إن لعينك عليك حقاً ، وإن لبدنك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً .
فأكل زيد ، وترك ما كان يصنع (1).
وقريب من ذلك يروى لسمان مع أبي الدرداء أيضاً (2).
____________
(1) تهذيب تاريخ دمشق ج6 ص15 وتاريخ بغداد ج8 ص439 وقاموس الرجال ج4 ص426 عنه.
(2) راجع : حلية الاولياء ج1 ص188 واحياء علوم الدين ج1 ص347 والاستيعاب بهامش الاصابة

( 50 )

الارض لا تقدّس أحداً :
وفي مجال رفض المفاهيم الخاطئة ، ورفض التعامل مع القضايا الدينية تعاملاً قشرياً وسطحياً ، يفقدها مضمونها الرسالي العميق ، نجد لسلمان رحمه الله تعالى موقفاً آخر من أبي الدرداء أيضاً ..
فقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان : أن هلم إلى الارض المقدسة ـ أي بلاد الشام ـ .
فكتب إليه سلمان يعلمه : أن الارض لا تقدس أحداً ، وإنما يقدس الانسان عمله (1).

واقعية زهد سلمان :
وقد يعتبر الكثيرون : أن الزهد معناه هو معاناة حالة من التقشف ، ومقاساة شظف العيش ، بصورة شاقة وقاسية.
ولكن سلمان الفارسي ـ الذي أدرك علم الاول والآخر ، إنما يريد أن يربي نفسه على الزهد الواقعي ، ويفرغ قلبه عن التفكير بالدنيا بصورة حقيقية ، ولا يريد أن يدخل في صراع مع نفسه ، ولو مرة واحدة ، بل هو يريد أن يجعلها تطمئن ، لينصرف بكل عقله وفكره ، وجوارحه ، وباستمرار إلى الله سبحانه ، لا يشغله شيء عنه سبحانه.
فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنته ، حتى يحضر عطاءه من قابل.
فقيل له : أنت في زهدك ! تصنع هذا !! وأنت لا تدري لعلك تموت اليوم ، أو غداً ؟!..
____________
ج2 ص 60 | 61 والمحجة البيضاء ج2 ص377 | 378 وفي هامش عن صحيح البخاري ج2 ص63.
(1) تهذيب تاريخ دمشق ج6 ص209 وراجع : المصنف لابن أبي شيبة ج13 ص318 و331 و340.