161
المأمون يهدف من وراء زجّ الامام في مراسم كهذه الى اظهاره كرجل من رجال الدولة ، فلعلّ مظاهر الأبهّة تخدع الامام ، وتصرعه ، وكان له هدف آخر أن يقرن ظهوره بالقحط والجوع الذي أطلّ برأسه المخيف على الناس ، خاصّة وقد بدأ بعض المغرضين ينفثون سمومهم وكانوا يُرجفون بان انقطاع المطر حصل بسبب تولّي الرضا ولاية العهد .
    طلعت الشمس ، ظهر طرفٌ من القرص المتألق الذي يشبه سبيكة ذهب ، واحتشد افراد الجيش أمام منزل الامام ليحفّوا موكبه الى حيث تقام صلاة العيد في الهواء الطلق .
    وكانت أسطح المنازل المطلّة والقريبة من المنزل تكتظُّ بالجماهير التي كانت تنتظر طلعة الامام .
    كان الرجل الذي يحمل ميراث الانبياء قد اغتسل ، وبعض قطرات الماء تتألق فوق جبنيه المضيء ، واستكمل ارتدائه ثياباً بيضاء بلون حمائم السلام.. واعتم بعمامة بيضاء وقد أرخى طرفها الأول فوق صدره والطرف الآخر بين كتفيه ، وطلب من مواليه أن يفعلوا مثله ، وأن يقتدوا بحركاته عندما يخرج الى الصلاة .
    أمسك بعكّازة وغادر المنزل حافياً... وفوجئ الجميع


162
بطلعته البسيطة.. ثياب بيضاء ناصعة قصيرة ، وخلفه رجال يرتدون مثل هيئته !!
    وقف الامام عند عتبة الباب وهتف عالياً وهو ينظر الى السماء الزرقاء :
    ـ الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر .
    الله أكبر على ماهدانا...
    الله أكبر على ما رزقنا...
    الحمد لله على ما أولانا...
    وردد الرجال خلفه الكلمات المقدسة .
    وبدأ الموكب العجيب يشق طريقه بين صفين طويلين من الجنود .
    قطع الامام عشر خطوات ، وتوقف ليردّد كلمات الثناء والحمد لله رب العالمين .
    وراحت الجماهير تردّد كلمات التكبير ، وقفز القادة والجنود بأنفسهم من فوق الخيول ، وكان أحسنهم حالاً من عنده سكين ليقطع أربطة حذاءه وليحتفي .
    لا أحد يعرف سرّ البكاء سرّ الدموع.. هل هي دموع فرح أم دموع شوق الى هويّة فقدت منذ زمن بعيد.. وربّما تصور


163
بعضهم أن رسول الله قد بعث الى الحياة ها هو الرجل المدني يجسّد ثقافة الاسلام الحقيقية ؛ البساطة الخشوع لله ، التواضع ، ليسجّل تناقضه مع كل مظاهر الابهة والتسلّطة وقهر الآخرين .
    وكان صوت الامام ما يزال يدوّي في فضاء العاصمة :
    ـ الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر .
    ـ الله أكبر على ما هدانا...
    الله أكبر على ما رزقنا...
    الحمد لله على ما أولانا...
    وبدت السماوات والجبال تردد من ورائه كلمات التمجيد لله وتجسدت صورة رائعة عن الحج الأكبر وصعد المأمون سطح قصره ليستطلع ماذا يجري ؟!
    وجاء الفضل مذعوراً يستنجد بالخليفة .
    ـ يا أمير المؤمنين ! إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس ، وخفنا كلنّا على دمائنا 101 .
    ـ وما العمل ؟
    ـ ارجعه يا أمير المؤمنين..
    ـ الا نمهله حتى يصلّي بالناس ؟
    ـ لو انتهى الأمر بالصلاة لكان الأمر هينا .
    ـ ماذا تعني ؟


164
    ـ أنني أخشى خطبته.. لقد رأيت هيئته ورأى الناس فيه جدّه محمد .
    ـ ان ارجاعه سيثير علينا غضب الناس واستياءهم !
    ـ وفي صعوده على المنبر خطر على حياتنا !
    ـ نعم هذا صحيح اطلب منه العودة.. هذا أهون الشرّين .
    الموكب الأبيض ما يزال في طريقه الى المصلّى ، وعواطف الجماهير في ذروتها.. الحماس يعمّ الجميع فقد الجيش نظامه ، وذاب في الجماهير واصبح منظر أحذية الجنود المبعثرة معبّراً... ان حادثاً ما يوشك أن يقع !
    كان المأمون ما يزال يراقب ما يجري.. يراقب متوجساً اندفاع الجماهير نحو المصلى وهناك في نقطة المركز يوجد الرجل الذي لا يعرف أحد ما الذي سيفعله إذا وصل المصلى وما الذي سيقوله اذا ارتقى المنبر ؟!
    واقترب مبعوث المأمون من الامام :
    ـ إنّ أمير المؤمنين يقول لقد كلّفناك شططاً وإنّا لا نريد أن نتبعك . فعد الى منزلك يا سيّدي .
    وحدث لغط واستاء بعضهم من موقف المأمون .
    توقف الامام يجفف حبّات عرق فوق جبينه ، وأمر أحد


165
مواليه أن يحضر له خفّه ليعود .
    وصدرت أوامر سرّية في حث الناس على مواصلة طريقهم الى المصلى وظهر بعض القادة لاعادة استتاب الأمن والنظام .
    وأقيمت الصلاة العيد بشكل مرتبك وفوضوي..
    وفي تلك الليلة ، بعث الامام رسالة الى شقيقته فاطمة يطلب منها الالتحاق به... لك الله يا علي وحدك تقاوم كل هذه المؤامرات ، هل أردت أن تكون حسين عصرك فاحتجت الى زينب أخرى ؟
    هل اشتقت الى رؤية اختك ؟ أم أنك تعرف شوق اختك اليك ؟
    ولعلّك أحسست بالنهاية القريبة فأردت لأختك أن تكون الى جانبك في اللحظات الأخيرة ؟!
    هاهي رسالتك تطوي الصحاري في طريقها الى مدينة يثرب حيث يوجد القلب الطاهر الذي امتلأ بحبك وولائك.. قلب فاطمة...


166
23
    مضى اسبوع على حادثة صلاة عيد الاضحى وعاد الناس للحديث عن الجفاف الذي ضرب أطنابه في خراسان واصفهان والري .
    وبدأت أفواه المخبرين تنفث سمومها : ان القحط لم يحدث الا بسبب ولاية العهد.. لقد حبست السماء عنّا المطر 102 ، فكيف اذا اصبح خليفة ؟!
    وفي ذلك العالم الذي يموج بالفتن والمؤامرات ، وفيما كان ذو الرئاستين الفضل بن سهل يخطط لبدء ضربته وفيما كان المأمون هو الآخر يفكر ويدبّر للسيطرة على ولي عهده وتوظيفه لخدمة اهدافه ، والحطّ من شأنه ليكون ميسوراً خلعه


167
من ولاية العهد في الفرصة المناسبة.. في ذلك العالم الرخيص حيث يشترى الانسان ويباع الضمير بحفنة من الدراهم... في هذا العالم كان الامام يمثل نقطة السلام والنقاء .
    حتى هشام بن ابراهيم الذي كان يوماً صديقاً للامام اذا به يصبح جاسوساً عليه ينقل أخباره الى الفضل والمأمون !
    وكان المأمون وولي عهده يتمشيان خلال الاشجار التي بدا عليها شبح الذبول والجفاف ، حتى اذا انتهيا الى أطراف المدينة وبدت لهما المرتفعات البعيدة قال المأمون :
    ـ يا أبا الحسن : إني فكرت في شيء... فنتج لي الفكر الصواب فيه... فكرت في أمرنا وأمركم... في نسبنا ونسبكم.. فوجدت الفضيلة فيه واحدة.. ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولاً على الهوى والعصبيّة ؟
    نظر الامام الى الأفق البعيد وقال :
    ـ إن لهذا الكلام جواباً.. إن شئت ذكرته لك ، وإن شئت امسكت .
    أجاب المأمون بلهفة
    ـ إني لم أقل ذلك الا لأعرف ما عندك !


168
    قال الامام وهو يشير الى أكمة قريبة :
    ـ انشدك الله يا أمير المؤمنين ، لو أن الله تعالى بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام يخطب اليك ابنتك كنت مزّوجه إيّاها ؟
    اجاب المأمون بدهشة :
    ـ يا سبحان الله !! وهل هناك من يرغب عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟!!
    ـ أفتراه كان يحل له أن يخطب الي ؟
    وسكت المأمون... وقال بعد استغراقه صمت :
    ـ أنتم والله أمس برسول الله رحماً .
    وهبّت زوبعة أثارت الغبار ، ووجد المأمون فيها فرصة ليخبره بالأراجيف وما يذيعه البعض من ثرّهات :
    ـ فادعو الله يا أبا الحسن لينزل المطر ويعمّ الخير .
    ـ سأفعل ذلك يوم الاثنين .
    ـ لماذا يوم الاثنين ؟!
    ـ رأيت رسول الله يقول لي : يا بني انتظر يوم الاثنين.. فاخرج الى الصحراء ، واستسق فان الله تعالى سيسقيهم 103 .
    وأشار المأمون الى بعض الحرس الذين يراقبون من بعيد :


169
    ـ ادعُ لي الفضل .
    وقفز حارس ليمتطي حصاناً ، واستأنف الخليفة حديثة مع الامام :
    ـ يا أبا الحسن ما يمنعك من التدخل في شؤون الدولة.. يمكنك أن تعزل وتنصب الولاة .
    أجاب الامام بهدوء
    ـ لقد قبلت ولاية العهد بشروط.. لا آمر ولا أنهى ، ولا أعزل .
    ـ أن في الأمر والنهي لذّة السلطان !!
    ـ لقد كنت في المدينة أتردد في طرقها على دابتي ، وإنّ أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم فيصيرون كالأعمام ، وان رسائلي لنافذة في الاقطار..
    ـ ولكني لا استطيع ادارة البلاد وحدي !
    وأجاب الامام بجزم
    ـ إن بيننا شروطاً... فإن وفيت لي وفيت لك .
    وغمغم المأمون مهزوماً :
    ـ بل بل أفي لك 104 .
    وتأكد المأمون على الأقل أن الامام ليس له طموحات في الحكم والخلافة..


170
    وفي الاثناء وصل الفضل الذي هتف من بعيد :
    ـ البشرى يا أمير المؤمنين .
    ـ ؟؟!
    ـ قد فتحت جيوشنا قرى كثيرة في أطراف « كابل » .
    وابتهج المأمون .
    ورأى الامام تقديم نصيحة للخليفة الذي انتشى بالنصر :
    ـ هل سرّك فتح قرى الشرك ؟
    أجاب المأمون فوراً :
    ـ أو ليس في ذلك سرور ؟!
    وعندها قال الامام بشجاعة انسان لا يفكر الا بمصلحة الاسلام والامة :
    ـ يا أمير المؤمنين ! اتق الله في أُمة محمد.. وما ولّاك الله من هذا الأمر ، وخصّك به ، فإنك قد ضيعت أمور المسلمين وفوّضت ذلك الى غيرك ، يحكم فيها بغير حكم الله .
    وتساءل المأمون عمّا يتوجب فعله :
    ـ وماذا علي أن أفعل ؟
    واسدى الامام نصيحة مخلصة :
    ـ أرى أن تخرج من هذه البلاد ، وتعود الى مدينة آبائك