211
والخلق الثالث : ما كان من الانواع كلّها محسوساً ، ملموساً ، ذا ذوق منظور اليه .
والله تبارك وتعالى سابقاً للحروف ، والحروف لا تدلّ على غير نفسها.. »
وكلّ عقل المأمون وهو يلاحق تدفّق المعاني المذهلة فقال :
ـ كيف لا تدلّ الحروف على غير أنفسها ؟!
أجاب الامام :
ـ إنّ الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً ، فإذا ألف منها أحرفاً أربعة ، أو خمسة أو ستة أو اكثر من ذلك أو أقل لم يؤلفها بغير معنى ولم يكن الا لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً..
وتساءل المأمون :
ـ كيف لنا بمعرفة ذلك ؟
ـ المعرفة في ذلك : إنك تذكر الحروف ـ إذا لم ترد بها غير نفسها ـ فرادى فتقول : أ ، ب ، ت ، ث ، ج ، ح ، خ ، حتى تأتي على آخرها ، فلم تجد لها معنى غير أنفسها ، واذا ألفتها وجعلت منها
212
أحرفاً وجعلتها اسماً وصفة لمعنى ما طلبت ، ووجه ما عنيت ، كانت دليلة على معانيها داعية الى الموصوف بها.. أفهمت ؟
ـ نعم .
واستأنف الامام حديثه :
ـ واعلم أنه لا يكون صفة لغير موصوف ، ولاحدّ لغير محدود ، والصفات ، والاسماء كلها تدلّ على الكمال ، والوجود ، ولا مثال على الاحاطة ، كما تدلّ على الحدود التي هي التربيع والتثليث والتسديس.. لانَّ الله عز وجل تدرك معرفته بالصفات والأسماء ، ولا تدرك بالتحديد ، بالطول والعرض ، والقلّة والكثرة ، واللون والوزن ، وما أشبه ذلك..
ولكن يدلّ على الله عز وجل بصفاته ، ويدرك بأسمائه ، ويُستدلُّ عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد الى رؤية عين ، ولا استماع أُذن ، ولا لمس كف..
ولو كانت صفاته جل ثناؤه لا تدلّ عليه ، وأسماؤه لا تدعوا اليه ، والمعلّمة من الخلق لا تدركه لمعناه ، كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه ولكان المعبود الموحّد غير الله..
213
أفهمت يا عمران ؟
ـ نعم يا سيدي.. زدني !
ـ إياك وقول الجهال من أهل العمى والضلال الذين يزعمون أن الله جلّ وتقدّس موجود في الآخرة للحساب في الثواب والعقاب ، وليس موجود في الدنيا للطاعة والرجاء... ولو كان في الوجود لله عز وجل نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً.. ولكن القوم تاهوا وعموا وصمّوا عن الحق من حيث لا يعلمون ، وذلك قوله تعالى : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلُّ سبيلاً )114 .. يعني أعمى عن الحقائق الموجودة وقد علم ذوو الألباب : ان الإستدلال على ما هناك لا يكون الا بما ها هنا ، ومن أخذ علم ذلك برأيه ، وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك الا بعداً لأنّ الله عزّ وجل جعل علم ذلك خاصّة عند قوم يعقلون ، ويعلمون ويفهمون .
ـ يا سيدي أخبرني عن الابداع أخلق هو أم غير خلق ؟
ـ بل خلق ساكن ، لا يدرك بالسكون ، وإنّما صار خلقاً لانه شيء محدث ، والله تعالى الذي أحدثه فصار خلقاً له ، وإنّما هو الله عزّ وجلّ خلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما ، فما خلق الله
214
عزّ وجل لم يعد أن يكون خلقه ، وقد يكون الخلق ساكناً ومتحركاً ومختلفاً مؤتلفاً ومعلوماً ومتشابهاً ، وكل ما وقع عليه حد فهو خَلْق الله عزّ وجل واعلم أن كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس وكل حاسة تدلّ على ما جعله الله عزّ وجل لها في ادراكها ، والفهم من القلب بجميع ذلك كله واعلم أن الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقاً مقدّراً بتحديد وتقدير ، وكان الذي خلق خلقين اثنين : التقدير والمقدّر ، وليس في كل واحد منهما لون ولا وزن ، ولا ذوق ، فجعل أحدهما يدرك بالآخر وجعلهما مدركين بنفسهما ، ولم يخلق شيئاً فرداً قائماً بنفسه غيره للذي أراد من الدلالة على نفسه ، واثبات وجوده...
فالله تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه ، ويعضده ، ولا يكنّه ، والخلق مما يمسك بعضه بعضاً باذن الله تعالى ومشيئته ، وانما اختلف الناس في هذا الباب حتى تاهوا ، وتحيّروا ، وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمةفي وصفهم الله تعالى بصفتهم أنفسهم ، فازدادوا من الحق بعداً ، ولو وصفوا الله عز وجل بصفاته ووصفوا المخلوقين بصفاتهم ، لقالوا بالفهم واليقين ، ولما اختلفوا ، فلما طلبوا من ذلك ما تحيروا فيه ، ارتبكوا.. والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم...
215
وخشع قلب عمران :
ـ أشهد انه كما وصفت ، ولكن بقيت لي مسألة ؟
ـ سل عمّا أردت !
ـ أسألك عن الحكيم في أي شيء هو ؟ وهل يحيط به شيء ؟ وهل يتحول من شيء الى شيء ؟! وبه حاجة الى شيء ؟
ـ اخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه فانه من أغمض ما يرد على الخلق في مسائلهم ، وليس يفهم المتفاوت عقله ، العازب حلمه ولا يعجز عن فهمه أولوا العقل المنصفون..
أما أول ذلك فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول : يتحول الى ما خلق لحاجته الى ذلك ، ولكنه عز وجل لم يخلق شيئاً لحاجة ولم يزل ثابتاً لا في شيء ولا على شيء ، الا أنّ الخلق يمسك بعضه بعضاً ويدخل بعضه في بعض ، ويخرج منه ، والله جلّ وتقدس بقدرته يمسك ذلك كلّه ، وليس يدخل في شيء ، ولا يخرج ، ولا يؤوده حفظه ، ولا يعجز عن امساكه ، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك ؟ الا الله عز وجل ومن أطلعه عليه من رسله ، وأهل سرّه ، المستحفظين لأمره وخزانه ، القائمين بشريعته ، وانما أمره كلمح البصر أو هو أقرب إذا شاء شيئاً فإنّما يقول له : « كن فيكون » بمشيئته وإرادته ، وليس شيء
216
أقرب إليه من شيء ، ولا شيء أبعد منه من شيء...
أفهمت يا عمران ؟
ـ نعم يا سيدي.. وانا اشهد ان الله تعالى على ما وصفت ، ووحدت ، وأشهد أن محمداً عبده المبعوث بالهدى ، ودين الحق .
ولأول مرّة يسجد عمران لله الذي أضاءت حقيقته الكبرى قلبه وطريقه وحياته .
وعانق الامام عمراناً الذي دخل ملكوت الاسلام دين الله الحق وكلمة السماء الأخيرة...
217
27
سجد عمران لله وكان قلبه يستحمّ تحت رشاش الحقائق الالهية التي يسمعها أول مرّة ، وفرّت الشكوك والوساس مذعورة أمام شمس الحقيقة كاشباح ضبابية..
شعر عمران انه يولد من جديد.. ما أجمل الانسان وهو يشهد لحظة الميلاد الحقيقي وما أجمل اللحظة التي يولد فيها الانسان !
غادر الذين حضروا الصراع.. صراع الأفكار والرؤى الحقائق والأوهام .
وفي ضوء القمر كان عمران في طريقه الى منزل الامام ، فيما اختلى محمد بن جعفر الصادق بصديق للامام :
218
ـ يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك ؟.. لم أكن أعلم أن ابن أخي « علي » خاض في الكلام ، ولا عرفناه به أو إنّه كان يتكلم بالمدينة ! أو يجتمع اليه اصحاب الكلام .
أجاب النوفلي وهو ما يزال منتشياً بالانتصار :
ـ كان الحُجّاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم وربّما كلّم من يأتيه بحاجة
قال العم متوجساً :
ـ إني أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمّه أو يفعل به بليّة ، فأشر عليه بالامساك عن هذه الاشياء .
أجاب النوفلي محاولاً طرد الوساوس :
ـ إنَّ المأمون لا يريد سوى امتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه ؟
أجاب العمّ الذي يعرف طبيعة المأمون .
ـ قل له : إنّ عمّك قد كره هذا الباب ، وأحب أن تمسك عن الخوض في هذه الاشياء لاسباب شتى...
رحب الامام بضيفه الكريم وقدّم له هديّة عبارة عن حلّة جديدة وعشرة آلاف درهم .
219
وتأثر عمران بشدّة فهتف جذلاً :
ـ جعلت فداك حكيت فعل جدّك !!
وعندما غادر عمران قال النوفلي :
ـ إنّ عمّك يطلب منك ألّا تخوض في الكلام.. انه يخشى عليك من المأمون الحسد !
ـ إنّه لعمّ كريم !
انتصف الليل في « مرو » ، وأغمضت العيون عيون الفلاحين البسطاء والناس الفقراء وفي تلك الليلة أرق المأمون وتناهبته هواجس راحت تعوي كذئاب مجنونة ، الليل والوحدة تحيل الهواجس الى أشباح مخيفة مقلقة...
« بغداد » هائجة ، و« مرو » مفتونة بالرضا... بالمطر... بالبركةالتي انقذت المدينة من الجوع... والعلماء وزعماء الأديان مبهورون به وذو الرئاستين يعمل في الخفاء !
وفي ذلك العالم المترع بالشرور ، كان الامام ينسلّ من منزله كطيف ، يدور في أزقّة المدينة الى حيث تنهض بيوت الفقراء والمحرومين ، والعيون التي تغمض في أمل بغدٍ مبارك..
ولمح الامام أشباحاً تمرق في الظلام وقد غاب القمر منذ مدّة وهو يرى تلك الاشباح التي تراقبه وتتبعه في الليل في
220
دروب المدينة .
وعاد الامام الى منزله بعد رحلته الليلية ليلمح على بعد خطى شبحين ينتظران في الظلام..
ولم يعرفهما حتى أماط اللثام : الفضل بن سهل الوزير ، وهشام بن ابراهيم ! العيون تبرق بالمؤامرة :
ـ لقد جئناك بأمرٍ هام .
وعندما دخلا حجرة على اليسار ، واستقرّ بهما المجلس قال هشام :
ـ إنما جئناك لنقول كلمة الحق والصدق..
وأخرج الفضل صحيفة ملفوفة، نشرها وراح يقرأ ما كان قد سطّره فيها :
ـ ان الخلافة حقكم يا بن رسول الله ، والذي نقول بألسنتنا عليه وضمائرنا ، والا ينعتق ما نملك.. والنساء طوالق.. وعلينا ثلاثون حجة راجلين.. على أن نقتل المأمون ، ونخلص لك الأمر ، وحتى يرجع الحق إليك..
فاحت رائحة المؤامرة ، الدم ، الاغتيال...
ما الذي جعل الفضل يفكّر بهذا الاسلوب ؟ ولماذا هذا