231
وتمتم بحزن :
    ـ أجل والله منقبضات !
فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غدٍ خـروج إمـام لا محالة خـارج تقطّع نفسي إثرهم حسرات يقوم على اسم الله والبركات
    وهتف الامام :
    ـ يا خزاعي لقد نطق روح القدس على لسانك .    
يميـّز فينـا كل حـق وبـاطل فيا نفس طيبي ثم يا نفس ابشري ويجزي على النعماء والنقمات فغيـر بعيـدٍ كـلُّ ما هو آت
    سيأتي ذلك اليوم المنشود وتعود راية العدالة ترفرف من جديد.. ان ايماني لا يتزعزع.. بالرغم من كل ما أعانية اليوم :
أحاول نقل الشمس عن مستقرّها كأنك بالأضلاع قد ضاق رحبها واسم احجاراً من الصلواتِ لما ضمنت من شدّة الزفرات
    ونهض الامام ليعانق الشاعر المشرّد الخائف الذي أمضى ثلاثين سنة خائفاً يترقب :
    ـ آمنك الله يا خزاعي يوم الفزع الأكبر .
    ما تزال الدموع.. دموع الحزن من أجل الذين قتلوا ظلماً وعدواناً ودموع الحزن من الذين ما يزالون مقهورين... وغادر


232
الشاعر مستأذناً بعد أن غسل قلبه المترع بالأسى بالدموع وقبل أن يضع قدمه خارج المنزل فوجئ بياسر يقدّم اليه صرّة :
    ـ ما هذا ؟؟
    ـ عشرة الاف درهم هبة من سيدي .
    ـ لا والله ما أدرت هذا ، ولا خرحت له.. انما جئت للتشرف به والنظر الى وجهه.. ولكن اطلب منه أن يهب لي ثوباً من ثيابه .
    وقف الشاعر ينتظر وعاد الخادم أدراجه الى الامام الذي خلع جبّة خزّ وقال :
    ـ خذها اليه وأعد اليه دراهم وقل له : خذها فانك ستحتاج اليها.. وعاد الخادم يحمد إليه هديّته ...
    وضمّ الشاعر الجبّة الى وجهه يملأ صدره من عبير النبوّات.. وعندما فتح الصرّة وجد فيها عشرة الاف درهم مما سُكّ باسم الامام الرضا.. فكان الشاعر المشرّد أول من حصل على النقد الجديد 123 .


233
29
    لن تستطيع فاطمة ان تتحمل أكثر من هذا ، إن قلبها في « مرو » في تلك المدينة من الشرق الاقصى... والأخبار القادمة من بغداد تبشر بالويل والثبور وأخوها يواجه الدنيا وحيداً ليس معه أحد...
    الرسالة التي استلمتها أخير اكتسحت كل العراقيل التي كانت تحول دون سفرها.. فجرّت في أعماقها عزماً لن يقاوم !
    لم تكن الرسالة موجهة الى فاطمة وحدها ، وإن جاءت في ظاهرها شخصية.. ان الرضا يعيش محنته وحيداً ، والعباسيون لن يهدأوا ما دام الرضا وليّاً للعهد... والمأمون لن يستطيع أن يقاوم كثيراً..


234
    كما أنها لا تطمئن الى هذا الخليفة الذي قتل أخاه بالأمس وارتكب المذابح بحق الابرياء.. ان دماء الذين ثاروا في الكوفة ومكّة لم تجف بعد..
    انها تعرف أخاها.. لقد ودّع المدينة بالدموع... ان الرسالة إذن تشبه استغاثة يطلقها إنسان مقهور.. انسان يحاول تصحيح مسار التاريخ .
    ستبقى ظاهرة الهجرة في حياة البشرية واحدة من أهم الظواهر الانسانية في التاريخ ، وهئذ تبدو مجرّد احتجاج هادئ ضد القهر والظلم فانها تعدّ حدثاً كبيراً وبداية لفصل جديد من حياة الانسان .
    في فجر يوم من أخريات صفر وكان القمر في المحاق انطلقت قافلة تضمّ عدداً من العلويين في طليعتهم أخوة الامام الرضا : أحمد ، محمد ، حسين ، وقد بلغ عدد أفراد القافلة وهي تغادر المدينة المنورة ثلاثة آلاف ، وقد ولّت النوق شطرها مدينة البصرة فشيراز 124ومنها صوب كرمان إذا جرت الرياح بما تشتهي السفن .
    ولا أحد يعرف اسباب انتخاب هذه الطريق القاحلة ؟!! هل كان إخوة الامام يطمحون الى حشد أكبر عدد ممكن من الرجال


235
خلال الطريق ؟!!
    لقد كانت القافلة تنمو وتنمو ، وكان الرجال في بعض المدن والقرى يلتحقون بالركب المسافر صوب مرو في طريق شائك ملئ بالرمال والأخطار...
    حتى اذا وصلت حدود القافلة شيراز أصبح عدد أفراد القافلة خمسة اضعاف 125 !
    أمّا قافلة فاطمة فقد تحرّكت صوب الكوفة عبر طريق تخترق بعض المرتفعات الجبلية ثم صحراء « نجد » الى « رفحا » و« الكوفة » ، لتجتاز الفرات صوب الشرق عبر مرتفعات « همدان » بعد منعطفات بين سلاسل جبلية شاهقة .
    وهكذا بدأت القافلة وهي تحمل اثنين وعشرين علويّاً تتصدر فتاة اسمها فاطمة وإخوة لها هم : هارون وفضل وجعفر وقاسم .
    في كل قرية على الطريق أو مدينة كانت القافلة تتوقف وكانت فاطمة تتحدث عن مجد علي.. علي الذي أصبح اسمه راية الثورة ، ومناراً للعدالة وعنواناً للكرامة والحرّية .
    وعلى الذين ينشدون الغد الاخضر أن يلتحقوا بركب علي الذي انطلق في لحظة الفجر من محراب الكوفة .


236
    قالت فاطمة :
    ـ عن امنا فاطمة قالت : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول : « مكتوب على الستر : بخ بخ من مثل شيعة علي !!
    وعن أمنا فاطمة : قال رسول صلّى الله عليه وآله وسلم : ألا من مات على حب آل محمد مات شهيداً...
    وعن أمنا فاطمة قالت : « انسيتم قول رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم غدير خم : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه ؟ وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم : أنت منى بمنزلة هارون من موسى » ؟!
    آه يا يوم الغدير يا يوماً من أيام الله ! كيف سقطت من الذاكرة فضعت وضاعت معك كل الاشياء الجميلة ؟ ويا عيداً ولدت شهيداً !
    ألأنك صرت رمزاً ليوم الامام ، وعيداً للإمامة ؟!
    كانت فاطمة غارقة في مأساة لا تعرف أسرارها... كيف أصبح الحق مقهوراً ، ولماذا... ولماذا ينزلق البشر في طريق الشرور يبحثون عن السعادة في وديان مظلمة مليئة بالافاعي والحيّات ؟!
    لماذا تصاب بغداد بالجنون عندما سمعت نبأ ولاية عهد


237
الامام ؟!..
    ألهذا الحدّ تنحط بغداد لتصبح مثل « سدوم » 126 .
    وتداعت في أعماق فاطمة كلمات قالها شقيقها في لحظات مشحونة بغضب الانبياء... عندما نسيت الأمّة كلمات السماء في غدير خم ما تزال كلمات أخيها وهو يحاور صاحبه مثل يراعات تبدد الظلمات :
    ـ « يا عبد العزيز ! جهل القوم ، وخدعوا..
    إنّ الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه حتى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء : ( ما فرّطنا في الكتاب من شيء ) 127 وأنزل في حجة الوداع في « غدير خم » : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الاسلام دينا ) 128 ..
    الامام من تمام الدين ، ولم يمض رسول الله حتى بين لأمته معالم دينها ، وأوضح لها سبيلها ، وتركها على قصد الحق ، وأقام لها علياً.. وما ترك شيئاً تحتاج إليه الأمّة الا بينه ، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله عز وجل ومن ردّ كتاب الله تعالى فهو كافر..
    هل يعرفون قدر الامامة ، ومحلّها من الأمة فيجوز فيها


238
اختيارهم ؟ إن الامانة أجلّ قدراً وأعظم شأناً ، وأعلى مكاناً ، وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بحقولهم أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا اماماً باختيارهم..
    إن الامامة خص الله بها إبراهيم الخليل بعد النبوّة والخلّة ؛ مرتبة ثالثة ، وفضيلته شرّفه بها فقال عز وجل : ( إني جاعلك للناس إماماً ) .
    فقال الخليل : « ومن ذريّتي » ؟
    قال الله عز وجل : ( لا ينال عهدي الظالمين ) .
    فأبطلت الآية إمامة كل ظالم الى يوم القيامة...
    ولم تزل الامامة في ذريّة إبراهيم يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورثها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ، فقال الله عز وجل : ( إن أولى الناس بابراهيم لَلذين اتبعوه وهذا النبي الأمي والذين آمنوا والله وليّ المؤمنين ) 129 ، فكانت له خاصّة ، فقلّدها علياً بأمر الله عز وجل على رسم ما فرضها ، فصارت في ذرّيته الاصفياء الذين آتاهم الله العلم والايمان بقوله عز وجل : ( فقال الذين اُتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله الى يوم البعث ) 130 .
    فهي في ولد علي خاصّة الى يوم القيامة إذ لا نبي بعد


239
محمد فمن أين يختار الجُهّال ؟!
    الامام : السحاب الماطر.. والغيث الهاطل.. والشمس المضيئة .. والأرض البسيطة.. والعين الغزيرة.. والغدير والروضة.. الامام : الامين ، الرفيق ، والوالد الرقيق ، والأخ الشفيق.. »
    وتجمعت الدموع في عيني فاطمة.. تبكي من أجل اُمّة ما تزال تمعن في الضياع لتغرق في بحر الظلمات..
    القافلة ما تزال تشق طريقها لتصل تخوم ساوة ، ممنعة في أرض متموجة رسمت فيها القوافل المسافرة خطوطاً ملتوية .


240
30
    القافلة التي تتجه صوب شيراز تصل « خان زينان » ، قافلة كبرى تتألف من خمسة عشرة انساناً ، يرومون « مرو » ، ولكن القدر كان لهم بالمرصاد...
    وتفاجأ القافلة التي حطّت رحلها لتلتقط أنفاسها بجيش جرّار يتألف من أربعين الف جندي ! وظهر « قتلغ خان » حاكم شيراز متلبساً جلد النمر..
    في مكان يبعد عن شيراز اثنين عشرين ميلاً عربياً ، هتف الحاكم بغلظة :
    ـ أين تريدون ؟!