151
انزعج المأمون وخاطبه بمرارة :
ـ عليك بالانصاف.. اما ترى من حولك من أهل النظر ؟!
والتفت المأمون الى الامام وقال باحترام :
ـ كلّمة يا أبا الحسن.. فانه متكلم خراسان !
والتفت الامام الى خصمه:
ـ الإرادة.. أهي محدثة ؟
ـ ما هي محدثة .
ـ يا سليمان هي محدثة ، لان الشيء إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً ، واذا لم يكن محدثاً كان أزلياً .
ـ الإرادة منه.. أي من الله ؛ كما إن سمعه وبصره وعلمه منه .
ـ فهل أراد نفسه ؟
ـ لا .
ـ فليس المريد مثل السميع البصير .
ـ إنّما أراد نفسه ، كما سمع نفسه ، وأبصر نفسه ، وعلم نفسه...
وسدّد الامام له سؤالاً .
ـ ما معنى أراد نفسه ؟ أراد أن يكون شيئاً ، وأراد أن يكون حيّاً أو سميعاً أو بصير أو قديراً ؟
152
وارتبك سليمان ولكنّه قال :
ـ نعم .
ـ أفبإرادته كان ذلك !
وسقط المروزي في هوّة التناقض عندما قال :
ـ نعم .
عندها انقض الامام :
ـ فليس لقولك : أراد أن يكون حيّاً ، سميعاً ، بصيراً معنى إذ لم يكن ذلك بارادته !
ولم يدرِ المروزي ماذا يقول ولكنه هتف مكابراً :
ـ بلى.. كان ذلك بإرادته .
وانفجر الحاضرون بالضحك لتضارب اجوبته ، وابتسم الامام وخاطب الحضور :
ـ رفقاً به .
والتفت الى خصمه الحائر :
ـ يا سليمان فقد حال الله ـ عندكم ـ عن حالة وتغيّر عنها ، وهذا ما لا يوصف الله به .
وسكت سليمان فقال الامام :
ـ يا سليمان أسألك عن مسألة ؟
ـ سل جعلت فداك .
153
ـ أخبرني عنك وعن أصحابك تكلّمون الناس بما تفقهون وتعرفون ؟ أو بما لا تفقهون ولا تعرفون ؟
ـ بل بما نفقته ونعلم .
ـ فالذي يعلمه الناس : إنّ المريد غير الارادة ، وإنّا المريد قبل الارادة ، وإن الفاعل قبل المفعول.. وهذا يبطل قولكم : إن الارادة والمريد شيء واحد .
أجاب سليمان وهو يسقط في الخندق المضاد للبدهيات العقلية :
ـ جعلت فداك.. ليس ذلك منه على ما يعرف الناس ، ولا على ما يفقهون .
وهنا اندفع الامام ليمجد فطرة الانسان وعقله !
ـ إذن فأنتم تدعون علم ذلك بلا معرفة ، وقلتم : الارادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما يُعرف ، ولا يُعقل !!
وسكت سليمان... وقف عاجزاً عن مجابهة الحقائق .
وسأله الامام ليقوّض كل علاقه :
ـ يا سليمان ! الارادة فعل أم غير فعل ؟
ـ بل هي فعل .
فهي محدثة إذن لأن الفعل محدث .
ومرّة أخرى ناقض نفسه عندما قال :
154
ـ ليست الإرادة فعلاً !
ـ فهل هي مع الله أزلية ؟ .
وفرّ سليمان الى قلعة أخرى :
ـ الارادة هي الانشاء .
ـ هذا الذي أدنتم به « ضرارا » واصحابه في قولهم : « إنّ كل ما خلق الله في سماء أو أرض أو بحر ؛ من كلب وخنزير أو قرد أو انسان هو إرادة الله ، وإن ارادة الله تحيا وتموت ، وتذهب ، وتأكل وتشرب ، وتلتذ ، وتظلم ، وتفعل الفواحش ، وتكفر ، وتشرك » !!
وراح المزوري يراوغ فاختبأ وراء مقوله صرعت قبل قليل :
ـ الارادة كالسمع والبصر والعلم .
ـ هل أن السمع والبصر والعلم مصنوع ؟ .
ـ لا .
فكيف تنفي ذلك ؟ قلت : لم يرد ، مرّة أخرى قلت : أراد ، وهي ليست بمفعولة له .
وحار سليمان فقال :
ـ انما ذلك كقولنا : مرّة علم ، ومرّة لم يعلم .
ـ ليس ذلك سواء ، لان نفي المعلوم ليس كنفي العلم ، ونفي
155
المراد نفي الإرادة أن تكون ، لان الشيء إذا لم يرد لم تكن إرادة فقد يكون العلم ثابتاً وإن لم يكن المعلوم...
فقد يكون الانسان بصيراً ، وإن لم يكن المُبصَر .
وأجاب سليمان مهزوماً :
ـ الإرادة مصنوعة .
ـ فهي محدثة ، ليست كالسمع والبصر ، لان السمع والبصر ليسا مصنوعين .
ـ الارادة صفة من صفاته .
ـ الى متى تردد ذلك !!... فصفته محدثة أو أزلية ؟
ـ محدثة .
ـ الله اكبر.. الارادة محدثة وإن كانت صفة من صفاته لم تزل فلم يرد شيئاً ، إنّ الازلي لا يكون مفعولاً .
وهُزم سليمان ولكنّه ظل يكابر !
ـ انها كالسمع والبصر والعلم .
وهنا انفجر المأمون غيظاً لهزيمته ولمكابرته فصاح به ليفتح أمامه طريقاً للفرار :
ـ ويلك يا سليمان كم هذا الغلط والتردّد ؟! إقطع هذا... وخذ في غيره ، فلست تقوى على غير هذا الردّ !..
والتفت الامام الى المأمون :
156
ـ دعه يا أمير المؤمنين ، لا تقطع مسألته ، فيتخذ من ذلك حجة .
والتفت الامام الى خصمه :
ـ تكلّم يا سليمان !
ـ الارادة كالسمع والبصر والعلم .
ـ ما معنى هذه ، هل لها معنى واحد أم معان مختلفة ؟
ـ معني واحد .
 
ـ فمعنى الارادات كلها معنى واحد ؟
ـ نعم .
فاذا كان معناها واحداً ، كانت إرادة القيام وإرادة القعود وإرادة الحياة ، وإرادة الموت شيئاً واحداً .
وفرّ مرّة أخرى :
ـ إن معناها مختلف .
ـ فهل المريد هو الارادة أم غيرها ؟
ـ بل هو الارادة .
ـ المريد عندكم مختلف إذا كان هو الارادة .
ـ يا سيدي عندكم مختلف إذا كان هو الارادة .
ـ يا سيدي ليس الارادة المريد .
ـ فالارادة محدثة .
ـ انها اسم من اسمائه .
157
ـ هل سمّى نفسه بذلك ؟
ـ لا .
ـ ليس من حقّك أن تسمّيه بما لم يسمّ به نفسه .
ـ قد وصف نفسه بأنه مريد .
ليس صفته نفسه ، انه مريد اخبار عن إنه إرادة ولا أخبار عن إن الارادة اسم من أسمائه .
ـ لأنّ ارادته علمه .
ـ فهل إذا علم الشيء فقد أراده ؟
ـ أجل .
ـ وإذا لم يرده لم يعلمه ؟
ـ أجل .
وانتفض الامام ينسف فكره الهزيل :
ـ ما الدليل على أنّ إرادته علمه ، وقد يعلم ما لا يريد أبداً وهذا قوله عز وجل : ( لئن شئنا لنذهبنَّ بالذي أوحينا اليك ) فهو إذن يعلم كيف يذهب به ، وهو لا يذهب به أبداً .
ـ لأنه قد فرغ من الأمر فليس يزيد فيه شيئاً .
ـ هذا رأي اليهود.. فما معنى قول الله تعالى إذن : ( ادعوني استجب لكم )
ـ انما عنى بذلك إنّه قادر عليه .
158
ـ فهل يعد الله تعالى مالا يفي به ؟! وهو القائل : ( يزيد في الخلق ما يشاء ) ، وهو القائل : ( يمحو الله ما يشاء وعنده أمُّ الكتاب ) .
وهتف سليمان متشبثاً بقشّة :
ـ الارادة هي القدرة .
فقال الامام مسدّداً له الضربة الأخيرة :
ـ ان الله سبحانه يقدر على ما لا يريده أبداً ، ولابدّ من ذلك قال الله تبارك وتعالى : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك ) فلو كانت الارادة هي القدرة ، كان قد أراد أن يذهب به لقدرته .
وسكت المروزي وقد هزم هزيمته ساحقة .
والتفت المأمون حتى لا يسخر هو الآخر فجعل النصر من نصيب بني هاشم جيمعاً :
ـ يا سليمان هذا أعلم هاشمي !
159
اصبح منظر الغيوم وهي تعبر السماء « مرو » مألوفاً ولم يعد أحد ينظر بأمل الى تلك القطع البيضاء التي تمخر عباب السماء كسفن تائهة .
الناس وخاصّة كبار السنّ من المزارعين يتهاسمون عن مجاعة وقعت في زمن بعيد.. مجاعة اختطفت منهم الطمأنينة والأمل .
في الليالي كانوا يجتمعون حول المواقد ويتسامرون.. ان السماء قد حبست عنهم نعمة الماء ! وكان قلق وخوف من شبح الجوع يطلّ من العيون ولم يكن الشبّان بأسعد حالاً من الشيوخ ، لقد بدا الأمر جادّاً فمرو بل وخراسان كلّها انهارها
160
وحقولها ترتبط مصيرياً بما تجود به الغيوم .
وكانت الأخبار التي تأتيهم من اصفهان والريّ جعلتهم يفكّرون بجد في المستقبل... في ذلك الجوّ المترع بالأسى اطلّ عيد الاضحى .
وفي ليلة العيد جاء المأمون الى الامام وطلب منه أن يصلي الناس صلاة العيد وذكّر الامام الخليفة بالشروط المتفق عليها وهي عدم تدخّله في شؤون الدولة :
ـ قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط !
ـ هذا صحيح ، ولكنّي إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامّة والجنود هذا الأمر..
ـ أليس في هذا خرقٌ للشروط ؟؟
ـ بحياتي عليك .
وسكت الامام قليلاً ثم قال :
ـ إذا كان ولابدّ فإني سأخرج للصلاة كما خرج جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي علي بن أبي طالب .
ـ أخرج كيف تشاء !
وأذيع النبأ في مرو ، وأُحيط قادة الجيش بالأمر ، كان