241
أجاب أحمد :
ـ نريد مرو .
وقال أخوه محمد العابد :
ـ إنّنا نريد لقاء أخينا الرضا ! ولم يُعترض طريقنا ومعنى هذا ترخيص بالسفر !
ـ قد يكون ما ذكرت ، ولكن معنا أوامر من الخليفة بمنعكم من السفر الى مرو !
ثم هتف بصوت يسمعه الجميع :
ـ عودوا من حيث أتيتم !
سكت الإخوة لتداول الأمر فيما بينهم لا تخاذ قرار ما... أمّا حاكم شيراز فقد صرعه الغرور ، فاصدر أوامره الى الفرسان بالقيام بحركة استعراضية حول القافلة لا رهابها .
واهتزت الأرض حول القافلة ، وتصاعد الغبار ، وكانت سنابك الخيل تدك الأرض دكّاً..
قال أحمد لأخوته :
ـ ما رأيكم ؟
قال محمد العابد :
ـ لقد قطعنا مئات الأميال ، ثم إن أخانا قد استقدمنا وهو لا
242
يفعل ذلك دون استئذان المأمون .
وقال حسين :
ـ كيف نعود أدراجنا ونترك أخانا ؟!
قال أحمد :
ـ نواصل سيرنا فإن اعترضونا فالكلمة الأخيرة للسيف !
وفي اليوم التالي تحرّكت القافلة وكانت سفن الصحراء ما تزال تتجه صوب الشرق !
وصاح قائد الجيش مطلقاً تهديده الأخيرة :
ـ عودوا من حيث اتيتم..
ـ فإذا لم نفعل ؟!
ـ ستكون نهايتكم .
ـ أنتم أسوأ من قطاع الطريق !!
وأصدر القائد الغليظ القلب أوامره بالاغارة على القافلة... وبركت النوق لينزل عنها رجال اشدّاء .
وحدثت اشتباكات ضارية ، وكانت السيوف تبرق خلال غبار كصواعق تحتفل فوق أرض مجنونة... كان الرجال الاشدّاء يقاتلون ببسالة ، وكان صهيل الخيل يذكّر بملحمة
243
حدثت على شاطئ الفرات .
وزجّ القائد الغليظ القلب بسلاح المكر عندما هتف :
ـ إن كان هدفكم زيارة أخيكم فإن الرضا قد مات !
وفعلت الشائعة فعلها.. وتسلل اليأس الى القلوب التي كانت تحلم باللقاء..
بدأ الإخوة تشاورهم ؛ لا يمكن المجازفة بأرواح الناس فأعلنوا موافقتهم على وقف القتال ، وبينما كانت القافلة تتأهب للعودة ، فرّ الإخوة الثلاثة باتجاه شيراز ليختفوا هناك... فاصدر حاكم شيراز أمراً بالقاء القبض عليهم !
وهناك وعلى بعد مئات الاميال كانت قافلة أخرى تتجه الى الري وقد وصلت مدينة « ساوة ».. على طريق الجبل الذي يتجه الى خراسان . رياح تشرين الخريفية جرّدت بساتين الرمّان من خضرتها الزاهية ، ومنحتها لوناً برتقالياً يميل الى الاحمرار .
كانت الأوامر الصادرة من « مرو » واضحة ومشدّدة تقضي بقطع الطريق على العلويين المتجهين الى خراسان .
وحدث ما كان متوقعاً فقد اصطدمت قوّات من الشرطة ،
244
بالعلويين واستبسل رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة .
كانت فاطمة تنظر بأسف وحزن الى مصارع الأحبّة هارون والقاسم وجعفر ، والفضل وبعضاً من أولاد أخوتها.. وكان مشهداً كربلائياً .
وهوت فاطمة الى الأرض الملوّنة بدماء الابرياء.. وعندما فتحت عينيها وجدت نفسها وسط نسوة يذرفن الدموع كانت الشمس قد زالت ، وصوت أذان بعيد ينساب حزيناً مؤثراً.. اشهد أن محمداً رسول الله...
قالت فاطمة بحزن :
ـ أين أنت يا جدّاه لترى ما حلّ بأبنائك ؟!
وعندما أرادت أن تنهض للصلاة لم يقو جسمها النحيل على حمل روح تستعد للرحيل الى عالم بعيد عن ويلات الأرض وشرور الانسان .
هاهي الفتاة التي بلغت من العمر الثامنة والعشرين تقف وحيدة في منتصف الطريق بين « المدينة » و« مرو ».. لا تستطيع العودة ولا تستطيع مواصلة الطريق...
وها هي الآن تذوي كشمعة في آخر ليلة شتائية طويلة..
245
وتوهجت في ذاكرة فاطمة أحاديث سمعتها في زمن الطفولة والشباب.. ما تزال تتذكر والدها عندما قال :
ـ « قم عش آل محمد ، ومأوى شيعتهم » 131 .
وسمعت شقيقها يقول :
ـ « إذا عمّت البلدان الفتن فعليكم بقم وحواليها ونواصيها فإن البلاء مرفوع عنها » 132 .
وسمعته يروي عن جدّها الصادق :
ـ « تربة قم مقدّسة وأهلها منّا ونحن منهم ، لا يريدهم جبّار بسوء الا عجّلت عقوبته.. ما لم يخونوا إخوانهم.. فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم جبابرة سوء » 133 .
وأضاء في قلبها نور سماوي وتألقت كلمات جدّها الصادق وهو يقول : « إن لنا حرماً وهو بلدة قم وستدفن فيها إمرأة من أولادي اسمها فاطمة » 134 .
من أجل هذا تساءلت فاطمة وعيناها تتألقان بحزن سماوي :
ـ كم مسافة الى قم ؟
ـ أربعون ميلاً .
قالت وقد اضاء قلبها قنديل أمل باللقاء :
246
ـ خذوني اليها .
وعندما ولّت القافلة الى « قم » كانت فاطمة تشعر انها تنطلق الى أرض طيّبة وربّ غفور..
كان جسمها النحيل يذوب تحت وطأة الحمّى ، وأمّا روحها فكانت تسطع مثل كوكب درّي... وفي كل محطة في الطريق كانت تسأل عن بعض إخوتها الذين اختفوا بعد المعركة كانت تودّ أنهم يواصلون طريقهم الى مرو للقاء أخيهم...
ولكن الأخبار التي سمعتها لا تشجع ، فقد انقطعت أخبار الرضا ، وأخبار تتحدث عن أحزانه وعزلته ، ومعاناة شيعة كلما أرادوا لقاءه !
إن قم مخزن الرجال الاشدّاء وعش آل محمد فلعلّها إذا وصلت تستطيع أن تفعل شيئاً من أجل أخيها الوحيد !
وربّما يأتي إخوتها لزيارتها في قم.. وربما يقنطون في هذه البلدة الطيبة... من يدري ؟
247
31
كانت « مرو » تعيش حركة غير عادية منذ أن تسرّبت أنباء عن نيّة المأمون السفر الى بغداد... دوريات عسكرية تجوب مرو ، وجواسيس ينتشرون في كل مكان يمكن أن يكون مصدراً للقلاقل... وقد شُدّد الحصار على منزل الامام الرضا...
وأضحت مرو في تلك الفترة أشبه بمعسكر كبير وقد ساد التوتر أجوائها .
ولم يفلح ذو الرئاستين في ثنى المأمون عن قراره أبداً ، ولقد بدا واضحاً أن العودة الى بغدادقدرٌ لا مفرّ منه !
وبالرغم من عزم المأمون على العودة الى عاصمة آبائه بأيِّ ثمن ، ولكنّه كان متريثاً في حركته لأن الطريق الى بغداد
248
تكلّفه الكثير من المخاطرة ، ولذا فقط حرص على إثارة الخبر فقط موقناً بأن مجرّد وصول النبأ الى بغداد سوف يمهّد طريق العودة...
وتلقّى الامام قرار المأمون وإصراره على اصطحابه بصمت معبّر... إنّه يدرك هواجس الخليفة الذي وقع في مأزق صنعه بنفسه..
كان المأمون يخطط الى اخماد البركان العلوي الثائر بتعيين الامام ولياً للعهد.. ثم يعمل فيما بعد في الحطّ من شأنه واظهار عجزه العلمي ، وطموحاته في الاستيلاء على الخلافة وأطماعه ، ومن ثم يضرب ضربته القاضية..
ولكن ما حصل أن الرضا كان يتألّق كل يوم وأصبح رمزاً انسانا ونموذجاً ومثالاً للمسلم... وهذا يعني فشل المأمون وتهافت خططه..
وفي تلك الليلة وفيما كانت رياح تشرين الباردة تجوس خلال الديار ولج الامام محرابه ، وقد اقفر منزله.. واستحال الى سجن بسبب تشديد الحصار !!
وقف الرجل الاسمر في المحراب وقد اتجه بكلّيته إلى السماء... كل ذرّة في كيانه كانت تضجّ بالحزن.. وكل خلية في
249
وجوده كانت تشكو القهر.. وكان قلبه الكبير.. يخفق بالاتحاد مع حقيقة الوجود ومبدأه...
وارتفعت يدا الانسان المقهور تجسّدان التحام الانسان بالاله.. في عبودية تمثل ذروة الحرّية الانسانية :
ـ اللهم يا ذا القدرة الجامعة ، والرحمة الواسعة والمنن المتتابعة !
والآلاء المتوالية.. والأيادي الجميلة ، والمواهب الجزيلة !
يا من لا يوصف بتمثيل ، ولا يمثل بنظير...
يا من خلق فرزق ، وألهم فأنطق...
وابتدع فشرع ، وعلا فارتفع... وقدر فأحسن ، وصوّر فأتقن... يا من سما في العزّ ففات خواطف الابصار !
ودنا في اللطف ، فجاز هواجس الافكار !
يا من تفرّد بالملك فلا ندّ له في ملكوت سلطانه !
وتوحّد بالكبرياء فلا ضدّ له في جبروت شأنه !
يا من حارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام !
وحسرت دون إدراك عظمته خطائف أبصار الأنام !
يا عالم خطرات قلوب العارفين ، وشاهد لحظات أبصار الناظرين !
250
يا من عنت الوجوه لهيبته... وخضعت الرقاب لجلالته ، ووجلت القلوب لخيفته...
صل على من شرفت الصلاة بالصلاة عليه..
وانتقم لي ممن ظلمني ، واستخف بي ، وطرد الشيعة عن بابي..
أذقه مرارة الذلّ والهوان كما اذاقنيها..
واجعله طريد الأرجاس... وشريد الانجاس » 135 .
وكانت الرياح ما تزال تجوس خلال الديار... السماء تكتظ بنجوم تومض كقلوب خائفة !
كان علي الرضا يجسّد ظلامة الانسان ، وكان الحصار المفروض عليه يرمز الى حصار الاسلام النقي كما جاء به آخر الانبياء في التاريخ .
وجلس « ياسر » يبكي بصمت محنة الامام... إنّ كل ما تنبأ به يتحقق أو سيتحقق.. وقد ظهر المأمون على حقيقته لم يكن ثعلباً كما تصوّر البعض.. لقد كان ذئباً شرساً في جلد ثعلب !
وكانت الأخبار التي وصلت من « شيراز » و« ساوة » لم تترك مجالاً للشك في أن المأمون يضمر حقداً دفيناً للامام ومما زاد من الشكوك أن السجناء الثلاثة الذين رفضوا بيعة