/ صفحة151 /

المألوفة سترا فإن في الاطلاع على حقيقة مثل هذه الامور مظنة الهلاك والشقاء كمن تفحص عن يوم وفاته أو سبب هلاكه أو عمر أحبته وأعزته أو زوال ملكه وعزته، وربما كان ما يطلع عليه هو السبب الذى يخترمه بالفناء أو يهدده بالشقاء.

فنظام الحياة الذى نظمه الله سبحانه ووضعه جاريا في الكون فأبدا أشياء وحجب أشياء لم يظهر ما أظهره إلا لحكمة، ولم يخف ما أخفاه إلا لحكمة أي إن التسبب إلى خفاء ما ظهر منها والتوسل إلى ظهور ما خفى منها يورث اختلال النظام المبسوط على الكون كالحياة الانسانية المبنية على نظام بدنى مؤلف من قوى وأعضاء وأركان لو نقص واحد منها أو زيد شئ عليها أوجب ذلك فقدان أجزاء هامة من الحياة ثم يعتبر ذلك مجرى القوى والاعضاء الباقية، وربما أدى ذلك إلى بطلان الحياة بحقيقتها أو معناها.

ثم إن الاية أبهمت ثانيا أمر هذه الاشياء التى نهت عن السؤال عنها، ولم توضح من أمرها إلا أنها بحيث إن تبد لهم تسؤهم (الخ)، ومما لا يرتاب فيه أن قوله: " إن تبد لكم تسؤكم " نعت للاشياء، وهى جملة شرطية تدل على تحقق وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، ولازمه أن تكون هذه أشياء تسؤهم إن أبدئت لهم فطلب إبدائها وإظهارها بالمسألة طلب للمساءة.

فيستشكل بأن الانسان العاقل لا يطلب مايسؤه، ولو قيل: لا تسألوا عن أشياء فيها ما إن تبد لكم تسؤكم، أو لا تسألوا عن أشياء لا تأمنون أن تسوءكم إن تبد لكم لم يلزم محذور.

ومن عجيب ما أجيب به عن الاشكال: أن من المقرر في قوانين العربية أن شرط " إن " مما لا يقطع بوقوعه، والجزاء تابع للشرط في الوقوع وعدمه فكان التعبير بقوله " إن تبد لكم تسؤكم " دون " إذا أبديت لكم تسؤكم " دالا على أن احتمال إبدائها وكونها تسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها، انتهى موضع الحاجة.

وقد أخطأ في ذلك، وليت شعرى أي قانون من قوانين العربية يقرر أن يكون الشرط غير مقطوع الوقوع؟ ثم الجزاء بما هو جزاء متعلق الوجود بالشرط غير مقطوع الوقوع؟ وهل يفيد قولنا: إن جئتني أكرمتك إلا القطع بوقوع الاكرام على تقدير وقوع المجئ؟ فقوله: إن التعبير بالشرط يدل على أن احتمال إبدائها وكونه يسوء كاف

 

/ صفحة152 /

في وجوب الانتهاء، انتهى.

إنما يصح لو كان مفاد الشرط في الاية هو النهى عن السؤال عن أشياء يمكن أن تسوء إن أبدئت وليس كذلك كما عرفت بل المفاد النهى عن السؤال أشياء يقطع بمساءتها إن أبدئت، فالاشكال على حاله.

ويتلو هذا الجواب في الضعف قول بعضهم - على ما في بعض الروايات: إن المراد بقوله: " أشياء إن تبد لكم تسؤكم " ما ربما يهواه بعض النفوس من الاطلاع على بعض المغيبات كالاجال وعواقب الامور وجريان الخير والشر والكشف عن كل مستور مما لا يخلو العلم به طبعا من أن يتضمن ما يسوء الانسان ويحزنه كسؤال الرجل عن باقى عمره، وسبب موته، وحسن عاقبته، وعن أبيه من هو؟ وقد كان دائرا بينهم في الجاهلية.

فالمراد بقوله: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " هو النهى عن السؤال عن هذه الامور التى لا يخلو انكشاف الحال فيها غالبا أن يشتمل على ما يسوء الانسان ويحزنه كظهور أن الاجل قريب، أو أن العاقبة وخيمة، أو أن أباه في الواقع غير من يدعى إليه.

فهذه امور يتضمن غالبا مساءة الانسان وحزنه، ولا يؤمن من أن يجاب إذا سئل عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لا يرتضيه السائل فيدعوه الاستكبار النفساني وأنفة العصبية أن يكذب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يجيب به فيكفر بذلك كما يشير إليه قوله تعالى في الاية التالية: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ".

وهذا الوجه وإن كان سليما في بادئ النظر لكنه لا يلائم قوله تعالى: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم " سواء قلنا: إن مفاده تجويز السؤال عن هذه الاشياء حين نزول القرآن، أو تشديد النهى عنه حين نزول القرآن بالدلالة على أن المجيب - وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - في غير حال نزول القرآن في سعة من أن لا يجيب عن هذه الاسئلة رعاية لمصلحة السائلين، لكنها أعنى الاشياء المسؤول عنها مكشوفة الحقيقة مرفوع عنها الحجاب لا محالة فلا تسألوا عنها حين ينزل القرآن البتة.

أما عدم ملاءمته على المعنى الاول فلان السؤال عن هذه الاشياء لما اشتمل على المفسدة بحسب طبعه فلا معنى لتجويزه حال نزول القرآن، والمفسدة هي المفسدة.

وأما على المعنى الثاني فلان حال نزول القرآن وإن كان حال البيان والكشف

 

/ صفحة153 /

عن ما يحتاج إلى الكشف والابداء غير أن هذه الخصيصة مرتبطة بحقائق المعارف وشرائع الاحكام وما يجرى مجراها، وأما تعيين أجل زيد وكيفية وفاة عمرو، وتشخيص من هو أبو فلان؟ ونحو ذلك فهى مما لا يرتبط به البيان القرآني، فلا وجه لتذييل النهى عن السؤال عن أشياء كذا وكذا بنحو قوله: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " وهو ظاهر.

فالاوجه في الجواب ما يستفاد من كلام آخرين أن الاية الثانية: " قد سألها قوم من قبلكم، الخ " وكذا قوله: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم " تدل على أن المسؤول عنها أشياء مرتبطة بالاحكام المشرعة كالخصوصيات الراجعة إلى متعلقات الاحكام مما ربما يستقصى في البحث عنه والاصرار في المداقة عليه، ونتيجة ذلك ظهور التشديد ونزول التحريج كلما أمعن في السؤال وألح على البحث كما قصه الله سبحانه في قصة البقرة عن بنى إسرائيل حيث شدد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة التى أمروا بذبحها.

ثم إن قوله تعالى: " عفا الله عنها " الظاهر أنه جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهى في قوله: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " لا كما ذكروه: أنه وصف لاشياء، وأن في الكلام تقديما وتأخيرا، والتقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، " الخ ".

وهذا التعبير - أعنى تعدية العفو بعن - أحسن شاهد على أن المراد بالاشياء المذكورة هي الامور الراجعة إلى الشرائع والاحكام، ولو كانت من قبيل الامور الكونية كان كالمتعين أن يقال: عفاها الله.

وكيف كان فالتعليل بالعفو يفيد أن المراد بالاشياء هي الخصوصيات الراجعة إلى الاحكام والشرائع والقيود والشرائط العائدة إلى متعلقاتها، وأن السكوت عنها ليس لانها مغفول عنها أو مما اهمل أمرها بل لم يكن ذلك إلا تخفيفا من الله سبحانه لعباده وتسهيلا كما قال: " والله غفور حليم " فما يقترحونه من السؤال عن خصوصياته تعرض منهم للتضييق والتحريج وهو مما يسوؤهم ويحزنهم البتة فإن في ذلك ردا للعفو الالهى الذى لم يكن البتة إلا للتسهيل والتخفيف، وتحكيم صفتي المغفرة والحلم الالهيين.

فيرجع مفاد قوله: " لا تسألوا عن أشياء، الخ " إلى نحو قولنا: يا أيها الذين

 

/ صفحة154 /

آمنوا لا تسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أشياء مسكوت عنها في الشريعة عفا الله عنها ولم يتعرض لبيانها تخفيفا وتسهيلا فإنها بحيث تبين لكم إن تسألوا عنها حين نزول القرآن، وتسوؤكم إن أبدئت لكم وبينت.

وقد تبين مما مرأولا: أن قوله تعالى: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " من تتمة النهى كما عرفت، لا لرفع النهى عن السؤال حين نزول القرآن كما ربما قيل.

وثانيا: أن قوله تعالى: " عفا الله عنها " جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهى عن السؤال فتفيد فائدة الوصف من غير أن يكون وصفا بحسب التركيب الكلامي.

 

وثالثا: وجه تذييل الكلام بقوله: " والله غفور حليم " مع كون الكلام مشتملا على النهى غير الملائم لصفتي المغفرة والحلم فالاسمان يعودان إلى مفاد العفو المذكور في قوله: " عفا الله عنها " دون النهى الموضوع في الاية.

قوله تعالى: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " يقال: سأله وسأل عنه بمعنى، و " ثم " يفيد التراخي بحسب الرتبة الكلامية دونه بحسب الزمان.

والباء في قوله: " بها " متعلقة بقوله: " كافرين " على ما هو ظاهر الاية من كونها مسوقة للنهى عن السؤال عما يتعلق بقيود الاحكام والشرائع المسكوت عنها عند التشريع، فالكفر كفر بالاحكام من جهة استلزامها تحرج النفوس عنها وتضيق القلوب من قبولها، و يمكن أن تكون الباء للسببية ولا يخلو عن بعد.

والاية وإن أبهمت القوم المذكورين ولم يعرفهم لكن في القرآن الكريم ما يمكن أن تنطبق عليه الاية من القصص كقصة المائدة من قصص النصارى وقصص اخرى من قوم موسى وغيرهم.

(بحث روائي) في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبى هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن الاسدي فقال: أفى كل عام يا رسول الله؟ قال: أما إنى لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم اسكتوا عنى ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم

 

/ صفحة155 /

واختلافهم على أنبيائهم فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألواعن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " إلى آخر الاية.

اقول: وروى القصة عن أبى هريرة وأبى أمامة وغيرهما عدة من الرواة، ورويت في المجمع وغيره من كتب الخاصة، وهى تنطبق على ما قدمناه في البيان المتقدم.

وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء، الاية " قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الايام فقام خطيبا فقال: سلونى فإنكم لا تسألونى عن شئ إلا أنبأتكم به فقام إليه رجل من قريش من بنى سهم يقال له: عبد الله بن حذاقة - وكان يطعن فيه - فقال: يا رسول الله من أبى؟ فقال: أبوك فلان فدعاه لابيه فقام إليه عمر فقبل رجله وقال: يا رسول الله رضينا بالله ربا ولك نبيا وبالقرآن إماما فاعف عنا عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضى فيومئذ قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وأنزل عليه: " قد سألها قوم من قبلكم ".

اقول: والرواية مروية بعدة طرق على اختلاف في متونها، وقد عرفت فيما تقدم أنها غير قابلة الانطباق على الاية.

وفيه أيضا: أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ثعلبة الخشنى قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها.

وفي المجمع والصافى عن على (عليه السلام) قال: إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحد لكم حدودا فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها.

وفي الكافي بإسناده عن أبى الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشئ فاسألوني عنه من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عزوجل يقول: " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس " وقال: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما " وقال: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ".

 

/ صفحة156 /

وفي تفسير العياشي عن أحمد بن محمد قال: كتبت إلى أبى الحسن الرضا (عليه السلام) وكتب في آخره: أولم تنهوا عن كثرة المسائل؟ فأبيتم أن تنتهوا، إياكم وذلك، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فقال الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء - إلى قوله تعالى - كافرين ".

 

* * *

 ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون - 103.

وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون - 104.

(بيان) قوله تعالى: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، هذه أصناف من الانعام كان أهل الجاهلية يرون لها أحكاما مبنية على الاحترام ونوع من التحرير، وقد نفى الله سبحانه أن يكون جعل من ذلك شيئا، فالجعل المنفى متعلق بأوصافها دون ذواتها فإن ذواتها مخلوقة لله سبحانه من غير شك، وكذلك أوصافها من جهة أنها أوصاف فحسب، وإنما الذى تقبل الاسناد إليه تعالى ونفيه هي أوصافها من جهة كونها مصادر لاحكام كانوا يدعونها لها فهى التى تقبل الاسناد ونفيه، فنفى جعل البحيرة وأخواتها في الاية نفى لمشروعية الاحكام المنتسبة إليها المعروفة عندهم.

وهذه الاصناف الاربعة من الانعام وإن اختلفوا في معنى أسمائها ويتفرع عليه الاختلاف في تشخيص أحكامها كما ستقف عليه، لكن من المسلم أن أحكامها مبنية على نوع من تحريرها والاحترام لها برعاية حالها، ثلاثة منها وهى البحيرة والسائبة والحامي

 

/ صفحة157 /

من الابل، وواحدة وهى الوصيلة من الشاة.

أما البحيرة ففى المجمع: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أأذنها (أي شقوها شقا واسعا) وامتنعوا عن ركوبها ونحرها، ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى، فإذا لقيها المعيى لم تركبها، عن الزجاج.

وقيل: إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء جميعا، وإن كانت أنثى شقو أذنها فتلك البحيرة ثم لا يجز لها وبر، ولا يذكر لها اسم الله إن ذكيت، ولا حمل عليها، وحرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئا، ولا أن ينتفعن بها، وكان لبنها و منافعها للرجال خاصة دون النساء حتى تموت فإذا ماتت اشتركت الرجال والنساء في أكلها، عن ابن عباس، وقيل " إن البحيرة بنت السائبة، عن محمد بن إسحاق.

وأما السائبة ففى المجمع أنها ما كانوا يسيبونه فإن الرجل إذا نذر القدوم من سفر أو البرء من علة أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها، وإن لا تخلى عن ماء ولا تمنع من مرعى، عن الزجاج، وهو قول علقمة.

وقيل: هي التى تسيب للاصنام أي تعتق لها، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجئ به إلى السدنة - وهم خدمة آلهتهم - فيطعمون من لبنها أبناء السبيل ونحو ذلك عن ابن عباس وابن مسعود.

وقيل: إن السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سيبت فلم تركبوها، ولم يجزوا وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من انثى شق اذنها ثم تخلى سبيلها مع امها، وهى البحيرة، عن محمد بن إسحاق.

وأما الوصيلة ففى المجمع: وهى في الغنم، كانت الشاة إذا ولدت انثى فهى لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لالهتهم، فإن ولدت ذكرا وانثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لالهتهم.

عن الزجاج.

وقيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جديا ذبحوه لالهتهم ولحمه للرجال دون النساء، وإن كان عناقا، استحيوها وكانت من عرض الغنم، وإن

 

/ صفحة158 /

ولدت في البطن السابع جديا وعناقا قالوا: إن الاخت وصلت أخاها لحرمته علينا فحرما جميعا فكانت المنفعة واللبن للرجال دون النساء، عن ابن مسعود ومقاتل.

وقيل: الوصيلة الشاة إذا تأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الاناث، عن محمد بن إسحاق.

وأما الحامى ففى المجمع: هو الذكر من الابل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا من مرعى، عن ابن عباس وابن مسعود، وهو قول أبى عبيدة والزجاج.

وقيل: إنه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب، عن الفراء.

وهذه الاسماء وإن اختلفوا في تفسيرها إلا أن من المحتمل قريبا أن يكون ذلك الاختلاف ناشئا من اختلاف سلائق الاقوام في سننهم، فإن أمثال ذلك كثيرة في السنن الدائرة بين الاقوام الهمجية.

وكيف كان فالاية ناظرة إلى نفى الاحكام التى كانوا قد اختلقوها لهذه الاصناف الاربعة من الانعام، ناسبين ذلك إلى الله سبحانه بدليل قوله أولا: " ما جعل الله، إلخ " وثانيا: " ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، إلخ ".

ولذلك كان قوله: " ولكن الذين كفروا، إلخ " بمنزلة الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: " ما جعل الله من بحيرة، إلخ " سئل فقيل: فما هذا الذى يدعيه هؤلاء الذين كفروا؟ فاجيب بأنه افتراء منهم على الله الكذب ثم زيد في البيان فقيل: " وأكثرهم لا يعقلون " ومفاده أنهم مختلفون في هذا الافتراء فأكثرهم يفترون ما يفترون وهم لا يعقلون، والقليل من هؤلاء المفترين يعقلون الحق وأن ما ينسبونه إليه تعالى من الافتراء، وهم المتبوعون المطاعون لغيرهم المديرون لازمة امورهم فهم أهل عناد ولجاج.

قوله تعالى: " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله، إلى آخر الاية " في حكاية دعوتهم إلى ما أنزل الله إلى الرسول الذى شأنه البلاغ، فقط فالدعوة دعوة إلى الحق وهو الصدق الخالى عن الفرية، والعلم المبرى من الجهل فإن الاية السابقة تجمع الافتراء وعدم التعقل في جانبهم فلا يبقى لما يدعون إليه - أعنى جانب الله سبحانه - إلا الصدق والعلم.

لكنهم ما دفعوه إلا بالتقليد حيث قالوا: حسبنا وجدنا عليه آباءنا، والتقليد

 

/ صفحة159 /

 

وإن كان حقا في بعض الاحيان وعلى بعض الشروط وهو رجوع الجاهل إلى العالم، وهو مما استقر عليه سير المجتمع الانساني في جميع أحكام الحياة التى لا يتيسر فيها للانسان أن يحصل العلم بما يحتاج إلى سلوكه من الطريق الحيوى، لكن تقليد الجاهل في جهله بمعنى رجوع الجاهل إلى جاهل آخر مثله مذموم في سنة العقلاء كما يذم رجوع العالم إلى عالم آخر بترك ما يستقل بعمله من نفسه والاخذ بما يعلم غيره.

ولذلك رده تعالى بقوله: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون ولا يهتدون " ومفاده أن العقل - لو كان هناك عقل - لا يبيح للانسان الرجوع إلى من لا علم عنده ولا اهتداء فهذه سنة الحياة لا تبيح سلوك طريق لا تؤمن مخاطره، ولا يعلم وصفه لا بالاستقلال ولا باتباع من له به خبرة.

ولعل إضافة قوله: " ولا يهتدون " إلى قوله: " لا يعلمون شيئا " لتتميم قيود الكلام بحسب الحقيقة، فإن رجوع الجاهل إلى مثله وإن كان مذموما لكنه إنما يذم إذا كان المسؤول المتبوع مثل السائل التابع في جهله لا يمتاز عنه بشئ، وأما إذا كان المتبوع نفسه يسلك الطريق بهداية عالم خبير به ودلالته فهو مهتد في سلوكه، ولا ذم على من اتبعه في مسيره وقلده في سلوك الطريق، فإن الامر ينتهى إلى العلم بالاخرة كمن يتبع عالما بأمر الطريق ثم يتبعه آخر جاهل به.

ومن هنا يتضح أن قوله: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا " غير كاف في تمام الحجة عليهم لاحتمال أن يكون آباءهم الذين اتبعوهم بالتقليد مهتدين بتقليد العلماء الهداة فلا يجرى فيهم حكم الذم، ولا تتم عليهم الحجة فدفع ذلك بأن آباءهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون، ولا مسوغ لاتباع من هذا حاله.

ولما تحصل من الاية الاولى أعنى قوله: " ما جعل الله من بحيرة، إلخ " أنهم بين من لا يعقل شيئا وهم الاكثرون، ومن هو معاند مستكبر تحصل أنهم بمعزل من أهلية توجيه الخطاب وإلقاء الحجة ولذلك لم تلق إليهم الحجة في الاية الثانية بنحو التخاطب بل سيق الكلام على خطاب غيرهم والصفح عن مواجهتهم فقيل: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ".

وقد تقدم في الجزء الاول من أجزاء هذا الكتاب بحث علمي أخلاقي في معنى

 

/ صفحة160 /

التقليد يمكنك أن تراجعه.

ويتبين من الاية أن الرجوع إلى كتاب الله وإلى رسوله - وهو الرجوع إلى السنة - ليس من التقليد المذموم في شئ.

(بحث روائي) في تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده إلى محمد بن مسلم، عن أبى عبد الله (عليه السلام): في قول الله عزوجل: " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " قال: إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن واحد قالوا: وصلت، فلا يستحلون ذبحها ولا أكلها، وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة، ولا يستحلون ظهرها ولا أكلها، والحام فحل الابل لم يكونوا يستحلونه فأنزل الله: أنه لم يكن يحرم شيئا من ذلك.

قال: ثم قال ابن بابويه: وقد روى: أن البحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن وإن كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس انثى بحروا اذنها أي شقوها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء، والسائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله أن يفعل ذلك.

والوصيلة من الغنم، كانوا إذا ولدت شاة سبعة أبطن فكان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كان انثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وانثى قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح وكان لحمها حراما على النساء إلا أن تموت منها شئ فيحل أكلها للرجال والنساء.

والحام الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره، قال: وقد يروى: أن الحام هو من الابل إذا أنتج عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلاء ولا ماء.

أقول: ومن طرق الشيعة وأهل السنة روايات أخر في معاني هذه الاسماء: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقد مر شطر منها في الكلام المنقول عن الطبرسي في مجمع البيان في البيان المتقدم.

 

/ صفحة161 /

والمتيقن من معانيها - كما عرفت - أن هذه الاصناف من الانعام كانت في الجاهلية محررة نوعا من التحرير ذات أحكام مناسبة لذلك كحماية الظهر وحرمة أكل اللحم وعدم المنع من الماء والكلاء، وأن الوصيلة من الغنم والثلاثة الباقية من الابل.

وفي المجمع: روى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة، وكان أول من غير دين اسماعيل، واتخذ الاصنام ونصب الاوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامى.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلقد رأيته في النار يؤذى أهل النار ريح قصبه، ويروى يجر قصبه في النار.

اقول: وروى في الدر المنثور هذا المعنى بعدة طرق عن ابن عباس وغيره.

وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لاعرف أول من سيب السوائب، ونصب النصب، وأول من غير دين إبراهيم، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لحى أخو بنى كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذى أهل النار ريح قصبه.

وإنى لاعرف من نحر النحائر، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: رجل من بنى مدلج كانت له ناقتان فجذع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال: هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما.

قال: فلقد رأيته في النار، وهما يقصمانه بأفواههما ويطئانه بأخفافهما.

وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الاصول، وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في الاسماء والصفات، عن أبى الاحوص، عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب فقال لى: هل لك من مال؟ قلت نعم، قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال: من الابل والغنم والخيل والرقيق قال: فإذا آتاك الله فلير عليك.

ثم قال: تنتج إبلك رافية آذانها؟ قلت: نعم وهل تنتج الابل إلا كذلك؟

 

/ صفحة162 /

قال: فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها، وتقول: هذه بحر، وتشق آذان طائفة منها وتقول: هذه الصرم؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل إن كل ما آتاك الله لك حل، ثم قال: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.

 

* * *

 يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون - 105.

(بيان) الاية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم، ويلازموا سبيل هدايتهم ولا يوحشهم ضلال من ضل من الناس فإن الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم، والكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق.

قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " لفظة " عليكم " اسم فعل بمعنى ألزموا، و " أنفسكم " مفعوله.

ومن المعلوم أن الضلال والاهتداء - وهما معنيان متقابلان - إنما يتحققان في سلوك الطريق لا غير، فالملازم لمتن الطريق ينتهى إلى ما ينتهى إليه الطريق، وهو الغاية المطلوبة التى يقصدها الانسان السالك في سلوكه، أما إذا استهان بذلك وخرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الذى تفوت به الغاية المقصودة فالاية تقدر للانسان طريقا يسلكه ومقصدا يقصده غير أنه ربما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضل وليس هناك مقصد يقصده القاصد إلا الحياة السعيدة، والعاقبة الحسنى بلا ريب لكنها مع ذلك تنطق بأن الله سبحانه هو المرجع الذى يرجع إليه الجميع: المهتدى والضال.

فالثواب الذى يريده الانسان في مسيره بالفطرة إنما هو عند الله سبحانه يناله المهتدون، ويحرم عنه الضلال، ولازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لاهل

 

/ صفحة163 /

الهداية والطرق المسلوكة لاهل الضلال تنتهى إلى الله سبحانه، وعنده سبحانه الغاية المقصودة وإن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الانسان إلى البغية والفوز والفلاح أو ضربه بالخيبة والخسران، وكذلك في القرب والبعد كما قال تعالى: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " (الانشقاق: 6) وقال تعالى: " ألا إن حزب الله هم المفلحون " (المجادلة: 22) وقال تعالى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " (إبراهيم: 28) وقال تعالى: " فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون " (البقرة: 186) وقال تعالى: " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى اولئك ينادون من مكان بعيد " (حم السجدة: 44).

بين تعالى في هذه الايات أن الجميع سائرون إليه سبحانه سيرا لا مناص لهم عنه، غير أن طريق بعضهم قصير وفيه الرشد والفلاح، وطريق آخرين طويل لا ينتهى إلى سعادة، ولا يعود إلى سالكه إلا الهلاك والبوار.

وبالجملة فالاية تقدر للمؤمنين وغيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه، وتأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم وينصرفوا عن غيرهم وهم أهل الضلال من الناس ولا يقعوا فيهم ولا يخافوا ضلالهم فإنما حسابهم على ربهم لا على المؤمنين وليسوا بمسؤلين عنهم حتى يهمهم أمرهم، فالاية قريبة المضمون من قوله تعالى: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون " (الجاثية: 14) ونظيرها قوله تعالى: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " (البقرة: 134).

فعلى المؤمن أن يشتغل بما يهم نفسه من سلوك سبيل الهدى، ولا يهزهزه ما يشاهده من ضلال الناس وشيوع المعاصي بينهم ولا يشغله ذلك ولا يشتغل بهم فالحق حق وإن ترك والباطل باطل وإن أخذ به كما قال تعالى: " قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا اولى الالباب لعلكم تفلحون " (المائدة: 100) وقال تعالى: " ولا تستوى الحسنة ولا السيئة " (حم السجدة: 34).

فقوله تعالى: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بناء على ما مر مسوق سوق الكناية

 

/ صفحة164 /

أريد به نهى المؤمنين عن التأثر من ضلال من ضل من الناس فيحملهم ذلك على ترك طريق الهداية كأن يقولوا: إن الدنيا الحاضرة لا تساعد الدين ولا تبيح التنحل بالمعنويات فإنما ذلك من السنن الساذجة وقد مضى زمنه وانقرض أهله، قال تعالى: " وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا " (القصص: 57).

أو يخافوا ضلالهم على هدى أنفسهم فيشتغلوا بهم وينسوا أنفسهم فيصيروا مثلهم فإنما الواجب على المؤمن هو الدعوة إلى ربه والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وبالجملة الاخذ بالاسباب العادية ثم إيكال أمر المسببات إلى الله سبحانه فإليه الامر كله، فأما أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الهلكة فلم يؤمر به، ولا يؤاخذ بعمل غيره، وما هو عليه بوكيل، وعلى هذا فتصير الاية في معنى قوله تعالى: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا، إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " (الكهف: 8)، وقوله تعالى: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى بل لله الامر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " (الرعد: 31) ونحو ذلك.

وقد تبين بهذا البيان أن الاية لا تنافى آيات الدعوة وآيات الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن الاية إنما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم وإهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم وإنجائه.

على أن الدعوة إلى الله والامر بالمعروف والنهى عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه وسلوكه سبيل ربه، وكيف يمكن أن تنافى الاية آيات الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر أو تنسخها؟ وقد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين وأسسه التى بنى عليها كما قال تعالى: " قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى " (يوسف: 108) وقال تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " (آل عمران: 110).

فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الالهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه.

 

/ صفحة165 /

وإذا كانت الاية قدرت للمؤمنين طريقا فيه اهتداؤهم ولغيرهم طريقا من شأنه ضلال سالكيه، ثم أمر المؤمنين في قوله: " عليكم أنفسكم " بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أن نفس المؤمن هو الطريق الذى يؤمر بسلوكه ولزومه فإن الحث على الطريق إنما يلائم الحث على لزومه والتحذير من تركه لا على لزوم سالك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " (الانعام: 153).

فأمره تعالى المؤمنين بلزوم انفسهم في مقام الحث على التحفظ على طريق هدايتهم يفيد أن الطريق الذى يجب عليهم سلوكه ولزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الذى يسلكه إلى ربه وهو طريق هداه، وهو المنتهى به إلى سعادته.

فالاية تجلى الغرض الذى تؤمه إجمالا آيات اخرى كقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون، لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " (الحشر: 20).

فالايات تأمر بأن تنظر النفس وتراقب صالح عملها الذى هو زادها غدا وخير الزاد التقوى فللنفس يوم وغد وهى في سير وحركة على مسافة، والغاية هو الله سبحانه وعنده حسن الثواب وهو الجنة فعليها أن تدوم على ذكر ربها ولا تنساه فإنه سبحانه هو الغاية، ونسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسى ربه نسى نفسه، ولم يعد لغده ومستقبل مسيره زادا يتزود به ويعيش باستعماله وهو الهلاك، وهذا معنى ما رواه الفريقان عن النبي صلى الله ععليه وآله وسلم: من عرف نفسه فقد عرف ربه.

وهذا المعنى هو الذى يؤيده التدبر التام والاعتبار الصحيح فإن الانسان في مسير حياته إلى أي غاية امتدت لا هم له في الحقيقة إلا خير نفسه وسعادة حياته وإن اشتغل في ظاهر الامر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره، قال تعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها ".

وليس هناك إلا هذا الانسان الذى يتطور طورا بعد طور، ويركب طبقا عن طبق من جنين وصبى وشاب وكهل وشيخ ثم الذى يديم الحياة في البرزخ ثم يوم القيامة

 

/ صفحة166 /

ثم ما بعده من جنة أو نار، فهذه هي المسافة التى يقطعها الانسان من موقفه في أول تكونه إلى أن ينتهى إلى ربه، قال تعالى: " وأن إلى ربك المنتهى " (النجم: 42).

 

وهو الانسان لا يطأ موطأ في مسيره ولا يسير ولا يسرى إلا بأعمال قلبية هي الاعتقادات ونحوها وأعمال جوارحية صالحة أو طالحة، وما أنتجه عمله يوما كان هو زاده غدا فالنفس هو طريق الانسان إلى ربه، والله سبحانه هو غايته في مسيره.

وهذا طريق اضطرارى لا مناص للانسان عن سلوكه كما يدل عليه قوله تعالى: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " (الانشقاق: 6)، فهذا طريق ضروري السلوك يشترك فيه المؤمن والكافر والملتفت المتنبه والغافل العامه، والاية لا تريد الحث على لزومه بمعنى البعث على سلوكه ممن لا يسلك.

وإنما تريد الاية تنبيه المؤمنين على هذه الحقيقة بعد غفلتهم عنها، فإن هذه الحقيقة كسائر الحقائق التكوينية وإن كانت ثابتة غير متغيرة بالعلم والجهل لكن التفات الانسان إليها يؤثر في عمله تأثيرا بارزا، والاعمال التى تربى النفس الانسانية تربية مناسبة لسنخها وإذا كان العمل ملائما لواقع الامر مناسبا لغاية الصنع والايجاد كانت النفس المستكملة بها سعيدة في جدها، غير خائبة في سعيها ولا خاسرة في صفقتها، وقد مر بيان ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب بما لا يبقى معه ريب.

وتوضيح ذلك بما يناسب هذا المقام أن الانسان كغيره من خلق الله سبحانه واقع تحت التربية الالهية من دون أن يفوته تعالى شئ من أمره، وقد قال تعالى: " ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم " (هود: 56) وهذه تربية تكوينية على حد ما يربى الله سبحانه غيره من الامور، في مسيرها جميعا إليه تعالى، وقد قال: " ألا إلى الله تصير الامور " (الشورى: 53) ولا يتفاوت الامر ولا يختلف الحال في هذه التربية بين شئ وشئ فإن الصراط مستقيم، والامر متشابه مطرد، وقد قال تعالى أيضا: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " (الملك: 3).

وقد جعل سبحانه غاية الانسان وما ينتهى إليه أمره ويستقر عليه عاقبته من حيث السعادة والشقاوة والفلاح والخيبة مبنية على أحوال وأخلاق نفسانية مبنية على أعمال من الانسان تنقسم تلك الاعمال إلى صالحة وطالحة وتقوى وفجور كما قال تعالى: " ونفس

 

/ صفحة167 /

وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " (الشمس: 10) فالايات - كما ترى - تضع النفس المسواة في جانب وهو مبدء الحال، والفلاح والخيبة في جانب وهو الغاية ومنتهى المسير، ثم تبنى الغايتين أعنى الفلاح والخيبة على تزكية النفس وتدسيتها وذلك مرحلة الاخلاق، ثم تبنى الفضيلة والرذيلة على التقوى والفجور أعنى الاعمال الصالحة والطالحة التى تنطق الايات بأن الانسان ملهم بها من جانب الله تعالى.

والايات في بيانها لا تتعدى طور النفس بمعنى أنها تعتبر النفس هي المخلوقة المسواة وهى التى أضيف إليها الفجور والتقوى، وهى التى تزكى وتدسى، وهى التى يفلح فيها الانسان ويخيب، وهذا كما عرفت جرى على مقتضى التكوين.

لكن هذه الحقيقة التكوينية أعنى كون الانسان في حياته سائرا في مسير نفسه لا يسعه التخطي عنها ولو بخطوة، ولا تركها والخروج منها ولو لحظة، لا يتساوى حال من تنبه له وتذكر به تذكرا لازما لا يتطرق إليه نسيان، وحال من غفل عنه ونسى الواقع الذى لا مفر له منه، وقد قال تعالى: " هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر اولوا الالباب " (الزمر: 9).

وقال تعالى: " فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربى لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " (طه: 126).

وذلك أأن المتنبه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربه ونسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره وقد كان يجدها على غير هذا النعت ومضروبا دونها الحجاب لا يمسها بالاحاطة والتأثير إلا ربها المدبر لامرها الذى يدفعها من ورائها ويجذبها إلى قدامها بقدرته وهدايته، ووجدها خالية بربها ليس لها من دونه من وال، وعند ذلك يفقه معنى قوله تعالى: " إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون " بعد قوله: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " ومعنى قوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " (الانعام: 122).

 

/ صفحة168 /

وعند ذلك يتبدل إدراك النفس وشعورها، ويهاجر من موطن الشرك إلى موقف العبودية ومقام التوحيد، ولا يزال يعوض شركا من توحيد وتوهما من تحقق وبعدا من قرب واستكبارا شيطانيا من تواضع رحماني واستغناء وهميا من فقر عبودي إن أخذت بيدها العناية الالهية وساقها سائق التوفيق.

ونحن وإن كان لا يسعنا أن نفقه هذه المعاني حق الفقه لمكان إخلادنا إلى الارض واشتغالنا عن الغوص في أغوار هذه الحقائق التى يكشف عنها الدين ويشير إليها الكتاب الالهى بما لا يعنينا من فضولات هذه الحياة الفانية التى لا يعرفها الكلام الالهى في بيانه إلا بأنها لعب ولهو كما قال تعالى: " وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " (الانعام: 32) وقال تعالى: " ذلك مبلغهم من العلم " (النجم: 30).

إلا أن الاعتبار الصحيح والبحث البالغ والتدبر الوافى يوصلنا إلى التصديق بكلياتها إجمالا وإن قصرنا عن إحصاء التفاصيل والله الهادى.

ولعلنا خرجنا عن طور الاختصار فلنرجع إلى أول الكلام فنقول: وتسع الاية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: " يا أيها الذين آمنوا " مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: " عليكم أنفسكم " هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الاسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الالهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية والاعمال الصالحة والشعائر الاسلامية العامة كما قال تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " (آل عمران: 103) وقد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الاخذ بالكتاب والسنة.

ويكون قوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " يراد به أنهم في أمن من أضرار المجتمعات الضالة غير الاسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الاسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم.

أو أنه لا يجوز لهم أن ينسلوا مما بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالة من الانهماك في الشهوات والتمتع من مزايا العيش الباطلة فإن الجميع مرجعهم إلى الله فينبئهم بما كانوا يعملون، وتجرى الاية على هذا مجرى قوله تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " (آل عمران:

 

/ صفحة169 /

197)، وقوله: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا " (طه: 131).

وهنا معنى آخر لقوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " من جهة أن المنفى في الاية هو الاضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شئ معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الاطلاق، ويكون المعنى نفى أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الاسلامي بتبديله مجتمعا غير إسلامى بقوة قهرية فتكون الاية مسوقه ة سوق قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون " (المائدة: 3)، وقوله: " لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار " (آل عمران: 111).

وقد ذكر جمع من مفسري السلف أن مفاد الاية هو الترخيص في ترك الدعوة الدينية والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وذكروا أن الاية خاصة تختص بزمان أو حال لا يوجد فيه شرط الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو الامن من الضرر وقد رووا في ذلك روايات ستأتي الاشارة إليها في البحث الروائي الاتى.

ولازم هذا المعنى أن يكون قوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " كناية عن انتفاء التكليف أي لا تكليف عليكم في ذلك وإلا فتضرر المجتمع الدينى من شيوع الضلال من كفر أو فسق مما لا يرتاب فيه ذو ريب.

لكن ذلك معنى بعيد لا يحتمله سياق الاية فإن الاية لو أخذت مخصصة لعمومات وجوب الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر فلسانها ليس لسان التخصيص، وإن أخذت ناسخة فآيات الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر آبية من النسخ، وللكلام تتمة ستوافيك.

(بحث روائي) في الغرر والدرر للامدي عن على (عليه السلام) قال: من عرف نفسه عرف ربه.

اقول: ورواه الفريقان عن النبي أيضا، وهو حديث مشهور، وقد ذكر بعض العلماء: أنه من تعليق المحال، ومفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الاحاطة العلمية

 

/ صفحة170 /

بالله سبحانه، ورد أولا بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رواية أخرى: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه، وثانيا بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ".

وفيه عنه (عليه السلام): قال: الكيس من عرف نفسه وأخلص أعماله.

اقول: تقدم في البيان السابق معنى ارتباط الاخلاص وتفرعه على الاشتغال بمعرفة النفس.

وفيه عنه (عليه السلام): قال: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين.

اقول: الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالايات الانفسية والمعرفة بالايات الافاقية، قال تعالى: " سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد " " حم السجدة: 53 " وقال تعالى: " وفي الارض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون " (الذاريات: 21).

وكون السير الا نفسي أنفع من السير الافاقى لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الافاقية، وذلك أن كون معرفة الايات نافعة إنما هو لان معرفة الايات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله ككونه تعالى حيا لا يعرضه موت، وقادرا لا يشوبه عجز، وعالما لا يخالطه جهل، وأنه تعالى هو الخالق لكل شئ، والمالك لكل شئ، والرب القائم على كل نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.

وهذه وأمثالها معارف حقة إذا تناولها الانسان وأتقنها مثلت له حقيقة حياته، وأنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية، وهذا موقف علمي يهدى الانسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الاخرة، وهى التى نسميها بالدين، فإن السنة التى يلتزمها الانسان في حياته، ولا يخلو عنها حتى البدوى والهمجى إنما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث إنه يقدر لنفسه نوعا من الحياة أي نوع كان،

 

/ صفحة171 /

ثم يعمل بما استحسنه من السنة لاسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان.

فالحياة التى يقدرها الانسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدى بها إلى الاعمال التى تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الانسان عمله عليها وهو السنة أو الدين.

فتخلص مما ذكرنا أن النظر في الايات الانفسية والافاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهدى الانسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الالهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الانسانية المؤبدة له عند ذلك، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوة.

وهذه هداية إلى الايمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معا أعنى طريقي النظر إلى الافاق والانفس فهما نافعان جميعا غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والاحوال الحسنة أو السيئة التى تقارنها.

واشتغال الانسان بمعرفة هذه الامور والاذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، والالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الايات الافاقية فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الاخلاق ورذائلها، وتحليتها بالفضائل الروحية لكنه ينادى لذلك من مكان بعيد، وهو ظاهر.

وللرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الابحاث الحقيقية في علم النفس وهو أن النظر في الايات الافاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكرى وعلم حصولي بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها فإنه نظر شهودي وعلم حضوري، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الاقيسة واستعمال البرهان، وهو باق ما دام الانسان متوجها إلى مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها، ولذلك يزول العلم بزوال الاشراف على دليله وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف.

وهذا بخلاف العلم النفساني بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنه من العيان فإذا اشتغل الانسان بالنظر إلى آيات نفسه، وشاهد فقرها إلى ربها، وحاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمرا عجيبا، وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء متصلة في

 

/ صفحة172 /

وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها وسائر صفاتها وأفعالها بما لا يتناهى بهاء وسناء وجمالا وجلالا وكمالا من الوجود والحياة والعلم والقدرة، وغيرها من كل كمال.

وشاهد ما تقدم بيانه أن النفس الانسانية لا شأن لها إلا في نفسها، ولا مخرج لها من نفسها، ولا شغل لها إلا السير الاضطراري في مسير نفسها، وأنها منقطعة عن كل شئ كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلا ربها المحيط بباطنها وظاهرها وكل شئ دونها فوجدت أنها دائما في خلا مع ربها وإن كانت في ملا من الناس.

وعند ذلك تنصرف عن كل شئ وتتوجه إلى ربها وتنسى كل شئ وتذكر ربها فلا يحجبه عنها حجاب ولا تستتر عنه بستر وهو حق المعرفة الذى قدر لانسان.

وهذه المعرفة الاحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله، وأما المعرفة الفكرية التى يفيدها النظر في الايات الافاقية سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية، وجل الاله أن يحيط به ذهن أو تساوى ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه، ولا يحيطون به علما.

وقد روى في الارشاد والاحتجاج على ما في البحار عن الشعبى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: إن الله أجل من أن يحتجب عن شئ أو يحتجب عنه شئ.

وفي التوحيد عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في كلام له: ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور لا إله إلا هو الكبير المتعال.

وفي التوحيد مسندا عن عبد الاعلى عن الصادق (عليه السلام) في حديث: ومن زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لان الحجاب والصورة والمثال غيره، وإنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه يوحده بغيره إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره، الحديث.

والاخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في معنى ما قدمناه كثيرة جدا لعل الله يوفقنا لايرادها وشرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الاعراف.

فقد تحصل أن النظر في آيات الانفس أنفس وأغلى قيمة وأنه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب، وعلى هذا فعده (عليه السلام) إياها أنفع المعرفتين لا معرفة متعينة إنما هو

 

/ صفحة173 /

لان العامة من الناس قاصرون عن نيلها، وقد أطبق الكتاب والسنة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقى وهو النظر الشائع بين المؤمنين فالطريقان نافعان جميعا لكن النفع في طريق النفس أتم وأغزر.

وفي الدرر والغررعن على (عليه السلام) قال: العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها.

اقول: أي أعتقها عن أسارة الهوى ورقية الشهوات.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: أعظم الجهل جهل الانسان أمر نفسه.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: أعظم الحكمة معرفة الانسان نفسه.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه.

اقول: وذلك لكونه أعلمهم بربه وأعرفهم به، وقد قال الله سبحانه: " إنما يخشى الله من عباده العلماء ".

وفيه عنه (عليه السلام) قال: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل، ومن جهلها ضل.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: عجبت لمن ينشد ضالته، وقد أضل نفسه فلا يطلبها.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه؟.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه.

أقول: وقد تقدم وجه كونها غاية المعرفة فإنها المعرفة حقيقة.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: كيف يعرف غيره من يجهل نفسه.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه، وكفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: من عرف نفسه تجرد.

 

/ صفحة174 /

اقول: أي تجرد عن علائق الدنيا، أو تجرد عن الناس بالاعتزال عنهم، أو تجرد عن كل شئ بالاخلاص لله.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: من عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: من عرف نفسه جل أمره.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: من عرف نفسه كان لغيره أعرف ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، وخبط في الضلال والجهالات.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: معرفة النفس أنفع المعارف.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: نال الفوز الاكبر من ظفر بمعرفة النفس.

وفيه عنه (عليه السلام) قال: لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شئ.

وفي تحف العقول عن الصادق (عليه السلام) في حديث: من زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك، ومن زعم أنه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد أقر بالطعن لان الاسم محدث، ومن زعم أنه يعبد الاسم والمعنى فقد جعل مع الله شريكا، ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غائب، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره.

قيل له: فكيف سبيل التوحيد؟ قال: باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود إن معرفة عين الشاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه.

قيل: وكيف يعرف عين الشاهد قبل صفته؟ قال: تعرفه وتعلم علمه، وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه كما قالوا ليوسف: " إنك لانت يوسف " قال: " أنا يوسف وهذا أخى " فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره، ولا أثبتوه

 

/ صفحة175 /

من أنفسهم بتوهم القلوب، الحديث.

أقول: قد أوضحنا في ذيل قوله (عليه السلام): المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين (الرواية الثانية من الباب) أن الانسان إذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها انقطع إلى ربه من كل شئ، وعقب ذلك معرفه ربه معرفة بلا توسيط وسط، وعلما بلا تسبيب سبب إذ الانقطاع يرفع كل حجاب مضروب، وعند ذلك يذهل الانسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه، وأحرى بهذه المعرفة أن تسمى معرفة الله بالله.

وانكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكا لا تستقل بشئ دونه، وهذا هو المراد بقوله (عليه السلام): " تعرف نفسك به، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه ".

وفي هذا المعنى ما رواه المسعودي في إثبات الوصية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في خطبة له: " فسبحانك ملات كل شئ وباينت كل شئ فأنت لا يفقدك شئ وأنت الفعال لما تشاء تباركت يا من كل مدرك من خلقه، وكل محدود من صنعه.

- إلى أن قال - سبحانك أي عين تقوم نصب بهاء نورك، وترقى إلى نور ضياء قدرتك، وأى فهم يفهم ما دون ذلك إلا أبصار كشفت عنها الاغطية، وهتكت عنها الحجب العمية، فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الارواح، فناجوك في أركانك، وولجوا بين أنوار بهائك، ونظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك، فسماهم أهل الملكوت زوارا، ودعاهم أهل الجبروت عمارا ".

وفي البحار عن إرشاد الديلمى - وذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث - وفيه: " فمن عمل برضائى ألزمه ثلاث خصال: أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل وذكرا لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتى محبة المخلوقين.

فإذا أحبنى أحببته، وأفتح عين قلبه إلى جلالى، ولا أخفى عليه خاصة خلقي، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأعرفه السر الذى سترته عن خلقي، وألبسه الحياء حتى يستحيى منه الخلق كلهم، ويمشى على الارض مغفورا له، وأجعل قلبه واعيا

 

/ صفحة176 /

وبصيرا، ولا أخفى عليه شيئا من جنة ولا نار، وأعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة، وما أحاسب به الاغنياء والفقراء والجهال والعلماء، وأنومه في قبره وأنزل عليه منكرا ونكيرا حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشورا ثم لا أجعل بينى وبينه ترجمانا، فهذه صفات المحبين.

يا أحمد اجعل همك هما واحدا، واجعل لسانك لسانا واحدا، واجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا، من يغفل عنى لا أبالى بأى واد هلك ".

و الروايات الثلاثة الاخيرة وإن لم يكن من أخبار هذا البحث المعقود على الاستقامة إلا أنا إنما أوردناها ليقضى الناقد البصير بما قدمناه من أن المعرفة الحقيقية لا تستوفى بالعلم الفكري حق استيفائها فإن الروايات تذكر امورا من المواهب الالهية المخصوصة بأوليائه لا ينتجها السير الفكري البتة.

وهى أخبار مستقيمة صحيحة تشهد على صحتها الكتاب الالهى على ما سنبين ذلك فيما سيوافيك من تفسير سورة الاعراف إن شاء الله العزيز.

وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " (الاية)، قال: قال (عليه السلام): أصلحوا أنفسكم ولا تتبعوا عورات الناس ولا تذكروهم فإنه لا يضركم ضلالتهم إذا أنتم صالحون.

اقول: والرواية منطبقة على ما قدمناه في البيان السابق أن الاية متوجهة إلى النهى عن التعرض لاصلاح حال الناس أزيد من متعارف الدعوة والامر بالمعروف و النهى عن المنكر، وليست مسوقة للترخيص في ترك فريضة الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر.

وفي نهج البيان عن الصادق (عليه السلام): أنه قال: نزلت هذه الاية في التقية.

اقول: مفاد الرواية أن الاية خاصة بصورة التقية من أهل الضلال في الدعوة إلى الحق والامر بالمعروف والنهى عن المنكر لمكان اشتراط ذلك شرعا بعدم التقية، وقد تقدم في البيان السابق أن ظاهر الاية لا تساعد على ذلك.

 

/ صفحة177 /

وقد روى في الدر المنثور عن مفسري السلف قول جمع منهم بذلك كابن مسعود وابن عمر وأبى بن كعب وابن عباس ومكحول، وما روى في ذلك من الروايات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير دالة على ذلك.

وهى ما عن الترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير والبغوى في معجمه وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني وأبى الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبى امية الشعبانى قال: أتيت أبا ثعلبة الخشنى فقلت له: كيف تصنع هذه الاية؟ قال: أيه آية؟ قال: (1) قوله: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم.

أقول: وفي هذا المعنى ما رواه ابن مردويه عن معاذ بن جبل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والرواية إنما تدل على أن الامر بالمعروف و النهى عن المنكر لم يرتفعا بالاية.

وفي الدر المنثور: أخرج أحمد وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبى عامر الاشعري: أنه كان فيهم شئ فاحتبس على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الاية: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين ذهبتم؟ إنما هي: لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم.

اقول: والرواية كما ترى تخص الامر في الاية بالترخيص في ترك دعوة الكفار إلى الحق وتصرفها عن الترخيص في ترك الامر بالمعروف والنهى عن المنكر في الفروع مع أن آيات وجوب الدعوة وما يتبعها من آيات الجهاد ونحوها لا تقصر في الاباء عن ذلك عن آيات الامر بالمعروف والنهى عن المنكر.

 

 

* (هامش) *

(1) قلت.

ظ (*)

 

/ صفحة178 /

وفيه: أخرج ابن مردويه عن أبى سعيد الخدرى قال: ذكرت هذه الاية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله عزوجل: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " فقال نبى الله صلى الله ععليه وسلم: لم يجئ تأويلها، لا يجئ تأويلها حتى يهبط عيسى بن مريم (عليه السلام).

اقول: والكلام في الرواية نظير الكلام فيما تقدم.

وفيه: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن حذيفة: في قوله: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " قال: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر.

اقول: وهو معنى معتدل مآله إلى ما ذكرناه، وروى مثله عن سعيد بن المسيب.

(بحث علمي) ملفق من إشارات تاريخية وأبحاث أخر نفسية وغير ذلك في فصول: 1 - لم يزل الانسان فيما نعلم - حتى الانسان الاولى - يقول في بعض قوله: " أنا " و " نفسي " يحكى به عن حقيقة من الحقائق الكونية وهو لا محالة يدرى ما يقول ويعلم ما يريد غير أن انصراف همه إلى تعبئة أركان الحياة البدنية واشتغاله بالاعمال الجسمية لرفع الحوائج المادية يصرفه عن التعمق في أمر هذه النفس المحكى عنها بقوله: " أنا " و " نفسي " وربما ألقى ذلك في وهمه أن ذلك هو البدن لا غير.

وربما وجد الانسان أن الفارق بين الحى والميت بحسب ظهور الحس هو النفس الذى يتنفس به الانسان ما دام حيا فإذا فقده أو سد عليه مجاريه عاد ميتا لا يشعر بشئ وبطل وجوده وانعدمت شخصيته وانيته فأذعن أن النفس هو النفس (محركة) وهو الريح أو نوع خاص من الريح فسماه لذلك روحا، وقضى أن الانسان هو المجموع من الروح والبدن.

أو رأى ان الحس والحركة البدنيين كأنهما رهينا ما يحتبس في البدن من الدم السارى في أعضائه أو الجارى في عروقه من شرائين وأوردة وان الحياة التى ترتحل الانسانية بارتحالها متعلقة بهذا المائع الاحمر وجودا وعدما فحكم بأن النفس هو الدم

 

/ صفحة179 /

فسمى النفس دما بل الدم نفسا سائلة أو غير سائلة.

وربما دعى الانسان ما يشاهده من أمر النطفة أن المنى حينما يلتقمه الرحم ويطرؤه التطور الكونى طورا بعد طور هو الذى يصير إنسانا، ان يذهب إلى ان النفس الانسانية هي الاجزاء الاصلية المجتمعة في النطفة، وهى باقية في البنية البدنية مدى الحياة، وربما ذهب الذاهب إلى أنها مصونة عن التغير والبطلان، وان الانسانية باقية ببقائها لا تنالها يد الحدثان ولا انها تقبل البطلان والانعدام مع ان النفس الانسانية لو كانت هذه الاجزاء المنعوتة سواء اشترطنا فيها الاجتماع على هيئة خاصة أو لم نشترط استلزم ذلك القول بمحالات كثيرة مذكورة في محله.

فهذه الاقاويل وأمثالها لا تنافى ما يناله الانسان وهو إنسان من حقيقة قوله: " أنا " و " نفسي " ولا يخطئ فيه البتة إذ ليس من البعيد ان نكون ندرك حقيقة من الحقائق الكونية إجمالا إدراكا غير خاطئ ثم نأخذ في البحث عن هويته وواقع أمره تفصيلا فنخطئ فيه عند ذاك، فهناك موضوعات علمية كثيرة كالمحسوسات الظاهرية أو الباطنية نشاهدها مشاهدة عيان - على الرغم من السوفسطائيين والشكاكين - ثم العلماء لا يزالون يختلفون في أمرها خلفا عن سلف.

وكذلك العامة من غير أهل البحث يشاهدون من أنفسهم ما يشاهده الخاصة من غير فرق البتة وهم على جهل من أمر تفصيله عاجزون عن تفسير الخصوصيات وجوده.

وبالجملة مما لا ريب فيه أن الانسان في جميع أحيان وجوده يشاهد أمرا غير خارج منه يعبر عنه بأنا ونفسي، وإذا لطف نظره وتعمق خائضا فيما يجده في مشاهدته هذه وجده شيئا على خلاف ما يجده من الامور الجسمانية القابلة للتغير والانقسام والاقتران بالمكان والزمان، ووجده غير هذا البدن المادى المحكوم بأحكام المادة بأعضائه وأجزائه فإنه ربما نسى أي عضو من أعضائه أو غفل عن جميع بدنه وهو لا ينسى نفسه ولا يغفل عنها، دع عنك ما ربما تقوله: نسيت نفسي، غفلت عن نفسي، ذهلت عن نفسي فهذه مجازات عن عنايات نفسانية مختلفة، ألا ترى أنك تسند النسيان والغفلة والذهول حينئذ إلى نفسك وتحكم بأن نفسك الشاعرة شعرت بأمر وغفلت عن أمر تسميه نفسك كالبدن ونحوه؟.

 

/ صفحة180 /

ودع عنك ما ربما يتوهم ان المغمى عليه يغفل عن ذاته ونفسه فإن الذى يجده هذا الانسان بعد انقضاء حال الاغماء انه لا يذكر شعوره بنفسه حالة الاغماء لا انه يذكر أنه كان غير شاعر بها، وبين المعنيين فرق، وربما يذكر بعض المغمى عليهم من حالة إغمائه شيئا بشبه الرؤيا التى نذكرها من حال المنام.

وكيف كان لا ينبغى الارتياب في أن الانسان بما انه إنسان لا يخلو عن هذا الشعور النفسي الذى يمثل له حقيقة نفسه التى يعبر عنها بأنا، ولو انه استأنس قليل استيناس بما يشاهده من نفسه على انصراف من التقسم إلى مشاغله البدنية وأمانية المادية قضى بما تقدم ان نفسه أمر مغاير لسنخ المادة والماديات لما يشاهد من مغايرة خواص نفسه وآثارها لخواص الامور المادية وآثارها.

غير ان الاشتغال بالمشاغل اليومية وصرف الهم إلى أمانى الحياة المادية ورفع الحوائج البدنية يدعوه إلى إهمال الامر والاذعان بشئ من تلك الاراء الساذجة الابجدية والوقف على إجمال المشاهدة.

2 - الفرد العادى من الانسان وإن كان شغله هم الغذاء والمسكن والملبس والمنكح عن الغور في حقيقة نفسه والبحث في زوايا ذاته، لكن الحوادث المختلفة الهاجمة عليه في خلال أيام حياته ربما لم تخل من عوامل توجهه إلى الانصراف عن غيره والخلوة بنفسه كالخوف الشديد الذى تنزعج به النفس عن كل شئ وترجع إلى نفسها كالاخذة الممسكة عليها حذرا من الفناء والزوال، وكالسرور والترح الموجب لانجذاب النفس إلى ما تستلذ به، وكالغرام الشديد المنجر إلى الوله بالمحبوب المطلوب بحيث لا هم إلا همه، وكالاضطرار الشديد الذى ينقطع به الانسان عن كل شئ إلى نفسه، إلى غير ذلك من العوامل الاتفاقية.

هذه العوامل المختلفة والاسباب المتنوعة ربما أدى الانسان واحد منها أو أزيد من واحد إلى ان يتمثل عنده بعض ما لا يكاد تناله الحواس الظاهرة أو الفكرة الخالية، كالواقع في مكان مظلم موحش أدهشه الخوف على نفسه فإنه يبصر أشياء مخوفة أو يسمع أصواتا هائلة تهدده في نفسه، وهو الذى ربما يسمونه غولا أو هاتفا أو جنا ونحو ذلك.

وربما أحاط به الحب الشديد أو الحسرة والاسف الشديدان فحال بينه وبين

 

/ صفحة181 /

حواسه الظاهرية، وركز شعوره فيما يحبه أو يأسف عليه، فرأى في حال المنام أو في حال من اليقظة يشبه حالة المنام، امورا مختلفة من الوقائع الماضية أو الحوادث المستقبلة أو خبايا وخفايا تخفى على حواس غيره.

وربما كانت الارادة إذا شفعت باليقين والايمان الشديد والاذعان الجازم تفعل أفعالا لا يقدر عليها الانسان المتعارف، ولا ان الاسباب العادية يسعها ان تهدى إلى ذلك.

فهذه حوادث جزئية: نادرة - بالنسبة إلى عامة الحوادث العادية - تحدث عن حدوث عوامل مختلفة مرت الاشارة إليها: أما أصل وقوعها فمما ليس كثير حاجة إلى تجشم الاستدلال عليه فكل منا لا يخلو من أن يذكر من نفسه أو من غيره ما يشهد به، وأما أن السبب الحقيقي العامل فيها ما هي؟ فليس ههنا محل الاشتغال به.

والذى يهمنا التنبه عليه هو أن هذه الامور جميعا تتوقف في وقوعها على نوع من انصراف النفس عن الاشتغال بالامور الخارجة عنها - وخاصة اللذائذ الجسمانية - وانعطافها إلى نفسها، ولذا كان الاساس في جميع الارتياضات النفسانية - على تنوعها و تشتتها الخارج عن الاحصاء - هو مخالفة النفس في الجملة، وليس إلا لان انكباب النفس على مطاوعة هواها يصرفها عن الاشتغال بنفسها، ويهديها إلى مشتهياتها الخارجة، فيوزعها عليها ويقسم شعورها بينها، فتأخذ بها وتترك نفسها.

3 - لا ينبغى لنا أن نشك في أن العوامل الداعية إلى هذه الاثار النفسانية كما تتم لبعض الافراد موقتا وفي أحايين يسير،، ربما تتم لبعض آخر ثابتة مستمرة أو تمكث مكثا معتدا به فكثيرا ما نجد أشخاصا متزهدين عن الدنيا ولذائذها المادية ومشتهياتها الفانية لا هم لهم إلا ترويض النفس والاشتغال بسلوك طريق الباطن.

ولا ينبغى لنا أن نشك في أن هذه المشغلة النفسية ليست سنة مبتدعة في زماننا هذا، فالنقل والاعتبار يدلان على أنها كانت من السنن الدائرة بين الناس، كلما رجعنا القهقرى فهى من السنن اللازمة للانسانية إلى أقدم عهودها التى نزلت في هذه الارض على ما نحسب.

4 - البحث عن حال الامم والتأمل في سننهم وسيرهم وتحليل عقائدهم وأعمالهم يفيد أن الاشتغال بمعرفة النفس على طرقها المختلفة للحصول على عجائب آثارها، كان

 

/ صفحة182 /

دائرا بينهم بل مهمة نفيسة تبذل دونها أنفس الاوقات وأغلى الاثمان منذ أقدم الاعصار.

ومن الدليل عليه أن الاقوام الهمجية الساكنة في أطراف المعمورة، كإفريقية وغيرها ويوجد بينهم حتى اليوم بقايا من أساطير السحر والكهانة والاذعان بحقيقتهما وإصابتهما.

والاعتبار الدقيق فيما نقل الينا من المذاهب والاديان القديمة كالبرهمانية والبوذية والصابئة والمانوية والمجوسية واليهودية والنصرانية والاسلام، كل ذلك يعطى أن المهمة معرفة النفس والحصول على آثارها تسربا عميقا فيها وإن كانت مختلفة في وصفها وتلقينها وتقويمها.

فالبرهمانية - وهى مذهب هند القديم - وإن كانت تخالف الاديان الكتابية في التوحيد وأمر النبوة غير أنها تدعو إلى تزكية النفس وتطهير السر وخاصة للبراهمة أنفسهم.

نقل عن البيرونى في كتاب ما للهند من مقولة قال: عمر البرهمن بعد مضى سبع سنين منه منقسم لاربعة أقسام: فأول القسم الاول هي السنة الثامنة يجتمع إليه البراهمة لتنبيهه وتعريفه الواجبات عليه، وتوصيته بالتزامها واعتناقها ما دام حيا.

 

قال: وقد دخل في القسم الاول إلى (1) السنة الخامسة والعشرين من سنه إلى السنة الثامنة و الاربعين، فيجب عليه فيها أن يتزهد ويجعل الارض وطاءه، ويقبل على تعلم " بيذ " وتفسيره علم الكلام والشريعة من استاذ يخدمه آناء ليله ونهاره، ويغتسل كل يوم ثلاث مرات، ويقدم قربان النار في طرفي النهار، ويسجد لاستاذه بعد القربان، ويصوم يوما ويفطر يوما مع الامتناع عن اللحم أصلا، ويكون مقامه في دار الاستاذ، ويخرج منها السؤال والكدية من خمسة بيوت فقط كل يوم مرة عند الظهيرة أو المساء، فما وجد من صدقة وضعه بين يدى استاذه ليتخير منه ما يريد ثم يأذن له في الباقي فيتقوت بما فضل منه، ويحمل إلى النار حطبها، فالنار عندهم معظمة والانوار مقتربة.

وكذلك عند سائر الامم فقد كانوا يرون تقبل القربان بنزول النار عليها، ولم يثنهم

 

* (هامش) *

(1) من ظ.

(*)

 

/ صفحة183 /

عنها عبادة أصنام أو كواكب أو بقر أو حمير أو صور.

قال: وأما القسم الثاني فهو من السنة الخامسة والعشرين إلى الخمسين أو إلى السبعين، وفيه يأذن له الاستاذ في التأهل فيتزوج ويقصد النسل.

وذكر كيفية معاشرته أهله والناس وارتزاقه وسيرته.

ثم قال: وأما القسم الثالث فهو من الخمسين إلى الخامسة والسبعين أو إلى التسعين، وفي هذا القسم يتزهد ويخرج من زخارى الحياة ويسلم زوجه إلى أولاده إن لم تصحبه إلى الصحارى، ويستمر خارج العمران على سيرته في القسم الاول، ولا يستكن تحت سقف، ولا يلبس إلا ما يوارى سوأته من لحاء الشجر، ولا ينام إلا على الارض بغير وطاء، ولا يتغذى إلا بالثمار والنبات واصوله، ويطول الشعر ولا يدهن.

قال: وأما القسم الرابع فهو إلى آخر العمر يلبس فيه لباسا أحمر، ويأخذ بيده قضيبا، ويقبل على الفكر وتجريد القلب من الصداقات والعداوات، ويرفض الشهوة والحرص والغضب، ولا يصاحب أحدا البتة.

فإن قصد موضعا ذا فضل طلبا للثواب لم يقم في طريقه في قرية أكثر من يوم، وفي بلد أكثر من خمسة أيام، وإن دفع له أحد شيئا لم يترك منه للغد بقية، وليس له إلا الدؤوب على شرائط الطريق المؤدى إلى الخلاص والوصول إلى المقام الذى لا رجوع فيه إلى الدنيا، ثم ذكر الاحكام العامة التى يجب على البرهمن العمل بها في جميع عمره، انتهى موضع الحاجة من كلامه.

وأما سائر الفرق المذهبية من الهنود كالجوكية أصحاب الانفاس والاوهام (1) وكأصحاب الروحانيات وأصحاب الحكمة وغيرهم، فلكل طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس.

وأما البوذية فبناء مذهبهم على تهذيب النفس ومخالفة هواها وتحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة، وقد كان هذا هو الطريقة التى سلكها بوذا نفسه في حياته، فالمنقول أنه كان من أبناء الملوك أو الرؤساء فرفض زخارف الحياة، وهجر أريكة

 

* (هامش) *

(1) وليرجع في تعرف حالهم إلى كتاب نفائس الفنون.

(*)

 

/ صفحة184 /

العرش إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه، واعتزل الناس، وترك التمتع بمزايا الحياة، وأقبل على رياضة نفسه والتفكر في أسرار الخلقة حتى قذفت المعرفة في قلبه وسنه إذ ذاك ستة وثلاثون وعند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس وتحصيل المعرفة ولم يزل على ذلك قريبا من أربع وأربعين سنة على ما في التواريخ.

وأما الصابئون ونعنى بهم أصحاب الروحانيات وأصنامها فهم وإن أنكروا أمر النبوة غير أن لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانية طرقا لا تختلف كثيرا عن طرق البراهمة والبوذيين، قالوا - على ما في الملل والنحل -: إن الواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية حتى يحصل مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات فنسأل حاجاتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبو في جميع امورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم، وهذا التطهير ليس يحصل إلا باكتسابنا ورياضتنا وفطامنا أنفسنا عن دنيئات الشهوات استمدادا من جهة الروحانيات، والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات، وإقامة الصلوات، وبذل الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات، وتعزيم العزائم فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة، انتهى.

وهؤلاء وإن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والايجاد لكنهم متفقوا الرأى في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة وسعادة النشأة.

وأما المانوية من الثنوية فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوى وهبوطها إلى هذه الشبكات المادية المظلمة المسماة بالابدان، وان سعادتها وكمالها في التخلص من دار الظلمة إلى ساحة النور إما اختيارا بالترويض النفساني، وإما اضطرارا بالموت الطبيعي، معروف.

 

وأما أهل الكتاب ونعنى بهم اليهود والنصارى والمجوس فكتبهم المقدسة وهى العهد العتيق والعهد الجديد وأوستا مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس وتهذيبها ومخالفة هواها.

ولا تزال كتب العهدين تذكر الزهد في الدنيا والاشتغال بتطهير السر، ولا يزال

 

/ صفحة185 /

يتربى بينهم جم غفير من الزهاد وتاركي الدنيا جيلا بعد، جيل وخاصة النصارى فإن من سننهم المتبعة الرهبانية.

وقد ذكر أمر رهبانيتهم في القرآن الشريف قال تعالى: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " (المائدة: 82)، وقال تعالى: " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " (الحديد: 27)، كما ذكر المتعبدون من اليهود في قوله: " ليسوا سواء من أهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الاخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين " (آل عمران: 114).

وأما الفرق المختلفة من أصحاب الارتياضات والاعمال النفسية كأصحاب السحر والسيمياء وأصحاب الطلسمات وتسخير الارواح والجن وروحانيات الحروف والكواكب وغيرها وأصحاب الاحضار وتسخير النفوس، فلكل منهم ارتياضات نفسية خاصة تنتج نوعا من السلطة على أمر النفس.

(1) وجملة الامر على ما يتحصل من جميع ما مر: أن الوجهة الاخيرة لجميع أرباب الاديان والمذاهب والاعمال هو تهذيب النفس بترك هواها والاشتغال بتطهيرها من شوب الاخلاق والاحوال غير المناسبة للمطلوب.

5 - لعلك ترجع وتقول: إن الذى ثبت من سنن أرباب المذاهب والطرق وسيرهم هو الزهد في الدنيا وهو غير مسألة معرفة النفس أو الاشتغال بأمر النفس بالمعنى الذى تقدم البحث عنه.

وبلفظ أوضح: الذى يندب إليه الاديان والمذاهب التى تدعو إلى العبودية بنحو أن يتزهد الانسان نوع تزهد في الدنيا بإتيان الاعمال الصالحة وترك الهوى والاثام ورذائل الاخلاق ليتهيأ بذلك لاحسن الجزاء إما في الاخرة كما يصرح به الاديان النبوية كاليهودية والنصرانية والاسلام، أو في الدنيا كما استقر عليه دين الوثنية ومذهب

 

* (هامش) *

(1) راجع في ذلك كتاب السر المكتوم للرازي والذخيرة الاسكندرية والكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي ورسالة السكاكى في التسخير والدر المكتوم لابن عربي وكتب الارواح والاحضار المعمولة أخيرا وغير ذلك.

(*)

 

/ صفحة186 /

التناسخ وغيرهما.

فالمتعبد على حسب الدستور الدينى يأتي بما ندب إليه من نوع التزهد من غير أن يخطر بباله أن هناك نفسا مجردة، وان لها نوعا من المعرفة، فيه سعادتها وكمال وجودها.

وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها وسننها إنما يرتاض بما يرتاض من مشاق الاعمال ولا هم له في ذلك إلا حيازة المقام الموعود فيها والتسلط على نتيجة العمل، كنفوذ الارادة مثلا وهو في غفلة من أمر النفس المذكور من حين يأخذ في عمله إلى حين يختمه.

على ان في هؤلاء من لا يرى في النفس إلا أنها أمر مادى طبيعي كالدم أو الروح البخاري أو الاجزاء الاصلية، ومن يرى ان النفس جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري حال فيه، وهو الحامل للحياة فكيف يسوغ القول بكون الجميع يرومون بذلك أمر معرفة النفس؟.

لكنه ينبغى لك ان تتذكر ما تقدم ذكره ان الانسان في جميع هذه المواقف التى يأتي فيها بأعمال تصرف النفس عن الاشتغال بالامور الخارجية والتمتعات المتفننة المادية إلى نفسها للحصول على خواص وآثار لا توصل إليها الاسباب المادية والعوامل الطبيعية العادية، لا يريد إلا الانفصال عن العلل والاسباب الخارجية، والاستقلال بنفسه للحصول على نتائج خاصة لا سبيل للعوامل المادية العادية إليها.

فالمتدين المتزهد في دينه يرى ان من الواجب الانساني ان يختار لنفسه سعادته الحقيقية وهى الحياة الطيبة الاخروية عند المنتحلين بالمعاد، والحياة السعيدة الدنيوية التى تجمع له الخير وتدفع عنه الشر عند المنكرين له كالوثنية وأصحاب التناسخ، ثم يرى ان الاسترسال في التمتعات الحيوانية لا تحوز له سعادته، ولا تسلك به إلى غرضه، فلا محيص له عن رفض الهوى وترك الانطلاق إلى كل ما تتهوسه نفسه بأسبابها العادية في الجملة، والانجذاب إلى سبب أو أسباب فوق الاسباب المادية العادية بالتقرب إليه والاتصال به، وان هذا التقرب والاتصال إنما يتأتى بالخضوع له والتسليم لامره وذلك أمر روحي نفساني لا ينحفظ إلا بأعمال وتروك بدنية، وهذه هي العبادة الدينية من صلاة ونسك أو ما يرجع إلى ذلك.

 

/ صفحة187 /

فالاعمال والمجاهدات والارتياضات الدينية ترجع جميعا إلى نوع من الاشتغال بأمر النفس، والانسان يرى بالفطرة أنه لا يأخذ شيئا ولا يترك شينا إلا لنفع نفسه، وقد تقدم ان الانسان لا يخلو، ولا لحظة من لحظات وجوده من مشاهدة نفسه وحضور ذاته وأنه لا يخطئ في شعوره هذا البتة، وإن أخطأ فإنما يخطئ في تفسيره بحسب الرأى النظرى والبحث الفكري، فظهر بهذا البيان ان الاديان والمذاهب على اختلاف سننها وطرقها لا تروم إلا الاشتغال بأمر النفس في الجملة، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا.

وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات والمجاهدات وإن لم يكن منتحلا بديلا ولا مؤمنا بأمر حقيقة النفس لا يقصد بنوع رياضته التى يرتاض بها إلا الحصول على نتيجتها الموعودة له، وليست النتيجة الموعودة مرتبطة بالاعمال والتروك التى يأتي بها ارتباطا طبيعيا نظير الارتباط الواقع بين الاسباب الطبيعية ومسبباتها، بل هو ارتباط إرادى غير مادى متعلق بشعور المرتاض وإرادته المحفوظين بنوع العمل الذى يأتي به، دائر بين نفس المرتاض وبين النتيجة الموعودة، فحقيقة الرياضة المذكورة هي تأييد النفس وتكميلها في شعورها وإرادتها للنتيجة المطلوبة، وإن شئت قلت: أثر الرياضة ان تحصل للنفس حالة العلم بأن المطلوب مقدور لها فإذا صحت الرياضة وتمت صارت بحيث لو ارادت المطلوب مطلقا أو ارادته على شرائط خاصة كإحضار الروح للصبى غير المراهق في المرآت حصل المطلوب.

وإلى هذا الباب يرجع معنى ما روى: " انه ذكر عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ان بعض أصحاب عيسى (عليه السلام) كان يمشى على الماء فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لو كان يقينه اشد من ذلك لمشى على الهواء " فالحديث - كما ترى - يومئ إلى ان الامر يدور مدار اليقين بالله سبحانه وإمحاء الاسباب الكونية عن الاستقلال في التأثير، فإلى أي مبلغ بلغ ركون الانسان إلى القدرة المطلقة الالهية انقادت له الاشياء على قدره، فافهم ذلك.

ومن أجمع القول في هذا الشأن قول الصادق (عليه السلام): ما ضعف بدن عما قويت عليه النية، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المتواتر: " إنما الاعمال بالنيات ".

فقد تبين أن الاثار الدينية للاعمال والعبادات و كذلك آثار الرياضات والمجاهدات إنما تستقر الرابطة بينها وبين النفس الانسانية بشؤونها الباطنية، فالاشتغال بشئ منها

 

/ صفحة188 /

اشتغال بأمر النفس.

ومن زعم أن رابطة السببية والمسببية إنما هي بين أجساد هذه الاعمال وبين الغايات الاخروية مثلا من روح وريحان وجنة نعيم، أو بينها وبين الغايات الدنيوية الغريبة التى لا تعمل الاسباب الطبيعية فيها، كالتصرف في إدراكات النفوس وأنواع إرادتها والتحريكات من غير محرك والاطلاع على الضمائر والحوادث المستقبلة والاتصال بالروحانيات والارواح ونحو ذلك، أو زعم أن العمل يستتبع الاثر من غير رابطة حقيقية أو بمجرد إرادة إلهية من غير مخصص فقد غر نفسه.

6 - إياك أن يشتبه عليك الامر فتستنتج من الابحاث السابقة أن الدين هو العرفان والتصوف أعنى معرفة النفس كما توهمه بعض الباحثين من الماديين فقسم المسلك الحيوى الدائر بين الناس إلى قسمين: المادية والعرفان وهو الدين.

وذلك أن الذى يعقد عليه الدين أن للانسان سعادة حقيقية ليس ينالها إلا بالخضوع لما فوق الطبيعة ورفض الاقتصار على التمتعات المادية، وقد انتجت الابحاث السابقة: أن الاديان أيا ما كانت من حق أو باطل تستعمل في تربية الناس وسوقهم إلى السعادة التى تعدهم إياها وتدعوهم إليها إصلاح النفس و تهذيبها إصلاحا وتهذيبا يناسب المطلوب، وأين هذا من كون عرفان النفس هو الدين.

فالدين يدعو إلى عبادة الاله سبحانه من غير واسطة أو بواسطة الشفعاء والشركاء لان فيها السعادة الانسانية والحياة الطيبة التى لا بغية للانسان دونها، ولا ينالها الانسان ولن ينالها إلا بنفس طاهرة مطهرة من ألواث التعلق بالماديات والتمتعات المرسلة الحيوانية، فمست الحاجة إلى أن يدرج في أجزاء دعوته إصلاح النفس وتطهيرها ليستعد المنتحل به المتربى في حجره للتلبس بالخير والسعادة، ولا يكون كمن يتناول الشئ بإحدى يديه ويدفعه بالاخرى، فالدين أمر وعرفان النفس أمر آخر وراءه، وإن استلزم الدين العرفان نوعا من الاستلزام.

وبنظير البيان يتبين أن طرق الرياضة، والمجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوعة غريبة عن العادة أيضا غير عرفان النفس وإن ارتبط البعض بالبعض نحوا من الارتباط.

نعم لنا أن نقضى بأمر وهو أن عرفان النفس بأى طريق من الطرق فرض السلوك

 

/ صفحة189 /

إليه إنما هو أمر مأخوذ من الدين كما أن البحث البالغ الحر يعطى أن الاديان على اختلافها وتشتتها إنما انشعبت هذه الانشعابات من دين واحد عريق تدعو إليه الفطرة الانسانية وهو دين التوحيد.

فإنا إذا راجعنا فطرتنا الساذجة بالاغماض عن التعصبات الطارئة علينا بالوراثة من أسلافنا أو بالسراية من أمثالنا، لم نرتب في أن العالم على وحدته في كثرته وارتباط أجزائه في عين تشتتها ينتهى إلى سبب واحد فوق الاسباب، وهو الحق الذى يجب الخضوع لجانبه وترتيب السلوك الحيوى على حسب تدبيره وتربيته، وهو الدين المبنى على التوحيد.

والتأمل العميق في جميع الاديان والنحل يعطى أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحى حتى الوثنية والثنوية، وإنما وقع الاختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الاصل والاصابة والاخطاء فيه، فمن قائل مثلا: إنه أقرب إلينا من حبل الوريد وهو معنا أينما كنا ليس لنا من دونه من ولى ولا شفيع فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك، ومن قائل: إن تسفل الانسان الارضى وخسة جوهره لا يدع له مخلصا إلى الاتصال بذاك الجناب، وأين التراب ورب الارباب؟ فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض عباده المكرمين المتجردين عن جلباب المادة الطاهرين المطهرين من ألواث الطبيعة وهم روحانيات الكواكب أو أرباب الانواع أو المقربون من الانسان " وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ".

وإذ كانوا غائبين عن حواسنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالانصاب والاصنام حتى يتم بذلك أمر التقرب العبادي، وعلى هذا القياس في سائر الاديان والملل فلا نجد في متونها إلا ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الاله عز اسمه.

ومن المعلوم أن السنن الدائرة بين الناس وإن انشعبت أي انشعاب فرض واختلفت أي اختلاف شديد فإنها تميل إلى التوحد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى، وتنتهى بالاخرة إلى دين الفطرة الساذجة الانسانية وهو التوحيد، فدين التوحيد أبو الاديان وهى أبناء له صالحة أو طالحة.

 

/ صفحة190 /

ثم إن الدين الفطري إنما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصل به إلى السعادة الانسانية التى يدعو إليها وهى معرفة الاله التى هي المطلوب الاخير عنده، وبعبارة أخرى الدين إنما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية لا غائية فإن الذوق الدينى لا يرتضى الاشتغال بأمر إلا في سبيل العبودية، وإن الدين عند الله الاسلام ولا يرضى لعباده الكفر فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقل بالمطلوبية؟.

ومن هنا يظهر أن العرفان ينتهى إلى أصل الدين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمرا مستقلا يدعو إليه الفطرة الانسانية حتى ينتهى فروعه وأغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطري.

ويمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر وهو أن الانسانية وإن اندفعت بالفطرة إلى الاجتماع والمدنية لاسعاد الحياة، وأثبت النقل والبحث أن رجالا أو أقواما اجتماعيين دعوا إلى طرائق قومية أو وضعوا سنئا اجتماعية، وأجروها بين أممهم كسنن القبائل والسنة الملوكية والديمقراطية ونحوها، ولم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس وتهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشرى.

نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينية كأصحاب السحر والارواح ونحوهما إنما تنبه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين لكن لا من جهة الفطرة إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت بل من جهة مشاهدة بعض الاثار النفسانية الغريبة على سبيل الاتفاق فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانية يملك بها أعمالا عجيبة وتصرفات في الكون نادرة تستغربها النفوس فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه والسلوك إليه ثم السلوك بعد السلوك يمهد السبيل إلى المطلوب ويسهل الوعر منه.

7 - يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينية كرامات خارقة للعادة وحوادث غريبة اختصوا بها من بين أمثالهم كتمثل أمور لابصارهم غائبة عن أبصار غيرهم، ومشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواس من دونهم من الناس، واستجابة للدعوة وشفاء المريض الذى لا مطمع لنجاح المداواة فيه، والنجاة من المخاطر والمهالك من غير طريق العادة، وقد يتفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذانية صادقة ونفس منقطعة، فهؤلاء يرون ما يرون وهم على غفلة من سببه القريب، وإنما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط، واستناد

 

/ صفحة191 /

الامور إليه تعالى، وإن كان حقا لا محيص عن الاعتراف به لكن نفى الاسباب المتوسطة مما لا مطمع فيه.

وربما أحضر الروحي روح أحد من الناس في مرآة أو ماء ونحوه بالتصرف في نفس صبى - على ما هو المتعارف - وهو كغيره يرى إن الصبى إنما يبصره بالبصر الحسى، وأن بين أبصار سائر الناظرين وبين الروح المحضر حجابا مضروبا لو كشف عنه لكانوا مثل الصبى في الظفر بمشاهدته.

وربما وجدوا الارواح المحضرة أنها تكذب في أخبارها فيكون عجبا لان عالم الارواح عالم الطهارة والصفاء لا سبيل للكذب والفرية والزور إليه.

وربما أحضروا روح إنسان حى فيستنطقونه بأسراره وضمائره وصاحب الروح في حالة اليقظة مشغول بأشغاله وحوائجه اليومية لا خبر عنده من أن روحه محضر مستنطق يبث من القول ما لا يرضى هو ببثه.

وربما نوم الانسان تنويما مغناطيسيا ثم لقن بعمل حتى ينعم بقبوله فإذا أوقظ ومضى لشأنه أتى بالعمل الذى لقنه على الشريطة التى أريد بها وهو غافل عما لقنوه وعن إنعامه بقبوله.

وبعض الروحيين لما شاهدوا صورا روحية تماثل الصور الانسانية أو صور بعض الحيوان ظنوا أن هذه الصور في عالم المادة وظرف الطبيعة المتغيرة، وخاصة بعض من لا يرى لغير الامر المادى وجودا، حتى حاول بعض هؤلاء أأن يخترع أدوات صناعية يصطاد بها الارواح، كل ذلك استنادا منهم إلى فرضية افترضوها في النفس: أنها مبدأ مادى أو خاصة لمبدأ مادى يفعل بالشعور والارادة، مع أنهم لم يحلوا مشكلة الحياة والشعور حتى اليوم.

ونظير هذه الفرضية فرضية من يرى أأن الروح جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري في هيئاته وأشكاله لما وجدوا أن الانسان يرى نفسه في المنام وهو على هيئته في اليقظة، وربما يمثل لارباب المجاهدات صور أنفسهم قبالا خارج أبدانهم وهى مشاكلة للصورة البدنية مشاكلة تامة، فحكموا أن الروح جسم لطيف حال في البدن العنصري مادام الانسان حيا فإذا فارق البدن كان هو الموت.

 

/ صفحة192 /

وقد فاتهم أن هذه صورة إدراكية قائمة بشعور الانسان نظيرة صورته التى يدركها من بدنه، ونظيرة صور سائر الاشياء الخارجة المنفصلة عن بدنه، وربما تظهر هذه الصورة المنفصلة لبعض أرباب المجاهدة أكثر من واحدة أو في هيئة غير هيئة نفسه، وربما يرى نفسه عين نفس غيره من أفراد الناس، فإذا لم يحكموا في هذه الصور المذكورة أنها هي صورة الروح فجدير بهم أن لا يحكموا في الصورة الواحدة المشاكلة التى تتراءى لارباب المجاهدات أنها صورة الروح.

وحقيقة الامر أن هؤلاء نالوا شيئا من معارف النفس وفاتهم معرفة حقيقتها كما هي فأخطأوا في تفسير ما نالوه وضلوا في توجيه أمره، والحق الذى يهدى إليه البرهان والتجربة أن حقيقة النفس التى هي هذا الشعور المتعقل المحكى عنه بقولنا " أنا " أمر مغاير في جوهره لهذه الامور المادية كما تقدم، وأن أقسام شعوره وأنواع إدراكاته من حس أو خيال أو تعقل من جهة كونها مدركات إنما هي متقررة في عالمه وظرفه غير الخواص الطبيعية الحاصلة في أعضاء الحس والادراك من البدن فإنها أفعال وانفعالات مادية فاقدة في نفسها للحياة والشعور، فهذه الامور المشهودة الخاصة بالصلحاء وأرباب المجاهدات والرياضات غير خارجة عن حيطة نفوسهم، وإنما الشأن في أن هذه المعلومات والمعارف كيف استقرت في النفس وأين محلها منها؟ وأن للنفس سمة عليه لجميع الحوادث والامور المرتبطة بها ارتباطا ما، فجميع هذه الامور الغريبة المطاوعة لاهل الرياضة والمجاهدة إنما ترتضع من إرادتهم ومشيئتهم، والارادة ناشئة من الشعور، فللشعور الانساني دخل في جميع الحوادث المرتبطة به والامور المماسة له.

8 - فمن الحرى أن نقسم المشتغلين بعرفان النفس في الجملة إلى طائفتين: إحداهما المشتغلون به بالاشتغال بإحراز شئ من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الاسباب والمسببات المادية، كأصحاب السحر والطلسمات وأصحاب تسخير روحانيات الكواكب والموكلين على الامور والجن وأرواح الادميين وأصحاب الدعوات والعزائم ونحو ذلك.

والثانية المشتغلون بمعرفة النفس بالانصراف عن الامور الخارجة عنها والانجذاب نحوها للغور فيها ومشاهدة جوهرها وشؤونها كالمتصوفة على اختلاف طبقاتهم ومسالكهم.

وليس التصوف مما أبدعه المسلمون من عند أنفسهم لما أنه يوجد بين الامم التى

 

/ صفحة193 /

تتقدمهم في النشوء كالنصارى وغيرهم حتى الوثنية من البرهمانية والبوذية، ففيهم من يسلك الطريقة حتى اليوم بل هي طريقة موروثة ورثوها من أسلافهم.

لكن لا بمعنى الاخذ والتقليد العادى كوراثة الناس ألوان المدنية بعضهم من بعض وأمة منهم متأخرة من أمة منهم متقدمة كما جرى على ذلك عدة من الباحثين في الاديان والمذاهب، وذلك لما عرفت في الفصول السابقة أن دين الفطرة يهدى إلى الزهد والزهد يرشد إلى عرفان النفس، فاستقرار الدين بين أمة وتمكنه من قلوبهم يعدهم ويهيؤهم لان تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة، ويأخذ بها بعض من تمت في حقه العوامل المقتضية لذلك، فمكث الحياة الدينية في أمة من الامم برهة معتدا بها ينشئ بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة وإن انقطعوا عن غيرهم من الامم الدينية كل الانقطاع، وما هذا شأنه لا ينبغى أن يعد من السنن الموروثة التى يأخذها جيل عن جيل.

9 - ثم ينبغى أن نقسم أصحاب القسم الثاني من القسمين المتقدمين وهم أهل العرفان حقيقة إلى طائفتين: فطائفة منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئا من معارفها من غير أن يتم لهم تمام المعرفة لها لانهم لما كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها وهو الله عز اسمه الذى هو السبب الحق الاخذ بناصية النفس في وجودها وآثار وجودها وكيف يسع الانسان تمام معرفة شئ مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده وخاصة السبب الذى هو سبب كل سبب؟ وهل هو إلا كمن يدعى معرفة السرير على جهل منه بالنجار وقدومه ومنشاره وغرضه في صنعه إلى غير ذلك من علل وجود السرير؟.

ومن الحرى بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمى كهانة بما في ذيله من الحصول على شئ من علوم النفس وآثارها.

 

وطائفة منهم يقصدون طريقة معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الرب تعالى، وطريقتهم هذه هي التى يرتضيها الدين في الجملة وهى أن يشتغل الانسان بمعرفة نفسه بما أنها آية من آيات ربه وأقرب آية، وتكون النفس طريقا مسلوكا والله سبحانه

 

/ صفحة194 /

هو الغاية التى يسلك إليها " وأن إلى ربك المنتهى ".

وهؤلاء طوائف مختلفة ذووا مذاهب متشتتة في الامم والنحل، وليس لنا كثير خبرة بمذاهب غير المسلمين منهم وطرائقهم التى يسلكونها، وأما المسلمون فطرقهم فيها كثيرة ربما أنهيت بحسب الاصول إلى خمس وعشرين سلسلة، تنشعب من كل سلسلة منها سلاسل جزئية أخر، وقد استندوا فيها إلا في واحدة إلى على عليه أفضل السلام، وهناك رجال منهم لا ينتمون إلى واحدة من هذه السلاسل ويسمون الاويسية (نسبة إلى أويس القرنى) وهناك آخرون منهم لا يتسمون باسم ولا يتظاهرون بشعار.

ولهم كتب ورسائل مسفورة ترجموا فيها عن سلاسلهم وطرقهم، والنواميس والاداب التى لهم وعن رجالهم، وضبطوا فيها المنقول من مكاشفاتهم، وأعربوا فيها عن حججهم ومقاصدهم التى بنوها عليها، من أراد الوقوف عليها فليراجعها.

وأما البحث عن تفصيل الطرق والمسالك وتصحيح الصحيح ونقد الفاسد فله مقام آخر وقد تقدم في الجزء الخامس من هذا الكتاب بحث لا يخلو عن نفع في هذا الباب، فهذه خلاصة ما أردنا إيراده من البحث المتعلق بمعنى معرفة النفس.

واعلم أن عرفان النفس بغية عملية لا يحصل تمام المعرفة بها إلا من طريق السلوك العملي دون النظرى، وأما علم النفس الذى دونه أرباب النظر من القدماء فليس يغنى من ذلك شيئا، وكذلك فن النفس العملي الذى دونه المتأخرون حديثا فإنما هو شعبة من فن الاخلاق على ما دونه القدماء، والله الهادى.

 

* * *

 يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلوة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى

 

/ صفحة195 /

ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين - 106.

فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الاوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين - 107.

ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين - 108.

يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب - 109.

(بيان) الايات الثلاث الاول في الشهادة، والاخيرة لا تخلو عن اتصال ما بها بحسب المعنى.

قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى آخر الايتين، محصل مضمون الايتين أن أحدهم إذا كان على سفر فأراد أن يوصى فعليه أن يشهد حين الوصية شاهدين عدلين من المسلمين وإن لم يجد فشاهدين آخرين من غير المسلمين من أهل الكتاب فإن ارتاب أولياء الميت في أمر الوصية يحبس الشاهدان بعد الصلاة فيقسمان بالله على صدقهما فيما يشهدان عليه وترفع بذلك الخصومة، فإن اطلعوا على أن الشاهدين كذبا في شهادتهما أو خانا في الامر فيوقف شاهدان آخران مقام الشاهدين الاولين فيشهدان على خلافهما ويقسمان بالله على ذلك.

فهذا ما تفيده الايتان بظاهرهما فقوله: " يا أيها الذين آمنوا " خطاب للمؤمنين والحكم مختص " بهم شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم " أي شهادة بينكم شهادة ذوى عدل منكم، ففى جانب الخبر مضاف مقدر، أو شهداء بينكم ذوا عدل منكم، والمراد أن عدد الشهود اثنان فالمصدر - الشهادة - بمعنى اسم الفاعل كقولهم: رجل عدل ورجلان عدل.

 

/ صفحة196 /

وحضور الموت كناية عن حضور داعى الوصية فإن الناس بحسب الطبع لا يشتغلون بأمثال هذه الامور من غير حضور أمر يوجب الظن بالموت، وهو عادة المرض الشديد الذى يشرف الانسان به على الموت.

وقوله: " حين الوصية " ظرف متعلق بالشهادة أي الشهادة حين الوصية، والمراد بالعدل - وهو مصدر - الاستقامة في الامر، وقرينة المقام تعطى أن المراد به الاستقامة في أمر الدين، ويتعين بذلك أن المراد بقوله: " منكم " وقوله: " من غيركم " المسلمون وغير المسلمين، دون القرابة والعشيرة فإن الله سبحانه قابل بين قوله: " اثنان " وقوله: " آخران "، ثم وصف الاول بقوله " ذوا عدل " وقوله: " منكم " ولم يصف الثاني إلا بقوله: " من غيركم " دون أن يصفه بالعدالة، والاتصاف بالاستقامة في الدين وعدمه إنما يختلف في المسلم وغير المسلم، ولا موجب لاعتبار العدالة في الشهود إذا كانوا قرابة أو من عشيرة المشهود له وإلغائها إذا كان الشاهد أجنبيا.

وعلى هذا فقوله: " أو آخران من غيركم " ترديد على سبيل الترتيب أي إن كان هناك نفر من المسلمين يستشهد اثنان منهم، وإن لم يكن إلا من غير المسلمين يستشهد باثنين منهم، كل ذلك بالاستفادة من قرينة المقام.

وهذه القرينة بعينها هي التى توجب أن يكون قوله: " إن أنتم ضربتم في الارض فأصابتكم مصيبة الموت " قيدا متعلقا بقوله: " أو آخران من غيركم " فإن المسلم لما كان بالطبع إنما يعيش في مجتمع المسلمين لا تمس الحاجة في الحضر عادة إلى الاستشهاد بشهيدين من غير المسلمين بخلاف حالة السفر والضرب في الارض فإنها مظنة وقوع أمثال هذه الوقائع والاضطرار ومسيس الحاجة إلى الانتفاع من غير المسلم بشهادة أو غيرها.

وقرينة المقام أعنى المناسبة بين الحكم والموضوع بالذوق المتخذ من كلامه تعالى تدل على أن المراد من غير المسلمين أهل الكتاب خاصة لان كلامه تعالى لا يشرف المشركين بكرامة.

وقوله تعالى: " تحبسونهما من بعد الصلاة " أي توقفونهما، والحبس الايقاف " فيقسمان بالله " أي الشاهدان " إن ارتبتم " أي شككتم فيما يظهره الوصي من أمر الوصية أو المال الذى تعلقت به الوصية أو في كيفية الوصية، والمقسم عليه هو قوله:

 

/ صفحة197 /

" لا نشترى به ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى " أي لا نشترى بالشهادة للوصي فيما يدعيه ثمنا قليلا ولو كان ذا قربى، واشتراء الثمن القليل بالشهادة أن ينحرف الشاهد في شهادته عن الحق لغاية دنيوية من مال أو جاه أو عاطفة قرابة فيبذل شهادته بإزاء ثمن دنيوى، وهو الثمن القليل.

وذكر بعضهم أن الضمير في قوله: " به " إلى اليمين أي لا نشتري بيميننا ثمنا، قليلا، ولازمه اجراء اليمين مرتين والاية بمعزل عن الدلالة على ذلك.

وقوله: " ولا نكتم شهادة الله " أي بالشهادة على خلاف الواقع " إنا إذا لمن الاثمين " الحاملين للاثم، والجملة معطوفة على قوله: " لا نشترى به ثمنا قليلا " كعطف التفسير.

وإضافة الشهادة إلى الله في قوله: " شهادة الله " إما لان الواقع يشهده الله سبحانه كما شهده الشاهدان فهو شهادته سبحانه كما هو شهادتهما والله أحق بالملك فهو شهادته تعالى حقا وبالاصالة و شهادتهما تبعا، وقد قال تعالى: " وكفى بالله شهيدا " (النساء: 79) وقال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " (البقرة: 255).

وإما لان الشهادة حق مجعول لله على عباده يجب عليهم أن يقيموها على وجهها من غير تحريف أو كتمان، وهذا كما يقال: دين الله، فينسب الدين إليه تعالى مع أن العباد هم المتلبسون به، قال تعالى: " وأقيموا الشهادة لله " (الطلاق: 3) وقال: ! ولا تكتموا الشهادة " (البقرة: 283).

وقوله: " فإن عثر على أنهما استحقا إثما " العثور على الشئ الحصول عليه ووجد انه، وهذه الاية بيان وتفصيل للحكم في صورة ظهور خيانة الشاهدين وكذبهما في شهادتهما.

والمراد باستحقاق الاثم الاجرام والجناية يقال: استحق الرجل أي أذنب، واستحق فلان إثما على فلان كناية عن إجرامه وجنايته عليه ولذا عدى بعلى في قوله تعالى ذيلا: " استحق عليهم الاوليان " أي أجرما وجنيا عليهم بالكذب والخيانة، وأصل معنى قولنا: استحق الرجل طلب أن يحق ويثبت فيه الاثم أو العقوبة فاستعماله الكنائى من قبيل إطلاق الطلب وإرادة المطلوب ووضع الطريق موضع الغاية، وإنما

 

/ صفحة198 /

ذكر الاثم في قوله: " إستحقا إثما " بالبناء على ما تقدم في قوله: " إنا إذ المن الاثمين " وقوله تعالى: " فآخران يقومان مقامهما " أي إن عثر على أن الشاهدين استحقا بالكذب والخيانة فشاهدان آخران يقومان مقامهما في اليمين على شهادتهما عليهما بالكذب والخيانة.

وقوله: " من الذين استحق عليهم الاوليان " في موضع الحال أي حال كون هذين الجديدين من الذين استحق عليهم أي أجرم وجنى عليهم الشاهدان الاولان اللذين هما الاوليان الاقربان بالميت من جهة الوصية كما ذكره الرازي في تفسيره، والمراد بالذين استحق عليهم الاوليان أولياء الميت، وحاصل المعنى أنه إن عثر على أن الشاهدين أجرما على أولياء الميت بالخيانة والكذب فيقوم شاهدان آخران من أولياء الميت الذين أجرم عليهم الشاهدان الاولان الاوليان بالموت قبل ظهور استحقاقهما الاثم.

هذا على قراءة " استحق " بالنباء للفاعل وهو قراءة عاصم على رواية حفص، وأما على قراءة الجمهور " استحق " بضم التاء وكسر الحاء بالبناء للمفعول فظاهر السياق أن يكون الاوليان مبتدءا خبره قوله: " فآخران يقومان " (الخ)، قدم عليه لتعلق العناية به، والمعنى إن عثر على أنهما استحقا إثما فالاوليان بالميت هما آخران يقومان مقامهما من أوليائه المجرم عليهم.

وفي قراءة عاصم من طريق أبى بكر وحمزة وخلف ويعقوب " الاولين " جمع الاول مقابل الاخر، وهو بظاهره بمعنى الاولياء والمقدمين، وصف أو بدل من قوله: " الذين ".

وقد ذكر المفسرون في تركيب أجزاء الاية وجوها كثيرة جدا لو ضرب بعضها في بعض للحصول على معنى تمام الاية ارتقت إلى مئين من الصور، وقد ذكر الزجاج فيما نقل عنه: أنها أشكل آية في كتاب الله من حيث التركيب.

والذى أوردناه من المعنى هو الظاهر من سياق اللفظ من غير تعسف في الفهم، وأضربنا عن استقصاء ما ذكروه من المحتملات لان تكثيرها لا يزيد اللفظ إلا إبهاما، ولا الباحث إلا حيرة.

 

 

* (هامش) *

(1) وعلى من يريد الاطلاع عليها أن يراجع الجزء السابع من تفسير روح المعاني للالوسي ومججمع البيان وتفسير الرازي وسائر المطولات.

(*)

 

/ صفحة199 /

وقد فرع على قوله: " فآخران يقومان، الخ " تفريع الغاية على ذى الغاية قوله: " فيقسمان بالله " أي الشاهدان الاخران من أولياء الميت " لشهادتنا " بما يتضمن كذبهما وخيانتهما " أحق من شهادتهما " أي من شهادة الشاهدين الاولين بما يدعيان من أمر الوصية " وما اعتدينا " عليهما بالشهادة على خلاف ما شهدا عليه " إنا إذا لمن الظالمين ".

قوله تعالى: " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم " الاية في مقام بيان حكمة التشريع وهى أن هذا الحكم على الترتيب الذى قرره الله تعالى أحوط طريق إلى حيازة الواقع في المقام، وأقرب من أن لا يجور الشاهدان في شهادتهما ويخافا من أن يتغير الامر عليهما برد شهادتهما بعد قبولها.

فإن الانسان ذو هوى يدعوه إلى التمتع بكل ما يسعه التمتع به والقبض على كل ما يتهوسه إذا لم يكن هناك مانع يصرفه عنه سواء كان ذلك منه عن حق يستحقه أو جورا، عدلا أو ظلما وتعديا على غيره بإبطال حقه والغلبة عليه، وإنما ينصرف الانسان عن هذا التعدي والتجاوز إما لمانع يمنعه من خارج بسياسة أو عقوبة أو فضيحة، وإما لرادع يردعه من نفسه، وأقوى رادع نفساني هو الاعتقاد بالله الذى إليه مرجع العباد وحساب الاعمال والقضاء الفصل والجزاء المستوفى.

وإذا كان الواقع من أمر الوصية بحسب فرض المقام مجهولا لا طريق إلى كشفه إلا شهادة من أشهدهما الميت من الشاهدين فأقوى ما يقرب شهادتهما من الصدق أن يؤخذ في ذلك بإيمانهما بالله تعالى وهو اليمين، وأن يرد اليمين إلى الورثة الاولياء مع يمينهما على تقدير انكشاف كذبهما وخيانتهما عند الورثة، فهذان أعنى يمينهما أولاثم رد اليمين إلى الورثة أقرب وسيلة إلى صدقهما في شهادتهما وخوفهما فضيحة رد اليمين، والرادعان أقوى ما يردعهما من الانحراف.

ثم عقب تعالى القول بالموعظة والانذار فقال: " واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين " والمعنى واضح.

قوله تعالى: " يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " الاية لا تأبى الاتصال بما قبلها فإن ظاهر قوله تعالى في ذيل الاية السابقة: " واتقوا الله واسمعوا، الخ " وإن كان مطلقا لكنه بحسب الانطباق على المورد نهى عن

 

/ صفحة200 /

الانحراف والجور في الشهادة والاستهانة بأمر اليمين بالله فناسب أن يذكر في المقام بما يجرى بينه سبحانه وبين رسله يوم القيامة وهم شهداء على اممهم وأفضل الشهداء، حيث يسألهم الله سبحانه عن الذى أجابهم به اممهم وهم أعلم الناس بأعمال اممهم والشاهدون من عند الله عليهم فيجيبونه بقولهم: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ".

فإذا كان الامر على هذه الوتيرة، وكان الله سبحانه هو العالم بكل شئ حق العلم فجدير بالشهود أن يخافوا مقام ربهم: ولا ينحرفوا عن الحق الذى رزقهم الله العلم به، ولا يكتموا شهادة الله فيكونوا من الاثمين والظالمين والفاسقين.

فقوله تعالى: " يوم يجمع، الخ " ظرف متعلق بقوله في الاية السابقة: " واتقوا الله، الخ " وذكر جمع الرسل دون أن يقال: " يوم يقول الله المرسل " لمكان مناسبة مع جمع الشهداء للشهادة كما يشعر به قوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله ".

وأما نفيهم العلم يومئذ عن أنفسهم بقولهم: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " فإثباتهم جميع علوم الغيوب لله سبحانه على وجه الحصر يدل على أن المنفى ليس أصل العلم فإن ظاهر قولهم: " إنك أنت علام الغيوب " يدل على أنه لتعليل النفى، ومن المعلوم أن انحصار جميع علوم الغيب في الله سبحانه لا يقتضى رفع كل علم عن غيره وخاصة إذا كان علما بالشهادة، والمسؤول عنه أعنى كيفية إجابة الناس لرسلهم من قبيل الشهادة دون الغيب.

فقولهم: " لا علم لنا " ليس نفيا لمطلق العلم بل لحق العلم الذى لا يخلو عن التعلق بالغيب فإن من المعلوم أن العلم إنما يكشف لعالمه من الواقع على قدر ما يتعلق بأمر من حيث أسبابه ومتعلقاته، والواقع في العين مرتبط بجميع أجزاء الخارج مما يتقدم على الامر الواقع في الخارج وما يحيط به مما يصاحبه زمانا فالعلم بأمر من الامور الخارجية بحقيقة معنى العلم لا يحصل إلا بالاحاطة بجميع أجزاء الوجود ثم بصانعه المتعالى من أن يحيط به شئ، وهذا أمر وراء الطاقة الانسانية.

 

فلم يرزق الانسان من العلم في هذا الكون الذى يبهته التفكير في سعة ساحته، وتهوله النظرة في عظمة أجرامه ومجراته، ويطير لبه الغور في متون ذراته، ويأخذه الدوار إذا أراد الجرى بين هاتين الغايتين إلا اليسير من العلم على قدر ما يحتاج إليه في