141
أعلى الخلق وأحدهم من أسفل الخلق ، وأحدهم من شرق الخلق ، وأحدهم من غرب الخلق ، فسأل بعضهم بعضاً فكلهم قال : « جنت من عند الله » أرسلني بكذا وكذا ، ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل .
ـ أتقرّ أن الله محمول ؟
ـ كلّ محمول مفعول ، ومضاف إلى غيره محتاج . فالمحمول اسم نقص في اللفظ ، الحامل فاعل ، وهو في اللفظ ممدوح ، وكذلك قول القائل : فوق ، وتحت ، وأعلى وأسفل ، وقد قال الله تعالى : ( له الاسماء الحسنى فادعوه بها ) ولم يقل في شيء من كتبه إنّه محمول... بل هو الحامل في البرِّ والبحر ، والممسك للسماوات والأرض والمحمول ما سوى الله ، ولم نسمع أحداً آمن بالله وعظّمه قط قال في دعائه : يا محمول ؟
ـ أفنكذب بالرواية ؟ ان الله إذا غضب يعرف غضبه الملائكة الذين يحملون العرش ، يجدون ثقله في كواهلهم ، فيخّرون سجداً فاذا ذهب الغضب خف ، فرجعوا الى موقفهم ؟!
وتأثر الامام من الروايات والاحاديث التي دسّت على مرّ الايام فراحت تشوش على حقائق القرآن فقال بصوت فيه غضب وحزن :
142
ـ أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن ابليس الى يومك هذا والى يوم القيامة فهو غضبان على ابليس وأوليائه أو عنهم راض ؟!
فاجاب أبو قرّة مستسلماً :
ـ نعم هو غضبان عليه .
ـ فكيف تجترئ أن تصف ربّك بالتغيّر من حال الى حال ، وانه يجري عليه ما يجري على المخلوقين ؟!!
سبحانه لم يزل مع الزائلين ولم يتغير مع المتغيّرين .
وأطرق ابو قرّة رأسه لكأنه ينظر الى حطام اسئلته وشبهاته وكل أدلّته الخاوية .
وبرق احساس بالنصر في عيني محمد بن جعفر ، أما الخليفة فقد بدا ساهماً مع محاولة باظهار احساس كاذب بالفرح .
143
20
طارت انباء الفرح الى المدن والحواضر كفراشات تبشر بالربيع .
في يثرب مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ارتقى عبد الجبار المساحيقي أعواد المنبر في المسجد المقدّس ليهتف عالياً :
ـ أيها الناس هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون ، والعدل الذي كنتم تنتظرون ، والخير الذي كنتم ترجون ، هذا علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.. ستة آباؤهم من خير من يشرب صوب الغمام » 96 .
أمّا بغداد فقد ثار بركان الحقد العباسي وقام التنّين 97 ، وقام معه بنو العباس ، فأعلنوا خلع المأمون وولي عهده .
144
وسقطت بغداد في هاوية الفوضى ، بعد أن إمتهنت الخلافة لتصبح العلوبة بيد المغنّي « ابن شكله » الذي لا يحسن غير الضرب على العود .
وفي فترة وجيزة عمّت الفوضى والفساد بغداد ، واصبح الشارع تحت سيطرة اللصوص والناهبين ، وانتشرت ظاهرة السرقة وانتهاك الأعراض .
وتألفت فرق شعبيّة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمقاومة الفساد .
وانفجر الصراع المسلّح في الكوفة بين انصار العباسيين وانصار المأمون ، أمّا مكة فقد استقبلت الانباء من مرو بفرح .
وما لبثت المقاومة أن انتهت بسبب ثقل الامام الرضا الشعبي ، وأصبحت بغداد معزولة عن الاقاليم باستثناء سيطرتها على مدينة الكوفة .
أوشك ذو القعدة ، على الانطواء ، وكانت الغيوم الربيعية تتألق في السماء ثم تكتسحها رياح شمالية ، ولم يكن المطر ليبشّر بموسم خصب ، فلم يهطل المطر طيلة الشتاء ، ولم يأت الربيع الا بزخّات خفيفة ، لا تغني ولا تسمن من جوع .
لم يفكر المأمون في التوجه الى حج بيت الله الحرام ،
145
وتذكر بعضهم كلمات قالها الامام الرضا قبل سنوات طويلة في مكة عندما كانت الرشيد يطوف الكعبة : إنّ هارون آخر من يحج من هذا البيت 98 !
لملم ذو القعدة أيامه الأخيرة ، ليطلّ هلال ذو الحجة في السماء ، فبدا مثل ابتسامة وسط سماء تناثرت فيها غيوم كابية ، وفي الليلة التالية اصبح مثل زورق تائه يعبر السماء على عجل..
وفيما كان المسلمون يطوفون حول البيت العتيق والمدن القريبة من البصرة تتلقى بوجوم انباء ثورة الزنوج وأخبار عن القتل والنهب .
وعاشت المدينة المنورة تلك الأيام وهي تنظر الى المستقبل بأمل .
وكان هناك بيت كريم تضيء نوافذه بنور شفاف.. بيت يعيش فيه آل علي ، وقد ورد من « مرو » كتاب كريم انه من أبي الحسن ، وإنّه :
بسم الله الرحمن الرحيم
« فدتك نفسي
بلغني أن الموالي إذا ركبت أخرجوك من باب البستان
146
الصغير وانّما ذاك من بخل فيهم لئلّا ينال أحد منك خيراً !
فأسألك بحقي عليك.. لا يكن مدخلك ومخرجك الا من الباب الكبير .
وإذا ركبت ان شاء الله فليكن معك ذهب وفضة ، لا يسألك أحد شيئاً الا أعطيته ، ومن سألك من عمومتك أن تبرّه فلا تعطه أقل من خمسين ديناراً ، والكثير إليك .
ومن سألك من عمّاتك فلا تعطها أقل من خمسين ديناراً ، والكثير إليك ومن سألك من قريش ، فلا تعطه أقل من خمسة وعشرين ديناراً ، والكثير إليك .
إني إنما أريد أن يوفقك الله ، فاتق الله ، واعط ولا تخف من ذي العرش اقتارا » 99 .
وفي تلك الليلة كانت فاطمة تبكي من أجل شقيقها ، فهي وحدها التي تدرك محنته... أن ولاية العهد التي فرح له العلويون ليست الا بيتاً نسجها العنكبوت ها هم أخوتها : أحمد ، محمد ، حسين ورجال من بني عمومتها يفكّرون بالهجرة الى مرو ، لقد بدأ عهد جديد ، وقد عاد المشرّدون الى ديارهم وأهليهم ، وظهر المختبئون والمطاردون .
لقد استمعت فاطمة الى وثيقة ولاية العهد عندما قُرأت في
147
المسجد النبوّي ، خاصّة ما كتبه أخوها الرضا ، ورأت فيها ما يبعث على الأمل ان أخاها يبذل المستحيل في إعادة هذه الأمة الضائعة الىجادة الصواب .
فما معنى قوله : « وقد جعلت الله على نفسي ان استرعاني أمر المسلمين وقلّدني خلافته العمل فيهم بطاعته وطاعة رسوله..
وأن أتخيّر الكفاة جهدي وطاقتي » ؟!
ان فاطمة لن تتركه وحيداً فستسافر اليه ، ستطلب من ابن اخيها مالاً تستعين به على رحلتها الى « مرو » .
الناس يستبشرون بتعيين الرضا وليّاً للعهد ، وقد أمِنَ العلويين ، ولم يعد هناك من خوف .
ونهضت فاطمة ، للصلاة في محرابها ، هكذا تفعل كلّما تناهبتها الهواجس .
الله سبحانه وحده الذي يعلم ما في ذلك القلب الرقيق الطاهر من هموم... انها لن تتحمّل أكثر من هذا... شيء ما يشدّها الى « مرو » أو الى نقطة ما لا تعرفها أين ؟!
148
21
كان المأمون يحدّق في ضيفه ، لم يكن ضيفاً في الحقيقة ، فسلمان المروزي كان فيلسوف خراسان وله شهرة واسعة في مرو مسقط رأسه ، ما حاور أحداً الا أعجزه وأسكته ، قال المأمون وقد انبعث في قلبه أمل :
ـ أتدري لم أرسلت وراءك ؟
ـ كلّا يا أمير المؤمنين !
ـ ان ابن عمي علي بن موسى الرضا قد قدم عليّ من الحجاز ، وهو يحبّ الكلام وأصحابه ، فلا عليك أن تصير الينا يوم التروية 100 لمناظرته .
ـ ولكن يا أمير المؤمنين لا أحب أن أسأله في مجلسك !
149
ـ لماذا ؟
ـ ان العلويين لا يغفرون لي ذلك إذا عجز عن الجواب .
ـ لا تخشَ شيئاً ، إنّما وجهت اليك لمعرفتي بقوّتك ، ولا غاية لي سوى أن تعجزه ولو بسؤال واحد .
ـ سأتحمل العواقب يا أمير المؤمنين فاجمع بيننا .
ـ موعدنا يوم التروية ؟
ـ سمعاً وطاعة يا سيدي.. بعد غدٍ سأكون بين يديك .
وعندما غادر الرجل المروزي ، استدعى الخليفة وزيره ليكلّفه مهمة ترتيب مجلس حافل لكي يشهدوا اصطراع الأفكار .
كانت خطة المأمون هي الحط من شأن الامام الرضا شيئاً فشيئاً باظهاره عجزه عن الجواب في مجلس يضم كبار العلماء ، وهذا ما يمهّد الطريق للتخلص منه ، وافهام الأمة أن العلويين لا يختلفون عن غيرهم ، فهم يحبّون الدنيا ، ويجهلون كثيراً من المسائل العلمية !
وفيما كان الحجيج في مكّة ينطلقون الى منى كان مجلس المأمون يغصّ بالعلماء وأصحاب النفوذ في الدولة ، جلس الامام وجلس في قباله سليمان ، نظر سليمان الى المأمون ، والتفت المأمون الى الامام قائلاً :
ـ هذا سليمان المروزي .
150
واكتفى الامام بإبتسامة .
وخاطب المأمون سليمان قائلاً :
ـ سل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن الاستماع والانصاف .
لملم سليمان ثوبه استعداداً ، وبدأ اسئلته :
ـ ما تقول فيمن جعل الارادة اسماً وصفة مثل : حي ، سميع ، بصير وقدير ؟
ـ انما تقول : حدثت الاشياء واختلفت لانه شاء وأراد ، ولم تقولوا : حدثت الاشياء واختلفت لانه سميع بصير فهذا دليل على إن الارادة والمشيئة ليستا مثل سميع ولا بصير ولا قدير .
ـ فانه لم يزل مريداً...
ـ يا سليمان فإرادته غيره ؟
ـ نعم .
ـ قد اثبتَّ معه شيئاً لم يزل ؟!
ـ مااثبت..
ـ فهل الارادة محدثة ?
ـ لسيت محدثة !
 
وتعلثم المروزي لقد وقع في مأزق ، ها هو يناقض نفسه : ليست أزلية وليست محدثة !!