191
ـ لقد كان « اليسع » يصنع مثل ما صنع عيسى.. مشى على الماء وأحيا الموتى ، وأبرأ الاكمه والأبرص ، فلم لا تتخذوه ربّاً ؟! ولم لا تتخذون إبراهيم الخليل وقد أحيا الطيور الأربعة ؟! وموسى بعد أن أحيا قومه السبعين وقد أحرقتهم الصواعق ؟!
وسكت الجاثليق . إن العقيدة المسيحية لا تستطيع أن تقدم جواباً لهذه الاسئلة وسُمع الجاثليق يقول :
ـ القول قولك.. ولا إله الا الله .
والتفت الامام إلى رأس الجالوت قائلاً :
ـ اقسم عليك بالآيات التي نزلت على موسى بن عمران هل تجد في التوراة مكتوباً : إذا جاءت الامّة الأخيرة اتباع راكب البعير ، يسبّحون الربّ جداً جداً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد فليفزع بنو اسرائيل اليهم ، والى ملكهم لتطمئن قلوبهم فإنّ ما بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الامم الكافرة في أقطار الارض ؟
وفوجئ رأس الجالوت فقال :
ـ نعم إنّا لنجد ذلك .
والتفت الامام الى الجاثليق :
ـ كيف علمك بكتاب أشعيا النبي :
192
ـ أحفظه حرفاً حرفاً !
وخاطب الامام الاثنين معاً :
ـ أتعرفان هذا من كلامه : « يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ضوؤه ضوء القمر » ؟
وهزّا رأسيهما بالايجاب :
ـ قد قال ذلك أشعيا !!
وخاطب الامام رأس الجاثليق :
ـ أتعرف قول عيسى : « إنّي ذاهب الى ربكم وربي و« البارقليطا » جاء ، هو الذي يشهد بالحق كما شهدت له وهو الذي يفسّر لكم كل شيء ، وهو الذي بيده فضائح الأمم وهو الذي يكسر عمود الكفر .
واتسعت عينا الجاثليق دهشة :
ـ أجل اعرف ذلك !!
ـ تجد هذا في الانجيل ثابتاً .
وأجاب الجاثليق بخشوع نصراني :
ـ نعم !
ـ يا جاثليق : الا تخبرني عن الانجيل الأول حين افتقدتموه
193
عند من وجدتموه ؟ ومن وضع لكم هذا الانجيل ؟
ـ ما افتقدناه الا يوماً واحداً ، حتى وجدناه غضاً طريّاً ، فأخرجه الينا يوحنا ومتى...
ـ ما أقل معرفتك بسنن الانجيل وعلمائه ، فإذا كما تقول ، فلم اختلفتم في الانجيل ؟ ولو كان الأصل موجوداً في أيديكم اليوم ما كان فيه اختلاف وسأفيدك علم ذلك..
اعلم انه لما افتقد الانجيل الأول اجتمعت النصارى الى علمائهم فقالوا لهم : قُتل عيسى بن مريم وافتقدنا الانجيل ، وأنتم العلماء فما عندكم ؟
فقال لهم لوقا ومرقانوس ويوحنا ومتّى : إنّ الانجيل في صدورنا نخرجه اليكم سفراً في كل أحد فلا تحزنوا ، ولا تخلوا الكنائس فإنا سنتلوه عليكم سفراً سفراً في كل أحد حتى نجمعها كلّه .
ان لوقا ومرقانوس ويوحنا متى وضعوا لكم هذا الانجيل ، وكان هؤلاء الاربعة تلاميذاً.. أعلمت ذلك ؟
وأجاب الجاثليق باجلال :
ـ لم أكن اعلم ذلك.. ان قلبي يشهد لك بالحق.. ولقد
194
استزدت فهماً !
والتفت الامام الى المأمون وهو في دهشة :
ـ اشهدوا عليه .
وعلت كلمات من زوايا المجلس :
ـ نعم نشهد .
وخاطب الامام الجاثليق :
ـ بحق الابن وامّه هل تعلم ان « متى » قال في نسبة عيسى إنه المسيح بن داود بن ابراهيم ، وقال « مرقانوس » في نسبة عيسى : إنّه كلمة الله احلّها في الجسد الآدمي فصارت انساناً !
وقال « لوقا » ان عيسى وامّه كانا انسانين من لحم ودم فدخل فيهما روح القدس .
ثم انك تقول : في شهادة عيسى على نفسه : « حقاً أقول لكم : انه لا يصعد الى السماء الا من نزل منها ، الا راكب البعير خاتم الانبياء ، فانه يصعد الى السماء وينزل » فما رأيك ؟
ـ اعترف بكلِّ ما ذكرت.. نعم كل هذا ورد في الانجيل .
ـ فما تقول في شهادة لوقا ومرقانوس ومتى على عيسى وما نسبوا اليه ؟
ـ لقد كذبوا على عيسى !
195
والتفت الامام الى الحضور
ـ ألم يزكّهم وشهد على أنهم علماء الانجيل وقولهم حق ؟
قال الجاثليق وهو ينسحب من حلبة الصراع الفكري :
ـ يا عالم المسلمين أحب أن تعفيني من أمر هؤلاء .
ـ إذن سل عمّا بدا لك .
ـ ليسألك غيري ، والله ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك !!
واطرق الجاثليق برأسه الى الأرض وارتفعت هتافات :اللّه اكبر لا إله إلا اللّه .
 
وراح المأمون يتأمل وجه الامام وقد التمعت على جبينه حبّات عرق كقطرات الندى .
والتفت الامام الى رأس الجالوت زعيم الجالية اليهودية :
ـ تسألني أم أسألك ؟
ـ بل أسألك ولن أقبل حجة الا من التوراة أو من زبور داود .
ـ لا تقبل مني حجة الا بما نطق به التوراة والزبور .
ـ من أين تثبت نبوة محمد ؟
ـ شهد بنبوته موسى بن عمران وداود خليفة الله في الأرض .
196
ـ وما الذي قاله موسى بن عمران ؟!
ـ أوصى بني اسرائيل فقال لهم : « سيأتيكم نبيٌ فبه فصدقوا ، ومنه فاسمعوا » .
ـ أريد دليلاً من التوراة :
وراح الامام يتلو عليه جزءاً من التوراة :
ـ « جاء النور من قبل طور سيناء وأضاء للناس من جبل ساعير واستعلن علينا من جبل فاران :
ـ أجل هذا في التوراة ولكن ما هو تفسيرها ؟!
قال الذي عنده علم الكتاب :
ـ أنا أخبرك.. أمّا قوله : جاء النور من قبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء وأما قوله : واضاء للناس من جبل ساعير فهو جبل الذي أوحى الله عز وجل الى عيسى بن مريم وهو عليه ، وأما قوله : واستعلن علينا من جبل فاران ، فذاك جبل من جبال مكة وبينه وبينها يومان أو يوم .
ويقول لشعيب النبي في التوراة : « رأيت راكبين أضاءت لهما الأرض أحدهما على حمار والآخر على جمل » فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل ؟
197
ـ هذا موجود في التوراة حقاً ولكن لا أعرف تفسيره ؟!
ـ أما راكب الحمار فعيسى وأما راكب الجمل فمحمد.. أتنكر هذا في التوراة ؟
ـ لا أنكر ذلك .
ـ هل تعرف حبقوق النبي ؟
ـ نعم :
ـ فإنه يقول ـ وكتابكم يشهد به ـ : « جاء اللّه بالبيان من جبل فاران وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمته ، يحمل خيله في البحر ، كما يحمل في البر يأتينا بكتاب جديد ، بعد خراب بيت المقدس » أتعرف هذا وتؤمن به ؟
ـ نعم .
ـ ألم يقل داود في زبوره ـ وأنت تقرأ ـ : « اللهم ابعث مقيم السنّة بعد الفترة » فهل تعرف نبيّاً أقام السنّة بعد الفترة ؟
ـ هذا قول داود ولا ننكره ، ولكنه عنى بذلك عيسى وأمامه هي الفترة ؟!
ـ جهلت إن عيسى كان موافقاً لسنّة التوراة حتى رفعه الله اليه وفي الانجيل مكتوب : « أنا ابن البرّة ذاهب « البارقليطا » جاء من بعده ، وهو الذي يحفظ الآصار ، ويفسّر لكم كل شيء ،
198
ويشهد لي كما شهدت له ، أنا جئتكم بالامثال ، وهو يأتيكم بالتأويل » أتدري أن هذا في الانجيل ؟
ـ نعم .
ـ أسألك عن نبيّك موسى بن عمران.. ما الحجة على نبوّته ؟
ـ جاء بما لم يجئ به أحد من الآيات .
ـ مثل ماذا ؟
ـ مثل انفلاق البحر ، وقلبه العصا حيّة تسعى ، وضربه الحجر فانفجرت منه العيون ، وأخراجه يده بيضاء للناظرين..
ـ صدقت في أنّها حجة على نبوّته.. يا رأس الجالوت فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم وكان يحيي الموتى ويبرئ الاكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً باذن الله ؟!
أجاب اليهودي مراوغاً :
ـ يقال انه فعل ذلك ، ولم نشهده !
ـ فهل رأيت ما جاء به موسى من الآيات وهل شهدتها ؟
ـ لأن الاخبار تواترت على ذلك .
ـ ومعجزات عيسى كذلك لقد تواترت الاخبار فيها فلِمَ تصدّق بموسى ولا تؤمن بعيسى ؟
199
وسكت اليهودي !
واستأنف الامام بحديثه :
ـ وكذلك نبوّة محمد وما جاء به لقد كان يتيماً فقيراً لم يدرس لدى معلم ، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الانبياء وأخبارهم .
قال اليهودي :
ـ لم يصحّ عندنا خبر عيسى ولا خبر محمد ، ولا يجوز أن نقرّ بهما .
ـ فهل هذه الامم التي شهدت لهما تشهد زوراً ؟!
وسكت الذي في قلبه مرض ، وأمام هذا المنطق الفيّاض سكت « الهربذ » زعيم الطائفة المجوسية ، أما عمران الصابئ فقد كان يراقب مذهولاً ما يجري وقد رأى هزيمة الأديان القديمة أمام الاسلام ، لم يكن أن يودّ دخول معترك الأفكار فما الذي جعله يغيّر قراره ؟
200
26
وهتف الذي عنده علم الكتاب :
ـ يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الاسلام وأراد أن يسأل فليسأل !
ونهض عمران وكان يبحث عن الحقيقة :
ـ يا عالم الناس لو لا أن دعوت الناس الى السؤال ما سألت... لقد ذهبت الى الكوفة والبصرة والشام والجزيرة والتقيت المتكلّمين فلم أعثر على أحد يثبت لي « واحداً » ليس غيره قائماً بوحدانيّته..
وعرف الامام عمران فقال مبتسماً :