ألا وإن العرب لا تحتمل السيف (1) . وقد كانت بالبصرة أمس ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس . وقد بايعت العامة (2) عليا . ولو ملكنا الله أمورنا (3) لم نختر لها غيره ، ومن خالف هذا استعتب (4) . فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس . فإن قلت : استعملني عثمان ثم لم يعزلني ، فإن هذا أمر لو جاز لم يقم لله دين ، وكان لكل امرئ ما في يديه . ولكن الله لم يجعل للآخر من الولاة حق الأول ، وجعل تلك أمورا موطأة ، وحقوقا ينسخ بعضها بعضا .
[ ثم قعد ] ، فقال معاوية : انظر وننظر ، واستطلع رأي أهل الشام .
فلما فرغ جرير من خطبته أمر معاوية (5) مناديا فنادى : الصلاة جامعة . فلما اجتمع الناس صعد المنبر ثم قال :
الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا ، والشرائع للإيمان برهانا ، يتوقد قبسه (6) في الأرض المقدسة التي جعلها الله محل الأنبياء والصالحين من عباده ، فأحلها أهل الشام (7) ، ورضيهم لها ورضيها لهم ، لما سبق من مكنون علمه من طاعتهم ومناصحتهم خلفاءه والقوام بأمره ، والذابين عن دينه
____________
( 1 ) ما بعد : « الفتن » إلى هنا ليس في ح .
( 2 ) ح : « الأمة » .
( 3 ) ح : « ولو ملكنا الله الأمور » .
( 4 ) استعتب : استقال مما فرط منه .
( 5 ) بدلها في ح : « فمضت أيام وأمر معاوية » .
( 6 ) القبس : النار ، أو الشعلة منها . وفي الأصل : « قابسه » صوابه من ح .
( 7 ) أي أحل الأرض المقدسة أهل الشام . وفي ح : « فأحلهم أرض الشام » . وما في الأصل أولى وأقوى .

( 32 )

وحرماته . ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما ، وفي سبيل الخيرات أعلاما ، يردع الله بهم الناكثين ، ويجمع بهم ألفة المؤمنين . والله نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين بعد الالتئام ، وتباعد بعد القرب . اللهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا ، ويخيفون آمننا ، ويريدون هراقة دمائنا (1) ، وإخافة سبيلنا وقد يعلم الله أنا لم نرد بهم عقابا (2) ، ولا نهتك لهم حجابا ، ولا نوطئهم زلقا . غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى ، وسقط الندى ، وعرف الهدى . حملهم على خلافنا البغي والحسد ، فالله نستعين عليهم (3) . أيها الناس ، قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وأني خليفة عثمان بن عفان عليكم (4) ، وأني لم أقم رجلا منكم على خزاية قط (5) ، وأني ولي عثمان وقد قتل مظلوما . والله يقول : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) . وأنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان » .
فقام أهل الشام بأجمعهم فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان (6) ، وبايعوه على ذلك ، وأوثقوا له على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم أو يدركوا بثأره ، أو يفني الله أرواحهم (7) . فلما أمسى معاوية وكان قد اغتم بما هو فيه ، قال نصر :
____________
( 1 ) الهراقة ، بكسر الهاء : الإراقة ، كما في نص القاموس . وضبطت في اللسان ضبط قلم مرة بالكسر ومرة بالفتح ، والأخيرة ليست من الصواب .
( 2 ) ح : « لا نريد لهم عقابا » .
( 3 ) ح : « حملهم على ذلك البغي والحسد فتستعين الله عليهم » .
( 4 ) ح : « وأمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم » .
( 5 ) الخزاية ، بالفتح : الاستحياء . أراد عمل ما يستحيا منه .
( 6 ) في الأصل : « إلى دم عثمان » وأنبت ما في ح .
( 7 ) في الأصل : « يغني » ، بالغين المعجمة ، تحريف . وفي ح : « أو تلحق أرواحهم بالله » .

( 33 )

فحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال : لما جن معاوية الليل واغتم وعنده أهل بيته ، قال :

تطاول ليلى واعترتني وسـاوسي * لات أتى بـالـترهات البسابس (1)
أتانا جريــر والحوادث جمــة * بتلك التي فيها اجتداع المعاطس (2)
أكابده والســيف بــيني وبينه * ولســت لأثواب الدني بلابس (3)
إن الشــام أعطـت طاعة يمنية * تواصـفها أشياخها فـي المجـالس
فإن يجمعوا أصدم عليا بجبهة (4) * تفت علـيه كـل رطب ويابــس
وإنــي لأرجو خير ما نال نائل * وما أنا مــن ملك العــراق بآيس
وإلا يـكونوا عند ظني بنصرهم * وإن يخــلفوا ظني كف عابس (5)

نصر ، قال : حدثني محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : واستحثه جرير بالبيعة ، فقال : يا جرير ، إنها ليست بخلسة ، وإنه أمر له ما بعده ، فأبلعني ريقي حتى أنظر . ودعا ثقاته فقال له عتبة بن أبي سفيان ـ وكان نظيره ـ : اجتمعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص ، وأثمن له بدينه فإنه من قد عرفت ، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته وهو لأمرك أشد اعتزالا إن ير فرصة (6) .
____________
( 1 ) الترهات البسابس : الباطل . وربما قالوا ترهات البسابس ، بالإضافة .
( 2 ) اجتداع المعاطس : أي قطع الأنوف ، وذاك علامة الإذلال .
( 3 ) أكابده : من قولهم كابد الأمر مكابدة وكبادا : قاساه . ح : « أكايده » بالمثناة التحتية . وفي اللسان : « وكل شيء تعالجه فأنت تكيده » .
( 4 ) قال ابن أبي الحديد : « الجبهة ههنا الخيل » . وقال ابن منظور : « الجبهة الخيل لا يفرد لها واحد » .
( 5 ) كذا ورد البيت في الأصل . وهو ساقط من ح .
( 6 ) ح : « أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه » .

( 34 )

مبتدأ حديث عمرو بن العاص
نصر ، عن عمر بن سعد ومحمد بن عبيد الله قالا : كتب معاوية إلى عمرو وهو بالبيع (1) من فلسطين : « أما بعد فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك . وقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة (2) ، وقدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي ، وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني . أقبل أذاكرك أمرا (3) » . قال : فلما قرئ الكتاب على عمرو استشار ابنيه عبد الله ومحمدا فقال : ابني ، ما تريان ؟ فقال عبد الله : أرى أن نبي الله صلى الله عليه وآله قبض وهو عنك راض ، والخليفتان من بعده ، وقتل عثمان وأنت عنه غائب . فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة ، ولا تريد أن تكون (4) حاشية لمعاوية على دنيا قليلة ، أوشك أن تهلك فتشقى فيها (5) . وقال محمد : أرى أنك شيخ قريش وصاحب أمرها ، وإن تصرم هذا الأمر وأنت فيه خامل (6) تصاغر أمرك ، فالحق بجماعة أهل الشام فكن يدا من أياديها ، واطلب بدم عثمان ، فإنك قد استنمت فيه إلى بني أمية (7) . فقال عمرو : أما أنت
____________
( 1 ) كذا في الأصل .
( 2 ) ح ( 1 : 136 ) : « في نفر من أهل البصرة » .
( 3 ) ح : « أذا كرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله » .
( 4 ) ح : « ولا تزيد على أن تكون حاشية » .
( 5 ) ح : « أوشكتما أن تهلكا فتساويا في عقابها » .
( 6 ) ح : « غافل » .
( 7 ) استنام : سكن . وفي الأصل : « استلمت » ، وفي ح : « فإنه سيقوم بذلك بنو أمية » .

( 35 )

يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني ، وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي ، وأنا ناظر فيه ، فلما جنة الليل رفع صوته وأهله ينظرون (1) إليه فقال :
تطاول ليلى للهموم الطـوارق * وخول التي تجلو وجوه العواتق (2)
وإن ابن هند سائلي أن أزوره * وتلك التي فيها بنــات البوائق (3)
أتاه جرير من عــلى بخطة * مرت عليه العيش ذات مضــائق
فإن نال مني ما يؤمـل رده * وإن لم ينله ذل ذل المــطابق (4)
فوالله ما أدري وما كنت هكذا * أكون ، ومهما قادني فهو سابقي (5)
أخادعه إن الـخداع دنــية * أم اعطـيه من نفسي نصيحة وامق
أو اقعد في بيتي وفي ذاك راحة * لشيخ يخـاف الموت في كل شارق
وقد قال عـبد الله قولا تعلقت * به النفس إن لم يعتلقني عوائقي (6)
وخــالفه فيه أخوه محمــد * وإني لصلب العود عند الحقائق (7)
فقال عبد الله : ترحل الشيخ (8) . قال : ودعا عمرو غلاما له يقال له وردان ، وكان داهيا ماردا ، فقال : ارحل يا وردان . ثم قال : حط يا وردان
____________
( 1 ) ح : « وأهله يسمعون » .
( 2 ) خول : ترخيم خولة لغير نداء ، وهي من أعلامهن . والعانق : الشابة أول ما تدرك .
( 3 ) البوائق : الدواهي ، جمع بائقة . ح : « سألني أن أزوره » .
( 4 ) المطابق من المطابقة ، وهي المشى في القيد .
( 5 ) ح : « فهو سابقي » .
( 6 ) ح : « تقتطعني عوائقي » .
( 7 ) الحقيقة : ما يحق على المرء أن يحميه .
( 8 ) ترحل : ارتحل . أراد أنه استعد للرحيل إلي الدار الآخرة . ح : « رحل الشيخ » .

( 36 )

[ ثم قال : ارحل يا وردان ، احطط يا وردان (1) ] . فقال له وردان : خلطت أبا عبد الله ، أما إنك إن شئت أنبأتك بما نفسك . قال : هات ويحك . قال : اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك ، فقلت : علي معه الآخرة في غير دنيا ، وفي الآخرة عوض الدنيا ، ومعاوية معه الدنيا بغير آخرة ، وليس في الدنيا عوض من الآخرة ، فأنت واقف بينهما . قال : فإنك والله (2) ما أخطأت ، فما ترى يا وردان ؟ قال : أرى أن تقيم في بيتك ، فإن ظهر أهل الدين عشت [ في ] عفو دينهم (3) وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك . قال : الآن لما شهدت العرب مسيري إلى معاوية (4) ؟ فارتحل وهو يقول :

يا قاتـــل الله وردانـــا وقدحـته * أبدى لعمرك ما في النـفس وردان (5)
لما تعرضــت الدنيا عرضــت لها * بحرص نفسي وفي الأطباع إدهان (6)
نفس تعف وأخرى الحرص يغلبها ؟ (7) * والمرء يـــأكل تبـنا وهو غرثـان
أمـــا علي فدين ليس يــشـركه * دنيـــا وذاك له دنيــــا وسلطان
فاخترت من طمعي دنيا عــلى بصر * وما معـي بــالذي أختار برهــان
إنـي لأعــرف ما فيهــا وأبصره * وفي أيضا لمــا أهــواه ألــوان
لـكن نفسي تـحب العيش في شرف * وليس يرضــى بذل العيش إنسـان
أمر لعمـر أبيكم غيـر مــشـتبـه * والمرء يعطس والــوســن وسنان

____________
( 1 ) التكملة من ح والإمامة والسياسة ( 1 : 83 ) .
( 2 ) ح : « قاتلك الله » . ,لق. ( 3 ) العفو : الفضل . وكلمة : « في » ليست في الأصل ، وهي ثابتة في ح .
( 4 ) في الإمامة والسياسة : « الآن حين شهرتني العرب بمسيري إلى معاوية » .
( 5 ) في الأصل : « ومزحته » ، صوابه من ح واللسان « قدح » . والقدحة ، بالكسر . من قولهم اقتدح الأمر : دبره ونظر فيه .
( 6 ) الإدهان : المصانعة والغش واللين .
( 7 ) في الأصل : « يقلبها » ، والصواب من ح .

( 37 )

فسار حتى قدم إلى معاوية وعرف حاجة معاوية إليه ، فباعد [ ه من نفسه ] وكايد كل واحد منهما صاحبه ، فلما دخل عليه قال : يا أبا عبد الله ، طرقتنا في ليلتنا هذه ثلاثة أخبار ليس منها ورد ولا صدر . قال : وما ذاك ؟ قال : ذاك أن محمد بن أبي حذيفة قد كسر سجن مصر فخرج هو وأصحابه ، وهو من آفات هذا الدين . ومنها أن قيصر زحف بجماعة الروم إلى ليتغلب على الشام . ومنها أن عليا نزل الكوفة متهيئا للمسير إلينا . قال : ليس كل ما ذكرت عظيما . أما ابن أبي حذيفة فما يتعاظمك من رجل خرج في أشباهه أن تبعث إليه خيلا تقتله أو تأتيك به ، وإن فاتك لا يضرك . وأما قيصر فأهد له من وصفاء الروم ووصائفها ، وآنية الذهب والفضة ، وسله الموادعة ، فإنه إليها سريع . وأما على فلا والله يا معاوية ما تسوي (1) العرب بينك وبينه في شيء من الأشياء ، وإن له في الحرب لحظا (2) ما هو لأحد من قريش ، وإنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه .
نصر : عمر بن سعد بإسناده قال : قال معاوية لعمرو : يا أبا عبد الله ، إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى ربه وقتل الخليفة (3) ، وأظهر الفتنة ، وفرق الجماعة ، وقطع الرحم . قال عمرو : إلى من ؟ قال : إلى جهاد علي ، قال : فقال عمرو : والله يا معاوية ما أنت وعلي بعكمي بعير (4) ، مالك هجرته
____________
( 1 ) في الأصل : « تستوي » والوجه ما أثبت .
( 2 ) وقد تقرأ : « لحظا » باللام الداخلة على : « حظا » ، وانظر ما سيأتي في كلام عمرو لمعاوية ص 38 س 2 .
( 3 ) يعني عثمان بن عفان .
( 4 ) يقال : هما كعكمي البعير ، للرجلين يتساويان في الشرف . والعكمان : عدلان يشدان على جانبي الهودج بثوب . وفي اللسان ( 15 : 309 ) وأمثال الميداني ( 2 : 289 ) والحيوان ( 3 : 10 ) : « كعكمي بعير » .

( 38 )

ولا سابقته ، ولا صحبته ولا جهاده ، ولا فقهه وعلمه . . والله إن له مع ذلك حدا وجدا (1) ، وحظا وحظوة ، وبلاء من الله حسنا ، فما تجعل لي إن شايعنك على حربه ، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر ؟ قال : حكمك . قال : مصر طعمة . قال : فتلكأ عليه معاوية .
قال نصر : وفي حديث غير عمر قال : قال له معاوية : يا أبا عبد الله ، إني أكره أن يتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا . قال : دعني عنك . قال معاوية : إني لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت . قال عمرو : لالعمر الله ، ما مثلي يخدع ، لأنا أكيس من ذلك . قال له معاوية : ادن مني برأسك أسارك . قال : فدنا منه عمرو يساره ، فعض معاوية أذنه وقال : هذه خدعة ، هل ترى في بيتك أحدا غيري وغيرك ؟ (2)
ثم رجع إلى حديث عمر (3) ، قال : فأنشأ عمرو يقول (4) :
____________
( 1 ) الحد : الحدة والنشاط والسرعة في الأمور والمضاء فيها . والجد ، بفتح الجيم : الحظ . وبالكسر : الاجتهاد . وفي الأصل : « وحدودا » ولا وجه له . وفي ح : « ووالله إن له مع ذلك لحظا في الحرب ليس لأحد من غيره ، ولكني قد تعودت من الله تعالى إحسانا وبلاء جميلا » .
( 2 ) قال ابن أبي الحديد بعد هذا : « قلت : قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى : قول عمرو له : دعنا عنك ، كناية عن الإلحاد بل تصريح به . أي دع هذا الكلام الذي لا أصل له فإن اعتقاد الآخرة وأنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات . قال رحمه الله : وما زال عمرو بن العاص ملحدا ما تردد قط في الإلحاد والزندقة ، وكان معاوية مثله . ويكفي من تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي ، وأن معاوية عض أذن عمرو . أين هذا من أخلاق علي عليه السلام وشدته في ذات الله ، وهما مع ذلك يعيبانه بالدعابة » .
( 3 ) يعني عمر بن سعد الراوي .
( 4 ) في الأصل : « فأنشأ وهو يقول » ، صوابه في ح .

( 39 )

مــعاوي لا أعطيك ديني ولم أنل * بذلك دنيا (1) فانظرن كيف تصنع
فــان تعطني مصرا فأربح بصفقة * أخذت بها شيخا يضـر وينــفع
وما الدين والدنـيا ســواء وإنني * لآخذ ما تـعـطــي ورأسي مقنع
ولكني أغضـى الجــفون وإنني * لأخدع نفـسي والمخــادع يخدع
وأعطيك أمـرا فيه للمــلك قوة * وإني به إن زلت النعل أضرع (2)
وتمنعني مصرا وليست برغبة (3) * وإني بـذا المــمنوع قدما لمولع

قال : أبا عبد الله ، ألم تعلم أن مصرا مثل العراق ؟ قال : بلى ، ولكنها إنما تكون لي إذا كانت لك ، وإنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق وقد كان أهلها بعثوا بطاعتهم إلى علي . قال : فدخل عتبة بن أبي سفيان فقال : أما ترضى أن نشتري عمرا بمصر إن هي صفت لك . فليتك لا تغلب على الشام . فقال معاوية : يا عتبة ، بت عندنا الليلة . قال : فلما جن على عتبة الليل رفع صوته ليسمع معاوية ، وقال :

أيها المانع سيفا لم يهز * إنما ملت علي خز وقز (4)

____________
( 1 ) ح ( 1 : 137 ) : « ولم أنل به منك دنيا » .
( 2 ) ح : « وألفي به أن زلت النعل أصرع » .
( 3 ) في الأصل : « ولست نزعته » والصواب من ح . قال ابن أبي الحديد تعليقا على هذا البيت : « قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ : كانت مصر في نفس عمرو بن العاص لأنه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر ، فكان لعظمها في نفسه وجلالتها في صدره وما قد عرفه من أموالها وسعة الدنيا لا يستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه » .
( 4 ) القز من الثياب أعجمي معرب ، وهو الذي يسوى منه الإبريسم . وفي الأصل : ( بز ) ، والبز : الثياب ، أو ضرب منها . وأثبت ما في ح .

( 40 )

إنما أنت خروف مــاثل (1) * بين ضــرعين وصوف لم يجز
أعط عـمرا إن عمــرا تارك * دينه اليـوم لــدنيا لم تحز (2)
يا لــك الخـير فخذ من دره * شخبــه الأولـى وأبعد ما غرز
واسحب الذيل وبادر فوقها (3) * وانتهــزها إن عمــرا ينتهز
أعطه مصــرا وزده مثلهــا * إنما مصـر لمــن عز وبــز
واترك الحرص عليها ضــلة * واشبب النـار لمقرور يكز (4)
إن مـصـــرا لعلى أو لـنا * يغلب اليوم عليها من عجز (5)

فلما سمع معاوية قول عتبة أرسل إلى عمرو وأعطاها إياه . قال : فقال له عمرو : ولي الله عليك بذلك شاهد ؟ قال له معاوية : نعم لك الله على بذلك ، لئن فتح الله علينا الكوفة . قال عمرو : ( والله على ما نقول وكيل ) . قال : فخرج عمرو ومن عنده فقال له ابناه : ما صنعت ؟ قال : أعطانا مصر [ طعمة ] . قالا : وما مصر في ملك العرب ؟ قال : لا أشبع الله بطونكما إن لم يشبعكما مصر . قال : فأعطاها إياه ، وكتب له كتابا ، وكتب معاوية : « على أن لا ينقض شرط طاعة » ، وكتب عمرو : « على ألا تنقض طاعة شرطا (6) » . وكايد كل
____________
( 1 ) ماثل : قائم . وفي الأصل وح : « مائل » .
( 2 ) في الأصل : « لم تجز » والصواب من ح .
( 3 ) الفوق ، بالضم ، هنا : الطريق الأول .
( 4 ) الكزاز : داء يأخذ من شدة البرد وتعتري منه رعدة . وفي الأصل : « يكن » محرفة .
( 5 ) في الأصل : " ولنا " وأثبت ما في ح . وفي الأصل : « من عجن » تحريف .
( 6 ) في الأصل : « ولا ينقض طاعة شرطا » وأثبت ما في ح . وانظر الكامل للمبرد 184 ليبسك .

( 41 )

واحد منهما صاحبه (1) .
وكان مع عمرو ابن عم له فتي شاب ، وكان داهيا حليما (2) ، فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا عجب الفتي وقال : ألا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش ؟ أعطيت دينك ومنيت دنيا غيرك . أترى أهل مصر ـ وهم قتلة عثمان ـ يدفعونها إلى معاوية وعلي حي ؟ وتراها إن صارت إلى معاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتاب ؟ فقال عمرو : يا ابن الأخ ، إن الأمر لله دون علي ومعاوية . فقال الفتى في ذلك شعرا :
ألا يا هند أخت بني زياد * دهى عمرو بداهية البلاد (3)
رمى عمرو بأعور عبشمي * بعيد القعر مخشى الكياد (4)
له خدع يحار العقل فـيها * مزخرفة صـوائد للــفؤاد

____________
( 1 ) قال ابن أبي الحديد ( 1 : 138 ) : " تفسيره أن معاوية قال للكاتب اكتب على ألا ينتقض شرط طاعة ، يريد أخذ إقرار عمرو له أنه قد بايعه على الطاعة بيعة مطلقة غير مشروطة بشيء . وهذه مكايدة له ، لأنه لو كتب ذلك لكان لمعاوية أن يرجع في إعطائه مصرا ولم يكن لعمرو أن يرجع عن طاعته ويحتج عليه برجوعه عن إعطائه مصرا ، لأن مقتضى المشارطة المذكورة أن طاعة معاوية واجبة عليه مطلقا سواء كانت مصر مسلمة إليه أو لا . فلما انتبه عمرو على هذه المكيدة منع الكاتب من أن يكتب ذلك وقال : بل اكتب : على أن لا تنقض طاعة شرطا يريد أخذ إقرار معاوية له بأنه إذا كان أطاعه لا تقض طاعته إياه ما شارطه عليه من تسليم مصر إليه . وهذا أيضا مكايدة من عمرو لمعاوية ، ومنع له من أن يغدر بما أعطاه من مصر " .
( 2 ) الحليم : ذو الأناة والعقل . وفي ح : « وكان لعمرو بن العاص ابن عم من بني سهم أريب » . وفي الإمامة والسياسة : « وكان مع عمرو بن العاص ابن أخ له جاءه من مصر » . وانظر ما سيأتي في س 5 هذه الصفحة من قوله : « يا ابن الأخ » وما سيأتي بعد القصيدة في الصفحة التالية .
( 3 ) أراد : دهي ، فسكن آخره للشعر . وفي ح : « رمى » وكلاهما بالبناء للمفعول .
( 4 ) في الأصح وح : « محش الكباد » ، وإنما يريد أنه يخشى كيده .

( 42 )

فشرط فـي الكتاب عليه حرفا * يناديـه بــخدعته المنـادي
وأثبت مثـــله عمرو عليه * كـلا المـرأين حية بطن واد
ألا يا عمرو ما أحرزت مصرا * وما ملــت الغداة إلى الرشاد
وبعت الدين بــالدنيا خسارا * فـأنت بــذاك من شر العباد
فلو كنت الغـداة أخذت مصرا * ولكـــن دونها خرط القتاد
وفدت إلى مـعاوية بن حرب * فكـــنت بها كوافد قوم عاد
وأعطيت الذي أعـطيت منه * بطرس فيه نضح من مــداد
ألم تعرف أبـا حســن عليا * وما نالت يداه من الأعــادي
عدلت به معـاوية بن حرب * فيا بعد البياض من الســواد
ويا بعد الأصـابع من سهيل * ويا بعد الصلاح من الفــساد
أتأمن أن تراه عــلى خدب * يحث الخيل بالأسل الحداد (1)
ينـادي بالنزال وأنـت منه * بعيد فانظرن من ذا تــعادي

فقال عمرو : يا ابن أخي ، لو كنت مع علي وسعني بيتي ، ولكني الآن مع معاوية (2) . فقال له الفتى : إنك إن لم ترد معاوية لم يردك ، ولكنك تريد دنياه و [ هو ] يريد دينك . وبلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب فلحق بعلي فحدثه بأمر عمرو ومعاوية . قال : فسر ذلك عليا وقر به . قال : وغضب مروان وقال : ما بالي لا أشتري كما اشترى عمرو ؟ قال : فقال له معاوية : إنما تبتاع الرجال لك . قال : فلما بلغ عليا ما صنعه معاوية وعمرو قال :
____________
( 1 ) الخدب : الضخم من كل شيء .
( 2 ) ح : « لو كنت عند علي لوسعني ، ولكني الآن عنده » .

( 43 )

يا عجبا لقد سمعـــت منـكرا * كذبـا علـى الله يشـيب الشــعرا
يسترق السمع ويغــشى البصرا * ما كــان يرضــى أحمد لو خبرا
أن يقرنوا وصيـــه والأبتـرا * شاني الرسول واللعين الأخزرا (1)
كلاهمــا فـي جنـده قد عسكرا * قد باع هــذا دينـه فأفجرا (2)
من ذا بدنيـا بيعــه قـد خسرا * بملك مصر أن أصاب الظفرا (3)
إني إذا الموت دنــا وحضــرا * شمرت ثوبي ودعوت قـنبرا (4)
قـدم لوائي لا تـؤخـر حــذرا * لن يدفع الحذار ما قد قــدرا (5)
لما رأيت المـــوت موتا أحمرا * عبأت همــدان وعبوا حــميـرا
حي يمان يعظمـون الخطـــرا * قرن إذا نــاطح قرنا كـــسرا
قل لابن حرب لا تدب الخمرا (6) * أرود قــليلا أبد مـنك الضـجرا
لا تحسبني يا ابن حرب غمرا (7) * وسل بنا بـدرا مـعـا وخيــبرا

____________
( 1 ) يعني بالأبتر العاص بن وائل ، والد عمرو بن العاص ، وفيه نزل قول الله : ( إن شانئك هو الأبتر ) . وبالأخزر عمرو بن العاص ، وكأنه كان أخزر ينظر بمؤخر عينيه .
( 2 ) أفجر : كذب ، أو عصى ، أو كفر . ومثله فجر .
( 3 ) ح : « بيعة قد خسرا » .
( 4 ) قنبر بفتح القاف والباء : مولى علي . وإليه ينسب المحدثان العباس بن الحسن وأحمد ابن بشر القنبريان .
( 5 ) الحذار : الحذر . وفي الأصل : « لن ينفع » صوابه في ح .
( 6 ) الخمر ، بفتح الخاء المعجمة والميم : ما واراك من الشجر والجبال ونحوها . والدبيب : المشى على هينة . يقال للرجل إذا ختل صاحبه : هو يدب له الضراء ، ويمشي له الخمر . وفي الأصل : « لا ندب الحمرا » والكلمتان محرفتان ، والصواب في ح . والإرواد : الإمهال .
( 7 ) الغمر ، بتثليث أوله وبفتح أوله وثانيه : من لم يجرب الأمور . وفي الأصل : « عمرا » محرف .

( 44 )

كانت قريش يوم بدر جزرا (1) * إذ وردوا الأمر فذموا الصدرا
لو أن عندي يابـن حرب جعفرا * أو حمزة القرم الهمام الأزهرا
رأت قريش نجم ليل ظهرا

نصر : محمد بن عبيد الله ، عن الجرجاني قال : لما بات عمرو عند معاوية وأصبح أعطاه مصر طعمة له ، وكتب له بها كتابا وقال : ما ترى ؟ قال : أمض الرأي الأول . فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب [ محمد ] بن أبي حذيفة فأدركه فقتله ، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه . ثم قال : ما ترى في علي ؟ قال : أرى فيه خيرا ، أتاك في هذه البيعة خير أهل العراق ، ومن عند خير الناس في أنفس الناس ، ودعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد ، ورأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي ، وهو عدو لجرير المرسل إليك ، فأرسل إليه ووطن له ثقاتك فليفشوا في الناس أن عليا قتل عثمان ، وليكونوا أهل الرضا عند شرحبيل ؛ فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب ، وإن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشيء أبدا (2) .
فكتب إلى شرحبيل : « إن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي ابن أبي طالب بأمر فظيع ، فاقدم » . ودعا معاوية يزيد بن أسد ، وبسر بن أرطاة ، وعمرو بن سفيان ، ومخارق بن الحارث الزبيدي ، وحمزة بن مالك ، وحابس بن سعد الطائي ـ وهؤلاء رءوس قحطان واليمن ، وكانوا ثقات معاوية وخاصته ـ وبني عم شرحبيل بن السمط ، فأمرهم أن يلقوه ويخبروه أن عليا قتل عثمان . فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل وهو بحمص استشار أهل
____________
( 1 ) الجزر بفتحتين : اللحم الذي تأكله السباع ، يقال تركوهم جزرا إذا قتلوهم .
( 2 ) في الأصل : « وإن تعلق يقلبه لم يخرجه شيء أبدا » ، وأثبت الصواب من ح .

( 45 )

اليمن فاختلفوا عليه ، فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي ، وهو صاحب معاذ بن جبل وختنه (1) ، وكان أفقه أهل الشام ، فقال : يا شرحبيل بن السمط ، إن الله لم يزل يزيدك خيرا مذ هاجرت إلى اليوم ، وإنه لا ينقطع المزيد من الله حت ينقطع الشكر من الناس ، ولا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . إنه قد ألقى إلينا قتل عثمان ، وأن عليا قتل عثمان (2) ، فإن يك قتله فقد بايعه المهاجرون والأنصار ، وهم الحكام على الناس ، وإن لم يكن قتله فعلام تصدق معاوية عليه ؟ لا تهلك نفسك وقومك . فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلى علي فبايعه على شامك وقومك (3) . فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية ، فبعث إليه عياض الثمالي (4) ، وكان ناسكا :

يا شرح يا ابـن السمط إنك بالغ * بود علي ما تـريد من الأمر (5)
ويا شرح إن الشام شامك ما بها * سواك فدع قــول المظل من فهر
فإن ابن حرب ناصب لك خدعة * تكون علينا مثل راغية البكر (6)

____________
( 1 ) عبد الرحمن بن غنم ، أحد الرجال المختلف في صحبتهم للرسول . ومات سنة 78 . انظر الإصابة 5173 و 6371 . في الأصل : « وحنثه » وإنما هي « وختنه » كما جاء في ح .
( 2 ) بدلها في ح : « إنه قد ألقى إلى معاوية أن عليا قتل عثمان ، ولهذا يريدك » .
( 3 ) ح : « عن شامك وقومك » .
( 4 ) الثمالي : نسبة إلى ثمالة ، بطن من بطونهم . وفي الأصل : « اليماني » صوابه في ح ومعجم المرزباني 269 . قال المرزباني : « شامي . يقول لشرحبيل بن السمط لما بويع معاوية . . . » وأنشد بعض أبيات القصيدة التالية .
( 5 ) شرح : مرخم شرحبيل ، وهذا بضم الشين وفتح الراء وسكون الحاء ، ولكنه سكن الراء للشعر . وفي الأصل : « شرخ » بالخاء صوابه في ح .
( 6 ) الراغية : الرغاء . والبكر ، بالفتح : ولد الناقة . انظر أمثال الميداني ( 2 : 78 ) . وهذا مثل يضرب في التشاؤم ، يشار به إلى ما كان من رغاء بكر ثمود حين عقر قدار ناقة صالح فأصاب ثمود ما أصاب . انظر ثمار الفلوب 282 والمفضليات ( 2 : 195 طبع المعارف ) .