101
وغاب القمر وراء العمارية ، وفيما كان الناس في ذهول لسند لم يسمعوه من قبل تمتم أحدهم قائلاً :
ـ « لو قرئ هذا الاسناد على مجنون لبرئ » 68 .
وتمنى آخر لو كان له مال أن يكتبه بماء الذهب 69 .
ومرّت الناقة كزورق ينساب على هون ، ولكن الرجل الاسمر أراد أن يكون للحديث دويّاً ، أن مسألة التوحيد لن تكون أساساً للحياة الكريمة الا اذا أُرسيت على قاعدة صلْبة ، فظروف الحياة المريرة ستدفع بالانسان بعيداً عن الطريق المنشود .
من أجل هذا ظهر الوجه الأسمر مرّة أخرى ليهتف مؤكداً حقيقة منسية :
ترى ماذا حصل في ذلك الحشد ؟ إنّ للكلمات المقدسة فعل الفأس تحطم وتبني ، فعل الفأس التي حطمت الاصنام في معبد نمرود لتؤسس حقيقة التوحيد الكبرى .
عندما هبط محمد من فوق جبل حراء كان يحمل معه فقط كلمة واحدة وهي لا إله الا الله !
كلمة حطّمت فيما بعد هبل واللات والعزّى ومناة الثالثة
102
الأخرى .
ها هو حفيد محمد يعلن كلمة التوحيد ، ويعيد اليها ذات الروح المحمدية التي يتوارثها أبناؤه جيلاً بعد جيل .
لو سمع الرشيد بما يجري لتميز من الغيظ ، فهذا الفكر المطارد ، والذي ظن أنه قد قضى عليه الى الأبد يعود قويّاً واضحاً مرّة أخرى .
وفي تلك البقعة من نيسابور والقافلة على وشك الرحيل جاءت صرخة الحق ، وراح أهل الإرجاء 70 وأصحاب الاعتزال 71 ، وعلماء الحديث يضربون أخماساً بأسداس ، فالامامة عهد الهي ، والامام شرط من شروط التوحيد الحقيقي .
انه يستمد ولايته من السماء لا من الأرض .
وانطلقت القافلة لتتحول الكلمات الى إعلان سماوي لأهل الأرض ؟
103
14
وتمضي القافلة لا تلوي على شيء ، حتى إذا وصلت قرية « سناباد » حطّت رحلها هناك ، عند جبال تنحت منه القدور والأواني قال الرجل الاسمر وهو يستند الى صخرة في الجبل :
ـ اللهم انفع به ، وبارك فيما يجعل فيه ، وفيما ينحت منه .
والتفت الى أحدى فتيانه وأمر أن تنحت له عدّة قدور لأستفادة منها في الطبخ .
الطريق من « سناباد » الى مدينة « نوغان » في الشرق تمرّ على حديقة غنّاء يتوسطها قصر منيف ، كان حميد بن قحطبة 72 قد اتخذه مقرّاً لسكناه ، وشاء القدر أن يكون القصر قبراً لهارون !
104
وصلت القافلة الى حديقة مساحتها ميل عربي 73 مربع ، وقد نهض في وسطها قصر منيف ، واتجه الرجل الاسمر الى رخامة بيضاء كتابوت ثلجي ثم توقف عندها.. تحت هذه الرخامة يرقد انسان ملك الدنيا أكثر من عشرين سنة.. انسان كان يخاطب الغيوم المسافرة قائلاً : اينما تذهبين فخراجك اليّ !
انحنى الامام وخط باصبعه على البلاط المرمري في جانب الرخامة البيضاء وقال لمن حوله :
هذه تربتي.. وفيها سأدفن ، وسيجعل الله هذا المكان مزاراً .
قال ذلك ثم اتجه ببصره وعبر المنافذة المشرعة الى الآفاق البعيدة حيث البيت العتيق.. ليستغرق في صلاة طويلة..
وتقدم الرجل من ذريّة حميد بن قحطبة ، مرحباً بقدوم الامام.. ودلّه على حجرة أنيقة في القصر ليمضي فيها استراحته ، ولم ينس أن يعرض على الامام غسل ثياب السفر .
اخذت إحدى فتيات القصر الثياب وكان فيها قميص من خز .
عادة ما يحمل المسافرون في ثيابهم رسائل أو رقاع أو
105
أشياء ثمينة .
أرادت الفتاة وقبل أن تباشر عملها أن تتأكد من خلوها من أشياء يمكن أن يتلفها الماء... في قميص الخز وجدت الفتاة رقعة ملفوفة بعناية وجمال ، ولذا اسرعت بها الى سيّد القصر وقالت :
ـ وجدت رقعة في قميص أبي الحسن .
ـ هاتها .
أخذ الرجل الرقعة الى صاحبها وقال :
ـ ما فيها يا بن رسول الله ؟
أجاب حفيد النبي وهو يتسلّمها شاكراً :
ـ هذه عوذة من أمسكها في جيبه كانت له حرزاً من الشيطان... ومن السلطان !
ـ أحبّ أن استنسسخها.. فهل تمليها عليّ ؟!
ـ اكتب « إني اعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً أو غير تقي... والله مطالع علي ما يمنعك ويمنع الشيطان مني » 74 .
وتساءل الرجل في نفسه وهو يكتب ، تُرى ماذا يخشى
106
علي بن موسى ؟ هل يخشى نوايا مضمرة للمأمون ؟!
في الصباح كانت سفن الصحراء قد رفعت رؤوسها وقد يمّمت شطر المشرق... القرى المتناثرة في السهول والتفرّعات النهرية التي تأخذ مياهها من نهر يمتد الاميال 75 قد رسمت طريقاً برّياً ملتوياً ، يؤمن القوافل المسافرة الى سرخس بالماء حتى ثلثي المسافة ، ثم تنعطف الطريق باتجاه الشمال الشرقي تاركة النهر الى خلفها ، معتمده على محطات ريفية في الطريق حيث تنبع مياه العيون ، وتنهض بعض القرى الصغيرة..
لم تتوقف القافلة في « سرخس » مسقط رأس ذي الرئاستين الفضل بن سهل الا قليلاً ، ريثما يلتقط المسافرون أنفاسهم فقد عبرت القافلة نهر « هريرود » الذي ينبع مياهه الوفيرة من جبل « بابا » .
الطريق الى مرو يمرّ بتفرعات مائية ، حتى إذا وصلت القافلة بحيرة تحفّها أدغال وأعشاب تكون قد قطعت ثلثي المسافة بين « سرخس » و« مرو » .
القافلة تتجه نحو الشمال الشرقي في منخفضات ، وأودية خضراء بسبب وفرة المياه الربيعية ، وما يذوب من
107
الثلوج في المرتفعات .
رياح أخريات الخريف تهبّ باردة جافّة تبشر بشتاء قارس وثلوج ، تغطي السهول ، امّا المرتفعات فقد بدت تلالاً من قطن بسبب ما يتساقط من الثلج في الليل .
وصلت القافلة « مرو » ودخلت بوابتها في 10 جمادي الآخرة سنة 201 من هجرة النبي محمد عليه السلام . في 3 كانون الثاني سنة 817 لميلاد المسيح عليه السلام وفوجئ رجاء بن الضحاك المشرف على مهمة احضار الامام.. فوجىء باستقبال مهيب لم يكن يتصوّره أبداً .
وقف أفراد القوّات المسلحة في صفّين طويلين يمتدان من بوابة العاصمة وحتى قصر الضيافة ، فيما تدفقت الجماهير الى السطوح لتحظى برؤية حفيد آخر الانبياء في التاريخ !
ترجّل الإمام قبل أن يصل بوابة المدينة حيث وقف الخليفة المأمون وإلى جانبه الفضل بن سهل رئيس وزارته وكبار رجال الدولة .
وهبّ الخليفة لاحتضان الإمام في لهفة تشبه لهفة الغريق اذا رأى خشبة النجاة .
وأخيراً جاء الرجل الذي يستنقذه من ورطته ؟
108
من يتأمل في عيني علي بن موسى وهو يتجه الى قصر الضيافة سيكتشف حزناً عميقاً.. حزناً لا يُعرف سرّه !!
ها هو علي بن موسى يتجه الى قدره يحمل همومه وحيداً في دنيا تموج بالفتن والمؤامرات ، والاطماع... امّا هو فيجسد نقطة التضاد مع ذلك الواقع الذي يعج بالمفاسد... لقد بدأ الفصل المثير و... الأخيرة في حياته !
109
15
بدأ فصل الشتاء برياح شمالية جافّة.. رياح حملت معها برودة المرتفعات والذرى المكلّلة بالثلوج .
وكانت الشمس محاصرة بصقيع من الغيوم ، حتى بدت قرصاً باهتاً لا دفء فيه ولا نور ، وحنّ بعض الذين قدموا من الحجاز.. من المدينة... الى تلك الشمس الساطعة التي تغمر الصحاري ببحر من الضوء والحرارة .
في ذلك الجوّ القارس بدأت ملحمة الصراع بين أبرز شخصيتين في البيتين العلوي والعباسي .
وبدأت العنكبوت تنسج أولى خيوط بيتها الواهن... قال المأمون بمكر ولمّا تمرّ سوى بضعة أيام من وصول القافلة :
110
ـ يا بن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك ، وعبادتك واراك أحق بالخلافة مني !!
نظر امام بحزن وقال :
ـ « بالزهد بالدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا ، وبالورع من المحارم أرجو الفوز بالمغانم ، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله »..
إنّ غايتي هي الآخرة... وفي ذلك العالم الذي يزخر بالحياة الحقيقيّة حيث يكمن المستقبل الحقيقي للانسان .
وبدا المأمون انه لا يسمع صوتاً الا ما يضجّ في أعماقه من غايات واهداف :
ـ رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك .
كان الفضل بن سهل يراقب حوار الرجلين ، وكان مشدوهاً بموقف علي الذي بدا أكثر حزناً وهو يسمع عرض المأمون بالتنازل عن أخطر منصب في الدولة.. الخلافة.. إمتلاك أرض ومساحات واسعة من أرض تزخر بالخيرات ، وعالم يعجّ باللذائذ .
قال الرجل الأسمر وهو يضع حدّاً لهذه المهزلة :