ذكر الخبر عن مقتله

حدثني احمد بن عبيدالله بن عمار، قال: حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه، قال: وحدثني ايضا احمد بن سليمان بن أبي شيخ، وهاشم بن احمد البغوي وغيرهم.

وحدثني علي بن إبراهيم العلوي قال: كتب إلي محمد بن حماد يذكر أن محمد بن إسحاق البغوي حدثه عن ابيه وغيره من مشايخه، وحدثني علي ابن إبراهيم، قال: كتب إلي إبراهيم بن بنان الخثعمي يذكر عن محمد بن ابي الخنساء.

وقد جمعت روايتهم في خبر يحيى إلا ما عسى ان يكون من خلاف بينهم فأفرده واذكر رواته.

قالوا: إن يحيى بن عبدالله بن الحسن لما قتل اصحاب فخ كان في قبلهم فاستتر مدة يجول في البلدان ويطلب موضعا يلجأ اليه، وعلم الفضل بن يحيى بمكانه في بعض النواحي فأمره بالانتقال عنه وقصد الديلم، وكتب له منشورا لا يتعرض له احد.

فمضى متنكرا حتى ورد الديلم، وبلغ الرشيد خبره وهو في بعض الطريق فولى الفضل بن يحيى نواحي المشرق، وامره بالخروج إلى يحيى.

فحدثني علي بن إبراهيم العلوي، قال: كتب إلى موسى بن محمد بن حماد يخبرني أن محمد بن يوسف حدثه عن عبدالله بن خوات، عن جعفر بن يحيى الاحول

[310]

عن إدريس بن زيد، قال: عرض رجل للرشيد فقال: ياأمير المؤمنين نصيحة.

فقال لهرثمة: اسمع ما يقول.

قال: أنها من أسرار الخلافة.

فأمره ألا يبرح، فلما كان في وقت الظهيرة دعا به فقال: اخلني، فالتفت الرشيد إلى ابنيه فقال: انصرفا فانصرفا، وبقي خاقان والحسن على رأسه فنظر الرجل اليهما، فقال الرشيد: تنحيا عني، ففعلا، ثم اقبل على الرجل فقال: هات ما عندك.

قال: على ان تؤمنني من الاسود والاحمر.

قال: نعم، واحسن اليك قال: كنت في خان من خانات حلوان، فاذا أنا بيحيى بن عبدالله في دراعة صوف غليظة وكساء صوف احمر غليظ، ومعه جماعة ينزلون إذا نزل ويرتحلون إذا رحل ويكونون معه ناحية، فيوهمون من رآهم انهم لا يعرفونه وهم أعوانه، مع كل واحد منهم منشور بياض يؤمن به إن عرض له.

قال: او تعرف يحيى؟ قال: قديما وذاك الذي حقق معرفتي بالامس له.

قال: فصفه لي.

قال: مربوع، اسمر، حلو السمرة، اجلح، حسن العينين عظيم البطن.قال: هو ذاك.

فما سمعته؟ قال ما سمعته يقول شيئا، غير أني رأيته رأيت غلاما له اعرفه لما حضر وقت صلاته فأتاه بثوب غسيل فألقاه في عنقه ونزع جبته الصوف ليغسلها فلما كان بعد الزوال صلى صلاة ظننتها العصر، أطال في الاولتين وحذف الاخيرتين.

فقال له الرشيد: لله ابوك، لجاد ما حفظت، تلك صلاة العصر وذلك وقتها عند القوم، أحسن الله جزاء‌ك، وشكر سعيك فما انت؟ وما اصلك؟ فقال: أنا رجل من ابناء هذه الدولة، واصلي مرو، ومنزلي بمدينة السلام.

فأطرق مليا ثم قال: كيف احتمالك لمكروه مني تمتحن به في طاعتي؟ قال: ابلغ في ذلك حيث احب أمير المؤمنين.

قال: كن بمكانك حتى ارجع، فقام فطعن في حجرة كانت خلفه، فأخرج

[311]

صرة فيها الف دينار، فقال: خذ هذه ودعني وما ادبر فيك، فأخذها الرجل وضم عليها ثوبه، ثم قال: ياغلام، فأجابه مسرور، وخاقان، والحسين فقال: اصفعوا ابن اللخناء.

فصفعوه نحو مائة صفعة، فخفي الرجل بذلك، ولم يعلم احد بما كان القي اليه الرجل، وظنوا انه ينصح بغير ما يحتاج اليه، لما جرى عليه من المكروه حتى كان من الرشيد ما كان في أمر البرامكة فأظهرذلك.

رجع الحديث إلى سياقة خبر يحيى.

قالوا: فلما علم الفضل بمكان يحيى بن عبدالله كتب إلى يحيى: إني احب أن احدث بك عهدا، واخشى ان تبتلي بي وابتلي بك، فكاتب صاحب الديلم، فإني قد كاتبته لك لتدخل في بلاده فتمتنع به.ففعل ذلك يحيى.

وكان قد صحبه جماعة من اهل الكوفة، فيهم ابن الحسن بن صالح بن حي كان يذهب مذهب الزيدية البترية في تفضيل ابي بكر وعمر وعثمان في ست سنين من إمارته ويكفره في باقي عمره، ويشرب النبيذ ويمسح على الخفين، وكان يخالف يحيى في أمره ويفسد اصحابه.

قال يحيى بن عبدالله: فأذن المؤذن يوما وتشاغلت بطهوري، واقيمت الصلاة فلم ينتظرني وصلى بأصحابي، فخرجت فلما رأيته يصلي قمت اصلي ناحية ولم اصل معه، لعلمي أنه يمسح على الخفين، فلما صلى قال لاصحابه: علام نقتل انفسنا مع رجل لا يرى الصلاة معنا ونحن عنده في حال من لا يرضى مذهبه؟ قال: واهديت إلي شهدة في يوم من الايام وعندي قوم من اصحابي فدعوتهم إلى اكلها فدخل في اثر ذلك فقال: هذه الاثرة، اتأكله انت وبعض أصحابك دون بعض؟ فقلت له ! هذه هدية اهديت إلي، وليست من الفئ الذي لا يجوز هذا فيه.

[312]

فقال لا: ولكنك لو وليت هذا الامر لاستأثرت ولم تعدل.

وأفعال مثل هذه من الاعتراض.

وولى الرشيد الفضل بن يحيى جميع كور المشرق وخراسان، وأمره بقصد يحيى والخديعة به، وبذل له الاموال والصلة إن قبل ذلك، فمضى الفضل فيمن ندب معه، وراسل يحيى بن عبدالله فأجابه إلى قبوله، لما رأى من تفرق اصحابه وسوء رأيهم فيه، وكثرة خلافهم عليه، إلا انه لم يرض الشرائط التي شرطت له، ولا الشهود الذين شهدوا عليه، وكتب لنفسه شروطا، وسمي شهودا، وبعث بالكتاب إلى الفضل، فبعث به إلى الرشيد فكتب له على ما اراد، واشهد له من التمس.

فحدثني احمد بن عبيدالله بن عمار، وابوعبيد الصيرفي، قالا: حدثنا محمد ابن علي بن خلف، قال: حدثني بعض الحسنيين، عن عبيدالله بن محمد بن سليمان ابن عبدالله بن الحسن، قال: قال عبدالله بن موسى: اتيت عمي يحيى بن عبدالله بعد انصرافه من الديلم وبعدالامان فقلت: ياعم، ما بعدي مخبر ولا بعدك مخبر فأخبرني بما لقيت.

فقال: ما كنت إلا كما قال حيي بن اخطب اليهودي:

لعمرك ما لام ابن اخطب نفسه***ولكن من لا ينصر الله يخذل

فجاهد حتى أبلغ النفس عذرها***وقلقل يبغى العز كل مقلقل

رجع الحديث إلى سياقة خبر يحيى بن عبدالله.

قالوا: فلما جاء الفضل إلى بلاد الديلم قال يحيى بن عبدالله: اللهم اشكر لي إخافتي قلوب الظالمين، اللهم إن تقض لنا النصر عليهم فانما نريد إعزاز دينك، وإن تقض لهم النصر فيما يختار لاوليائك وأبناء أوليائك من كريم المآب وسنى الثواب فبلغ ذلك الفضل فقال: يدعو الله أن يرزقه السلامة، فقد رزقها.

قالوا: فلما ورد كتاب الرشيد على الفضل وقد كتب الامان على ما رسم يحيى واشهد الشهود الذين التمسهم، وجعل الامان على نسختين إحداهما مع يحيى

[313]

والاخرى معه، شخص يحيى مع الفضل حتى وافى بغداد ودخلها معادلة في عمارية على بغل، فقال مروان بن أبي حفصة.

وقالوا الطالقان يجن كنزا*** سيأتينا به الدهر المديل

فأقبل مكذبا لهم بيحيى*** وكنز الطالقان له زميل

فحدثني علي بن إبراهيم العلوي، عن محمد بن موسى بن حماد، قال: حدثني محمد بن إسحاق البغوي، قال: حدثني ابي، قال: كنا مع يحيى بن عبدالله بن الحسن فسأله رجل كان معنا كيف تخيرت الدخول إلى الديلم من بين النواحي؟ قال: إن للديلم معنا خرجة فطمعت أن تكون معي.رجع الحديث إلى سياقة الخبر.

قالوا: فلما قدم يحيى أجازه الرشيد بجوائز سنية() إن مبلغها مائتا الف دينار، وغير ذلك من الخلع والحملان، فأقام على() وفي نفسه الحيلة على يحيى والتفرغ له، وطلب العلل عليه وعلى اصحابه، حتى اخد رجلا يقال له: فضالة بلغه أنه يدعو إلى يحيى فحبسه، ثم دعا به فأمره ان يكتب إلى يحيى بأنه قد اجابه جماعة من القواد واصحاب الرشيد ففعل ذلك، وجاء الرسول إلى يحيى فقبض عليه وجاء به إلى يحيى بن خالد فقال له هذاجاء‌ني بكتاب لا اعرفه، ودفع الكتاب اليه فطابت نفس الرشيد بذلك، وحبس فضالة هذا فقيل له: انك تظلمه في حبسك إياه.

فقال: أنا اعلم ذلك، ولكن لا يخرج وانا حي ابدا.

قال فضالة: فلا والله ما ظلمني لقد كنت عهدت إلى يحيى إن جاء‌ه مني كتاب ألا يقبله وان يدفع الرسول إلى السلطان، وعلمت انه سيحتال عليه بي.

قالوا: فلما تبين يحيى بن(عبدالله) ما يراد به استأذن في الحج فأذن له.

وقال علي بن إبراهيم في حديثه: لم يستأذن في الحج، ولكنه قال للفضل

[314]

ذات يوم: اتق الله في دمي، واحذر ان يكون محمد صلى الله عليه وآله خصمك غدا في فرق له واطلقه.

وكان على الفضل عين للرشيد قد ذكر ذلك له، فدعا بالفضل وقال: ما خبر يحيى بن عبدالله؟ قال: في موضعه عندي مقيم.

قال: وحياتي ! قال: وحياتك إني اطلقته، سألني برحمه من رسول الله فرققت له.

قال: احسنت، قد كان عزمي ان اخلي سبيله.

فلما خرج أتبعه طرفه وقال: قتلني الله إن لم اقتلك.

قالوا: ثم إن نفرا من أهل الحجاز تحالفوا على السعاية بيحيى بن عبدالله ابن الحسن والشهادة عليه بأنه يدعو إلى نفسه، وان امانه منتقض، فوافق ذلك كا كان في نفس الرشيد له، وهم: عبدالله بن مصعب الزبيري وابوالبختري وهب ابن وهب، ورجل من بني زهرة، ورل من بني مخزوم.

فوافوا الرشيد لذلك واحتالوا إلى ان أمكنهم ذكرهم له، فأشخصه الرشيد اليه وحبسه عند مسرور الكبير في سرداب، فكان في اكثر الايام يدعو به فيناظره، إلى ان مات في حبسه رضوان الله عليه.

واختلف الناس في أمره، وكيف كانت وفاته، وسأذكر ذلك في موضعه حدثني احمد بن عبيدالله بن عمار، قال: حدثنا احمد بن سليمان بن أبي شيخ، عن ابيه، وعن غيره: أن الرشيد دعا بيحيى يوما فجعل يذكر ما رفع اليه في امره وهو يخرج كتبا كانت في يده حججا له، فيقرؤها الرشيد واطراف الكتب في يد يحيى، فتمثل بعض من حضر:

أني أتيح له حرباء تنضبه***لا يرسل الساق إلا مرسلا ساقا

فخضب الرشيد من ذلك وقال للمتمثل: أتويده وتنصره؟ قال: لا، ولكني شبهته في مناظرته واحتجاجه بقول هذا الشاعر.

ثم اقبل عليه فقال: دعني من هذا، يايحيى أينا احسن وجها أنا او انت؟

[315]

قال: بل أنت ياأمير المؤمنين، إنك لانصع لونا واحسن وجها.

قال: فأينااكرم واسخى: انا او انت؟ فقال: وما هذا ياامير المؤمنين، وما تسألني عنه، انت تجبى اليك خزائن الارض وكنوزها، وانا اتمحل معاشى من سنة إلى سنة.

قال: فأينا اقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، انا او انت؟ قال: قد اجبتك عن خطتين فاعفني من هذه ! قال: لا والله.

قال: بل فاعفني، فحلف بالطلاق والعتاق ألا يعفيه.

فقال: ياامير المؤمنين لو عاش رسول الله صلى الله عليه وآله وخطب اليك ابنتك أكنت تزوجه؟ قال: أي والله ! قال: فلو عاش فخطب إلي أكان يحل لي أن أزوجه؟ قال: لا قال: فهذا جواب ما سألت.

فغضب الرشيد وقام من مجلسه، وخرج الفضل بن ربيع وهو يقول: لوددت أني فديت هذا المجلس بشطر ما املكه.

قالوا: ثم رده إلى محبسه في يومه ذلك.

ثم دعا به وجمع بينه وبين عبدالله بن مصعب الزبيري ليناظره فيما رفع اليه فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد وقال له: نعم ياامير المؤمنين إن هذا دعاني إلى بيعته.

قال له يحيى: ياامير المؤمنين.

اتصدق هذا وتستنصحه؟ وهو ابن عبدالله ابن الزبير الذي ادخل اباك وولده الشعب واضرم عليهم النار حتى تخلصه أبوعبدالله الجدلي صاحب علي بن ابي طالب منه عنوة.

وهو الذي بقي اربعين جمعة لا يصلي على النبي - صلى الله عليه وآله - في خطبته حتى التاث عليه الناس، فقال: إن له اهل بيت سوء إذا صليت عليه او ذكرته أتلعوا اعناقهم واشرأبوا لذكره وفرحوا بذلك فلا احب ان اقر عينهم بذكره.

وهو الذي فعل بعبد الله بن العباس مالا خفاء به عليك حتى لقد ذبحت يوما عنده بقرة فوجدت كبدها قد نقبت فقال ابنه علي بن عبدالله: ياأبة اما ترى كبد هذه البقرة؟ فقال: يابني، هكذا ترك

[316]

ابن الزبير كبد ابيك، ثم نفاه إلى الطائف، فلما حضرته الوفاة قال لعلي ابنه: يابني، الحق بقومك من بني عبد مناف بالشام، ولا تقم في بلد لابن الزبير فيه إمرة.

فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبدالله بن الزبير.

ووالله إن عداوة هذا ياأمير المؤمنين لنا جميعا بمنزلة سواء، ولكنه قوى علي بك وضعفت عنك، فتقرب بي اليك، ليظفر منك بما يريد، إذ لم يقدر على مثله منك، وما ينبغي لك ان تسوغه ذلك في، فان معاوية بن أبي سفيان، وهوابعد نسبا منك الينا، ذكر يوما الحسن بن علي فسفهه فساعده عبدالله بن الزبير على ذلك، فزجره معاوية وانتهره فقال: إنما ساعدتك ياأمير المؤمنين ! فقال: إن الحسن لحمي آكله.ولا أوكله.

فقال عبدالله بن مصعب: إن عبدالله بن الزبير طلب امرا فأدركه.

وإن الحسن باع الخلافة من معاوية بالدراهم، أتقول هذا في عبدالله بن الزبير، وهو ابن صفية بنت عبدالمطلب؟ فقال يحيى: يامير المؤمنين، ما انصفنا ان يفخر علينا بامرأة من نسائنا وامرأة منا، فهلا فخر بهذا على قومه من النوبيات والاساميات والحمديات ! فقال عبدالله بن مصعب: ما تدعون بغيكم علينا وتوثبكم في سلطاننا؟ فرفع يحيى رأسه اليه، ولم يكن يكلمه قبل ذلك، وإنما كان يخاطب الرشيد بجوابه لكلام عبدالله، فقال له: أتوثبنا في سلطانكم؟ ومن انتم - اصلحك الله - عرفني فلست اعرفكم؟ فرفع الرشيد رأسه إلى السقف يجيله فيه ليستر ما عراه من الضحك ثم غلب عليه الضحك ساعة، وخجل ابن مصعب.

ثم التفت يحيى فقال: ياامير المؤمنين، ومع هذا فهو الخارج مع أخي على ابيك والقائل له:

إن الحمامة يوم الشعب من دثن*** هاجت فؤاد محب دائم الحزن

إنا لنأمل أن ترتد الفتنا*** بعد التدابر والبغضاء والاحن

[317]

حتى يثاب على الاحسان محسننا*** ويأمن الخائف المأخوذ بالدمن

وتنقضى دولة أحكام قادتها*** فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فطالما قد بروا بالجور اعظمنا***برى الصناع قداح النبع بالسفن

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا***إن الخلافة فيكم يابني الحسن

لا عز ركنا نزار عن سطوتها***إن اسلمتك ولا ركنا ذوي يمن

الست اكرمهم عودا إذا انتسبوا*** يوما واطهرهم ثوبا من الدرن

وأعظم الناس عند الناس منزلة***وأبعد الناس من عيب ومن وهن

قال: فتغير وجه الرشيد عند استماع هذا الشعر، فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، وبأيمان البيعة أن هذا الشعر ليس له وانه لسديف.

فقال يحيى: والله ياامير المؤمنين ما قاله غيره، وما حلفت كاذبا ولا صادقا بالله قبل هذا، وإن الله إذا مجده العبد في يمينه بقوله: الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، استحيى أن يعاقبه، فدعني احلفه بيمين ما حلق بها احد قط كاذبا إلا عوجل.قال: حلفه.

قال: قل: برئت من حول الله وقوته، واعتصمت بحولي وقوتي، وتقلدت الحول والقوة من دون الله، استكبارا على الله، واستغناء عنه واستعلاء عليه إن كنت قلت هذا الشعر.

فامتنع عبدالله من الحلف بذلك، فغضب الرشيد وقال للفضل بن الربيع: ياعباسي ماله لا يحلف إن كان صادقا؟ هذا طيلساني علي، وهذه ثيابي لو حلفني انها لي لحلفت.

فرفس الفضل بن الربيع عبدالله ابن مصعب برجله وصاح به: إحلف ويحك - وكان له فيه هوى - فحلف باليمين ووجهه متغير وهو يرعد، فضرب يحيى بين كتفيه ثم قال: يابن مصعب قطعت والله عمرك، والله لا تفلح بعدها.

فما برح من موضعه حتى اصابه الجذام فتقطع ومات في اليوم الثالث.

فحضر الفضل بن الربيع جنازته، ومشى الناس معه، فلما جاء‌وا به إلى القبر ووضعوه في لحده وجعل اللبن فوقه، انخسف القبر فهوى به حتى غاب عن اعين

[318]

الناس، فلم يروا قرار القبر وخرجت منه غبرة عظيمة، فصاح الفضل: التراب التراب فجعل يطرح التراب وهو يهوى، ودعا بأحمال الشوك فطرحها فهوت، فأمر حينئذ بالقبر فسقف بخشب واصلحه وانصرف منكسرا.

فكان الرشيد بعد ذلك يقول للفضل: رأيت ياعباسي، ما اسرع ما اديل ليحيى من ابن مصعب.

فحدثني ابن عمارة قال: حدثني الحسن بن العليل العنزي، قال: حدثني احمد ابن محمد بن سليمان بن عبدالله بن أبي جهم بن حذيفة بن غانم العدوي عن عبدالرحمن ابن عبدالله بن ابي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، قال: كنت مع إسماعيل بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي ربيعة المخزومي فقال لي اتحب أن اريك الرجل الذي القى عبدالله بن مصعب في رحم امه؟ قلت: نعم فأرنيه فأومأ إلى إنسان سندي على حمار، يكري الحمير بالمدينة، وقال لي: ما زال مصعب بن أبي ثابت يخرج أم عبدالله بن مصعب من بيت هذا ابدا، وكانت سندية اسمها تحفة فولدت عبدالله فهو اشبه الناس بوردان، فنفاه مصعب بن ثابت عن نفسه فلم يزل مدة على ذلك، ثم استلاطه بعد ذلك.

قال: وقال بعض الشعراء يهجو مصعب بن عبدالله الزبيري وأخاه بكارا ويذكر عبدالله بن مصعب:

تدعى حواري الرسول تكذبا***وأنت لوردان الحمير سليل

ولولا سعايات بآل محمد***لالفى ابوك العبدوهو ذليل

ولكنه باع القليل بدينه***فطال له وسط الجحيم عويل

فنال به مالاوجاها ومنكحا***وذلك خزى في المعاد طويل

ثم نرجع إلى سياقة الخبر في مقتل يحيى بن عبدالله.

قالوا: ثم جمع له الرشيد الفقهاء وفيهم: محمد بن الحسن صاحب أبي يوسف القاضي، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وأبوالبختري وهب بن وهب، فجمعوا في مجلس وخرج اليهم مسرور الكبير بالامان، فبدأ محمد بن الحسن فنظرفيه

[319]

فقال: هذا أمان مؤكد لا حيلة فيه - وكان يحيى قد عرضه بالمدينة على مالك وابن الدراوردي وغيرهم، فعرفوه انه مؤكد لا علة فيه.

قال: فصاح عليه مسرور وقال: هاته، فدفعه إلى الحسن بن زياد اللؤلؤي فقال بصوت ضعيف: هو امان.

واستلبه أبوالبختري وهب بن وهب فقال: هذا باطل منتقض، قد شق عصا الطاعة وسفك الدم فاقتله ودمه في عنقي.

فدخل مسرور إلى الرشيد فأخبره فقال له: اذهب فقل له: خرقه إن كان باطلا بيدك، فجاء‌ه مسرور فقال له ذلك فقال: شقة ياابا هاشم.

قال له مسرور: بل شقه أنت إن كان منتقضا.

فأخذ سكينا وجعل يشقه ويده ترتعد حتى صيره سيورا، فأدخله مسرور على الرشيد فوثب فأخذه من يده وهو فرح وهو يقول له: يامبارك يامبارك، ووهب لابي البختري ألف ألف وستمائة الف، وولاه القضاء، وصرف الآخرين، ومنع محمد بن الحسن من الفتيا مدة طويلة، واجمع على إنفاذ ما أراده في يحيى بن عبدالله.

قال ابوالفرج الاصبهاني: وقد اختلف في مقتله كيف كان: فحدثني جعفر ابن احمد الوراق، قال: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن عثمان، عن الحسن بن علي، عن عمرو بن حماد عن رجل كان مع يحيى بن عبدالله في المطبق، قال: كنت قريبا منه فكان في اضيق البيوت واظلمها، فبينا نحن ذات ليلة كذلك إذ سمعنا صوت الاقفال وقد مضت من الليلة هجعة، فاذا هارون قد اقبل على برذون له، ثم وقف وقال: اين هذا؟ يعني يحيى بن عبدالله بن الحسن.

قالوا: في هذا البيت.

قال علي به فأدنى اليه فجعل هارون يكلمه بشئ لم افهمه فقال: خذوه، فأخذوه فضرب مائة عصا، ويحيى يناشده الله والرحم والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله ويقول: بقرابتي منك، فيقول: ما بيني وبينك قرابة.

ثم حمل فرد إلى موضعه فقال: كم اجريتم عليه؟ قالوا: اربعة ارغفة

[320]

وثمانية أرطال ماء.

قال: اجعلوه على النصف.

ثم خرج ومكثنا ليالي ثم سمعنا وقعا فاذا نحن به حتى دخل فوقف موقفه فقال: علي به فأخرج ففعل به مثل فعله ذلك، وضربه مائة عصا اخرى، ويحيى يناشده الله، فقال كم اجريتم عليه؟ قالوا: رغفين واربعة ارطال ماء.

قال اجعلوه على النصف.

ثم خرج وعاد الثالثة، وقد مرض يحيى بن عبدالله وثقل، فلما دخل قال: علي به، قالوا: هو عليل مدنف لما به.

قال: كم اجريتم عليه؟ قالوا: رغيفا ورطلين ماء قال: فجعلوه على النصف.

ثم خرج فلم يلبث يحيى بن عبدالله أن مات، فأخرج إلى الناس، ودفن رضى الله عنه وارضاه.

وقال ابن عمار في روايته عن إبراهيم بن رياح.

إنه بني عليه اسطوانة بالرافقة وهو حي.

وقال ابن عمار في خبره عن علي بن محمد بن سليمان: إنه دس اليه في الليل من خنقه حتى تلف.

قال: وبلغني أنه سقاه سما.

وقال علي بن إبراهيم، بن بنان الخثعمي، عن محمد بن أبي الخنساء: أنه اجاع السباع ثم القاه اليها فأكلته.

فحدثني احمد بن سعيد، قال: حدثنايحيى بن الحسن قال: حدثني موسى بن عبدالله عن ابيه، ومحمد بن عبيدالله البكري، عن سلمة بن عبدالله بن عبدالرحمن المخزومي، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن عمر بن حفص العمري قال: دعينا لمناظرة يحيى بن عبدالله بن الحسن بحضرة الرشيد، فجعل يقول له: اتق الله وعرفني اصحابك السبعين لئلا ينتقض أمانك.

واقبل علينا فقال: إن هذا لم يسم اصحابه، فكلما اردت اخذ إنسان بلغني عنه شئ اكرهه، ذكر انه ممن أمنت.

فقال يحيى: ياامير المؤمنين.

انا رجل من السبعين فما الذي نفعني

[321]

من الامان، أفتريد ان ادفع اليك قوما تقتلهم معي، لا يحل لي هذا.

قال: ثم خرجنا ذلك اليوم، ودعانا له يوما آخر، فرأيته اصفر الوجه متغيرا، فجعل الرشيد يكلمه فلا يجيبه، فقال: ألا ترون اليه لا يجيبني، فأخرج الينا لسانه، وقد صار اسود مثل الفحمة يرينا انه لا يقدر على الكلام فتغيظ الرشيد وقال: إنه يريكم أني سقيته السم، ووالله لو رأيت عليه القتل لضربت عنقه صبرا.

قال: ثم خرجنا من عنده فما وصلنا في وسط الدار حتى سقط على وجهه لا حراك به.

حدثني احمد بن سعيد، قال: حدثني يحيى بن الحسن، قال: كان إدريس ابن محمد بن يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن، يقول: قتل جدي بالجوع والعطش في الحبس.

واما حرمي بن ابي العلاء، فحدثنا عن الزبير بن بكار، عن عمه: ان يحيى لما اخذ من الرشيد المائتي الف دينار قضى بها دين الحسين صاحب فخ، وكان الحسين خلف مائتي الف دينار دينا.

تسمية من خرج مع يحيى بن عبدالله

ابن الحسن من أهل العلم والحديث حدثني علي بن إبراهيم العلوي، حدثنا جعفر بن محمد الفزاري: أن يحيى ابن مساور كان ممن خرج مع يحيى بن عبدالله.

حدثني علي بن العباس، قال: حدثنا علي بن احمد الباني، قال: سمعت عامر ابن كثير السراج يحدث محمد بن إبراهيم انه خرج مع يحيى بن عبدالله بن الحسن.

حدثني ابوعبيد محمد بن أحمد المؤمل الصيرفي، قال سمعت محمد بن علي بن خلف العطار يقول: خرج سهل بن عامر البجلي مع يحيى بن عبدالله.

كتب إلى علي بن العباس المقانعي، قال: حدثنا عباد بن يعقوب، قال: أعطى يحيى بن عبدالله يحيى بن مساور من المال الذي اعطاه هارون ثلاثة بدور، فلما كان بعد ذلك قال يحيى: احتل لي في الفي درهم قرضا، فقال له: ابعث برسول ومعه بغل، فوجه إلى يحيى بالثلاث بدور فقال له ما هذا؟ قال: هذا الذي كنت اعطيتني، علمت انك ستحتاج اليه، قال له: خذ بعضه، فقال لا والله ما كان الله ليراني آكل على حبكم درهما ابدا.

حدثني علي بن إبراهيم العلوي، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم، قال: قال محمد بن يحيى، عن محمد بن عثمان، عن الحسن بن علي، عن علي بن هاشم بن البريد: أن هارون اخذه، وعبد ربه بن علقمة، ومخول بن إبراهيم النهدي وكانوا من اصحاب يحيى بن عبدالله، فحبسهم جميعا في المطبق، فمكثوا فيه اثنتي عشرة سنة.

[323]

حدثني محمد بن الحسين الاشناني، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن مخول بن إبراهيم، قال: كنت أغمز ساق جدي فقلت له: ياابي الكبير ما ادق ساقيك ! فقال: دققتها يايحيى قيود هارون في المطبق.

حدثنا محمد بن الحسين، قال حدثنا احمد بن حازم الغفاري، قال: حدثني مخول، قال: حبست أنا، وعبد ربه بن علقمة في المطبق، فمكثنا فيه بضع عشرة سنة.

قال: ثم دعاني هارون الرشيد، فمروا بي على عبد ربه بن علقمة، فصاح بي يامخول، احذر بن تلقى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وقد شركت في دم ولده، أو دللتهم على اثر يتعلقون به عليه، وإذا مر بك هول من عقوباتهم فاذكر عذاب الله وعقابه يوم القيامة والموت ! فإنه يسهل عليك.

فوالله لقد صير قلبي مثل زبرة حديد.

وادخلت على هارون فدعا بالسيف والنطع فقال: والله لتدلني على اصحاب يحيى او لاقطعنك قطعا.

فقلت ياامير المؤمنين، انا رجل سوقة ضعيف، محبوس منذ اربع سنين، من اين اعرف مواضع اصحاب يحيى وقد تفرقوا في البلاد خوفا منك؟ فأراد قتلي، فقالوله: قد صدق فيما ذكر، من اين يعرف مواضع قوم هراب؟ فردني إلى محبسي، فمكثت فيه بضع عشرة سنة.

ومما رثى به يحيى بن عبدالله بن الحسن، انشدنيه علي بن إبراهيم العلوي:

يابقعة مات بها سيد***ما مثله في الارض من سيد

مات الهدى من بعده والندى*** وسمي الموت به معتدى

فكم حيا حزت من وجهه***وكم ندى يحيى بن المجتدى

لا زلت غيث الله ياقبره***عليك منه رائح مغتدي

كان لنا غيثا به نرتوي***وكان كالنجم به نهتدي

فإن رمانا الدهر عن قوسه*** وخاننا في منتهى السؤدد

فعن قريب نبتغي ثاره***بالحسنى الثائر المهتدي

إن ابن عبدالله يحيى ثوى*** والمجد والسؤدد في ملحد