171
وأجدادك ، وتنتظر في أمور المسلمين ، ولا تكلهم الى غيرك...
وشعر فضل بالرعب ؛ إن عودة المأمون الى بغداد تعني نهاية أحلامه وطموحاته فاندفع يقول :
ـ ما هذا الرأي وما هذا بالصواب ، قتلت بالأمس أخاك وازلت الخلافة عنه ، وبنو أبيك معادون لك ، وجميع أهل العراق وأهل بيتك والعرب ، ثم انك اسندت ولاية العهد لأبي الحسن وآل العباس لا يرضون بذلك .
وأراد المأمون معرفة موقفه :
ـ فما رأيك إذن ؟
ـ الرأي انت تقيم بالخراسان حتى تسكن قلوب الناس ، ويتناسون مصرع أخيك... وها هنا رجال قد خدموا الرشيد ، وعرفوا الأمر فاستشرهم في ذلك ، فإن أشاروا بذلك فأمضه 105 .
ـ من تعني ؟
ـ علي بن أبي عمران وأبا يونس ، والجلودي !
وظهرت سحابة همُّ على جبين المأمون.. إنّ العودة الى بغداد أمر لابدّ منه ولكن بغداد لن ترضى لا بوزارة الفضل ، ولا
172
بولاية الرضا..
وعرف الامام ما يعتمل في أعماق المأمون من هواجس ! فقال :
ـ إن اردت نصحي فإن عليك أن تعفيني من ولاية العهد 106 ، وتعفي الفضل من الوزارة.. وبهذا تكون الطريق الى بغداد أمامك ممهّدة .
تظاهر المأمون بأنه لم يسمع شيئاً .
ـ ندخل معاً بغداد .
فأجاب الامام :
ـ تدخل أنت بغداد !
ـ وأنت ؟
ـ ما أنا وبغداد.. لا أرى بغداد ولا تراني 107 !
وأصبح الجوّ متوتراً ، وكان المأمون يكابد هموماً في أعماقه ، وبدأ يتوجس خيفة من المستقبل المجهول .
173
24
اين موقع الانسان في الطبيعة ؟ وهل يمكنه أن يؤثر في مسار تقلّباتها وقوانينها ؟ وما هو المدى في ذلك ؟ ولماذا تستجيب الأقدار في بعض الاحيان عندما يرفع الانسان كفّيه الى السماء في اللحظة التي يقف فيها عاجزاً ؟!
هل الانسان جزءٌ صغير في الطبيعة التي تحيط به فيؤثر بقدر حجمه أم هو محور من محاورها أو محورها الأساس ؟ ولماذا يتجه فقط وفي لحظات العجز الى النقطة التي يدور حولها رحى الوجود ؟
لقد كفّ الناس عن استطلاع السماء والغيوم ، واستشمام الرياح التي تهب شمالاً والتي تتجه شرقاً ، لم يعد هناك من أمل
174
بعد أن أوشك ثلث من الربيع الجاف على الانصرام... ان القحط ، سيأتي بعده الجوع ، وبعده يأتي القلق والخوف وتزلزل القيم الأخلاقية ، وتظهر كل الغرائز الدفينة في أعماق البشر من طمع وحرص ولصوصية واحتيال و...
وفي غمرة هذا الظلام واليأس جاء الاعلان عن نيّة الامام الرضا في إقامة صلاة الاستسقاء في عرض الصحراء شمس أمل تبعث النور والدفء .
وكان الناس في الليالي التي سبقت يوم الاثنين يهمسون عن كرامات لأهل هذا البيت المبارك .
وعندما بزغت شمس الاثنين ، كانت جماهير مرو وأهل القرى المحيطة بها تتدفق الى عرض الصحراء ، وقد نصب منبر مصنوع من جذور أشجار الجوز .
وجاء الامام ، تبدو على وجهه ملامح نبوّات غابرة ، وتشعّ من عينيه نظرات فيها رحمة ومحبّة ، وبدا وهو يتجه الى مكان قريبٍ من المنبر إنه يحمل الكثير من أسرار الكون ، لم يكن يحمل حتى ذرة واحدة من كونه شخصية سياسية في الدولة والرجل الثاني فيها وربما الأول فيما بعد .
وكان هناك شاعر 108 بدا مبهوراً بهذا الوجه الأسمر الذي
175
تطوف جبينه أنوار سماوية !
وفجأة انفجرت أصوات كانت تتدفق من القلوب لا من الحناجر :
الله اكبر.. الله اكبر.. لا إله الا الله .
القلوب تمجّد الله لأنه ترى الكائن الانساني الذي طهره الله ليكون مثالاً للبشرية .
لماذا يبكي البعض كلّما وقعت عيناه على هذا الانسان ؟ هل يرى فيه الصفاء والطهر هل يجد فيه حضور السلام المفقود ؟
هدأت الاصوات وهيمن حضور تلك الروح النقية ، ولا شيء سوى رياح خفيفة تسفي التراب وقام الامام للصلاة.. وتدفق شلّال من كلمات السماء ، وارتفعت اكفّ البشر العاجزة تستمطر رحمة الله.. المطر.. للناس والبهائم والزروع.. والأرض العطشى..
وتمّت الصلاة ، واتجه الامام الى المنبر ووقف الامام فوق الدرجة الأخيرة بإتّجاه الجنوب ، وعيناه تحدّقان في السماء الزرقاء..
وبصوت يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر كانت
176
كلماته تستمطر رحمة السماء للبشر.. الانسان العاجز عن سبر أسرار الوجود.. تستمطر رحمة الله للانسان الغافل.. الذي يتذكر ربّه في اللحظة الحرجة !
ـ اللهم يا رب ! أنت عظمت حقّنا أهل البيت.. فتوسّلوا بنا كما أمرت.. وأمّلوا فضلك ورحمتك... وتوقعوا إحسانك ، ونعمتك ، فاسقهم سقياً نافعاً..
وشعر الانسان الطاهر باستجابة السماء ، ها هي الرياح خلف المرتفعات البعيدة بدأت تنسج الغيوم !
وبدأت نسائم نديّة تهب من ناحية الشمال ، وظهرت بعض السحب الموجية لتلازم التلال البعيدة ، وبدت سحابة رمادية معتمة تدفعها رياح الى الذرى .
وظهرت سحب تتنامى عمودياً ولها رؤوس تشبه تلال القطن متراصّة بعضها فوق بعض كثمار الكمثرى .
وكانت الرياح تنسج سحباً تراكمية تثاقل الى الأرض وهي تنوء بحملها ، لكأنها تختزن آلاف الصواعق والرعود .
هدأت النسائم تماماً .
وبدأت السماء تنث مطراً خفيفاً كحبات الندى وفاحت رائحة الأرض المرشوشة بغيث السماء... وأصبح الجوّ شفّافاً
177
لكأنَّ الغيوم المحمّلة ببركات المطر تلغي المسافات بين السماء والأرض بين الانسان والرب...
الامام ما يزال يتجه ببصره الى الأفق البعيد... الى المرتفعات التي بدأت فيها الرياح وهي تنشئ السحاب الثقال.. وانسابت كلمات الانسان الذي طهّرته السماء :
« أيّها الناس !
اتقوا الله في نعم الله عليكم ، فلا تنفروها عنكم بمعاصيه ، بل استديموها بطاعته ، وشكره على نعمه وأياديه... وإعلموا انكم لا تشكرون الله تعالى بشيء بعد الايمان بالله ، وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أحب اليه من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم التي هي معبر لهم الى جنان ربّهم ، فإنَّ من فعل ذلك كان من خاصّة الله تبارك وتعالى...
المطر يغسل الوجوه ، والرأض تتشرب ماء السماء وكلمات الانسان المدني الذي مسّته السماء تغسل القلوب من تراكمات الغرائز المجنونة وتعيد الى البشر هويته الانسانية :
ـ « .. وقد قال رسول الله في ذلك قولاً ما ينبغي لقائل أن يزهد في فضل الله عليه إن تأمّله وعمل عليه...
178
قيل : يا رسول الله هلك فلان !. يعمل من الذنوب كيت وكيت !
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : بل قد نجا ، ولا يختم الله عمله الا بالحسنى ، وسيمحو الله عنه السيئات ، ويبدلها حسنات.. إنّه كان يمرّ مرّة في طريق ، فعرض له مؤمن قد انكشفت عورته وهو لا يشعر ، فسترها عليه ، ولم يخبره مخافة أن يخجل .
ثم إنّ ذلك المؤمن عرضه في مهواة ، فقال له : أجزل الله لك الثواب وأكرم لك المآب ولاناقشك في الحساب ، فاستجاب الله فيه ، فهذا العبد لا يختم الله له الا بخير ، بدعاء ذلك المؤمن .
فاتّصل قول رسول الله بهذا الرجل فتاب وأناب ، وأقبل على طاعة الله عزّ وجلّ ، فلم تأت سبعة أيام حتى أُغير على سرح المدينة ، فوجّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في أثرهم جماعة ذلك الرجل أحدهم فاستشهد » 109 .
وسكت الامام وراح يحدّق في السماء المثقلة بالغيوم وبدا الجوّ قلقاً ، ينذر بانفجار آلاف الصواعق ، وشاع دفء وهدوء يشبه السكون الذي سبق العاصفة ، وقد ظهرت سحب ركامية معصرة سندانية الشكل ذات قاعدة معتمة مضطربة .
179
سيكون المطر رعدياً مُخبصاً ، وأصبح الجوّ مشحوناً تماماً والغيوم على وشك الانفجار .
وتدفقت المياه الطاهرة من قلب الغيوم ، وأقواس السحاب تذوب في المطر .
واختلطت قطرات المطر ، بدموع الفرح ، وقد هبّت الجماهير تحتفُّ بالرجل المبارك الذي أظهرت له السماء كرامة كبرى وكان شاعر يترنم بكلمات أشعلها مشهد مؤثر :
ـ ذكروا بطلعتك النبيّ فهلّلوا
لما طلعت من الصفوف وكبّروا
حتى انتهيت الى المصلّى
لا بساً نور الهدى يبدو عليك ويظهرُ
ومشيت مشية خاضع متواضع لله
لا يزهو ولا يتكبّرُ
ولو ان مشتاقاً تكلّف غير ما في وسعه
لمشى إليك المنبرُ 110
وأصبحت الطبيعة مسرحاً لالتحام الانسان بالوجود ، البروق تتألق في السماء ، والرعود تجلجل في الفضاء اللانهائي ، والمطر يتدفق بغزارة ، فسالت أودية بقدر ، وامتلأت
180
الغدران والحياض .
مرو والمدن القريبة والبعيدة تغتسل بماء طهور مبارك ، وفرّت أشباح الجوع كشياطين مذعورة .
واهتزّت خيوط العنكبوت في بيت هو أوهن البيوت .