181
25
    وفي تلك الليلة وفيما كانت السماء تسحّ أمطارها الغزيرة والناس في بيوتهم يتحلّقون حول مواقدهم ، ويتحدثون عن كرامات أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومنزلتهم عند الله فيما كان الخليفة غارقاً في هواجسه وهو يصغي الى عتاب مرير من ابن مهران يقول له :
    ـ يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تكون تأريخ الخلفاء في إخراجك هذا الشرف العميم ، والفخر العظيم من بيت العباس الى بيت علي.. لقد أعنت على نفسك وأهلك... جئت بهذا الساحر ولد السحرة ! وقد كان خاملاً فأظهرته ، ومتضعاً فرفعته ، ومنسياً فذكرت به ، ومستخفاً فنوهت به.. قد ملأ الدنيا مخرقة ،


182
وتشوقاً بهذا المطر الوارد عن دعائه..
    ما أخوفني أن يُخرج هذا الرجل هذا الأمر عن ولد العباس الى ولد علي.. بل ما أخوفني أن يتوصّل بسحره الى ازالة نعمتك ، والتواثب على مملكتك.. هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك ؟!
    ولأول مرّة يصبح المأمون صريحاً ويكشف عما يموج في أعماقه :
    ـ أنت لا تدري يا بن مهران.. لقد كان هذا الرجل ، مستتراً عنّا ، يدعو الى نفسه ، فأردنا أن نجلعه وليّ عهدنا ليعترف بالملك والخلافة لنا ، وليعتقد فيه المفتونون به انه ليس مما ادّعى في قليل ولا كثير ، وان هذا الأمر لنا من دونه ، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه ، ويأتي علينا منه ما لا نطيقه .
    ـ ولكن الأمور تجري في غير مارسمت ؟!
    ـ هذا صحيح لقد اخطأنا في أمره وأشرفنا على الهلاك بالتنويه على ما أشرفنا ، ولن يجوز التهاون في أمره..
    وسكت قليلاً ثم استأنف حديثه قائلاً :


183
    ـ ولكننا نحتاج أن نحطّ من شأنه قليلاً قليلاً ، حتى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ثم ندبّر فيه بما يحسم عنا موّاد بلائه 111 .
    كانت عيناه تخفيان وقد شعَّ منهما بريق فيه حقد وتآمر ومكر .
    ـ وماذا ستفعل يا أمير المؤمنين ؟
    ـ سأجلب عليه أصحاب الفرق وزعماء الأديان ، أن ركيزته وركيزة شيعته في أنه أعلم الناس فإذا نسفتُ ذلك سقط ادّعاؤه وسقط من أعين الناس ، ويكون خلعه من ولاية العهد أسهل ما يكون !.. ماهي الا أيام ويأتي « عمران الصابئ » ، و« الجاثليق » و« رأس الجالوت » و« الهربذ الاكبر » و« نسطاس الرومي » ، حتى الزنادقة سأحظر أبرعهم في الكلام.. لقد أمرت الفضل ان يجمعهم لي 112 .
    وعندها أدرك ابن مهران ، ان ما يحصل من مناظرات في بعض الأماسي كانت لها أهدافاً مبيتة من الخليفة ضد وليّ عهده ولقد كان في غفلة عن هذا !!
    ومرّت أيام وجاء اليوم الموعود ، وقال المأمون وهو يحدّق في رجال لا تربط رابطة دين أو عقيدة... كل واحد


184
منهم تدور في رأسه أفكار لا تخطر على بال الآخر ويرتدي كل واحد منهم زيّاً لا يرتديه غيره.. القدر وحده وهو الذي جمعهم... المؤامرة وحدها جاءت بهم... بعضهم كان ينشد الحقيقة وما أقلّ الذين ينشدون الحق وقال المأمون لهم موجزاً حديثه :
    ـ إنّما جمعتكم لخير وأحببت أن تناظروا ابن عمي المدني القادم علي ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليّ ، ولا يتخلّف منكم أحد.. والتفت الخليفة الى فتى صحب الامام من المدينة الى مرو :
    ـ ابلغ سيّدك بذلك .
    وقال الامام لرجل عراقي يعرفه :
    ـ يا نوفلي أنت عراقي ، ورقّة عراقي غير غليظة ، فما عندك في جمع ابن عمي علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات ؟
    قال النوفلي :
    ـ جعلت فداك يريد الامتحان... يريد أن يعرف ما عندك ، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان..
    ـ ما بناؤه في هذا الباب ؟
    ـ ان اصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء.. العالم لا ينكر غير المنكر وأصحاب المقالات والمتكلمون ، وأهل الشرك


185
أصحاب إنكار...
    إن احتججت عليهم : بأن الله واحد.. قالوا صحّح وحدانيته ، وإن قلت : إن محمداً رسول الله.. قالوا : اثبت رسالته ، انهم يباهون ويغالطون.. فاحذرهم يا سيدي !
    أجاب الامام مطمئنا صاحبه :
    ـ أتخاف أن يقطعوا علي حجتي ؟
    ـ لا والله ما خفت عليك قط.. وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم.. إِن شاء الله .
    وسكت الامام ثم قال وقد سقط ضوء النهار من النافذة :
    ـ يا نوفلي ! أتحب أن تعلم متى يندم المأمون ؟
    اجاب النوفلي وهو يحدّق في وجه حزين :
    ـ متى ؟
    ـ إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوارتهم ، وعلى أهل الانجيل بإنجيلهم وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيّتهم ، وعلى الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أهل المقالات بلغاتهم .
    ودخل الفضل ليخاطب الامام بإجلال :
    ـ جُعلت فداك ان ابن عمّك ينتظرك.. اجتمع القوم.. فما


186
رأيك في إيتائه ؟
    ونهض الامام وكان النوفلي يراقب خطاه.. ثم نظر الى السماء يستمدّها العون .
    المجلس مكتظ بالعلماء وأصحاب النفوذ وقادة الجيش اضافة الى رجال من اليهود والنصارى والصابئين وزنادقة لا يؤمنون بدين ونهض الجميع اجلالاً للامام.. وجلس الرضا في مكانه ، والجموع تنظر اليه واقفة حتى إذا طلب المأمون منهم الجلوس جلسوا وخاطب الخليفة « الجاثليق » :
    ـ يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر... وهو من ولد فاطمة بنت نبينا صلّى الله عليه وآله وسلم وابن علي بن أبي طالب... وأحب أن تكلّمه وتحاججه !
    أجاب الجاثليق ليؤسس قاعدة مقبولة في الحوار :
    ـ يا أمير المؤمنين ! كيف أحاجج رجلاً يحتجّ عليّ بكتاب أنا منكره ، ونبي لا أؤمن به ؟!
    قال الامام :
    ـ يا نصراني ! فإن إحتججت عليك بانجليك.. أتقرّ به ؟
    ـ وكيف لا ؟! نعم أقرّ به .


187
    ـ إذن سل ما تحبّ .
    ما تقول في نبوّة عيسى ، وكتابه هل تنكر منهما شيئاً ؟
    ـ إنني أؤمن بعيسى وكتابه وما بشّر به أمّته ، واقرّ به الحواريون ، وكافر بنبوّة عيسى لم يقرّ بنبوّة محمد وكتابه ، ولم يبشّر به امّته .
    قال الجاثليق :
    ـ إنّما تقطع الأحكام بشاهدي عدل ؟ فأقم شاهدين على غير أهل ملتك على نبوّة محمد ممن لا تنكره النصرانية ، وسلني مثل ذلك من غير أهل ملتنا .
    ـ الآن جئت بالحق ، فهل تقبل مني العدل والمقدّم عند المسيح بن مريم ؟
    ـ سمّه لي ؟
    ـ ما رأيك في « يوحنا الديلمي » ؟
    ـ ذاك أحب الناس الى المسيح .
    ـ أقسمت عليك هل جاء في الانجيل ان يوحنا قال : إن المسيح أخبرني بدين العربي ، وبشّرني به ، أنه يكون من بعدي ، فبشّرت به الحواريون ، فآمنوا به » ؟
    قال الجاثليق وهو يتردّد في الاجابة الصريحة :


188
    ـ هذا صحيح ولكن يوحنّا لم يسمّه لنا حتى نعرفه .
    ـ فإن جئناك بمن يقرأ الانجيل ؟
    غمغم الجاثليق :
    ـ أمر سديد !
    والتفت الامام الى نسطاس الرومي وكان طبيباً :
    ـ كيف حفظك للسفر الثالث من الانجيل ؟
    أجاب نسطاس بخشوع :
    ـ ما أحفظني له :
    ـ سأتلو عليك منه جزءً فإن جاء فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته فاشهد لي .
    وفوجئ الحاضرون بالامام وهو يتلو عليهم بالسريانية آيات من الانجيل حتى اذا انتهى قال مخاطباً الجاثليق :
    ـ ما تقول ؟ هذا قول عيسى بن مريم ، فإن كذبت ما نطق به الانجيل فقد كذبت موسى وعيسى ، ومتى انكرت هذا الذكر وجب عليك القتل لانك تكون قد كفرت بربك ونبيك وكتابك !
    وأطرق الجاثليق وقال مستسلماً :
    ـ لا أستطيع انكار ذلك لقد ورد في الانجيل ما ذكرت...


189
اعترف بذلك !
    التفت الامام الى الحضور :
    ـ اشهدوا على اقراره !
    وخاطب الجاثليق :
    ـ يا جاثليق سل عمّا بدا لك !
    ـ اخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدّتهم ؟ وعن علماء الانجيل كم كانوا ؟
    ـ على الخبير سقطت.. اما الحواريون فكانوا إثنى عشر رجلاً ، وكان افضلهم وأعلمهم « لوقا » ، وامّا علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال : « يوحنا الاكبر » و« يوحنا » بقرقيسيا و « يوحنا الديلمي » بزخار وعنده كان ذكر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ، وذكر أهل بيته ، وهو الذي بشّر امّة عيسى وبني اسرائيل به .
    وسكت الامام ثم ابتسم قائلاً :
    ـ والله لنؤمننّ بعيسى الذي آمن بمحمد ، وما ننقم على عيسى شيئاً الا ضعفه ، وقلّة صيامه وصلاته..
    وهتف الجاثليق ثائراً :
    ـ ماذا تقول يا عالم الاسلام ؟ لقد أفسدت والله علمك


190
وضعف أمرك ، وما كنت ظننت الا أنك أعلم أهل الاسلام !!
    ـ أجاب الامام بهدوء :
    ـ وكيف ذلك :
    ـ لانك تقول : إن عيسى كان ضعيفاً ، قليل الصوم والصلاة !! وما أفطر عيسى يوماً قط ، وما نام بليل قط ، وما زال صائم الدهر قائم الليل .
    وهنا انقضَّ الامام لينسف مزاعم النصرانية بألوهية السيد المسيح :
    ـ لمن كان يصوم المسيح ويصلّي ؟!
    وكان جواب الجاثليق الصمت.. الصمت الذي يكشف عن فشله أمام منطق الحقيقة.. ثم غمغم قائلاً بانكسار :
    ـ الحق معك !
    وتساءل الامام :
    ـ لماذا تعبدون المسيح بن مريم ؟ وتقولون انه ربٌّ ؟!
    ـ لانه كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص... فهو ربّ مستحق لأنْ يُعبد ؟.