51
    ـ « اخبرني الرشيد عن آبائه ، وعمّا وجده في كتاب الدولة إنّ السابع من الولد العباس ، لا تقوم لبني العباس بعده قائمة ، ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته » 21 .
    وفي تلك الليلة الطويلة وعندما أغمض المأمون عينيه رأى في عالم الرموز والأطياف كثيراً من الأشياء تخطف أمامه كالأشباح الغامضة أمّا هو فكان يهودي في متاهات غارقة في ظلمة كثيفة... ظلمة تشبه بحراً لا قرار له ولا انتهاء .
    ورأى نفسه في قارب متهرئ الأشرعة تعصف به الريح من كل مكان ورأى حبلاً ممدوداً من السماء الى الأرض فتعلّق به ليتجه به لا إلى السماء ولكن الى الشاطئ الصخري القريب... وانتبه من نومه على شمس أيلول ترسل اشعتها من وراء التلال البعيدة .
    فكان أول شيء خطر في ذهنه المتيقظ وهو يحشر نفسه في عالم يضجّ بالوقائع اسم علي.. علي بن موسى..
    هتف المأمون بصوت فيه آثار سهر طويل :
    ـ ألم يحضر هرثمة بعد ؟
    وجاء جواب حارس من وراء ستائر مخملية :


52
    ـ هو يتنظر منذ الفجر .
    ـ عليَّ به !
    ـ الآن يا سيّدي ؟!
    صرخ متضايقاً :
    ـ أجل الآن !
    وبرقت عينا المأمون حتى شعر هرثمة أن أشعة نفّاذة إن تغوص في عظامه قال متخاذلاً :
    ـ السلام على أمير المؤمنين عبدالله المأمون...
    ـ ... ماذا يغضب سيدي ؟
    ـ كفى هراءً.. إنّني اعرف كل الاعيبك .
    ـ لا أدري ماذا تقول ؟
    ـ تظنّني غافلاً عنك.. ان لي عيوناً تبحلق في الظلام.. أم تظنني لا أعرف ما قلته للمخلوع 22 ؟ وهل أن أبا السرايا قد ثار لوحده.. إنّها دسيستك 23 .
    شعر هرثمة أن وراء هذه الإتهامات مؤامرة يحوكها الفضل بن سهل فقال مدافعاً .


53
    ـ أن لهذه الاتهامات جواباً يا سيّدي .
    صرخ وهو يشير الى الحرس :
    ـ لا أريد أن اسمع كلمة واحدة.. خذوه .
    سقطت الذبابة في بيت العنكبوت ليس هناك من أمل في الخلاص ، سار هرثمة في خطى متخاذلة الى سجن حقير في مرو ليقضي في زواياه المظلمة آخر أيام حياته .
    وبرقت في خاطره صوراً ملوّنة يوم كان حاكماً في افريقيا ويوم كان أميراً للخراسان ، ويوم وقف الخليفة الأمين أمامه بخضوع يطلب منه التوسط لدى أخيه في انقاذ حياته.. وها هو الآن اسيرٌ في بيت العنكبوت.. لن يهبّ لنجدته أحد ولن ينقذه أحد..
    وصادفه الفضل في طريقه الى قصر المأمون فأراد أن يبصق في وجهه ولكنه تظاهر بالشجاعة فرفع رأسه عالياً .


54
7
    دخل الفضل قصر الخليفة السابع وقلبه يرقص فرحاً لقد انتهى أمر هرثمة وبقي طاهر بن الحسين أن له يوماً ليس ببعيد وبعدها يضرب ضربته القاضية .
    منذ شهور وهو يفكر في خطّة سرّية لا يعرفها حتى أخيه « الحسن » 24 وها هو المأمون يفكّر فيما يسهل عليه مهمته..
    انبعث بريق مخيف من عينيه سرعان ما تبدد مع أول ابتسامة يتصنّعها أمام المأمون .
    هبّ الخليفة الشابّ لاستقباله بابتسامه متصنّعة أيضاً لا تقل عن ابتسامة الوزير مكراً .


55
    وعندما أخذ الفضل مجلسه قرب الخليفة بدأت اللعبة ، وكلاهما ماهر فيها .
    قال المأمون لينفذ في قلب وزيره :
    ـ كيفتك امر هرثمة وهو الآن في السجن .
    ـ انه لا يخلص لك كما قلت.. أعرف نوايا هؤلاء القادة .
    ـ ولكنّ العلويين لا يكفون عن اثارة القلاقل.. وقد سمعت أن أبراهيم بن موسى الكاظم قد ثار بمكة ، ونقل لي الجواسيس أنه في طريقه الى اليمن .
    وبعد صمت استأنف المأمون حديثه حذراً :
    ـ لقد فكرت كثيراً في الأمر.. ان الخطر الحقيقي يكمن هنا.. في هؤلاء العلويين.. الناس يحسبونهم انبياء ويتناقلون قصصاً عجيبة عن زهدهم.. اتعرف لماذا يا فضل ؟
    ـ ؟!.
    ـ لأنهم يعيشون في الخفاء.. لأنهم يعيشون بعيداً عن الانظار... فلو ظهروا اكتشف الناس عيوبهم ، ولعرفوا أنهم لم يرفضوا الدنيا الا لأن الدنيا رفضتهم .
    تظاهر الوزير بالبراءة :


56
    ـ ولكن يا أمير المؤمنين انهم لم يظهروا ، وكيف يظهرون وقد فعل الرشيد بهم ما فعل.. شرّدهم في بقاع الأرض وها نحن نحصد ما زرعه الآباء .
    ركز المأمون نظره :
    ـ أعرف كيف اجعلهم يظهرون.. أمنحهم الأمان .
    ـ أنهم لن ينخدعوا بذلك ولن يصدّقوا أبداً .
    ـ فاذا جعلت أحدهم وليّ عهدي .
    انتفض الوزير كمن لسعته عقرب .
    ـ ماذا ؟! ماذا أسمع ؟
    ـ أجل لقد قررت أن اجعل أحدهم وليّاً لعهدي فاذا فعلت ذلك اطمأنوا وظهروا .
    ـ ولكن هذا يا سيدي ينطوي على كثير من المخاطرة ان بني العباس لم يغفروا لك قتلك أخيك فكيف تريد أن تقضي على ملكهم وخلافتهم ؟!!
    ـ أنني افعل ذلك من أجلهم.. ألا ترى العلويين يثورون في كل مكان.. الناس معهم.. ثم ألا ترى عواطف أهل الخراسان ؟ انهم يحبوننا لأنهم لا يفرقون بيننا وبين بني عمّنا... أتنسى


57
مناحات خراسان على يحيى بن زيد ؟ ألم تستمر سبعة أيام بلياليها ولم يلد مولود ذكر ذلك العام الا سموه يحيى 25 !!
    سكت الفضل فيما كان المأمون يتحدث بلا انقطاع :
    ـ أنني اصطاد عشرة غزلان بسهم واحد.. وهذا يتوقف أيضاً على فطنتك .
    تطلّع الفضل حذراً :
    ـ ؟!!
    ـ ألا ترى الخليفة كيف يزهد في الدنيا.. يسند ولاية العهد الى أحد أبناء علي ؟!..
    أجاب الفضل وقد اكتشف خطته :
    ـ أجل أرى ذلك !
    ـ ثم ألا ترى كيف أن الخليفة عرف الحق وهو يريد إعادته لأهله ؟!
    ـ أجل ارى ذلك !!


58
    توقف عقل سهل لكأنما اصيب بشلل مفاجئ لم يعد يبرق ذهنه.. انطفأت افكاره في حفرة ابن الرشيد وحفيد المنصور.. ولكنه قال حتى لا يظهره بصورة الاحمق :
    ـ ومن سينتخب الخليفة لولاية عهده يا ترى ؟!
    ـ علي بن موسى بن جعفر الصادق بن...
    انتفض ملدوغاً :
    ـ ماذا ؟؟ علي بن موسى ؟! الرجل الذي قتل أبوك أباه ؟!
    ـ وما في ذلك ؟
    اعتصم الفضل فوجئ... أنه لا يعرف ماذا يقول... كان يودّ لو أن المأمون نفذ خطته مع غير علي بن موسى ، صحيح أنه لا يعرف عنه شيئاً ولكن جهله بهذا الرجل جعله يتوجس مما يقدم عليه المأمون .
    قال الخليفة قاطعاً خيوط افكاره :
    ـ اذا لم نفعل ذلك فان كثيراً من آباء السرايا سيظهرون هنا وهناك مادام يوجد علويّ يرفع راية الثورة .
    ـ!!!
    ـ ماذا يا فضل ما عهدت عنك السكوت ؟!


59
    ـ الخليفة المأمون يعرف ماذا يفعل !!
    ـ وإذن فأنت موافق يا وزيري العزيز ؟!
    ـ أن هذا يثقل أوزاري عند أهل بيتك في بغداد !
    ـ ولكنّه يزيد في شأنك لدى أهل خراسان..لا تنسى هذا يا ابن سهل !
    استغرق المأمون في بحر من أفكار لا نهاية له ، فاطرق ينظر الى سجّاده فارسية زاخرة بالنقوش والألوان وأدرك الفضل أن عليه أن ينسحب تاركاً الخليفة مع غزله الجديد ! .
    ولم ينقض ذلك اليوم حتى أدرك رجاء بن الضحاك 26 طبيعة مهمته القادمة في المدينة المنورة !
    منذ مصرع « الجعد » 27 الذي ذُبح في عيد الاضحى ، وحركة التأويل والتفسير تأخذ طريقاً جديداً.. طريقاً بعيداً عن روح الكلمات... وراح الذين جاءوا ببعده يستنطقون ظاهر القرآن وحده أمّا روحه.. أما الاعماق... فقد ظلت بعيدة عمّن يسبرها ، ويغوص فيها.. وتلك محنة النص القرآني ان الذين تلقوا كلمات الله تلقّوها شرارة للروح وجمرة متوقدة في الذهن ، ومضت أجيال وأجيال ، وجاء جيل لم ير من القرآن سوى كلمات وحروف ، لا روح ، ولا جوهر ولا مكنون .


60
    وجاء ابن الجهم 28 ذلك المساء الخريفي الى منزل في المدينة جاء يحمل اسئلة العصر الجديد ، وقد سطع نجم المعتزلة في سماء الفكر حيث التفسير بالرأي والاستنادإلى الاعتبارات العقلية 29 والاستنطاق الظاهري هو القاعدة .
    الحجرة الطينية تفوح برائحة الأرض المرشوشة بمطر ربيعي ، وفي زاوية من الحجرة جلس علي بن موسى وقد أطلّ وجهه الاسمر الوضيء كقمر في ليلة صيفية... وفي الحجرة رجال عديدون جاءوا من أصقاع متعددة وكل يحمل اسئلته واسئلة غيره .
    ونظر الامام الى رجل قادم من الحدود مع الروم ، اعتدل الرجل في جلسته وسأل :
    ـ قوم من العدوّ صالحوا ثم نقضوا الصلح ، فهاجمهم حرس الحدود ، وسبوا نساءهم وأطفالهم هل يجوز شراءهم ؟
    سأل الامام عن بواعث نقضهم الصلح :
    ـ ولم نقضوا ؟ أحقداً وعداءً للاسلام ، أم انهم ظُلموا وقُهروا فثاروا ؟
    « إن كان من عدو قد استبان عداوتهم فاشتر منه وإن كان قد نفروا وظُلموا فلا يباع من سبيهم » 30 .