|
الآسيوية التي يستوطنها المسلمون ، حيث ان الجالية الشيعية فيها قلة ضئيلة ، فإن شعائر الحزن ومراسم العزاء ومواكبها على الامام الحسين عليه السلام كانت وما زالت تقام فيها في حدود ضيقة جداً ، ولا تتجاوز إقامتها الدور وبعض الحسينيات والمزارات والمساجد .
ففي القفقاز التي كانت حتى قبل 100 سنة تحت الحكم الايراني ، ولا سيما في مدنها المعرة بأكثرية المسلمين فيها ، كنخجوان ، وإيروان ، وباكو ، وتفليس وغيرها ، كانت المناحات ومجالس العزاء ومواكبها تقام فيها بكثرة ، أيام محرم وصفر من كل سنة ، ولا سيما العشرة الأولى من محرم ، وبالأخص يومي تاسوعاء وعاشوراء على غرار ما كان متبعاً في جارة القفقاز الجنوبية ، أي منطقة آذربيجان الايرانية ، ولكن على نطاق أضيق . وقد انتشر أمر تقليد إقامة هذه المراسم العزائية في القفقاز منذ القرون الوسطى ، أي بعد استيلاء إيران عليها .
واستمرت الشيعة في القفقاز على عهد الحكم القيصري بإقامة هذه المناحات حتى انقلاب اكتوبر «1917 م» . والقادمون من القفقاز الآن يقولون : إن مجالس العزاء والنوح على الامام الحسين عليه السلام ما زالت تقام في بعض البيوتات الشيعية في نخجوان وباكو ، ولكن تحت الستار وبخفاء تام ي نطاق ضيق جداً .
وفي تركستان وخاصة في مدنها الهامة ، مثل : خيوه ، ومرو ، وعشق آباد ، وسمرقند ، وطشقند ، وبخارى التي لا زالت بعض الجاليات من بقايا الشيعة مستوطنة فيها ، فإن وضع إقامة شعارات العزاء على الحسين عليه السلام لا تختلف كثيراً عن القفقاز ، وإن العائلات الشيعية التي قد لا يتجاوز عددها المئة عائلة في جميع تلك الأصقاع في الوقت الحاضر تقيم مجالس العزاء هذه في دورها بخفاء وخوف ووجل .
وقد انتقلت تقاليد إقامة هذه المراسم العزائية الى تركستان من إقليم خراسان الواقع بجنوبها منذ أوائل القرن الثالث الهجري ، عندما اضطر بعض
( 71 )
أهالي وس من موالي آل البيت النبوي صلى الله عليه وآله وسلم الى الهجرة الى بخارى وخيوة ونواحي المتاخمة لها والاستيطان فيها .
ولا زالت آثار بعض الحسينيات التي كانت تقام فيها مجالس العزاء ظاهرة للعيان في مدن تركستان والقفقاز ، مما يدل على أن
شعارات إقامة النياحات ومواكب العزاء على الامام الحسين عليه السلام كانت متداولة في تلك الأصقاع حتى انقراض العهد القيصري في روسيا .
أما في إقليم التبت في جنوب الصين فإن ظروف بعض الأسر الشيعية في بلاد الأفغان قد اضطرتها في أواخر القرون الوسطى الى الهجرة اليها والاستيطان فيها ، وإن هذه الأسر بحكم عقيدتها في موالاة آل البيت النبوي عليهم السلام أخذت تقيم مجالس العزاء هذه على الامام الحسين عليه السلام في دورها ، وتعطل أعمالها يومي تاسوعاء وعاشوراء من شهر محرم في كل سنة .
وقد نقل لي بعض طلبة الدين في كربلاء والنجف الذين كانوا يتلقون العلوم الدينية فيهما ، والمنتقلين اليهما من بلادهم « التبت » : بأن أسرهم لا زالت تقيم النياحات ومجالس العزاء على الامام الحسين تحت الخفاء التام ، حيث يجتمع أفراد هذه الأسر الشيعية في دار أحدهم ، ويلقي عليهم خطيب المنبر الحسيني أو أحدهم تفاصيل مجزرة كربلاء حسب ما هو متداول في العتبات المقدسة ، ويجري في هذه المجالس ما يجري في سائر الأقطار الاسلامية ، من البذل والانفاق ، وسكب الدموع ، والنياح ، والبكاء ، والعويل ، والضرب على الصدور ، واللطم على الرؤوس ، والجيوب ، الى غير ذلك من مراسيم العزاء .
أما في بلاد الصين الشاسعة الأرجاء فتقيم الجاليات الشيعية فيها في العشرة الأولى من محرم ، وبالأخص يوم عاشوراء العزاء الحسيني ومأتمه في دورها تحت الستار ، على غرار ما يفعله الشيعة في صقع التبت ، إذ المعروف أن أكثر شيعة الصين قد انتقلوا اليها في الثلاثة أعصر الأخيرة من تركستان وبلاد الأفغان ، عبر صقع
( 72 )
التبت .
وقد رأيت ضمن بعض الاحصائيات عن عدد المسلمين في الصين بعد الحرب العالمية الأولى : أن عدد الشيعة الذين يستوطنون البلاد الصينية لا يتجاوز العشرة آلاف نسمة . وهؤلاء رغم قلتهم الضئيلة متمسكون بتقاليد مذهبهم وطقوسه ، ومنها إحياء ذكرى مجزرة كربلاء واستشهاد الامام الحسين وآله وصحبه فيها ، وإقامة المأتم الحسيني وعزائه أيام عاشوراء ، في دورهم ، وفي مجالسهم ومجتمعاتهم الخاصة ، والانفاق فيها .
هـ ـ في شبه القارة الهندية :
أما في شبه القارة الهندية ـ أعني الهند والباكستان ـ فقد اعتاد سكانها على اختلاف مللهم ونحلهم ، وخاصة المسلمين منهم على إقامة المأتم على الامام الحسين عليه السلام وبذل النفس والنفيس في هذا السبيل منذ أن تسربت أخبار هذه الفاجعة في أواخر القرن الأول الهجري الى تلك الأصقاع ، وأنباء إقامة هذه المهرجانات الحزينة في الهند والباكستان متوفرة منذ أكثر من إثني عشر قرناً ، وقد طفحت الكتب والصحف بذلك ، مما يدل على اهتمام المسلمين وخاصة الشيعة منهم في أنحاء شبه القارة الهندية بهذه المناحات ، وبإقامة المآتم والتعازي ، وتسيير السبايا والهوادج ، وتشكيل مجالس العزاء واجتماعات الحزن في شهري محرم وصفر من كل عام ، ولا سيما في العشرة الاولى من محرم على الامام الحسين وآله وصحبه « رضوان الله عليهم » .
هذا وقد تأثر الهندوس والأقوام الهندية الأخرى غير المسلمة بمشاهد هذه المآتم والنياحات وحفلات الحزن ، فسايروا المسلمين فيها ، وأصبحت لديهم من العادات والتقاليد المتمسكين بها في هذين الشهرين ، وحتى أن في بعض المدن والمناطق الهندية أنشأ الهندوس ا لمباني والعمارات وأوقفوها على الامام
( 73 )
الحسين عليه السلام ومناحاته ، وأطلقوا عليها اسم ( الحسينية ) تأسياً بالمسلمين . ويقيمون فيها شعائر الحزن والأسى والمأتم ، وأصبح اسم الحسين عليه السلام لديهم من الأسماء التي يتبركون بها ويقدسونها ، ولا يذكرون هذا الاسم إلا بكل احترام وتعظيم وتجليل .
وأدرج فيما يلي ما توصلت الى العثور عليه من وصف لهذه المناحات في شبه القارة الهندية :
1 ـ وصف العلامة السيد عبد اللطيف الموسوي الشوشتري (1) في الصفحات المختلفة من مؤلفه القيم « تحفة العالم » باللغة الفارسية عند شرح تجوالة في مختلف أنحاء الهند ، وصف هذه المناحات وإقامة المآتم على الامام الحسين عليه السلام وصفاً دقيقاً ، أقتبس منه نبذاً تلائم بحثي في هذه الرسالة ، مترجماً إياها منه :
« نياح الهنود في دكن ـ حيدر آباد ـ : والغريب في هذه المدينة إنه على الرغم من عدم الشعور بالاسلامية فيها ، فان العظماء والأثرياء والهنود فيها يقيمون المآتم العظيمة على الامام الحسين عليه السلام في أماكنها الخاصة . فانهم فور رؤيتهم هلال شهر الأحزان يلبس الجميع لباس الحداد والحزن ، ويلقون جانباً الملذات ولذائذ الحياة ، ومعظمهم يتركون نهائياً تناول المأكولات والمشروبات اللذيذة . وحتى أن بعضهم لا يدعون الطعام يمر في حلقومهم خلال مدة الأيام العشرة الأولى من المحرم ، ويقضون ليلهم ونهارهم في هذه الأيام بترديد النياحات وقراءة المراثي ، باللغات الهندوسية ، أو الفارسية ، كما أن كل إنسان منهم يقوم بأطعام الفقراء والبذل على المساكين ، كل حسب طاقته ، ثم يوزعون ماء الورد بالمجان ، ويسبلونه على المارة في كل زاوية من زوايا الأسواق والشوارع والأزقة ، ويصنعون التماثيل من الخشب أو الورق على شكل الأضرحة المقدسة ، ويمرون أمامها . وبعد انقضاء العشرة الأولى من المحرم يلقون بهذه التماثيل إما في
____________
(1) هو العلامة السيد عبد اللطيف بن أبي طالب بن نور الدين بن نعمة الله الحسيني الموسوي الجزائري المولود سنة 1172 هـ في ايران . والمتوفى حوالي سنة 1219 هـ في الهند .
( 74 )
الأنهر أو يدفنونها في أماكن معينة من الأرض ، ويطلقون عليها اسم « كربلاء » ، أما في لكنهو ، وبنغاله ، وبنارس التي هي من بلاد الكفر أيضاً فقد شاهدت المشاهد والمناظر المذكورة بأم عيني . والغريب أن المسلمين في بنغاله وبقية المناطق الآهلة بهم يقلدون الهنادكة في تلك الحركات والشعائر ، فهم لا يتناولون الطعام ، ولا يشربون الماء ، أو يقتصرون منهما على أقل ما يمكن ، وفي مجالس المآتم ومجتمعات النياحات يبقون واجمين ، والفريقان يتسابقان في تعذيب الجسد في هذه العشرة الحزينة ، ويخدشون الوجوه ، ويجرحون الصدور ، ويكدمون الرؤوس ويعذبون البدن بالضرب واللطم تعذيباً يفقدون معه وعيهم .
أما في حيدر آباد دكن ، فان المسلمين والهندوس يقومون بحركات ما أنزل الله بها من سلطان ، مما لا يستطيع العقل أن يتصورها ، فإن كثيراً من أعزة القوم هناك يقيدون أيديهم وأرجلهم بالسلاسل الحديدية ، ويلقون على عواتقهم مثل هذه السلاسل ، ويقوم رجال من خدمهم بالقبض على رؤوس هذه السلاسل ويسحبون أصحابها كالأسرى والعبيد في مجالس العزاء ومجتمعات النياحة ، وهؤلاء يتمرغلون على الأرض كالبؤساء ، متملقين ومستعطفين ... » الخ .
2 ـ وجاء في الكتاب نفسه وصف للمأتم الذي يقيمه أحد راجات الهند المعروفين « آصف الدولة » في إحياء ذكرى الامام الحسين عليه السلام ما ترجمته :
« لقد أنشأ آصف الدولة ، ولاءً منه للأئمة الأطهار عليهم السلام ، مقراً عظيماً لإقامة العزاء الحسيني ومسجداً فخماً ، بالقرب من داره وقد أنفق على بنائهما وتزيينهما مبالغ طائلة جداً ، كل ذلك في سبيل إحياء ذكرى استشهاد الامام الحسين عليه السلام وإقامة النياحة عليه ، وقد قيل : إنه لم يكن في الهند كلها بناء أعظم وأوسع وأشرح للصدر من هذا المكان ، أجل إن لشاه جهان مقبرة شامخة في مدينة « أكبر آباد » تسمى « تاج گنج » ويتحدث عنها الناس أحاديث كثيرة تشير الى إعجابهم بها ... » .
( 75 )
ثم يستطرد الكاتب كلامه فيقول :
« إن هذا المقر المخصص لإقامة العزاء الحسيني والمسجد الملاصق له من عجائب الأبنية والعمارات في العالم كله ، ففي كل ساحة من ساحاته «14» قبة شامخة ، وتحت كل قبة ضريح يمثل قبور الأربعة عشر قبراً للمعصومين ، وقد صنعت كل الأضرحة من الفضة الخالصة ، وتضاء هذه الأضرحة أيام العاشوراء ولياليها بأربعمائة أو خمسامائة من الثريا البلورية ، وبألفي ثريا عادية ، وفوانيس بلورية ، وكلها تضاء بالشموع الكافورية ، وقد نصبت عند هذه الأضرحة الساعات الذهبية والفضية بأنواعها المختلفة ، بالإضافة الى سائر الزينات الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة ... » .
ويستطرد الكتاب فيقول :
« أما نفقات هذه الأيام العشرة من شهر محرم لإقامة تلك المآتم فتبلغ ثلاثة « الكاك » (1) من الروبيات ، ولو زاد من هذا المبلغ شيء يوزع على الزوار والفقراء والمستحقين ... » .
3 ـ نقلت « موسوعة العتبات المقدسة » في صفحتها «373» من المجلد الاول ، قسم كربلاء ، عن كتاب « تاريخ الشيعة في الهند » للدكتور « هوليستر » عن أهمية شهر محرم وإقامة مراسيم العزاء فيه ، ما نصه تالياً :
« إن إحياء مراسيم محرم وطقوسه في الهند قد انتشرت بانتشار الشيعة في البلاد . ويمكن أن تلاحظ في الهند وعلى الأخص في « لكنهو » حيث لا يزال شيء من البهاء والرونق الذين كانت تعرف بهما أيام ملوك « أوده » الأولين ، محتفظاً به حتى اليوم ، من أن البذخ الذي كان يبدو من النوابين الذين صرف أحدهم في سنة من السنين على مراسيم محرم وحفلاته الدينية ثلاثمائة ألف باون قد انتهى أمره ،
____________
(1) اللك يساوي 500 الف وحده نقديه .
( 76 )
ومع ذلك فإن الهبات والأوقاف التي أوقفها محمد علي شاه هناك تجعل المراسيم المقامة في محرم اليوم مفعمة بالحيوية والنشاط ، منذ أول ابتدائها من مساء اليوم الذي يتقدم أول يوم منه . كما أن عساف الدولة ملك « أوده » المتوفى سنة «1775 م» ، قد صرف على مراسيم العزاء خلال شهر محرم في إحدى السنين ستة ألكاك روبية » .
ثم يصف الدكتور « هوليستر » كيفية احتفال المسلمين في الهند خلال أيام الحداد العشرة من محرم ، ويعدد أنواع هذه الاحتفالات وأشكالها . فيبدأ بوصف مجالس التعزية التي تقرأ فيها قصة مقتل الحسين بصورة متسلسلة موزعة على عشرة أيام ، مبتدئة بدعوة أهل الكوفة للإمام عليه السلام ، ومنتهية باستشهاده المفجع . يقول :
« إن اليومين الأولين يروى فيهما للمحتفلين المحتشدين تهيؤ الحسين للسفر ، وزيارة المقربين له ، ومذاكراته معهم ، والمشهورات التي قدمت له ، ثم سفره ووصوله الى كربلاء . وتروى في اليوم الثالث أخبار المخيم الذي خيم فيه الحسين وآله وأصحابه ، وتردده ما بينه وبين النهر ، ومذاكرة بني أسد حول دفن القتلى الذين يمكن أو يخرّوا صرعى في ساحة القتال . أما في اليومين الخامس والسادس فتقص على المحتفلين فيها مصائب الامام وصحبه ، والبطولة التي ابداها علي الاكبر قبل استشهاده . وفي اليوم السابع تروى قصة القاسم بن الحسن وبطولته في القتال ، علاوة على قصة زواجه بابنة عمه الحسين . ويخصص اليومان الثامن والتاسع لأخبار العباس وأصحاب الحسين الاثنين والسبعين ، بينما تروى في اليوم العاشر الظروف الأليمة والشكل الفظيع الذي قتل فيه الامام الشهيد ، وهو بيت القصيد من مجالس التعزية كلها » .
ويستطرد « هوليستر » فيقول :
« إن هذه المجالس كما يسميها الهنود المسلمون لا تقام في المساجد والجوامع
( 77 )
التي تخصص للصلاة فقط ، وإنما تقام عادة في أماكن خاصة ، أو « الحسينيات » يطلق على الواحدة منها في الهند : « إمام باره » . وهذه تخصص لمجالس التعزية وحدها في الغالب أيضاً . ويذكر بالمناسبة : أن إحدى « الامام بارات » هذه قد بنيت في « جلال بور » بمبالغ جمعت من حاكة البلد ونساجيه ، بعد أن فرضوا على كل قطعه من منتوجاتهم مبلغ « بيزه » واحدة ويقال : إن « الإمام باره » الكبرى التي شيدت في ( هو كلي ) بالبنغال كانت قد كلفت لكين من الروبيات . وهناك في ( الكنهو ) ثلاث « إمام بارات » كانت ملوك اوده : محمد علي شاه وعساف الدولة وغازي الدين حيدر قد شيدوها بصورة تدعو للاعجاب . ويطلق على التي شيدها غازي الدين اسم : « شاه نجف » لأنها تضم بين جدرانها ضريحاً يعتبر تقليداً لضريح الامام علي في النجف . وعلى الشاكلة نفسها توجد في ( شاء جهانبور ) أيضاً « إمام باره » فيها ضريح يعتبر تقليداً لضريح الحسين كذلك » .
ويصف « هوليستر » ما يسمى في الهند بالتعزية ويعتبرها من أبرز ما يلفت النظر في احتفالات الحداد في الهند أثناء محرم . والظاهر أن كلمة « تعزية » تطلق في شمال الهند على الهيكل المصغر لقبر الحسين ، الذي يحمل مع مواكب العزاء الحسيني في يوم عاشوراء ، وتطلق على هذا في جنوب الهند كلمة ـ تابوت ـ ، وقد نشأت عادة حمل هذه الهياكل المصغرة في مواكب العزاء ـ على ما يقال ـ منذ أيام تيمور لنك الذي جاء بمثل هذا الهيكل الى الهند من كربلاء نفسها . وتوضع هذه التعازي على اختلاف حجومها ومظاهر الزينة فيها فوق هيكل من الخيزران ، فتحمل على اكتاف الرجال الذين يكونون عادة من الهندوس المستأجرين ، وتزين بأنواع الزينة والزخارف من الخارج ، وقد يعمد الأثرياء والموسرون الى إنشائها من الخشب المغلف بالعاج ، أو الأبنوس ، أو الفضة .
ومما يذكر في هذا الشأن أن أحد ملوك « أوده » كان قد أوصى في انجلترا بصنع « تعزية » مثل هذه من النحاس الأصفر والزجاج الأخضر . وقد شاهد
( 78 )
هوليستر نفسه « تعزية كبيرة » من هذا النوع يبلغ ارتفاعها عشرين قدما ، وذات أربعة طوابق ، ولا تحمل مثل هذه التعزية الكبيرة عادة ، وانما توضع وتزين في أماكن خاصة للتبرك بها .
ويتوسع « هولسيتر » في وصف هذه التعزيات وزينتها وكيفية التبرك بها ، وحملها في المواكب ، وما أشبه ذلك ، ثم يأتي كذلك على ذكر الأعلام التي ترفع بالتفصيل من حيث الشكل واللون والرأس ويقول :
« ان شيعة « لكنهو » محظوظون لأن عندهم وبين ظهرانيهم نفس « البنجة » أوالكف المعدنية التي كانت تعلو علم الحسين بكربلا ، وهي محفوظة في « درگاه » شيد خصيصا لها . أما كيفية أخذها الى الهند فيذكر قصة تروى عنها ، وهي : أن أحد الحجاج الهنود في مكة رآى في المنام ذات ليلة « عباس بن علي » حامل لواء الحسين ، فدله على المكان الذي توجد مدفونة فيه في كربلاء نفسها . وحينما ذهب الحجاج الهندي الى ذلك المكان وجد ( البنجه ) عينها ، فجاء بها الى النواب عساف الدولة عامل لكنهو فعمد هذا الى تشييد مزار خاص لها ، وعهد بسدانته الى الحاج المحظوظ الذي جاء بها من كربلاء بلد الحسين ، وبعد مدة تمرض سعادت علي خان وشفي ، فشيد على أثر ذلك « درگاهاً » أجمل للبنجة المقدسة . ويأتي الناس في اليوم الخامس من محرم الى هذا المركز كل سنة ليلمسوا البنجة بأعلامهم . ويقدر أن الأعلام التي يؤتى بها لهذا الغرض كانت تبلغ في الأيام السالفة حوالي 40 أو 50 ألف علم » .
ويقول « هوليستر » عن المراثي التي تلقى في مواكب العزاء .
« إنها عبارة عن قطع أدبية رائعة في بعض الأحيان » .
ويشير من بينها الى مرثية « المير أنيس » على الأخص التي يقول : « إنها مع ما فيها من طول إغراق في الغلو والمبالغة ، قطعة أدبية بليغة تثير أعمق العواطف وأقوى الأحاسيس ، حينما تقرأ خلال الأيام العشرة كلها ، وتنطوي بين تضاعيفها
( 79 )
على قوة بالغة في الوصف لا بد لأقوى الرجال من أن تدمع عيناه عند سماعها . أما في يوم عاشوراء فتستعد مواكب العزاء للخروج منذ الصباح الباكر في الهند ، وبعد مراسيم مختصرة ترفع « التعزية » العائدة لكل موكب من مكانها في « الامام باره » مع الأعلام ، وتؤخذ مشياً على الأقدام الى حيث تدفن في أماكن ، يطلق على كل منها اسم « كربلاء » ، أما في بومبي فتؤخذ الى البحر وترمى فيه ، لكن « التعزيات » الثمينة والكبيرة تعود بها المواكب الى مكانها الأول ، حيث تحفظ للسنين المقبلة . ويسير الموكب بطيئاً في العادة وعلى خط معين ، لكنه يتوقف عن السير بين حين وآخر لإلقاء المراثي وقراءتها ، ويقوم عدد كبير من الناس خلال السير باللطم على الصدور ، والتنادي بجملة « يا حسين ، يا حسين » بين حين وآخر . بينما يقوم آخرون بضرب ظهورهم يمنة ويسيرة ، بسلاسل الحديد أو الخشب ذي المسامير الحادة ، فيخرجون الدم منها » .
ثم يقول « هوليستر » :
« إن نظام « حيدر آباد » كان قد أصدر سنة 1927 م فرماناً يمنع فيه الضرب على الصدور أو الظهور بالسلاسل والمسامير ، خلال شهر محرم في ممتلكاته . وقد تمسح الدموع التي تذرف خلال محرم بالقطن أحياناً ، ويجمع هذا القطن بالذات من قبل الشخص الحزين نفسه أو شخص آخر ، والمعروف عن هذا القطن أنه مفيد لشفاء بعض الأمراض والأوجاع » .
ثم يستطرد « هوليستر » كلامه عن وصف هذه المآتم والأحتفالات العزائية في الهند ويقول :
« إن عدداً غير يسير من أهل السنة والهندوس يشاركون فيها ، ويعتقدون بها كثيراً . والمقول هناك : إن الطبقات الدنيا من الهندوس في مقاطعة « بيهار » يعبدون الحسن والحسين بالفعل ، ويعتبرونهما في صف الآلهة . وإن النساء والرجال من بين الطبقات العليا كذلك مثل « الكياشئا » و « الأنمار والأوالراجيوت »
( 80 )
ينذرون من أجل الحصول على النسل والأولاد أن يقوموا ببعض الأدوار في مواكب محرم ، لعدة سنين ، وخلال مدة حياتهم كلها في بعض الأحيان ، وهؤلاء يمتنعون خلال محرم عن تناول الملح والطعام الحيواني ، ويهجرون جميع وسائل الترف . ويتعتبر مختلف طبقات الهندوس في « بارودا » التعزيات التي تحمل مواكب العزاء أشياء مقدسة ، وهم يمارسون بعض الحركات للتبرك بها ، مثل المرورمن تحتها أو رمي أنفسهم على الأرض في طريقها » .
وتستطرد موسوعة « العتبات المقدسة » كلامها بعد انتهائها من نقل وصف الدكتور « هوليستر » فتقول ما لفظه :
« ولقد روى أحد الصحفيين : أن الهندوس في جنوب الهند من جميع الطبقات ـ عدا البراهمة ـ يطلقون على كل علم من أعلام محرم كلمة « بير » ؛ ولهذا صار يدعى علم الامام علي « لال صاحب » كما يعرف عن النساء العقيمات هناك أنهن يرمين بأنفسهن أمام أعلام محرم وينذرون النذور لها للحصول على الأولاد ، وحينما يرزقن بهم يطلقون عليهم أسماء مثل « هوسانا » أي الحسين ، أو فاطمة ، أو فقيراً ، أو ما أشبه .
وقد كان من المعروف في بارودا : أن الرئيس أو « الفيكوار » الهندوسي يرعى مراسيم العزاء في محرم بنفسه ، وأن المهراجا الهندوسي في « غواليور » يقود المواكب كل سنة في عاصمته ويقال : إن منشأ هذا هو أن المهراجا كان قد مرض قبل خمسين أو ستين سنة ، فرأى ذات ليلة من ليالي مرضه الامام الحسين في المنام فقيل له : إنه سوف يشفى ويبل من مرضه في الحال إذا ما أقام مجلساً من مجالس التعزية في محرم باسم الحسين عليه السلام ووزع الصدقات فيه ، وقد فعل ذلك ، فشفي بإذن الله ، فبقيت العادة حتى يومنا هذا . لكن المهراجا الحالي من نسله صار يكتفي اليوم بركوب حصان فاره يتقدم به موكب العزاء في يوم عاشوراء ، وتقوم خزينة الدولة هناك بتسديد مصاريف الموكب » .
( 81 )
4 ـ جاء في الصفحة «131» من كتاب « سفر نامه حاج بير زاده » باللغة الفارسية ، أي « رحلة الحاج بير زاده » من طهران الى لندن ، عند اجتيازه بمدينة بومبي في الهند ، ما ترجمته :
« والشيعة الإثنا عشرية من الهنود والايرانيين في بومبي كثيرون ، ولهم فيها مساجد وحسينيات زاهرة . وفي الهند يطلقون على الحسينية اسم : « إمام باره » يقيمون فيها في أيام شهر محرم وعشرة عاشوراء التعازي والمآتم على الاما الحسين الشهيد عليه السلام » .
أقول : إن الحاج محمد علي بير زاده ، وهو من أعاظم رجال الصفوية في إيران ، قام برحلته تلك سنة «1306 هـ» .
وقد أثبت التاريخ بمروياته أن اشتداد تمسك سكان شبه القارة الهندية بالعزاء الحسيني وذكراه قد ظهر على أتم صورة خلال القرون الأربعة الأخيرة ، أي بعد أن أصبح تردد الايرانيين ، من علماء وأمراء وادباء وسفراء وتجار وغيرهم ، يزداد على الهند ، وخاصة على عهد السلسلة الصفوية ، التي كانت صلاتها بملوك وأمراء الهند قوية ومستحكمة ، مما أدى الى انتشار المذهب الشيعي في هذه البلاد أكثر فأكثر .
5 ـ جاء في الصفحة «196» من كتاب « المجالس السنية » المار ذكره ، نقلاً عن رسالة الحكيم الألماني الدكتور ماربين ، عن النهضة الحسينية وأثرها في الاسلام والعالم الاسلامي ما نصه :
« كانت الرئاسة الروحانية بعد الامام الحسين في أولاده واحداً بعد واحد . وهؤلاء أيضاً جعلوا إقامة عزاء الحسين الجزء الأعظم من المذهب ، وألبست هذه النكتة السياسية شيئاً فشيئاً اللباس المذهبي . وكلما ازداد قوة أتباع علي عليه السلام ازداد إعلانهم بذكر مصائب الحسين ، وكلما سعوا وراء هذا الأمر ازدادت قوتهم وترقيهم ، وجعل العارفون بمقتضيات الوقت يغيرون شكل ذكل مصائب الحسين
( 82 )
قليلاً قليلاً فجعلت تزداد كل يوم بسبب تحسينهم وتنميقهم لها ، حتى آل الأمر الى أن صار لها اليوم مظهر عظيم في كل مكان يوجد فيه مسلمون حتى أنها سرت شيئاً فشيئاً بين الأقوام وأهل الملل الاخرى ، خصوصاً في الصين والهند ، وعمدة أسباب تأثيرها في أهل الهند ، هو أن المسلمين جعلوا طريقة إقامة العزاء مشابها لمراسيم إقامة العزاء عند أهل الهند . وقبل مائة سنة لم تكن إقامة عزاء الحسين شائعة في الهند شيوعاً تاماً وظاهرة علناً ، وفي هذه المدة القليلة استوعبت بلاد الهند من أولها الى آخرها ، ويظهر أنها في كل يوم في زيادة . ولعدم اطلاع بعض مؤرخينا على كمية وكيفية هذه المآتم ورواجها استرسلوا في كلامهم علىغير علم ، وجعلوا يصفون إقامة أتباع الحسين لها بأنها أفعال جنون ولم يقفوا أبداً على مقدار ما أحدثته هذه المسألة من التغييرات والتبدلات في الاسلام ، والحس السياسي ، والثوران والهيجان المذهبي ، التي ظهرت في هذه الفرقة من إقامة هذه المآتم لم يرمثلها في قوم من الأقوام . إن من يسبر غور الترقيات التي حصلت في مدة مائة سنة لأتباع علي في الهند ـ الذين اتخذا إقامة هذه المآتم شعاراً لهم ـ يجزم بأنهم متبعون أعظم وسيلة للترقي . كما أن أتباع علي والحسين في جميع بلاد الهند كانوا يعدون على الأصابع ، واليوم هم في الدرجة الثالثة بين أهل الهند من حيث العدد ، وكذلك في سائر البلدان . وعندما نقيس منهم دعاتنا « المبشرين » مع صرف تلك القوة والثورة بمنهج دعاة هذه الفرقة ، نرى أن دعاتنا لم يحوزوا العشر من تقدم هذه الفرقة ، رؤساء ديننا وإن كانوا يحزنون الناس بذكر مصائب حضرة المسيح ، ولكنه ليس بذلك الأسلوب والشكل الذي يتخذه أتباع الحسين . ويحتمل أن يكون السبب في ذلك أن مصائب المسيح في جنب مصائب الحسين لا تكون مؤثرة ومشجية للقلب ، بتلك الدرجة التي لمصائب الحسين على مؤرخينا أن يطلعوا على حقائق رسوم وعادات الأغيار ، ولا ينسبونها الى الجنون » .
ثم يستطرد هذا المحقق الألماني ويقول :
( 83 )
« نحن الأوربيين بمجرد أن نرى لقوم حركات ظاهرية في مراسيمهم الملية أو المذهبية ، منافية لعاداتنا ننسبها للجنون والتوحش ، نحن غافلون عن أننا لو سبرنا غور هذه الأعمال لرأيناها عقلية سياسية ، كما نشاهد ذلك في هذه الفرقة الشيعية ، وفي هؤلاء القوم بأحسن وجه . والذي يجب علينا هو أن ننظر الى حقائق عادات وتقاليد كل قوم ، وإلا فإن أهل آسيا أيضاً لا يستحسنون كثيراً من عاداتنا ، ويعدون بعض حركاتنا منافية للآداب ويسمونها بعدم التهذيب ، بل بالوحشية ، وعلاوة على تلك المنافع التي ذكرناها ، والتي هي طبعاً أثر التهيج الطبيعي ، فإنهم يعتقدون أن لهم في إقامة مأتم الحسين درجات عالية في الآخرة ... » الخ .
6 ـ جاء في الصفحة «79» من المجلد « 56 » من « أعيان الشيعة » ما لفظه :
« كانت للمجالس الحسينية التي تعقد بانتظام خلال شهري محرم وصفر في مدن الهند والباكستان ، وأحياناً أيضاً خلال بقية الشهور الأثر الفعال ، لا في إنماء المعارف الدينية فحسب ، بل في التقدم الخلقي والعقلي والروحي للشيعة ، وبفضل هذه المجالس التي تقام لذكرى شهيد الاسلام العظيم الحسين بن علي عليهما السلام نبغ بين الشيعة في شبه القارة الهندية خلال الأجيال الطويلة فحول الشعراء والكتاب وأخيراً الخطباء ... » الخ .
7 ـ جاء في الصفحة «254» من كتاب « دراسة في طبيعة المجتمع العراقي » للدكتور علي الوردي عن النياحة على الحسين في الباكستان ما نصه :
« إن مدينة تيري والمناطق المجاورة لها في الباكستان تحتوي على كثير من الشيعة الذين اعتادوا أن يقيموا المواكب الحسينية في يوم عاشوراء من كل عام . والغريب أن هذه المدينة فيها مدرسة دينية يدرس فيها المذهب الوهابي ويقيم فيها كثير من طلبة العلم ، واسمها « مدرسة الهدى » .
وأخذ الوهابيون يضايقون الشيعة ويهددونهم لكي لا يقيموا المواكب حسب عادتهم في كل عام ؛ فالمواكب في نظرهم بدعة ومروق عن الاسلام . وفي
( 84 )
عام «1962 م» استعد الوهابيون لمنع المواكب بالقوة ، وفي يوم عاشوراء هجم الوهابيون على المواكب بضراوة واستخدموا في هجومهم الأسلحة ، والمعاول ، والمجارف ، والفؤوس ، والخشب ، فسقط المئات من الجرحي والقتلى ، وكانت مذبحة فظيعة . ومما يلفت النظر أن عدداً من أهل السنة قد قتلوا فيها لأنهم كانوا يشاركون الشيعة في مواكبهم ، كما هو الحال في بعض مناطق العراق » .
و ـ في جنوب شرقي آسيا :
أما في جنوب شرقي آسيا ، وخاصة منها : جزر الهند الشرقية ، وأندونيسيا ، وسومطرة ، والفيليبين ، وملتا ، وجاوة ، التي يكثر فيها المسلمون العلويون الذين هاجروا اليها من حضر موت منذ مئات السنين . فان إقامة حفلات الحزن والعزاء والمناحة على الامام الحسين عليه السلام فيها متداولة على طول السنة ، وبالأخص في العشرة الأولى من شهر محرم كل سنة ، ولا سيما في اليومين التاسع والعاشر منها ، ـ التاسوعاء والعاشوراء ـ . وقد بدئ بإقامة مجالس هذه النياحات وشعائر الحزن في تلك الأرجاء والأصقاع منذ أن وطئت أرجل المسلمين من العلويين من أولاد علي العريضي أرضها . وعلى الرغم من مقاومة السلطان القائمة في تلك البلدان ، ولا سيما في جزر الفيليبين للمسلمين وتقاليدهم ، ومنعها لهم من مزاولة فروضهم الدينية ، وعبادتهم وشعائر دينهم ، فإن المسلمين وسيما الشيعة هناك يقيمون هذه المناحات ولو بصورة سرية .
وفيما يلي وصف لبعض ما يقام فيها من هذه الشعائر :
1 ـ جاء في مقال نشر في العددين 9 ـ 10 من المجلد «58» من مجلة « العرفان » الصيداوية ، صفحة «1026» المؤرخين ذي القعدة وذي الحجة سنة «1390 هـ» بقلم الأستاذ السيد حسن الأمين ، بعنوان : « لمحات من تاريخ الشيعة من أندونيسيا » ما نصه :
|