61
وسأل آخر ربما كان قادماً من بغداد :
ـ ان اختي أوصت قبل موتها بمال أقسمه على قوم من النصارى ، فأردت أن أصرف ذلك الى قوم المسلمين ؟
أجاب الامام :
ـ امض وصيتك على ما أوصت به ، قال الله تعالى : ( فانّما إثمه على الذين يبدّلونه ) 31 .
وسأل شاب :
ـ أيّ الاوقات أنسب في التزويج ؟
ـ « من السنّة التزويج بالليل ، لان الله جعل الليل سكناً والنساء انما هنّ سكن » 32 .
وسأل رجل متوسط العمر :
ـ هل يجوز للرجل أن ينظر الى شعر أخت زوجته ؟
ـ لا ، الا أن تكون من القواعد .
ـ أخت امرأته والغريبة سواء ؟!!
ـ نعم 33 .
وسأل رجل من الكوفة :
ـ هل يحلّ للرجل التمتع باليهودية والنصرانية ؟
62
ـ يتمتع الحرّة المؤمنة وهي أعظم حرمة .
وسأل آخر :
لص دخل على امرأة وهي حبلى ، فعمدت المرأة الى سكين فوجأته فقتلته ؟
ـ هدرٌ دمُ اللص 34 .
وقال آخر :
ـ ايجوز التعرّب بعد الهجرة للرجوع عن الدين ، وترك الموازرة للانبياء والحجج ، وما في ذلك من الفساد وابطال حق كل ذي حق لعلّة سكن البدو ، ولذلك لو عرف الرجل الدين كاملاً لم يجز له مساكنة أهل الجهل ، والخوف عليه لأنه لا يؤمن أن يقع منه ترك العلم والدخول مع أهل الجهل والتمادي في ذلك 35 .
ونهض رجل ليقدّم اليه سؤاله مكتوباً على رقعة :
ونظر الامام لحظات ثم التفت الى السائل الذي عاد الى مكانه قائلاً .
ـ إنّ ذلك عديل للكفر.. الا اذا واسيت الفقراء ، ودفعت الظلم عن المظلومين 36 .
63
وهيمن صمت مهيب والعيون تتجه الى وجه تتألق فيه أنوار النبوّات .
ونطق الامام دون سؤال فقال :
ـ « إنّ رجلاً سأل أبي : ما بال القرآن لا يزداد عند النشر والدراسة الا غضاضة ؟
فقال : لانّ الله لم ينزله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعند كل قوم غض الى يوم القيامة » 37 .
تنحنح ابن الجهم وغيّر من جلسته استعداداً لجدل طويل قال متسائلاً :
ـ يا بن رسول الله أتقول بعصمة الانبياء ؟
ـ نعم .
ـ كيف نفهم قول الله : « وعصى آدم ربّه فغوى » ؟ انهم كسائر البشر في عصيانهم لله ، فهذا آدم قد عصى ربّه ، وذك يونس يظن أن الله لن يقدر عليه ، ويوسف يهمّ بامرأة العزيز ، وهذا نبيه محمد يخفى في نفسه ما الله يبديه ، أليس هذه كلمات الله تحكي ذلك ؟
64
بدت غيمة حزن فوق الجبين الاسمر وانسابت كلمات الامام هادئة مؤثرة مفعمة بحزن سماوي :
ـ لا تنسب الى انبياء الله الفواحش ، ولا تتأول كتاب الله برأيك ان الله عز وجل يقول : « ولا يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم »... ان للقرآن ظاهر وباطن ، فامّا قوله تعالى : ( وعصى آدم ربّه فغوى ) خلق آدم ليكون حجة في أرضه ، وخليفة ، لم يخلقه للجنة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض ، وعصمته يجب أن تكون في الأرض ليتم أمر الله ، فلما هبط الى الارض عُصم من الخطأ بقوله تعالى : ( ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) .
وأمّا قوله عز وجل : ( وذا النون إذ ذهب مغاضباً وظنّ أن لن نقدر عليه ) 38 فهو انما ظن بمعنى استيقن ان الله لن يضيق عليه رزقه ، أما قرأت قوله تعالى : ( وأما اذا ابتلاه ربه فقدر عليه رزقه )؟ أي ضيّق عليه رزقه ، ولو ظن أن الله لا يقدر عليه فقد كفر ، وأمّا قوله تعالى في يوسف : ( ولقد همّت به وهمّ بها ) 39 فانها همّت بالمعصية وهم يوسف بقتلها ان اجبرته لعظم ما تداخله ، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة وهو قوله عز وجل : ( وكذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) 40 يعني القتل
65
والزنا .
أطرق ابن الجهم كأنه يعالج همّاً ثم رفع رأسه قائلاً :
ـ فما تقول في داود وقوله تعالى : ( وظنّ داود إنا فتنّاه ) ، والمفسرون يقولون : انه كان في محرابه يصلّي فتصوّر له ابليس على صورة طير ، أحسن ما يكون للطيور فقطع داود صلاته ، وقام ليأخذ الطير ، فخرج الطير الى الدار ثم الى السطح ، فصعد في طلبه ، فسقط في دار « أوريا » فاذا بامرأة أوريا تغتسل فلما نظر اليها هواها ، وكان أوريا في بعض غزواته فكتب الى صاحبه ان قدم أوريا الى التابوت فقدّمه فقتل أوريا ، فتزوّج داود بامرأته » .
وتأثر الامام بشدّة وتألقت في عينيه الدموع :
ـ انا لله وانا اليه راجعون ، لقد نسبتم الى نبي من أنبياء الله الاستخفاف بصلاته حتى خرج في اثر طير ، ثم بالفاحشة ، ثم بالقتل ؟!!
ـ فما كانت خطيئة يابن رسول الله ؟
ـ ان داود ظن انه ما خلق الله عز وجل خلقاً هو أعلم منه ، فبعث الله اليه ملكين فتسوّرا المحراب فقالا : « خصمان بغى
66
بعضنا على بعض فاحكم فبيننا بالحق ولا تشطط ، واهدنا الى سواء الصراط ، ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ، ولي نعجة واحدة فقال اكفلنيها وعزّني في الخطاب » فعجّل داود على المدعى عليه بالحكم فقال : « لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه » ولم يسأل المدعي البينة على ذلك ولم يسأل المدّعى عليه فيقول له : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم ، ألم تسمع قوله تعالى : « يا داود إن جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى » ؟
ـ فما قصته مع أوريا ؟!
ـ ان المرأة في أيام داود كانت اذا مات زوجها لا تتزوج بعده أبداً ، وأول من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل زوجها كان داود ، فتزوج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدّتها ، فذلك الذي شق على الناس من مثل أوريا .
ـ يا سيّدي فما معنى قوله تعالى يخاطب فيه محمد عليه السلام : « وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه » ؟
ـ ان الله سبحانه عرّف نبيّه اسماء أزواجه في دار الدنيا وأسماء ازواجه في دار الآخرة ، وانهن امهات المؤمنين ، واحداهن من سمى له زينب بنت جحش وهي يومئذ تحت زيد
67
بن حارثة ، فاخفى اسمها في نفسه ولم يبده لكيلا يقول أحد المنافقين : انه قال في بيت رجل انها احدى ازواجه من امهات المؤمنين ، وخشى قول المنافقين ، فقال الله عز وجل : ( وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) يعني في نفسك . وان الله عز وجل ما تولّى تزويج أحد من خلقه الا تزويج حوّاء من آدم ، وزينب من رسول الله ، بقوله : « فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها » 41 ، وفاطمة من علي .
واجتاحت اعماق ابن الجهم مشاعر شفافة ، الحقائق تشرق كشموس باهرة ، وامتلأت عيناه بدموع لا يعرف سرّها إن الكلمات التي يسمعها تغسل قلبه وتطهر روحه :
ـ يا بن رسول الله أنا تائب الى الله من أنطق في أنبياء الله بعد يومي هذا الا بما ذكرته .
وكانت فاطمة تصغي من وراء حجاب الى كلمات أخيها فتتشرب روحها آيات السماء كزهرة تغمرها أنوار دافئة .
68
8
كان منظر الغروب سخيّاً بالوانه الشفافة ، برتقالي ذهبي ، وأحمر متوقد كموقد شتائي يزخر بالجمر... والمشهد السماوي يبدو ساكناً غير أن السحب المتناثرة في سماء زرقاء كانت تتحرك على هون كزوارق غافية في بحيرة هادئة .
الرياح الخريفية تجوس خلال البيوت وتبشّر بشتاء قارس طويل .
كانت فاطمة تتأمل وجه شقيقها ، انها لم تره مهموماً كهذا المساء ، لكأنه ينوء بجبال من الحزن ، لا تدري لماذا توهجت مشاهدة قديمة.. قديمة جداَ ، يوم أخذوا أباها ، وأدركت حينها انها لن تراه بعد اليوم... ربما عرفت ذلك في وجه شقيقها الذي
69
بدا في تلك اللحظات سماءً مثقلة بمطر حزين .
كانت الرسالة التي استلمها الامام اشبه شيئاً بعسل مداف بسم ، ملساء كأفعى مترعة بسموم قاتلة .
الفضل بن سهل يعرف كيف يروغ بين السطور ورسالة محيّرة من أكبر مسؤول في الدولة تطلب منه مغادرة يثرب على وجه السرعة لتسلّم مسؤوليته في الخلافة 42 !
وتساءلت فاطمة عن سرّ هذا الحزن ؟ كانت تعي لواعج الانسان الذي يفكّر في المديات البعيدة حيث تتجسد كل آلام الانبياء وأحلامهم . ان المأمون ولا شك قد عرف مصدر التحدّي الحقيقي ، فوجد في شخصية مثل الامام سوف تكشف للرأي العام مدى الانحطاط الاخلاقي للحاكمين ، كما ان بعد المدينة المنورة عن « مرو » سيوفر للامام قدراً من الحرّية ، وفي هذا خطر على مؤسسات الحكم القلقة التي ما تزال تهتز تحت وقع الاضطرابات والثورات .
فاستدعاء الامام الى مرو يعني أن المأمون يضرب عشرات العصافير بحجر واحد .
تمتم الامام بصوت فيه حزن الميازيب في مواسم المطر :
ـ ان المأمون يريد أن يقول للناس أن علي بن موسى لم
70
يزهد بالدنيا ، وانما الدنيا هي التي زهدت به أرأيتم كيف يسرع الى « مرو » لما عرضت عليه الدنيا ؟!
ولكن هيهات لا أقبل شيئاً من عروضه !
ادركت فاطمة أن أخاها يواجه ثعلب بني عباس ، ليس هناك من يفوقه مراوغة ومكراً.. عرفت ذلك من حزن الامام ، ومما تسمعه من الأخبار .
ان لأخيها من المحبة في خراسان وأطرافها ما ليست لغيره ، فلو جعله المأمون في الحكم فان ذلك سيضمن له ولاء كثير من الاقاليم ؛ وسيكون المأمون قد اثبت للأمّة أنه قد حقق أعزّ أمانيها .
وطرق خادم باب الحجرة :
ـ ان رجلاً يقول انه رجاء بن الضحاك يروم لقاءك الساعة .
التفت الامام الى اخته :
ـ هذا رجل بعثه المأمون فيما لا أحب.. انا لله وانا اليه راجعون .
ونهض الامام لاستقباله ونهضت فاطمة لتغادر حجرة