221
التحرّق على إعادة حق الامام وبهذه الطريقة ؟
    ما الذي يريده الفضل ؟ اختبار الامام.. معرفة موقفه .
    اغتيال المأمون والسيطرة على أزمّة الحكم باسم الامام ؟
    وشعر الرجل المدني باشمئزاز من الخيانة ! خيانة الفضل لسيّده ووليّ نعمته وخيانة هشام لولائه السابق ، وتحوّله الى جاسوس.. ثم الى متآمر !
    هتف الامام وهو ينهض منهياً اللقاء :
    ـ كفرتما النعمة ، فلا تكون لكما السلامة... ولا لي إن رضيت بما قلتما..
    وغادرا المكان متوجهين الى قصر المأمون لاحاطته علماً... ودخل الامام على المأمون يحذّره من تآمر وزيره ذي الرياستين ، وقد استقبل الخليفة الماكر الحادثة متظاهراً بعدم أهميتها ، وإنّه يقدّر نوايا الجميع !
    هل كانت خطّة من الفضل وحده للاحاطة بالمأمون والافادة من ثقل ولي العهد الذي أصبح محبوباً في مرو ؟!
    هل كانت خطة من المأمون لسبر نوايا الامام ومعرفة طموحاته الحقيقية ؟ ولكن الذي حصل أن المأمون لم ينم تلك


222
الليلة ! وأنّه لم يعد يتحمّل أكثر من هذا وأنّ عليه أن يحسم الموقف .. أنْ يعود الى بغداد باسرع وقت ولكن كيف ؟!
    الطريق الى بغداد محفوفة بالاخطار ، والعباسيون هائجون ، وجريمة المأمون لا تغتفر.. وزير فارسي وولي عهد علوي!
    ماذا يفعل إذن ؟ هل يقتل ولي عهده ؟ سيثور البركان العلوي من جديد »... بركان لا يهدأ... هل يخلعه ؟ ولكن كيف ، وقد سطع نجمه وعرف الناس شأنه ومنزلته وعلمه..
    وخطر في ذهنه أن يرسل الامام الى العراق وحيداً ليكون وجهاً لوجه أمام أعدائه الألداء ! 115 وعندها ستكون هناك نهايته ! وفي تلك الليلة أصدر المأمون أوامره بتكثيف الرقابة على منزل الامام ومراقبة كل من يدخل أو يخرج ، وطرد زائريه ممن تشمّ منهم رائحة التشيّع لأهل البيت ، وقطع الطريق على قوافل العلويين الذين يرومون التوافد الى مرو .


223
28
    لاح هلال المحرّم في سماء شاحبة ذلك الغروب فبدا ابتسامة حزينة ، أو قارب يكاد يغيب في الأفق الغارق بلون رمادي كثيف .
    وكان منزل الامام غارقاً في حزن عميق لكأن تلك الروح التي تسكنه تلقي ظلالها على كل شيء ، حتى الخدم كانوا يؤدون أعمالهم وقد غادرتهم الحيويّة..
    لمحرّم ذكرياته الحزينة يأتي بها كل عام.. اعتصم الرجل الاسمر ، وقد بدا غارقاً في مشاهد كربلائية..
    ودخل عليه رجل ؛ فسأله الامام :


224
    ـ يا بن شبيب 116 أصائم أنت ؟
    ـ لا .
    ـ في مثل هذا اليوم دعا زكريا ربّه فقال : هب لي يا الهي من لدنك ذرية طيبة ، انك سميع الدعاء ، فاستجاب الله له وبشرته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب... فمن صام هذا اليوم ثم دعا الله استجاب له..
    واطلق الامام آهة حرّى واستأنف حديثه :
    ـ يا بن شبيب ! إنّ أهل الجاهلية كانوا يحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته.. ولكن هذه الامّة لم تعرف حرمة شهرها ولا حرمة نبيها... لقد قتلوا في هذا الشهر ذرّيته ، وسبوا نساءه..
    وما جت الدموع في عينيه وتهدج صوته :
    ـ يا بن شبيب ! إن بكيتَ لشيء فابك الحسين ، فلقد بكت من أجله السموات والأرض 117 .
    وساد صمت لكأنهما يصغيان الى دوي الصهيل على شاطئ الفرات بكربلاء وغمغم الإمام كأنه يحدّث نفسه :
    ـ لقد أسهر أمر الحسين جفوننا وأسبل دموعنا ، وأذلّ عزيزنا... يا أرض كربلاء أورثتنا الكرب والبلاء...


225
كان أبي إذا دخل شهر محرم لا يرى ضاحكاً وكانت الكارثة.. حتى تمضي عشرة أيام فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه 118..
    في مثل هذا اليوم أضرمت النار في مضاربنا ونهبت أموالنا ولم ترع لرسول الله حرمة ».
    وتذكر الريّان مهمة كاد ينساها ، فراح ينشد بصوت اشبه بالهمس :
رأس ابن بنت محمد ووصيـّه والمسلمون بمنظـر وبمسمـع أيقظت أجفاناً وكنتَ لها كرى مـا روضـة الا تمنّت أنـها يـا للرجـال علـى قنـاة يُرفع لا جـازع مـن ذا ولا متخشـع وأنمت عيناً لم تكن بـك تهجـع لك مضجع ولحظ قبرك موضع 119
    ـ هذا الشعر لدعبل الخزاعي 120 .
    ـ أجل يا سيّدي.. وهو في « مرو »... وقد جاء لقائك وينتظر الاذن !
    ـ ليكن اللقاء بعد صلاة العصر.. فهناك من يودّ رؤيته غيري .
    ويدخل شاعر أهل البيت.. شاعر الكلمة المقاتلة.. الكلمة


226
الثائرة.. المشرّد منذ ربع قرن.. المحكوم بالاعدام..
    قال دعبل وعيناه تفيضان حبّاً :
    ـ يا سيدي قد نظمت أبياتاً من الشعر وأحب أن تسمعها فما قرأتها على أحدٍ أبداً !
    وراح دعبل ينشر منديلاً فيه كلمات شاعرة.. ثائرة.. ولم يكن ذلك معروفاً أن يُكتب على منديل أبيض يشبه رداء الإحرام والحج ! من أجل هذا قال دعبل ليبدّد علامات استفهام ندّت من بعض العيون :
    ـ إنما فعلت ذلك لتكون في ثيابي إذا حان موعد السفر... سفرة الآخرة 121 .
    وبدأ دعبل تائيته التي قدّر لها الخلود :
تجـادبن بالأرنـان والزفـرات يخبّرن بالأنفاس عن سرِّ أنفسٍ نوائح عجـم اللفظ والنطقات أسارى هوى ماض وآخرات
    وتنساب المعاني الرقيقة من قلب انسان أمضى حياته مشرّداً بعيداً عن ربوع وطنه ودياره .
    فهو يهدي تحياته للربوع التي تركها خضراء حالمة ، تخطر فيها فتيات يرين جمالهن في الستر والعفة..


227
    ما تزال تلك المشاهد تتألق في ذاكرته كلّما وقف في سفوح عرفات... ولكن الأيام تدور ويدور معها الزمان ، ويبدأ زمن الشتات والفراق فراق الاحبة .
ومن دول المستهترين ومن غدا بهم طالباً للنور في الظلمات
    ولم يبق من أمل في الحياة الا حب آل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ، هؤلاء الذين يمثلون جوهر الاسلام وروحه .
    ولكن أبناء هند الذين اغتصبوا الحق حوّلوا الحياة الى جحيم لا يطاق وبدأت المآسي :
رزايا أرتنا خضرة الافق حمرة وردت أُجاجاً طعم كل فرات
    وأصبح الأفق الأزرق دامياً ، والفرات العذب يتحول الى ملح..
    ولم تأت المآسي الا من تلك اللحظة... من « السقيفة » التي أدّت الى البيعة « الفلتة » !
وما سهلت تلك المذاهب فيهم على الناس الا بيعة الفلتات
    من ذلك المكان والزمان بدأ الانحراف عندما أقصى الوصي فأدى ذلك الى استيلاء أعداء آل البيت والاسلام على البلاد والعباد .


228
    لم تبق في مكة والمدينة سوى أطلال تلك الديار المقدسة ، حيث كان جبريل يهبط بآيات السماء... لقد أقفرت تلك الديار من ساكنيها وأضحت خالية..
مدارس آيات خلت من تلاوة ديـار علي والحسين وجعفر منـازل كانت للصلاة وللتقى منازل جبريل الأميـن يحلها ديار عفاها جور كل منـابذ فيا وارثي علم النبـي وآله ومنزل وحي مقفر العرصات وحمزة والسجاد ذي الثفنـات وللصوم والتطهير والحسنات من اللّه بالتسليـم والرحمات ولم تعف للأيـام والسنوات عليكم السـلام دائم نفحـات
    قفا يا صاحبيَّ نسأل الدار التي رحل أهلها الى أين ذهبوا ؟ وأين تشتتوا ؟ في الآفاق البعيدة المجهولة.. و... وتوقف الشاعر عن لقد هوى الرضا مغشياً عليه لم يتحمّل قلبه الكبير ملحمة الكلمات عندما تكون خلاصة للدماء والدموع والأحزان... وأفاق ليقول بصوت فيه حزن الميازيب في المطر :
    إقرأ يا خزاعي :
وأين الألى شطت بهم غربة النوى قفا نسـأل الدار التـي خَفّ أهلها أفانيـن فـي الآفـاق مفترقات متى عهدها بالصوم والصلوات
لقد غدر بهم الزمان ، وارتدى الحاقدون قناع النفاق


229
ليثأروا من بطل « بدر » و« أحد » و« حنين » .
سقى الله قبراً بالمدينة غيثه نبي الهدى صلى عليه مليكه فقد حل فيه الأمن والبركات وبلّغ عنه روحـه التحفات
    وتهدّج صوت الشاعر وهو يقول :
« أفاطم لو خلت الحسيـن مجدّلاً إذن للطمتِ الخدَّ فاطـم عنـده أفاطم قومي يا بنة الخير واندبي وقد مـات عطشانـاً بشط فرات وأجريت دمع العين في الوجنات نجوم سماوات بـارض فـلاة
    انهضي يا فاطمة من قبرك المجهول لتندبي ابناءك الشهداء في « الكوفة » و« طيبة » و« فخ » وفي أرض الجوزجان وفي « باخمرى » و« بغداد » .
وقبر ببغداد لنفس زكية تضمنّها الرحمن في الفرفات
    وهنا قال الرضا :
    ـ أتحب أن ألحِقَ بيتاً في هذا الموضع من قصيدتك ؟
    ـ بلى يا بن رسول الله !
وقبر طوس يالها من مصيبة الحّت على الاحشاء بالزفرات
    وارتسمت علامات استفهام ودهشة ، وتساءل الشاعر بذهول :
    ـ قبر من يا سيّدي ؟!!


230
    ـ انه قبري يا دعبل 122 !
    واستأنف الشاعر قصيدته :
« فياعين ابكيهم وجودي بعبرة لقد حفّت الأيـام حولي بشرّها فقـد آن للتسـكاب والهمـلات وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي »
    ها أنا اعيش مشرّداً خائفاً في المدن والقرى وليس أمل في الحياة الآمنة الا في عالم آخر عالم ألجهُ بعد وفاتي.. إنّ مستقبل الانسان الحقيقي هناك في ذلك العالم الذي يزخر بالطمأنينة والسلام...
    منذ ثلاثين سنة وأنا اعيش الألم والحسرة ، أرى هؤلاء الثلة من البشر وهو نجوم الأرض مقهورين مشرّدين قد أذاب أجسادهم الجوع والحرمان..
« سأبكيهم ما ذرّ في الأرض شارق وما طلعت شمس وحـان غروبها ونادى منادي الخير بالصلوات وبالليـل أبكيهـم وبـالغدوات
    ومع كل هذا الظلم الذي ينزله الحاقدون بهم مع كل هذا القهر الا ان ذلك لم يتغيّر من انسانيتهم.. لقد ظلّوا كما هم كرماً وسماحة .    
إذا وتروا مدّوا الى واتريهم أكفاً عن الأوتار منقبضات
    وقلّب الامام كفّيه كمن يكّف نفسه عن المقابلة بالمثل