201
ـ إن كان في الجماعة « عمران الصابئ » 113 ، فأنت هو وأجاب الرجل بارتياح :
ـ أنا هو .
ـ سل يا عمران وعليك بالإنصاف.. وإيّاك والخطل والجور .
أطرق عمران وقال بأدب :
ـ يا سيدي لا أريد الا أن تثبت لي شيئاً أتمسّك به.. إنّني أنشد الحقيقة .
وهيمن صمت مهيب وبدا المجلس الذي يكتظ بالحضور وكأنه لا يوجد فيه الا رجلين يتحاوران.. وبدأ عمران اسئلته المحيّرة :
ـ أخبرني عن الكائن الأول وعمّا خلق...
أسأل عن المادّة التي خلق الله منها الاشياء ؟
ـ « أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائناً بلا حدود ولا أعراض ، ولا يزال كذلك ، ثم خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض مختلفة وحدود مختلفة » .
إن الله واحد لا شيء معه ، وهو مجرّد من الحدود
202
والأعراض التي هي من صفات الممكن ، فهو كائن واحد ، وليست وحدته عددية أو نوعية أو جنسية ، وإنّما هو بمعنى عدم ارتباطه بأي شيء مادي أو غير مادي وهو لا يخضع لمقاييسنا في نسبة الصانع الى المصنوع..
وإنّ نظرتنا الى الأشياء إبتداءً تنهض على أنّ لكلّ صورة مادّة تقوم وتحلّ بها ، وهذا ينطبق فقط على غير الله ، امّا هو فإنّه خالق الاشياء لا من شيء كان ، وإنّما يقول له : « كن » فيكون.. وهو القوّة الكبرى المبدعة لخلق الاشياء.. وهو المصدر الوحيد للفيض..
ـ « أتعقل هذا يا عمران » ؟
ـ نعم يا سيدي !
ـ « واعلم يا عمران إنّه لو كان الله قد خلق ما خلق لحاجةٍ ، لم يخلق الا من يستعين به على حاجته ، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف
ما خلق لأنَّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى » .
إن الله هو الغني المطلق الذي يبسط الرحمة على جميع الكائنات .
ـ « يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه » ؟
إن تحصل شيء وتحققه في الانكشاف العلمي كواقع
203
ذلك الشيء ينحل الى هوّية نفسه وطارديته لغيره فالحجر ما لم يضف الى هويته عدم جميع أضداده ولا يتحصّل تحصّلاً علمياً ، والنفس المعلومة عند العالم لا تحصل الا بطرد جميع ما سواها عنها ؟!
ـ « انما يكون العلم بالشيء لنفي خلافه ، وليكن الشيء نفسه بما نفى عنه موجوداً ، ولم يكن هناك شيء يخالفه ، فتدعوه الحاجة الى نفي ذلك الشيء » .
إن الله سبحانه هو خالق الكون وواهب الحياة ولا يوجد شيء يقارنه حتى يحتاج الى نفيه ليقرّر إرادته بذلك النفي...
« أفهمت يا عمران » ؟
ـ نعم والله يا سيدي .. ولكن اخبرني بأي شيء علم أبضمير أم بغير ضمير ؟
ـ إذا علم بضمير هل يجد بدّاً من أن يجعل لذلك الضمير حدّاً تنتهي إليه المعرفة ؟ فما ذلك الضمير ؟ »
لا بدّ من معرفة حقيقة الضمير وماهيته حتى تسأل عنه .
ـ...
ـ يمكنك يا عمران أن تعرّف الضمير بضمير آخر ! فإذا
204
فعلت ذلك فإنّ الضمير الثاني يحتاج الى ضمير ثالث الى ما لا نهاية وهو باطل منطقياً .
« يا عمران ينبغي أن تعلم إن الواحد لا يوصف بضمير ، وليس يقال له : أكثر من فعل وعمل وصنع ، وليس يتوهم منه مذاهب وتجزئة كمذاهب المخلوقين وتجزئتهم فاعقل ذلك وأسّس عليه » .
إن صدور الافعال من الله تعالى ليست على غرار غيره من الممكنات التي تحتاج الى علل وأسباب كالعقل وغيره.. فهذا مستحيل على الله .
ـ يا سيدي أخبرني عن حدود المخلوقات كيف هي ؟ وما معانيها ؟ وعلى كم نوع تكون ؟
ـ ان حدود خلقه على ستة أنواع : ملموس ، وموزون ، ومنظور إليه ، وما لا ذوق له ، وهو الروح ، ومنها منظور اليه ، وليس له وزن ولا لمس ولا حس ولا لون ولا ذوق ، والتقدير والأعراض والصور ، والطول والعرض ، ومنها الحركات التي تصنع الاشياء وتعملها وتغيّرها من حال الى حال وتزيدها وتنقصها ؛ فامّا الاعمال والحركات فإنها تنطلق لانه لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج اليه ، فإذا فرغ من الشيء انطلق بالحركة
205
وبقي الأثر ، ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقي أثره » .
ـ يا سيدي ألا تخبرني عن الخالق أكان واحداً لا شيء غيره ولا شيء معه أليس قد تغيّر بخلقه الخلق ؟ »
ألا يترتب على ايجاد الحقائق الطبيعية تغيّر الخالق العظيم ؟
ـ « قديم لم يتغير ـ عزّ وجل ـ بخلْقه الخلق... ولكن الخلق هو الذي يتغير بتغييره » .
إنّ الخالق كما كان هو الصانع والموجد للاشياء ، وهو قديم فلا يلزم من التغيير بتغيير الممكنات والكائنات .
ـ بأي شيء عرفناه ؟
ـ « بغيره » .
ان جميع ما في الوجود المنظور منه وغير المنظور يدلّ على وجود الخالق العظيم .
ـ أي شيء غيره ؟
ـ مشيئته واسمه وصفته ، وما أشبه ذلك ، وكلّ ذلك مُحدث مخلوق ، ومُدَبّر » .
ـ أي شيء هو ؟
206
ـ هو نور ، بمعنى أنه هاد خلقه من أهل السماء ، وأهل الأرض ، وليس لك عليّ أكثر من توحيده إيّاه » .
ـ ألم يكن ساكتاً قبل الخلق لا ينطق ثم نطق ؟
ـ لا يكون السكوت الا عندما يكون نطق قبله ، ومثال ذلك : انه لا يقال للسراج : هو ساكت لا ينطق ، ولا يقال إنّ السراج ليضيء ، فما يريد أن يفعل بنا ، لان الضوء من السراج ليس بفعل منه ، لا كون ، وانما هو ليس شيء غيره ، فلما استضاء لنا قلنا : قد أضاء لنا ، حتى استضأنا به ، فبهذا تستبصر أمرك..
ان التكلم من صفات الأفعال لا يقوم بذاته تعالى قوام الأوصاف الذاتية .
ـ يا سيدي : فإن الذي كان عندي إن الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق..؟!
ـ « يا عمران : في قولك إن الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه حتى يصيب الذات منه ما يغيّره ، هل تجد النار تغيّر نفسها ، وهل تجد الحرارة تحرق نفسها ؟ أو هل رأيت بصيراً قط رأى بصره » ؟
إنّ افعال النفس ـ والتي تصدر منها النفس ـ مثلاً لا توجب زيادة فيها ولا نقصاناً.. والرؤية في البصر لا توجب زيادة فيه
207
ولا نقصاناً .
ـ أخبرني يا سيّدي ! أهو في الخلق أم الخلق فيه ؟
ـ هو أجلّ يا عمران عن ذلك ، ليس هو في الخلق ، ولا الخلق فيه ، تعالى عن ذلك.. وسأعلمك ما تعرفه ولا قوّة الا بالله.. أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك ؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه ، فبأي شيء استدللت بها على نفسك يا عمران ؟ »
تنعكس صورة الشيء في المرآة فهي لا تحلّ فيها ، ولا المرآة تحلّ في الصورة ، وإنّما هو النور الذي أوجب رؤية الصورة في المرآة .
ـ بضوء بيني وبينها ؟
وتساءل الامام :
ـ هل ترى من ذلك أكثر من تراه في عينيك .
ـ نعم
ـ أين هو ؟ أريناه .
ـ...
وهنا قال الامام :
ـ إنّه النور إذن قد دلّك ، ودلّ المرآة على انفسكما من غير
208
أن يكون في واحد منكما... ولهذا امثلة كثيرة ، ولله المثل الأعلى .
وسكت عمران وكان قلبه يستحم في ضوء من الحقائق الساطعة وكانت الشمس قد غطست في المغيب ، وارتفع صوت ملائكي يدعو الى الصلاة..
التفت الامام الى الخليفة :
ـ « الصلاة حضرت ! »
وهتف عمران وقد ظن أن حواره انتهى !
ـ يا سيدي لا تقطع أسئلتي.. إنّني اقترب من الحقيقة وأجاب وقد أشرقت فرحة من عينيه :
ـ بعد الصلاة يا عمران .
وانزوى عمران في مكان يراقب الامام وهو يصلّي ، يصغي الى ساقيه من آيات القرآن تنساب من فم الرجل المدني وشعر أنه تنفذ في قلبه وتسرج فيه قناديل مضيئة ، وتمنّى أنّه قابل هذا الانسان قبل وقت طويل ، والا ما قاسى في أسفاره كل هذا العناء.. غير أنّ سرّاً وقدراً ما ساقه الى « مرو » ليجد فيها مطلع الشمس .
ومرّة أخرى انتظم المجلس ، وجلس عمران في حضرة
209
الرجل المدني المكي الذي عنده علم الكتاب وسكت عمران هيبة .
ـ سل يا عمران
ـ يا سيدي أخبرني عن الله هل يوجد بحقيقة أو يوجد بوصف ؟
ـ « إنّ الله المبدئ الواحد ، الكائن الأول ، لم يزل واحداً لا شيء معه ، فرداً لا ثاني معه ، لا معلوماً ، ولا مجهولاً ، ولا محكماً ولا متشابهاً ، ولا مذكوراً ولا منسياً ، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الاشياء ، ولا من وقت كان ، ولا الى وقت يكون ، ولا بشيء قام ، ولا الى شيء يقوم ، ولا الى شيء استند ، ولا في شيء استكن ، وذلك كلّه قبل خلقه الخلق ، إذ لا شيء غيره ، وما أوقعت عليه من الكل فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم .
واعلم ان الابداع والمشيئة والإرادة معناها واحد ، واسماؤها ثلاثة ، وكان أول ابداعه ومشيئته وإرادته التي جعلها اصلاً بكل شيء ، ودليلاً على كل شيء مدرك ، وفاصلاً لكل شيء مشكل ، وبتلك الحروف تفريق كل شيء من اسم حق وباطل أو فعل أو مفعول ، أو معنى أو غير معنى ، وعليها
210
اجتمعت الأمور كلّها ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها ، تتناهى ولا وجود لها ، لانها مبدعة بالابداع .
والنور في هذا الموضع أو فعل الله الذي هو نور السموات والأرض ، والحروف هي المفعول التي عليها مدار الكلام ، والعبارات كلها من الله عز وجل علّمها خلقه ، وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً ، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على لغات العربية ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفاً تدلّ على لغة السريانية ، والعبرانية ومنها خمسة أحرف متحرّفة في سائر اللغات من العجم والاقاليم واللغات كلّها ، وهي خمسة أحرف تحرّفت من الثمانية والعشرين حرفاً من اللغات ، فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً..
ثم جعل الحروف بعد احصائها واحكام عدّتها ، فعلامته كقوله عز وجل : « كن فيكون » وكن منه صنع ، وما يكون به المصنوع..
فالخلق الأول من الله عز وجل والابداع : لا وزن له ، ولا حركة ، ولا سمع ، ولا لون ولا حس .
والخلق الثاني الحروف : لا وزن لها ، ولا لون ، وهي مسموعة موصوفة ، غير منظور اليها .