91
    وقف علي باتجاه البيت الذي بناه ابراهيم ، وقف يصلّي والكائنات تغطّ في نوم عميق .
    وانساب شلال من سور مكية ومدنية ، سورة الحمد ، الملك ، الدهر ، التوحيد ، الفلق والناس .
    وعندما مدّ كفيه الى السماوات وقد تناثرت النجوم كانت كلمات الدعاء تنساب كساقية تترقرق مياهها بهدوء :
    ـ « اللهم صل على محمد وآل محمد...
    اللهم اهدنا فيمن هديت.. وعافنا فيمن عافيت.. وتولّنا فيمن تولّيت.. ، وبارك لنا فيما اعطيت.. وقنا شرّ ما قضيت ، فانك تقضي ولا يقضى عليك.. انه لايذلّ من واليت ، ولا يعزّ من عاديت ، تباركت وتعاليت » 63 .
    واصبح صوته حزيناً متهجداً ، يستمطر الرحمة والمغفرة للخاطئين للذين نسوا انفسهم في خضم الحياة فتاهت بهم السبل ، لا يدرون من أين أتوا ولا أين هم ذاهبون ؟!


92
12
    لم تكن القافلة قد وصلت مدينة « نيسابور » بعد عندما ظهرت من بعيد ذرى « بينالود » 64 ، غير انها اجتازت أودية رسمت سيول المياه الربيعية فيها خطوطاً ومنعطفات ، تعكس وفرتها وشدّتها وهي تجري باتجاه الجنوب الشرقي .
    وأطلّت القافلة على مدينة نيسابور مخزن الرجال الاشداء ، فمن هذه المدينة انطلقت رايات سود أطاحت بالظلم الأموي .
    كانت الخيول خيول البريد ، والمسافرون في الصحراء أو العائدون من « كاشمر » قد نقلوا اخبار القافلة التي ستدخل المدينة بين ساعة وأخرى .


93
    وكانت الجماهير تنتظر حفيد محمد عليه السلام.. تنتظر ابناً لعلي الذي تحمل حبّه في القلوب ، وتتأمل الأجيال عدله وانسانيته .
    الشمس تطلع من فوق ذرى « بينالود » ، وقد بدت قرصاً قرمزي اللون لكأنها استعجلت الطلوع شوقاً لاستقبال القافلة .
    الجماهير تستشرف القادمين ، وبدا في طليعتهم رواة الحديث يحملون محابرهم بأيديهم..
    الألوف تنتظر... لم تعهد المدينة استقبالاً شعبياً كهذا ، ولا أحد يدري ما هو السرّ في تدفق هذا الحشد من الناس الى طريق القوافل ؟
    ان شيئاً كهذا لا يمكن تفسيره الا اذا أصغينا الى حكايات الأجداد وهي تروى حول مواقد الشتاء عن علي ، وصفين ، والحسين ، وكربلاء ، وزيد ، والكوفة ، ويحيى في بلاد الجبل .
    وتدخل القافلة مدينة قُدّر لها أن تكون على طريق « مرو » عاصمة الدولة الجديدة ، وألقت القافلة رحالها في ميدان وسط المدينة ، وكان الامام يغمر الجماهير بنظرات ملؤها الحب ، وفيما بلغ الزحام حول ناقته وكل يدعوه لمنزله فهوى قلبه الكبير رجلاً تظهر في محيّاه الطيبة والبساطة فاصطحبه الى


94
منزله في محلّة « فروى » في الجانب الغربي من المدينة .
    فناء البيت تظلّله أشجار الجوز واللوز ، وهناك في زاوية فسائل معدّة للشتل .
    أخذ الرجل الحجازي فسيل لوز ، وشتله وتوضأ عنده وتمتم بصوت خاشع :
    ـ اللهم بارك فيها .
    ليس هناك ما هو أنعش من المياه الدافئة بعد رحلة شاقة طويلة ، وكان أهالي نيسابور يتطلعون الى رجل ليس على وجه الأرض مثله.. يرقبون حركاته وسكناته ونظراته الدافئة كشمس ربيعية..
    حفيد محمد يجسد سيرة جدّه العظيم ، ثقافة لم يعهدها أهل نيسابور من قبل ؛ تواضع ، نبل ، شهامة ، وأدب رفيع كان الامام يسير باتجاه حمّام المدينة العام 65 , والناس يحفّون به يتطلّعون الى نبع زلال من ينابيع الاسلام .
    ولج الرجل الذي اذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيرا حمّام المدينة... وفي الحمام انثالت المياه الدافئة ، وكان ضباب دافئ يغمر الحمام وأخذ الامام مكانه في قرب حوض صغير ، وفيما هو يشرع بصبّ الماء الدافئ اذا برجل غليظ يناديه :


95
    ـ أنت !! اياك إعني !
    ونظر الامام اليه بودّ . هتف الرجل الغليظ :
    ـ صُبّ الماءَ علي .
    ونهض الامام ليصبّ الماء عليه ، كان رأس الرجل الغليظ وشعره يتألق تحت المياه الصافية .
    وصاح الرجل عرف الامام :
    ـ ماذا تفعل أيّها الرجل أتستخدم ابن رسول الله ؟!
    ذعر الرجل الغليظ ونظر الى الامام بخجل :
    ـ يا بن رسول الله ! هلّا عصيتني إذ أمرتك ؟
    وابتسم حفيد الرسول وهو يجسد له خلق جدّه العظيم :
    ـ « انها لمثوبة ، وما أردت أن أعصيك فيما أُثاب عليه » 66 .
    عندما غادر الامام الحمام ارتقى ثلاث أو اربع درجات تؤدي الى سطح الحمام فالحمّامات عادة ما تبنى ليكون ثلثاها تحت الأرض التماساً للدفء ، والثلث الباقي فوق الأرض ، لتكون منافذ للنور والضوء .
    اتجه الامام وهو فوق سطح الحمام الى مكّة وأدى


96
الصلاة وكان التاريخ يسجل هذه المحطات الخالدة في سيرة رجل قدّر له أن يخترق البوادي في الطريق الى مرو عاصمة الدولة الجديدة .


97
13
    إنّ أحداً لن يصدّقني :
    قال الجندي ، وهو يغمس كسرة خبز في لبن رائب ، ونظر اليه رجل قروي جاء الى خان القوافل من قرية بعيدة :
    قال له مشجعاً إيّاه على الحديث :
    ـ أنا اصدّقك تكلم لا أريد أن أعود الى قريتي دون حكاية أرويها لاحفادي .
    تلفّت الجندي حواليه بحذر وهمس :
    ـ ان القائد يمنع علينا الحديث عن علي بن موسى ، أمرنا أن نكون صُمّاً بكماً فهم لا يفقهون... لقد رأيت الأعاجيب..


98
أتصدّقون إذا اخبرتكم بما حصل في البادية ؟ صدّقوني لم أكن نائماً.. كنت متعباً فقط وأصحابي خلدوا للراحة ، ناموا جميعاً ، وكنت على وشك النوم عندما رأيت غزالة.. قادمة من بعيد كانت مبهورة الانفاس عرفت أن الصيّادين يلاحقونها..
    كان علي بن موسى يتوضّأ للصلاة ، لم تكن الشمس قد زالت بعد عندما وقفت الغزالة قريباً منه.. ربّما شمّت رائحة الماء وهو ينثال على الأرض..
    نظرت اليه ، تقدمت نحوه أردت أن أنهض لاصطيادها ولكنّي جمدت في مكاني.. رأيتها تتقدم الى علي ، عيناها تتألقان .
    مدّ علي كفه اليها ، فتقدمت أكثر.. أمر عجيب أليس كذلك ،مسح ابن موسى على رأسها ورقبتها وقدم لها اناء الماء فشربت حتى ارتوت ولاذت بثوبة الأبيض عند قدميه.. هل يمكن أن يحدث مثل هذا في اليقظة ؟! هل يمكن ؟!!
    فجأة دخل جندي باب الخان وراح يستعرض الوجوه بناظريه وعندما وقعت عيناه على رفيقه :
    ـ اما تزال تأكل ، القافلة على وشك السير.. هيّا .
    وعندما خرجا قال :


99
    ـ ان مهمتنا ستكون صعبة وسط آلاف البشر.. لكأنه يوم الحشر..
    مئات الألوف من البشر من نيسابور وغيرها تحدق بالقافلة وتتجه الأبصار الى ناقة بالذات عليه عمارية ، وفيها رجل تخفق بحب القلوب .
    وبدت تلك النقطة مصدراً للسلام ، والحبّ ، لكأن قلباً هناك يشع مثل نجم كبير.. يشع بالدفء والمحبة... لماذا يبكي البعض ؟ لما تجري الدموع ؟ أهي دموع شوق النبي في ذكراه ؟! أهي دموع حبّ.. أم حنين للعودة الى الماضي المشرق ؟!
    هل كان منظر علي بن موسى بثيابه البيضاء البسيطة بعمّته التي لا تعدو أن تكون قطعة قماش مورّدة لا فيها درّة يتيمة ولا جوهرة عظيمة.. هل رأى الناس ذلك الصباح صورة الرسالة الالهية كما أنزلها الله قبل قرنين من الزمن ؟!
    لا أحد يعرف تفسيراً لهذا الحشر ، لهذه الدموع.. لهذا الحبّ المتدفق ؟!
    القافلة على أهبة الاستعداد للانطلاق صوب طوس ومنها الى سرخس 67 فالعاصمة مرو .
    واحتشد مئات الألوف من نيسابور وغيرها وتجمهر


100
عشرون ألف أو يزيدون بأيديهم محابر ودوى وأقلام مشرعة ؛ وانبعث إرادة توحد القلوب تنشد كلمة مقدسة توارثها أبناء محمد .
    وظهر الوجه الاسمر متألقاً كقمر يشرق من وراء غيمة نديّة .
    وتدفقت موجه من بكاء لا يُعرف تفسيره أحد ، وهتف رجل يحفظ عشرات الاحاديث :
    ـ أيّها الناس ! انصتوا وعوا لعلّنا نسمع موعظة ، أو نفيد في الفقه مسألة ، أو نصيحة تزهّدنا في الدنيا وترغّبنا في الآخرة .
    ولكن ما حدث لم يكن متوقداً أبداً ، ففي لحظات تذكّر بحادثة قديمة وقعت في طريق القوافل بين مكّة والمدينة ، هتف الرجل الأسمر كأنه يخطب التاريخ والأجيال :
    ـ سمعت أبي موسى بن جعفر يقول : سمعت أبي جعفر بن محمد يقول : سمعت أبي محمد بن علي يقول : سمعت أبي علي بن الحسين يقول : سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول : سمعت النبي يقول : « لا اله الا الله حصني ، فمن دخل حصني آمن من عذابي » .