71
تفوح فيها رائحة الفردوس .
    لم يكد رجاء يستوي في جلسته حتى قدّم رسالة مختومة من المأمون ، فضها الامام والقى نظرة وعلت جبينه مسحة من الحزن ، كان ضوء القنديل كافياً لكي يكتشف رجاء في وجه علي عمق محنته ، تظاهر بالبشر :
    ـ هنيئاً لك يا سيدي .
    أجاب الامام وهو ينظر الى الأفق البعيد :
    ـ لا تفرح إنّه شيء لا يتم !
    واعتصم رجاء بالصمت فهذا العلوي يختلف كثيراً عما صادفه من أولئك الثائرين إنّه أمام رجل يقرأ صفحات غامضة من المستقبل بل لعلّه يدرك ما يموج في نفسه ، فرجاء يعرف نوايا المأمون وأسراراً كثيرةً من خطّته ! من أجل هذا نهض على عجل متظاهراً بالارتياح لأدائه مهمّته .
    قال وهو ينحني اجلالاً :
    ـ كل شيء سيكون جاهزاً بعد غد .
    ـ اذا كان ولابدّ ، فمكّة أولاً ثم مرو !
    ـ كما تشاء يا سيدي !


72
    واكتسى الوجه الاسمر مسحة من حزن سماوي ، ان شيئاً ما يضطرم في أعماقه... شيء ينبيء عن تمزّق جذور وردة في أعماق تربة طيّبة .
    ليس هناك ما هو أكثر مرارة من اجتثاث شجرة من جذورها... هكذا كان حزن الرجل الذي مسّته السماء ، ان جذوره في هذه الأرض الطيبة تمتد الى عشرات السنين الى تلك اللحظة التي حطّ رسول السماء قدمه في يثرب..
    ما تزال آثار جبريل في هذه الربوع.. مبارك نخلها ، ومسجدها وجبلها الحبيب 43 .
    وانطوى علي على فجيعته ، وكان قنديل يلفظ آخر أنواره الواهنة .
    لم يكن الرجل المدني قد انتبه من استغراق عميقة عندما ولج الحجرة صبي في السابعة من عمره 44 ؛ كان يحمل إناءً فيه زيت فالقنديل على وشك أن يخبو وينطفئ ، وراح « محمد » يسكب الزيت في القنديل... وتنفس الضوء ، واتسعت دائرة النور أكثر فأكثر .
    وانتبه الأب الى وجود ابنه ، الذي ولج الحجرة على اطراف اصابعه احتراماً لاستغراقة والده .


73
    نهض الأب وقد تألفت في سماء عينيه عشرات النجوم .
    ـ مرحباً بأبي جعفر .
    وانحنى الإبن مقبّلاً يد والده ، الذي لم يترك له الفرصة فاحتضنه كما تحتضن الأوراق برعماً يستقبل الربيع .
    كان القنديل قد استعاد شبابه وراح يرسل نوره ويشيع قدراً من الدفء في الحجرة الصغيرة .
    قال الأب وقد مضى شطر من الليل :
    ـ تهيّأ يا ولدي للرحيل .
    ـ الى أين يا أبي ؟!
    ـ الى البيت العتيق .
    وأراد الصبي أن يبدد عن قلب أبيه همّاً يعتصره :
    ـ أحج أم عمرة ؟
    ـ يا أبي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين .
    ونهض محمد كما دخل على أطراف أصابعه تاركاً أباه الذي عاد الى استغراقته مرّة أخرى .


74
    من يراقب عينيه المتألقتين ، ويلاحق في غوريهما تكسّرات النور سيدرك سرّ ذلك الحزن السماوي ؛ لكأن ذهنه المتوقد يسبح في الآفاق البعيدة ، الى طوس حيث يستنشق « جابر » بن حيان الكوفي 45 آخر انفاسه في المساء ، والى حيث صلب « أبي السرايا » على الجسر ببغداد ، والى ضفاف دجلة حيث جلس « معروف الكرخي » 46 يتأمل الأمواج المتدافعة ويودّع الدنيا .
    بل لعلّه يراقب « معركة النهر » على شواطئ « أرون » أو يهوي في بطون الأدوية مع أخيه « إبراهيم » الذي فرّ الى اليمن وانقطعت أخباره .
    إنّ أحداً لا يعرف هموم الرجل المدني... هموم بثقل جبال « تهامة » و« الحجاز » و« نجد » .
    فهناك في مرو تنسج العنكبوت بيتاً هو أوهن البيوت 47 .


75
9
    بدت المدينة ذلك الصباح الغائم اشباحاً ، فقدت البيوت ظلالها ، وغمرت الأزقة كآبة... خاصّة ذلك الزقاق حيث بركت النوق لتحمل الذين أزمعوا الرحيل قهراً .
    ولج الرجل الذي يخطو نحو الخمسين مسجد النبي ومعه ابنه يتبعه كظلّه ، كانت السماء تنوء بالغيوم ، ودموع تتجمع في عيني الرجل المدني .
    وقف إزاء القبر الذي يضم آخر الانبياء ، مثل غيمة حزينة بدا الرجل الذي يرتدي ثياباً بيضاء .
    الذين حضروا اللقاء بهرتهم دموع حفيد محمد ! لكأن الحزن ساقية تنساب في خريف الزمن... كان علي يستنشق


76
عبير النبوّات ، تماسك لينهض ، وخطا خطوة للوراء ثم هوى الى المكان الطاهر مرّة أخرى ، لكأن جذوره في تلك التربة حيث أغمض عينيه محمد بسلام .
    وتقدّم رجل من سجستان :
    ـ هنيئاً لك يا سيّدي ما تصير اليه .
    ـ ذرني.. فأني أخرج من جوار جدّي فأموت في غربة 48 وذهل الرجل ، وانبعث في اعماقه قرار بأن يرافق الرجل ليرى بنفسه كيف تتحقق النبوءات .
    وضع محمد كفه الصغيرة الدافئة على كتف أبيه ، ونهض الأب لكأن دماءً جديدة تنبعث في أعماقه ، وأملاً يتجدّد في كيانه .
    كانت فاطمة تراقب ما يجري ، وشيء ما يشدّها الى شقيقها ليست مشاعرة الأخوّة فقط ، بل أنها تعيش فجيعة يُتْمها قبل عشرين سنة يوم أخذو أباها ولم يعد ، وتوفيت أمّها وهي لم تزل طفلة بعد .
    وقفت فاطمة وقد تجسّدت أمامها فجائع الزمن الرديء كيف يُختطف أحبّتها لكأن السنين والأيام ذئاب مجنونة تتخطّف ما شية أحلامها ، وهي ترعى في الوادي الأخضر


77
بسلام .
    وتفجّر غضب مقدّس في قلبها.. في ذلك الجزء النابض الذي يختصر العالم بأسره .
    ونهض الامام يمس المرقد الطاهر بكفّه ويحتضن ابنه وقد آتاه الله الحكم صبياً :
    ـ أمرت جميع وكلائي ، وحشمي بالسمع والطاعة لك ، وقد عرّفتك لأوثق اصحابي 49 .
    نهضت النوق ، وانتظمت القافلة ، وقد يممت سفن الصحراء وجوهها جنوباً شطر المسجد الحرام .
    وعندما اجتازت القافلة ثنيّات الوداع قال الرجل المدني لابنه وهو يحاوره :
    ـ « صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله » 50 .
    « افضل العقل معرفة الانسان نفسه » 51 .
    « من علامات الفقه : الحلم والعلم والصمت : ان الصمت باب من أبواب الحكمة... ان الصمت يكسب المحبّة... انه دليل على كلَّ خير » 52 .
    وتقدّم ياسر وكان يعمل خادماً فسمع الامام يقول :


78
    ـ « أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواضع : يوم ولد الى الدنيا ، ويخرج المولود من بطن امّه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ويوم يبعث فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ويوم يبعث فيرى أحكاماً لم يرها في الدنيا ، وقد سلّم الله على يحيى في هذه المواطن وآمن روعته فقال : « وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا » 53 .
    وهبّت نسائم شمالية حملت دندنة راع يشكو الزمان .
    وراحت القافلة تطوي الصحراء حتى إذا وصلت « غدير خم » القى المسافرون رحالهم قريباً من عين ينبجس ماؤها من أسفل صخرة ثم يسيل في واد فسيح ، وقد نبتت بعض أشجار النخيل اثر توقف المسافرين وتناولهم التمر في الوادي 54 .
    أشرق القمر بدراً من فوق الربى البعيدة ، وأشار الرجل الذي يخطو نحو الخميس باصبع سمراء :
    ـ ذلك موضع قدم رسول الله حيث قال : « من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » 55 .
    وانبعثت الذكريات ، وغمرت المسافرين حالة من الخشوع لكأنهم يسمعون هتاف رسول السماء في هذا المكان . ما تزال الكلمات المقدّسة تدور في الفضاء ، ما يزال شذى جبريل وهو يتلو كلمة الله : « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت


79
عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا » 56 .
    والتفت علي الى شقيقته التي كانت تنظر الى القمر وقد استقر فوق الروابي البعيدة :
    ـ لقد سمعت أبي يروي عن جدّي الصادق : « ان لله حرماً وهو « مكّة » وان للرسول حرماً وهو « المدينة » وان لأميرالمؤمنين حرماً وهو « كوفة » و إن لنا حرمّا وهو بلدة اى « قم » ، وستدفن امرأة من أولادي تسمى فاطمة من زارها فله الجنّة » .
    ونظر الصبي الى عمته كانت ما تزال تتأمل القمر وقد استغرقت في حالة تشبه الصلاة ، وقد جمدت في مكانها فيما كانت نسائم المساء تداعب اطراف ثوبها الذي يلامس سمرة الصحراء .
    وفي تلك البقعة المباركة من دنيا الله انبثق شلال من الصلاة ، وكانت كلمات الحمد والثناء لله خالق الأرض والسماء ، تتألق في ظلمة الغروب الحالمة ، وشيئاً فشيئاً ظهرت النجوم في السماء .
    وانصرف بعضهم الى جمع الحطب ، وكان صوت تكسّر الاغصان الجافّة يكسر معه صمت الليل .
    ولم يمض غير وقت قصير حتى أضاء في الظلمة


80
موقدان ؛ موقد للطبخ وآخر للنور والدفء وانطلق صبية الى كثيب رملي نحتته الرياح ، ليتخذوا منه مسرحاً للهو بريء .