111
    ـ « إذا كانت هذه الخلافة لك فلا يجوز أن تخلع لباساً البسكه الله ، وتجعله لغيرك ، واذا كانت لغيرك فلا يجوز أن تجعل لي ماليس لك » !!
    وبذل المأمون جهداً جبّاراً للسيطرة على عواطفه ان هذا العلوي يغوص في أعماقه ، عضّ على أسنانه وقال وهو يتميّز غيظاً :
    ـ لا بدّ لك من قبول هذا الأمر !!
    ـ لن أفعل ذلك طائعاً 76 .
    وانتهت أولى المباحثات بالفشل ، وخرج الفضل ، يقلّب كفّيه ويتظاهر بالدهشة :
    ـ واعجباً رأيت الميمون يفوّض أمر الخلافة الى الرضا ، ورأيت الرضا يقول : لا طاقة لي بذلك ولا قدرة لي عليه ، فما رأيت خلافة قط كانت اضيع منها » ؟!!
    كان الفضل يعلم في قرارة نفسه ان المأمون لم يكن جادّاً في عرض الخلافة ، وكيف يفرّط في مركز خطير قطع رأس أخيه من أجله بالأمس القريب ؟!
    وتمرّ ليالي كانون باردة ، تجوس خلال الأزقّة في مرو ،


112
وانفكأ المأمون يخطط ، لمستقبله المجهول ، أنه يخشى رئيس وزارته ، ذلك الفارسي الذي يعرف كيف يجعل من خراسان بركاناً لا يهدأ..
    وفي تلك الليلة الشتائية وفيما كان المأمون ووزيره الأول يلعبان الشطرنج قال المأمون وهو يتظاهر بالودّ :
    ـ لقد خدمت الدولة يا أباالعباس ورأيت أن أزوّجك ابنتي لم يتمالك الفضل أعصابه ، وسقط بيدق من يده ولكنه قال :
    ـ انها في عمر حفيدتي !!
    ـ وما الضير في ذلك ؟
    ـ ثم أنه مخالف للتقاليد... الناس يستهجنون تزويج بنات الخلفاء من غير ذي قرباهم ؟؟
    ـ وهذا أيضاً ليس مهمّاً... ألم اغير الزيّ من الأسود الى الأخضر ؟.. لا لا... ليس ذلك مهماً .
    انتفض الفضل وشعر بالرعب.. ان المأمون لا يفكر بمستقبل ابنته انه يريد فقط أن يزرع جاسوساً في منزله... هتف باصرار فيه خوف :
    ـ لو صلبتني ما فعلته 77 !


113
    نهض الفضل مستأذناً ، وعندما غادر القصر دخل الرجلان ، جلسا بعد أن أدّيا تحية الاحترام .
    التفت المأمون الى أحدهما وهمس له بكلمات وكان الرجل ينحني تملّقاً وانحطاطاً .
    والتفت الى الآخر وتمتم معه بكلمات فيها ايجاز وانتهى المشهد في لحظات.. لم يكن أحد يدري طبيعة تلك الكلمات في تلك اليلة الشتائية القارسة البرد .
    ولكن شائعات انتشرت في اليوم التالي حول رجل سأل علي بن موسى الرضا عن الغناء فاحلّه له ، وشائعة أخرى ؛ ان الرضا يقول : انما الناس عبيد لنا 78 !
    وفي تلك الليلة أوى الامام الى فراشه وصوت يتهدج بحزن يقول :
    ـ « اللهم إن كان فرحي مما أنا فيه بالموت فعجّل لي الساعة » 79 .
    وكانت الظلمة تشتدّ ، وظهرت شهب تخطف في أعالي السماء ، وبدت النجوم تومض كقلوب واهنة .


114
16
    انطوت أيّام جمادي وجاء رجب ترافقه رياح شباط البارد تجوس خلال الديار .
    ولم يكن المأمون ليفكّر في شيء قدر ما كان يفكر في موقف علي بن موسى ، فيما يزال يرفض عروض المأمون .
    أصبحت هذه المشكلة هاجسة الوحيد ، فلم يكن ليفكر في ثورة الزنوج التي اندلعت في أهوار البصرة بقدر مايفكّر في تقارير وصلته عن تحركات بها زيد بن موسى أخي الرضا في مدينة البصرة .
    ولم يكن ليولي أهمّية لاخبار عن ثورة بابك الخرّمي وإعلانه العصيان في اقليم آذربيجان وتحالفه مع الامبراطور


115
البيزنطي « ميخائيل الثاني » .
    ان ما يشغل باله هو كيف يقنع الرجل العلوي ، ها هو قادم اليه ولكنه لا يدري ماذا يفعل وقد فضل هذه المرّة الّا يطلع وزيره الفضل على ما يجري .
    عندما أخذ علي مكانه قرب الخليفة ، كان المأمون قد تصنّع ابتسامة تخفي وراءها حقداً مستعراً.. حقداً يتأجج بالرغم من البرد الشديد الذي أحال اشجار الرمّان الى مجرّد اعواد يابسة وبدأ المأمون حديثه عن الطقس :
    ـ ما أبرد شباط ؟! مضى اليوم منه وبقي تسع وعشرون .
    تبسّم الامام وقال :
    ـ شباط ثمانية وعشرون يوماً.. تختلف فيه الرياح ، وتكثر الأمطار ويظهر العشب ، ويجري فيه الماء في الأغوار ، وينفع فيه أكل الثوم ، ولحم الطير والفاكهة ، ويقلل من أكل الحلاوات ويُحمد فيه كثرة الحركة والرياضة » 80 .
    كان المأمون يصغي الى حديث الامام الدافئ ، ولكنّه انتبه الى نفسه ، فتظاهر بانه يسوّي ثيابه وتنحنح بعد أن وضع باطن كفّه على فمه ، لكأنه يحاول أن يتحرّر من تأثير الانسان الذي يجلس قربه ويشع منه نور عجيب... نور يحاول النفوذ


116
الى قلبه الصخري .
    قال المأمون :
    ـ يا أبا الحسن لا عذر لك في رفض ولاية العهد بعد أن رفضت الخلافة... وأنت تعرف اني لا أريد سوى مصلحة الأمة 81 .
    أجاب الامام :
    ـ إنّي لا رغبة لي في هذا الأمر .
    لم يستطع المأمون أن يتحمّل اكثر من ذلك :
    ـ أشكّ في صدقك... ولا أنخدع بما تتظاهر من زهد...
    هتف الامام بألم :
    ـ والله ما كذبت منذ خلقني ربّي ، وما زهدت في الدنيا للدنيا... وإني لأعلم ما تريد !
    انتفض المأمون كمن سعلته عقرب :
    ـ وما أريد ؟!
    ـ تريد بذلك أن يقول الناس : ان علي بن موسى لم يزهد في الدنيا ، بل زهدت الدنيا فيه ، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة ؟!


117
    انفجر المأمون غيظاً :
    ـ انك تتلقاني أبداً بما اكرهه ، وقد أمنت سطوتي ، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد ، والا اجبرتك على ذلك فإن فعلت ، والا اجبرتك على ذلك فإن فعلت ، والا ضربتُ عنقك »!
    وساد صمت مهيب ، وكان المأمون ما يزال متحفّزاً كذئب واعتصم الامام بصمت الأنبياء ، ثم تكلّم بهدوء ، وكان ايقاع كلماته يعكس ما يموج في قلبه من أحاسيس ، نظر باتجاه السقف ولكن عيناه كانتا تخترقان الحجب وتهدّج صوته :
    ـ اللهم انك قد نهيتني من الالقاء بيدي الى التهلكة ، وقد أُكرهت وأُضطررت كما اضطرّ يوسف...
    اللهم لا عهد الاعهدك ، ولا ولاية لي الا من قبلك ، فوفقني لإقامة دينك ، واحياء سنّة نبيّك محمد ، فانك أنت المولى وأنت النصير » 82 .
    هتف المأمون مسروراً .
    ـ واخيراً قبلت ؟!
    ـ ان لي شروطاً .
    ـ ؟!


118
    ـ لا أعين أحداً .
    لا أعزل أحداً .
    لا أنقض رسماً .
    وإنّما أكون مشيراً في شؤون الدولة من بعيد 83 .
    ـ لك ذلك .
    ونهض الامام وهو يتمتم :
    ـ إنّا لله وإنّا إليه راجعون... « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، إن الحكم الا لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين » 84 .
    وفي تلك الليلة تجمعت الدموع في عيني الامام 85 كغيوم ممطرة ، إنّه يدرك الاعيب ثعلب بني العباس يعرف كل أهدافه ونواياه... ولكن هيهات لن يحصد من ذلك الا ندماً .
    وفي تلك الليلة سهر المأمون يسطّر وثيقة ولاية العهد ولتنسج العنكبوت آخر خيط في بيتها الواهن .


119
17
    أطلّ رمضان بوجهه الكريم ، وبدت السماء أكثر شفافية ، والأشياء أكثر رقّة ، والنفوس أسرع تأثراً ، وقد طبعت السكينة دنيا الناس ، وبدت العيون أكثر روحانية واختفت في أغوارها السحيقة ما ينعكس فيها من رغبات مجنونة وشهوات...
    أمّا قصر الخلافة فقد كان غارقاً في ضجيج وحركة لم يعهدها من قبل... فقد تكامل وصول رجال الدولة ، وكان المأمون قد دعا الى اجتماع مصيري بعد أن أكمل إعداده لوثيقة ولاية العهد .
    بدا المأمون سعيداً وكان يتصوّر في أعماق نفسه بأنّه قد أحرز نصراً مؤكداً... والى جانبه كان الامام بوجهه الهادئ ،


120
وعينيه اللتين تشعّان رحمة ويشوب نورهما حزن لا يعرف سرّه ، فيما سرد الوجوم بقية رجال الدولة وفي طليعتهم رئيس الوزراء الفضل بن سهل ونجله الفضل والقاضي يحيى بن أكثم ، وبشر بن المعمر وحماد بن النعمان .
    نهض المأمون وبيده جلد غزال ملفوف بعناية فنشره ليقرأ ونهض الجميع إجلالاً :
    ـ بسم الله الرحمن الرحيم... « هذا كتاب كتبه عبدالله بن هارون الرشيد أمير المؤمنين لعلي بن موسى بن جعفر »... لم يزل أمير المؤمنين منذ أن أفضت إليه الخلافة فاختبر بشاعة مذاقها وثقل محملها... فأنصب بدنه وأسهر عينه... مختاراً لولاية عهده... في أهل بيته من ولد عبد الله بن العباس ، وعلي بن أبي طالب... فكان خيرته في البيتين جميعاً : علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب » 86 .
    وخشعت القلوب للأسماء المقدّسة في شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وكان المأمون يضغط على الكلمات لتكون واضحة مفهومة خاصّة عندما وصل المقطع الأخير :
    ـ وسمّاه الرضا إذ كان رضا عند أمير المؤمنين