تفسير الميزان
السيد الطباطبائي
الجزء الخامس
/ صفحة1 /
الميزان في تفسير القرآن 5
/ صفحة3 /
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
/ صفحة4 /
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد الخامس منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة بسم الله الرحمن الرحيم
/ صفحة5 /
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لو لا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77) - اينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78) - ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا (79) - من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80)) بيان الآيات متصلة بما قبلها وهى جميعا ذات سياق واحد وهذه الآيات تشتمل على الاستشهاد بأمر طائفة أخرى من المؤمنين ضعفاء الايمان وفيها عظة وتذكير بفناء الدنيا وبقاء نعم الاخرة وبيان لحقيقة قرآنية في خصوص الحسنات والسيئات.
/ صفحة 6 /
قوله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم إلى قوله أو أشد خشية) كف الايدى كناية عن الامساك عن القتال لكون القتل الذى يقع فيه من عمل الايدى وهذا الكلام يدل على أن المؤمنين كانوا في ابتداء أمرهم يشق عليهم ما يشاهدونه من تعدى الكفار وبغيهم عليهم فيصعب عليهم أن يصبروا على ذلك ولا يقابلوه بسل السيوف فأمرهم الله بالكف عن ذلك وإقامة شعائر الدين من صلاة وزكاة ليشتد عظم الدين ويقوم صلبه فيأذن الله لهم في جهاد أعدائه ولولا ذلك لانفسخ هيكل الدين، وانهدمت أركانه وتلاشت أجزاؤه.
ففى الآيات لومهم على أنهم هم الذين كانوا يستعجلون في قتال الكفار ولا يصبرون على الامساك وتحمل الاذى حين لم يكن لهم من العدة والقوة ما يكفيهم للقاء عدوهم فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون العدو وهم ناس مثلهم كخشية الله أو أشد خشية.
قوله تعالى: (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال) ظاهره أنه عطف على قوله (إذا فريق منهم) وخاصة بالنظر إلى تغيير السياق من الفعل المضارع (يخشون الناس) إلى الماضي (قالوا) فالقائل بهذا القول هم الذين كانوا يتوقون للقتال، ويستصعبون الصبر فامرو بكف أيديهم.
ومن الجائز أن يكون قولهم ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب محكيا عن لسان حالهم كما من الجائز أن يكونوا قائلين ذلك بلسانهم الظاهر فان القرآن يستعمل من هذه العنايات كل نوع.
وتوصيف الاجل الذى هو أجل الموت حتف الانف بالقريب ليس المراد به أن يسألوا التخلص عن القتل والعيش زمانا يسيرا بل ذلك تلويح منهم بأنهم لو عاشوا من غير قتل حتى يموتوا حتف أنفهم لم يكن ذلك إلا عيشا يسيرا وأجلا قريبا فما لله - سبحانه - لا يرضى لهم أن يعيشوا هذه العيشة اليسيرة حتى يبتليهم بالقتل، ويعجل لهم الموت؟ وهذا الكلام صادر منهم لتعلق نفوسهم بهذه الحياة الدنيا التى هي في تعليم القرآن متاع قليل يتمتع به ثم ينقضى سريعا ويعفى أثره، ودونه الحياة الآخرة التى هي الحياة الباقية الحقيقية فهى خير، ولذلك أجيب عنهم بقوله (قل) (الخ).
/ صفحة 7 /
قوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل) (الخ) أمر للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب هؤلاء الضعفاء بما يوضح لهم خطأ رأيهم في ترجيح العيش الدنيوي اليسير على كرامة الجهاد والقتل في سبيل الله تعالى ومحصله أنهم ينبغى أن يكونوا متقين في إيمانهم والحياة الدنيا هي متاع يتمتع به قليل إذا قيس إلى الآخرة والآخرة خير لمن اتقى فينبغي لهم أن يختاروا الآخرة التى هي خير على متاع الدنيا القليل لانهم مؤمنون وعلى صراط التقوى ولا يبقى لهم إلا أن يخافو أن يحيف الله عليهم ويظلمهم فيختاروا لذلك ما بأيديهم من المتاع على ما يوعدون من الخير وليس لهم ذلك فإن الله لا يظلمهم فتيلا.
وقد ظهر بهذا البيان أن قوله (لمن اتقى) من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للدلالة على سبب الحكم ودعوى انطباقه على المورد والتقدير - والله أعلم - والاخرة خير لكم لانكم ينبغى أن تكونوا لايمانكم أهل تقوى والتقوى سبب للفوز بخير الاخرة فقوله (لمن اتقى) كالكناية التى فيها تعريض.
قوله تعالى: (أين ما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) البروج جمع برج وهو البناء المعمول على الحصون، ويستحكم بنيانه ما قدر عليه لدفع العدو به وعنه وأصل معناه الظهور ومنه التبرج بالزينة ونحوها والتشييد الرفع وأصله من الشيد وهو الجص لانه يحكم البناء ويرفعه ويزينه فالبروج المشيدة الابنية المحكمة المرتفعة التى على الحصون يأوى إليها الانسان من كل عدو قادم.
والكلام موضوع على التمثيل بذكر بعض ما يتقى به المكروه وجعله مثلا لكل ركن شديد تتقى به المكاره ومحصل المعنى: أن الموت أمر لا يفوتكم إدراكه ولو لجأتم منه إلى أي ملجأ محكم متين فلا ينبغى لكم أن تتوهموا أنكم لو لم تشهدوا القتال ولم يكتب لكم كنتم في مأمن من الموت وفاته إدراككم فإن أجل الله لات.
قوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله) (إلى آخر الاية) جملتان أخريان من هفواتهم حكاهما الله تعالى عنهم وأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم عنهما ببيان حقيقة الامر فيما يصيب الانسان من حسنة وسيئة.
واتصال السياق يقضى بكون الضعفاء المتقدم ذكرهم من المؤمنين هم القائلين ذلك قالوا ذلك بلسان حالهم أو مقالهم ولا بدع في ذلك فإن موسى أيضا جبه بمثل هذا المقال
/ صفحة8 /
كما حكى الله سبحانه ذلك بقوله (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الاعراف: 131) وهو مأثور عن سائر الامم في خصوص أنبيائهم وهذه الامة في معاملتهم نبيهم لا يقصرون عن سائر الامم وقد قال تعالى: (تشابهت قلوبهم) (البقرة: 118) وهم مع ذلك أشبه الامم ببنى إسرائيل وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنهم لا يدخلون جحر ضب إلا دخلتموه) وقد تقدم نقل الروايات في ذلك من طرق الفريقين.
وقد تمحل في الايات أكثر المفسرين بجعلها نازلة في خصوص اليهود أو المنافقين أو الجميع من اليهود والمنافقين وأنت ترى أن السياق يدفعه.
وكيف كان فالاية تشهد بسياقها على أن المراد بالحسنة والسيئة ما يمكن أن يسند إلى الله سبحانه وقد أسندوا قسما منه إلى الله تعالى وهو الحسنة وقسما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو السيئة فهذه الحسنات والسيئات هي الحوادث التى كانت تستقبلهم بعد ما أتاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذ في ترفيع مباني الدين ونشر دعوته وصيته بالجهاد فهى الفتح والظفر والغنيمة فيما غلبوا فيه من الحروب والمغازى والقتل والجرح والبلوى في غير ذلك وإسنادهم السيئات إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معنى التطير به أو نسبة ضعف الرأى ورداءة التدبير إليه.
فأمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجيبهم بقوله (قل كل من عند الله فانها حوادث ونوازل ينظمها ناظم النظام الكونى وهو الله وحده لا شريك له إذ الاشياء إنما تنقاد في وجودها وبقائها وجميع ما يستقبلها من الحوادث له تعالى لا غير.
على ما يعطيه تعليم القرآن.
ثم استفهم استفهام متعجب من جمود فهمهم وخمود فطنتهم من فقه هذه الحقيقة وفهمها فقال: (فما لهؤلاء القوم لا يفقهون حديثا).
قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك لما ذكر أنهم لا يكادون يفقهون حديثا ثم أراد بيان حقيقة الامر صرف الخطاب عنهم لسقوط فهمهم ووجه وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين حقيقة ما يصيبه من حسنة أو سيئة لذاك الشأن وليس للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه خصوصية في هذه الحقيقة التى هي من الاحكام الوجودية الدائرة بين جميع الموجودات ولا أقل بين جميع الافراد من الانسان
/ صفحة9 /
من مؤمن أو كافر أو صالح أو طالح ونبى أو من دونه.
فالحسنات وهى الامور التى يستحسنها الانسان بالطبع كالعافية والنعمة والامن والرفاهية كل ذلك من الله سبحانه والسيئات وهى الامور التى تسوء الانسان كالمرض والذلة والمسكنة والفتنة كل ذلك يعود إلى الانسان لا إليه سبحانه فالاية قريبة مضمونا من قوله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) الانفال: 53) ولا ينافى ذلك رجوع جميع الحسنات والسيئات بنظر كلى آخر إليه تعالى كما سيجئ بيانه.
قوله تعالى: (وأرسلناك للناس رسولا) أي لا سمة لك من عندنا إلا أنك رسول وظيفتك البلاغ وشأنك الرسالة لا شأن لك سواها وليس لك من الامر شئ حتى تؤثر في ميمنة أو مشأمذ أو تجر إلى الناس السيئات وتدفع عنهم الحسنات وفيه رد تعريضي لقول أولئك المتطيرين في السيئات (هذه من عندك تشأما به (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أيد ذلك بقوله (وكفى بالله شهيدا.
) قوله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله) استئناف فيه تأكيد وتثبيت لقوله في الاية السابقة وأرسلناك للناس رسولا) وبمنزلة التعليل لحكمه أي ما أنت إلا رسولا منا من يطعك بما إنت رسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا.
ومن هنا يظهر أن قوله من يطع الرسول من قبيل وضع الصفه موضع الموصوف للاشعار بعلة الحكم نظير ما تقدم في قوله والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا وعلى هذا فالسياق جار على استقامته من غير التفات من الخطاب في قوله وأرسلناك إلى الغيبة في قوله (من يطع الرسول) ثم إلى الخطاب في قوله فما أرسلناك).
(كلام في استناد الحسنات والسيئات إليه تعالى) يشبه أن يكون الانسان أول ما تنبه على معنى الحسن تنبه عليه من مشاهدة الجمال في ابناء نوعه الذى هو اعتدال الخلقة وتناسب نسب الاعضاء وخاصة في الوجه ثم
/ صفحة10 /
في سائر الامور المحسوسة من الطبيعيات ويرجع بالاخرة إلى موافقة الشئ لما يقصد من نوعه طبعا.
فحسن وجه الانسان كون كل من العين والحاجب والاذن والانف والفم وغيرها على حال أو صفة ينبغى أن يركب في نفسه عليها وكذا نسبة بعضها إلى بعض، وحينئذ تنجذب النفس ويميل الطبع إليه، ويسمى كون الشئ على خلاف هذا الوصف بالسوء والمساءة والقبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة فالمساءة معنى عدمي كما أن الحسن معنى وجودي.
ثم عمم ذلك إلى الافعال والمعاني الاعتبارية والعناوين المقصودة في ظرف الاجتماع من حيث ملاءمتها لغرض الاجتماع وهو سعادة الحياة الانسانية أو التمتع من الحياة، وعدم ملاءمتها فالعدل حسن، والاحسان إلى مستحقه حسن، والتعليم والتربية والنصح وما أشبه ذلك في مواردها حسنات والظلم والعدوان وما أشبه ذلك سيئات قبيحة لملاءمة القبيل الاول لسعادة الانسان أو لتمتعه التام في ظرف اجتماعه وعدم ملاءمة القبيل الثاني لذلك وهذا القسم من الحسن وما يقابله تابع للفعل الذى يتصف به من حيث ملاءمته لغرض الاجتماع فمن الافعال ما حسنه دائمي ثابت إذا كان ملاءمته لغاية الاجتماع وغرضه كذلك كالعدل، ومنها ما قبحه كذلك كالظلم.
ومن الافعال ما يختلف حاله بحسب الاحوال والاوقات والامكنة أو المجتمعات فالضحك والدعابة حسن عند الخلان لا عند الاعاظم وفي محافل السرور دون المآتم، ودون المساجد والمعابد والزنا وشرب الخمر حسن عند الغربيين دون المسلمين.
ولا تصغ إلى قول من يقول: أن الحسن والقبح مختلفان متغيران مطلقا من غير ثبات ولا دوام ولا كلية ويستدل على ذلك في مثل العدل والظلم بأن ما هو عدل عند أمة بإجراء أمور من مقررات اجتماعية غير ما هو عدل عند أمة أخرى بإنفاذ مقررات أخرى اجتماعية فلا يستقر معنى العدل على شئ معين فالجلد للزاني عدل في الاسلام وليس كذلك عند الغربيين، وهكذا.
وذلك أن هؤلاء قد اختلط عليهم الامر، واشتبه المفهوم عندهم بالمصداق، ولا كلام لنا مع من هذامبلغ فهمه.
/ صفحة11 /
والانسان على حسب تحول العوامل المؤثرة في الاجتماعات يرضى بتغيير جميع أحكامه الاجتماعية دفعة أو تدريجا ولا يرضى قط بأن يسلب عنه وصف العدل ويسمى ظالما، ولا بأن يجد ظلما لظالم إلا مع الاعتذار عنه وللكلام ذيل طويل يخرجنا الاشتغال به عن ما هو أهم منه.
ثم عمم معنى الحسن و القبح لسائر الحوادث الخارجية التى تستقبل الانسان مدى حياته على حسب تأثير مختلف العوامل وهى الحوادث الفردية أو الاجتماعية التى منها ما يوافق آمال الانسان ويلائم سعادته في حياته الفردية أو الاجتماعية من عافية أو صحة أو رخاء وتسمى حسنات ومنها ما ينافى ذلك كالبلايا والمحن من فقر أو مرض أو ذلة أو أسارة ونحو ذلك وتسمى سيئات.
فقد ظهر مما تقدم أن الحسنة والسيئة يتصف بهما الامور أو الافعال من جهة إضافتها إلى كمال نوع أو سعادة فرد أو غير ذلك فالحسن والقبح وصفان إضافيان وإن كانت الاضافة في بعض الموارد ثابتة لازمة وفى بعضها متغيرة كبذل المال الذى هو حسن بالنسبة إلى مستحقه وسيئ بالنسبة إلى غير المستحق.
وأن الحسن أمر ثبوتى دائما والمساءة والقبح معنى عدمي وهو فقدان الامر صفة الملاءمة والموافقة المذكورة وإلا فمتن الشئ أو الفعل مع قطع النظر عن الموافقة وعدم الموافقة المذكورين واحد من غير تفاوت فيه أصلا.
فالزلزلة والسيل الهادم إذا حلا ساحة قوم كانا نعمتين حسنتين لاعدائهم وهما نازلتان سيئتان عليهم أنفسهم وكل بلاء عام في نظر الدين سراء إذا نزل بالكفار المفسدين في الارض أو الفجار العتاة وهو بعينه ضراء إذا نزل بالامة المؤمنة الصالحة.
وأكل الطعام حسن مباح إذا كان من مال آكله مثلا وهو بعينه سيئة محرمة إذا كان من مال الغير من غير رضى منه لفقدانه امتثال النهى الوارد عن أكل مال الغير بغير رضاه أو امتثال الامر الوارد بالاقتصار على ما أحل الله والمباشرة بين الرجل والمرأة حسنة مباحة إذا كان عن ازدواج مثلا وسيئة محرمة إذا كان سفاحا من غير نكاح لفقدانه موافقة التكليف الالهى فالحسنات عناوين وجودية في الامور والافعال والسيئات عناوين عدمية فيهما ومتن الشئ المتصف بالحسن والسوء واحد.
/ صفحة12 /
والذى يراه القرآن الشريف أن كل ما يقع عليه اسم الشئ ما خلا الله - عز اسمه مخلوق لله قال تعالى: (الله خالق كل شئ) (الزمر: 62) وقال تعالى: (وخلق كل شئ فقدره تقديرا) (الفرقان - 2).
والآيتان تثبتان الخلقة في كل شئ ثم قال تعالى: الذى أحسن كل شئ خلقة) (السجدة: 7) فأثبت الحسن لكل مخلوق وهو حسن لازم للخلقة غير منفك عنها يدور مدارها.
فكل شئ له حظ من الحسن على قدر حظه من الخلقة والوجود والتأمل في معنى الحسن (على ما تقدم) يوضح ذلك مزيد إيضاح فإن الحسن موافقة الشئ وملاءمته للغرض المطلوب والغاية المقصودة منه و أجزاء الوجود وأبعاض هذا النظام الكونى متلائمة متوافقة وحاشا رب العالمين أن يخلق ما تتنافى أجزاؤه ويبطل بعضه بعضا فيخل بالغرض المطلوب أو يعجزه تعالى أو يبطل ما أراده من هذا النظام العجيب الذى يبهت العقل ويحير الفكرة وقد قال تعالى: (هو الله الواحد القهار) (الزمر: 4) وقال تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) (الانعام: 18) وقال تعالى: (وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الارض إنه كان عليما قديرا) (فاطر: 44) فهو تعالى لا يقهره شئ ولا يعجزه شئ في ما يريده من خلقه ويشاؤه في عباده.
فكل نعمة حسنة في الوجود منسوبة إليه تعالى وكذلك كل نازلة سيئة إلا أنها في نفسها أي بحسب أصل النسبة الدائرة بين موجودات المخلوقة منسوبة إليه تعالى وإن كانت بحسب نسبة أخرى سيئة وهذا هو الذى يفيده قوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) (النساء: 78) وقوله (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون) (الاعراف: 131) إلى غيرذلك من الآيات.
وأما جهة السيئة فالقرآن الكريم يسندها في الانسان إلى نفس الانسان بقوله تعالى في هذه السورة ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك: الآية (النساء: 79) وقوله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) الشورى: 30) وقوله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
/ صفحة13 /
الرعد: 11) وقوله تعالى (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الانفال: 53) وغيرها من الآيات.
وتوضيح ذلك أن الآيات السابقة كما عرفت تجعل هذه النوازل السيئة كالحسنات امورا حسنة في خلقتها فلا يبقى لكونها سيئة إلا أنها لا تلائم طباع بعض الاشياء التى تتضرر بها فيرجع الامر بالاخرة إلى أن الله لم يجد لهذه الاشياء المبتلاة المتضررة بما تطلبه وتشتاق إليه بحسب طباعها فإمساك الجود هذا هو الذى يعد بلية سيئة بالنسبة إلى هذه الاشياء المتضررة كما يوضحه كل الايضاح قوله تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) (فاطر: 2).
ثم بين تعالى أن إمساك الجود عما أمسك عنه أو الزيادة والنقيصة في إفاضة رحمته إنما يتبع أو يوافق مقدار ما يسعه ظرفه وما يمكنه إن يستوفيه من ذلك قال تعالى فيما ضربه من المثل: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) (الرعد: 17) وقال: وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) (الحجر: 21) فهو تعالى إنما يعطى على قدر ما يستحقه الشئ وعلى ما يعلم من حاله قال: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك: 14).
ومن المعلوم أن النعمة والنقمة والبلاء والرخاء بالنسبة إلى كل شئ ما يناسب خصوص حاله كما يبينه قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها) (البقرة: 148) فإنما يولى كل شئ ويطلب وجهته الخاصة به وغايته التى تناسب حاله.
ومن هنا يمكنك أن تحدس أن السراء والضراء والنعمة والبلاء بالنسبة إلى هذا الانسان الذى يعيش في ظرف الاختيار في تعليم القرآن أمور مرتبطة باختياره فإنه واقع في صراط ينتهى به بحسن السلوك وعدمه إلى سعادته و شقائه كل ذلك من سنخ ما لاختياره فيه مدخل.
والقرآن الكريم يصدق هذا الحدس قال تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الانفال: 53) فلما في أنفسهم من النيات الطاهرة والاعمال الصالحة دخل في النعمة التى خصوا بها فإذا غيروا غير الله بإمساك رحمته وقال: (وما إصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) (الشورى: 30) فلاعمالهم تأثير في ما ينزل بهم من النوازل ويصيبهم من المصائب والله يعفو عن كثير منها.
/ صفحة14 /
وقال تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (الآية النساء: 79).
وإياك أن تظن أن الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) نسى الحقيقة الباهرة التى أبانها بقوله: (الله خالق كل شئ) (الزمر - 62) و قوله: الذى أحسن كل شئ خلقه) (السجدة: 7) فعد كل شئ مخلوقا لنفسه حسنا في نفسه وقد قال: وما كان ربك نسيا) (مريم: 64) وقال: لا يضل ربى ولا ينسى) (طه: 52) فمعنى قوله (ما أصابك من حسنة) (الآية) أن ما أصابك من حسنة - وكل ما أصابك حسنة - فمن الله وما أصابك من سيئة فهى سيئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده وتشتهيه وإن كانت في نفسها حسنة فإنما جرتها إليك نفسك باختيارها السيئ واستدعتها كذلك من الله فالله أجل من أن يبدأك بشر أو ضر.
والآية كما تقدم وإن كانت خصت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخطاب لكن المعنى عام للجميع وبعبارة أخرى هذه (الآية) كالآيتين الاخريين ذلك بأن الله لم يك مغيرا) الآية وما أصابكم من مصيبة (الآية) متكفلة للخطاب الاجتماعي كتكفلها للخطاب الفردى فإن للمجتمع الانساني كينونة إنسانية وإرادة واختيارا غير ما للفرد من ذلك.
فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون والغابرون من أفراده ويؤاخذ متأخروهم بسيئآت المتقدمين والاموات بسيئات الاحياء والفرد غير المقدم بذنب المقترفين للذنوب وهكذا وليس يصح ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبدا وقد تقدم شطر من هذا الكلام في بحث أحكام الاعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اصيب في غزوة أحد في وجهه وثناياه وأصيب المسلمون بما أصيبوا وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) نبى معصوم إن أسند ما أصيب به الى مجتمعه وقد خالفوا أمر الله ورسوله كان ذلك مصيبة سيئة أصابته بما كسبت أيدى مجتمعة وهو فيهم وإن أسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهية أصابته في سبيل الله وفي طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة فإنما هي نعمة رافعة للدرجات.
وكذا كل ما أصاب قوما من السيئات إنما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن ولا يرى إلا الحق وأما ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه.
/ صفحة15 /
نعم هاهنا آيات أخر ربما نسبت إليهم الحسنات بعض النسبة كقوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء) (الاعراف: 96) وقوله وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (السجدة: 24) وقوله وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين) (الانبياء - 86) و الآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
إلا أن الله سبحانه يذكر في كلامه أن شيئا من خلقه لا يقدر على شئ مما يقصده من الغاية ولا يهتدى إلى خير إلا بإقدار الله وهدايته قال تعالى: (الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (طه - 50) وقال تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) (النور - 21) ويتبين بهاتين الايتين وما تقدم معنى آخر لكون الحسنات لله عز اسمه وهو أن الانسان لا يملك حسنة إلا بتمليك من الله وإيصال منه فالحسنات كلها لله والسيئات للانسان وبه يظهر معنى قوله تعالى (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (الاية).
فلله سبحانه الحسنات بما أن كل حسن مخلوق له والخلق والحسن لا ينفكان، وله الحسنات بما أنها خيرات وبيده الخير لا يملكه غيره إلا بتمليكه ولا ينسب إليه شئ من السيئآت فإن السيئة من حيث إنها سيئة غير مخلوقة وشأنه الخلق وإنما السيئة فقدان الانسان مثلا رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدمته أيدى الناس وأما الحسنة والسيئة بمعنى الطاعة والمعصية فقد تقدم الكلام في نسبتهما إلى الله سبحانه في الكلام على قوله تعالى (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا) (البقرة - 26) في الجزء الاول من هذا الكتاب.
وأنت لو راجعت التفاسير في هذا المقام وجدت من شتات القول ومختلف الآراء والاهواء وأقسام الاشكالات ما يبهتك وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاى ة للمتدبر في كلامه تعالى وعليك في هذا البحث بتفكيك جهات البحث بعضها عن بعض وتفهم ما يتعارفه القرآن من معنى الحسنة والسيئة والنعمة والنقمة والفرق بين شخصية المجتمع والفرد حتى يتضح لك مغزى الكلام.
/ صفحة16 /
(بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا) (الآية) أخرج النسائي وابن جرير وابن أبى حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبى الله كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال: إنى أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله الله إلى المدينة أمره الله بالقتال فكفوا فأنزل الله: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) (الآية) وفيه: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في الآية قال: كان أناس من أصحاب النبي (ص) وهم يومئذ بمكة قبل الهجرة يسارعون إلى القتال فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين وذكر لنا أن عبد الرحمن بن عوف كان فيمن قال ذلك فنهاهم نبى الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: لم أمر بذلك فلما كانت الهجرة وأمروا بالقتل كره القوم ذلك، وصنعوا فيه ما تسمعون قال الله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا) وفي تفسير العياشي عن صفوان بن يحيى عن أبى الحسن (عليه السلام) قال: قال الله تعالى: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذى تشاء وتقول، وبقوتي أديت إلى فريضتي وبنعمتي قويت على معصيتى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذاك أنى أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك منى، وذاك أنى لا أسأل عما أفعل، وهم يسألون.
أقول: وقد تقدم نقل الرواية بلفظ آخر في الجزء الاول من هذا الكتاب في ذيل قوله تعالى (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا) (البقرة - 26) وتقدم البحث عنها هناك.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: ذكر عند أبى عبد الله (عليه السلام) البلاء وما يخص الله به المؤمن فقال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أشد الناس بلاء في الدنيا؟ فقال: النبيون ثم الامثل فالامثل، ويبتلي المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله: فمن صح إيمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قل بلاؤه
/ صفحة17 /
أقول: ومن الروايات المشهورة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وفيه أيضا بعدة طرق عنهما (عليهما السلام): إن الله عز وجل إذا أحب عبدا غثه بالبلاء غثا (1) وفيه أيضا عن الصادق (عليه السلام): إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه.
وفيه أيضا عن الباقر (عليه السلام) قال: إن الله عز وجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة، ويحميه الدنيا كما يحمى الطبيب المريض وفيه أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب.
وفي العلل عن على بن الحسين عن أبيه (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ولو كان المؤمن على جبل لقيض الله عزوجل له من يؤذيه ليأجره على ذلك.
وفي كتاب التمحيص عن الصادق (عليه السلام) قال: لا تزال الهموم والغموم بالمؤمن حتى لا تدع له ذنبا.
وعنه (عليه السلام) قال: لا يمضى على المؤمن أربعون ليلة إلا عرض له أمر يحزنه يذكر ربه.
وفي النهج قال (عليه السلام): لو أحبنى جبل لتهافت.
وقال (عليه السلام): من أحبنا أهل البيت فليستعد للبلاء جلبابا.
أقول: قال ابن أبى الحديد في شرحه: قد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق) وقد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور) هاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنه لو أحبه جبل لتهافت (انتهى).
واعلم أن الاخبار في هذه المعاني كثيرة، وهى تؤيد ما قدمناه من البيان.
وفي الدر المنثور: أخرج ابن المنذر والخطيب عن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفر من اصحابه فقال: يا هؤلاء ألستم تعلمون أنى رسول الله إليكم؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن الله أنزل في كتابه أنه من أطاعنى فقد أطاع الله؟ قالوا: بلى
* (هامش) *
(1) الغث هو الغمس (*)
/ صفحة18 /
نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله، وأن من طاعته طاعتك، قال: فإن من طاعة الله أن تطيعوني، وإن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم وإن صلوا قعودا فصلوا قعدوا أجمعين.
أقول: قوله: (صلى الله عليه وآله وسلم): وإن صلوا (إلخ) كناية عن وجوب كمال الاتباع.
* * *
ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذى تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا - 81.
افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا - 82.
وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا - 83.
فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا - 84.
(بيان) الآيات لا تأبى عن الاتصال بما قبلها فكأنها من تتمة القول في ملامة الضعفاء من المسلمين، وفائدتها وعظهم بما يتبصرون به لو تدبروا واستبصروا.
قوله تعالى.
(ويقولون طاعة) (إلخ) (طاعة) مرفوع على الخبرية على ما قيل والتقدير: أمرنا طاعة أي نطيعك طاعة والبروز الظهور والخروج والتبييت من البيتوتة، ومعناه إحكام الامر وتدبيره ليلا، والضمير في (تقول) راجع إلى (طائفة) أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والمعنى - والله أعلم -: ويقول هؤلاء مجيبين لك فيما تدعوهم إليه من الجهاد: أمرنا طاعة فإذا أخرجوا من عندك دبروا ليلا أمرا غير ما أجابوك به وقالوا لك، أو غير ما
/ صفحة19 /
قلته أنت لهم، وهو كناية عن عقدهم النية على مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم أمر الله رسوله بالاعراض عنهم والتوكل في الامر والعزيمة فقال: (فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) ولا دليل في الآية يدل على كون المحكى عنهم هم المنافقين كما ذكره بعضهم بل الامر بالنظر إلى اتصال السياق على خلاف ذلك.
قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن) الآية تحضيض في صورة الاستفهام.
التدبر هو أخذ الشئ بعد الشئ وهو في مورد الآية التأمل في الآية عقيب الآية أو التأمل بعد التأمل في الآية لكن لما كان الغرض بيان أن القرآن لا اختلاف فيه، وذلك إنما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الاول أعنى التأمل في الآية عقيب الآية هو العمدة وإن كان ذلك لا ينفى المعنى الثاني أيضا.
فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية، ويراجعوا في كل حكم نازل أو حكمة مبينة أو قصة أو عظة أو غير ذلك جميع الآيات المرتبطة به مما نزلت مكيتها ومدينتها، ومحكمها ومتشابهها، ويضموا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أنه لا اختلاف بينها، فالآيات يصدق قديمها حديثها، ويشهد بعضها على بعض من غير أن يكون بينها أي اختلاف مفروض: لا اختلاف التناقض بأن ينفى بعضها بعضا أو يتدافعا، ولا اختلاف التفاوت بأن يتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان أو متانة المعاني والمقاصد بكون البعض أحكم بيانا وأشد ركنا من بعض كتابا متشابها مثانى تقشعر منه الجلود.
فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنه كتاب منزل من الله وليس من عند غيره إذ لو كان من عند غيره لم يسلم من كثرة الاختلاف، وذلك أن غيره تعالى من هذه الموجودات الكونية - ولا سيما الانسان الذى يرتاب أهل الريب أنه من كلامه - كلها موضوعة بحسب الكينونة الوجودية وطبيعة الكون على التحرك والتغير والتكامل فما من واحد منها إلا أن امتداد زمان وجوده مختلف الاطراف، متفاوت الحالات.
ما من إنسان إلا وهو يرى كل يوم أنه أعقل من أمس وأن ما ينشئه من عمل أو صنعة أو ما أشبه ذلك أو يدبره من راى أو نظر أو نحوهما أخيرا أحكم وأمتن مما أتى به أولا حتى العمل الواحد الذى فيه شئ من الامتداد الوجودى كالكتاب يكتبه الكاتب، والشعر يقوله الشاعر، والخطبة يخطبها الخطيب، وهكذا يوجد عند الامعان آخره خيرا من أوله، وبعضه أفضل من بعض.
/ صفحة20 /
فالواحد من الانسان لا يسلم في نفسه وما يأتي به من العمل من الاختلاف، وليس هو بالواحد والاثنين من التفاوت والتناقض بل الاختلاف الكثير، وهذا ناموس كلى جار في الانسان وما دونه من الكائنات الواقعة تحت سيطرة التحول والتكامل العامين لا ترى واحدا من هذه الموجودات يبقى آنين متواليين على حال واحد بل لا يزال يختلف ذاته وأحواله.
ومن هنا يظهر وجه التقييد بالكثير في قوله: (اختلافا كثيرا) فالوصف وصف توضيحي لا احترازي، والمعنى: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا، وكان ذلك الاختلاف كثيرا على حد الاختلاف الكثير الذى في كل ما هو من عند غير الله، وليس المعنى أن المرفوع من القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير.
وبالجملة لا يلبث المتدبرون أن يشاهد أن القرآن كتاب يداخل جميع الشؤون المرتبطة بالانسانية من معارف المبدأ والمعاد والخلق والايجاد، ثم الفضائل العامة الانسانية، ثم القوانين الاجتماعية والفردية الحاكمة في النوع حكومة لا يشذ منها دقيق ولا جليل، ثم القصص والعبر والمواعظ ببيان دعا إلى مثلها أهل الدنيا، وبآيات نازلة نجوما في مدة تعدل ثلاثا وعشرين سنة على اختلاف الاحوال من ليل ونهار، ومن حضر وسفر، ومن حرب وسلم، ومن ضراء وسراء، ومن شدة ورخاء، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة، ولا في معارفة العالية وحكمه السامية، ولا في قوانينه الاجتماعية والفردية، بل ينعطف آخره إلى ما قر عليه أوله، وترجع تفاصيله وفروعه إلى ما ثبت فيه أعراقه وأصوله، يعود تفاصيل شرائعه وحكمه بالتحليل إلى حاق التوحيد الخالص، وينقلب توحيده الخالص بالتركيب إلى أعيان ما أفاده من التفاصيل، هذا شأن القرآن.
والانسان المتدبر فيه هذا التدبر يقضى بشعوره الحى، وقضائه الجبلى أن المتكلم بهذا الكلام ليس، ممن يحكم فيه مرور الايام والتحول والتكامل العاملان في الاكوان بل هو الله الواحد القهار.
وقد تبين من الآية (أولا): أن القرآن مما يناله الفهم العادى.
و (ثانيا): أن الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضا.
و (ثالثا): أن القرآن كتاب لا يقبل نسخا ولا إبطالا ولا تكميلا ولا تهذيبا، ولا أي حاكم يحكم عليه أبدا، وذلك أن ما يقبل شيئا منها لا مناص من كونه يقبل نوعا من التحول والتغير بالضرورة، وإذ كان القرآن لا يقبل الاختلاف
/ صفحة21 /
فليس يقبل التحول والتغير فليس يقبل نسخا ولا إبطالا ولا غير ذلك، ولازم ذلك أن الشريعة الاسلامية مستمرة إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) الاذاعة هي النشر والاشاعة، وفي الآية نوع ذم وتعيير لهم في شأن هذه الاذاعة، وفي قوله في ذيل الآية (ولو لا فضل الله) (إلخ) دلالة على أن المؤمنين كانوا على خطر الضلال من جهة هذه الاذاعة، وليس إلا خطر مخالفة الرسول فإن الكلام في هذه الآيات موضوع في ذلك ويؤيد ذلك ما في الآية التالية من أمر الرسول بالقتال ولو بقى وحده بلا ناصر.
ويظهر به أن الامر الذى جاءهم من الامن أو الخوف كان بعض الاراجيف التى كانت تأتى بها أيدى الكفار ورسلهم المبعوثون لايجاد النفاق والخلاف بين المؤمنين فكان الضعفاء من المؤمنين يذيعونه من غير تدبر وتبصر فيوجب ذلك وهنا في عزيمة المؤمنين، غير أن الله سبحانه وقاهم من اتباع هؤلاء الشياطين الجائين بتلك الاخبار لاخزاء المؤمنين.
فتنطبق الآية على قصة بدر الصغرى، وقد تقدم الكلام فيها في سورة آل عمران، والآيات ههنا تشابه الآيات هناك مضمونا كما يظهر للمتدبر فيها، قال تعالى في سورة آل عمران: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل - إلى قوله - إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) (آل عمران - 175).
الآيات كما ترى تذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو الناس بعد ما أصابهم القرح - وهو محنة أحد - إلى الخروج إلى الكفار، وأن أناسا كانوا يخزلون الناس ويخذلونهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويخوفونهم جمع المشركين.
ثم تذكر أن ذلك كله تخويفات من الشيطان يتكلم بها من أفواه أوليائه، وتعزم على المؤمنين أن لا يخافوهم ويخافوا الله إن كانوا مؤمنين.
والمتدبر فيها وفي الآيات المبحوث عنها أعنى قوله (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) (الآية) لا يرتاب في أن الله سبحانه في هذه الآية يذكر قصة بدر - الصغرى ويعدها في جملة ما يعد من الخلال التى يلوم هؤلاء الضعفاء عليها كقوله (فلما كتب عليهم القتال) (الآية) وقوله (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال) (الآية) وقوله (وإن تصبهم حسنة
/ صفحة22 /
(الآية) وقوله (ويقولون طاعة) (الآية) ثم يجرى على هذا المجرى قوله (وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) (الآية).
قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) لم يذكر ههنا الرد إلى الله كما ذكر في قوله (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (الآية) (النساء: 59) لان الرد المذكور هناك هو رد الحكم الشرعي المتنازع فيه، ولا صنع فيه لغير الله ورسوله.
وأما الرد المذكور هيهنا فهو رد الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف، ولا معنى لرده إلى الله وكتابه، بل الصنع فيه للرسول ولاولى الامر منهم لو رد إليهم أمكنهم أن يستنبطوه ويذكروا للرادين صحته أو سقمه، وصدقه أو كذبه.
فالمراد بالعلم التمييز تمييز الحق من الباطل، والصدق من الكذب على حد قوله تعالى (ليعلم الله من يخافه بالغيب) (المائدة: 94) وقوله (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) (العنكبوت: 11.
) والاستنباط استخراج القول من حال الابهام إلى مرحلة التمييز والمعرفة وأصله من النبط (محركة) وهو أول ما يخرج من ماء البئر، وعلى هذا يمكن أن يكون الاستنباط وصفا للرسول وأولى الامر بمعنى أنهم يحققون الامر فيحصلون على الحق والصدق وأن يكون وصفا لهؤلاء الرادين لو ردوا فإنهم يعملون حق الامر وصدقه بإنباء الرسول وأولى الامر لهم.
فيعود معنى الآية إن كان المراد بالذين يستنبطونه منهم الرسول وأولى الامر كما هو الظاهر من الآية: لعلمه من أراد الاستنباط من الرسول وأولى الامر أي إذا استصوبه المسؤولون ورأوه موافقا للصلاح، وإن كان المراد بهم الرادين: لعلمه الذين يستفسرونه ويبالغون في الحصول على أصل الخبر من هؤلاء الرادين.
وأما أولوا الامر في قوله: واولو الامر منهم (فالمراد بهم هو المراد بأولى الامر في قوله (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) (النساء: 59) على ما تقدم من اختلاف المفسرين في تفسيره وقد تقدم أن أصول الاقوال في ذلك ترجع إلى خمسة، غير أن الذى استفدناه من المعنى أظهر في هذه الآية.
أما القول بأن أولى الامر هم أمراء السرايا فإن هؤلاء لم يكن لهم شأن إلا الامارة على
/ صفحة23 /
سرية في واقعة خاصة لا تتجاوزها خبرتهم ودائرة عملهم، وأما أمثال ما هو مورد الآية وهو الاخلال في الامن وايجاد الخوف والوحشة العامة التى كان يتوسل إليها المشركون ببعث العيون وإرسال الرسل السرية الذين يذيعون من الاخبار ما يخزلون به المؤمنين فلا شأن لامراء السرايا في ذلك حتى يمكنهم أن يبينوا وجه الحق فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال تلك الاخبار.
واما القول بأن اولى الامر هم العلماء فعدم مناسبته للآية اظهر، إذ العلماء - وهم يومئذ المحدثون والفقهاء والقراء والمتكلمون في اصول الدين - انما خبرتهم في الفقه والحديث ونحو ذلك، ومورد قوله (وإذا جاءهم امر من الامن أو الخوف) هي الاخبار التى لها اعراق سياسية ترتبط بأطراف شتى ربما افضى قبولها أو ردها اوالاهمال فيها من المفاسد الحيوية والمضار الاجتماعية إلى ما يمكن ان لا يستصلح بأى مصلح آخر، أو يبطل مساعي امة في طريق سعادتها، أو يذهب بسوددهم ويضرب بالذل والمسكنة والقتل والاسر عليهم، واى خبرة للعلماء من حيث انهم محدثون أو فقهاء أو قراء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر الله سبحانه بإرجاعها وردها إليهم؟ واى رجاء في حل امثال هذه المشكلات بأيديهم؟ وأما القول بأن أولى الامر هم الخلفاء الراشدون أعنى أبا بكر وعمر وعثمان وعليا فمع كونه لا دليل عليه من كتاب أو سنة قطعية، يرد عليه أن حكم الآية إما مختص بزمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عام يشمله وما بعده وعلى الاول كان من اللازم أن يكونوا معروفين بهذا الشأن بما أنهم هؤلاء الاربعة من بين الناس ومن بين الصحابة خاصة، والحديث والتاريخ لا يضبطان لهم بخصوصهم شأنا من هذا القبيل، وعلى الثاني كان لازمه انقطاع حكم الآية بانقطاع زمان حياتهم، وكان لازمه أن تتصدى الاية لبيان ذلك كما في جميع الاحكام الخاصة بشطر من الزمان المذكورة في القرآن كالاحكام الخاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أثر في الاية من ذلك.
وأما القول بأن المراد بأولى الامر أهل الحل والعقد، وهذا القائل لما رأى أنه لم يكن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة مشخصة هم أهل الحل والعقد على حد ما يوجد بين الامم المتمدنة ذوات المجتمعات المتشكلة كهيئة الوزراء، وجمعية المبعوثين إلى المنتدى وغير ذلك فإن الامة لم يكن يجرى فيها إلا حكم الله ورسوله، اضطر إلى تفسيره بأهل الشورى من الصحابة وخاصة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم.
وكيف كان، يرد عليه ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجمع في مشاورته المؤمنين والمنافقين كعبد الله
/ صفحة24 /
ابن أبى وأصحابه وحديث مشاورته يوم أحد معروف وكيف يمكن أن يأمر الله سبحانه بالرد إلى أمثاله.
على أن ممن لا كلام في كونه ذا هذا الشأن عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده عبد الرحمن بن عوف وهذه الايات المسرودة في ذم ضعفاء المؤمنين وتعييرهم على ما وقع منهم إنما ابتدأت به وباصحابه أعنى قوله (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا) (الايات) فقد ورد في الصحيح أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وأصحاب له رواه النسائي في صحيحه ورواه الحاكم في مستدركه وصححه ورواه الطبري وغيره في تفاسيرهم وقد مرت الرواية في البحث الروائي السابق.
وإذا كان الامر على هذه الوتيرة فكيف يمكن أن يؤمر في الاية بارجاع الامر ورده إلى مثل هؤلاء.
فالمتعين هو الذى رجحناه في قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) (الاية).
قوله تعالى: ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا) قد تقدم أن الاظهر كون الايات مشيرة إلى قصة بدر الصغرى وبعث أبى سفيان نعيم بن مسعود الاشجعى إلى المدينة لبسط الخوف والوحشة بين الناس واخزائهم في الخروج إلى بدر فالمراد باتباع الشيطان التصديق بما جاء به من النبأ واتباعه في التخلف عن الخروج إلى بدر.
وبذلك يظهر استقامة معنى الاستثناء من غير حاجة إلى تكلف أو تمحل فإن نعيما كان يخبرهم أن أبا سفيان جمع الجموع وجهز الجيوش فاخشوهم ولا تلقوا بأنفسكم إلى حياض القتل الذريع وقد أثر ذلك في قلوب الناس فتعللوا عن الخروج إلى موعدهم ببدر، ولم يسلم من ذلك إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض خاصته وهو المراد بقوله تعالى (إلا قليلا) فقد كان الناس تزلزلوا إلا القليل منهم ثم لحقوا بذلك القليل وساروا.
وهذا الذى استظهرناه من معنى الاستثناء هو الذى يؤيده ما مر ذكره من القرائن، على ما فيه من الاستقامة.
وللمفسرين في أمر هذا الاستثناء مذاهب شتى لا يخلو شئ منها من فساد أو تكلف، فقد قيل: ان المراد بالفضل والرحمة ما هداهم الله إليه من ايجاب طاعته وطاعة رسوله وأولى الامر منهم، والمراد بالمستثنى هم المؤمنون أولوا الفطرة السليمة والقلوب الطاهرة ومعنى الاية: ولو لا هذا الذى هداكم الله إليه من وجوب الطاعة، وإرجاع الامر إلى
/ صفحة25 /
الرسول وإلى أولى الامر لاتبعتم الشيطان جميعا بالوقوع في الضلال إلا قليلا منكم من أهل الفطرة السليمة فإنهم لا يزيغون عن الحق والصلاح.
وفيه أنه تخصيص الفضل والرحمة بحكم خاص من غير دليل يدل عليه، وهو بعيد من البيان القرآني، مع أن ظاهر الاية أنه امتنان في أمر ماض منقض.
وقيل: ان الاية على ظاهرها والمؤمنون غير المخلصين يحتاجون إلى فضل ورحمة زائدين وان كان المخلصون أيضا لا يستغنون عن العناية الالهية وفيه أن الذى يوهمه الظاهر حينئذ مما يجب في بلاغة القرآن دفعه ولم يدفع في الاية.
وقد قال تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) (النور - 21) وقال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو خير الناس: (ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) (الاسراء - 75) وقيل: إن المراد بالفضل والرحمة القرآن والنبى (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقيل: المراد بهما الفتح والظفر، فيستقيم الاستثناء لان الاكثرين إنما يثبتون على الحق بما يستطاب به قلوبهم من فتح وظفر وما أشبههما من العنايات الظاهرية الالهية ولا يصبر على مر الحق إلا القليل من المؤمنين الذين هم على بصيرة من أمرهم.
وقيل الاستثناء إنما هو من قوله: (أذاعوا به) وقيل: الاستثناء من قوله (الذين يستنبطونه) وقيل: إن الاستثناء إنما هو في اللفظ وهو دليل على الجمع والاحاطة فمعنى الاية:: ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا، وهذا نظير قوله تعالى (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) (الاعلى - 7) فاستثناء المشية يفيد عموم الحكم بنفى النسيان، وجميع هذه الوجوه لا تخلو من تكلف ظاهر.
قوله تعالى: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) التكليف من الكلفة بمعنى المشقه لما فيه من تحميل المشقة على المكلف والتنكيل من النكال، وهو على ما في المجمع: ما يمتنع به من الفساد خوفا من مثله من العذاب فهو عقاب المتخلف لئلا يعود إلى مثله ولعيتبر به غيره من المكلفين.
والفاء في قوله (فقاتل في سبيل الله،) للتفريع والامر بالقتال متفرع على المتحصل من مضامين الايات السابقة.
وهو تثاقل القوم في الخروج إلى العدو وتبطئتهم في ذلك ويدل عليه ما يتلوه من الجمل أعنى قوله (لا تكلف إلا نفسك) (الخ) فإن المعنى: فإذا
/ صفحة26 /
كانوا يتثاقلون في أمر الجهاد ويكرهون القتال فقاتل أنت يا رسول الله بنفسك ولا يشق عليك تثاقلهم ومخالفتهم لامر الله سبحانه فإن تكليف غيرك لا يتوجه إليك وإنما يتوجه اليك تكليف نفسك لا تكليفهم وإنما عليك في غيرك أن تحرضهم فقاتل وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا.
وقوله (لا تكلف ألا نفسك) أي لا تكلف أنت شيئا إلا عمل نفسك فالاستثناء بتقدير مضاف.
وقوله (عسى الله أن يكف) (الخ) قد تقدم أن (عسى) تدل على الرجاء أعم من أن يكون ذلك الرجاء قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بمقام التخاطب فلا حاجة إلى ما ذكروه من أن (عسى) من الله حتم.
وفي الاية دلالة على زيادة تعيير من الله سبحانه للمتثاقلين من الناس حيث أدى تثاقلهم إلى أن أمر الله نبيه بالقيام بالقتال بنفسه، وأن يعرض عن المتثاقلين ولا يلح عليهم بالاجابة ويخليهم وشأنهم ولا يضيق بذلك صدره فليس عليه إلا تكليف نفسه وتحريض المؤمنين أطاع من أطاع، وعصى من عصى.
(بحث روائي) في الكافي بأسناده عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ان الله عير اقواما بالاذاعة في قوله عز وجل: وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به) فأياكم والاذاعة.
وفيه بإسناده عن عبد الحميد بن أبى الديلم عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز وجل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم) وقال (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فرد أمر الناس إلى أولى الامر منهم الذين أمر بطاعتهم والرد إليهم.
أقول: والرواية تؤيد ما قدمناه من أن المراد باولى الامر في الاية الثانية هم المذكورون في الاية الاولى.
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن عجلان عن أبى جعفر (عليه السلام) في قوله (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الامر منهم) قال: هم الائمة.
/ صفحة27 /
أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن عبد الله بن جندب عن الرضا (عليه السلام) في كتاب كتبه إليه في أمر الواقفية، وروى هذا المعنى أيضا المفيد في الاختصاص عن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن الفضيل عن أبى الحسن (عليه السلام): في قوله (ولو لا فضل الله عليكم ورحمته) قال الفضل رسول الله، ورحمته أمير المؤمنين.
وفيه عن زرارة عن أبى جعفر (عليه السلام)، وحمران عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: لو لا فضل الله عليكم ورحمته) قال: فضل الله رسوله ورحمته ولاية الائمه.
وفيه عن محمد بن الفضيل عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: الرحمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والفضل على بن أبى طالب (عليه السلام).
أقول: والروايات من باب الجرى، والمراد النبوة والولاية فإنهما السببان المتصلان اللذان أنقذنا الله بهما من مهبط الضلال ومصيدة الشيطان إحداهما: سبب مبلغ والاخرى: سبب مجر والرواية الاخيرة أقرب من الاعتبار فإن الله سمى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه بالرحمة حيث قال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الاية) (الانبياء - 107) وفي الكافي بإسناده عن على بن حديد عن مرازم قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله كلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لم يكلف به أحدا من خلقه، ثم كلفه أن يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه وإن لم يجد فئة تقاتل معه، ولم يكلف هذا أحدا من خلقه لا قبله ولا بعده، ثم تلا هذه الآية: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك).
ثم قال: وجعل الله له أن يأخذ ما أخذ لنفسه فقال عز وجل: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وجعل الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعشر حسنات.
وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد قال: قلت لابي عبد الله على السلام قول الناس لعلى (عليه السلام): إن كان له حق فما منعه أن يقوم به؟ قال: فقال إن الله لا يكلف هذا لانسان واحد إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض الؤمنين) فليس هذا إلا للرسول، وقال لغيره: (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره.
وفيه عن زيد الشحام عن جعفر بن محمد على السلام قال: ما سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا
/ صفحة28 /
قط فقال: (لا، إن كان عنده أعطه، وإن لم يكن عنده قال: يكون إن شاء الله، ولا كافى بالسيئة قط، وما لقى سرية مذ نزلت عليه (فقال في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) إلا ولى بنفسه.
أقول: وفى هذه المعاني روايات أخر.
* * *
من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شئ حسيبا (86) - الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (87) - فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا اتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88) - ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89) - إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90) - ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة
/ صفحة29 /
اركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم واولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا (91)) بيان الايات متصلة بما قبلها من حيث تتعرض جميعا (85 - 91) لما يرتبط بأمر القتال مع طائفة من المشركين وهم المنافقون منهم ويظهر من التدبر فيها أنها نزلت في قوم من المشركين أظهروا الايمان للمؤمنين ثم عادوا إلى مقرهم وشاركوا المشركين في شركهم فوقع الريب في قتالهم واختلفت أنظار المسلمين في أمرهم فمن قائل يرى قتالهم وآخر يمنع منه ويشفع لهم لتظاهرهم بالايمان والله سبحانه يكتب عليهم إما المهاجرة أو القتال ويحذر المؤمنين الشفاعة في حقهم.
ويلحق بهم قوم آخرون ثم آخرون يكتب عليهم إما إلقاء السلم أو القتال ويستهل لما في الايات من المقاصد في صدر الكلام ببيان حال الشفاعة في آية وببيان حال التحية لمناسبتها إلقاء السلم في آية اخرى.
قوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) النصيب والكفل بمعنى واحد ولما كانت الشفاعة نوع توسط لترميم نقيصة أو لحيازة مزية ونحو ذلك كانت لها نوع سببية لاصلاح شأن فلها شئ من التبعة والمثوبة المتعلقتين بما لاجله الشفاعة، وهو مقصد الشفيع والمشفوع له فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشر المترتب على الشفاعة وهو قوله تعالى (من يشفع شفاع) (الخ).
وفي ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين وتنبيه لهم أن يتيقظوا عند الشفاعة لما يشفعون له ويجتنبوها إن كان المشفوع لاجله مما فيه شر وفساد كالشفاعة للمنافقين من المشركين أن لا يقاتلوا فإن في ترك الفساد القليل على حاله وإمهاله في أن ينمو ويعظم فسادا معقبا لا يقوم له شئ ويهلك به الحرث والنسل فالاية في معنى النهى عن الشفاعة السيئة وهى شفاعة أهل الظلم والطغيان والنفاق والشرك المفسدين في الارض.
قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية) أمر بالتحية قبال
/ صفحة30 /
التحية بما يزيد عليها أو يماثلها، وهو حكم عام لكل تحية حيى بها، غير أن مورد الايات هو تحية السلم والصلح التى تلقى إلى المسلمين على ما يظهر من الايات التالية قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم) (الخ) معنى الاية ظاهر، وهى بمنزلة التعليل لما تشتمل عليه الايتان السابقتان من المضمون كأنه قيل: خذوا بما كلفكم الله في أمر الشفاعة الحسنة والسيئة، ولا تبطلوا تحية من يحييكم بالاعراض والرد فإن أمامكم يوما يجمعكم الله فيه ويجازيكم على إجابة ما دعاكم إليه ورده.
قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم) (الاية) الفئة الطائفة والاركاس الرد.
والاية بما لها من المضمون كأنها متفرعة على ما تقدم من التوطئة والتمهيد أعنى قوله (من يشفع شفاعة) (الاية)، والمعنى: فإذا كانت الشفاعة السيئة تعطى لصاحبها كفلا من مساءتها فما لكم أيها المؤمنون تفرقتم في أمر المنافقين فئتين وتحزبتهم حزبين: فئة ترى قتالهم، وفئة تشفع لهم وتحرض على ترك قتالهم، والاغماض عن شجرة الفساد التى تنمو بنمائهم، وتثمر برشدهم، والله ردهم إلى الضلال بعد خروجهم منه جزاء بما كسبوا من سيئات الاعمال، أتريدون بشفاعتكم أن تهدوا هؤلاء الذين أضلهم الله؟ ومن يضلل الله فما له من سبيل إلى الهدى.
وفي قوله (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا) التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إشارة إلى أن من يشفع لهم من المؤمنين لا يتفهم حقيقة هذا الكلام حق التفهم، ولو فقهه لم يشفع في حقهم فأعرض عن مخاطبتهم به وألقى إلى من هو بين واضح عنده وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) (الخ) هو بمنزلة البيان لقوله (والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله) والمعنى: أنهم كفروا وزادوا عليه أنهم ودوا وأحبوا أن تكفروا مثلهم فتستووا.
ثم نهاهم عن ولايتهم إلا أن يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فليس عليكم فيهم إلا أخذهم وقتلهم حيث وجدتموهم، والاجتناب عن ولايتهم ونصرتهم، وفي قوله (فإن تولوا).
دلالة على أن على المؤمنين أن يكلفوهم بالمهاجرة فإن أجابوا فليوالوهم، وإن تولوا فيقتلوهم.
/ صفحة31 /
قوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم) استثنى الله سبحانه من قوله (فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم) طائفتين: (إحداهما) الذين يصلون (الخ) أي بينهم وبين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف ونحوه، و (الثانية) الذين يتحرجون من مقاتلة المسلمين ومقاتلة قومهم لقتلهم أو لعوامل أخر، فيعتزلون المؤمنين ويلقون إليهم السلم لا للمؤمنين ولا عليهم بوجه، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور، وقوله (حصرت صدورهم) أي ضاقت.
قوله تعالى: (ستجدون آخرين) إخبار بأنه سيواجهكم قوم آخرون ربما شابهوا الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنهم يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم غير أن الله سبحانه يخبر أنهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم وموادعتهم، ولذا بدل الشرطين المثبتين في حق غيرهم أعنى قوله (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) بالشرط المنفى أعنى قوله (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم) (الخ) وهذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم، ومعنى الاية ظاهر.
(كلام في معنى التحية) الامم والاقوام على اختلافها في الحضارة والتوحش والتقدم والتأخر لا تخلو في مجتمعاتهم من تحية يتعارفونها عند الملاقاة ملاقات البعض البعض على أقسامها وأنواعها من الاشارة بالرأس واليد ورفع القلانس وغير ذلك، وهى مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم.
وأنت إذا تأملت هذه التحيات الدائرة بين الامم على اختلافها وعلى اختلافهم وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع والهوان والتذلل يبديه الدانى للعالي، والوضيع للشريف، والمطيع لمطاعه، والعبد لمولاه، وبالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الذى لم يزل رائجا بين الامم في أعصار الهمجية فما دونها، وإن اختلفت ألوانه، ولذلك ما نرى ان هذه التحية تبدء من المطيع وتنتهى إلى المطاع، وتشرع من الدانى الوضيع وتختتم في العالي الشريف، فهى من ثمرات الوثنية التى ترتضع من ثدى الاستعباد.
والاسلام - كما تعلم - أكبر همه إمحاء الوثنية وكل رسم من الرسوم ينتهى إليها،
/ صفحة32 /
ويتولد منها، ولذلك أخذ لهذا الشأن طريقة سوية وسنة مقابلة لسنة الوثنية ورسم الاستعباد، وهو إلقاء السلام الذى هو بنحو أمن المسلم عليه من التعدي عليه، ودحض حريته الفطرية الانسانية الموهوبة له فان أول ما يحتاج إليه الاجتماع التعاوني بين الافراد هو أن يأمن بعضهم بعضا في نفسه وعرضه وماله، وكل أمر يؤل إلى أحد هذه الثلاثة.
وهذا هو السلام الذى سن الله تعالى إلقائه عند كل تلاق من متلاقيين قال تعالى: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) (النور - 61) وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غيربيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) (النور - 27) وقد أدب الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتسليم للمؤمنين وهو سيدهم فقال: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) (الانعام - 54) وأمره بالتسليم لغيرهم في قوله: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) (الزخرف - 89).
والتحية بإلقاء السلام كانت معمولا بها عند عرب الجاهلية على ما يشهد به المأثور عنهم من شعر ونحوه وفي لسان العرب: وكانت العرب في الجاهلية يحيون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحا، وأبيت اللعن، ويقولون سلام عليكم فكأنه علامة المسالمة، وأنه لا حرب هنالك.
ثم جاء الله بالاسلام فقصروا على السلام، وأمروا بإفشائه.
(انتهى).
إلا أن الله سبحانه يحكيه في قصص إبراهيم عنه (عليه السلام) كثيرا: ولا يخلو ذلك من شهادة على أنه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب كالحج ونحوه قال تعالى: حكاية عنه فيما يحاور أباه: (قال سلام عليك سأستغفر لك ربى) (مريم - 47) وقال تعالى (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام) (هود - 69) والقصة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم.
ولقد أخذه الله سبحانه تحية لنفسه، واستعمله في موارد من كلامه، قال تعالى: (سلام على نوح في العالمين) (الصافات - 79) وقال: (سلام على إبراهيم) (الصافات: 109) وقال: (سلام على موسى وهارون) (الصافات - 120) وقال (سلام على آل ياسين) (الصافات - 130) وقال: (وسلام على المرسلين) (الصافات - 181.
/ صفحة33 /
وذكر تعالى أنه تحية ملائكته المكرمين قال: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم) (النحل - 32) وقال: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم) (الرعد - 24) وذكر أيضا أنه تحية أهل الجنة قال: وتحيتهم فيها سلام) (يونس - 10)، وقال تعالى: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما) (الواقعة - 26).
(بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى (وإذا حييتم (الاية) قال: ذكر على بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين: أن المراد بالتحية في الاية السلام وغيره من البر.
وفي الكافي بإسناده عن السكوني قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السلام تطوع والرد فريضة.
وفيه بإسناده عن جراح المدائني عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير.
وفيه (عليه السلام) بإسناده عن عيينة (1) عن مصعب عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: القليل يبدئون الكثير بالسلام، والراكب يبدء الماشي، وأصحاب البغال يبدئون أصحاب الحمير، وأصحاب الخيل يبدئون أصحاب البغال.
وفيه بإسناده عن ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، وإذا لقيت جماعة سلم الاقل على الاكثر، وإذا لقى واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة.
أقول: وروى ما يقرب منه في الدر المنثور عن البيهقى عن زيد بن أسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفيه بالاسناد عنه (عليه السلام) قال: إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم،
* (هامش) *
(1) عنبسة (خ ل) (*)
/ صفحة34 /
وإذا سلم على القوم وهم جماعة أجزأهم أن يرد واحد منهم وفي التهذيب بإسناده عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبى جعفر (عليه السلام) وهو في الصلاة فقلت: السلام عليك.
فقال: السلام، عليك فقلت: كيف أصبحت؟ فسكت فلما انصرف قلت: أيرد السلام وهو في الصلاة؟ قال: نعم، مثل ما قيل له.
وفيه بإسناده عن منصور بن حازم عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: إذا سلم عليك الرجل وانت تصلى قال: ترد عليه خفيا كما قال.
وفي الفقيه بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: لا تسلموا على اليهود، لا على النصارى، ولا على المجوس، ولا على عبدة الاوثان، ولا على موائد شراب الخمر، ولا على صاحب الشطرنج والنرد، ولا على المخنث، ولا على الشاعر الذى يقذف المحصنات، ولا على المصلى لان المصلى لا يستطيع أن يرد السلام لان التسليم من المسلم تطوع والرد فريضة، ولا على آكل الربا، ولا على رجل جالس على غائط، ولا على الذى في الحمام، ولا على الفاسق المعلن بفسقه.
اقول: والروايات في معنى ما تقدم كثيرة، والاحاطة بما تقدم من البيان توضح معنى الروايات فالسلام تحية مؤذنة ببسط السلم، ونشر الامن بين المتلاقين على أساس المساواة والتعادل من استعلاء وادحاض، وما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم للكبير، والقليل للكثير، والواحد للجمع لا ينافى مسألة المساواة وانما هو مبنى على وجوب رعاية الحقوق فإن الاسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق، واهمال أمر الفضائل والمزايا بل أمر غير صاحب الفضل أن يراعى فضل ذى الفضل، وحق صاحب الحق، وانما نهى صاحب الفضل أن يعجب بفضله، ويتكبر على غيره فيبغى على الناس بغير حق فيبطل بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الانساني.
وأما النهى الوارد عن التسليم على بعض الافراد فإنما هو متفرع على النهى عن توليهم والركون إليهم كما قال تعالى: " لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) (المائدة: 51) وقال: (لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء) (الممتحنة - 1) وقال: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) (هود - 113) إلى غير ذلك من الايات.
نعم ربما اقتضت مصلحة التقرب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحق
/ صفحة35 /
التسليم عليهم ليحصل به تمام الانس وتمتزج النفوس كما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك في قوله (فاصفح عنهم وقل سلام) (الزخرف - 89) وكما في قوله يصف المؤمنين (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) (الفرقان - 63).
وفي تفسير الصافى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن رجلا قال له: السلام عليك، فقال: وعليك السلام ورحمة الله، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك، فقال الرجل: نقصتنى فأين ما قال الله (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية) - فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك لم تترك فضلا ورددت عليك مثله.
اقول: وروى مثله في الدر المنثور عن احمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن سلمان الفارسى.
وفي الكافي عن الباقر (عليه السلام) قال: مر أمير المؤمنين (عليه السلام): بقوم فسلم عليهم فقالوا: عليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لابينا إبراهيم، قالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت.
اقول: وفيه إشارة إلى ان السنة في التسليم التام، وهو قول المسلم (السلام عليك ورحمة الله وبركاته) مأخوذة من حنيفية إبراهيم (عليه السلام)، وتأييد لما تقدم ان التحية بالسلام من الدين الحنيف.
وفيه عن الصادق (عليه السلام): ان من تمام التحية للمقيم المصافحة، وتمام التسليم على المسافر المعانقة.
وفي الخصال عن امير المؤمنين (عليه السلام): إذا عطس احدكم قولوا يرحمكم الله، وهو يقول: يغفر الله لكم ويرحمكم، قال الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية).
وفي المناقب: جاءت جارية للحسن (عليه السلام) بطاق ريحان، فقال لها: أنت حرة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقال (عليه السلام): أدبنا الله تعالى فقال: (إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها) (الاية) وكان أحسن منها إعتاقها.
/ صفحة36 /
اقول: والروايات كما ترى تعمم معنى التحية في الاية.
وفي المجمع في قوله تعالى (فما لكم في المنافقين فئتين) الاية) قال اختلفوا في من نزلت هذه الاية، فيه، فقيل: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الاسلام ثم رجعوا إلى مكة لانهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا: فقال بعضهم لا نفعل فانهم مؤمنون، وقال آخرون: إنهم مشركون، فأنزل الله فيهم الاية.
قال: وهو المروى عن أبى جعفر (عليه السلام).
وفي تفسير القمى في قوله تعالى (ودوا لو تكفرون كما كفروا) (الاية) أنها نزلت في أشجع وبنى ضمرة، وهما قبيلتان، وكان من خبرهم أنه لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزاة الحديبية مر قريبا من بلادهم، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هادن بنى ضمرة، وواعدهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريبا منا، ونخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشا فلو بدأنا بهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا، إنهم أبر العرب بالوالدين، وأوصلهم للرحم، وأوفاهم بالعهد.
وكان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بنى ضمرة، وهم بطن من كنانة، وكانت أشجع بينهم و بين بنى ضمرة حلف بالمراعاة والامان فأجدبت بلاد أشجع وأخصبت بلاد بنى ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بنى ضمرة فلما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسيرهم إلى بنى ضمرة تهيا للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة التى كانت بينه وبين بنى ضمرة فأنزل الله: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا).
ثم استثنى بأشجع فقال: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا).
وكانت أشجع محالها البيضاء والحل والمستباح، وقد كانوا قربوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهابوا لقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبعث إليهم من يغزوهم، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهم بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع، ورئيسها مسعود بن رجيله، وهم سبعمأة فنزلوا شعب سلع، وذلك في شهر ربيع الاول
/ صفحة37 /
سنة ست من الهجرة فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسيد بن حصين وقال له: اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع.
فخرج أسيد ومعه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة وهو رئيس أشجع فسلم على أسيد وعلى أصحابه فقالوا: جئنا لنوادع محمدا، فرجع اسيد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بينى وبينهم.
ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدمها أمامه، ثم قال: نعم الشئ الهدية أمام الحاجة، ثم أتاهم فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا: قربت دارنا منك، وليس في قومنا أقل عددا منا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك، وضقنا لحرب قومنا لقلتنا فيهم فجئنا لنوادعكم، فقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم ووادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلى بلادهم، وفيهم نزلت هذه الاية ((إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق - إلى قوله - فما جعل الله لكم عليهم سبيلا).
وفي الكافي بإسناده عن الفضل أبى العباس عن أبى عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل (أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) قال: نزلت في بنى مدلج لانهم جاؤا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد أنك لرسول الله فلسنا معكم ولا مع قومنا عليك، قال قلت: كيف صنع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثم يدعوهم فإن أجابوا، وإلا قاتلهم.
وفي تفسير العياشي عن سيف بن عميرة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) (أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) قال: كان أبى يقول: نزلت في بنى مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبي صلى االله عليه وآله وسلم ولم يكونوا مع قومهم قلت: فما صنع بهم؟ قال: لم يقاتلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فرغ من عدوه، ثم نبذ إليهم على سواء.
قال: (وحصرت صدورهم) هو الضيق.
وفي المجمع: المروى عن أبى جعفر (عليه السلام) أنه قال: المراد بقوله تعالى (قوم بينكم وبينهم ميثاق) هو هلال بن عويمر السلمى واثق عن قومه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال في موادعته: على أن لا نخيف يا محمد من أتانا ولا تخيف من أتاك، فنهى الله أن يتعرض لاحد عهد إليهم.
/ صفحة38 /
اقول: وقد روى هذه المعاني وما يقرب منها في الدر المنثور بطرق مختلفة عن ابن عباس وغيره وفي الدر المنثور أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبى حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله (إلا الذين يصلون إلى قوم) (الاية) قال: نسختها براءة: (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم).
* * *
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما - 92.
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما - 93.
يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون خبيرا - 94.
(بيان) قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) الخطأ بفتحتين من غير مد، ومع المد على فعال: خلاف الصواب، والمراد به هنا ما يقابل التعمد لمقابلته بما في الاية
/ صفحة39 /
التالية (ومن يقتل مؤمنا متعمدا).
والمراد بالنفى في قوله (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا)، نفى الاقتضاء أي ليس ولا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الايمان وحماه اقتضاء لقتل مؤمن هو مثله في ذلك أي قتل كان إلا قتل الخطأ، والاستثناء متصل فيعود معنى الكلام إلى أن المؤمن لا يريد قتل المؤمن بما هو مؤمن بأن يقصد قتله مع العلم بأنه مؤمن، ونظير هذه الجملة في سوقها لنفى الاقتضاء قوله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله) (الشورى - 51) وقوله (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) (النمل - 60) وقوله (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) (يونس: 74) إلى غير ذلك.
والاية مع ذلك مسوقة كناية عن التكليف بالنهي التشريعي بمعنى أن الله تعالى لم يبح قط، ولا يبيح أبدا أن يقتل مؤمن مؤمنا وحرم ذلك إلا في قتل الخطأ فإنه لما لم يقصد هناك قتل المؤمن إما لكون القتل غير مقصود أصلا أو قصد ولكن بزعم ان المقتول كافر جائز القتل مثلا فلا حرمة مجعولة هناك.
وقد ذكر جمع من المفسرين: ان الاستثناء في قوله (إلا خطأ) منقطع، قالوا: وإنما لم يحمل قوله (إلا خطأ) على حقيقة الاستثناء لان ذلك يؤدى إلى الامر بقتل الخطأ أو إباحته (انتهى) وقد عرفت أن ذلك لا يؤدى إلا إلى رفع الحرمة عن قتل الخطأ، أو عدم وضع الحرمة فيه، ولا محذور فيه قطعا.
فالحق أن الاستثناء متصل.
قوله تعالى: (ومن قتل مؤمنا خطأ - إلى قوله - يصدقوا) التحرير جعل المملوك حرا، والرقبة هي العنق شاع إستعمالها في النفس المملوكة مجازا والدية ما يعطى من المال عوضا عن النفس أو العضو أو غيرهما، والمعنى: ومن قتل مؤمنا بقتل الخطأ وجب عليه تحرير نفس مملوكة مؤمنة، وإعطاء دية يسلمها إلى أهل المقتول إلا أن يتصدق أولياء القتيل الدية على معطيها ويعفوا عنها فلا تجب الدية.
قوله تعالى: (فإن كان من قوم عدو لكم) الضمير يرجع إلى المؤمن المقتول، والقوم العدو هم الكفار المحاربون، والمعنى: إن كان المقتول خطأ مؤمنا وأهله كفار محاربون لا يرثون وجب التحرير ولا دية إذ لا يرث الكافر المحارب من المؤمن شيئا.
قوله تعالى: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق)، الضمير في (كان) يعود إلى
/ صفحة40 /
المؤمن المقتول أيضا على ما يفيده السياق، والميثاق مطلق العهد أعم من الذمة وكل عهد، والمعنى: وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم عهد وجبت الدية وتحرير الرقبة، وقد قدم ذكر الدية تأكيدا في مراعاة جانب الميثاق.
قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام)، أي من لم يستطع التحرير - لانه هو الاقرب بحسب اللفظ - وجب عليه صيام شهرين متتابعين.
قوله تعالى: (توبة من الله) (الخ) أي هذا الحكم وهو إيجاب الصيام توبة وعطف رحمة من الله لفاقد الرقبة، وينطبق على التخفيف فالحكم تخفيف من الله في حق غير المستطيع، ويمكن أن يكون قوله (توبة) قيدا راجعا إلى جميع ما ذكر في الاية من الكفارة أعنى قوله (فتحرير رقبة) (الخ) والمعنى: أن جعل الكفارة للقاتل خطأ توبة وعناية من الله للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعا.
وليتحفظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة إلى القتل نظير قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) (البقرة: 179).
وكذا هو توبة من الله للمجتمع وعناية لهم حيث يزيد به في أحرارهم واحد بعد ما فقدوا واحدا، ويرمم ما ورد على أهل المقتول من الضرر المالى بالدية المسلمة.
ومن هنا يظهر أن الاسلام يرى الحرية حياة والاسترقاق نوعا من القتل، ويرى المتوسط من منافع وجود الفرد هو الدية الكاملة.
وسنوضح هذا المعنى في ما سيأتي من المباحث.
وأما تشخيص معنى الخطأ والعمد والتحرير والدية وأهل القتيل والميثاق وغيره المذكورات في الاية فعلى السنة.
من أراد الوقوف عليها فليراجع الفقه.
قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) التعمد هو القصد إلى الفعل بعنوانه الذى له، وحيث ان الفعل الاختياري لا يخلو من قصد العنوان وكان من الجائز أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن ان يكون فعل واحد عمديا من جهة خطائيا من أخرى فالرامي إلى شبح وهو يزعم انه من الصيد وهو في الواقع انسان إذا قتله كان متعمدا إلى الصيد خاطئا في قتل الانسان، وكذا إذا ضرب إنسانا بالعصى قاصدا تأديبه فقتلته الضربة كان القتل قتل خطأ، وعلى هذا فمن يقتل مؤمنا متعمدا هو الذى يقصد بفعله قتل المؤمن عن علم بأنه قتل وان المقتول مؤمن.
/ صفحة41 /
وقد أغلظ الله سبحانه وتعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمدا بالنار الخالدة غير أنك عرفت في الكلام على قوله تعالى (إن الله لا يغفر ان يشرك به) (النساء - 48) ان تلك الاية، وكذا قوله تعالى (إن الله يغفر الذنوب جميعا) (الزمر - 53) تصلحان لتقييد هذه الاية فهذه الاية توعد بالنار الخالدة لكنها ليست بصريحة في الحتم فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) الضرب هو السير في الارض والمسافرة وتقييده بسبيل الله يدل على أن المراد به هو الخروج للجهاد والتبين هو التمييز والمراد به التمييز بين المؤمن والكافر بقرينة قوله (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا) والمراد بإلقاء السلام إلقاء التحية تحية أهل الايمان، وقرئ: (لمن ألقى اليكم السلم) بفتح اللام وهو الاستسلام.
والمراد بابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال والغنيمة، وقوله (فعند الله مغانم كثيرة) جمع مغنم وهو الغنيمة أي ما عند الله من المغانم أفضل من مغنم الدنيا الذى يريدونه لكثرتها وبقائها فهى التى يجب عليكم أن تؤثروها.
قوله تعالى: (كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا) (الخ) أي على هذا الوصف.
وهو ابتغاء عرض الحياة الدنيا - كنتم من قبل ان تؤمنوا فمن الله عليكم بالايمان الصارف لكم عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى ما عند الله من المغانم الكثيرة فإذا كان كذلك فيجب عليكم ان تتبينوا، وفي تكرار الامر بالتبين تأكيد في الحكم.
والاية مع اشتمالها على العظة ونوع من التوبيخ لا تصرح بكون هذا القتل الذى ظاهرها وقوعه قتل مؤمن متعمدا، فالظاهر انه كان قتل خطأ من بعض المؤمنين لبعض من ألقى السلم من المشركين لعدم وثوق القاتل بكونه مؤمنا حقيقة بزعم أنه انما يظهر الايمان خوفا على نفسه، والاية توبخه بأن الاسلام انما يعتبر بالظاهر، ويحل أمر القلوب إلى اللطيف الخبير.
وعلى هذا فقوله (تبتغون عرض الحياة الدنيا) موضوع في الكلام على اقتضاء الحال، أي حالكم في قتل من يظهر لكم الايمان من غير اعتناء بأمره وتبين في شأنه حال من يريد المال والغنيمة فيقتل المؤمن المتظاهر بالايمان بأدنى ما يعتذر به من غير أن يكون من
/ صفحة42 /
موجه العذر، وهذا هو الحال الذى كان عليه المؤمنون قبل ايمانهم لا يبتغون الا الدنيا فإذا أنعم الله عليهم بالايمان، ومن عليهم بالاسلام كان الواجب عليهم ان يتبينوا فيما يصنعون ولا ينقادوا لاخلاق الجاهلية وما بقى فيهم من اثارتها.
(بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) (الاية) أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة من بنى عامر بن لوى يعذب عياش بن أبى ربيعة مع أبى جهل ثم خرج مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) (الاية) فقرأها عليه، ثم قال له: قم فحرر.
أقول: وروى هذا المعنى بغيره من الطرق، وفي بعضها أنه قتله بمكة يوم الفتح حين خرج عياش وكان في وثاق المشركين إلى ذلك اليوم وهم يعذبونه ولقى حارثا وقد أسلم وعياش لا يعلم بإسلامه فقتله عياش إذ ذاك.
وما اثبتناه من رواية عكرمة أوفق بالاعتبار وأنسب لتاريخ نزول سورة النساء.
وروى الطبري في تفسيره عن ابن زيد أن الذى نزلت فيه الاية هو أبو الدرداء كان في سرية فعدل إلى شعب يريد حاجة، له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلا الله فضربه ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الاية.
وروى في الدر المنثور أيضا عن الرويانى وابن منده وأبى نعيم عن بكر بن حارثة الجهنى أنه هو الذى نزلت فيه الاية لقصة نظيرة قصة أبى الدرداء، والروايات على أي حال لا تزيد على التطبيق.
وفي التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن رجاله عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل العتق يجوز له المولود إلا في كفارة القتل فإن الله تعالى يقول: (فتحرير رقبة مؤمنة) يعنى بذلك مقرة قد بلغت الحنث (الحديث).
/ صفحة43 /
وفي تفسير العياشي عن موسى بن جعفر (عليه السلام): سئل كيف تعرف المؤمنة؟ قال: على الفطرة.
وفي الفقيه عن الصادق (عليه السلام): في رجل مسلم في أرض الشرك فقتله المسلمون ثم علم به الامام بعد فقال (عليه السلام): يعتق مكانه رقبة مؤمنة وذلك قول الله عز وجل: (فإن كان من قوم عدو لكم).
اقول: وروى مثله العياشي.
وفي قوله (يعتق مكانه) إشعار بأن حقيقة العتق إضافة واحد إلى أحرار المسلمين حيث نقص واحد من عددهم كما تقدمت الاشارة إليه.
وربما استفيد من ذلك أن مصلحة مطلق العتق في الكفارات هو إضافة حر غير عاص إلى عددهم حيث نقص واحد منهم بالمعصية.
فافهم ذلك.
وفي الكافي عن الصادق (عليه السلام): إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين فأفطر أو مرض في الشهر الاول فإن عليه أن يعيد الصيام وإن صام الشهر الاول وصام من الشهر الثاني شيئا ثم عرض له ما له فيه عذر فعليه أن يقضى.
اقول: أي يقضى ما بقى عليه كما قيل وقد استفيد من التتابع.
وفي الكافي وتفسير العياشي عنه (عليه السلام): أنه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمدا له توبة؟ فقال: إن كان قتله لايمانه فلا توبة له وإن كان قتله لغضب أو لسبب شئ من أشياء الدنيا فإن توبته أن يقاد منه - وإن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقر عندهم بقتل صاحبهم فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية وأعتق نسمة وصام شهرين متتابعين وأطعم ستين مسكينا توبة إلى الله عز وجل.
وفي التهذيب بإسناده عن أبى السفاتج عن أبى عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز وجل (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) قال: جزاؤه جهنم إن جازاه.
اقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن الطبراني وغيره عن أبى هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والروايات كما ترى تشتمل على ما قدمناه من نكات الايات وفي باب القتل والقود روايات كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث.
وفي المجمع في قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم) (الاية) قال:
/ صفحة44 /
نزلت في مقيس بن ضبابة الكنانى وجد أخاه هشاما قتيلا في بنى النجار فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل معه قيس بن هلال الفهرى وقال له: قل لبنى النجار: إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه وإن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته.
فبلغ الفهرى الرسالة فأعطوه الدية فلما انصرف ومعه الفهرى وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت شيئا أخذت دية أخيك فتكون سبة عليك.
اقتل الذى معك لتكون نفس بنفس والدية فضل فرماه بصخرة فقتله وركب بعيرا ورجع إلى مكة كافرا وأنشد يقول.
قتلت به فهرا وحملت عقله * سراة بنى النجار أرباب فارع فأدركت ثارى وأضطجعت موسدا * وكنت إلى الاوثان أول راجع فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا اؤمنه في حل ولا حرم.
رواه الضحاك وجماعة من المفسرين (انتهى).
اقول: وروى ما يقرب منه عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما.
وفي تفسير القمى في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله) (الاية) أنها نزلت لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزاة خيبر وبعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الاسلام كان رجل يقال له مرداس بن نهيك الفدكى في بعض القرى فلما أحس بخيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع أهله وماله في ناحية الجبل فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمر به أسامة بن زيد فطعنه فقتله فلما رجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبره بذلك فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله؟ فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلا كشفت الغطاء عن قلبه ولا ما قال بلسانه قبلت ولا ما كان في نفسه علمت.
فحلف أسامة بعد ذلك أن لا يقتل أحدا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فتخلف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حروبه فأنزل في ذلك (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) (الاية).
اقول: وروى هذا المعنى الطبري في تفسيره عن السدى وروى في الدر المنثور روايات كثيرة في سبب نزول الاية في بعضها: أن القصة لمقداد بن الاسود وفي بعضها لابي الدرداء وفي بعضها لمحلم بن جثامة وفي بعضها لم يذكر اسم للقاتل ولا المقتول
/ صفحة45 /
وابهمت القصة إبهاما هذا ولكن حلف أسامة بن زيد واعتذاره إلى على (عليه السلام) في تخلفه عن حروبه معروف مذكور في كتب التاريخ والله أعلم.
لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير اولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما - 95.
درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما - 96.
إن الذين توفيهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأويهم جهنم وساءت مصيرا - 97.
إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا - 98.
فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا - 99.
ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما - 100.
(بيان) قوله تعالى: (لا يستوى القاعدون - إلى قوله - وأنفسهم) الضرر هو النقصان في الوجود المانع من القيام بأمر الجهاد والقتال كالعمى والعرج والمرض والمراد بالجهاد بالاموال
/ صفحة46 /
إنفاقها في سبيل الله للظفر على أعداء الدين وبالانفس القتال.
وقوله (وكلا وعد الله الحسنى) يدل على أن المراد بهؤلاء القاعدين هم التاركون للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة إلى خروجهم لخروج غيرهم على حد الكفاية فالكلام مسوق لترغيب الناس وتحريضهم على القيام بأمر الجهاد والتسابق فيه والمسارعة إليه.
ومن الدليل على ذلك أن الله سبحانه استثنى أولى الضرر ثم حكم بعدم الاستواء مع أن أولى الضرر كالقاعدين في عدم مساواتهم المجاهدين في سبيل الله وإن قلنا: إن الله سبحانه يتدارك ضررهم بنياتهم الصالحة فلا شك أن الجهاد والشهادة أو الغلبة على عدو الله من الفضائل التى فضل بها المجاهدون في سبيل الله على غيرهم وبالجملة ففى الكلام تحضيض للمؤمنين وتهييج لهم وإيقاظ لروح إيمانهم لاستباق الخير والفضيلة.
قوله تعالى: (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) الجملة في مقام التعليل لقوله (لا يستوى) ولذا لم توصل بعطف ونحوه والدرجة هي المنزلة والدرجات المنزلة بعد المنزلة وقوله (وكلا وعد الله الحسنى) أي وعد الله كلا من القاعدين والمجاهدين أو كلا من القاعدين غير أولى الضرر والقاعدين أولى الضرر والمجاهدين الحسنى والحسنى وصف محذوف الموصوف أي العاقبة الحسنى أو المثوبة الحسنى أو ما يشابه ذلك والجملة مسوقة لدفع الدخل فإن القاعد من المؤمنين ربما أمكنه أن يتوهم من قوله (لا يستوى - إلى قوله - درجة) أنه صفر الكف لا فائدة تعود إليه من ايمانه وسائر أعماله فدفع ذلك بقوله (وكلا وعد الله الحسنى).
قوله تعالى: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة) هذا التفضيل بمنزلة البيان والشرح لاجمال التفضيل المذكور أولا ويفيد مع ذلك فائدة أخرى وهى الاشارة إلى أنه لا ينبغى للمؤمنين أن يقنعوا بالوعد الحسن الذى يتضمنه قوله (وكلا وعد الله الحسنى) فيتكاسلوا في الجهاد في سبيل الله والواجب من السعي في إعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل فإن فضل المجاهدين على القاعدين بما لا يستهان به من درجات المغفرة والرحمة.
وأمر الاية في سباقها عجيب أما أولا فلانها قيدت المجاهدين (أولا) بقوله (في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) و (ثانيا) بقوله (بأموالهم وأنفسهم) و (ثالثا) أوردته من
/ صفحة47 /
غير تقييد.
وأما ثانيا: فلانها ذكرت في التفضيل (أولا) أنها درجة و (ثانيا) انها درجات منه.
أما الاول فلان الكلام في الاية مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود والفضل إنما هو للجهاد إذا كان في سبيل الله لا في سبيل هوى النفس وبالسماحة والجود بأعز الاشياء عند الانسان وهو المال وبما هو أعز منه وهو النفس ولذلك قيل أولا: (والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) ليتبين بذلك الامر كل التبين ويرتفع به اللبس ثم لما قيل: (وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) لم تكن حاجة إلى ذكر القيود من هذه الجهة لان اللبس قد ارتفع بما تقدمه من البيان غير أن الجملة لما قارنت قوله (وكلا وعد الله الحسنى) مست حاجة الكلام إلى بيان سبب الفضل وهو إنفاق المال وبذل النفس على حبهما فلذا اكتفى بذكرهما قيدا للمجاهدين فقيل: (المجاهدين بأموالهم وأنفسهم) وأما قوله ثالثا (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) فلم يبق فيه حاجة إلى ذكر القيود أصلا لا جميعها ولا بعضها ولذلك تركت كلا.
وأما الثاني فقوله (فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) (درجة) منصوب على التمييز، وهو يدل على أن التفضيل من حيث الدرجة والمنزلة من غير أن يتعرض أن هذه الدرجة الموجبة للفضيلة واحدة أو أكثر وقوله (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه) كأن لفظة (فضل) فيه مضمنة معنى الاعطاء أو ما يشابهه وقوله (درجات منه) بدل أو عطف بيان لقوله (أجرا عظيما) والمعنى: وأعطى الله المجاهدين أجرا عظيما مفضلا إياهم على القاعدين معطيا أو مثيبا لهم أجرا عظيما وهو الدرجات من الله فالكلام يبين بأوله أن فضل المجاهدين على القاعدين بالمنزلة من الله مع السكوت عن بيان أن هذه المنزلة واحدة أو كثيرة ويبين بآخره أن هذه المنزلة ليست منزلة واحدة بل منازل ودرجات كثيرة وهى الاجر العظيم الذى يثاب به المجاهدون.
ولعل ما ذكرنا يدفع به ما استشكلوه من إيهام التناقض في قوله أولا (درجة) وثانيا (درجات منه) وقد ذكر المفسرون للتخلص من الاشكال وجوها لا يخلو جلها أو كلها من تكلف.
/ صفحة48 /
منها: أن المراد بالتفضيل في صدر الاية تفضيل المجاهدين على القاعدين اولى الضرر بدرجة وفي ذيل الاية تفضيل المجاهدين على القاعدين غير اولى الضرر بدرجات.
ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الاية المنزلة الدنيوية كالغنيمة وحسن الذكر ونحوهما وبالدرجات في آخر الاية المنازل الاخروية وهى أكثر بالنسبة إلى الدنيا قال تعالى: (وللاخرة أكبر درجات) (أسرى 21).
ومنها: أن المراد بالدرجة في صدر الاية المنزلة عند الله وهى أمر معنوى وبالدرجات في ذيل الاية منازل الجنة ودرجاتها الرفيعة وهى حسية، وأنت خيبر بأن هذه الاقوال لا دليل عليها من جهة اللفظ.
والضمير في قوله (منه لعله راجع إلى الله سبحانه، ويؤيده قوله (ومغفرة ورحمة) بناء على كونه بيانا للدرجات، و المغفرة والرحمة من الله، ويمكن رجوع الضمير إلى الاجر المذكور قبلا.
وقوله (ومغفرة ورحمة) ظاهره كونه بيانا للدرجات فإن الدرجات وهى المنازل من الله سبحانه أياما كانت فهى مصداق المغفرة والرحمة، وقد علمت في بعض المباحث السابقة أن الرحمة - وهى الافاضة الالهية للنعمة - تتوقف على إزاله الحاجب ورفع المانع من التلبس بها، وهى المغفرة، ولازمه أن كل مرتبة من مراتب النعم وكل درجة ومنزلة رفيعة مغفرة بالنسبة إلى المرتبة التى بعدها، والدرجة التى فوقها، فصح بذلك أن الدرجات الاخروية كائنة ما كانت مغفرة ورحمة من الله سبحانه، وغالب ما تذكر الرحمة وما يشابهها في القرآن تذكر معها المغفرة كقوله (مغفرة وأجر عظيم) (المائدة: 9) وقوله (ومغفرة ورزق كريم) (الانفال - 4) وقوله (مغفرة وأجر كبير) (هود: 11) وقوله (ومغفرة من الله ورضوان) (الحديد - 20) وقوله (واغفر لنا وارحمنا) (البقرة - 286) إلى غير ذلك من الايات.
ثم ختم الاية بقوله: (وكان الله غفورا رحيما) ومناسبة الاسمين مع مضمون الاية ظاهرة لا سيما بعد قوله في ذيلها (ومغفرة ورحمة.
) قوله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) لفظ (توفاهم) صيغة ماض أو صيغة مستقبل - والاصل تتوفاهم حذفت إحدى التائين من اللفظ تخفيفا - نظير قوله
/ صفحة49 /
تعالى (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء) (النحل - 28).
والمراد بالظلم كما تؤيده الاية النظيرة هو ظلمهم لانفسهم بالاعراض عن دين الله وترك إقامة شعائره من جهة الوقوع في بلاد الشرك والتوسط بين الكافرين حيث لا وسيلة يتوسل بها إلى تعلم معارف الدين، والقيام بما تندب إليه من وظائف العبودية، وهذا هو الذى يدل عليه السياق في قوله (قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض) إلى آخر الايات الثلاث.
وقد فسر الله سبحانه الظالمين (إذا أطلق) في قوله (لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) (الاعراف - 45)، هود: 19) ومحصل الايتين تفسير الظلم بالاعراض عن دين الله وطلبه عوجا ومحرفا، وينطبق على ما يظهر من الاية التى نحن فيها.
قوله تعالى: (قالوا فيم كنتم) أي فيما ذا كنتم من الدين، وكلمة (م) هي ما الاستفهامية حذفت عنها الالف تخفيفا.
وفي الاية دلالة في الجملة على ما تسميه الاخبار بسؤال القبر، وهو سؤال الملائكة عن دين الميت بعد حلول الموت كما يدل عليه أيضا قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين وقيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا (الايات) (النحل: 30).
قوله تعالى: (قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) كان سؤال الملائكة (فيم كنتم) سؤالا عن الحال الذى كانوا يعيشون فيه من الدين، ولم يكن هؤلاء المسؤولون على حال يعتد به من جهة الدين فأجابوا بوضع السبب موضع المسبب وهو أنهم كانوا يعيشون في أرض لا يتمكنون فيها من التلبس بالدين لكون أهل الارض مشركين أقوياء فاستضعفوهم فحالوا بينهم وبين الاخذ بشرائع الدين والعمل بها.
/ صفحة50 /
ولما كان هذا الذى ذكروه من الاستضعاف - لو كانوا صادقين فيه - إنما حل بهم من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك، وكان استضعافهم من جهة تسلط المشركين على الارض التى ذكروها، ولم تكن لهم سلطة على غيرها من الارض فلم يكونوا مستضعفين على أي حال بل في حال لهم أن يغيروه بالخروج والمهاجرة كذبتهم الملائكة في دعوى الاستضعاف بأن الارض أرض الله كانت أوسع مما وقعوا فيه ولزموه، وكان يمكنهم أن يخرجوا من حومة الاستضعاف بالمهاجرة، فهم لم يكونوا بمستضعفين حقيقة لوجود قدرتهم على الخروج من قيد الاستضعاف، وإنما اختاروا هذا الحال بسوء اختيارهم.
فقوله (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) الاستفهام فيه للتوبيخ كما في قوله (فيم كنتم) ويمكن أن يكون أول الاستفهامين للتقرير كما هو ظاهر ما مر نقله من آيات سورة النحل لكون السؤال فيها عن الظالمين والمتقين جميعا، وثاني الاستفهامين للتوبيخ على أي حال.
وقد أضافت الملائكة الارض إلى الله، ولا يخلو من أيماء إلى أن الله سبحانه هيأ في أرضه سعة أولا ثم دعاهم إلى الايمان والعمل كما يشعر به أيضا قوله بعد آيتين (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة) (الاية.
ووصف الارض بالسعة هو الموجب للتعبير عن الهجرة بقوله (فتهاجروا فيها) أي تهاجروا من بعضها إلى بعضها، ولو لا فرض السعة لكان يقال: فتهاجروا منها.
ثم حكم الله في حقهم بعد إيراد المسألة بقوله (فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا).
قوله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان)، الاستثناء منقطع، وفي إطلاق المستضعفين على هؤلاء بالتفسير الذى فسره به دلالة على أن الظالمين المذكورين لم يكونوا مستضعفين لتمكنهم من رفع قيد الاستضعاف عن أنفسهم وإنما الاستضعاف وصف هؤلاء المذكورين في هذه الاية، وفي تفصيل بيانهم بالرجال والنساء والولدان إيضاح للحكم الالهى ورفع للبس.
وقوله (لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) الحيلة كأنها بناء نوع من الحيلولة ثم استعملت استعمال الالة فهى ما يتوسل به إلى الحيلولة بين شئ وشئ أو حال للحصول على شئ أو حال آخر، وغلب استعماله في ما يكون على خفية، وفي الامور المذمومة، وفي مادتها على أي حال معنى التغير على ما ذكره الراغب في مفرداته.
والمعنى لا يستطيعون ولا يتمكنون أن يحتالوا لصرف ما يتوجه إليهم من استضعاف