الباب الثاني

سياسات . . . ونتائج . . .


( 74 )


( 75 )

الفصل الاُوّل :

في مواجهة التحدّي


( 76 )


( 77 )

بداية :
التمييز العنصري معناه: أن يُعطى أحد امتيازاً على أساس العرق ، أو اللون ، أو ما إلى ذلك ، ويحرم الآخرون ، أو يظلمون على هذا الاساس أيضاً..
وهو من الامور القبيحة ، التي ترفضها الفطرة ، ويدينها العقل ، ويأباها ، وينكرها الوجدان ، حتى من قبل الكثيرين ، من الذين يمارسونه عملاً ، ويحاولون إعطاءه طابعاً تضليلياً ، أو لوناً حضارياً خادعاً ..
وليس التمييز العنصري هذا بالامر الجديد ، والمستحدث ، وإنما هو قديم ، قديم ، حتى لقد اعطي صفة القداسة ، والبس لباس الشرعية ، حينما اعتبره اليهود ، أحد تعاليمهم الدينية الاساسية ، التي يتعاملون مع الآخرين على أساسها..

الاسلام يرفض سياسة التمييز العنصري :
إن من الواضح : أن رأي الاسلام الواقعي هو أنه ليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى ، كما قرره نبي الاسلام صلّى الله عليه وآله وسلّم في حجة الوداع (1).
____________
(1) العقد الفريد ج3 ص404 و408 وتاريخ اليعقوبي ط النجف ج2 ص91 ومجمع الزوائد ج3 ص 366 و272 وزاد المعاد ج2 ص226 والغدير ج6 ص188 والبيان والتبيين ج2 ص33.
( 78 )

كما أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قد اعتبر أن كل : من ولد في الاسلام فهو عربي ، ومن دخل في الاسلام طوعاً فهو مهاجري (1) ورويت الفقرة الاولى التي تشير إلى معيار العروبة للانسان عن الامام الباقر عليه الصلاة والسلام (2).
وعن أبي هريرة ، رفعه ، قال: « من تكلم بالعربية فهو عربي ومن أدرك له أبوان (أو اثنان) في الاسلام ، فهو عربي (3).
وعنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أنه صعد المنبر يوم فتح مكة ، وقال : « أيها الناس ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتفاخرها بآبائها. الا إنكم من آدم ، وآدم من طين . الا إن خيار عباد الله عبد اتّقاه ، إن العربية ليست بأب والد ، ولكنها لسان ناطق ، فمن قصر به عمله ، لم يبلغه حسبه .. . إلخ..» (4).
وسيأتي في جواب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لقيس بن مطاطية قوله : من تكلم بالعربية فهو عربي..
وعن أنسب بن مالك ، قال :
« كان لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم موليان : حبشي ، وقبطي؛ فاستبّا يوماً ؛ فقال أحدهما : يا حبشي. وقال الآخر : يا قبطي.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : لا تقولوا هكذا.. إنما أنتما رجلان من آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم (5) .
وبعد .. فقد قال الله تعالى : يا أيها الناس أنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا انّ اكرمكم عند الله اتقاكم (6).
____________
(1) راجع : الجعفريات ص185 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص207 عنه ومستدرك وسائل الشيعة ج2 ص268 عن روضة الكافي .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ص168.
(3) المصدر السابق.
(4) الكافي ج8 ص246 والبحار ج21 ص137 و138.
(5) المعجم الصغير ج1 ص207.
(6) الحجرات 13.

( 79 )

وقد علمنا : أن رسول الله قد قال عن سلمان الفارسي : سلمان منا أهل البيت.
ثم إنه قد ورد النهي للصحابة عن أن يقولوا : سلمان الفارسي ، ولكن قولوا سلمان المحمّدي..
إلى غير ذلك من نصوص ومواقف معبرة وصريحة في هذا الامر ، ولا مجال لتأويلها ، ولا للتلاعب فيها .. وهي كثيرة جداً لا طاقة لنا بجمعها وإحصائها في عجالة كهذه.

التمييز العنصري بين الجبر والاختيار :
وإذا كان معنى التمييز العنصري هو : أن يجعل العرق ، أو اللون ، أو الطبقة ، أو نحوها أساساً للتمييز والتفاضل بين البشر ، فبملاحظته يستحق هذا امتيازاً؛ فيعطى له ، ولا يستحقه ذاك ، فيحرم منه ـ إذا كان كذلك ـ .
فإن من الواضح .. أن هذه أمر يأباه العقل ، وترفضه الفطرة ، ويدينه الوجدان ، لاُن الإنسان اغلى من كل شيء في الوجود ، لان كلّ شيء مخلوق من أجله ومسخّر له ، فلا يصح أن نضحي بإنسانية الانسان وبكرامته من أجل أي شيء آخر مهما غلا فكيف إذا كان تافهاً وحقيراً ، من قبيل اللون ، والعرق ، والجغرافيا ، وما إلى ذلك ..
أضف إلى ذلك : أن اللون ، أو العرق ، ليسا من الامور الاختيارية ، التي تساهم إرادة الانسان في صنعها ، وايجادها. كي تدفعه في حركته الدائبة نحو الحصول على خصائصه ، وكمالاته الانسانية ، وباتجاه هدفه الاسمى ، الذي وجد من أجله..
كما أنهما لا يحلان للانسان آية مشكلة ، ولا دور لهما في تغلبه على المصاعب والمتاعب ، ولا في ازالة العوائق ، التي تعترض طريق تقدمه ، نحو هدفه المنشود ..
وكذلك فانهما لا يساهمان في سعادة الانسان بالحياة ، فلا يجعلانه يلتذ بها ،


( 80 )

ويأنس ، أو يتعب من أجلها ويضحي ، أو يأمل بها ويطمح.. وما إلى ذلك ..
ومن هنا.. فقد كان من الطبيعي أن يرفض الاسلام اعطاء الامتيازات ، وتفضيل الناس ، بعضهم على بعض على اساس العرق أو اللون ، أو غير ذلك مما لا خيار فيه للانسان ، ولا هو خاضع لارادته.
ولكنه جعل التفاضل بين الناس في أمر يمكن أن يكون له دور رئيس في تكاملهم ، وفي تحقيق سعادتهم ، ويؤثر في حركتهم الدائبة نحو هدفهم الاسمى.. وهو في نفس الوقت أمر اختياري للانسان ، يمكنه ، أن يحصل عليه ، ويمكنه أن لا يحصل عليه .. ألا وهو التقوى ، والعمل الصالح ، والسجايا الفاضلة ، والعلم النافع المعطاء ؛ فقال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم (1).
وقال : هو يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (2).
وقال تعالى : ألم تر كيف ضرب الله مثلاً : كلمة طيبة كشجرة طيبة (3).
قال : ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض (4).
وقال تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير اولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله (5).
وقال : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو اعجبك كثرة الخبيث (6).
إلى غير ذلك من آيات كثيرة ، لا مجال لا يرادها هنا..
وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا أسود على أحمر ، ولا أحمر على أسود إلاّ بالتقوى (7) .
وإذا كان كل ما تقدم هو المنطلق للتفاضل ، والحصول على الامتيازات والاوسمة؛ فان من شأنه : أن يقود الانسان نحو الكمال ، ويجعل التسابق باتجاه
____________
(1) الحجرات 13.
(2) الزمر 9.
(3) ابراهيم 24.
(4) ابراهيم 26 .
(5) النساء 95.
(6) المائدة 100.
(7) مجمع الزوائد ج3 ص266 و272 والبيان والتبيين ج2 ص33 والعقد الفريد ج3 ص408 والغدير ج6 ص187 | 188 عن عدد من المصادر.

( 81 )

كل ما هو خير ، وصلاح ، وفلاح : « فاستبقوا الخيرات» (1) « وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض» (2) « ومنهم سابق بالخيرات» (3).
نعم .. وهذه هي الحركة الطبيعية ، التي تنسجم مع فطرة الانسان السليمة والصافية ، ومع طموحاته الواقعية ، وأمانيه الواسعة ، وآماله العراض..

سلبيات ظاهرة :
وبعد .. فان من أبسط نتائج سياسات التمييز على أساس : الطبقة ، والدم واللون ، والعرق ، واللغة ، والبلد ، وو... إلخ.. هو ظهور نزعات الكراهية بين الناس ، وسحق كراماتهم بلا مبرر معقول ، وتضييع حقوقهم الانسانية ، دونما سبب ، ومعاملتهم بطريقة شاذة ، لا يقرها شرع ، ولا عقل ، ولا ضمير ..
وبدلاً من أن يكون المؤمنون إخوة ، يتعاونون على الخير ، وتسودهم روح المحبة ، والمودة والوئام ، ويشد بعضهم ازر بعض في مجال التغلب على مصاعب الحياة ، وتجنب شدائدها ، ويكون كل منهم مكملاً للآخر ، ومن اسباب قوته ، وعزه ، وسعادته..
نعم.. بدلاً من ذلك .. يصبحون أعداء متدابرين ، يعمل كل منهم على هدم الآخرين ، واستغلال طاقاتهم ، وامكاناتهم ، والاستئثار بها ، وتقويض سعادتهم ، وتبديد قدراتهم. تسودهم روح الضغينة والحقد ، بأسهم بينهم شديد ، ومخيف .
ويصبح اللون ، والعرق ، واللغة ، والطبقة وو.. إلخ وسيلة تستخدم في سبيل تجزئة الناس وتمزيقهم ، بدلاً من جمعهم وتوحيدهم ، وذلك بالتركيز على الفوارق والمميزات التافهة ، والعقيمة ، وتجاهل موارد الاشتراك ، والوفاق ،
____________
(1) البقرة 148 والمائدة 48.
(2) آل عمران 133.
(3) فاطر 32.

( 82 )

وهي الاجدر والاجدى ، والاحق بالاهتمام والعناية ، لانها الاسمى ، والانفع ، والاصح ، والاكثر أصالة ، والابعد أثراً في تكامل الانسان وسموه ، وتذليل كل العقبات ، التي تعترض طريقه في حياته..

سلمان في مواجهة التمييز العنصري أيضاً :
1 ـ « أسند الامام مالك ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبدالرحمان ، قال : جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي ، وصهيب الرومي ، وبلال الحبشي ، فقال :
هذا الاوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذ الرجل ، فما بال هذا؟
فقام إليه معاذ بن جبل ، فأخذ تلبيبه ، ثم أتى به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فأخبره بمقالته. فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قائماً .. يجر رداءه ، حتى أتى المسجد ، ثم نودي : إن الصلاة جامعة [فحمد الله ، وأثنى عليه].
وقال : يا أيها الناس ، ان الرب واحد ، والأب واحد ، وليست العربية بأحدكم من أب ولا اُم ، وانما هي اللسان ، فمن تكلم بالعربية ؛ فهو عربي... الخ» (1)..
2 ـ وأخرج أيضاً عن أبي هريرة ، أنه قال : تخطى سلمان الفارسي حلقة قريش ، وهم عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مجلسه ؛ فالتفت إليه رجل منهم فقال : ما حسبك ؟ وما نسبك ؟ وبم اجترأت أن تتخطى حلقة قريش .
قال : فنظر اليه سلمان؛ فأرسل عينيه؛ وبكى ، وقال : سألتني عن حسبي ، ونسبي ، خلقت من نطفة قذرة ، أما اليوم ففكرة وعبره ، وغداً جيفة منتنة ، فاذا
____________
(1) تهذيب تاريخ دمشق ج6 ص200 وحياة الصحابة ج2 ص523 عن كنز العمال ج7 ص46 والمنار ج11 ص258 ـ 259 واقتضاء الصراط المستقيم ص169 عن السلفي .
( 83 )

انشرت الدواوين ، ونصبت الموازين ، ودعي الناس لفصل القضاء ؛ فوضعت في الميزان ، فان أرجح ، فأنا شريف كريم ، وان انقص الميزان ؛ فانا اللئيم الذليل ، فهذا حسبي ، وحسب الجميع ، فقال النبي ّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : صدق سلمان ، من اراد أن ينظر إلى رجل نوّر قلبه ، فلينظر إلى سلمان (1).
ويلاحظ هنا : أن هذه القضية تشبه كثيراً ، ما سيأتي في سبب قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : سلمان منّا أهل البيت ، لكن هذه العبارة لم تذكر فيها .. والمناسب ذكرها ، فان من الطبيعي أن يغضب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم من كلام ذلك القرشي الجافي ، وينتصر لسلمان بأكثر من هذه الكلمة الهينة اللينة ، المذكورة في آخر الرواية ..
3ـ « وأخرج أيضاً من طريق البيهقي ، وعبدالرزاق ، عن قتادة ، قال :
كان بين سعد بن أبي وقاص وسلمان شيء؛ فقال سعد ، وهم في مجلس : انتسب يا فلان ، فانتسب ، ثم قال : للآخر : أنتسب. فانتسب.. حتى بلغ سلمان . فقال : انتسب يا سلمان ، فقال : ما أعرف لي أبا إلا الاسلام ، ولكن سلمان بن الاسلام ، فنمي ذلك إلى عمر. فقال عمر لسعد : انتسب . فقال: انشدك الله يا أمير المؤمنين ، وكأنه عرف. فأبى أن يدعه حتى انتسب ، ثم قال للآخر ، حتى بلغ سلمان ، فقال : انتسب ، فقال : انعم الله علي بالاسلام؛ فأنا ابن الاسلام.
فقال عمر : قد علمت قريش : أن الخطاب كان أعزهم في الجاهلية ، وأنا عمر بن الاسلام ، أخو سلمان بن الاسلام أما والله ، لولاه لعاقبتك عقوبة يسمع بها اهل الامصار .. إلخ» (2).
4 ـ وثمة نص يفيد: ان سلمان المحمدي قد تعرض لمحاولة تحقير وامتهان من
____________
(1) تهذيب تاريخ دمشق ج6 ص200 وراجع البحار ج22 ص355 عن أمالي الصدوق.
(2) تهذيب تاريخ دمشق ج6 ص205 والمصنف ج1 ص438.

( 84 )

قبل البعض ، فانتصر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم له ، وأدان المنطق الجاهلي والتعصب القبلي بصورة صريحة.. تقول الرواية :
« إن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ دخل مجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم ؛ فعظموه ، وقدموه ، وصدروه؛ اجلالاً لحقه ، واعظاماً لشيبته ، واختصاصه بالمصطفى وآله ..
فدخل عمر : فنظر إليه فقال : من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب؟
فصعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المنبر؛ فخطب ، فقال :
إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمي ، ولا للأحمر على الاسود إلاّ بالتقوى. سلمان بحر لا ينزل ، وكنز لا ينفذ ، سلمان منّا أهل البيت .. إلخ (1).

وقفات :
الاولى : سلمان منّا أهل البيت :
لعل هذه الرواية الأخيرة ليست بعيدة عن الحقيقة؛ فان عمر بن الخطاب كان يجهر بتفضيل العرب على العجم ، وكانت سياسته في خلافته تسير في هذا الاتجاه ، وستأتي قصة امتناعه من تزويج سلمان ، وسنشير الى نبذة من سياساته تجاه غير العرب في فصل مستقل ، إن شاء الله تعالى.
ولاجل ذلك ، فنحن نستبعد الرواية التي تذكر أن السبب في اطلاق كلمته صلّى الله عليه وآله وسلّم الشهيرة : سلمان منّا أهل البيت.
أنه حين اشتغال المسلمين بحفر الخندق ، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله
____________
(1) الاختصاص ص 341 ونفس الرحمان في فضائل سلمان ص29 والبحار ج22 ص348.
( 85 )

وسلّم قد قطع لكل عشرة أربعين ذراعاً ، يعملون فيها ، وكان سلمان قوياً في عمله ، احتج المهاجرون والانصار .
فقال المهاجرون : سلمان منّا.
وقال الانصار : سلمان منّا .
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : سلمان منّا أهل البيت (1).
ورواية اُخرى تقول :
إنه حين حفر الخندق ، وكان المسلمون ينشدون سوى سلمان ، رأى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك؛ فدعا الله : أن يطلق لسان سلمان ، ولو ببيتين من الشعر ، فأنشأ سلمان ثلاثة أبيات :

مالي لسان فأقـول شعرا * أسـأل ربـي قـوة ونصرا
على عدوي وعدو الطهرا * مـحمّد الـمختار حاز الفخرا
حتى أنال في الجنان قصرا* مع كل حوراء تحاكي البدرا

فضج المسلمون ، وجعل كل قبيلة يقول : سلمان منّا .
فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : سلمان منّا أهل البيت (2).
نعم .. إننا لنستبعد ذلك ، ونميل الى صحة الرواية المتقدمة حول موقف عمر بن سلمان .. وذلك بسبب النهج الذي عرفناه عن الخليفة الثاني ، في معاملته لغير العرب ، والروح العدائية التي كانت تملي عليه مواقف سلبية وقاسية ضدهم ، كما سيتضح في فصل مستقل يأتي إن شاء الله تعالى..
____________
(1) طبقات ابن سعد ط ليدن ج4 قسم 1 ص59 ، وراجع : اُسد الغابة ج2 ص331 وذكر أخبار أصبهان ج1 ص54 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص200 ونفس الرحمان ص34 / 35 عن مجمع البيان في تفسير قوله تعالى : اللّهم مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء . وعن السيرة الحلبية ، ومستدرك الحاكم ج3 ص598.
(2) راجع : المناقب لابن شهرآشوب ج1 ص85 وقاموس الرجال ج4 ص424 عنه والدرجات الرفيعة ص218 ونفس الرحمان ص43 . ويلاحظ ما في الاُبيات من الهنات..

( 86 )

هذا بالاضافة إلى أن هذا الذي ذكروه في سبب اطلاق النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كلمته الخالدة ، لا يعدو عن أن يكون أمراً عادياً ، بل وتافهاً ، لا يبرر هذا الموقف منه صلّى الله عليه وآله وسلّم .
ولعل الهدف من ايراد امور كهذه هو التقليل من قيمة هذا الوسام العظيم ، الذي شرفه صلّى الله عليه وآله وسلّم به..
إذ أن ذلك لا يعدو عن أن يكون قضية الاستفادة من قوة سلمان البدنية ، في حفر الخندق ، هي محل تنافس الفرقاء ، وما كان من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ أن بادر إلى حسم النزاع ، باسلوب تحويل سلمان إلى القسم الذي كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يعمل هو وأهل بيته فيه؛ فكانت تلك الكلمة إيذاناً بذلك ..
ولاجل ذلك؛ فان هذه الكلمة تفقد قيمتها ، وأهميتها ، وواقعيتها .. ولا يبقى مبرر لما نلاحظه في كلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام من التركيز على هذا الوسام العظيم ، وتأكيد واقعيته ومصداقيته فيه رضوان الله تعالى عليه..
ونفس هذ الكلام تقريباً يأتي فيمايقال عن تنازعهم في سلمان ، حينما قال الشعر ، على النحو الذي ذكرناه فيما سبق.
لان اطلاق هذه الكلمة منه صلّى الله عليه وآله وسلّم في مناسبة كهذه ، تجعل سلمان جزءاً من فئة تحسن التكلم باللغة العربية ، وتحب أن تكرمه ، لانه نطق بلغتها ، لا لاجل علمه ، أو دينه ، ولا لغير ذلك من صفات الخير والصلاح فيه ..

حنبلي يثبت العصمة لسلمان !! :
قال محيي الدين ابن العربي الحنبلي :
« .. فلا يضاف إليهم إلاّ مطهر ، ولابدّ أن يكون كذلك ، فان المضاف إليهم هو الذي يشبههم؛ فلا يضيفون لانفسهم إلاّ من حكم له بالطهارة والتقديس.


( 87 )

فهذه شهادة من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لسلمان الفارسي بالطهارة ، والحفظ الالهي ، والعصمة ؛ حيث قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم :
سلمان منّا أهل البيت.
ذلك أن قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : سلمان منّا أهل البيت لم يجعله من أهل البيت حقيقة ونسباً ؛ فان الإتصال نسباً لا يكون إلاّ بأسبابه المقررة في محله ، واذن.. هو منهم تنزيلاً : لتشابه الصفات ، بعضها ، أو كلها ، تلك الصفات التي يمكن أن تجعله من الملهمين .
وشهد الله لهم بالتطهير ، وذهاب الرجس عنهم ؛ فهم المطهرون ، بل عين الطهارة. وهم المطهرون بالنص ؛ فسلمان منهم بلا شك.. فكان من أعلم الناس بما لله على عباده من الحقوق ، ولانفسهم ، والخلق عليهم من الحقوق ، وأقواهم على أدائها ، وفيه قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم :
لو كان الايمان بالثريا لنا له رجل من فارس ، وأشار إلى سلمان.. » (1).

الوقفة الثانية : دفاع عمر عن سلمان :
هذا .. وإذا عدنا إلى الرواية الثالثة المتقدمة ، فنجدها قد ذكرت : أن عمر قد دافع عن سلمان في قبال سعد ..
وهذا أمر يثير العجب من ناحيتين :
الاولى: أن عمر قد وصف أباه الخطاب بأنه : كان أعزّهم في الجاهلية ..
مع أننا قلنا في الجزء الثاني من كتابنا : الصحيح من سيرة النبيّ الاُعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم ص58 / 59 و96 ـ 100 : أن هذا الكلام لا يصح ، وأنهم كانوا أقل وأذلّ بيت في قريش..
____________
(1) سلمان الفارسي للسبيتي ص40 ونفس الرحمان ص32 كلاهما عن : الفتوحات المكية .
( 88 )

بنو عدي في الجاهلية :
ويكفي أن نذكر هنا :
ألف : أنهم يقولون : إنه لم يكن في بني عدي سيد أصلاً (1) .
ب : ان عمر بن الخطاب نفسه يعترف بذلك ، ويقول : « كنا أذلّ قوم؛ فأعزنا الله بالاسلام» (2).
ج : وفي رسالة من معاوية إلى زياد بن أبيه ، يذكر فيها أمر الخلافة ، فيقول :
« .. ولكن الله عزّوجلّ أخرجها من بني هاشم ، وصيرها إلى بني تيم بن مرة ، ثم خرجت إلى بني عدي بن كعب ، وليس في قريش حيان أذل منهما ولا أنذل إلخ» (3).
د : وقال أبو سفيان حين فتح مكة; حين رأى عمر بن الخطاب ، وله زجل : « .. لقد أمِرَ أمرُ بني عدي ، بعد ـ والله ـ قلة ، وذلة إلخ.. » (4) .
هـ : وقال عوف بن عطية :
وأما الا لامان : بنو عدي * وتيم حين تزدحم (5) الامور
فلا تشهد بهم فتيان حرب * ولكن أدن من حلب وعير (6)

____________
(1) المنمق ص146.
(2) مستدرك الحاكم ج1 ص61 و62 وتلخيصه للذهبي بهامشه ، وصححه على شرط الشيخين.
إلا أن يقال : إن مقصوده : هو أن العرب كانوا أذل أمه بين الامم المجاورة ، ولكنه احتمال بعيد ، فانه قد عنف أبا عبيدة ، باعتبار أن غيره لو قال هذا ـ أي طلب منه أن لا يقوم بعمل فيه مهانة ـ ، لكان له وجه.. أما أن يقوله أبو عبيدة العارف بالحال والسوابق ، فانه غير مقبول منه . راجع : نفس النص في مصدره.
(3) كتاب سليم بن قيس ص140.
(4) مغازي الواقدي ج2 ص821 وكنز العمال ج5 ص295 عن ابن عساكر ، عن الواقدي.
(5) لعل الصحيح : مزدحم ، بالميم ؛ ليضاف إلى ما بعده ، فيناسب البيت التالي.
(6) طبقات الشعراء لابن سلام ص38.

( 89 )

الثانية : إدانة سعد غير واقعية :
وبالنسبة إلى ادانة عمر لسعد ، في محاولته تحقير سلمان ؛ فلا نراها تنسجم مع سائر مواقف عمر ، وتوجهاته ، وسياساته مع غير العرب ، وحتى مع سلمان بالذات ، الذي لم يقبل عمر : أن يزوجه حينما خطب إليه ، بسبب أنه غير عربي .. وسنذكر نبذة من سياسات عمر هذه في فصل مستقل إن شاء الله تعالى.
ومن هنا نجد أنفسنا مضطرين إلى القول : إن تقريض عمر لابيه الخطاب قد جاء على سبيل الافتخار بأمر نسبي ، فعل الخطاب أبا عمر كان أعز من سلف سعد مثلاً ، أو لعله قد استفاد من هيبة الخلافة ، وسلطان الحكم؛ فادعى ذلك ؛ ليرضى سلمان وغيره ، ممن لا يرتاحون لمنطق سعد ، المخالف للاسلام.
مع اطمينانه بأن سلمان ، الذي لم يكن قد عاش في المنطقة العربية ، في زمن الجاهلية ، وأوائل البعثة ، كان لا يعرف حقيقة الامر في هذا المجال .. بالإضافة إلى علم الخليفة بعدم جرأة أحد على الرد عليه ، وتفنيد مزاعمه .
وقد تكون هذه العبارة قد دسٌت في الرواية ، بهدف ابعاد الشبهة عن الخليفة في سائر مواقفه من سلمان بالذات ، ومن غير العرب بصورة عامة .
والله هو العالم بحقيقة الحال ، وإليه المرجع والمآل..

هذه الرواية وسياسات الخليفة :
ولكن المهم هو : أن هذه الرواية قد تبدوا منافية لما عرف وشاع ، وذاع من مواقف للخليفة الثاني تجاه غير العرب ، والتي كانت تقضي بحرمان غير العرب من كثير من الحقوق الانسانية والاسلامية على حد سواء .
ولكننا نقول : إن من الطبيعي : أن لا يقدم الخليفة في أوائل أمره على تطبيق سياساته تلك ، ويتحاشى الجهر في ذلك ، بانتظار استحكام أمره ، وتثبيت حكمه. بل لم يكن ثمة داعٍ لاعلان تلك المواقف ، وتطبيق هاتيك السياسات ،


( 90 )

ما دام أنه لا توجد ضرورة لذلك ، حيث لم يكن ثمة فتوح ، ولا احتكاك للعرب بغير العرب ، ووجود سلمان ، وبلال ، وصهيب مثلاً فيما بين ظهراني المسلمين قد بدأ في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأصبح حقيقة واقعة ، وأمراً مقبولاً ، ومفروضاً من قبله صلّى الله عليه وآله وسلّم مباشرة ..
وكان على عمر أن يتجنب الجهر بآرائه تلك في هذه المرحلة ، ويقف من سعد ذلك الموقف ، ولا سيما بالنسبة إلى سلمان « المحمّدي» الذي كان يحظى باحترام وتقدير كبير لدى الناس عامة ، ولدى الصحابة بصورة خاصة بالاضافة إلى مكانته المتميزة لدى أهل البيت ، وأمير المؤمنين علي عليه السلام على وجه التحديد .
وكفى للتدليل على هذه المكانة لسلمان ، بسبب سلوكه المتميز ، وبسبب ما صدر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حقه : أن نذكر : أنه لما زار سلمان دمشق.
« .. صلّى الله عليه وآله وسلّم الامام الظهر ، ثم خرج ، وخرج الناس يتلقونه ، كما يتلقى الخليفة ، فلقيناه قد صلّى الله عليه وآله وسلّم بأصحابه العصر ، وهو يمشي ، فوقفنا نسلم عليه ، ولم يبق فيها شريف إلاّ عرض عليه بيته» (1).
كما أنه لما قدم سلمان إلى المدينة ، قال عمر للناس : « اخرجوا بنا نتلق سلمان» فخرجوا معه إلى مشارف المدينة ، ولم نعرف عمر صنع مثل هذا مع عامل من عماله ، أو مع أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، رغم أن سلمان قد اعترض على ما جرى في السقيفة ، وقوله : « كرديد ونكرديد» معروف ومشهور عنه (2).
____________
(1) تهذيب تاريخ دمشق ج1 ص190 ، وأنساب الاشراف ج1 (قسم حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم) ص 487 | 488.
(2) راجع كتاب : سلمان الفارسي ص39 تأليف العلامة الشيخ عبدالله السبيتي رحمه الله ، ونفس الرحمان ص148 و149 ، والبحار ج22 وأشار إلى تلقّيه في : ذكر أخبار اصبهان ج1 ص56 وتهذيب

( 91 )

أي انكم فعلتم أمراً وهو البيعة لابي بكر ، ولكن كانكم ما فعلتم شيئاً ، حيث لم يكن فعلكم في موضعه ، كقولك لم يصدر منه أمر لا يؤثر شيئاً ما صنعت شيئاً (1).
وسيأتي ان ابن عمر قال لعمرو بن العاس ، حين كانا يدبران الحيلة لصرف سلمان عن خطبته بنت عمر بن الخطاب : « .. هو سلمان ! وحاله في الاسلام حاله !!» .
وعدا عن ذلك كله.. فلعل الخليفة الثاني في قوله هذا المناقض لمواقفه تلك يرى: أنه لابد من التفريق بين السياسة والموقف ، وبين الاعلام له..
فحين يكون الاعلام مضراً بالموقف؛ فلا بد من تسجيل الموقف على الارض ، ثم تجاهله ، أو انكاره ، وحتى تهجينه اعلامياً إن اقتضى الامر ، كما هو منطق سياسة أهل الدنيا ، التي تستفيد من الحكم كوسيلة لنيل ما تصبوا إليه من مكاسب وامتيازات ، على المستوى الشخصي ، أو القبلي ، أو الفئوي.
وأخيراً ..
فان هناك رواية تقول : إن عمر بن الخطاب نفسه قد سأل سلمان عن نفسه ، وذلك في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ فقال : أن سلمان بن عبدالله ، كنت ضالاً فهداني الله بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكنت عائلاً فاغناني الله بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وكنت مملوكاً فاعتقني الله بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا حسبي ونسبي ، ثم شكا سلمان ذلك إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم :
« يا معشر قريش ، إن حسب الرجل دينه ومروته ، وأصله عقله ، قال الله تعالى :
____________
تاريخ دمشق ج6 ص205.
(1) في بعض المصادر أنه قال : كرواذ وناكرواذ ، أي عملتم ، وما عملتم ، لو بايعوا علياً لاكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم ، راجع انساب الاشراف ج1 ص591.

( 92 )

« إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (1).
يا سلمان ، ليس لاحدٍ من هؤلاء عليك فضل إلاّ بتقوى الله ، وإن كان التقوى لك عليهم؛ فانت أفضل» (2) . أو نحو هذا ..
وقد تقدم أن لعمر مواقف اخرى مع سلمان في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمس ، لها هذا الطابع أيضاً .
فلعل القضية قد حرفت لصالح الخليفة ، وخدمة له ، ولعل الخليفة نفسه قد وقف هذين الموقفين المختلفين سياسةً منه وحنكة ، وكانت سياسة بارعة وذكية ، وما ذلك في الحياة السياسية للخليفة بعزيز ، ولا نادر.

الوقفة الثالث : أنا سلمان ابن الاسلام :
كثير من الحيوان يولد مستكملاً لخصائصه ، التي تحقق هويته وحقيقته وذاته ؛ فيمارس دوره في حدود ما اهآل له بمجرد خروجه إلى عامل الدنيا .
أما الانسان ، فيولد فاقداً لكل مقومات شخصيته كانسان يمتلك فعلاً خصائصه الانسانية ، وملكاته ، وقواه ، وغرائزه.. سوى هذا الاستعداد الفطري ، الموجود فيه ، الذي قد يُلَبّىُ نداءُ حاجته ، كاملاً أو منقوصاً ، وقد لا يلبّىُ ذلك النداءُ أصلاً ، فيبقى فاقداً وفقيراً ، ولا يصل إلى شيء ، ومن ثم فهو لا يرتقي الى درجة الانسانية أصلاً ..
فهو يولد فاقد القوة؛ والعقل ، والارادة ، كما أنه لا يملك التمييز بين الاشياء ، حتى المحسوسة منها ، ويفقد العلم ، والمعرفة ، ويفقد خصال الخير وسواها ،
____________
(1) الحجرات : 13.
(2) قاموس الرجال ج4 ص416 واختيار معرفة الرجال ص14 والكافي ج8 ص181 وروضة الواعظين ص283 والبحار ج22 ص382/381 عنه وامالي الشيخ ج1 ص146 وعن الكشي والدرجات الرفيعة ص206 | 205 ونفس الرحمان ص132.

( 93 )

كالشجاعة ، والكرم ، والحبّ ، والبغض ، والحسد والرياء ، والطموح و.. إلخ.. ويفقد غريزة الجنس ، وغيرها ، وهو عاجز حتى عن الكلام بل هو في عجز شامل ، عن أي شيء وفي حاجة حقيقية لكلّ شيء ، لا يستطيع دفع أي مكروه عن نفسه ، ولا جلب أي منفعة لها على الاطلاق.
ثم هو يبدأ بالحصول على كل ذلك وسواه تدريجاً ، وبمساعدةٍ خارجة عن ذاته وحقيقته ، وقد يتعرض في فترات نموّه وتكامله لعوامل ، أو لنكسات تعيق حصوله على هذا الاُمر أو ذاك . أو يكون ذلك الحصول تاماً ، أو ناقصاً ، أو زائداً على قدر الحاجة فيتسبب في حدوث خلل أساسي في تكوين شخصيته كانسان ، صالحٍ لاستخلاف الله سبحانه وتعالى له على الارض بكل ما لهذه الكلمة من معنى..
ثم .. وبعد أن يصل إلى مرحلةٍ معينة ، فإنه يتولى هو أمر السيطرة على ما حصل عليه من قوى ، وملكات ، وغرائز وقدرات ، وتسييرها ، وتقوية الضعيف وتعويض النقص ، أو كبح جماح القوي منها ، واستثمارها في مجال الحصول على درجات الكمال ، في التخلق بأخلاق الله سبحانه ، ثم في تأكيد انسانية ، وسموها ورقيها في سبل الهدى ، والخير ، والرشاد.
ولكن من الواضح : أن هذا الانسان الذي يراد له أن يتعامل مع كل ما ومن يحيط به ، وما سخره الله لخدمته ، أو أخضعه لارادته ، وخوّله صلاحية الاستفادة منه ـ إنه ـ بسبب جهله بكثير من اسرار الكون والحياة ودقائقهما ، لا يستطيع أن ينجز مهمته تلك ، بصورة صحيحة وسليمه ؛ فيقع مع الخطأ ، ويبتلى بالانحراف ، الامر الذي قد يترك سلبيات كبيرة وخطيرة على حياته ، وعلى مستقبله ومصيره ، بصورة عامة.
وإذن .. فلا بدّ له من يتجه نحو صانع الوجود ومبدعه ، ومسيّره ومدبّره ، والعارف بكل الاسرار والدقائق ، والاثار والحقائق؛ لانه وحده العالم بكل النظم والضوابط ، التي تهيمن على مخلوقاته ، وتحكمها ، ويعرف حقيقة تأثير


( 94 )

وتأثر كل شيء في أي شيء ، وكيفية ذلك ومداه ، ونوعه ، ومستواه ـ نعم لابدّ وأن يتجه إليه؛ فيمتثل أوامره ، وينتهي بنواهيه ، التي ابلغه اياها الانبياء والرسل ، الذين اقيمت حجتهم ، وظهرت معجزتهم.
وهذا فقط ، هو السبيل الوحيد ، والطريق الاسلم ، الذي يمكّن الانسان من أن يكمل مهمته ، في الحصول باختياره وارادته ، على خصائصه الانسانية الإلهية ، ويجعله يهيمن عليها ، ويوازن بينها ، ويحفظ لها تعادلها ، وخطها الصحيح ، بعيداً عن كل السلبيات ، والاخطار ، بلا زيف ، ولا حيف ، ولا تضليل ، ولا خداع.
ولقد ادرك سلمان هذه الحقيقة ، ووجد أن الاسلام هو الذي وهبه انسانيته ، وخصائصها الملكوتية؛ فهو الاب الحقيقي له ـ أما الاب النسبي؛ فلربما يكون قد ساهم ـ عن عمد ، أو عن غير عمد في تشويه ذاته ، وفي ابقائه في مستوى الحيوان الاعجم ، وابعاده عن الكمال ، الذي أهله الله لاُن يصل إليه ، ويحصل عليه.. وهذا هو السر في أنه كان إذا قيل له : من أنت؟ قال : أنا سلمان ابن الاسلام (1) وتقدم قوله لسعد : ما أعرف لي أبا إلاّ الاسلام ، ولكن سلمان ابن الاسلام.

الزواج .. والسياسة العنصرية :
هذا.. ولم يقف الامر عند ذلك الحد من التحدي ، بل استمر سلمان يواجه المصاعب والمتاعب ، نتيجة لسياسات التمييز العنصري ، التي كانوا يواجهونه بها ، ونذكر هنا ما يلي :
1 ـ خطب سلمان الفارسي إلى عمر بن الخطاب (رض) ابنته؛ فلم
____________
(1) الاستيعاب بهامش الاصابة ج2 ص57 وشرح النهج للمعتزلي ج18 ص34 وانساب الاشراف ج1 ص487.
( 95 )

يستجز ردّه ؛ فانعم له ، وشق ذلك عليه ، وعلى ابنه عبدالله بن عمر؛ فشكا ذلك عبدا‏لله الى عمر بن العاص ، فقال :
افتحب أن اصرف سلمان عنكم ؟.
فقال : هو سلمان ، وحاله في الاسلام حاله!!
قال : أحتال له ، حتى يكون هو التارك لهذا الامر ، والكاره له.
قال : وددنا أنك فعلك ذلك.
فمر عمر بن العاص بسلمان في طريق ؛ فضرب بيده على منكبه ، وقال: هنيئاً لك يا أبا عبدالله!!.
قال له : وما ذاك؟.
قال : هذا عمر يريد أن يتواضع بك؛ فيزوجك !.
قال : وإنما يريد أن يزوجني ، ليتواضع بي؟!. قال : نعم. قال : لاجرم والله ، لا أخطب إليه أبداً (1).
والظاهر هو أن سلمان إنما خطب إليه ، ليجرّبه بذلك ، فردّه . ثم لما أخبره بأنه إنما أراد تجربته ، عاد ، فأنعم له ، ليتلافى الآثار السيئة لذلك؛ فقد :
2 ـ روي في نص آخر : ان سلمان اختبر عمر بخطبته إليه ابنته ، في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ فرفض عمر ، ثم شكا عمر إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم جرأة سلمان على ذلك ؛ فانكر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على عمر ذلك؛ فسكت .. وبعد ذلك قام عمر حزيناً (2).
____________
(1) لطف التدبير ص199 وراجع : عيون الاُخبار لابن قتيبة ج3 ص269/268 والعقد الفريد ج6 ص90 وقاموس الرجال ج؛ص 427 ونفس الرحمان ص141 عن التذكرة للعلامة.
(2) نفس الرحمان ص47 عن الحسين بن حمدان.

( 96 )

3 ـ وفي نص آخر عن خزيمة بن ربيعة ، قال: خطب سلمان إلى عمر؛ فردّه ، ثم ندم ، فعاد إليه ، فقال : انما أردت أن أعلم : ذهبت حمية الجاهلية من قلبك ، أم أهي كما هي؟ (1)
4 ـ وفي نص آخر ، عن ابن عباس ، قال : قدم سلمان من غيبةٍ له ، فتلقاه عمر ، فقال : أرضاك ‏لله عبداً.
قال : فزوجني.
فسكت عنه .
فقال: أترضاني ‏لله عبداً ، ولا ترضاني لنفسك؟
فلما أصبح أتاه قوم؛
فقال : حاجة؟.
قالوا : نعم.
قال : وما هي؟.
قالوا : تضرب عن هذا الامر ، يعنون خطبته إلى عمر.
قال : أما والله ، ما حملني على هذا إمرته ولا سلطانه ، ولكن قلت : رجل صالح ، عسى الله أن يخرج منه ومني نسمة صالحة (2).
5 ـ وفي مناسبة اخرى نجد : أن أن أبا الدرداء قد « ذهب مع سلمان ، يخطب عليه امرأة من بني ليث ، فدخل فذكر فضل سلمان ، وسابقته ، واسلامه ، وذّكر أنه يخطب إليهم فتاتهم فلانة ؛ فقالوا : أما سلمان فلا نزوجه ، ولكنا نزوجك .
____________
(1) راجع : اختيار معرفة الرجال ص15 ونفس الرحمان ص141 عنه والدرجات الرفيعة ص215 والبحار ج22 ص350 وقاموس الرجال ج4 ص417.
(2) صفة الصفوة ج1 ص545 و546 ، وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص206 وحلية الاولياء ج1 ص186 وقاموس الرجال ج4 ص427 وحياة الصحابة ج2 ص753 عن مجمع الزوائد ج4 ص291 عن أبي نعيم والطبراني .

( 97 )

فتزوجها ، ثم خرج ، فقال له: إنّه قد كان شي ء ، وانا استحيي أن أذكره لك.
قال : وما ذاك؟
فأخبره الخبر ..
فقال سلمان : أنا أحقّ أن استحيي منك ، أن أخطبها ، وقد قضاها الله لك (1) .
فبنو ليث إذن .. يرفضون تزويج سلمان ، ويفضلون أبا الدرداء عليه. ويبد أن منشأ رفضهم ، هو نفس المنشأ الذي تسبب بالمشقة والهمّ لعمر ، حينما خطب إليه سلمان ابنته ، وهو نفس الذي حمل عمرو بن العاص ، وجماعة ، على التدخل لاقناع سلمان بالعدول عن خطبتها ، حسبما تقدم..
وفِعل سلمان هذا ، لا يدع مجالاً للشك في أنه ، كان يرى : أن من حقه ، ومن حق غيره : أن يتزوج بغير العربية ، وبالعربية ، وحتى بالقرشية ، بل وحتى بانبة خليفة المسلمين بالذات ، ثم هو يعتبر : أن رفض الخليفة لهذا الاُمر ناشيء عن حمية الجاهلية ، التي رفضها القرآن ، وأدانها ، وانّب عليها ..

لا نؤمكم .. ولا ننكح نساءكم :
وعليه .. فما ينسب إلى سلمان ، من أنه طلب إليه : أن يصلي اماماً بجماعة من الصحابة ، كانوا وايّاه في سفر ، فقال :
« لا نؤمكم ، ولا ننكح نساءكم ، إن الله هدانا بكم» .
ثم تذكر الرواية : كيف أن الذي صلى بهم ، قد أتمّ الصلاة ، مع أن
____________
(1) صفة الصفوة ج1 ص537 وحلية الاولياء ج1 ص200 ومجمع الزوائد ج4 ص275 عن الطبراني ، ورجاله ثقات. وحياة الصحابة ج2 ص754 ، ونفس الرحمان ص141 عن ربيع الاُبرار.
( 98 )

اللازم هو القصر ، لاُنهم مسافرون ، فاعترض سلمان عليه لذلك (1).
وكذا ما ينسب إليه من أنه قال لاهل المدائن : إنا امرنا أن لا نؤمكم ، تقدم يازيد (أي ابن صوحان) فكان هو يؤمنا ، ويخطبنا (2).
وكذا ما رووه عنه ، من أنه قال : « نفضلكم بفضل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، يعني : العرب ، لا ننكح نساءكم (3)» .
وكذا ما ينسب إليه ، من أنه قال : « نهانا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ أن ننكح نساء العرب .. (4)» .
وعنه : « فضلتمونا يا معاشر العرب باثنتين : لا نؤمكم في الصلاة ، ولا ننكح نساءكم (5)» .
نعم .. إن كل هذا الذي ينسب إلى سلمان أنه قاله ، لا يصلح قطعاً ـ إذا كان بهذه الصورة ـ ؛ إذ أنه هو نفسه قد خطب إلى العرب أكثر من مرة ، حتى لقد خطب إلى خليفتهم بالذات ، وقد ردّوه ، ورفضوا تزويجه ، واعتبر هو ردّهم له من حمية الجاهلية ، حسبما اسلفنا.
وهو بذلك يكون قد ساهم في فضح ، وادانة سياسات التمييز العنصري ، التي كان الحكام ، ومن يدور في فلكهم يمارسونها ، سراً ، وعلناً ، حسبما تقتضيه ظروفهم.
وإذا كان لهذا الاُمر الذي اشير إليه بقوله : « اُمِرنا» .. الخ.. أساس من
____________
(1) المصنف للصنعاني ج6 ص154 وج2 ص520 والسنن الكبرى ج7 ص134 وج2 ص144 وحلية الاُولياء ج1 ص189 وطبقات ابن سعد ط صادر ج4 ص90 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص208 ومجمع الزوائد ج4 ص275 وحياة الصحابة ج3 ص148.
(2) تهذيب تاريخ دمشق ج6 ص15.
(3) مجمع الزوائد ج4 ص275 عن الطبراني في الكبير ، ورجاله ثقات .
(4) مجمع الزوائد ج4 ص275 عن الطبراني في الاوسط .
(5) اقتضاء الصراط المستقيم ص159 عن العدني وعن سعيد بن منصور في سننه وغيرهما وبمعناه في ص158 عن البزار.

( 99 )

الصحة ؛ فلابد وأن لا يكون من الاوامر الإلهية ، ولا النبوية ، وإلا لكان سلمان قد أذعن له ، والتزم به . .
فلعله أمر قد صدر فعلاً ، ولكن ليس عن النبيّ ، وانما عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ..
ولعل الاصرار عن أن يكون هذا الحكم الظالم ، جارياً على لسان خصوص سلمان ، ثم يصوّره الراوي على أنه صادر من غير قائله الحقيقي ، وبالذات من شخص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .. لعل ذلك ـ للتغطية على هذه المخالفة التي صدرت من الخليفة في حق سلمان ، وجعلها في معرض الشك والترديد ، شرط أن يساهم ذلك في تقوية ركائز هذه السياسة الظالمة ، ويعطيها شرعية قائمة على أساس التعبد والدين. .
ومما يؤيّد أن تكون هذه الكلمة ، التي تُقَرر عدم التزويج بين العرب وغيرهم ، قد صدرت من نفس الخليفة ، عمر بن الخطاب :
ما روي عن يزيد بن حبيب ، قال: قال عمر بن الخطاب لسلمان :
يا سلمان ، ما أعلم من أمر الجاهلية بشيء ، إلا وضعه الله عنا بالاسلام ، إلا أنّا لا ننكح إليكم ، ولا ننكحكم؛ فهلمّ ، فلنزوجك ابنة الخطاب. قال : أفرّ ـ والله ـ من الكبر.
قال : فتفرّ منه ، وتحمله علي ؟! ، لا حاجة لي به (1).
فاذا كان عمر هو الذي قال عبارة : « أفرّ ـ والله ـ من الكبر» ، كما هو ظاهر؛ فمعنى ذلك : أنه يريد أن يتواضع بتزويج سلمان ابنته ، على حد ما تقدم عن عمرو بن العاص حينما تدخل لصرف سلمان عن الخطبة.
وجواب سلمان له ـ والحالة هذه ـ يتناسب مع جوابه لعمرو بن العاص ، الذي تقدم ..
____________
(1) الزهد ، والرقائق ، قسم ما رواه بن حماد ص52.
( 100 )

وإذا كانت عبارة : « أفرّ ـ والله ـ من الكبر» من كلام سلمان .. وتكون العبارة التي بعدها ، وهي قوله : « فتفر منه ، وتحمله علي .. الخ» . هي جواب عمر له ـ إذا كان كذلك ـ فانها أيضاً صريحة في أن الخليفة يريد أن يفر من الكبر ، بواسطة تزويجه ابنته لسلمان .. فمعنى ذلك هو أن ما قاله عمرو بن العاص لسلمان : من أن الخليفة يريد أن يتواضع بتزويجه ابنته ، يكون صحيحاً ..
فالنتيجة تكون واحدة على كلا الحالتين ، وهي أنه يعتبر تزويج غير العربي تواضعاً ، وتنزلاً في مقام الشرف والكرامة ..
نعم .. وهذا ما يتناسب مع أفكار وسياسات الخليفة ، بالنسبة للعرب ، وللموالي ..
تماماً على عكس سياسات علي أمير المؤمنين ، والاُئمة من ولده ، عليهم الصلاة والسلام ، ثم شيعتهم الاخيار؛ فانهم كانوا لا يرون لبني إسماعيل فضلا على بني اسحاق ..
وقد كان لكل من السياستين آثارهما ، الايجابية والسلبية ، ولسوف نوضح ذلك فيما يأتي من مطالب إن شاء الله تعالى ..
ولسوف نجد : أن نهج الخليفة الثاني ، هو الذي استأثر بالعناية والرعاية ، سواء في عهد الدولة الاموية ، أو بعدها.. ثم لم نزل نجد ملامحه وآثاره تختفي تارة ، وتظهر اُخرى ، عبر العصور وحتى يومنا هذا ..

عجمة سلمان اسطورة :
عن أبي عثمان ، قال: كان سلمان لا يفقه كلامه ، من شدة عجمته . وكان يسمي الخشب : خشبان (1).
____________
(1) راجع : ذكر أخبار اصبهان ج1 ص55 وتهذيب تاريخ دمشق ج6 ص211 والفائق ج1 ص372