131
ـ يا أمير المؤمنين أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا فيّ » 92 .
والتفت المأمون الى الرضا وقال بدهاء :
ـ يا أبا الحسن قد استعفى .
وخاطب المأمون الجلودي بغلظة :
لا والله لا أقبل قوله فيك .
والتفت الى الحراس..
خذوهم الى السجن .
وعندما غادروا عاد الفرح مرّة أخرى واهتز بعضهم طرباً وهو يصغي الى قصائد الشعراء وكلمات الخطباء .
وكان « العباس » الخطيب ألمع من خطب وظل شعره الذي ختم به خطابه يردّده الناس أيّاماً :
لابد للناس من شمس والقمر
| |
فأنت شمس وهذا القمر 93
|
وصدرت في الختام ثلاثة قرارات هامّة :
ـ منح أفراد الجيش مرتّبات سنة كاملة .
132
ـ اعتبار اللون الاخضر الشعار الرسمي الجديد .
ـ سك عملة جديدة تحمل اسم الرضا في الدرهم والدينار .
133
19
كان القمر بدراً بهياً ، وقد مضى شطر من الليل ، ومن خلال نافذة في القصر ، كان الامام يطلّ على حديقة مغمورة بضوء فضي ، وقد انتصبت اشجار باسقة ، يتخللها جدول قد ارتفع خريره بسبب صمت الليل... وتقابل الوجهان وجهه ووجه القمر ، وكانت نظرات تموج بعاطفة روحانية تشع من عينيه وانسابت كلمات كثيراً ما كان يرددها في حالة من الاستغراق والمناجاة:
ـ يا كنز الفقراء !
يا منقذ الغرقى !
انت الذي سجد لك سواد الليل..
134
ونور نهار..
وضوء القمر..
وشعاع الشمس..
وحفيف الشجر..
ودويّ الماء..
يا الله.. يا الله.. يا الله !
واتجه الامام الى القصر فهو على موعد مع الخليفة الذي قرّر أن تكون هذه الليلة.. ليلة صراع فكري .
سيكون اللقاء مع رجل جمد على ظواهر ألفاظ القرآن ونبذ عقله فلم يتمكّن من الغوص في أعماق القرآن ؛ ذلك العالم الرحب الواسع حيث تتألق المعاني المطلقة في قوالب محدودة كما تنعكس مرئيات الوجود الواسع في الانسان لتكون شاهداً على انها مجرّد نافذة لعقل الانسان.. ذلك المخلوق الذي أودع الله فيه سرّه .
إنّ أمثال « أبي قرّة » هم في الحقيقة ضحايا تلك النظرة السطيحة وضحايا الدسّ الذي بدأ في ظلّ الشجرة الملعونة... شجرة تنبت في أصل الجحيم .
عندما ظهر الرجل الأسمر هبّ الجميع واقفين شباباً
135
وشيوخ... تجمّع ما يشبه الثقل في نقطة واحدة..
العيون والقلوب وكلّ المشاعر كانت تتجه نحوه .
إنّ ذاته المتسامية قد استقرّت في نقطة من الكمال المطلق ، إنّ مشاعر الكمال تتألق في سكينته .
انه يبدو متجرّداً يعيش في عالم غير هذا العالم الذي يعجّ بالشرور والفتن .
بدا أبو قرّة متحفزاً كثعلب ، وكان ذهنه يعيش أقصى حالات الاستعداد ، ذلك أن المأمون قد عهد اليه بإفحام الامام ولو في سؤال واحد فقط .
وبالرغم من جلوس الامام قرب الخليفة فقد بدا أن هناك جبهتين كان المأمون يتولّى قيادة معسكر مناهض للامام وإن تظاهر بعكس ذلك .
من أجل ذلك بدا محمد بن جعفر الصادق متوجساً الى حدّ ما من نتائج الجدل .
سوّى أبو قرّة ثوبه ليلقى سؤاله الأول معلناً بدء الصراع :
136
ـ أخبرني عن لسان الله الذي كلّم به موسى ؟
الله أعلم بأي لسان كلّمه بالسريانية أم العبرانية .
ودلع ابو قرّة لسانه ثم قال :
ـ انما اسألك عن هذا اللسان .
إن أبا قرّة يتصور بان الله عندما كلّم موسى كلمه بلسان يشبه لسان الانسان .
من أجل هذا أجاب الامام :
ـ سبحان الله عما تقول !
معاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون ، ولكنه تعالى ليس كمثله شيء ، وكمثله قائل ، ولا فاعل .
ـ كيف ذلك ؟
ـ كلام الخالق لمخلوق ، ليس ككلام المخلوق للمخلوق ولا يلفظ بشق الفم ولسان ، ولكن يقول : « كن » فكان بمشيئته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي ، من غير تردد في النفس..
ـ ما تقول في الكتب ؟
ـ التوراة والانجيل والزبور والفرقان ، وكل كتاب أُنزل كان كلام الله انزله للعالمين نوراً وهدىً ، وهي كلّها محدثة ،
137
وهي غير الله حيث يقول : ( ويحدث لهم ذكرا ) 94 وقال : ( ما يأتيهم نم ذكر من ربهم الا استمعوه وهم يلعبون ) 95 ، والله أحدث الكتب كلّها التي أنزلها .
ـ هل تفنى الكتب ؟
ـ أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فانٍ ، وما سوى الله فعل الله ، والتوراة والانجيل والزبور والفرقان فعل الله ، ألم تسمع الناس يقولون : « رب القرآن » وأن القرآن يقوم يوم القيامة : « يا رب هذا فلان ، قد أظمأت نهاره وأسرت ليله فشفّعني فيه » ؟
وكذلك التوراة والانجيل والزبور وهي كلها محدثة ، مربوبة أحدثها من ليس كمثله شيء ، هدى لقوم يعقلون .
فمن زعم انهن لن يزلن معه ، فقد قال : ان الله ليس بأول قديم ، ولا واحد وان الكلام لم يزل معه ، وليس له بدء ، وليس بالله » .
ـ إنّا روينا : ان الكتب تجيء يوم القيامة ، والناس في صعيد واحد قيام لرب العالمين ، ينظرون حتى ترجع فيه ، لانها منه ، وهي جزء منه فإليه تصير .
ـ هكذا قالت النصارى في المسيح إنه روح ، جزء منه ،
138
ويرجع فيه ، وكذلك قالت المجوس في النار إنها جزء منه ترجع فيه..
تعالى ربّنا أن يكون متجزّءً أو مختلفاً ، وإنّما يختلف ويأتلف المتجزّئ لانَّ كل متجزّئ متوهم ، والكثرة والقلّة مخلوقة دالة على خالق خلقها .
ـ إنّا روينا : إنّ الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين ، فقسم لموسى كلام ، ولمحمد الرؤية ؟
ـ فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين : الجن والانس : انه لا تدركه الابصار ، ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شيء أليس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟
ـ نعم .
فكيف يجيء رجل الى الخلق جميعاً فيخبرهم : إنّه جاء من عند الله وإنّه يدعوهم الى الله بأمر الله ، ويقول : أنه لا تدركه الابصار ، ولا يحيطون به علماً ، وليس كمثله شيء ، ثم يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطت به علماً ، وهو على صورة البشر !!
أما تستحون ؟!
حتى الزنادقة لم تقل هذا !
139
كيف يبلغ إنسان عن الله بأمر ثم يقول خلافه ؟!
ـ ولكن القرآن يقول : ( ولقد رآه نزلة أخرى ) ؟!
ـ ان بعد هذه الآية ما يدلّ على ما رأى حيث قال : « ما كذب الفؤاد ما رأى » يقول : ما كذب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما رأت عيناه ، فقال : « لقد رأى من آيات ربّه الكبرى » .
فآيات الله غير الله ، وقال : « ولا يحيطون به علماً » فإذا رأته الابصار فقد أحاط به العلم ، ووقعت به المعرفة .
ـ فنكذّب بالرواية ؟!
ـ إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذّبتها .
ـ أين الله ؟
الأين : مكان ، وهذه مسألة شاهد عن غائب ، فالله ليس بغائب ولا يقدمه قادم ، وهو بكلِّ مكان ، موجود مدبّر ، صانع حافظ ، ممسك السماوات والأرض .
ـ أليس هو في السماء دون سواها .
ـ هو الله في السماوات والأرض ، « وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله » ، « وهو الذي صوّركم في الارحام كيف يشاء » ، « وهو معكم اينما كنتم » ، وهو الذي استوى الى السماء
140
وهي دخان ، وهو الذي استوى على العرش .
قد كان ولا خلْق ، وهو كما كان إذ لا خلْق ، لم ينتقل مع المنتقلين .
فلماذا إذن يرفع الانسان كفّيه الى السماء عندما يدعو الله ؟!
ـ إنّ الله استعبد خلقه بضروب من العبادة ، ولله مفازع يفزعون اليه فاستعبد عباده بالقول والعلم ، والعمل والتوجه ونحو ذلك ، استعبدهم بتوجيه الصلاة الى الكعبة ، ووجّه إليها الحج والعمرة ، واستعبد خلقه عند الدعاء ، والطلب ، والتضرّع ببسط الايدي ، ورفعها الى السماء حال الاستكانة ، وعلامة العبودية والتذلل..
ـ من أقرب الى الله... الملائكة أم أهل الأض ؟
ـ إذا كنت تعني المسافة فان الأشياء كلّها باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض ، يدبّر أعلى الخلق من حيث يدبّر أسفله ، ويدبّر أوله من حيث يدبّر آخره من غير عناء ، ولا كلفة ولا مؤونة ، ولا مشاورة ولا تعب ، وإن كنت تعني الوسيلة ، فأطوعهم لله أقربهم اليه ، وأنتم تروون : أن اقرب ما يكون العبد الى الله وهو ساجد ورويتم أن أربعة أملاك التقوا.. أحدهم من