121
فبايعوا... لأمير المؤمنين وللرضا من بعده علي بن موسى على اسمه وبركته.. بيعة مبسوطة إليها ايديكم مشرعة لها صدروكم..
    وألقى المأمون نظره خاطفة على حميد بن مهران :
    ـ.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها... فسارعوا الى طاعة الله وطاعة أمير المؤمنين ، فانه الأمن ان سارعتم إليه..
    ولم ينس الخليفة الاعلان عن التاريخ :
    كتبت يوم الاثنين لسبع خلون من رمضان سنة إحدى ومئتين...
    وتقدّم المأمون بأدب متكلّف الى الامام :
    ـ اكتب بيدك بقبول العهد !
    أخذ الامام الصحيفة وشرع يكتب لكأنه يفضح كل خطط المأمون ونواياه :
    « الحمد لله الفعّال لما يشاء ، ولا مقعب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه.. يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور ، وصلاته على نبيه خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين..
    أقول وأنا علي بن موسى بن جعفر : ان أمير المؤمنين ـ


122
عضده الله بالسداد ووفقه للرشاد ـ عرف من حقنا ما جهله غيره.. فوصل أرحاماً قطعت ، وآمن أنفساً فزعت..
    وإنّه جعل اليّ عهده ، والأُمرة الكبرى ـ إن بقيت بعده ـ فمن حلّ عقدة بشدّها ، وفصم عروة أحب الله إيثاقها فقد أباح الله حريمه ، وأحل حرمه ، إذ كان بذلك زارياً على الامام ، منتهكاً حرمة الاسلام..
    بذلك جرى السالف ، فصبر منه على « الفلتات » ، ولم يعرض على العزمات خوفاً من شتات الدين ، واضطرب حبل المسلمين ، ولقرب أهل الجاهلية ، ورصد « فتنة » تنتهز وبائقة تبتدر .
    وقد جعلت الله على نفسي ـ إن استرعاني أمر المسلمين وقلّدني خلافته ـ العمل فيهم عامّة ، وفي بني العباس بن عبد المطلب خاصّة بطاعته وطاعة رسوله .
    وأن لا اسفك دماً حراماً .
    ولا أبيح فرجاً ولا مالاً .
    الا ما سفكته حدود الله ، وأباحته فرائضه .
    وأن اتخيّره الكفاة جهدي وطاقتي .


123
    وجعلت بذلك على نفسي عهداً مؤكداً يسألني الله عنه فإنه عز وجل يقول : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا .
    وإن احدثت أو غيّرت أو بدّلت ، كنت للغير مستحقاً وللنكال متعرّضاً وأعوذ بالله من سخطه ، وإليه أرغب في التوفيق لطاعته ، والحول بيني وبين معصيته في عافية لي وللمسلمين..
    و« الجامعة » و« الجفر » يدلّان على غير ذلك ، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن الحكم الا لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين..
    لكنّي امتثلت أمر أمير المؤمنين... وأشهدت الله على نفسي وكفى بالله شهيد .
    وكتبت بخطي بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه والفضل بن سهل ، وسهل بن الفضل ، ويحيى بن اكثم وبشر بن المعتمر ، وحماد بن النعمان في شهر رمضان سنة إحدى ومئتين » 87 .
    كان حميد بن مهران منحسباً الى نفسه ، وقد انتابته الهواجس ، فعلي بن موسى ليس رجلاً عادياً ، فربما يستطيع أن يستغل هذه الحادثة ويحوّلها الى ثورة يتمكّن بعدها من قلب


124
نظام الحكم ويخرج الخلافة من العباسيين الى العلويين.. والى الأبد.. ان المأمون لايعرف ماذا يفعل ، ولا يقدّر العواقب !!
    أما يحيى بن أكثم فقد اكتشف ان علي بن موسى لم يكن راضياً أبداً بولاية العهد وأنه يشكّ في نوايا المأمون والا ما معنى أن يكتب :
    « يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور » « إن بقيت بعده ».. « والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك » ؟؟
    وكان المأمون يداري بعض قلقه بابتسامة باردة ، وتظاهر بمراقبة الفضل الذي جاء دوره ليكتب :
    ـ رسم أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قراءة مضمون هذا المكتوب ظهره وبطنه بحرم سيدنا محمد عليه السلام بين الروضة والمنبر على رؤوس الاشهاد ومرأى ومسمع من وجوه بني هاشم ، وسائر الأولياء والأجناد وهو يسأل الله أن يعرف أمير المؤمنين وكافّة المسلمين الحجة به على جميع المسلمين ، وأبطل الشبهة التي كانت اعترضت آراء الجاهلين : « وما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه » .
    وجاء دور القاضي فكتب :
    ـ شهد يحيى بن أكثم على مضمون هذه الصحيفة ظهرها


125
وبطنها :
    اما حمّاد فكتب :
    ـ شهد حمّاد بن النعمان بمضمون الكتاب ظهره وبطنه .
    وقبل أن ينفض الاجتماع ، كان المأمون قد أصدر أوامره بعقد مهرجان شعبي يحضره رجال الدولة وقادة القوات المسلحة وكافة طبقات الشعب ، اضافة الى زعماء البيتين العلوي والعباسي .


126
18
    كان يوم الثلاثاء 8 رمضان سنة 201 هـ يوم عيد شعبي ، فقد شهدت الأزقة كوكبات من الفرسان والجنود بملابسهم الرسمية يتوجّهون الى الميدان استعداداً للمهرجان ، فيما إنهمك رجال البلاط والديوان في اعداد مكان يليق بالخلافة .
    اتخذ رجال الجيش وقادة الفرق العسكرية ، والجنود أماكنهم في خطين يشكّلان عند « دست » الخلافة نقطة الالتقاء ثم ينفرجان كلما يبتعدان مشكّلين مثلثاً قاعدته طبقات الشعب التي بدأت بالتوافد لاعلان بيعتها لولي العهد الجديد .
    بدأ توافد المواكب الرسمية لرجال الدولة ، وكان موكب الفضل مهيباً جدّاً أعقبه موكب المأمون الذي فاق وزيره أُبهّة ،


127
وتلا ذلك موكب ولي العهد وقد فوجئ الناس تماماً ولكنهم نهضوا إجلالاً... كان موكباً متواضعاً فقد كان الامام ممتطياً بغلة شهباء ، مطرقاً برأسه تواضعاً وبدا بحلته البيضاء رمزاً للسلام القادم .
    اتخذ المأمون مكانه على دست الخلافة الذي أُلحق بوسادتين عظيمتين لولي العهد .
    كان الامام يرتدي عمامة مورّدة متقلداً سيفاً جالساً في مكانه في سكون وطمأنينة واتزان... لم تصدر عنه أيّة حركة ، ومع ذلك ، فقد بدا نقطة المركز في ذلك التجمّع الرسمي والشعبي الواسع .
    حتى عندما تحدّ ث المأمون وأعلن ما ورد في وثيقة ولاية العهد كان معظم الناس ينظرون الى الرضا من آل محمد ، ان الذين حضروا ذلك الاحتفال لابدّ وأنهم اكتشفوا بأن سرّاً ما جعل قلوب الناس تتجه الى الامام بحب !!
    كان الامام ما يزال ساكناً ، وكانت سكينته تعكس بجلاء الهدوء المطلق في أعماقه وتركّز وجوده كلّه في نقطة ما.. نقطة لا يمكن أن تكون في الأرض أبداً .
    أومأ المأمون الى ولده العباس 88 فتقدّم ليبايع الامام ،


128
والتفت الخليفة ليقول :
    ـ ابسط يدك للبيعة !
    وفي هذه اللحظة نهض الامام بقوّة ، ورفع كفّه اليمنى عالياً مع انحناءة أخاذه باتجاه الشعب ، وهتف :
    ـ « ان رسول الله عليه السلام هكذا كان يبايع » 89 .
    ونهضت الجماهير مأخوذة بمنظره ، ورفعت أكفّها كما يفعل الإمام معلنة بيعتها ومرّت القوات المسلحة من أمام دست الخلافة وقد رفع الجنود أيديهم وتمّت مراسم البيعة... وعاد المثلث الى هدوئه مرّة أخرى وارتدى الامام بعض الأردية الرسمية التي غلُب عليها اللون الأخضر .
    وأشرقت ابتسامات الفرح ، ورأى الامام أحد مواليه ، وهو يكاد يطير فرحاً ، فأشار اليه ، وما أسرع أن امتثل أمامه ودموع الفرحة تكاد تشرق من عينيه ، همس الامام في أذنه :
    ـ « لا تشتغل قلبك بشيء مما ترى من هذا الأمر ، ولا تستبشر فإنه لا يتم » 90 :
    وفي غمرة الفرح نهض المأمون وارتقى منبراً أُعدَّ للخطابة لتكون للخطبة صفتها الدينية المقدّسة :


129
    ايها الناس جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب... والله لو قرأت هذه الأسماء على الصمّ البكم لبرأوا بإذن الله » 91 .
    وعندما نزل من المنبر طلب من الامام أن يلقي خطاباً بهذه المناسبة ونهض الامام متهجاً نحو المنبر ، وبدا الرجل العلوّي الذي يتقدم باتجاه الخمسين وقد ظهرت بعض الشيب في ذقنه... بدا في تلك اللحظات المثيرة إعصاراً من الطاقة الروحية ، وكانت الأنظار شاخصة وبدا ان الجماهير مبهورة به ، وكان المأمون يتضاءل شيئاً فشيئاً... واستوى الامام على المنبر وانسابت كلماته هادئة موجزة ومعبّرة :
    ـ أيّها الناس إن لنا عليكم حقاً برسول الله عليه السلام ولكم علينا حق به ، فإذا أديتم الينا ذلك ، وجب علينا الحق لكم » .
    وأصيب المأمون بما يشبه الصدمة ، لقد كان يتوقع مديحاً من الامام أمام الجماهير ، وها هو يسمع رسالة مركّزة ، وأن والخلافة حقاً له وميراثاً مقدساً عن رسول الله عليه السلام ، وأن وفاء الأمّة شرط أساسي !!
    وتعكّر صفو المهرجان الشعبي باحضار ثلاثة من رجال الدولة مصفّدين بالسلاسل وعرف الجميع هويّتهم فوراً ،


130
لا أحد يدري الاسباب التي دفعت بالخليفة الى احضارهم من السجن مقيدين .
    وسيقوا حُسّراً حتى وقفوا أمام دست الخلافة ، وهتف إبن عمران محذراً :
    ـ أعيذ بالله يا أمير المؤمنين أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم وخصّكم به ، وتجعله في أيدي أعداءكم ، ومن كان آباؤك يقتلونهم ويشرّدونهم في البلاد !
    عض المأمون على نواجذه وغمغم :
    ـ ابن الزانية :
    وصاح أبو يونس وهو يشير الى الامام الرضا محرّضاً :
    ـ يا أمير المؤمنين هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد !
    وكان الرجل الثالث عيسى الجلودي ، وقد امتلأ بالرعب واشتعلت في ذاكرته ما فعل بمكة والمدينة قبل عامين.. من سلب ونهب في بيوت الطالبين !
    ورأى الامام الرعب يطلّ من عيني الجلودي فمال على الخليفة يتوسّط له بالعفو.. ولكن الرجل ظن أن الامام يحرّض عليه فهتف متوسّلاً :