تفسير الميزان
السيد الطباطبائي
الجزء التاسع
/ صفحة 1 /
الميزان في تفسير القرآن 9
/ صفحة 3 /
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
/ صفحة 4 /
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد التاسع منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
/ صفحة 5 /
بسم الله الرحمن الرحيم (سورة الانفال مدنية وهي خمس وسبعون آيه) بسم الله الرحمن الرحيم يسئلونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين - 1.
انما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون - 2.
الذين يقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون - 3.
اولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم - 4.
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون - 5.
يجادلونك في الحق بعد ما تبين لهم كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون - 6.
(بيان) سياق الايات في السورة يعطي أنها مدنية نزلت بعد وقعة بدر، وهي تقص بعض أخبار بدر، وتذكر مسائل متفرقه تتعلق بالجهاد والغنائم والانفال ونحوها، وامورا اخرى تتعلق بالهجرة، وبها تختتم السورة.
قوله تعالى: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) إلى آخر الايه.
الانفال جمع نفل بالفتح وهو الزيادة على الشئ، ولذا يطلق النفل والنافلة على التطوع
/ صفحة 6 /
لزيادتة على الفريضة، وتطلق الانفال على ما يسمى فيئا أيضا وهي الاشياء من الاموال التي لا مالك لها من الناس كرؤوس الجبال، وبطون الاودية، والديار الخربة، والقرى التي باد أهلها، وتركة من لا وارث له، وغير ذلك كأنها زيادة على ما ملكه الناس فلم يملكها احد وهي لله ولرسوله، وتطلق على غنائم الحرب كأنها زيادة على ما قصد منها فإن المقصود بالحرب والغزوة الظفر على الاعداء واستئصالهم فإذا غلبوا وظفر بهم فقد حصل المقصود، والاموال التي غنمه المقاتلون والقوم الذين أسروهم زيادة على أصل الغرض.
و (ذات) في الاصل مؤنث (ذا) بمعنى الصاحب من الالفاظ اللازمة الاضافة غير أنه كثر استعماله في نفس الشئ بمعنى ما به الشئ هو هو فيقال: ذات الانسان اي ما به الانسان إنسان وذات زيد أي النفس الانسانية الخاصة التي سميت بزيد، وكان الاصل فيها النفس ذات أعمال كذا ثم أفردت بالذكر فقيل ذات الاعمال أو ما يؤدي مؤداه ثم قيل ذات، وكذلك الامر في ذات البين فلكون الخصومة لا تتحقق إلا بين طرفين نسب إليها البين فقيل ذات البين اي الحالة والرابطة السيئة التي هي صاحبة البين فالمراد بقوله: أصلحوا ذات بينكم أي أصلحوا الحالة الفاسدة والرابطة السيئة التي بينكم.
وقال الراغب في المفردات: (ذو) على وجهين: أحدهما يتوصل به إلى الوصف بأسماء الاجناس والانواع، ويضاف إلى الظاهر دون المضمر، ويثنى ويجمع، ويقال في التثنية: ذواتاو في الجمع ذوات ولا يستعمل شئ منها إلا مضافا.
قال: وقد استعار أصحاب المعاني الذات فجعلوه عبارة عن عين الشئ جوهرا كان أو عرضا واستعملوها مفردة ومضافة إلى المضمر وبالالف واللام، وأجروها مجرى النفس والخاصة فقالوا: ذاتة ونفسه وخاصته وليس ذلك من كلام العرب، والثاني في لفظ ذو لغة لطيئ يستعملونه استعمال (الذي) ويجعل في الرفع والنصب والجر والجمع والتأنيث على لفظ واحد نحو: وبئري ذو حفرت وذو طويت أي التي حفرت والتي طويت انتهى.
/ صفحة 7 /
والذي ذكره من عدم إضافته إلى الضمير منقول عن الفراء ولازمه كون استعماله مضافا إلى الضمير من كلام المولدين والحق أنه قليل لا متروك وقد وقع في كلام علي (عليه السلام) في بعض خطبه كما في نهج البلاغة.
وقد اختلف المفسرون في معنى الآية وموقعها اختلافا شديدا من جهات: من جهة معنى قوله: (يسألونك عن الانفال) وقد نسب إلى أهل البيت (ع) وبعض آخر كعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن مصرف أنهم قرأوا: (يسالونك الانفال) فقيل عن زائدة في القراءة المشهورة، وقيل: بل مقدرة في القراءة الشاذة وقيل: إن المراد بالانفال غنائم الحرب وقيل: غنائم غزوة بدر خاصة بجعل اللام في الانفال للعهد وقيل: الفئ الذي لله والرسول والامام، وقيل: إن الاية منسوخة بآية الخمس وقيل: بل محكمة وقد طالت المشاجرة بينهم كما يعلم بالرجوع إلى مطولات التفاسير كتفسيري الرازي والالوسي وغيرهما.
والذي ينبغي أن يقال بالاستمداد من السياق: أن الاية بسياقها تدل على أنه كان بين هؤلاء المشار إليهم بقوله: (يسألونك) تخاصم خاصم به بعضهم بعضا بأخذ كل جانبا من القول لا يرضى به خصمه، والتفريع الذي في قوله: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) يدل على أن الخصومة كانت في أمر الانفال، ولازم ذلك أن يكون السؤال الواقع منهم الحكي في صدر الاية إنما وقع لقطع الخصومة، كأنهم تخاصموا في أمر الانفال ثم راجعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسألونه عن حكمها لتنقطع بما يجيبه الخصومة وترتفع عما بينهم.
وهذا - كما ترى - يؤيد أولا القراءة المشهورة: (يسألونك عن الانفال) فإن السؤال إذا تعدى بمن كان بمعنى استعلام الحكم والخبر، وأما إذا استعمل متعديا بنفسه كان بمعنى الاستعطاف ولا يناسب المقام إلا المعنى الاول.
وثانيا: أن الانفال بحسب المفهوم وإن كان يعم الغنيمة والفئ جميعا إلا ان مورد الاية هي الانفال بمعنى غنائم الحرب لاغنائم غزوة بدر خاصة إذ لا وجه للتخصيص فإنهم إذ تخاصموا في غنائم بدر لم يتخاصموا فيها لانها غنائم بدر خاصة بل لانها غنائم مأخوذة من أعداء الدين في جهاد ديني، وهو ظاهر.
/ صفحة 8 /
واختصاص الاية بحسب موردها بغنيمة الحرب لا يوجب تخصيص الحكم الوارد فيها بالمورد، فان المورد لا يخصص، فإطلاق حكم الاية بالنسبة إلى كل ما يسمى بالنفل في محله، وهي تدل على ان الانفال جميعا لله ولرسوله لا يشارك الله ورسوله فيها احد من المؤمنين سواء في ذلك الغنيمة والفئ.
ثم الظاهر من قوله: (قل الانفال لله والرسول) وما يعظهم الله به بعد هذه الجملة ويحرضهم على الايمان هو ان الله سبحانه فصل الخصومة بتشريع ملكها لنفسه ولرسوله، ونزعها من ايديهم وهو يستدعي ان يكون تخاصمهم من جهة دعوى طائفة الاخرى ذلك، ففصل الله سبحانه خصومتهم فيها بسلب ملكهم منها وإثبات ملك نفسه ورسوله، وموعظتهم ان يكفوا عن المخاصمة والمشاجرة، وأما قول من يقول: ان الغزاة يملكون ما اخذوه من الغنيمة بالاجماع فأحرى به ان يورد في الفقه دون التفسير.
وبالجملة فنزاعهم في الانفال يكشف عن سابق عهد لهم بأن الغنيمة لهم أو ما في معناه غير انه كان حكما مجملا اختلف فيه المتخاصمان وكل يجر النار إلى قرصته، والايات الكريمة تؤيد ذلك.
توضيحه: ان ارتباط الايات في السورة والتصريح بقصة وقعة بدر فيها يكشف ان السورة بأجمعها نزلت حول وقعة بدر وبعيدها حتى ان ابن عباس - على ما نقل عنه - كان يسميها سورة بدر، والتي تتعرض لامر الغنيمة من آياتها خمس آيات في مواضع ثلاثة من السورة هي بحسب ترتيب السورة، قوله تعالى: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) الاية، وقوله تعالى: (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ان كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شي قدير)، وقوله تعالى: (ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله ان الله غفور رحيم).
وسياق الاية الثانية يفيد انها نزلت بعد الاية الاولى والايات الاخيرة جميعا
/ صفحة 9 /
لمكان قوله فيها: (ان كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) فهي نازلة بعد الوقعة بزمان.
ثم الايات الاخيرة تدل على انهم كلموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في امر الاسرى وسألوه ان لا يقتلهم ويأخذ الفدية وفيها عتابهم على ذلك ثم تجويز ان يأكلوا مما غنموا وكأنهم فهموامن ذلك انهم يملكون الغنائم والانفال على إبهام في امره: هل يملكه جميع من حضر الوقعة أو بعضهم كالمقاتلين دون القاعدين مثلا؟ وهل يملكون ذلك بالسوية فيقسم بينهم كذلك أو يختلفون فيه بالزيادة والنقيصة كأن يكون سهم الفرسان منها ازيد من المشاة أو نحو ذلك.
وكان ذلك سبب التخاصم بينهم فتشاجروا في الامر، ورفعوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الاية الاولى: (قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) الاية فخطأتهم الاية فيما زعموا انهم مالكوا الانفال بما استفادوا من قوله: (فكلوا مما غنمتم) الاية وأقرت ملك الانفال لله والرسول ونهتهم عن التخاصم والتشاجر، فلما انقطع بذلك تخاصمهم ارجعها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم وقسمتها بينهم بالسوية وعزل السهم لعدة من اصحابه لم يحضروا الوقعة ولم يقدم مقاتلا على قاعد، ولا فارسا على ماش ثم نزلت الاية الثانية: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فان لله خمسه) الاية بعد حين فأخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما رد إليهم من السهام الخمس وبقي لهم الباقي.
هذا ما يتحصل من انضمام الايات المربوطة بالانفال بعضها ببعض.
فقوله تعالى (يسالونك عن الانفال) يفيد بما ينضم إليه من قرائن السياق انهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله عن حكم غنائم الحرب بعد ما زعموا انهم يملكون الغنيمة، واختلفوا فيمن يملكها، أو في كيفية ملكها وانقسامها بينهم، أو فيهما معا، وتخاصموا في ذلك.
وقوله: (قل الانفال لله والرسول) جواب عن مسألتهم وفيه بيان انهم لا يملكونها وإنما هي أنفال يملكها الله ورسوله فيوضع حيثما اراد الله ورسوله وقد قطع ذلك اصل ما نشب بينهم من الاختلاف والتخاصم.
ويظهر من هذا البيان ان الاية غير ناسخة لقوله تعالى: (فكلوا مما غنمتم)
/ صفحة 10 /
إلى آخر الاية، وإنما تبين معناها بالتفسير وان قوله (كلوا) ليس بكناية عن ملكهم للغنيمة بحسب الاصل وإنما المراد هو التصرف فيها والتمتع منها إلا ان يمتلكوا بقسمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إياها بينهم.
ويظهر ايضا ان قوله تعالى: (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) الايه ليس بناسخ لقوله: (قل الانفال لله والرسول) الايه فإن قوله: (واعلموا انما غنمتم) الاية إنما يؤثر بالنسبة إلى المجاهدين منعهم عن اكل تمام الغنيمة والتصرف فيه إذ لم يكن لهم بعد نزول قوله: (الانفال لله والرسول) إلا ذلك وأما قوله: (الانفال لله والرسول) فلا يفيد إلا كون اصل ملكها لله والرسول من دون ان يتعرض لكيفية التصرف وجواز الاكل والتمتع فلا يناقضه في ذلك قوله: (واعلموا انما غنمتم) الاية حتى يكون بالنسبة إليه ناسخا فيتحصل من مجموع الايات الثلاث: ان اصل الملك في الغنيمة لله والرسول ثم يرجع اربعة اخماسها إلى المجاهدين يأكلونها ويمتلكونها ويرجع خمس منها إلى الله والرسول وذي القربى وغيرهم لهم التصرف فيها والاختصاص بها.
ويظهر بالتأمل في البيان السابق ايضا: ان في التعبير عن الغنائم بالانفال وهو جمع نفل بمعنى الزيادة إشارة إلى تعليل الحكم بموضوعه الاعم كأنه قيل: يسألونك عن الغنائم وهي زيادات لا مالك لها من بين الناس وإذا كان كذلك فأجبهم بحكم الزيادات والانفال وقل: الانفال لله والرسول ولازم ذلك كون الغنيمة لله والرسول.
وبذلك ربما تأيد كون اللام في لفظ الانفال الاول للعهد وفي الثاني للجنس أو الاستغراق وتبين وجه الاظهار في قوله: (قل الانفال) الاية حيث لم يقل قل هي لله والرسول.
ويظهر بذلك ايضا: ان قوله: (قل الانفال لله والرسول) حكم عام يشمل بعمومه الغنيمة وسائر الاموال الزائدة في المجتمع نظير الديار الخالية والقرى البائدة ورؤوس الجبال وبطون الاودية وقطائع الملوك وتركة من لا وارث له أما الانفال بمعنى الغنائم فهي متعلقة بالمقاتلين من المسلمين بعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبقي الباقي تحت ملك الله ورسوله.
/ صفحة 11 /
هذا ما يفيده التأمل في كرائم الايات وللمفسرين فيها اقاويل مختلفة تعلم بالرجوع إلى مطولات التفاسير لا جدوى في نقلها والتعرض المنقض والابرام فيها.
قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) إلى آخر الايتين الايتان والتي بعدهما بيان ما يتميز به المؤمنون بحقيقة الايمان ويختصون به من الاوصاف الكريمة والثواب الجزيل بينت ليتأكد به ما يشتمل عليه قوله تعالى: (فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم) إلى آخر الاية.
وقد ذكر الله تعالى لهم خمس صفات اختارها من بين جميع صفاتهم التي ذكرها في كلامه لكونها مستلزمة لكرائم صفاتهم على كثرتها وملازمة لحق الايمان، وهي بحيث إذا تنبهوا لها وتأملوها كان ذلك مما يسهل لهم توطين النفس على التقوى وإصلاح ذات بينهم، وإطاعة الله ورسوله.
وهاتيك الصفات الخمس هي: وجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الايمان عند استماع آيات الله، والتوكل، وإقامه الصلاة والانفاق مما رزقهم الله ومعلوم ان الصفات الثلاث الاول من اعمال القلوب والاخيرتان من اعمال الجوارح وقد روعي في ذكرها الترتيب الذي بينها بحسب الطبع فإن نور الايمان إنما يشرق على القلب تدريجا فلا يزال يشتد ويضاعف حتى يتم ويكمل بحقيقته فأول ما يشرق يتأثر القلب بالوجل والخشية إذا تذكر بالله عند ذكره وهو قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم).
ثم لا يزال ينبسط الايمان ويتعرق وينمو ويتفرع بالسير في الايات الدالة عليه تعالى والهادية إلى المعارف الحقة فكلما تأمل المؤمن في شئ منها زادته ايمانا فيقوى الايمان ويشتد حتى يستقر في مرحلة اليقين وهو قوله تعالى: (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا.
وإذا زاد الايمان وكمل كمالا عرف عندئذ مقام ربه وموقع نفسه معرفة تطابق واقع الامر وهو أن الامر كله إلى الله سبحانه فإنه تعالى وحده هو الرب الذي إليه يرجع كل شئ فالواجب الحق على الانسان ان يتوكل عليه ويتبع ما يريده منه بأخذه وكيلا في جميع ما يهمه في حياته فيرضى بما يقدر له في مسير الحياة
/ صفحة 12 /
ويجري على ما يحكم عليه من الاحكام ويشرعه من الشرائع فيأتمر بأوامره وينتهي عن نواهيه وهو قوله تعالى: (وعلى ربهم يتوكلون).
ثم إذا استقر الايمان على كماله في القلب استوجب ذلك أن ينعطف العبد بالعبودية إلى ربه وينصب نفسه في مقام العبودية وإخلاص الخضوع وهو الصلاة وهي أمر بينه وبين ربه وأن يقوم بحاجة المجتمع في نواقص مساعيهم بالانفاق على الفقراء مما رزقه الله من مال أو علم أو غير ذلك وهو أمر بينه وبين سائر أفراد مجتمعه وهو قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون).
وقد ظهر مما تقدم أن قوله تعالى: (زادتهم إيمانا) إشارة إلى الزيادة من حيث الكيفية وهو الاشتداد والكمال دون الكمية وهي الزيادة من حيث عدد المؤمنين كما احتمله بعض المفسرين.
قوله تعالى: (اولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) قضاء منه تعالى بثبوت الايمان حقا فيمن اتصف بما عده تعالى من الصفات الخمس ولذلك أطلق ما ذكره لهم من كريم الاجر في قوله: (لهم درجات عند ربهم) الاية فلهؤلاء من صفات الكمال وكريم الثواب وعظيم الاجر ما لكل مؤمن حقيقي.
وأما قوله: (لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) فالمغفرة هي الصفح الالهي عند ذنوبهم والرزق الكريم ما يرتزقون به من نعم الجنة وقد أراد الله سبحانه بالرزق الكريم الجنة ونعمها في مواضع من كلامه كقوله تعالى: فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين اولئك أصحاب الجحيم) الحج: 51 وغير ذلك.
وبذلك يظهر أن المراد بقوله: (لهم درجات عند ربهم) مراتب القرب والزلفى ودرجات الكرامة المعنوية وهو كذلك فإن المغفرة والجنة من آثار مراتب القرب من الله سبحانه وفروعه البتة.
والذي يشتمل عليه الاية من إثبات الدرجات لهؤلاء المؤمنين هو ثبوت جميع الدرجات لجميعهم لا ثبوت جميعها لكل واحد منهم فإنها من لوازم الايمان والايمان مختلف ذو مراتب فالدرجات الموهوبة بإزائه كذلك لا محالة فمن المؤمنين من له
/ صفحة 13 /
درجة واحدة ومنهم ذو الدرجتين ومنهم ذو الدرجات على اختلاف مراتبهم في الايمان.
ويؤيده قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة 11 وقوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون) آل عمران: 163.
وبما تقدم يظهر أن تفسير بعضهم ما في الاية من الدرجات بدرجات الجنة ليس على ما ينبغي وان المتعين كون المراد بها درجات القرب كما تقدم وإن كان كل منهما يلازم الاخر.
قوله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) إلى آخر الايتين ظاهر السياق أن قوله: (كما أخرجك) متعلق بما يدل عليه قوله تعالى: (قل الانفال لله والرسول) والتقدير: أن الله حكم بكون الانفال له ولرسوله بالحق مع كراهتهم له كما أخرجك من بيتك بالحق مع كراهة فريق منهم له فللجميع حق يترتب عليه من مصلحة دينهم ودنياهم ما هم غافلون عنه.
وقيل إنه متعلق بقوله: (يجادلونك في الحق) وقيل: إن العامل فيه معنى الحق والتقدير: هذا الذكر من الحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق والمعنيان - كما ترى - بعيدان عن سياق الاية.
والمراد بالحق ما يقابل الباطل وهو الامر الثابت الذي يترتب عليه آثاره الواقعية المطلوبة وكون الفعل - وهو الاخراج - بالحق هو أن يكون هو المتعين الواجب بحسب الواقع وقيل: المراد به الوحي وقيل: المراد به الجهاد وقيل غير ذلك وهي معان بعيدة.
والاصل في معنى الجدل شدة الفتل يقال: زمام جديل أي شديد الفتل وسمي الجدال جدالا لان فيه نزاعا بالفتل عن مذهب إلى مذهب كما ذكره في المجمع.
ومعنى الايتين: ان الله تعالى حكم في امر الانفال بالحق مع كراهتهم لحكمه كما اخرجك من بيتك بالمدينة إخراجا يصاحب الحق والحال ان فريقا من المؤمنين
/ صفحة 14 /
لكارهون لذلك ينازعونك في الحق بعد ما تبين لهم اجمالا والحال انهم يشبهون جماعة يساقون إلى الموت و هم ينظرون إلى ما أعد لهم من أسبابه وادواته.
(بحث روائي) في جامع الجوامع للطبرسي: قرأ ابن مسعود وعلي بن الحسين زين العابدين والباقر والصادق (عليه السلام): يسألونك الانفال أقول: ورواه عن ابن مسعود وكذا عن السجاد و الباقر والصادق (ع) غيره وفي الكافي بإسناده عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: الانفال كل أرض خربة قد باد أهلها وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحا وأعطوا بأيديهم على غير قتال - فقال -: وله - يعني الوالي - رؤوس الجبال وبطون الاودية والاجام وكل أرض ميتة لا رب لها وله صوافي الملوك: ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب لان الغصب كله مردود، وهو وارث من لا وارث له ويعول من لا حيلة له وفيه: بإسناده عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: (يسألونك عن الانفال) قال: من مات وليس له مولى فماله من الانفال اقول: وفي معنى الروايتين روايات كثيرة مروية من طرق اهل البيت (عليهم السلام) ولا ضير في عدم ذكرها الانفال بمعنى غنائم الحرب فإن الاية بموردها تدل عليه على ما يفيده سياقها.
وفي الدر المنثور: اخرج الطيالسي والبخاري في الادب المفرد ومسلم والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن سعد بن ابي وقاص قال: نزلت في اربع آيات من كتاب الله: كانت امي حلفت ان لا تأكل ولا تشرب حتى افارق محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: وإن جاهداك على ان تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا.
والثانية: انى كنت اخذت سيفا اعجبني فقلت: يا رسول الله هب لي هذا فنزلت: يسالونك عن الانفال.
/ صفحة 15 /
والثالثة: اني مرضت فأتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: يا رسول الله اني اريد ان اقسم مالي أفأوصي بالنصف؟ قال: لا فقلت: الثلث؟ فسكت فكان الثلث بعده جائزا والرابعة: اني شربت الخمر مع قوم من الانصار فضرب رجل منهم انفي بلحيي جمل فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله تحريم الخمر.
اقول: الرواية لا تخلو عن شئ أما اولا فلان قوله تعالى: (وإن جاهداك على ان تشرك بي) الاية ذيل قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه) لقمان 14 وهي بسياقها تأبى ان تكون نازلة عن سبب خاص على انه قد تقدم في ذيل قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ان لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) الايات الانعام: 151 ان الاحسان بالوالدين من الاحكام العامة غير المختصة بشريعة دون شريعة.
وأما ثانيا: فلان ما ذكر من اخذ السيف واستيهابه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يناسب قراءة (يسألونك الانفال) لا قراءة: (يسألونك عن الانفال) وقد تقدم توضيحه في البيان المتقدم.
واما ثالثا: فلان استقرار السنة على الايصاء بالثلث لم يكن بآية نازلة بل بسنة نبوية.
وأما رابعا: فلان قصة شربه الخمر مع جماعة من الصحابة وشج انفه بلحيي بعير وإن كانت حقة لكنه إنما شرب الخمر مع جماعة مختلطة من المهاجرين والانصار وقد شج انفه عمر بن الخطاب ثم انزل الله آية المائدة ولم ينزل للتحريم بل لتشديده وقد تقدم ذلك كله في ذيل قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان) المائدة: 90.
وفيه: اخرج احمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سننه عن ابي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الانفال فقال: فينا اصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أحلامنا فانتزعه الله من
/ صفحة 16 /
ايدينا وجعله إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين، عن براء يقول: عن سواء وفيه: اخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن ابي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدو فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمين يقتلون، وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لاحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لستم بأحق منا نحن أحدقنا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخفنا ان يصيب العدومنه غرة واشتغلنا به فنزلت: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم) فقسمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين، الحديث وفيه: اخرج ابن ابي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال النبي: من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر اسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردء ولو كان منكم شئ للجأتم الينا فاختصموا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) فقسم الغنائم بينهم بالسوية اقول: وفي هذه المعاني روايات أخر، وهنا روايات تدل على تفصيل القصة تتضح بها معنى الايات سنوردها في ذيل الايات التالية.
وفي بعض الروايات ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدهم ان يعطيهم السلب والغنيمة ثم نسخه الله تعالى: (بقوله قل الانفال لله والرسول) وإلى ذلك يشير ما في هذه الرواية ولذلك ربما قيل: انه لا يجب على الامام ان يفي بما وعد به المحاربين لكن يبعده
/ صفحة 17 /
اختلافهم في امر الغنائم يوم بدر إذ لو كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدهم بذلك لم يختلفوا مع صريح بيانه.
وفيه: اخرج ابن جرير عن مجاهد: انهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخمس بعد الاربعة الاخماس: فنزلت (يسألونك عن الانفال).
اقول: وهو لا ينطبق على ما تقدم من مضمون الاية على ما يعطيه السياق وفي بعض ما ورد عن المفسرين السلف كسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وكذا عن ابن عباس ان قوله تعالى: (يسالونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) الاية منسوخة بقوله: (واعلموا ان ما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول) الاية وقد تقدم في بيان الاية ما ينتفي به احتمال النسخ.
وفيه اخرج مالك وابن ابي شيبة وأبو عبيد وعبد بن حميد وابن جرير والنحاس وابن المنذر وابن ابي حاتم وابو الشيخ وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن الانفال: فقال الفرس من النفل والسلب من النفل فأعاد المسألة فقال ابن عباس ذلك ايضا.
ثم قال الرجل: الانفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه فقال ابن عباس: هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر وفي لفظ: ما احوجك إلى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقي وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه وفيه: في قوله تعالى: (اولئك هم المؤمنون حقا) اخرج الطبراني عن الحارث ابن مالك الانصاري انه مر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: كيف اصبحت يا حارث؟ قال اصبحت مؤمنا حقا قال: انظر ما تقول فان لكل شئ حقيقة فما حقيقة ايمانك؟ فقال: عرفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمات نهاري وكأني انظر إلى اهل الجنه يتزاورون فيها، وكأني انظر الى اهل النار يتضاغون فيها، قال يا حارث عرفت فالزم ثلاثا.
اقول: والحديث مروي من طرق الشيعة بأسانيد عديدة
/ صفحة 18 /
* * *
وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين - 7.
ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون - 8.
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين - 9 وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم - 10 إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام - 11 إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان - 12 ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب - 13 ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار - 14 (بيان) تشير الايات إلى قصة بدر وهي أول غزوة في الاسلام وظاهر سياق الايات أنها نزلت بعد انقضائها على ما سيتضح.
/ صفحة 19 /
قوله تعالى: (واذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، أي واذكروا إذ يعدكم الله، وهو بيان منن الله وعد نعمه عليهم ليكونوا على بصيرة من ان الله سبحانه لا يستقبلهم بأمر ولا يأتيهم بحكم إلا بالحق وفيه حفظ مصالحهم وإسعاد جدهم فلا يختلفوا فيما بينهم ولا يكرهوا ما يختاره لهم ويكلوا أمرهم إليه فيطيعوه ورسوله.
والمراد بالطائفتين العير والنفير والعير قافلة قريش وفيها تجارتهم وأموالهم وكان عليها أربعون رجلا منهم أبو سفيان بن حرب، والنفير جيش قريش وهم زهاء الف رجل.
وقوله (إحدى الطائفتين) مفعول ثان لقوله: (يعدكم) وقوله: (أنها لكم) بدل منه وقوله (وتودون) الاية في موضع الحال، والمراد بغير ذات الشوكة: الطائفة غير ذات الشوكة وهي العير الذي كان أقل عدة وعدة من النفير، والشوكة الحدة، استعارة من الشوك.
وقوله: و (يريد الله أن يحق الحق بكلماته) في موضع الحال والمراد باحقاق الحق إظهاره وإثباته بترتيب آثاره عليه، وكلمات الله هي ما قضى به من نصرة أنبيائه وإظهار دينه الحق، قال تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) الصافات 173 وقال تعالى: (يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) الصف: 9.
وقرئ: (بكلمته): وهو اوجه وأقرب والدابر ما يأتي بعد الشئ مما يتعلق به ويتصل إليه وقطع دابر الشئ، كناية عن إفنائه واستئصاله بحيث لا يبقى بعده شئ من آثاره المتفرعة عليه المرتبطة به.
ومعنى الاية: واذكروا إذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم تستعلون عليها بنصر الله إما العير وإما النفير وأنتم تودون أن تكون تلك الطائفة هي العير لما تعلمون من شوكة النفير، وقوتهم وشدتهم مع ما لكم من الضعف والهوان، والحال
/ صفحة 20 /
ان الله يريد خلاف ذلك وهو أن تلاقوا النفير فيظهركم عليهم ويظهر ما قضى ظهوره من الحق، ويستأصل الكافرين ويقطع دابرهم.
قوله تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) ظاهر السياق ان اللام للغاية، وقوله: (ليحق) الاية متعلق بقوله: (يعدكم الله) أي إنما وعدكم الله ذلك وهو لا يخلف الميعاد ليحق بذلك الحق ويبطل الباطل ولو كان المجرمون يكرهونه ولا يريدونه.
وبذلك يظهر ان قوله: (ليحق الحق) الاية ليس تكرارا لقوله: (ويريد الله ان يحق الحق بكلماته وإن كان في معناه.
قوله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) الاستغاثة طلب الغوث وهو النصرة كما في قوله: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) القصص: 15 والامداد معروف، وقوله: (مردفين) من الارداف وهو ان يجعل الراكب غيره ردفا له، والردف التابع، قال الراغب: الردف التابع، وردف المرأة عجيزتها، والترادف التتابع، والرادف: المتأخر، والمردف المقدم الذي اردف غيره.
انتهى.
وبهذا المعنى تلائم.
الاية ما في قوله تعالى فيما يشير به إلى هذه القصة في سورة آل عمران: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم اذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) آل عمران: 126.
فإن تطبيق الايات من السورتين يوضح ان المراد بنزول الف من الملائكة مردفين نزول الف منهم يستتبعون آخرين فينطبق الالف المردفون على الثلاثة آلاف المنزلين.
وبذلك يظهر فساد ما قيل: ان المراد بكون الملائكة مردفين كون الالف متبعين الفا آخر لان مع كل واحد منهم ردفا له فيكونون الفين، وكذا ما قيل:
/ صفحة 21 /
ان المراد كون بعضهم إثر بعض، وكذا ما قيل: إن إلمراد مجيئهم على أثر المسلمين بأن يكون مردفين بمعنى رادفين، وكذا ما قيل: إن المراد إردافهم المسلمين بأن يتقدموا عسكر المسلمين فيلقوا في قلوب الذين كفروا الرعب.
قوله تعالى: (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) الضميران في قوله: (جعله) وقوله: (به) للامداد بالملائكة على ما يدل عليه السياق، والمعنى ان الامداد بالملائكة إنما كان لغرض البشرى واطمئنان نفوسكم لا ليهلك بأيديهم الكفار كما يشير إليه قوله تعالى بعد: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة اني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب).
وبذلك يتأيد ما ذكره بعضهم: ان الملائكة لم ينزلوا ليقتلوا المشركين ولا قتلوا منهم احدا فقد قتل ثلث المقتولين منهم أو النصف علي (عليه السلام) والثلثين الباقين أو النصف سائر المسلمين.
وإنما كان للملائكة تكثير سواد المسلمين حينما اختلطوا بالقوم وتثبيت قلوب المسلمين، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وسيجئ بعض الكلام في ذلك.
وقوله: (وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) بيان انحصار حقيقة النصر فيه تعالى وأنه لو كان بكثرة العدد والقوة والشوكه كانت الدائرة يومئذ للمشركين بما لهم من الكثرة والقوة على المسلمين على ما بهم من القلة والضعف.
وقد علل بقوله: (إن الله عزيز حكيم) جميع مضمون الاية وما يتعلق به من الاية السابقة فبعزته نصرهم وامدهم، وبحكمته جعل نصره على هذه الشاكلة.
قوله تعالى: (إذ يغشيكم النعاس امنة منه) إلى آخر الاية.
النعاس اول النوم وهو خفيفه والتغشية الاحاطة، والامنة الامان، وقوله: (منه) أي من الله وقيل: أي من العدو، والرجز هو الرجس والقذارة، والمراد برجز الشيطان القذارة التي يطرأ القلب من وسوسته وتسويله.
ومعنى الاية: ان النصر والامداد بالبشرى واطمئنان القلوب كان في وقت يأخذكم النعاس للامن الذي افاضه الله على قلوبكم فنمتم ولو كنتم خائفين مرتاعين لم
/ صفحة 22 /
يأخذكم نعاس ولا نوم، وينزل عليكم المطر ليطهركم به ويذهب عنكم وسوسة الشيطان وليربط على قلوبكم ويشد عليها - وهو كناية عن التشجيع - وليثبت بالمطر اقدامكم في الحرب بتلبد الرمل أو بثبات القلوب.
والاية تؤيد ما ورد ان المسلمين سبقهم المشركون إلى الماء فنزلوا على كثيب رمل، وأصبحوا محدثين ومجنبين، وأصابهم الظما، ووسوس إليهم الشيطان فقال: إن عدوكم قد سبقكم إلى الماء، وأنتم تصلون مع الجنابة، والحدث، وتسوخ أقدامكم في الرمل فأمطر عليهم الله حتى اغتسلوا به من الجنابة، وتطهروا به من الحدث، وتلبدت به أرضهم، وأوحلت أرض عدوهم قوله تعالى: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) إلى آخر الاية حال الظرف في اول الاية كحال الظرف في قوله: (إذ تستغيثون ربكم) وقوله: (إذ يغشيكم النعاس) ومعنى الاية ظاهر.
وأما قوله: (فاضربوا فوق الاعناق واضربو منهم كل بنان) فالظاهر أن يكون المراد بفوق الاعناق الرؤوس وبكل بنان جميع الاطراف من اليدين والرجلين أو أصابع الايدي لئلا يطيقوا حمل السلاح بها والقبض عليه.
ومن الجائز أن يكون الخطاب بقوله: (فاضربوا) الخ للملائكة كما هو المتسابق إلى الذهن، والمراد بضرب فوق الاعناق وكل بنان ظاهر معناه، أو الكناية عن إذلالهم وإبطال قوة الامساك من أيديهم بالارعاب، وأن يكون الخطاب للمؤمنين والمراد به تشجيعهم على عدوهم بتثبيت أقدامهم والربط على قلوبهم، وحثهم وإغراؤهم بالمشركين.
قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب) المشاقة المخالفة وأصله الشق بمعنى البعض كأن المخالف يميل إلى شق غير شق من يخالفه، والمعنى إن هذا العقاب للمشركين بما أوقع الله بهم، لانهم خالفوا الله ورسوله وألحوا وأصروا على ذلك ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب.
قوله تعالى: (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) خطاب تشديدي للكفار يشير إلى ما نزل بهم من الخزي ويأمرهم بأن يذوقوه، ويذكر لهم أن وراء ذلك عذاب النار.
/ صفحة 23 /
(بحث روائي) في المجمع قال ابن عباس: لما كان يوم بدر واصطف القوم للقتال قال أبو جهل: اللهم أولانا بالنصر فانصره، واستغاث المسلمون فنزلت الملائكة ونزل قوله: (إذ تستغيثون ربكم) إلى آخره وقيل: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال: اللهم انجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الارض فما زال يهتف ربه مادا يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه فأنزل الله: (إذ تستغيثون ربكم) الاية: عن عمر بن الخطاب والسدي وأبي صالح وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
قال: ولما أمسى رسول الله وجنه الليل ألقى الله على أصحابه النعاس وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا تثبت فيه قدم فأنزل الله عليهم المطر رذاذاحتى لبد الارض وثبت أقدامهم وكان المطر على قريش مثل العزالى، وألقى الله في قلوبهم الرعب كما قال الله تعالى: (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب).
أقول: لفظ الاية (إذ تستغيثون ربكم) الخ لا يلائم نزولها يوم بدر عقيب استغاثتهم بل السياق يدل على نزولها مع قوله تعالى: (يسألونك عن الانفال) والايات التالية له وهي تدل على حكاية حال ماضية وامتنانه تعالى على المسلمين بما أنزل عليهم من آيات النصر وتفاريق النعم ليشكروا له ويطيعوه فيما يأمرهم وينهاهم.
ولعل المراد من ذكر نزول الاية بعد ذكر استغاثتهم انطباق مضمون الاية على الواقعة، وهو كثير النظير في الروايات المشتملة على أسباب النزول.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في العريش: اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعد هذا اليوم فنزل: (إذ تستغيثون ربكم) فخرج يقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر فأيده الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وكثرهم في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعينهم فنزل: (وهم بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعدوة الدنيا عند القليب.
/ صفحة 24 /
أقول: والكلام فيه كالكلام في سابقه.
وفي المجمع: ذكر البلخي عن الحسن: أن قوله: (وإذ يعدكم الله) الاية نزلت قبل قوله: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) وهي في القراءة بعدها.
) أقول: وتقدم مدلول إحدى الايتين على مدلول الاخرى بحسب الوقوع لا يلازم سبقها نزولا، ولا دليل من جهة السياق يدل على ما ذكره.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن يحيى الخثعمي عن ابى عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين انها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، فقال: الشوكة التي فيها القتال.
أقول: وروى مثله القمى في تفسيره وفي المجمع قال أصحاب السير وذكر أبو حمزة وعلي بن ابراهيم في تفسيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - أقبل أبو سفيان بعير قريش من الشام وفيها أموالهم وهي اللطيمة، وفيها أربعون راكبا من قريش فندب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه للخروج إليها ليأخذوها، وقال: لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم، ولم يظنوا ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلقى كيدا ولا حربا فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب لا يرونها إلا غنيمة لهم.
فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي صلى الله عليه وآله استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره ان يأتي قريشا فيستنفرهم - ويخبرهم ان محمدا قد تعرض لعيرهم في أصحابه فخرج ضمضم سريعا إلى مكة.
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب رأت فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بثلاث ليال أن رجلا أقبل على بعير له ينادى يا آل غالب اغدوا إلى مصارعكم ثم وافى بجمله على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة من ذلك وأخبرت العباس بذلك فأخبر العباس عتبة بن ربيعة فقال عتبة: هذه مصيبة تحدث في قريش، وفشت الرؤيا فيهم وبلغ ذلك أبا جهل فقال: هذه نبية ثانية في بني عبد المطلب، واللات والعزى
/ صفحة 25 /
لننظرن ثلاثة أيام فإن كان ما رأت حقا وإلا لنكتبن كتابا بيننا: انه ما من اهل بيت من العرب أكذب رجالا ونساء من بني هاشم.
فلما كان اليوم الثالث أتاهم ضمضم يناديهم بأعلى الصوت: يا آل غالب يا آل غالب.
اللطيمة اللطيمة.
العير العير.
ادركوا وما أراكم تدركون إن محمدا والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرضون لعيركم فتهيأوا للخروج، وما بقي احد من عظماء قريش إلا أخرج مالا لتجهيز الجيش، وقالوا من لم يخرج نهدم داره، وخرج معهم العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن ابي طالب، وأخرجوا معهم القيان يضربن الدفوف.
وخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فلما كان بقرب بدر اخذ عينا للقوم فأخبره بهم، وفي حديث ابى حمزة بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ايضا عينا له على العير اسمه عدى فلما قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره اين فارق العير نزل جبرائيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بنفير المشركين من مكة فاستشار اصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله انها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت، ولا ذلت منذ عزت، ولم نخرج على هيئه الحرب، وفي حديث ابي حمزة: أنا عالم بهذا الطريق فارق عدي العير بكذا وكذا، وساروا وسرنا فنحن والقوم على ماء بدر يوم كذا وكذا كأنا فرسا رهان فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): اجلس فجلس.
ثم قام عمر بن الخطاب فقال مثل ذلك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): اجلس فجلس.
ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله انها قريش وخيلاؤها، وقد آمنا بك وصدقنا وشهدنا ان ما جئت به حق، والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه، معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكنا نقول: إمض لامر ربك فإنا معك مقاتلون، فجزاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرا على قوله ذاك.
ثم قال: اشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الانصار لان أكثر الناس منهم، ولانهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: إنا برآء من ذمتك حتى تصل إلى دارنا ثم انت في ذمتنا نمنعك مما نمنع ابناءنا ونساءنا، فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يتخوف ان لا يكون الانصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدو، وأن ليس عليهم ان ينصروه خارج المدينة.
/ صفحة 26 /
فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي انت وامي يا رسول الله كأنك اردتنا.
فقال: نعم.
قال: بأبي انت وامي يا رسول الله إنا قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به حق من عند الله فمرنا بما شئت، وخذ من اموالنا ما شئت، واترك منها ما شئت، والله لو أمرتنا ان نخوض هذا البحر لخضناه معك ولعل الله عز وجل ان يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله.
ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: سيروا على بركة الله فان الله عز وجل قد وعدني احدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده، والله لكأنى انظر إلى مصرع ابى جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان (1).
وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرحيل، وخرج إلى بدر وهو بئر، وفي حديث ابي حمزة الثمالى: بدر رجل من جهينة والماء ماؤه فإنما سمى الماء باسمه، وأقبلت قريش وبعثوا عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا لهم: من انتم؟ قالوا: نحن عبيد قريش.
قالوا: فأين العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلى فانفتل من صلاته وقال: ان صدقوكم ضربتموهم وان كذبوكم تركتموهم، فأتوه بهم فقال لهم: من انتم؟ قالوا: يا محمد نحن عبيد قريش، قال: كم القوم؟ قالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: كم ينحرون في كل يوم من جزور؟ قالوا: تسعة إلى عشرة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): القوم تسعمائة إلى الف رجل، وأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بهم فحبسوا وبلغ ذلك قريشا ففزعوا وندموا على مسيرهم.
ولقى عتبة بن ربيعة ابا البخترى بن هشام فقال: اما ترى هذا البغى والله ما أبصر موضع قدمى خرجنا لنمنع عيرنا وقد افلتت فجئنا بغيا وعدوانا، والله ما افلح قوم بغوا قط، ولوددت ان ما في العير من اموال بني عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير، فقال له أبو البخترى: انك سيد من سادات قريش فسر في الناس وتحمل العير التى اصابها محمد وأصحابه بنخلة (2) ودم ابن الحضرمي فانه حليفك.
* (هامش) *
(1) وقد كان صلى الله عليه وآله يشير بذلك إلى لقاء النفير وهم يرجون لقاء العير.
(2) وقد تقدمت الرويات في قصته في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) الاية، البقرة آية 217.
(*)
/ صفحة 27 /
فقال له: على ذلك، وما على احد منا خلاف إلا ابن الحنظلية يعنى أبا جهل فصر إليه وأعلمه انى حملت العيرودم ابن الحضرمي وهو حليفي وعلى عقله.
قال: فقصدت خباءه وأبلغته ذلك، فقال ان عتبة يتعصب لمحمد فانه من بنى عبد مناف وابنه معه يريد ان يخذل بين الناس لا واللات والعزى حتى نقحم عليهم يثرب أو نأخذهم اسارى فندخلهم مكة وتتسامع العرب بذلك، وكان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وكان أبو سفيان لما جاز بالعير بعث إلى قريش: قد نجى الله عيركم فارجعوا ودعوا محمدا والعرب، وادفعوه بالراح ما اندفع، وإن لم ترجعوا فردوا القيان فلحقهم الرسول في الجحفة، فأراد عتبة ان يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم وردوا القيان من الجحفة.
قال: وفزع اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما بلغهم كثرة قريش، واستغاثوا وتضرعوا، فأنزل الله عز وجل: (إذ تستغيثون ربكم) وما بعده.
قال الطبرسي: ولما اصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر عبأ اصحابه، فكان في عسكره فرسان: فرس للزبير بن عوام، وفرس للمقداد بن الاسود، وكان في عسكره سبعون جملا كانوا يتعاقبون عليها، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن ابى طالب (عليه السلام) ومرثد بن ابى مرثد الغنوى يتعاقبون على جمل لمرثد بن ابى مرثد، وكان في عسكر قريش اربعمائة فرس، وقيل: مائتا فرس.
فلما نظرت قريش إلى قلة اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال أبو جهل: ما هم إلا أكلة رأس لو بعثنا إليهم عبيدنا لاخذوهم اخذا باليد، فقال عتبة بن ربيعة: أترى لهم كمينا أو مددا؟ فبعثوا عمير بن وهب الجمحى وكان فارسا شجاعا فجال بفرسه حتى طاف على عسكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رجع فقال: ليس لهم كمين ولا مدد ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلمون ويتلمظون تلمظ الافاعى ما لهم ملجأ إلا سيوفهم، وما أراهم يولون حتى يقتلوا، ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم فارتأوا رأيكم فقال له أبو جهل: كذبت وجبنت.
فأنزل الله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) فبعث إليهم رسول الله
/ صفحة 28 /
(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا معشر قريش انى اكره ان ابدأ بكم فخلونى والعرب وارجعوا فقال عتبة: ما رد هذا قوم قط فأفلحوا، ثم ركب جملا له احمر فنظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ان يك عند احد خير فعند صاحب الجمل الاحمر وإن يطيعوه يرشدوا.
وخطب عتبة فقال في خطبته: يا معشر قريش اطيعونى اليوم واعصوني الدهر إن محمدا له إل وذمة وهو ابن عمكم فخلوه والعرب فإن يك صادقا فأنتم أعلى عينا به وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب امره فغاظ ابا جهل قوله وقال له: جبنت وانتفخ سحرك فقال: يا مصفر إسته مثلى يجبن؟ وستعلم قريش أينا ألام وأجبن؟ وأينا المفسد لقومه.
ولبس درعه وتقدم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقال: يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليهم ثلاثة نفر من الانصار وانتسبوا لهم فقالوا: ارجعوا إنما نريد الاكفاء من قريش فنظر رسول الله صلى الله عيله وآله وسلم إلى عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب - وكان له يومئذ سبعون سنة - فقال: قم يا عبيدة، ونظر إلى حمزة فقال: قم يا عم ثم نظر إلى على بن ابى طالب فقال: قم يا على - وكان اصغر القوم - فاطلبوا بحقكم الذى جعله الله لكم فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها تريد ان تطفئ نور الله ويأبى الله إلا ان يتم نوره.
ثم قال: يا عبيدة عليك بعتبة ابن ربيعة، وقال لحمزة عليك بشيبة، وقال لعلي: عليك بالوليد.
فمروا حتى انتهوا إلى القوم فقالوا: أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأطنها فسقطا جميعا، وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما، وحمل أمير المؤمنين على (عليه السلام) على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه قال على: لقد اخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها هامتي فظننت ان السماء وقعت على الارض.
ثم اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون: يا علي أما ترى ان الكلب قد نهز عمك فحمل عليه على (عليه السلام) ثم قال: يا عم طأطئ رأسك وكان حمزة اطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه على فطرح نصفه، ثم جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز عليه.
/ صفحة 29 /
وفي رواية اخرى انه برز حمزة لعتبة، وبرز عبيدة لشيبة وبرز على للوليد فقتل حمزة عتبة، وقتل عبيدة شيبة، وقتل علي (عليه السلام) الوليد، فضرب شيبة رجل عبيدة فقطعها فاستنقذه حمزة وعلى، وحمل عبيدة حمزة وعلى حتى اتيا به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستعبر فقال: يا رسول الله ألست شهيدا؟ قال: بلى انت اول شهيد من اهل بيتى.
وقال أبو جهل لقريش: لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر ابناء ربيعة عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا، وعليكم بقريش فخذوهم اخذا حتى ندخلهم مكة فنعرفهم ضلالتهم التى هم عليها.
وجاء إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جشعم فقال لهم: أنا جار لكم ادفعوا إلى رايتكم فدفعوا إليه رأية الميسرة، وكانت الراية مع بنى عبد الدار فنظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لاصحابه: غضوا ابصاركم، وعضوا على النواجذ، ورفع يده فقال: اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد ثم اصابه الغشي فسري عنه وهو يسلك العرق عن وجهه فقال: هذا جبرائيل قد اتاكم بألف من الملائكة مردفين.
وفي الامالى بإسناده عن الرضا عن آبائه (عليه السلام): ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سافر إلى بدر في شهر رمضان وافتتح مكة في شهر رمضان.
اقول: وعلى ذلك اطبق اهل السير والتواريخ، قال اليعقوبي في تاريخه: وكانت وقعة بدر يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان بعد مقدمه (صلى الله عليه وآله وسلم) - يعنى إلى المدينة - بثمانية عشر شهرا.
وقال الواقدي: ونزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وادى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان فبعث عليا والزبير وسعد بن ابى وقاص وبسبس بن عمرو يتجسسون على الماء فوجدوا روايا قريش فيها سقاؤهم فأسروهم وأفلت بعضهم وأتوا بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو قائم يصلى فسألهم المسلمون فقالوا: نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهم فلما أن لقوهم بالضرب قالوا: نحن لابي سفيان ونحن في العير، وهذا العير بهذا القوز فكانوا إذا قالوا ذلك يمسكون عن ضربهم.
فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته ثم قال: إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم.
/ صفحة 30 /
فلما أصبحوا عدل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصفوف وخطب المسلمين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنى أحثكم على ما حثكم الله عليه، وأنهاكم عما نهاكم الله عنه فإن الله عظيم شأنه، يأمر بالحق، ويحب الصدق، ويعطى على الخير أهله على منازلهم عنده به يذكرون، وبه يتفاضلون، وإنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغى به وجهه، وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهم وينجى به من الغم تدركون به النجاة في الاخرة فيكم نبى الله يحذركم ويأمركم فاستحيوا اليوم أن يطلع الله على شئ، من أمركم يمقتكم عليه فإنه تعالى يقول: لمقت الله أكبر من أنفسكم انظروا في الذى أمركم به من كتابه، وأراكم من آياته وما أعزكم به بعد الذلة فاستكينوا له يرض ربكم عنكم، وأبلوا ربكم في هذه المواطن أمرا تستوجبوا به الذى وعدكم من رحمته ومغفرته فإن وعده حق، وقوله صدق، وعقابه شديد، وإنما أنا وأنتم بالله الحى القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا، وبه اعتصمنا، وعليه توكلنا، وإليه المصير، ويغفر الله لى للمسلمين وفي المجمع: ذكر جماعة من المفسرين كابن عباس وغيره: أن جبرائيل قال للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال رسول اله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما التقى الجمعان لعلي: أعطني قبضة من حصا الوادي فناوله كفا من حصا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شئ ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم.
وفي الامالى بإسناده عن ابن عباس قال: وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على قتلى بدر فقال: جزاكم الله من عصابة شرا لقد كذبتموني صادقا وخونتم أمينا، ثم التفت إلى أبى جهل بن هشام فقال: إن هذا أعتى على الله من فرعون إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحد الله، وإن هذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى.
وفي المغازى للواقدي: وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر بالقليب أن تغور ثم أمر بالقتلى فطرحوا فيها كلهم إلا أمية بن خلف فإنه كان مسمنا انتفخ من يومه فلما
/ صفحة 31 /
أرادوا أن يلقوه تزايل لحمه فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أتركوه، فأقروه وألقوا عليه من التراب والحجارة ما غيبه.
ثم وقف على أهل القليب فناداهم رجلا رجلا: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإنى قد وجدت ما وعدني ربى حقا بئس القوم كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس.
فقالوا يا رسول الله أتنادى قوما قد ماتوا؟ فقال: لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق، وفي رواية أخرى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.
قال: وكان انهزام قريش حين زالت الشمس فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر وأمر عبد الله بن كعب بقبض الغنائم وحملها، وأمر نفرا من أصحابه أن يعينوه فصلى العصر ببدر ثم راح فمر بالاثيل قبل غروب الشمس فنزل به وبات، وبأصحابه جراح وليست بالكثيرة، وأمر ذكوان بن عبد قيس أن يحرس المسلمين حتى كان آخر الليل فارتحل.
وفي تفسير القمى في خبر طويل: وخرج أبو جهل من بين الصفين وقال: اللهم إن محمدا أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه فأحنه الغداة فأنزل الله على رسوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين).
ثم أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كفا من حصى ورمى به في وجوه قريش وقال: شاهت الوجوه فبعث الله رياحا تضرب في وجوه قريش فكانت الهزيمة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم لا يفلتن فرعون هذه الامة أبو جهل بن هشام فقتل منهم سبعين، واسر منهم سبعين.
وألتقى عمرو بن الجموع مع أبى جهل فضرب عمرو أبا جهل على فخذه وضرب أبو جهل عمرا على يده فأبانها من العضد فتعلقت بجلده فاتكى عمرو على يده برجله ثم تراخى إلى السماء حتى انقطعت الجلدة ورمى بيده.
وقال عبد الله بن مسعود: انتهيت إلى أبى جهل وهو يتشحط بدمه فقلت:
/ صفحة 32 /
الحمد لله الذى أخزاك فرفع رأسه فقال: إنما اخزى الله عبدا، ابن ام عبد لمن الدبرة ويلك؟ قلت: لله ولرسوله وإنى قاتلك، ووضعت رجلى على عنقه فقال: ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعى الغنم أما انه ليس شئ أشد من قتلك اياى في هذا اليوم ألا تولى قتلى رجل من المطلبيين أو رجل من الاحلاف؟ فاقتلعت بيضة كانت على رأسه فقتلته وأخذت رأسه وجئت به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقلت: يا رسول الله البشرى هذا رأس ابى جهل بن هشام فسجد لله شكرا.
وفي الارشاد للمفيد ثم بارز امير المؤمنين (عليه السلام) العاص بن سعيد بن العاص بعد ان احجم عنه من سواه فلم يلبث ان قتله، وبرز إليه حنظلة بن ابى سفيان فقتله، وبرز إليه بعده طعيمة بن عدى فقتله، وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش، ولم يزل يقتل واحدا منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا سبعين رجلا، تولى كافة من حضر بدرا من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسومين قتل الشطر منهم، وتولى امير المؤمنين (عليه السلام) قتل الشطر الاخر وحده.
وفي الارشاد أيضا: قد أثبتت رواة العامة والخاصة معا اسماء الذين تولى امير المؤمنين (عليه السلام) قتلهم ببدرمن المشركين على اتفاق فيما نقلوه من ذلك واصطلاح فكان ممن سموه: الوليد بن عتبة كما قدمنا وكان شجاعا جريا وقاحا فتاكا تهابه الرجال، والعاص بن سعيد وكان هولا عظيما تهابه الابطال، وهو الذى حاد عنه عمر بن الخطاب وقصته فيما ذكرناه مشهورة نحن نبينها فيما نورده، وطعيمة بن عدى بن نوفل وكان من رؤوس اهل الضلال، ونوفل بن خويلد وكان من اشد المشركين عداوة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت قريش تقدمه وتعظمه وتطيعه، وهو الذى قرن أبا بكر وطلحة قبل الهجرة بمكة وأوثقهما بحبل وعذبهما يوما إلى الليل حتى سئل في امرهما، ولما عرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حضوره بدرا سأل الله ان يكفيه امره فقال: اللهم اكفني نوفل بن خويلد فقتله أمير المؤمنين (عليه السلام).
وزمعة بن الاسود (1)، والحارث بن زمعة، والنضر بن الحارث بن عبد الدار، وعمير بن عثمان بن كعب بن تيم عم طلحة بن عبيد الله، وعثمان ومالك ابنا عبيد الله
* (هامش) *
(1) في بعض النسخ: وعقيل بن الاسود وفيه فذلك ستة وثلاثون.
(*)
/ صفحة 33 /
أخوا طلحة بن عبيد الله، ومسعود بن ابى امية بن المغيرة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة وحذيفة بن ابى حذيفة بن المغيرة، و [ أبو ] قيس (1) بن الوليد بن المغيرة، وحنظلة بن أبى سفيان، وعمرو بن مخزوم، وأبو منذر بن ابى رفاعة، ومنبه بن الحجاج السهمى، والعاص بن منبه، وعلقمة بن كلدة، وأبو العاص بن قيس بن عدى ومعاوية بن المغيرة بن ابى العاص، ولوذان بن ربيعة، وعبد الله بن المنذر بن ابى رفاعة، ومسعود بن امية بن المغيرة، وحاجب بن السائب بن عويمر، وأوس بن المغيرة بن لوذان، وزيد بن مليص، وعاصم بن ابى عوف، وسعيد بن وهب حليف بنى عامر، ومعاوية بن [ عامر بن ] عبد القيس، وعبد الله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد، والسائب بن مالك، وأبو الحكم بن الاخنس، وهشام بن ابى امية بن المغيرة.
فذلك خمسة وثلاثون رجلا سوى من اختلف فيه أو شرك امير المؤمنين (عليه السلام) فيه غيره وهم اكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدمناه.
أقول: وذكر غيره كما في المجمع انه قتل يوم بدر سبعة وعشرين رجلا، وذكر الواقدي: ان الذى اتفق عليه قول النقلة والرواة من قتلاه تسعة رجال والباقى مختلف فيه.
لكن البحث العميق عن القصة وما يحتف بها من أشعارهم والحوادث المختلفة التى حدثت بعدها تسئ الظن بهذا الاختلاف، وقد نقل عن محمد بن اسحاق ان اكثر قتلى المشركين يوم بدر كان لعلي (عليه السلام).
وقد عد الواقدي فيما ذكره ابن ابى الحديد من قتلى المشركين في وقعة بدر اثنين وخمسين رجلا ونسب قتل اربعة وعشرين منهم إليه (عليه السلام) ممن انفرد بقتله أو شارك غيره.
ومن شعر اسيد بن ابى اياس يحرض مشركي قريش على علي (عليه السلام) على ما في الارشاد والمناقب قوله:
* (هامش) *
(1) هو أخو خالد بن الوليد، والثلاثة الذين قتلوا ابناء اعمامه.
(*)
/ صفحة 34 /
في كل مجمع غاية أخزاكم جزع أبر على المذاكى القرح لله دركم ألما تنكروا قد ينكر الحر الكريم ويستحى هذا ابن فاطمة الذى أفناكم ذبحا وقتلة قعصة لم تذبح اعطوه خرجا واتقوا تضريبه فعل الذليل وبيعة لم تربح أين الكهول وأين كل دعامة في المعظلات وأين زين الابطح أفناهم قعصا وضربا يفترى بالسيف يعمل حده لم يصفح وفي الارشادروى شعبة عن ابى اسحاق عن حارث بن مضرب قال: سمعت على بن ابى طالب (عليه السلام) يقول: لقد حضرنا بدرا وما فينا فارس غير المقداد بن الاسود، ولقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا من نام غير رسول الله صلى الله عليه وآله فإنه كان منتصبا في اصل شجرة يصلى فيها ويدعو حتى الصباح.
اقول: والروايات في قصة بدر كثيرة جدا وقد اقتصرنا منها على ما يتضح به فهم مضامين الايات، ومن الاخبار ما سيأتي إن شاء الله في تضاعيف البحث عن الايات التالية المشيرة الى بعض اطراف القصة.
(فهرس اسماء شهداء بدر (رض) في البحار عن الواقدي قال: حدثنى عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري كم استشهد من المسلمين ببدر؟ قال: اربعة عشر: ستة من المهاجرين، وثمانية من الانصار.
قال: فمن بنى المطلب بن عبد مناف، عبيدة بن الحارث قتله عتبه وفى غير رواية الواقدي قتله شيبة فدفنه النبي صلى الله عليه وآله بالصفراء، ومن بنى زهرة عمير بن ابى وقاص قتله عمرو بن عبدود فارس الاحزاب، وعمير بن عبد ود ذو الشمالين حليف لبنى زهرة قتله أبو اسامة الجشمى، ومن بنى عدى عاقل بن ابى البكير حليف لهم من بنى سعد قتله مالك بن زهير، ومهجع مولى عمر بن الخطاب قتله عامر بن الحضرمي ويقال: إن مهجعااول من قتل من المهاجرين، ومن بنى الحارث بن فهر صفوان بن بيضاء قتله طعيمة بن عدى.
/ صفحة 35 /
ومن الانصار ثم من بنى عمرو بن عوف، مبشر بن عبد المنذر قتله أبو ثور، وسعد بن خيثمة قتله عمرو بن عبد ود، ويقال: طعيمة بن عدى، ومن بنى عدى بن النجار حارثة بن سراقة رماه حنان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله، ومن بنى مالك بن النجار عوف ومعوذ ابنا عفراء قتلهما أبو جهل، ومن بنى سلمة عمير بن الحمام بن الجموح قتله خالد بن الاعلم، ويقال: انه اول قتيل قتل من الانصار وقد روى: ان اول قتيل منهم حارثة بن سراقة، ومن بنى زريق رافع بن المعلى قتله عكرمة بن ابى جهل، ومن بنى الحارث بن الخزرج يزيد بن الحارث قتله نوفل ابن معاوية فهؤلاء الثمانية من الانصار.
وروى عن ابن عباس: ان أنسة مولى النبي صلى الله عليه وسلم قتل ببدر، وروى: ان معاذ بن ماعص جرح ببدر فمات من جراحته بالمدينة، وابن [ ان ظ ] عبيد بن السكن جرح فاشتكى جرحه فمات منه.
* * *
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار - 15.
ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير - 16.
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم - 17.
ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين - 18.
إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين - 19.
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون - 20.
ولا تكونوا
/ صفحة 36 /
كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون - 21.
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون - 22.
ولو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون - 23.
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون - 24.
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب - 25.
واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون - 26.
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون - 27.
واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم - 28.
يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيأتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم - 29.
(بيان) أوامر ونواه متعلقة بالجهاد الاسلامي مما يناسب سوق القصة، وحث على تقوى الله وإنذار وتخويف من مخالفة الله ورسوله والتعرض لسخطه سبحانه، وفيها اشارة إلى بعض ما جرى في وقعة بدر من منن الله وأياديه على المؤمنين.
قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم
/ صفحة 37 /
الادبار) اللقاء مصدر لقى يلقى من المجرد ولاقى.
يلاقى من المزيد فيه، قال الراغب في مفردات القرآن: اللقاء مقابلة الشئ ومصادفته معا، وقد يعبر به عن كل واحد منهما يقال: لقيه يلقاه لقاء ولقيا ولقية، ويقال ذلك في الادراك بالحس وبالبصر وبالبصيرة قال: لقد كنتم تمنون الموت من قبل ان تلقوه، وقال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، وملاقاة الله عبارة عن القيامة وعن المصير إليه قال: واعلموا انكم ملاقوه، وقال: الذين يظنون انهم ملاقوا الله، واللقاء الملاقاة قال: وقال الذين لا يرجون لقاءنا، وقال: إلى ربك كدحا فملاقيه.
انتهى.
وقال في المجمع: اللقاء الاجتماع على وجه المقاربة لان الاجتماع قد يكون على غير وجه المقاربة فلا يكون لقاء كاجتماع الاعراض في المحل الواحد.
انتهى.
وقال فيه: الزحف الدنو قليلا قليلا، والتزاحف التدانى يقال: زحف يزحف زحفا وأزحفت للقوم إذا دنوت لقتالهم وثبت لهم.
قال الليث: الزحف جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة وجمعه زحوف.
انتهى.
وتولية الاعداء الادبار جعلهم يلونها وهو استدبار العدو واستقبال جهة الهزيمة.
وخطاب الاية عام غير خاص بوقت دون وقت ولا غزوة دون غزوة فلا وجه لتخصيصها بغزوة بدر وقصر حرمة الفرار من الزحف بها كما يحكى عن بعض المفسرين.
على انك عرفت أن ظاهر سياق الايات انها نزلت بعد غزوة بدر لا يومها، وان الايات ذيل ما في صدر السورة من قوله: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) الاية، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) إلى آخر الاية.
التحرف: الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف وهو طرف الشئ وهو أن ينحرف وينعطف المقاتل من جهة إلى جهة أخرى ليتمكن من عدوه ويبادر إلى إلقاء الكيد عليه، والتحيز هو أخذ الحيز وهو المكان، والفئة القطعة من جماعة الناس، والتحيز إلى فئة أن ينعطف المقاتل عن الانفراد بالعدو إلى فئة من قومه فيلحق بهم ويقاتل معهم.
والبواء الرجوع إلى مكان واستقرار فيه، ولذا قال الراغب: أصل البواء
/ صفحة 38 /
مساواة الاجزاء في المكان خلاف النبوة الذى هو منافاة الاجزاء.
انتهى فمعنى قوله: باء بغضب من الله أي رجع ومعه غضب من الله.
فمعنى الايتين: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا لقاء زحف أو زاحفين للقتال فلا تفروا منهم ومن يفر منهم يومئذ أي وقتئذ فقد رجع ومعه غضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير إلا أن يكون فراره للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة فلا بأس به.
قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) إلى آخر الاية التدبر في السياق لا يدع شكا في أن الاية تشير إلى وقعة بدر وما صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من رميهم بكف من الحصا، والمؤمنون بوضع السيف فيهم وقتلهم القتل الذريع، وذيل الاية أعنى قوله: وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا يدل على أن الكلام جار مجرى الامتنان منه تعالى، وقد أثبت تعالى عين ما نفاه في جملة واحدة أعنى قوله: (وما رميت إذ رميت).
فمن جميع هذه الشواهد يتحصل أن المراد بقوله: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) نفى أن تكون وقعة بدر وما ظهر فيها من استئصال المشركين والظهور عليهم والظفر بهم جارية على مجرى العادة والمعروف من نواميس الطبيعة، وكيف يسع لقوم هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما روى الا فرس أو فرسان وبضعة أدرع وبضعة سيوف، أن يستأصلوا جيشا مجهزا بالافراس والاسلحة والرجال والزاد والراحلة، هم أضعافهم عدة ولا يقاسون بهم قوة وشدة، وأسباب الغلبة عندهم، وعوامل البأس معهم، والموقف المناسب للتقدم لهم.
إلا ان الله سبحانه بما أنزل من الملائكة ثبت أقدام المؤمنين وأرعب قلوب المشركين، وألقى الهزيمة بما رماه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحصاة عليهم فشملهم المؤمنين قتلا وأسرا فبطل بذلك كيدهم وخمدت أنفاسهم وسكنت أجراسهم.
فبالحري أن ينسب ما وقع عليهم من القتل بأيدى المؤمنين والرمى الذى شتت شملهم وألقى الهزيمة فيهم إليه سبحانه دون المؤمنين.
فما في الاية من النفى جار مجرى الدعوى بنوع من العناية، بالنظر إلى استناد
/ صفحة 39 /
القتل بأطرافها إلى سبب إلهى غير عادى، ولا ينافى ذلك استنادها بما وقع فيها من الوقائع إلى اسبابها القريبة المعهودة في الطبيعة بأن يعد المؤمنون قاتلين لمن قتلوا منهم، والنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) راميا لما رماه من الحصاة.
وقوله: (وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا) الظاهران ضمير (منه) راجع إلى الله تعالى، والجملة لبيان الغاية وهى معطوفة على مقدر محذوف، والتقدير: إنما فعل الله ما فعل من قتلهم ورميهم لمصالح عظيمة عنده، وليبلى المؤمنين ويمتحنهم بلاء وامتحانا حسنا أو لينعم عليهم بنعمة حسنة، وهو إفناء خصمهم وإعلاء كلمة التوحيد بهم وإغناؤهم بما غنموا من الغنائم.
وقوله: (ان الله سميع عليم) تعليل لقوله: (وليبلى المؤمنين) أي إنه تعالى يبليهم لانه سميع باستغاثتهم عليم بحالهم فيبليهم منه بلاء حسنا.
والتفريع الذى في صدر الاية: (فلم تقتلوهم) الخ متعلق بما يتضمنه الايات السابقة: (إذ تستغيثون ربكم) إلى آخرالايات من المعنى، فإنها تعد منن الله عليهم من انزال الملائكة وامدادهم بهم وتغشيه النعاس اياهم وامطار السماء عليهم وما أوحى إلى الملائكة من تأييدهم وتثبيت أقدامهم والقاء الرعب في قلوب أعدائهم، فلما بلغ الكلام هذا المبلغ فرع عليه قوله: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).
وعلى هذا فقوله: (يا ايها الذين آمنوا إذ القيتم) إلى قوله و (بئس المصير) معترضة متعلقة بقوله: (فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان) أو بمعناه المفهوم من الجمل المسرودة، وقوله: (فلم تقتلوهم) الخ متصل بما قبله بحسب النظم.
وربما يذكر في نظم الاية وجهان آخران: احدهما: ان الله سبحانه لما امرهم بالقتل في الاية المتقدمة ذكر عقيبها ان ما كان من الفتح يوم بدر وقهر المشركين انما كان بنصرته ومعونته تذكيرا للنعمة.
ذكره أبو مسلم.
والثانى: انهم لما أمروا بالقتال ثم كان بعضهم يقول: أنا قتلت فلانا وأنا فعلت كذا نزلت الاية على وجه التنبيه لهم لئلا يعجبوا بأعمالهم.
وربما قيل: ان الفاء في
/ صفحة 40 /
قوله فلم تقتلوهم) لمجرد ربط الجمل بعضها ببعض.
والوجه ما قدمناه.
قوله تعالى: (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين) قال في المجمع: (ذلكم) موضعه رفع، وكذلك (أن الله) في موضع رفع، والتقدير: الامر ذلكم والامر ان الله موهن، وكذلك الوجه فيما تقدم من قوله: (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار)، ومن قال: ان (ذلكم) مبتدء و (فذوقوه) خبره فقد أخطأ لان ما بعد الفاء لا يكون خبرا لمبتدء، ولا يجوز: زيد فمنطلق، ولا: زيد فاضربه إلا ان تضمر (هذا) تريد: هذا زيد فاضربه.
انتهى.
فمعنى الاية: الامر ذلكم الذي ذكرناه والامر ان الله موهن كيد الكافرين.
قوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) إلى آخر الاية.
ظاهر الاية بما تشتمل عليه من الجمل المسرودة كقوله: (وإن تنتهوا فهو خير لكم) وقوله: (وإن تعودوا نعد) الخ ان تكون الخطاب فيه للمشركين دون المؤمنين باشتمال الكلام على الالتفات للتهكم، وهو المناسب لقوله في الاية السابقة: (وأن الله موهن كيد الكافرين).
فالمعنى: إن طلبتم الفتح وسألتم الله ايها المشركون ان يفتح بينكم وبين المؤمنين فقد جاءكم الفتح بما أظهر الله من الحق يوم بدر فكانت الدائرة للمؤمنين عليكم، وإن تنتهوا عن المكيدة على الله ورسوله فهو خير لكم وان تعودوا إلى مثل ما كدتم نعد إلى مثل ما أوهنا به كيدكم، ولن تغنى عنكم جماعتكم شيئا ولو كثرت كما لم تغن في هذه المرة وان الله مع المؤمنين ولن يغلب من هو معه.
وبهذا يتأيد ما ورد ان ابا جهل قال يوم بدر حين اصطف الفريقان أو حين التقى الفئتان: اللهم ان محمدا اقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصر عليه، وفى بعض الروايات - وهو الانسب - كما في المجمع عن ابى حمزة قال أبو جهل: اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث فأى الدينين كان احب اليك وأرضى عندك فانصر اهله اليوم.
وذكر بعضهم: ان الخطاب في الاية للمؤمنين، ووجهوا مضامين جملها بما لا يرتضيه الذوق السليم، ولا جدوى للاطالة بذكرها والمناقشة فيها فمن أراد ذلك فعليه بالمطولات.
قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون) الضمير على ما يفيده السياق راجع الى الرسول صلى الله عليه وآله، والمعنى: ولا تولوا عن الرسول
/ صفحة 41 /
وأنتم تسمعون ما يلقيه اليكم من الدعوة الحقة وما يأمركم به وينهاكم عنه مما فيه صلاح دينك ودنياكم.
ومصب الكلام اوامره الحربية وإن كان لفظه اعم.
قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) المعنى ظاهر وفيه نوع تعريض للمشركين إذ قالوا: سمعنا، وهو لا يسمعون، وقد حكى الله عنهم ذلك إذ قال بعد عدة آيات: (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا) الانفال: 31، لكنهم كذبوا ولم يسمعوا ولو سمعوا لاستجابوا كما قال الله تعالى: (ولهم آذان لا يسمعون بها) الاعراف: 179، وقال تعالى حكاية عن اصحاب السعير (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في اصحاب السعير) الملك: 10 فالمراد بالسمع في الاية الاولى تلقى الكلام الحق الذى هو صوت من طريق الاذن، وفى الاية الثانية الانقياد لما يتضمنه الكلام الحق المسموع.
والايتان - كما ترى - خطاب متعلق بالمؤمنين متصل نوع اتصال بالاية السابقة عليهما وتعريض للمشركين، فهو تعالى لما التفت إلى المشركين فذمهم وتهكم عليهم بسؤالهم الفتح، وذكر لهم ان الغلبة دائما لكلمة الايمان على كلمة الكفر ولدعوة الحق على دعوة الباطل، التفت إلى حزبه وهم المؤمنون فأمرهم بالطاعة له ولرسوله، وحذرهم عن التولي عنه بعد استماع كلمة الحق، وأن يكونوا كاولئك إذ قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون.
ومن الممكن ان يكون في الاية إشارة الى عدة من أهل مكة آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولما تخلص قلوبهم من الشك خرجوا مع المشركين إلى بدر لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فابتلوا بما ابتلى به مشركوا قريش، فقد ورد في الخبر: ان فئة من قريش اسلموا بمكة واحتبسهم آباؤهم فخرجوا مع قريش، يوم بدر، وهم قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلى بن امية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج، والحارث بن زمعة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة ولما رأوا قلة المسلمين قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم، وسيذكرهم الله بعد عدة آيات بقوله: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرهؤلاء دينهم) الاية).
وربما قيل: ان المراد بالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون هم اهل الكتاب من يهود قريظة والنضير.
وهو بعيد.
/ صفحة 42 /
قوله تعالى: (ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) إلى آخر الايتين.
تعريض وذم للذين سبق ذكرهم من الكفار على ما يعطيه سياق الكلام وما اشتملت عليه الاية من الموصول والضمائر المستعملة في اولى العقل، وعلى هذا فالظاهر ان اللام في قوله: (الصم البكم) للعهد الذكرى، ويؤول المعنى إلى ان شر جميع ما يدب على الارض من اجناس الحيوان وأنواعها هؤلاء الصم البكم الذين لا يعقلون، وإنما لم يعقلوا لانه لا طريق لهم إلى تلقى الحق لفقدهم السمع والنطق فلا يسمعون ولا ينطقون.
ثم ذكر تعالى ان الله إنما ابتلاهم بالصمم والبكمة فلا يسمعون كلمة الحق ولا ينطقون بكلمة الحق، وبالجملة حرمهم نعمة السمع والقبول، لانه تعالى لم يجد عندهم خيرا ولم يعلم به ولو كان لعلم، لكن لم يعلم فلم يوفقهم للسمع والقبول، ولو انه تعالى رزقهم السمع والحال هذه لم يثبت السمع والقبول فيهم بل تولوا عن الحق وهم معرضون.
ومن هنا يعلم ان المراد بالخير حسن السريرة الذى يثبت به الاستعداد لقبول الحق ويستقر في القلب، وان المراد بقوله: (ولو أسمعهم) الاسماع على تقدير عدم الاستعداد الثابت المستقر فافهم ذلك فلا يرد انه تعالى لو أسمعهم ورزقهم قبول الحق استلزم ذلك تحقق الخير فيهم ولا وجه مع ذلك لتوليهم وإعراضهم وذلك ان الشرط في قوله: (ولو اسمعهم) على تقدير فقدهم الخير على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) لما دعاهم في قوله: (اطيعوا الله ورسوله) الخ إلى إطاعة الدعوة الحقة وعدم التولى عنها بعد استماعها اكده ثانيا بالدعوة الى استجابة الله والرسول في دعوة الرسول، ببيان حقيقة الامر والركن الواقعي الذى تعتمد عليه هذه الدعوة وهو ان هذه الدعوة دعوة إلى ما يحيى الانسان بإخراجه من مهبط الفناء والبوار، وموقفه في الوجود، ان الله سبحانه اقرب إليه من قلبه وانه سيحشر إليه فليأخذ حذره وليجمع همه ويعزم عزمه.
الحياة أنعم نعمة وأعلى سلعة يعتقدها الموجود الحى لنفسه كيف لا؟ وهو لا يرى وراءه الا العدم والبطلان، وأثرها الذى هو الشعور والارادة هو الذى ترام
/ صفحة 43 /
لاجله الحياة ويرتاح إليه الانسان ولا يزال يفر من الجهل وافتقاد حرية الارادة والاختيار وقد جهز الانسان وهو احد الموجودات الحية بما يحفظ به حياته الروحية التى هي حقيقة وجوده كما جهز كل نوع من انواع الخليقة بما يحفظ به وجوده وبقاءه.
وهذا الجهاز الانساني يشخص له خيراته ومنافعه، ويحذره من مواطن الشر والضر.
واذ كان هذه الهداية الالهية التى يسوق النوع الانسان إلى نحو سعادته وخيره ويندبه نحو منافع وجوده هداية بحسب التكوين وفي طور الخلقة، ومن المحال ان يقع خطأ في التكوين، كان من الحتم الضرورى ان يدرك الانسان سعادة وجوده إدراكا لا يقع فيه شك كما ان سائر الانواع المخلوقة تسيرالى ما فيه خير وجوده ومنافع شخصه من غير ان يسهو فيه من حيث فطرته، وإنما يقع الخبط فيما يقع من جهة تأثير عوامل وأسباب أخر مضادة تؤثر فيه اثرا مخالفا ينحرف فيه الشئ عما هو خير له إلى ما هو شر، وعما فيه نفعه الى ما فيه ضرر يعود إليه، وذلك كالجسم الثقيل الارضى الذى يستقر بحسب الطبيعة الارضية على بسيط الارض ثم انه يبتعد عن الارض بالحركة الى جهة العلو بدفع دافع يجبره على خلاف الطبع فإذا بطل أثر الدفع عاد إلى مستقره بالحركة نحو الارض على الاستقامة إلا ان يمنعه مانع فيخرجه عن السير الاستقامى إلى انحراف وأعوجاع.
وهذا هو الذي يصر عليه القرآن الكريم ان الانسان لا يخفى عليه ما فيه سعادته في الحياة من علم وعمل، وأنه يدرك بفطرته ما هو حق الاعتقاد والعمل قال تعالى: (فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30، وقال تعالى: (الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى - إلى ان قال - فذكر ان نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الاشقى) الاعلى: 11، وقال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها) الشمس: 10.
نعم ربما اخطأ الانسان طريق الحق في اعتقاد أو عمل وخبط في مشيته لكن لا لان الفطرة الانسانية والهداية الالهية اوقعته في ضلالة وأوردته في تهلكة بل لانه اغفل عقله ونسى رشده واتبع هوى نفسه وما زينه جنود الشياطين في عينه، قال
/ صفحة 44 /
تعالى: (ان يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) النجم: 23 وقال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) الجاثية: 23.
فهذه الامور التى تدعو إليها الفطرة الانسانية من حق العلم والعمل لوازم الحياة السعيدة الانسانية وهى الحياة الحقيقية التى بالحرى ان تختص باسم الحياة، والحياة السعيدة تستتبعها كما انها تستلزم الحياة وتستتبعها، وتعيدها إلى محلها لو ضعفت الحياة في محلها بورود ما يضادها ويبطل رشد فعلها.
فإذا انحرف الانسان عن سوى الصراط الذى تهديه إليه الفطرة الانسانية وتسوقه إليه الهداية الالهية، فقد فقد لوازم الحياة السعيدة من العلم النافع والعمل الصالح، ولحق بحلول الجهل وفساد الارادة الحرة والعمل النافع بالاموات ولا يحييه إلا علم حق وعمل حق، وهما اللذان تندب اليهما الفطرة وهذا هو الذى تشير إليه الاية التى نبحث عنها: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله ولرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
واللام في قوله: (لما يحييكم) بمعنى إلى، وهو شائع في الاستعمال، والذى يدعو إليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الدين الحق وهو الاسلام الذى يفسره القرآن الكريم باتباع الفطرة فيما تندب إليه من علم نافع وعمل صالح.
وللحياة بحسب ما يراه القرآن الكريم معنى آخر أدق مما نراه بحسب النظر السطحي الساذج فإنا إنما نعرف من الحياة في بادئ النظر ما يعيش به الانسان في نشأته الدنيوية إلى ان يحل به الموت، وهى التى تصاحب الشعور والفعل الارادي، ويوجد مثلها أو ما يقرب منها في غير الانسان ايضا من سائر الانواع الحيوانية لكن الله سبحانه يقول: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وان الدار الاخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت 64 ويفيد ذلك ان الانسان متمتع بهذه الحياة غير مشتغل الا بالاوهام، وأنه مشغول بها عما هو أهم وأوجب من غايات وجوده وأغراض روحه فهو في حجاب مضروب عليه يفصل بينه وبين حقيقة ما يطلبه ويبتغيه من الحياة.
وهذا هو الذى يشير إليه قوله تعالى وهو من خطابات يوم القيامة: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق: 22.
/ صفحة 45 /
فللانسان حياة اخرى أعلى كعبا وأغلى قيمة من هذه الحياة الدنيوية التى يعدها الله سبحانه لعبا ولهوا، وهى الحياة الاخروية التى سينكشف عن وجهها الغطاء، وهى الحياة التى لا يشوبها اللعب واللهو، ولا يدانيها اللغو و التأثيم، لا يسير فيها الانسان الا بنور الايمان وروح العبودية قال تعالى: (اولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه) المجادلة: 22 وقال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الانعام: 122.
فهذه حياة اخرى ارفع قدرا وأعلى منزلة من الحياة الدنيوية العامة التى ربما شارك فيها الحيوان العجم الانسان، ويظهر من امثال قوله تعالى: (وأيدناه بروح القدس) البقرة: 253) وقوله: (وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا) الاية الشورى: 52 ان هناك حياة اخرى فوق هاتين الحياتين المذكورتين سيوافيك البحث عنها فيما يناسبها من المورد ان شاء الله.
وبالجملة فللانسان حياة حقيقية اشرف وأكمل من حياته الدينية الدنيوية يتلبس بها إذا تم استعداده بالتحلى بحلية الدين والدخول في زمرة الاولياء الصالحين كما تلبس بالحياة الدنيوية حين تم استعداده للتلبس بها وهو جنين انسانى.
وعلى ذلك ينطبق قوله تعالى في الاية المبحوث عنها: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فالتلبس بما تندب إليه الدعوة الحقة من الاسلام يجر إلى الانسان هذه الحياة الحقيقية كما ان هذه الحياة منبع ينبع منه الاسلام وينشأ منه العلم النافع والعمل الصالح، وفي معنى هذه الاية قوله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياه طيبة ولنجزينهم اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل: 97.
والاية اعني قوله فيها: (إذا دعاكم لما يحييكم) مطلق لا يأبى الشمول لجميع دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) المحيية للقلوب، أو بعضها الذى فيه طبيعة الاحياء أو لنتائجها التى هي انواع الحياة السعيدة الحقيقية كالحياة السعيدة في جوار الله سبحانه في الاخرة.
ومن هنا يظهر أن لا وجه لتقييد الاية بما قيدها به اكثر المفسرين فقد قال بعضهم: ان المراد بقوله: (إذا دعاكم لما يحييكم) بالنظر إلى مورد النزول: إذا دعاكم إلى الجهاد إذ فيه احياء امركم واعزاز دينكم.
/ صفحة 46 /
وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الشهادة في سبيل الله في جهاد عدوكم فإن الله سبحانه عد الشهداء احياء كما في قوله: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون) آل عمران: 169.
وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الايمان، فإنه حياة القلب والكفر موته، أو إذا دعاكم إلى الحق.
وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى القرآن والعلم في الدين لان العلم حياة والجهل موت والقرآن نور وحياة وعلم.
وقيل: المعنى إذا دعاكم إلى الجنة لما فيها من الحياة الدائمة والنعمة الباقية الابدية.
وهذه الوجوه المذكورة يقبل كل واحد منها انطباق الاية عليه غير ان الاية كما عرفت مطلقة لا موجب لصرفها عما لهامن المعنى الوسيع.
قوله تعالى: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وانه إليه تحشرون) الحيلولة هي التخلل وسطا، والقلب العضو المعروف.
ويستعمل كثيرا في القرآن الكريم في الامر الذى يدرك به الانسان ويظهر به أحكام عواطفه الباطنة كالحب والبغض والخوف والرجاء والتمنى والقلق ونحو ذلك فالقلب هو الذى يقضى ويحكم، وهو الذى يحب شيئا ويبغض آخر، وهو الذى يخاف ويرجو ويتمنى ويسر ويحزن، وهو في الحقيقة النفس الانسانية تفعل بما جهزت به من القوى والعواطف الباطنة.
والانسان كسائر ما ابدعه الله من الانواع التى هي أبعاض عالم الخلقة مركب من اجزاء شتى مجهز بقوى وأدوات تابعة لوجوده يملكها ويسخدمها في مقاصد وجوده، والجميع مربوطة به ربطا يجعل شتات الاجزاء والابعاض على كثرتها وتفاريق القوى والادوات على تعددها، واحدا تاما يفعل ويترك، ويتحرك ويسكن، بوحدته وفردانيته.
غير ان الله سبحانه لما كان هو المبدع للانسان وهو الموجد لكل واحد واحد من اجزاء وجوده وتفاريق قواه وأدواته كان هو الذى يحيط به وبكل واحد من اجزاء وجوده وتوابعه، ويملك كلا منها بحقيقة معنى الملك يتصرف فيه كيف يشاء، ويملك الانسان ما شاء منها كيف شاء فهو المتوسط الحائل بين الانسان وبين كل
/ صفحة 47 /
جزء من اجزاء وجوده وكل تابع من توابع شخصه: بينه وبين قلبه، بينه وبين سمعه، بينه وبين بصره، بينه ومن بدنه، بينه وبين نفسه.
يتصرف فيها بإيجادها، ويتصرف فيها بتمليك الاسنان ما شاء منها كيف شاء، واعطائه ما اعطى، وحرمانه ما حرم.
ونظير الانسان في ذلك سائر الموجودات فما من شئ في الكون وله ذات وتوابع ذات من قوى وآثار وأفعال إلا والله سبحانه هو المالك بحقيقة معنى الكلمة لذاته ولتوابع ذاته، وهو المملك اياه كلا من ذاته وتوابع ذاته فهو الحائل المتوسط بينه وبين ذاته وبينه وبين توابع ذاته من قواه وآثاره وأفعاله.
فالله سبحانه هو الحائل المتوسط بين الانسان وبين قلبه وكل ما يملكه الانسان ويرتبط ويتصل هو به نوعا من الارتباط والاتصال وهو اقرب إليه من كل شئ كما قال تعالى: (ونحن اقرب إليه من حبل الوريد) ق: 16.
والى هذه الحقيقة يشير قوله: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وانه إليه تحشرون) فهو تعالى لكونه مالكا لكل شئ ومن جملتها الانسان ملكا حقيقيا لا مالك حقيقة سواه، أقرب إليه حتى من نفسه وقوى نفسه التى يملكها لانه سبحانه هو الذى يملكه اياها فهو حائل متوسط بينه وبينها يملكه اياها ويربطها به فافهم ذلك.
ولذلك عقب الجملة بقوله: (وانه إليه تحشرون) فإن الحشر والبعث هو الذى ينجلى عنده ان المك الحق لله وحده لا شريك له، ويبطل عند ذلك كل ملك صوري وسلطنة ظاهرية الا ملكه الحق جل ثناؤه كما قال سبحانه: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) المؤمن: 16، وقال: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله) الانفطار: 19.
فكان الاية تقول: واعلموا ان الله هو المالك بالحقيقة لكم ولقلوبكم وهو أقرب اليكم من كل شئ، وانه ستحشرون إليه فيظهر حقيقة ملكه لكم وسلطانه عليكم يومئذ فلا يغنى عنكم منه شئ.
وأما اتصال الكلام اعني ارتباط قوله: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) الخ بقوله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) فلان حيلولته سبحانه بين المرء وقلبه، يقطع منبت كل عذر في عدم استجابته لله والرسول إذا دعاه لما
/ صفحة 48 /
يحييه، وهو التوحيد الذى هو حقيقة الدعوة الحقة فإن الله سبحانه لما كان اقرب إليه من كل شئ حتى من قلبه الذى يعرفه بوجدانه قبل كل شئ فهو تعالى وحده لا شريك له أعرف إليه من قلبه الذى هو وسيلة ادراكه وسبب اصل معرفته وعلمه.
فهو يعرف الله إلها واحدا لا شريك له قبل معرفته قلبه وكل ما يعرفه بقلبه، فمهما شك في شئ اوارتاب في امر فلن يشك في إلهه الواحد الذى هو رب كل شئ ولن يضل في تشخيص هذه الكلمة الحقة.
فإذا دعاه داعى الحق إلى كلمة الحق ودين التوحيد الذى يحييه لو استجاب له، كان عليه ان يستجيب داعى الله فإنه لا عذر له في ترك الاستجابة معللا بأنه لم يعرف حقية ما دعى إليه، أو اختلط عليه، أو أعيته المذاهب في الاقبال على الحق الصريح فإن الله سبحانه هو الحق الصريح الذى لا يحجبه حاجب، ولا يستره ساتر إذ كل حجاب مفروض فالله سبحانه اقرب منه إلى الانسان، وكل ما يختلج في القلب من شبهة أو وسوسة فالله سبحانه متوسط متخلل بينه مع ما له من ظرف وهو القلب - وبين الانسان فلا سبيل للانسان إلى الجهل بالله والشك في توحده.
وايضا فان الله سبحانه لما كان حائلا بين المرء وقلبه فهو اقرب إلى قلبه منه كما انه اقرب إليه من قلبه فان الحائل المتوسط اقرب إلى كل من الطرفين من الطرف الاخر، وإذا كان تعالى اقرب إلى قلب الانسان منه فهو اعلم بما في قلبه منه.
فعلى الانسان إذا دعاه داعى الحق إلى ما يحييه من الحق ان يستجيب دعاءه بقلبه كما يستجيبه بلسانه، ولا يضمر في قلبه ما لا يوافق ما لباه بلسانه وهو النفاق فان الله اعلم بما في قلبه منه وسيحشر إليه فينبؤه بحقيقة عمله ويخبره بما طواه في قلبه قال تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ) المؤمن: 16، وقال: (ولا يكتمون الله حديثا) النساء: 42.
وايضا فان الله سبحانه لما كان هو الحائل بين الانسان وقلبه وهو المالك للقلب بحقيقة معنى الملك كان هو المتصرف في القلب قبل الانسان وله ان يتصرف فيه بما شاء فما يجده الانسان في قلبه من إيمان أو شك أو خوف أو رجاء أو طمأنينة أو قلق واضطراب أو غير ذلك مما ينسب إليه باختيار أو اضطرار، فله انتساب إليه
/ صفحة 49 /
تعالى بتصرفه فيما هو اقرب إليه من كل شئ تصرفا بالتوفيق أو الخذلان أو أي نوع من انواع التربية الالهية، يتصرف بما شاء ويحكم بما اراد من غيران يمنعه مانع اويهدده ذم أو لوم كما قال تعالى: (والله يحكم لا معقب لحكمه) الرعد: 41، وقال تعالى: (له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير) التغابن: 1.
فمن الجهل ان يثق الانسان بما يجد في قلبه من الايمان بالحق أو التلبس بنيه حسنة أو عزيمة على خير اوهم بصلاح وتقوى، بمعنى ان يرى استقلاله بملك قلبه وقدرته المطلقة على ما يهم به فان القلب بين اصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء وهو المالك له بحقيقة معنى الملك والمحيط به بتمام معنى الكلمة، قال تعالى: (ونقلب افئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة) الانعام: 110، فمن الواجب عليه ان يؤمن بالحق ويعزم على الخير على مخافة من الله تعالى ان يقلبه من السعادة إلى الشقاء ويحول قلبه من حال الاستقامة إلى حال الانتكاس والانحراف، ولا يأمن مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وكذلك الانسان إذا وجد قلبه غير مقبل على كلمة الحق والعزم على الخير وصالح العمل، عليه ان يبادر إلى استجابة الله ورسوله فيما يدعوه إلى ما يحييه، ولا ينهزم عما يهجم عليه من اسباب اليأس وعوامل القنوط من ناحية قلبه فان الله سبحانه يحول بين المرء وقلبه، وهو القادر على ان يصلح سره ويحول قلبه إلى احسن حال ويشمله بروح منه ورحمه فإنما الامر إليه، وقد قال: (انه لا ييأس من روح الله إلاالقوم الكافرون) يوسف: 87، وقال: (ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون) الحجر: 56.
فالاية الكريمة - كما ترى - من اجمع الايات القرآنية تشتمل على معرفة حقيقية من المعارف الالهية - مسألة الحيلولة - وهى تقطع عذر المتجاهلين في معرفة الله سبحانه من الكفار والمشركين، وتقلع غرة النفاق من اصلها بتوجيه نفوس المنافقين إلى مقام ربهم وأنه اعلم بما في قلوبهم منهم، ويلقى إلى المسلمين والذين هم في طريق الايمان بالله وآياته مسألة نفسية تعلمهم انهم غير مستقلين في ملك قلوبهم ولا منقطعون في ذلك من ربهم فيزول بذلك رذيلة الكبر عمن يرى لنفسه استقلالا وسلطنة فيما يملكه فلا يغره ما يشاهده من تقوى القلب وايمان السر، ورذيله اليأس والقنوط عمن يحيط بقلبه
/ صفحة 50 /
دواهي الهوى ودواعى اعراض الدنيا فيتثاقل عن الايمان بالحق والاقبال على الخير، ويورثه ذلك اليأس والقنوط.
ومما تقدم يظهران قوله: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) الخ تعليل لقوله تعالى: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) على جميع التقادير من وجوه معناه.
وبذلك يظهر ايضا ان الاية اوسع معنى مما اورده المفسرون من تفسيرها: كقول من قال: ان المراد ان الله سبحانه اقرب إلى المرء من قلبه نظير قوله: ونحن اقرب إليه من حبل الوريد، وفيه تحذير شديد.
وقول من قال: ان المراد ان القلب لا يستطيع ان يكتم الله حديثا فان الله اقرب إلى قلب الانسان من نفسه، فما يعلمه الانسان من قلبه يعلمه الله قبله.
وقول من قال: إن المراد انه يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت فلا يمكنه استدراك ما فات فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة ودعوا التسويف، وفيه حث على الطاعة قبل حلول المانع.
وقول من قال: معناه ان الله سبحانه يملك تقليب القلوب من حال إلى حال فكأنهم خافوا من القتال فأعلمهم الله سبحانه انه يبدل خوفهم أمنا بأن يحول بينهم وبين ما يتفكرون فيه من اسباب الخوف.
وقد ورد في الحديث عن ائمة اهل البيت (عليه السلام) ان المراد بذلك ان الله سبحانه يحول بين الانسان وبين ان يعلم ان الحق باطل أو ان الباطل حق، وسيجئ في البحث الروائي ان شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان الله شديد العقاب) قرأ على والباقر (عليهما السلام) من أئمة اهل البيت وكذا زيد بن ثابت والربيع بن انس وأبو العالية على ما في المجمع: لتصيبن باللام ونون التأكيد الثقيلة، والقراءة المشهورة: لا تصيبن بلا الناهية ونون التأكيد الثقيلة.
وعلى أي تقدير كان، تحذر الاية جميع المؤمنين عن فتنة تختص بالظالمين منهم، ولا يتعداهم إلى غيرهم من الكفار والمشركين، واختصاصها بالظالمين من المؤمنين وأمر
/ صفحة 51 /
عامتهم مع ذلك باتقائها يدل على انها وإن كانت قائمة ببعض الجماعة لكن السيئ من أثرها يعم الجميع ثم قوله تعالى: (واعلموا ان الله شديد العقاب) تهديد للجميع بالعقاب الشديد ولا دليل يدل على اختصاص هذا العقاب بالحياة الدنيا وكونه من العذاب الدنيوي من قبيل الاختلافات القومية وشيوع القتل والفساد وارتفاع الامن والسلام ونحو ذلك.
ومقتضى ذلك ان تكون الفتنة المذكورة على اختصاصها ببعض القوم مما يوجب على عامة الامة ان يبادروا على دفعها، ويقطعوا دابرها ويطفؤا لهيب نارها بما اوجب الله عليهم من النهى عن المنكر والامر بالمعروف.
فيؤول معنى الكلام إلى تحذير عامة المسلمين عن المساهلة في امر الاختلافات الداخلية التى تهدد وحدتهم وتوجب شق عصاهم واختلاف كلمتهم، ولا تلبث دون ان تحزبهم احزابا وتبعضهم أبعاضا، ويكون الملك لمن غلب منهم، والغلبة لكلمة الفساد لا لكلمة الحق والدين الحنيف الذى يشترك فيه عامة المسلمين.
فهذه فتنة تقوم بالبعض منهم خاصة وهم الظالمون غير ان سيئ أثره يعم الكل ويشمل الجميع فيستوعبهم الذلة والمسكنة وكل ما يترقب من مر البلاء بنشوء الاختلاف فيما بينهم، وهم جميعا مسئولون عند الله والله شديد العقاب.
وقد ابهم الله تعالى امر هذه الفتنة ولم يعرفها بكمال اسمها ورسمها غير ان قوله فيما بعد: (لا تصيبن الذين ظلموامنكم خاصة) وقوله: (واعلموا ان الله شديد العقاب) - كما تقدم - يوضحها بعض الايضاح، وهو انها اختلاف البعض من الامة مع بعض منها في امر يعلم جميعهم وجه الحق فيه فيجمح البعض عن قبول الحق ويقدم إلى المنكر بظلمه فلا يرد عونه عن ظلمه ولا ينهونه عن ما يأتيه من المنكر، وليس كل ظلم، بل الظلم الذى يسرى سوء أثره إلى كافه المؤمنين وعامة الامة لمكان امره سبحانه الجميع بإتقائه، فالظلم الذى هو لبعض الامة ويجب على الجميع ان يتقوه، ليس الا ما هو من قبيل التغلب على الحكومة الحقة الاسلامية، والتظاهر بهدم القطعيات من الكتاب والسنة التى هي من حقوقها.
وأيا ما كان ففى الفتن الواقعة في صدر الاسلام ما ينطبق عليه الاية اوضح
/ صفحة 52 /
انطباق وقد انهدمت بها الوحده الدينية، وبدت الفرقة ونفدت القوة، وذهبت الشوكة على ما اشتملت عليه من القتل والسبي والنهب وهتك الاعراض والحرمات وهجر الكتاب وإلغاء السنة، وقال الرسول: يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
ومن شمول مشأمتها وتعرق فسادها ان الامه لا تستطيع الخروج من أليم عذابها حتى بعد التنبه منهم لسوء فعالهم وتفريطهم في جنب الله كلما أرادوا ان يخرجوا منها اعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق.
وقد تفطن بعض المفسرين بأن الاية تحذر الامة وتهددهم بفتنه تشمل عامتهم وتفرق جمعهم، وتشتت شملهم، وتوعدهم بعذاب الله الشديد، وقد احسن التفطن غير انه تكلف في توجيه العذاب بالعذاب الدنيوي، وتمحل في تقييد ما في الاية من إطلاق العقاب، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد.
ولنرجع إلى لفظ الاية: أما على قراءة اهل البيت (عليه السلام) وزيد: و (اتقوا فتنة لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) فاللام في (لتصيبن) للقسم والنون الثقيله لتأكيده، والتقدير: واتقوا فتنة اقسم لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، وخاصة حال من الفتنة، والمعنى اتقوا فتنة تختص إصابته بالذين ظلموا منكم أيها المخاطبون وهم الذين آمنوا، وعليك ان تتذكر ما سلف بيانه ان لفظ: (الذين آمنوا) في القرآن خطاب تشريفي للمؤمنين في اول البعثة وبدء انتشار الدعوة لو لا قرينة صارفة عن ذلك، ثم تذكر ان فتن صدر الاسلام تنتهى إلى اصحاب بدر، والاية على أي حال يأمر الجميع ان يتقوا فتنة تثيرها بعضهم، وليس إلا لان أثرها السئ يعم الجميع كما تقدم.
وأما على قراءة المشهور: (واتقوا فتنه لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) فقد ذكروا: ان لا في (لا تصيبن) ناهية والنون لتأكيد النهى، وليس (لا تصيبن) جوابا للامر في (اتقوا) بل الكلام جار مجرى الابتداء والاستيناف كقوله تعالى: (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) النمل: 18 فقد قال اولا: (واتقوا فتنة) ثم استأنف وقال: (لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) لاتصال الجملتين معنى.
/ صفحة 53 /
وربما جوز بعض النحاة ان يكون (لا تصيبن) ونهيا واردا في جواب الامر كما يقال: اتق زيدا لا يضربك أو لا يضربنك والتقدير: اتق زيدا فإنك إن اتقيته لا يضربك ولم يشترط في نون التأكيد أن لا يدخل الخبر.
وربما قال بعضهم: ان لا زائدة والمعنى: اتقوا فتنة تصيبن الاية.
وربما ذكر آخرون: (ان أصل لا تصيبن) (لتصيبن) اشبعت فتحة اللام حتى تولدت الالف، وإشباع الفتحة ليس بعزيز في الشعر قال: فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح يريد: بمنتزح، والوجهان بعيدان لا يحمل على مثلهما كلامه تعالى.
ومال المعنى على هذا الوجه أي على قراءة الاولى (لا تصيبن) أيضا إلى ما تفيده القراءة الاولى (لتصيبن) كما عرفت.
والاية - كما عرفت - تتضمن خطابا اجتماعيا متوجها إلى مجموع الامة وذلك يؤيد كون الخطاب في الاية السابقة: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) خطابا اجتماعيا متوجها إلى كافة المؤمنين، ويتفرع عليه ان المرا بالدعوة إلى ما يحييهم الدعوة إلى الاتفاق على الاعتصام بحبل الله وإقامة الدين وعدم التفرق فيه كما قال: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران: 103 وقال: (أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) الشورى: 13 وقوله: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) الانعام: 153.
وبهذا يتأيد بعض الوجوه المذكورة سابقا في قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم) وكذا في قوله: (ان الله يحول بين المرء وقلبه) وتختص الاية به بحسب السياق وإن كانت تفيد معنى اوسع من ذلك باعتبار اخذها في نفسها مفردة عن السياق، والباحث الناقد لا يعوز عليه تمييز ذلك والله الهادى.
قوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الارض تخافون أن يتخطفكم الناس) إلى آخر الاية.
الاستضعاف عد الشئ ضعيفا بتوهين امره، والتخطف والخطف والاختطاف أخذ الشئ بسرعة انتزاع، والايواء جعل الانسان ذا مأوى ومسكن يرجع إليه ويأوى، والتأييد من الايد وهو القوة.
/ صفحة 54 /
والسياق يدل على ان المراد بقوله: (إذ انتم قليل مستضعفون في الارض) الزمان الذى كان المسلمون محصورين بمكة قبل الهجرة وهم قليل مستضعفون، وبقوله: تخافون ان يتخطفكم الناس) مشركوا العرب وصناديد قريش، وبقوله (فآواكم) أي بالمدينة وبقوله (وأيدكم بنصره) ما اسبغ عليهم من نعمة النصر ببدر، وبقوله: (ورزقكم من الطيبات) ما رزقهم من الغنائم وأحلها لهم.
وما عده في الاية من احوال المؤمنين ومننه عليهم بالايواء وإن كانت مما يختص بالمهاجرين منهم دون الانصار إلا ان المراد الامتنان على جميعهم من المهاجرين والانصار فإنهم امة واحدة يوحدهم دين واحد.
على ان فيما ذكره الله في الاية من مننه التأييد بالنصر والرزق من الطيبات وهما يعمان الجميع، هذا بحسب ما تقتضيه الاية من حيث وقوعها في سياق آيات بدر، ولكن هي وحدها وباعتبار نفسها تعم جميع المسلمين من حيث انهم امة واحدة يرجع لاحقهم إلى سابقهم فقد بدأ ظهور الاسلام فيهم وهم قليل مستضعفون بمكة يخافون ان يتخطفهم الناس فآواهم بالمدينة وكثرهم بالانصار وأيدهم بنصره في بدر وغيره ورزقهم من جميع الطيبات الغنائم وغيرها من سائر النعم لعلهم يشكرون.
قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا اماناتكم وأنتم تعلمون) آخر الايتين.
الخيانة نقض الامانة التى هي حفظ الامن لحق من الحقوق بعهد أو وصية ونحو ذلك، قال الراغب: الخيانة والنفاق واحد إلا ان الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والامانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، ونقيض الخيانة الامانة يقال: خنت فلانا، وخنت امانة فلان وعلى ذلك قوله: لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم.
انتهى.
وقوله: (وتخونوا اماناتكم) من الجائز ان يكون مجزوما معطوفا على تخونوا السابق، والمعنى: ولا تخونوا اماناتكم، وأن يكون منصوبا بحذف أن والتقدير: وأن تخونوا اماناتكم ويؤيد الوجه الثاني قوله بعده: (وأنتم تعلمون).
وذلك ان الخيانة وإن كانت إنما يتعلق النهى التحريمي بها عند العلم فلا نهى مع جهل بالموضوع ولا تحريم غير ان العلم من الشرائط العامة التى لا ينجز تكليف من التكاليف المولوية إلا به فلا نكتة ظاهرة في تقييد النهى عن الخيانة بالعلم مع
/ صفحة 55 /
ان العلم لكونه شرطا عاما مستغنى عن ذكره، وظاهر قوله: (وأنتم تعلمون) بحذف متعلقات الفعل ان المراد: ولكم علم بأنه خيانة لا ما قيل: إن المعنى: وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وسوء عاقبتها وتحريم الله اياها فا ذلك لا دليل عليه من جهة اللفظ ولا من جهه السياق.
فالوجه ان تكون الجملة بتقدير: وأن تخونوا اماناتكم، ويكون مجموع قوله: (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا اماناتكم) نهيا واحدا متعلقا بنوع خيانة هي خيانة امانة الله ورسوله وهى بعينها خيانة لامانة المؤمنين انفسهم فان من الامانة ما هي امانة الله سبحانه عند الناس كأحكامه المشرعة من عنده ومنها ما هي امانة الرسول كسيرته الحسنه، ومنها ما هي امانة الناس بعضهم عند بعض كالامانات من اموالهم أو اسرارهم، ومنها ما يشترك فيه الله ورسوله والمؤمنون، وهى الامور التى امر بها الله سبحانه وأجراها الرسول وينتفع بها الناس ويقوم بها صلب مجتمعهم كالاسرار السياسية والمقاصد الحربية التى تضيع بإفشائها آمال الدين وتضل بإذاعتها مساعي الحكومة الاسلامية فيبطل به حق الله ورسوله ويعود ضرره إلى عامة المؤمنين.
فهذا النوع من الامانة خيانته خيانة لله ورسوله وللمؤمنين فالخائن بهذه الخيانة من المؤمنين يخون الله والرسول وهو يعلم ان هذه الامانة التى يخونها امانة لنفسه ولسائر اخوانه المؤمنين وهو يخون امانة نفسه، ولن يقدم عاقل على الخيانة لامانة نفسه فان الانسان بعقله الموهوب له يدرك قبح الخيانة للامانة فكيف يخون امانة نفسه؟ فالمراد بقوله: (وتخونوا اماناتكم وإنتم تعلمون) - والله اعلم - وتخونوا في ضمن خيانة الله والرسول اماناتكم والحال انكم تعلمون انها امانات انفسكم وتخونونها، وأى عاقل يقدم على خيانة ذ امانة نفسه والاضرار بما لا يعود إلا إلى شخصه فتذييل النهى بقوله: (وأنتم تعلمون) لتهييج العصبية الحقة وإثارة قضاء الفطرة لا لبيان شرط من شرائط التكليف.
فكأن بعض افراد المسلمين كان يفشى امورا من عزائم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المكتومة من المشركين أو يخبرهم ببعض اسراره فسماه الله تعالى خيانة.
ونهى عنه، وعدها خيانة لله والرسول والمؤمنين.
ويؤيد ذلك قوله بعد هذا النهى: (واعلموا انما اموالكم وأولادكم فتنة) الخ
/ صفحة 56 /
فان ظاهر السياق انه متصل بما قبله غير مستقل عنه، ويفيد حينئذ ان موعظتهم في امر الاموال والاولاد مع النهى عن خيانة الله والرسول وأماناتهم انما هو لاخبار المخبر منهم المشركين بأسرار رسول الله المكتومة، استمالة منهم مخافة ان يتعدوا على اموالهم وأولادهم الذين تركوهم بمكة بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يخبرونهم بالاخبار إلقاء للمودة واستبقاء للمال والولد أو ما يشابه ذلك نظير ما كان من ابى لبابة مع بنى قريظة.
وهذا يؤيد ما ورد في سبب النزول ان ابا سفيان خرج من مكة بمال كثير فأخبر جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخروجه وأشار عليه بالخروج إليه وكتمان أمره فكتب إليه بعضهم بالخبر فأنزل الله: (يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا اماناتكم وأنتم تعلمون) وفي نزول الاية بعض احاديث أخر سيأتي ان شاء الله في البحث الروائي التالى.
قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) الفرقان ما يفرق به بين الشئ والشئ، وهو في الاية بقرينة السياق وتفريعه على التقوى الفرقان بين الحق والباطل سواء كان ذلك في الاعتقاد بالتفرقة بين الايمان والكفر وكل هدى وضلال أو في العمل بالتمييز بين الطاعة والمعصية وكل ما يرضى الله أو يسخطه، أو في الرأى والنظر بالفصل بين الصواب والخطأ فان ذلك كله مما تثمره شجرة التقوى، وقد اطلق الفرقان في الاية ولم يقيده وقد عد جمل الخير والشر في الايات السابقة والجميع يحتاج إلى الفرقان.
ونظير الاية بحسب المعنى قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه) وقد تقدم الكلام في معنى تكفير السيئات والمغفرة، والاية بمنزلة تلخيص الكلام في الاوامر والنواهي التى تتضمنها الايات السابقة أي ان تتقوا الله لم يختلط عندكم ما يرضى الله في جميع ما تقدم بما يسخطه ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم.
(بحث روائي) في الكافي بإسناده عن عقيل الخزاعى: ان امير المؤمنين (عليه السلام) قال: ان الرعب والخوف من جهاد المستحق للجهاد والمتوازرين على الضلال، ضلال في الدين وسلب للدنيا مع الذل والصغار، وفيه استيجاب النار بالفرار من الزحف عند
/ صفحة 57 /
حضرة القتال يقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار).
وفي الفقيه والعلل بإسناده عن ابن شاذان: ان ابا الحسن الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: حرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، والاستخفاف بالرسل والائمة العادلة، وترك نصرتهم على الاعداء، والعقوبة لهم على ترك ما دعوا إليه من الاقرار بالربوبية وإظهار العدل، وترك الجور وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبى والقتل وإبطال دين الله عز وجل وغيره من الفساد.
اقول: وقد استفاضت الروايات عن ائمة اهل البيت (عليهم السلام) ان الفرار من الزحف من المعاصي الكبيرة الموبقة، وقد تقدم طرف منها في البحث عن الكبائر في تفسير قوله تعالى: (ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) النساء: 31 في الجزء الرابع من الكتاب.
وعلى ذلك روايات من طرق اهل السنة كما في صحيحي البخاري ومسلم عن ابى هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وهناك روايات اخرى عن ابن عباس وغيره تدل على كون الفرار من الزحف من الكبائر.
نعم قوله تعالى: (اليوم خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفا فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) الاية يقيد إطلاق آية تحريم الفرار بما دون الثلاثة لواحد.
وقد روى من طرقهم عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن عباس وأبى هريرة وأبى سعيد الخدرى وغيرهم كما في الدر المنثور: ان تحريم الفرار من الزحف في هذه الاية خاص بيوم بدر.
وربما وجه ذلك بأن الاية نزلت يوم بدر، وأن الظرف في قوله (ومن يولهم يومئذ دبره) إشارة إلى يوم بدر، وقد عرفت ان سياق الايات يشهد بنزولها بعد يوم بدر، وأن المراد بقوله: (يومئذ) هو يوم الزحف لا يوم بدر.
على انه لو
/ صفحة 58 /
فرض نزولها يوم بدر لم يوجب خصوص السبب في عموم مدلول الاية شيئا كما في سائر الايات التى جمعت بين عموم الدلالة وخصوص السبب.
قال صاحب المنار في تفسيره: وإنما قد يتجه بناء التخصيص على قرينة الحال لو كانت الاية قد نزلت قبل اشتباك القتال - خلافا للجمهور - مع ما لغزوة بدر من الخصائص ككونها اول غزوة في الاسلام لو انهزم فيها المسلمون والنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم لكانت الفتنة كبيرة.
وتأييد المسلمين بالملائكة يثبتونهم، ووعده تعالى بنصرهم وإلقاء الرعب في قلوب اعدائهم.
فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص وقرينة الحال في النهى اتجه كون التحريم المقرون بالوعيد الشديد الذى في الاية خاصا بها.
اضف إلى ذلك ان الله تعالى امتحن الصحابة (رض) بالتولي والادبار في القتال مرتين مع وجوده (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم: يوم أحد وفيه يقول الله تعالى (3: 155 ان الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ان الله غفور حليم) ويوم حنين، وفيه يقول الله تعالى (9: 25 لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين 26، ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) الخ، وهذا لا ينافى كون التولى حراما ومن الكبائر، ولا يقتضى ان يكون كل تول لغير السببين المستثنيين في آية الانفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير بل قد يكون دون ذلك، ويتقيد بآية رخصة الضعف الاتية في هذه السورة، وبالنهى عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة وسيأتى تفصيله قريبا.
وقد روى احمد وأصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر قال: (كنت في سرية من سرايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا: لو عرضنا نفوسنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فإن كان لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من الفرارون؟ فقلنا: نحن الفرارون.
قال: بل أنتم العكارون انا فئتكم وفئه المسلمين.
قال: فأتينا حتى قبلنا يده.
/ صفحة 59 /
(ولفظ ابى داود) فقلنا: ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب ولا يرانا أحد فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فان كانت لنا توبة أقمنا وان كان غير ذلك ذهبنا فجلسنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون الخ.
تأول بعضهم هذا الحديث بتوسع في معنى التحيز إلى فئة لا يبقى معه للوعيد معنى ولا للغة حكم، وقد قال الترمذي فيه: حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن ابى زياد أقول: وهو مختلف فيه ضعفه الكثيرون، وقال ابن حبان كان صدوقا إلا انه لما كبر ساء حفظه وتغير فوقعت المناكير في حديثه فمن سمع منه قبل التغير فسماعه صحيح، وجملة القول: أن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متنا ولا سندا، وفي معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يوضع في ميزان هذه المسألة.
انتهى.
أقول: والذى نقله في إول كلامه من الوجوه والقرائن المحتفة بغزوة بدر من كونه اول غزوة في الاسلام، وكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم ونحو ذلك مشتركه بحسب حقيقة الملاك بينها وبين أمثال غزوة أحد والخندق وخيبر وحنين، والاسلام أيامئذ في حاجة شديدة إلى الرجال المقاتلين ثباتهم في الزحوف، والنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم، والله وعدهم بالنصرو أنزل في بعضها الملائكة لتأييدهم وإلقاء الرعب في قلوب اعدائهم.
والذى ذكره من الايات النازلة في فرارهم يوم أحد ويوم حنين لا دلالة فيها على عدم شمول وعيد آية الانفال لهم إذ ذاك وإى مانع يمنع من ذلك والاية مطلقة وليس هناك مقيد يقيدها.
ومن العجيب تسليمه كون فرارهم في اليومين كبيرة محرمة ثم قوله: إن ذلك لا يقتضى كونه مما يبوء صاحبه بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير بل قد يكون دون ذلك مع ان الكبائر الموبقة هي المعاصي التى أوعد الله عليها النار.
وأعجب منه قوله: إنه يتقيد بآية رخصة الضعف الاتية في هذه السورة، وبالنهى عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها ! مع ان آية رخصة الضعف إنما تدل على الرخصة في الفرار إذا كان يربو عدد الزاحفين من الاعداء على الضعف.
وآية النهى عن إلقاء النفس في التهلكة لو دلت بعمومها على أزيد مما يدل عليه
/ صفحة 60 /
آية رخصة الضعف لغت آية الانفال وبقيت بلا مصداق كما ان التأول في قوله تعالى: (أو متحيزا إلى فئة) على حسب ما تقتضيه رواية ابن عمر يوجب إلغاء الاية كما ذكره صاحب المنار فقد تلخص ان لا مناص عن إبقاء الاية على ظاهر إطلاقها.
وفي تفسير العياشي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في الاية: (إلا متحرفا لقتال) قال متطردا يريد الكرة عليهم (أو متحيزا إلى فئة) يعنى متأخرا إلى أصحابه من غير هزيمة، من انهز حتى يجوز صف أصحابه فقد باء بغضب من الله.
أقول: تشير الرواية إلى نكتة مهمة في لفظ الاية، وهى ان النهى انما تعلقت في الاية على تولى الادبار وهى أعم من الانهزام فإذا استثنى الموردان أعنى التحرف لقتال والتحيز إلى فئة وهى غير موارد الفرار عن هزيمة، بقيت موارد الهزيمة تحت النهى فكل انهزام عن اعداء الدين إذا لم يجوزوا الضعف عددا حرام محرم.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن الثعلبي عن ضحاك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت) ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلى: ناولنى كفا من حصى وناوله ورمى به في وجوه قريش فما بقى احد إلا امتلات عيناه من الحصى.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن الطبراني وابى الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس وروى العياشي في فسيره حديث المناولة عن محمد بن كليب الاسدي عن ابيه عن الصادق (عليه السلام)، وفي خبر آخر عن على (عليه السلام).
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير عن محمد بن قيس ومحد بن كعب رضى الله عنهما قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض اخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، وقال: شاهت الوجوه فدخلت في اعينهم كلهم، وأقبل اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول االله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: (وما رميت إذ رميت - إلى قوله - سميع عليم).
أقول: والمراد بنزول الاية نزولها بعد ذلك وهى تقص القصة لا نزولها وقتئد، وهو شائع في اسباب النزول.
وقد ذكر ابن هشام في سيرته: ان النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالتراب ثم امر اصحابه بالكرة فكانت الهزيمة.
/ صفحة 61 /
وفيه اخرج ابن ابى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن منده والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: ان ابا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان ذلك استفتاحا منه فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) الاية.
وفي المجمع في قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله) الاية قال: قال الباقر (عليه السلام): هم بنو عبد الدار لم يكن اسلم منهم غير مصعب بن عمير وحليف لهم يقال له: سويبط.
وفي جامع الجوامع: قال الباقر (عليه السلام) هم بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب بن عمير وسويد بن حرملة، وكانوا يقولون: نحن صم بكم عمى عما جاء به محمد، وقد قتلوا جميعا باحد وكانوا اصحاب اللواء.
أقول: وروى في الدر المنثورما في معناه بطرق عن ابن عباس وقتادة، والرواية من قبيل الجرى والانطباق، والاية عامة.
وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) الاية.
قال: قال الحياة الجنة.
وفي الكافي بإسناده عن ابى الربيع الشامي قال: سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) قال: نزلت في ولاية على (عليه السلام).
أقول: ورواه في تفسير البرهان عن ابن مردويه عن رجاله مرفوعا إلى الامام محمد بن على الباقر (عليه السلام)، وكذا عن ابى الجارود عنه (عليه السلام) كما رواه القمى في تفسيره، والرواية من قبيل الجرى وكذا الرواية السابقة عليها، وقد قدمنا في الكلام على الاية انها عامة.
وفي تفسير القمى عن أبى الجارود عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) يقول: بين المرء ومعصيته ان يقوده إلى النار، ويحول بين الكافر وطاعته ان يستكمل بها الايمان، واعلموا ان الاعمال بخواتيمها.
/ صفحة 62 /
وفي المحاسن بإسناده عن على بن الحكم عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى: (واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) قال: يحول بينه وبين ان يعلم ان الباطل حق.
أقول: ورواه الصدوق في المعاني عن ابن ابى عمير عن هشام بن سالم عنه (عليه السلام).
وفي تفسير العياشي عن يونس بن عمار عن ابى عبد الله (عليه السلام) قال: لا يستيقن القلب ان الحق باطل ابدا، ولا يستيقن ان الباطل حق ابدا.
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الاية: (يحول بين المرء وقلبه) قال: يحول بين المؤمن والكفر، ويحول بين الكافر وبين الهدى.
أقول: وهو قريب من الخبر المقتدم عن أبى الجارود عن الباقر (عليه السلام) في معنى الاية.
وفي تفسير العياشي عن حمزة الطيار عن أبى عبد الله (عليه السلام) (و اعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه) قال: هو أن يشتهى الشئ بسمعه وبصره ولسانه ويده أما انه لا يغشى شيئا منها وإن كان يشتهيه فإنه لا يأتيه إلا وقلبه منكر لا يقبل الذى يأتي: يعرف ان الحق ليس فيه.
أقول: ورواه البرقى في المحاسن بإسناده عن حمزة الطيار عنه (عليه السلام) وروى ما يقرب منه العياشي في تفسيره عن جابر عن ابى جعفر (عليه السلام)، ويؤول معنى الرواية إلى الروايتين المتقدمتين عن هشام بن سالم ويونس بن عمار عن الصادق (عليه السلام).
وفي تفسير العياشي عن الصيقل: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) قال: اخبرت انهم اصحاب الجمل.
وفي تفسير القمى قال: قال: نزلت في الطلحة والزبير لما حاربا امير المؤمنين (عليه السلام) وظلماه.
وفي المجمع عن الحاكم بإسناده عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الاية (واتقوا فتنة) قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتى ونبوة الانبياء من قبلى.
/ صفحة 63 /
وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد ونعيم بن حماد في الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن الزبير رضى الله عنه قال: لقد قرأنا زمانا وما نرى أنا من اهلها فإذا نحن المعنيون بها: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).
وفيه اخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدى في الاية قال: هذه نزلت في اهل بدر خاصة فإصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا فكان من المقتولين طلحة والزبير وهما من اهل بدر.
وفيه اخرج احمد والبزاز وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر عن مطرف قال: قلنا للزبير: يا ابا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير رضى الله عنه: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ولم نكن نحسب انا اهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت.
وفيه اخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة رضى الله عنه في الاية قال: علم والله ذووا الالباب من اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم انه سيكون فتن.
وفيه: اخرج أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي في مسند الفردوسي عن ابن عباس رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الارض تخافون ان يتخطفكم الناس) قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال: اهل فارس.
اقول: والرواية لا تلائم سياق الاية.
وفيه في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول) الاية اخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه ان ابا سفيان خرج من مكة فأتى جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ان ابا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى ابى سفيان ان محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله: (لا تخونوا الله والرسول) الاية.
اقول: ومعنى الرواية قريب الانطباق على ما استفدناه من الاية في البيان المتقدم.
/ صفحة 64 /
وفيه: اخرج ابن جرير عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الاية في قتل عثمان رضى الله عنه.
اقول: والاية لا تنطبق عليه بسياقها البتة.
وفي المجمع عن الباقر والصادق (عليهما السلام) والكلبي والزهرى: نزلت في ابى لبابة بن عبد المنذر الانصاري، وذلك ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصلح على ما صالح عليه اخوانهم من بنى النضير على ان يسيروا إلى اخوانهم إلى اذرعات وأريحات من ارض الشام فأبى ان يعطيهم ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا: ارسل الينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لان عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتاهم فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: انه الذبح فلا تفعلوا فأتاه جبرائيل فأخبره بذلك.
قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماى عن مكانهما حتى عرفت انى قد خنت الله ورسوله فنزلت الاية فيه فلما نزلت شد نفسه على سارية من سوارى المسجد، وقال: والله لا اذوق طعاما ولا شرابا حتى اموت أو يتوب الله على فمكث سبعة ايام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له: يا ابا لبابة قد تيب عليك فقال: لا والله لا احل نفسي حتى يكون رسول الله هو الذى يحلنى فجاءه وحله بيده.
ثم قال أبو لبابة: ان من تمام توبتي ان اهجر دار قومي التى أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالى.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يجزيك الثلث ان تصدق به.
اقول: قصة ابى لبابة وتوبته صحيحة قابلة الانطباق على مضمون الايتين غير انها وقعت بعد قصة بدر بكثير، وظاهر الايتين إذا اعتبرتا وقيستا إلى الايات السابقة عليهما ان الجميع في سياق واحد نزلت بعد وقعة بدر بقليل.
والله اعلم.
/ صفحة 65 /
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين - 30.
وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الاولين - 31.
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم - 32.
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون - 33.
وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن اكثرهم لا يعلمون - 34.
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون - 35.
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون - 36.
ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون - 37.
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الاولين - 38.
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير - 39.
وإن تولوا فاعلموا أن الله موليكم نعم المولى ونعم النصير - 40.
/ صفحة 66 /
(بيان) الايات في سياق الايات السابقة وهى متصلة بها ومنعطفة على آيات اول السورة إلا قوله: (وإذ قالوا اللهم ان كان هذا هو الحق) الاية والاية التى تليها، فان ظهور اتصالها دون بقية الايات، وسيجئ الكلام فيها ان شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) إلى آخر الاية، قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان: ضرب محمود وذلك ان يتحرى به فعل جميل وعلى ذلك قال: والله خير الماكرين، ومذموم وهو ان يتحرى به فعل قبيح قال: ولا يحيق المكر السيئ الا بأهله.
واذ يمكر بك الذين كفروا.
فانظر كيف كان عاقبة مكرهم، وقال في الامرين: ومكروا مكرا ومكرنا مكرا، وقال بعضهم: من مكر الله امهال العبد وتمكينه من اعراض الدنيا، ولذلك قال امير المؤمنين رضى الله عنه: من وسع عليه دنياه ولم يعلم انه مكر به فهو مخدوع عن عقله.
انتهى.
وفي المجمع: الاثبات الحبس يقال: رماه فأثبته أي حبسه مكانه، وأثبته في الحرب أي جرحه جراحة مثقلة.
انتهى.
ومقتضى سياق الايات ان يكون قوله: (واذ يمكر بك الذين كفروا) الاية معطوفة على قوله سابقا: (واذ يعدكم الله احدى الطائفتين انها لكم) فالاية مسوقة لبيان ما اسبغ الله عليهم من نعمته، وأيدهم به من اياديه التى لم يكن لهم فيها صنع.
ومعنى الاية: واذكر أو وليذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا من قريش لابطال دعوتك ان يوقعوا بك احد أمور ثلاثة: إما ان يحبسوك واما ان يقتلوك واما ان يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
والترديد في الاية بين الحبس والقتل والاخراج بيانا لما كانوا يمكرونه من مكر يدل انه كان منهم شورى يشاور فيها بعضهم بعضا في امر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما كان يهمهم ويهتمون به من اطفاء نور دعوته، وبذلك يتأيد ما ورد من اسباب النزول ان الاية تشير إلى قصة دار الندوة على ما سيجئ في البحث الروائي التالى ان شاء الله تعالى.
/ صفحة 67 /
قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا) إلى آخر الاية الاساطير الاحاديث جمع اسطورة ويغلب في الاخبار الخرافية، وقوله حكاية عنهم: (قد سمعنا) وقوله: (لو نشاء لقلنا) وقوله: (مثل هذا) ولم يقل: مثل هذه أو مثلها كل ذلك للدلالة على اهانتهم بآيات الله وإزرائهم بمقام الرسالة، ونظيرها قولهم: (ان هذا الا اساطير الاولين).
والمعنى: وإذا تتلى عليهم آياتنا التى لا ريب في دلالتها على انها من عندنا وهى تكشف عن ما نريده منهم من الدين الحق لجوا واعتدوا بها وهونوا امرها وأزروا برسالتنا وقالوا قد سمعنا وعقلنا هذا الذى تلى علينا لا حقيقة له الا انه من أساطير الاولين، ولو نشاء لقلنا مثله غير انا لا نعتني به ولا نهتم بأمثال هذه الاحاديث الخرافية.
قوله تعالى: (وان قالوا اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك) إلى آخر الايتين.
الامطار هو انزال الشئ من فوق، وغلب في قطرات الماء من المطر أو هو استعارة امطار المطر لغيره كالحجارة وكيف كان فقولهم: امطر علينا حجارة من السماء بالتصريح باسم السماء للدلالة على كونه بنحو الاية السماوية والاهلاك الالهى محضا.
فإمطار الحجارة من السماء عليهم على ما سألوا احد اقسام العذاب ويبقى الباقي تحت قولهم: (أو ائتنا بعذاب أليم) ولذلك نكر العذاب وأبهم وصفه ليدل على باقى اقسام العذاب، ويفيد مجموع الكلام: ان امطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب آخر غيره يكون أليما، وانما افرد امطار الحجارة من بين افراد العذاب الاليم بالذكر لكون الرضخ بالحجارة مما يجتمع فيه عذاب الجسم بما فيه من تألم البدن وعذاب الروح بما فيه من الذلة والاهانة.
ثم قوله: (ان كان هذا هو الحق من عندك) يدل بلفظه على ان الذى سمعوه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلسان القال أو الحال بدعوته هو قوله: (هذا هو الحق من عند الله) وفيه شئ من معنى الحصر، وهذا غير ما كان يقوله لهم: هذا حق من عند الله فان القول الثاني يواجه به الذى لا يرى دينا سماويا ونبوة إلهية كما كان يقوله المشركون وهم الوثنية: ما انزل الله على بشر من شئ، واما القول الاول فإنما يواجه به من يرى ان هناك دينا حقا من عند الله ورسالة إلهية يبلغ الحق من عنده ثم ينكر كون ما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بعض ما أتى به هو الحق من عند الله تعالى فيواجه بأنه هو
/ صفحة 68 /
الحق من عند الله لا غيره، ثم يرد بالاشتراط في مثل قوله: اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
فالاشبه ان لا يكون هذا حكاية عن بعض المشركين بنسبته إلى جميعهم لاتفاقهم في الرأى أو رضا جميعهم بما قاله هذا القائل بل كأنه حكاية عن بعض اهل الردة ممن اسلم ثم ارتد أو عن بعض اهل الكتاب المعتقدين بدين سماوي حق فافهم ذلك.
ويؤيد هذا الاية التالية لهذه الاية: (وما كان الله ليعذبهم وإنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) اما قوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) فان كان المراد به نفى تعذيب الله كفار قريش بمكة قبل الهجرة والنبى فيهم كان مدلوله ان المانع من نزول العذاب يومئذ هو وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم، والمراد بالعذاب غير العذاب الذى جرى عليهم بيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القتل والاسر كما سماه الله في الايات السابقة عذابا، وقال في مثلها: (قل هل تربصون بنا إلا احد الحسنيين ونحن نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) التوبة: 52، بل عذاب الاستئصال بآية سماوية كما جرى في امم الانبياء الماضين لكن الله سبحانه هددهم بعذاب الاستئصال في آيات كثيرة كقوله تعالى: (فان اعرضوا فقل انذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) حم السجدة: 13، وكيف يلائم امثال هذه التهديدات قوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) لو كان المراد بالمعذبين هم كفار قريش ومشركوا العرب ما دام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة.
ولو كان المراد بالمعذبين جميع العرب أو الامة، والمراد بقوله: (وأنت فيهم) حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمعنى: ولا يعذب الله هذه الامة وأنت فيهم حيا كما ربما يؤيده قوله بعده: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) كان ذلك نفيا للعذاب عن جميع الامة ولم يناف نزوله على بعضهم كما سمى وقوع القتل بهم عذابا كما في الايات السابقة، وكما ورد ان الله تعالى عذب جمعا منهم كأبى لهب والمستهزئين برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى هذا لا تشمل الاية القائلين: (اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك) إلى آخر الاية، وخاصة باعتبار ما روى ان القائل به أبو جهل كما في صحيح البخاري أو النضر بن الحارث بن كلدة كما في بعض روايات أخر وقد حقت عليهما كلمة العذاب وقتلا يوم بدر فلا ترتبط الاية: (وما كان الله ليعذبهم) الاية، بهؤلاء القائلين: اللهم ان
/ صفحة 69 /
كان هذا هو الحق من عندك) الاية مع انها مسوقة سوق الجواب عن قولهم.
ويشتد الاشكال بناء على ما وقع في بعض اسباب النزول انهم قالوا: اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع) وسيجئ الكلام فيه وفي غيره من اسباب النزول المروية في البحث الروائي التالى ان شاء الله.
والذى تمحل به بعض المفسرين في توجيه مضمون الاية بناء على حملها على ما مر من المعنى ان الله سبحانه ارسل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين ونعمة لهذه الامة لا نقمة وعذابا.
فيه انه ليس مقتضى الرحمة للعالمين ان يهمل مصلحة الدين، ويسكت عن مظالم الظالمين وان بلغ ما بلغ وأدى إلى شقاء الصالحين واختلال نظام الدنيا والدين، وقد حكى الله سبحانه عن نفسه بقوله: (ورحمتي وسعت كل شئ) ولم يمنع ذلك من حلول غضبه على من حل به من الامم الماضية والقرون الخالية كما ذكره في كلامه.
على انه تعالى سمى ما وقع على كفار قريش من القتل والهلاك في بدر وغيره عذابا ولم يناف ذلك قوله: (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين) الانبياء: 107، وهدد هذه الامة بعذاب واقع قطعي في سور يونس والاسراء والانبياء والقصص والروم والمعارج وغيرها ولم يناف ذلك كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين فما بال نزول العذاب على شرذمة تفوهت بهذه الكلمة: (اللهم إن كان هذا هو الحق) الخ، ينافى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نبى الرحمة مع ان من مقتضى الرحمة ان يوفى لكل ذى حق حقه، وأن يقتص للمظلوم من الظالم وأن يؤخذ كل طاغية بطغيانه.
وأما قوله تعالى: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) فظاهره النفى الاستقبالي على ما هو ظاهر الصفة: (معذبهم) وكون قوله: (يستغفرون) مسوقا لافادة الاستمرار والجملة حالية، والمعنى: ولا يستقبلهم الله بالعذاب ما داموا يستغفرونه.
والاية كيفما أخذت لا تنطبق على حال مشركي مكة وهم مشركون معاندون لا يخضعون لحق ولا يستغفرون عن مظلمة ولا جريمة، ولا يصلح الامر بما ورد في بعض الاثار انهم قالوا ما قالوا ثم ندموا على ما قالوا فاستغفروا الله بقولهم: (غفرانك اللهم).
وذلك - مضافا إلى عدم ثبوته - انه تعالى لا يعبأ في كلامه باستغفار المشركين
/ صفحة 70 /
ولا سيما أئمة الكفر منهم، واللاغى من الاستغفار لا أثر له، ولو لم يكن استغفارهم لاغيا وارتفع به ما أجرموه بقولهم: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الاية لم يكن وجه لذمهم وتأنيبهم بقوله تعالى: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق) في سياق هذه الايات المسوقة لذمهم ولومهم وعد جرائمهم ومظالمهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين.
على ان قوله تعالى بعد الايتين: (وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام) الاية لا يلائم نفى العذاب في هاتين الايتين فإن ظاهر الاية ان العذاب المهدد به هو عذاب القتل بأيدى المؤمنين كما يدل عليه قوله بعده: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وحينئذ فلو كان القائلون: (اللهم إن كان هذا هو الحق الاية مشركي قريش أو بعضهم وكان المراد من العذاب المنفى العذاب السماوي لم يستقم إنكار وقوع العذاب عليهم بالقتل ونحوه فان الكلام حينئذ يؤول إلى معنى التشديد: ومحصله: انهم كانوا احق بالعذاب ولهم جرم آخر وراء ما اجرموه وهو الصد عن المسجد الحرام، وهذا النوع من الترقي انسب بإثبات العذاب لهم لا لنفيه عنهم.
وإن كان المراد بالعذاب المنفى هو القتل ونحوه كان عدم الملاءمه بين قوله: (وما لهم أن لا يعذبهم الله وقوله: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) وبين قوله: (وما كان الله ليعذبهم) الخ، أوضح وأظهر.
وربما وجه الاية بهذا المعنى بعضهم بان المراد بقوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) عذاب اهل مكة قبل الهجرة، وبقوله: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) عذاب الناس كافة بعد هجرته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة وإيمان جمع واستغفارهم ولذا قيل: إن صدر الاية نزلت قبل الهجرة، وذيلها بعد الهجرة ! وهو ظاهر الفساد فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما كان فيهم بمكة قبل الهجرة كان معه جمع ممن يؤمن بالله ويستغفره، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الهجرة كان في الناس فما معنى تخصيص صدر الاية بقوله: (وأنت فيهم) وذيلها بقوله: (وهم يستغفرون).
ولو فرض ان معنى الاية ان الله لا يعذب هذه الامة ما دمت فيهم ببركة وجودك، ولا يعذبهم بعدك ببركة استغفارهم لله والمراد بالعذاب عذاب الاستئصال لم يلائم الايتين التاليتين: (وما لهم الا يعذبهم الله) الخ مع ما تقدم من الاشكال عليه.
/ صفحة 71 /
فقد ظهر من جميع ما تقدم - على طوله - ان الايتين أعنى قوله: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة) إلى آخر الايتين لا تشاركان الايات السابقة واللاحقة المسرودة في الكلام على كفار قريش في سياقها الواحد فهما لم تنزلا معها.
والاقرب ان يكون ما حكى فيهما من قولهم والجواب عنه بقوله: (وما كان الله ليعذبهم) غير مرتبط بهم وإنما صدر هذا القول من بعض اهل الكتاب أو بعض من آمن ثم ارتد من الناس.
ويتايد بذلك بعض ما ورد ان القائل بهذا القول الحارث بن النعمان الفهرى، وقد تقدم الحديث نقلا عن تفسيرى الثعلبي والمجمع في ذيل قوله تعالى: (يا ايها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك) الاية المائدة: 67 في الجزء السادس من الكتاب.
وعلى هذا التقدير فالمراد بالعذاب المنفى العذاب السماوي المستعقب للاستئصال الشامل للامة على نهج عذاب سائر الامم، والله سبحانه ينفى فيها العذاب عن الامة ما دام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم حيا، وبعده ما داموا يستغفرون الله تعالى.
ويظهر من قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) بضمه إلى الايات التى توعد هذه الامة بالعذاب الذى يقضى بين الرسول وبينهم كايات سورة يونس: (ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) يونس: 47 إلى آخر الايات أن في مستقبل أمر هذه الامة يوما ينقطع عنهم الاستغفار ويرتفع من بينهم المؤمن الالهى فيعذبون عند ذاك.
قوله تعالى: (وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا اولياءه) إلى آخر الاية استفهام في معنى الانكار أو التعجب، وقوله: (وما لهم) بتقدير فعل يتعلق به الظرف ويكون قوله: (ان لا يعذبهم) مفعوله أو هو من التضمين نظير ما قيل في قوله: (هل لك إلى ان تزكى) النازعات: 18.
والتقدير على أي حال نحو من قولنا: (وما الذى يثبت ويحق لهم عدم تعذيب الله اياهم والحال انهم يصدون عن المسجد الحرام ويمنعون المؤمنين من دخوله وما كانوا اولياءه).
فقوله: (وهم يصدون) الخ حال عن ضمير (يعذبهم) وقوله:
/ صفحة 72 /
(وما كانوا اولياءه) حال عن ضمير (يصدون).
وقوله: (إن أولياؤه إلا المتقون) تعليل لقوله: (وما كانوا اولياءه) أي ليس لهم ان يلوا امر البيت فيجيزوا ويمنعوا من شاؤوا لان هذا المسجد مبنى على تقوى الله فلا يلى امره إلا المتقون وليسوا بهم.
فقوله: (إن أولياؤه إلا المتقون) جملة خبرية تعلل القول بامر بين يدركه كل ذى لب، وليست الجملة إنشائية مشتملة على جعل الولاية للمتقين، ويشهد لما ذكرناه قوله بعد: (ولكن اكثرهم لا يعلمون) كما لا يخفى.
والمراد بالعذاب العذاب بالقتل أو الاعم منه على ما يفيده السياق باتصال الاية بالاية التالية، وقد تقدم ان الاية غير متصلة ظاهرا بما تقدمها أي ان الايتين: (وإذ قالوا اللهم) الخ (وما كان الله ليعذبهم) الخ خارجتان عن سياق الايات، ولازم ذلك ما ذكرناه.
قال في المجمع: ويسأل فيقال: كيف يجمع بين الايتين وفي الاولى نفى تعذيبهم، وفي الثانية إثبات ذلك؟ وجوابه على ثلاثة اوجه: أحدها: ان المراد بالاول عذاب الاصطلام والاستئصال كما فعل بالامم الماضية، وبالثانى عذاب القتل بالسيف والاسر وغير ذلك بعد خروج المؤمنين من بينهم.
والاخر: انه اراد: وما لهم أن لا يعذبهم الله في الاخرة، ويريد بالاول عذاب الدنيا.
عن الجبائى.
والثالث: ان الاول استدعاء للاستغفار.
يريد انه لا يعذبهم بعذاب دنيا ولا آخرة إذا استغفروا وتابوا فإذا لم يفعلوا عذبوا ثم بين ان استحقاقهم العذاب بصدهم عن المسجد الحرام.
انتهى.
وفيه: ان مبنى الاشكال على اتصال الاية بما قبلها وقد تقد انها غير متصلة.
هذا إجمالا.
وأما تفصيلا فيرد على الوجه الاول: ان سياق الاية وهو كما تقدم سياق التشدد والترقى، ولا يلاءم ذلك نفى العذاب في الاولى مع إثباته في الثانية وإن كان العذاب غير العذاب.
/ صفحة 73 /
وعلى الثاني ان سياق الاية ينافى كون المراد بالعذاب فيها عذاب الاخرة، وخاصة بالنظر إلى قوله في الاية الثالثة - وهى في سياق الاية الاولى - (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).
وعلى الثالث: ان ذلك خلاف ظاهر الاية بلا شك حيث ان ظاهرها إثبات الاستغفار لهم حالا مستمرا لاستدعاؤه وهو ظاهر.
قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) المكاء بضم الميم الصفير، والمكاء بصيغة المبالغة طائر بالحجاز شديد الصفير، ومنه المثل السائر: بنيك حمرى ومكئكينى.
والتصدية التصفيق بضرب اليد على اليد.
وقوله: (وما كان صلاتهم) الضمير لهؤلاء الصادين المذكورين في الاية السابقة وهم المشركون من قريش، وقوله: (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) بيان إنجاز العذاب الموعد لهم بقرينة التفريع بالفاء.
ومن هنا يتايد ان الايتين متصلتان كلاما واحدا، وقوله: (وما كان) الخ جملة حالية والمعنى: وما لهم ان لا يعذبهم الله والحال انهم يصدون العباد من المؤمنين عن المسجد الحرام وما كان صلاتهم عند البيت إلا ملعبة من المكاء والتصدية فإذا كان كذلك فليذوقوا العذاب بما كانوا يكفرون، والالتفات في قوله: (فذوقوا العذاب) عن الغيبة إلى الخطاب لبلوغ التشديد.
ويستفاد من الايتين ان الكعبه المشرفة لو تركت بالصد استعقب ذلك المؤاخذة الالهية بالعذاب قال على (عليه السلام) في بعض وصاياه: (الله الله في بيت ربكم فانه إن ترك لم تنظروا (1).
قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون اموالهم ليصدوا عن سبيل الله) إلى آخر الاية يبين حال الكفار في ضلال سعيهم الذى يسعونه لابطال دعوة الله والمنع عن سلوك السالكين لسبيل الله، ويشرح ذلك قوله: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) الخ.
* (هامش) *
(1) نهج البلاغة في باب الوصايا.
(*)
/ صفحة 74 /
وبهذا السياق يظهر ان قوله: (والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) بمنزلة التعليل، ومحصل المعنى ان الكفر سيبعثهم - بحسب سنة الله في الاسباب - إلى ان يسعوا في إبطال الدعوة والصد عن سبيل الحق غير ان الظلم والفسق وكل فساد لا يهدى إلى الفلاح والنجاح فسينفقون اموالهم في سبيل هذه الاغراض الفاسدة فتضيع الاموال في هذا الطريق فيكون ضيعتها موجبة لتحسرهم، ثم يغلبون فلا ينتفعون بها، وذلك ان الكفار يحشرون إلى جهنم ويكون ما يأتون به في الدنيا من التجمع على الشر والخروج إلى محاربة الله ورسوله بحذاء خروجهم محشورين إلى جهنم يوم القيامة.
وقوله: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) إلى آخر الاية من ملاحم القرآن والاية من سورة الانفال النازلة بعد غزوة بدر فكأنها تشير إلى ما سيقع من غزوة أحد أو هي وغيرها، وعلى هذا فقوله: (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) اشارة إلى غزوة أحد أو هي وغيرها، وقوله: (ثم يغلبون) إلى فتح مكة، وقوله: (والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) إلى حال من لا يوفق للاسلام منهم.
قوله تعالى: (ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم اولئك هم الخاسرون) الخباثة والطيب معنيان متقابلان وقد مر شرحهما والتمييز إخراج الشئ عما يخالفه وإلحاقه بما يوافقه بحيث ينفصل عما يخالفه، والركم جمع الشئ فوق الشئ ومنه سحاب مركوم أي مجتمع الاجزاء بعضها إلى بعض ومجموعها وتراكم الاشياء تراكب بعضها بعضا.
والاية في موضع التعليل لما أخبر به في الاية السابقة من حال الكفار بحسب السنة الكونيه، وهو انهم يسعون بتمام وجدهم ومقدرتهم إلى ان يطفؤوا نور الله ويصدوا عن سبيل الله فينفقون في ذلك الاموال ويبذلون في طريقه المساعى غير انهم لا يهتدون إلى مقاصدهم ولا يبلغون آمالهم بل تضيع اموالهم، وتحبط اعمالهم وتضل مساعيهم، ويرثون بذلك الحسرة والهزيمة.
وذلك ان هذه الاعمال والتقلبات تسير على سنة إلهية وتتوجه إلى غاية تكوينية ربانية، وهى ان الله سبحانه يميز في هذا النظام الجارى الشر من الخير والخبيث من الطيب ويركم الخبيث بجعل بعضه على بعض، ويجعل ما اجتمع منه وتراكم في جهنم
/ صفحة 75 /
وهى الغاية التى تسير إليها قافلة الشر والخبيث يحلها الجميع وهى دار البوار كما ان الخير والطيب إلى الجنة، والاولون هم الخاسرون كما ان الاخرين هم الرابحون المفلحون.
ومن هنا يظهر ان قوله: (ليميز الله الخبيث من الطيب) الخ قريب المضمون من قوله تعالى في مثل ضربه للحق والباطل: (أنزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض) الرعد: 17 والاية تشير إلى قانون كلى إلهى وهو إلحاق فرع كل شى باصله.
قوله تعالى: (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) إلى آخر الاية الانتهاء الاقلاع عن الشئ لاجل النهى، والسلوف التقدم، والسنة هي الطريقة والسيرة.
امر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يبلغهم ذلك وفي معناه تطميع وتخويف وحقيقته دعوة إلى ترك القتال والفتنة ليغفر الله لهم بذلك ما تقدم من قتلهم وإيذائهم للمؤمنين فان لم ينتهوا عما نهوا عنه فقد مضت سنة الله في الاولين منهم بالاهلاك والابادة وخسران السعي.
قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فان انتهوا فان الله بما يعملون بصير) الاية وما بعدها يشتملان على تكليف المؤمنين بحذاء ما كلف به الكفار في الاية السابقة، والمعنى: قل لهم إن ينتهوا عن المحادة لله ورسوله يغفر لهم ما قد سلف وان يعودواالى مثل ما عملوا فقد علموا بما جرى على سابقتهم قل لهم كذا وأما انت والمؤمنون فلا تهنوا فيما يهمكم من إقامه الدين وتصفية جو صالح للمؤمنين، وقاتلوهم حتى تنتهى هذه الفتن التى تفاجئكم كل يوم، ولا تكون فتنه بعد فإن انتهوا فإن الله يجازيهم بما يرى من اعمالهم، وإن تولوا عن الانتهاء فأديموا القتال والله مولاكم فاعلموا ذلك ولا تهنوا ولا تخافوا.
والفتنة ما يمتحن به النفوس وتكون لا محالة مما يشق عليها، وغلب استعمالها في المقاتل وارتفاع الامن وانتقاض الصلح، وكان كفار قريش يقبضون على المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الهجرة وبعدها الى مدة في مكة ويعذبونهم ويجبرونهم على ترك الاسلام والرجوع إلى الكفر، وكانت تسمى فتنة.
وقد ظهر بما يفيده السياق من المعنى السابق ان قوله: (وقاتلوهم حتى لا تكون
/ صفحة 76 /
فتنة) كناية عن تضعيفهم بالقتال حتى لا يغتروا بكفرهم ولا يلقوا فتنة يفتتن بها المؤمنون، ويكون الدين كله لله لا يدعو إلى خلافه احد، وان قوله: (فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير) المراد به الانتهاء عن القتال ولذلك اردفه بمثل قوله: (فإن الله بما يعملون بصير) أي عندئذ يحكم الله فيهم بما يناسب اعمالهم وهو بصير بها، وان قوله: (وإن تولوا) الخ أي ان تولوا عن الانتهاء، ولم يكفوا عن القتال ولم يتركوا الفتنة فاعلموا ان الله مولاكم وناصركم و قاتلوهم مطمئنين بنصر الله نعم المولى ونعم النصير.
وقد ظهر ان قوله: (ويكون الدين كله لله) لا ينافى إقرار اهل الكتاب على دينهم ان دخلوا في الذمة واعطوا الجزية فلا نسبة للاية مع قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (التوبه: 29.
بالناسخية والمنسوخية.
ولبعض المفسرين وجوه في معنى الانتهاء والمغفرد وغيرهما من مفردات الايات الثلاث لا كثير جدوى في التعرض لها تركناها.
وقد ورد في بعض الاخبار كون (نعم المولى ونعم النصير) من اسماء الله الحسنى والمراد بالاسم حينئذ لا محالة غير الاسم بمعناه المصطلح بل كل ما يخص بلفظه شيئا من المصاديق كما ورد نظيره في قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم) وقد مر استيفاء الكلام في الاسماء الحسنى في ذيل قوله تعالى: (ولله الاسماء الحسنى) الاعراف 180 في الجزء الثامن من الكتاب.
(بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) الاية انها نزلت بمكة قبل الهجرة.
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن جريح (رض) (وإذ يمكر بك الذين كفروا) قال: هي مكية.
اقول: وهو ظاهر ما رواه ايضا عن عبد بن حميد عن معاوية بن قرة، لكن عرفت ان سياق الايات لا يساعد عليه.
/ صفحة 77 /
وفيه اخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والخطيب عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا اصبح فاثبتوه بالوثائق - يريدون النبي صلى لله عليه وسلم - وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم بل اخرجوه فاطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات على رضى الله عنه على فراش النبي صلى الله عليه وسلم وخرج النبي (ص) حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا رضى الله عنه يحسبونه النبي (ص) فلما اصبحوا ثاروا عليه فلما رأوه عليا رضى الله عنه رد الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدرى فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث ثلاث ليال.
وفي تفسير القمى: كان سبب نزولها انه لما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة بمكة قدمت عليه الاوس والخزرج فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تمنعوني وتكونون لى جارا حتى أتلو كتاب الله عليكم وثوابكم على الله الجنة؟ فقالوا: نعم خذ لربك ولنفسك ما شئت فقال لهم: موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالى التشريق فحجوا ورجعوا إلى منى وكان فيهم ممن قد حج بشر كثير.
فلما كان اليوم الثاني من أيام التشريق قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كان الليل فاحضروا دار عبد المطلب على العقبة، ولا تنبهوا نائما، ولينسل واحد فواحد فجاء سبعون رجلا من الاوس والخزرج فدخلوا الدار فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تمنعوني وتجيرونى حتى أتلو عليكم كتاب ربى وثوابكم على الله الجنة.
فقال أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حرام: نعم يا رسول الله اشترط لربك ونفسك ما شئت.
فقال: أما ما أشترط لربى فان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وما أشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون أنفسكم وتمنعون أهلى مما تمنعون اهليكم واولادكم.
فقالوا فما لنا على ذلك؟ فقال: الجنة في الاخرة، وتملكون العرب، ويدين لكم العجم في الدنيا، وتكونون ملوكا في الجنة فقالوا: قد رضينا.
فقال: اخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا يكونون شهداء عليكم بذلك كما أخذ موسى من بنى إسرائيل اثنى عشر نقيبا فأشار إليهم جبرائيل فقال: هذا نقيب
/ صفحة 78 /
وهذا نقيب تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس: فمن الخزرج أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وعبد الله بن حرام أبو جابر بن عبد الله ورافع بن مالك وسعد بن عبادة والمنذر بن عمر وعبد الله بن رواحة وسعد بن ربيع وعبادة بن صامت ومن الاوس أبو الهيثم بن التيهان وهو من اليمن وأسيد بن حصين وسعد بن خيثمة.
فلما اجتمعوا وبايعوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صاح إبليس: يا معشر قريش والعرب هذا محمد والصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم فأسمع أهل منى، وهاجت قريش فأقبلوا بالسلاح، وسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النداء فقال للانصار: تفرقوا فقالوا: يا رسول الله إن أمرتنا ان نميل عليهم بأسيافنا فعلنا.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم اؤمر بذلك ولم يأذن الله لى في محاربتهم.
قالوا: فتخرج معنا؟ قال: أنتظر أمر الله.
فجاءت قريش على بكرة أبيها قد أخذوا السلاح وخرج حمزة وأمير المؤمنين (عليه السلام) بالسلاح ومعهما السيوف فوقفا على العقبة فلما نظرت قريش إليهما قالوا: ما هذا الذى اجتمعتم له؟ فقال حمزة: ما اجتمعنا وما ههنا أحد والله لا يجوز هذه العقبة أحد إلا ضربته بسيفي.
فرجعوا إلى مكة وقالوا: لا نأمن أن يفسد أمرنا ويدخل واحد من مشائخ قريش في دين محمد فاجتمعوا في دار الندوة، وكان لا يدخل دار الندوة إلا من أتى عليه اربعون سنة فدخلوا أربعين رجلا من مشائخ قريش، وجاء إبليس في صورة شيخ كبير فقال له البواب: من أنت؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم منى رأى صائب إنى حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل جئت لاشير عليكم فقال: أدخل فدخل إبليس.
فلما أخذوا مجلسهم قال أبو جهل: يا معشر قريش إنه لم يكن احد من العرب أعز منا نحن أهل الله تفد إلينا العرب في السنة مرتين ويكرموننا، ونحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله فكنا نسميه الامين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادعى انه رسول الله وان اخبار السماء تأتيه فسفه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شباننا، وفرق جماعتنا، وزعم انه من مات من أسلافنا ففى النار، ولم يرد علينا شئ أعظم من
/ صفحة 79 /
هذا، وقد رأيت فيه رأيا.
قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت ان ندس إليه رجلا منا ليقتله فإن طلبت بنو هاشم بديته أعطيناهم عشر ديات.
فقال الخبيث: هذا رأى خبيث قالوا: وكيف ذلك؟ قال: لان قاتل محمد مقتول لا محالة فمن هذا الذى يبذل نفسه للقتل منكم؟ فانه إذا قتل محمدا تعصبت بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة ان بنى هاشم لا ترضى ان يمشى قاتل محمد على الارض فتقع بينكم الحروب في حرمكم وتتفانون.
فقال آخر منهم: فعندي رأى آخر.
قال: وما هو؟ قال: نثبته في بيت ونلقى عليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير والنابغة وامرؤ القيس.
فقال إبليس: هذا أخبث من الاخر.
قالوا: وكيف ذاك؟ قال: لان بنى هاشم لا ترضى بذلك فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم فاجتمعوا عليكم فأخرجوه.
قال آخر منهم: لا ولكنا نخرجه من بلادنا ونتفرغ لعبادة آلهتنا.
قال إبليس: هذا اخبث من ذينك الرأيين المتقدمين، قالوا: وكيف؟ قال: لانكم تعمدون إلى أصبح الناس وجها، وأتقن الناس لسانا وأفصحهم لهجة فتحملوه إلى بوادي العرب فيخدعهم ويسحرهم بلسانه فلا يفجؤكم إلا وقد ملاها خيلا ورجلا.
فبقوا حائرين.
ثم قالوا لابليس: فما الرأى يا شيخ؟ قال: ما فيه إلا رأى واحد.
قالوا: وما هو؟ قال: يجتمع من كل بطن من بطون قريش فيكون معهم من بنى هاشم رجل فيأخذون سكينا أو حديدة أو سيفا فيدخلون عليه فيضربونه كلهم ضربة واحدة حتى يتفرق دمه في قريش كلها فلا يستطيع بنو هاشم ان يطلبوا بدمه فقد شاركوه فيه فإن سألوكم ان تعطوكم الدية فأعطوهم ثلاث ديات.
قالوا: نعم وعشر ديات.
قالوا: الرأى رأى الشيخ النجدي فاجتمعوا فيه، ودخل معهم في ذلك أبو لهب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره ان قريشا قد اجتمعت في دار الندوة يدبرون عليك فأنزل الله عليه في ذلك: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
واجتمعت قريش ان يدخلوا عليه ليلا فيقتلوه، وخرجوا إلى المسجد يصفرون ويصفقون ويطوفون بالبيت فأنزل الله: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية
/ صفحة 80 /
فالمكاء التصفير والتصدية صفق اليدين وهذه الاية معطوفة على قوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا) قد كتبت بعد آيات كثيرة.
فلما امسى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاءت قريش ليدخلوا عليه فقال أبو لهب: لا أدعكم ان تدخلوا عليه بالليل فإن في الدار صبيانا ونساء ولا نأمن ان يقع بهم يد خاطئة فنحرسه الليلة فإذا اصبحنا دخلنا عليه فناموا حول حجره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يفرش له فرش فقال لعلى بن أبى طالب (عليه السلام): افدني بنفسك قال: نعم يا رسول الله قال: نم على فراشي والتحف ببردتى فنام على (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتحف ببردته.
وجاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخرجه على قريش وهم نيام وهو يقرأ عليهم: (وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) وقال له جبرئيل: خذ على طريق ثور - وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور فدخل الغار وكان من امره ما كان.
فلما اصبحت قريش وأتوا إلى الحجرة وقصدوا الفراش فوثب على (عليه السلام) في وجوههم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: أين محمد؟ قال: أجعلتمونى عليه رقيبا؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم فأقبلوا على ابى لهب يضربونه ويقولون: انت تخدعنا منذ الليل.
فتفرقوا في الجبال، وكان فيهم رجل من خزاعة يقال له: أبو كرز يقفوا الاثار فقالوا: يا أبا كرز اليوم اليوم فوقف بهم على باب حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال لهم: هذه قدم محمد والله انها لاخت القدم التى في المقام، وكان أبو بكر بن ابى قحافة استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فردة معه فقال أبو كرز: وهذه قدم ابن ابى قحافة أو ابيه ثم قال: وههنا غير ابن ابى قحافة، ولا يزال يقف بهم حتى اوقفهم على باب الغار.
ثم قال: ما جاوزوا هذا المكان إما ان يكونوا صعدوا إلى السماء أو دخلوا تحت الارض، وبعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار، وجاء فارس من الملائكة ثم قال: ما في الغار أحد فتفرقوا في الشعاب، وصرفهم الله عن رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أذن لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الهجرة.
أقول: وروى ما يقرب من هذا المعنى ملخصا في الدر المنثور عن ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبى نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن
/ صفحة 81 /
عباس لكن نسب فيه إلى ابى جهل ما نسب في هذه الرواية إلى الشيخ النجدي ثم ذكر ان الشيخ النجدي صدق ابا جهل في رأيه واجتمع القوم على قوله.
وقد روى دخول ابليس عليهم في دار الندوة في زى شيخ نجدى في عدة روايات من طرق الشيعة وأهل السنة.
وأما ما في الرواية من قول ابى كرز لما اقتفى أثر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (هذه قدم محمد، وهذه قدم ابن ابى قحافة، وههنا غير ابن ابى قحافة) فقد ورد في الروايات ان ثالثهما هند بن ابى هالة ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وامه خديجة بنت خويلد رضى الله عنها.
وقد روى الشيخ في إماليه بإسناده عن ابى عبيدد بن محمد بن عمار بن ياسر عن ابيه وعبد الله بن ابى رافع جميعا عن عمار بن ياسر وأبى رافع وعن سنان بن ابى سنان عن ابن هند بن ابى هالة، وقد دخل حديث عمار وأبى رافع وهند بعضه في بعض، وهو حديث طويل في هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه: واستتبع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر بن ابى قحافة وهند بن ابى هالة فأمرهما ان يقعدا له بمكان ذكره لهما من طريقه الى الغار، وثبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكانه مع على يأمره في ذلك بالصبر حتى صلى العشائين ثم خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فحمة العشاء والرصد من قريش قد اطافوا بداره ينتظرون ان ينتصف الليل وتنام الاعين.
فخرج وهو يقرأ هذه الاية: (وجعلنا من بين ايديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) وكان بيده قبضة من تراب فرمى بها في رؤوسهم فما شعر القوم به حتى تجاوزهم ومضى حتى اتى إلى هند وأبى بكر فنهضا معه حتى وصلوا إلى الغار.
ثم رجع هند إلى مكة بما امره به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر الغار.
قال بعد سوق القصة الليلة: حتى إذا اعتم من الليلة القابلة انطلق هو - يعنى عليا (عليه السلام) - وهند بن ابى هالة حتى دخلا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هندا ان يبتاع له ولصاحبه بعيرين فقال أبو بكر قد كنت اعددت لى ولك يا نبى الله راحلتين نرتحلهما إلى يثرب فقال: انى لا آخذهما ولا احدهما إلا بالثمن قال: فهى لك بذلك فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) فأقبضه الثمن ثم وصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته.
/ صفحة 82 /
وكانت قريش قد سموا محمدا في الجاهلية: الامين، وئكانت تودعه وتستحفظه اموالها وأمتعتها، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم، وجاءت النبوة والرسالة والامر كذلك فأمر عليا (عليه السلام) ان يقيم صارخا بالابطح غدوة وعشيا: من كان له قبل محمد أمانه أو دين فليأت فلنؤد إليه أمانته.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انهم لن يصلوا من الان اليك يا على بأمر تكرهه حتى تقدم على فأد أمانتى على أعين الناس ظاهرا ثم انى مستخلفك على فاطمة ابنتى ومستخلف ربى عليكما ومستحفظه فيكما فأمر ان يبتاع رواحل له وللفواطم (1) ومن أزمع الهجرة معه من بنى هشام.
قال أبو عبيدة: فقلت لعبيد الله يعنى ابن ابى رافع: ا وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجد ما ينفقه هكذا؟ فقال: انى سألت ابى عما سألتنى وكان يحدث لى هذا الحديث.
فقال: وأين يذهب بك عن مال خديجة (عليه السلام).
قال عبيد الله بن ابى رافع: وقد قال على بن ابى طالب (عليه السلام) يذكر مبيته على الفراش ومقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ثلاثا نظما: وقيت بنفسى خير من وطئ الحصا - ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر محمد لما خاف أن يمكروا به - فوقاه ربى ذو الجلال من المكر وبت أراعيهم متى ينشروننى - وقد وطنت نفسي على القتل والاسر وبات رسول الله في الغار آمنا - هناك وفي حفظ الاله وفي ستر أقام ثلاثا ثم زمت قلائص - قلائص يفرين الحصا أينما تفرى وقد روى الابيات عنه (عليه السلام) بتفاوت يسير في الدر المنثور عن الحاكم عن على بن الحسين (عليه السلام).
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن ابى جعفر وابى عبد الله (عليهما السلام) قوله: (خير الماكرين) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كان لقى من قومه بلاء شديدا حتى أتوه ذات يوم وهو ساجد حتى طرحوا عليه رحم شاة فأتته ابنته وهو ساجد لم يرفع رأسه فرفعته عنه ومسحته ثم أراه الله بعد ذلك الذى يحب.
انه كان ببدر
/ صفحة 83 /
وليس معه غير فارس واحد ثم كان معه يوم الفتح اثنا عشر الفا حتى جعل أبو سفيان والمشركون يستغيثون.
الحديث.
وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن السدى رضى الله عنه قال: كان النضر بن الحارث يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع اهلها وكلامهم فلما قدم إلى مكة سمع كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن فقال: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ان هذا إلا اساطير الاولين.
اقول: وهناك بعض روايات أخر في ان القائل بهذا القول كان هو النضر بن الحارث وقد قتل يوم بدر صبرا.
وفيه اخرج البخاري وابن ابى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن انس بن مالك رض قال: قال أبو جهل بن هشام: اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم - وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.
اقول: وروى القمى هذا المعنى في تفسيره وروى السيوطي ايضا في الدر المنثور عن ابن جرير الطبري وابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير وعن ابن جرير عن عطاء: ان القائل: اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك الاية النضر بن الحارث وقد تقدم في البيان السابق ما يقتضيه سياق الاية.
وفيه اخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض: محمد اكرمه الله من بيننا؟ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء الاية فلما امسوا ندموا على ما قالوا فقالوا: غفرانك اللهم فانزل الله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون إلى قوله لا يعلمون.
وفيه اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وأبو الشيخ عن ابن ابزى (ر ض) قال: كان رسول الله (ص) بمكة فانزل الله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم فخرج رسول الله (ص) إلى المدينة فانزل الله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فلما خرجوا انزل الله: وما لهم ان لا يعذبهم الله الاية فاذن في فتح مكه فهو العذاب الذى وعدهم.
وفيه اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وأبو الشيخ
/ صفحة 84 /
عن عطية (رض) في قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يعنى المشركين حتى يخرجك منهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون قال: يعنى المؤمنين: ثم اعاد المشركين فقال: وما لهم ان لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام.
وفيه اخرج ابن ابى حاتم عن السدى (رض) في قوله: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون يقول: لو استغفروا وأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين، وفي قوله: وما لهم ان لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام يقول: وكيف لا اعذبهم وهم لا يستغفرون.
وفيه اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد (رض) في قوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) قال: بين اظهرهم (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) قال: يسلمون.
وفيه اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابى مالك (رض) (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) يعنى اهل مكة وما كان الله معذبهم - وفيهم المؤمنون يستغفرون.
وفيه اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن عكرمة والحسن رضى عنهما في قوله: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) قالا: نسختها الاية التى تليها: (وما لهم ان لا يعذبهم الله) فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والحصر.
اقول: عدم انطباقها على الاية بظاهرها المؤيد بسياقها ظاهر، وإنما دعاهم إلى هذه التكلفات الاحتفاظ باتصال الاية في التأليف بما قبلها وما قبلها من الايات المتعرضة لحال مشركي اهل مكة، ومن عجيب ما فيها تفسير العذاب في الاية بفتح مكة، ولم يكن إلا رحمة للمشركين والمؤمنين جميعا.
وفيه اخرج الترمذي عن ابى موسى الاشعري (رض) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انزل الله على امانين لامتي - وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم - وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.
اقول: مضمون الرواية مستفاد من الاية، وقد روى ما في معناها عن ابى هريرة وابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ورواها في نهج البلاغة عن على (عليه السلام).
وفي ذيل هذه الرواية شئ، وهو انه لا يلائم ما مر في البيان المتقدم من إيعاد
/ صفحة 85 /
القرآن هذه الامة بعذاب واقع قبل يوم القيامة، ولازمه ان يرتفع الاستغفار من بينهم قبل يوم القيامة.
وفيه اخرج احمد عن فضالة بن عبيد رضى الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله وفي الكافي عن على بن ابراهيم عن ابيه عن حنان بن سدير عن ابيه عن ابى جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقامي بين أظهركم خير لكم فإن الله يقول: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، ومفارقتي إياكم خير لكم.
فقالوا: يا رسول الله مقامك: بين اظهرنا خير لنا فكيف يكون مفارقتك خير لنا؟ فقال: أما مفارقتي لكم خير لكم فإن اعمالكم تعرض على كل خميس واثنين - فما كان من حسنة حمدت الله عليها، وما كان من سيئة استغفر الله لكم.
أقول: وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره والشيخ في اماليه عن حنان بن سدير عن ابيه عنه (عليه السلام)، وفي روايتهما ان السائل هو جابر بن عبد الله الانصاري (عليه السلام)، ورواه ايضا في الكافي باسناده عن محمد بن ابى حمزة وغير واحد عن ابى عبد الله (عليه السلام).
وفي الدر المنثور اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير (رض) قال: كانت قريش تعارض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الطواف يستهزئون ويصفرون ويصفقون فنزلت: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية).
وفيه أخرج أبو الشيخ عن نبيط وكان من الصحابة (رض) في قوله: (وما كان صلاتهم عند البيت) الاية قال: كانوا يطوفون بالبيت الحرام وهم يصفرون وفيه اخرج الطستى عن ابن عباس رضى الله عنهما: ان نافع بن الازرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: (إلا مكاء وتصدية) قال: المكاء صوت القنبرة، والتصدية صوت العصافير وهو التصفيق، وذلك ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا قام إلى الصلاة وهو بمكة كان يصلى قائما بين الحجر والركن اليماني فيجئ رجلان من بنى سهم يقوم احدهما عن يمينه والاخر عن شماله، ويصيح أحدهما كما يصيح المكاء، والاخر يصفق بيده تصدية العصافير ليفسد عليه صلاته.
وفي تفسير العياشي عن إبراهيم بن عمر اليماني عمن ذكره عن ابى عبد الله (عليه السلام)
/ صفحة 86 /
في قول الله: (وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا اولياءه) يعنى اولياء البيت يعنى المشركين (إن اولياؤه إلا المتقون) حيث ما كانوا هم اولى به من المشركين (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) قال: التصفير والتصفيق.
وفي الدر المنثور اخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والبيهقي في الدلائل كلهم من طريقه (1) قال: حدثنى الزهري ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم ابن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمان بن عمر قال: لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن ابى جهل وصفوان بن امية في رجال من قريش إلى من كان معه تجارة فقالوا: يا معشر قريش ان محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ان ندرك منه ثارا ففعلوا - ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله: إن الذين كفروا ينفقون اموالهم ليصدوا عن سبيل الله - إلى قوله - والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.
وفيه اخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله: (إن الذين كفروا ينفقون اموالهم ليصدوا عن سبيل الله قال نزلت في ابى سفيان بن حرب.
وفيه اخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن ابى حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن سعيد بن جبير في قوله: (ان الذين كفروا ينفقون اموالهم ليصدوا عن سبيل الله) الاية قال: نزلت في ابى سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الاحابيش من بنى كنانه يقاتل بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى من استجاش من العرب فأنزل الله فيه هذه الاية.
وهم الذين قال فيهم كعب بن مالك رضى الله عنه: وجئنا إلى موج من البحر وسطه.
أحابيش منهم حاسر ومقنع.
ثلاثة آلاف ونحن نصية.
ثلاث مئين إن كثرن فأربع أقول ورواه ملخصا عن ابن اسحاق وابن ابى حاتم عن عباد بن عبد الله بن الزبير.
* (هامش) *
(1) يعني طريق محمد بن اسحاق.
(*)
/ صفحة 87 /
وفى المجمع في قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) الاية، قال: روى زرارة وغيره عن ابى عبد الله (عليه السلام) انه قال: لم يجئ تأويل هذه الاية ولو قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الاية وليبلغن دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بلغ الليل حتى لا يكون مشرك على ظهر الارض.
أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن زراره عنه (عليه السلام)، وفي معناه ما في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليه السلام)، وروى هذا المعنى ايضا العياشي عن عبد الاعلى الحلبي عن ابى جعفر (عليه السلام) في رواية طويلة.
وقد تقدم حديث ابراهيم الليثى في تفسير قوله: (ليميز الله الخبيث من الطيب) الاية مع بعض ما يتعلق به من الكلام في ذيل قوله: (كما بدأكم تعودون) الاعراف: 29 في الجزء الثامن من الكتاب.
* * *
واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير - 41.
إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضى الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة وإن الله لسميع عليم - 42.
إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أرايكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الامر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور - 43.
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا يقللكم في أعينهم ليقضى
/ صفحة 88 /
الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الامور - 44.
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون - 45.
وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين - 46.
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط - 47.
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب - 48.
إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم - 49.
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق 50.
ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد - 51.
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بايات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب - 52.
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم - 53.
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بايات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين - 54.
/ صفحة 89 /
(بيان) تشتمل الايات على الامر بتخميس الغنائم وبالثبات عند اللقاء وتذكرهم، وتقص عليهم بعض ما نكب الله به اعداء الدين وأخزاهم بالمكر الالهى، وأجرى فيهم سنة آل فرعون ومن قبلهم من المكذبين لايات الله الصادين عن سبيله.
قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول) إلى آخر الاية.
الغنم والغنيمة إصابة الفائدة من جهة تجارة أو عمل أو حرب وينطبق بحسب مورد نزول الاية على غنيمة الحرب، قال الراغب: الغنم - بفتحتين - معروف قال: ومن البقر والغنم ما حرمنا عليهم شحومهما، والغنم - بالضم فالسكون - إصابته والظفر به ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم قال: واعلموا أنما غنمتم من شئ، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا.
والمغنم ما يغنم وجمعه مغانم قال: فعند الله مغانم كثيرة، انتهى.
وذو القربى القريب والمراد به قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو خصوص اشخاص منهم على ما يفسره الاثار القطعية، واليتيم هو الانسان الذى مات ابوه وهو صغير، قالوا: كل حيوان يتيم من قبل امه إلا الانسان فان يتمه من قبل ابيه.
وقوله: (فأن لله خمسه) الخ قرئ بفتح أن، ويمكن ان يكون بتقدير حرف الجر والتقدير: واعلموا ان ما غنمتم من شئ فعلى أن لله خمسه أي هو واقع على هذا الاساس محكوم به، ويمكن ان يكون بالعطف على أن الاولى، وحذف خبر الاولى لدلالة الكلام عليه، والتقدير: اعلموا أن ما غنمتم من شئ يجب قسمته فاعلموا ان خمسه لله، أو يكون الفاء لاستشمام معنى الشرط فان مال المعنى إلى نحو قولنا: إن غنمتم شيئا فخمسه لله الخ فالفاء من قبيل فاء الجزاء، وكرر أن للتأكيد، والاصل: اعلموا أن ما غنمتم من شئ أن خمسه لله الخ، والاصل الذى تعلق به العلم هو: ما غنمتم من شئ خمسه لله وللرسول الخ، وقد قدم لفظ الجلالة للتعظيم.
وقوله: (إن كنتم آمنتم بالله) الخ قيد للامر الذى يدل عليه صدر الاية أي أدوا خمسه إن كنتم آمنتم بالله وما انزلنا على عبدنا، وربما قيل: انه متصل بقوله
/ صفحة 90 /
تعالى في الاية السابقة: (فاعلموا ان الله مولاكم) هذا والسياق الذى يتم بحيلولة قوله: (واعلموا أنما غنمتم من شئ) الخ لا يلائم ذلك.
وقوله تعالى: (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) الظاهر ان المراد به القرآن بقرينة تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالانزال، ولو كان المراد به الملائكة المنزلون يوم بدر - كما قيل - لكان الانسب اولا: ان يقال: ومن أنزلنا على عبدنا، أو ما يؤدى هذا المعنى وثانيا: ان يقال: عليكم لا على عبدنا فان الملائكة كما أنزلت لنصرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنزلت لنصرة المؤمنين معه كما يدل عليه قوله: (فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين) الانفال: 9.
وقوله بعد ذلك: (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا) الخ الانفال: 12.
ونظيرهما قوله: (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكين منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) آل عمران: 125.
وفي الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: (إن كنتم آمنتم بالله وما انزلنا على عبدنا) من بسط اللطف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واصطفائه بالقرب ما لا يخفى.
ويظهر بالتأمل فيما قدمناه من البحث في قوله تعالى في اول السورة: (يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) الاية أن المراد بقوله: (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) هو قوله تبارك وتعالى: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) بما يحتف به من الايات.
والمراد بقوله: (يوم الفرقان) يوم بدر كما يشهد به قوله بعده: (يوم التقى الجمعان) فان يوم بدر هو اليوم الذى فرق الله فيه بين الحق والباطل فأحق الحق بنصرته، وأبطل الباطل بخذلانه.
وقوله تعالى: (والله على كل شئ قدير) بمنزلة التعليل لقوله: (يوم الفرقان) بما يدل عليه من تمييزه تعالى بين الحق والباطل كأنه قيل: والله على كل شئ قدير فهو قادر ان يفرق بين الحق والباطل بما فرق.
فمعنى الاية - والله اعلم - واعلموا ان خمس ما غنمتم أي شئ كان هو لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فردوه إلى اهله ان كنتم آمنتم بالله وما أنزله على عبده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر، وهو ان الانفال وغنائم الحرب لله ولرسوله لا يشارك
/ صفحة 91 /
الله ورسوله فيها احد، وقد أجاز الله لكم أن تأكلوا منها وأباح لكم التصرف فيها فالذي اباح لكم التصرف فيها يأمركم ان تؤدوا خمسها إلى اهله.
وظاهر الاية أنها مشتملة على تشريع مؤبد كما هو ظاهر التشريعات القرآنية، وأن الحكم متعلق بما يسمى غنما وغنيمة سواء كان غنيمة حربية مأخوذة من الكفار أو غيرها مما يطلق عليه الغنيمة لغة كأرباح المكاسب والغوص والملاحة والمستخرج من الكنوز والمعادن، وإن كان مورد نزول الاية هو غنيمة الحرب فليس للمورد أن يخصص.
وكذا ظاهر ما عد من موارد الصرف بقوله: (لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) انحصار الموارد في هؤلاء الاصناف، وأن لكل منهم سهما بمعنى استقلاله في اخذ السهم كما يستفاد مثله من آية الزكاة من غيران يكون ذكر الاصناف من قبيل التمثيل.
فهذا كله مما لا ريب فيه بالنظر الى المتبادر من ظاهر معنى الاية، وعليه وردت الاخبار من طرق الشيعة عن أئمة اهل البيت (عليهم السلام) وقد اختلفت كلمات المفسرين من اهل السنة في تفسير الاية وسنتعرض لها في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (إذ انتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب اسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضى الله امرا كان مفعولا) العدوة بالضم وقد يكسر شفير الوادي، والدنيا مؤنث أدنى كما ان القصوى وقد يقال: القصيا مؤنث اقصى والركب كما قيل هو العير الذى كان عليه أبو سفيان بن حرب.
والظرف في قوله: (إذ أنتم بالعدوة) بيان ثان لقوله في الاية السابقة: (يوم الفرقان كما أن قوله: (يوم التقى الجمعان) بيان اول له متعلق بقوله: (أنزلنا على عبدنا) واما ما يظهر من بعضهم إنه بيان لقوله: (والله على كل شئ قدير) بما يفيده بحسب المورد، والمعنى: والله قدير على نصركم وأنتم أذله إذ انتم نزول بشفير الوادي الاقرب، فلا يخفى بعده ووجه التكلف فيه.
وقوله تعالى: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد)، سياق ما تقدمه من الجمل الكاشفة عن تلاقى الجيشين، وكون الركب اسفل منهم، وان الله بقدرته التى قهرت كل شئ فرق بين الحق والباطل، وأيد الحق على الباطل، وكذا قوله بعد: (ولكن
/ صفحة 92 /
ليقضى الله امرا كان مفعولا) كل ذلك يشهد على أن المراد بقوله: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) بيان ان التلاقي على هذا الوجه لم يكن إلا بمشية خاصة من الله سبحانه حيث نزل المشركون وهم ذووا عدة وشدة بالعدوة القصوى وفيها الماء والارض الصلبه، والمؤمنون على قله عددهم وهوان امرهم بالعدوة الدنيا ولا ماء فيها والارض رملية لا تثبت تحت اقدامهم، وتخلص العير منهم إذ ضرب أبو سفيان في الساحل أسفل، وتلاقي الفريقان لا حاجز بينهما ولا مناص عندئذ عن الحرب، فالتلاقى والمواجهة على هذا الوجه ثم ظهور المؤمنين على المشركين، لم يكن عن اسباب عادية بل لمشية خاصة إلهية ظهرت بها قدرته وبانت بها عنايته الخاصة ونصره وتأييده للمؤمنين.
فقوله: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) بيان ان هذا التلاقي لم يكن عن سابق قصد وعزيمة، ولا روية أو مشورة، ولهذا المعنى عقبه بقوله: (ولكن ليقضى الله امرا كان مفعولا) بما فيه من الاستدراك.
وقوله: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة) لتعليل ما قضى به من الامر المفعول أي إن الله إنما قضى هذا الذى جرى بينكم من التلاقي والمواجهة ثم تأييد المؤمنين وخذلان المشركين ليكون ذلك بينة ظاهرة على حقية الحق وبطلان الباطل فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة.
وبذلك يظهر ان المراد بالهلاكة والحياة هو الهدى والضلال لان ذلك هو الذى يرتبط به وجود الاية البينة ظاهرا.
وكذا قوله: (وأن الله لسميع عليم) عطف على قوله: (ليهلك من هلك عن بينة) الخ، أي وإن الله إنما قضى ما قضى وفعل ما فعل لانه سميع يسمع دعاءكم عليم يعلم ما في صدوركم، وفيه إشارة إلى ما ذكره في صدر الايات: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) إلى آخر الايات.
وعلى هذا السياق - أي لبيان أن مرجع الامر في هذه الواقعة هو القضاء الخاص الالهى دون الاسباب العادية - سيق قوله تعالى بعد: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) الخ، وقوله: (وإذ زين لهم الشيطان اعمالهم) الخ، وقوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) الخ.
/ صفحة 93 /
ومعنى الاية يوم الفرقان هو الوقت الذى انتم نزول بالعدوه الدنيا وهم نزول بالعدوة القصوى، وقد توافق نزولكم بها ونزولهم بها بحيث لو تواعدتم بينكم ان تلتقوا بهذا الميعاد لاختلفتم فيه ولم تتلاقوا على هذه الوتيرة فلم يكن ذلك منكم ولا منهم ولكن ذلك كان امرا مفعولا والله قاضيه وحاكمه، وإنما قضى ما قضى ليظهر آية بينة فتتم بذلك الحجة، ولانه قد استجاب بذلك دعوتكم بما سمع من استغاثتكم وعلم به من حاجة قلوبكم.
قوله تعالى: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) إلى آخر الآية، الفشل هو الضعف مع الفزع، والتنازع هو الاختلاف وهو من النزع نوع من القلع كأن المتنازعين ينزع كل منهما الاخر عما هو فيه، والتسليم هو النتيجة.
والكلام على تقدير اذكر أي اذكر وقتا يريكهم الله في منامك قليلا، وإنما أراكهم قليلا ليربط بذلك قلوبكم وتطمئن نفوسكم ولو اراكهم كثيرا ثم ذكرتها للمؤمنين افزعكم الضعف واختلفتم في امر الخروج إليهم ولكنه تعالى نجاكم بإراءتهم قليلا عن الفشل والتنازع انه عليم بذات الصدور وهى القلوب يشهد ما يصلح به حال القلوب في اطمئنانها وارتباطها وقوتها.
والاية تدل على ان الله سبحانه أرى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا مبشرة رأى فيها ما وعده الله من إحدى الطائفتين انها لهم، وقد أراهم قليلا لا يعبأ بشأنهم، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر ما رآه للمؤمنين ووعدهم وعد تبشير فعزموا على لقائهم.
والدليل على ذلك قوله: (ولو أراكهم كثيرا لفشلتم) الخ وهو ظاهر.
قوله تعالى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في اعينكم قليلا ويقللكم في اعينهم إلى آخر الاية).
معنى الاية ظاهر، ولا تنافى بين هذه الاية وقوله تعالى: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشاء) آل عمران: 13 بناء على ان الاية تشير إلى وقعة بدر.
وذلك ان التقليل الذى يشير إليه في الاية المبحوث عنها مقيد بقوله: (إذ التقيتم) وبذلك يرتفع التنافى كأن الله سبحانه أرى المؤمنين قليلا في اعين المشركين في بادئ الالتقاء ليستحقروا جمعهم ويشجعهم ذلك على القتال والنزال حتى إذا زحفوا
/ صفحة 94 /
واختلطوا، كثر المؤمنين في أعينهم فرأوهم مثليهم رأى العين فأوهن بذلك عزمهم وأطار قلوبهم فكانت الهزيمة فاية الانفال تشير إلى اول الوقعة، وآية آل عمران إلى ما بعد الزحف والاختلاط وقوله: (ليقضى الله امرا كان مفعولا) متعلق بقوله: (يريكموهم) تعليل لمضمونه.
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) إلى آخر الايات الثلاث.
قال الراغب في المفردات: الثبات - بفتح الثاء - ضد الزوال انتهى فهو في المورد ضد الفرار من العدو، وهو بحسب ما له من المعنى اعم من الصبر الذى يأمر به في قوله: (واصبروا إن الله مع الصابرين) فالصبر ثبات قبال المكروه بالقلب بأن لا يضعف ولا يفزع ولا يجزع، وبالبدن بأن لا يتكاسل ولا يتساهل ولا يزول عن مكانه ولا يعجل فيما لا يحمد فيه العجل فالصبر ثبات خاص.
والريح على ما قيل، العز والدولة، وقد ذكر الراغب ان الريح في الاية بمعنى الغلبة استعارة كأن من شان الريح ان تحرك ما هبت عليه وتقلعه وتذهب به، والغلبة على العدو يفعل به ما تفعله الريح بالشئ كالتراب فاستعيرت لها.
وقال الراغب: البطر دهش يعترى الانسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها إلى غير وجهها قال عزوجل: (بطرا ورئاء الناس) وقال: (بطرت معيشتها) وأصله: بطرت معيشته فصرف عنه الفعل ونصب، ويقارب البطر الطرب، وهو خفة أكثر ما يعترى من الفرح وقد يقال ذلك في الترح، والبيطرة معالجة الدابة.
انتهى.
والرئاء المراءاة.
وقوله: (فاثبتوا) أمر بمطلق الثبوت امام العدو، وعدم الفرار منه فلا يتكرر بالامر ثانيا بالصبر كما تقدمت الاشاره إليه.
وقوله: (واذكروا الله كثيرا) أي في جنانكم ولسانكم فكل ذلك ذكر، ومن المعلوم أن الاحوال القلبية الباطنة من الانسان هي التى تميز مقاصده وتشخصها سواء وافقها اللفظ كالفقير المستغيث بالله من فقره وهو يقول: يا غنى والمريض المستغيث به من مرضه وهو يقول: يا شافي ولو قال الفقير في ذلك: يا الله أو قال المريض فيه ذلك لكان معناه: يا غنى ويا شافي لانهما بمقتضى الحال الباعث لهما على الاستغاثة
/ صفحة 95 /
والدعوة لا يريدان إلا ذلك كما هو ظاهر.
والذى يخرج إلى قتال عدوه، ثم لقيه واستعد الظرف للقتال، وليس فيه إلا زهاق النفوس، وسفك الدماء ونقص الاطراف وكل ما يهدد الانسان بالفناء في ما يحبه فان حاله يحول فكرته ويصرف إرادته إلى الظفر بما يريده بالقتال، والغلبة على العدو الذى يهدده بالفناء، والذى حاله هذا الحال وتفكيره هذا التفكير انما يذكر الله سبحانه بما يناسب حاله وتنصرف إليه فكرته.
وهذا اقوى قرينة على ان المراد بذكر الله كثيرا ان يذكر المؤمن ما علمه تعالى من المعارف المرتبطة بهذا الشأن وهو انه تعالى إلهه وربه الذى بيده الموت والحياة وهو على نصره لقدير، وأنه هو مولاه نعم المولى ونعم النصير، وقد وعده النصر إذ قال: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم، وأن الله لا يضيع أجر من احسن عملا، وأن مال امره في قتاله إلى احدى الحسنيين إما الظفر على عدوه ورفع راية الاسلام وإخلاص الجو لسعادته الدينية، وإما القتل في سبيل الله والانتقال بالشهادة إلى رحمته، والدخول في حظيرة كرامته، ومجاورة المقربين من اوليائه، وما في هذا الصف من المعارف الحقيقية التى تدعو إلى السعادة الواقعية والكرامة السرمدية.
وقد قيد الذكر بالكثير لتتجدد به روح التقوى كلما لاح للانسان ما يصرف نفسه إلى حب الحياة الفانية والتمتع بزخارف الدنيا الغارة والخطورات النفسانية التى يلقيها الشيطان بتسويله.
وقوله (وأطيعوا الله ورسوله) ظاهر السياق ان المراد بها إطاعه ما صدر من ناحيته تعالى وناحية رسوله من التكاليف والدساتير المتعلقة بالجهاد والدفاع عن حومة الدين وبيضة الاسلام مما تشتمل عليه آيات الجهاد والسنة النبوية كالابتداء بإتمام الحجة وعدم التعرض للنساء والذراري والكف عن تبييت العدو وغير ذلك من احكام الجهاد.
وقوله: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) أي ولا تختلفوا بالنزاع فيما بينكم حتى يورث ذلكم ضعف ارادتكم وذهاب عزتكم ودولتكم أو غلبتكم فان اختلاف الاراء يخل بالوحدة ويوهن القوة.
وقوله: (واصبروا ان الله مع الصابرين) أي الزموا الصبر على ما يصيبكم
/ صفحة 96 /
من مكاره القتال مما يهددكم به العدو، وعلى الاكثار من ذكر الله، وعلى طاعة الله ورسوله من غير ان يهزهزكم الحوادث أو يزجركم ثقل الطاعة أو تغويكم لذة المعصية أو يضلكم عجب النفس وخيلاؤها.
وقد أكد الامر بالصبر بقوله: (إن الله مع الصابرين) لان الصبر اقوى عون على الشدائد وأشد ركن تجاه التلون في العزم وسرعة التحول في الارادة، وهو الذى يخلى بين الانسان وبين التفكير الصحيح المطمئن حيث يهجم عليه الخواطر المشوشة والافكار الموهنة لارادته عند الاهوال والمصائب من كل جانب فالله سبحانه مع الصابرين.
وقوله: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس) الاية نهى عن اتخاذ طريقة هؤلاء البطرين المرائين الصادين عن سبيل الله، وهم على ما يفيده سياق الكلام في الايات، كفار قريش، وما ذكره من اوصافهم أعنى البطر ورئاء الناس والصد عن سبيل الله هو الذى أوجب النهى عن التشبه بهم واتخاذ طريقتهم بدلالة السياق، وقوله: (والله بما يعملون محيط) ينبئ عن إحاطته تعالى بأعمالهم وسلطنته عليها وملكه لها، ومن المعلوم أن لازم ذلك كون أعمالهم داخلة في قضائه متمشية بإذنه ومشيته وما هذا شأنه لا يكون مما يعجز الله سبحانه فالجملة كالكناية عما يصرح به بعد عدة آيات بقوله: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) الانفال: 59.
وظاهر أن أخذ هذه القيود أعنى قوله: (بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله) يوجب تعلق النهى بها والتقدير: ولا تخرجوا من دياركم إلى قتل اعداء الدين بطرين ومرائين بالتجملات الدنيوية، وصد الناس عن سبيل الله بدعوتهم بأقوالكم وأفعالكم إلى ترك تقوى الله والتوغل في معاصيه والانخلاع عن طاعة اوامره ودساتيره فإن ذلك يحبط اعمالكم ويطفئ نور الايمان ويبطل أثره عن جمعكم فلا طريق إلى نجاح السعي والفوز بالمقاصد الهامة إلا سوى الصراط الذى يمهده الدين القويم وتسهله الملة الفطرية والله لا يهدى القوم الفاسقين إلى مقاصدهم الفاسدة.
وقد اشتملت الايات الثلاث على امور ستة أوجب الله سبحانه على المؤمنين رعايتها في الحروب الاسلامية عند اللقاء وهى الثبات، وذكر الله كثيرا، وطاعة الله ورسوله، وعدم التنازع، وأن لا يخرجوا بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله.
ومجموع الامور الستة دستور حربى جامع لا يفقد من مهام الدستورات الحربية
/ صفحة 97 /
شيئا، والتأمل الدقيق في تفاصيل الوقائع في تاريخ الحروب الاسلامية الواقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كبدر وأحد والخندق وحنين وغير ذلك يوضح أن الامر في الغلبة والهزيمة كان يدور مدار رعاية المسلمين مواد هذا الدستور الالهى وعدم رعايتها، والمراقبة لها والمساهلة فيها.
قوله تعالى: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم) إلى آخر الاية، تزيين الشيطان للانسان عمله هو إلقاؤه في قلبه كون العمل حسنا جميلا يستلذ به وذلك بتهييج قواه الباطنة وعواطفه الداخلة المتعلقة بذلك العمل فينجذب إليه قلبه، ولا يجد فراغا يعقل ما له من سوء الاثرو شؤم العاقبة.
وليس من البعيد ان يكون قوله: (وقال لا غالب لكم اليوم) الاية مفسرا أو بمنزلة المفسر للتزيين الشيطاني على ان يكون المراد بالاعمال نتائجها وهى ما هيؤوه من قوة وسلاح وعدة وما اخرجوه من القيان والمعازف والخمور، وما تظاهروا به من نظام الجيش والجنائب تساق بين أيديهم، ويمكن أن يكون المراد بها نفس الاعمال وهى أنواع تماديهم في الغى والضلال وإصرارهم في محادة الله ورسوله، واسترسالهم في الظلم والفسق فيكون قوله المحكى: (لا غالب لكم اليوم من الناس) مما يتم به تزيين الشيطان، وتطيب به نفوسهم فيما اهتموا به من قتال المسلمين، وقد اكمل ذلك بقوله: (وإنى جار لكم).
والجوار من سنن العرب في الجاهلية التى كانت تعيش عيشة القبائل، ومن حقوق الجوار نصرة الجار للجار إذا دهمه عدو، وله آثار مختلفة بحسب السنن الجارية في المجتمعات الانسانية.
وقوله: (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه) النكوص الاحجام عن الشئ و (على عقبيه) حال والعقب مؤخر القدم أي أحجم وقد رجع القهقرى منهزما وراءه.
وقوله (إنى أرى ما لا ترون) الاية تعليل لقوله: (إنى برئ منكم) ولعله إشارة إلى نزول الملائكة المردفين الذين نصر الله المسلمين بهم، وكذا قوله: (إنى أخاف الله والله شديد العقاب) تعليل لقوله: (إنى برئ منكم) ومفسر للتعليل السابق.
والمعنى ويوم الفرقان هو الوقت الذى زين الشيطان للمشركين ما كانوا يعملونه لمحادة الله ورسوله وقتال المؤمنين، ويتلبسون به للتهئ على إطفاء نور الله، فزين ذلك
/ صفحة 98 /
في أنظارهم، وطيب نفوسهم بقوله: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإنى مجير لكم أذب عنكم فلما تراءت الفئتان فرأى المشركون المؤمنين والمؤمنون المشركين رجع الشيطان القهقرى منهزما وراءه وقال للمشركين إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترونه من نزول ملائكة النصر للمؤمنين وما عندهم من العذاب الذى يهددكم انى اخاف عذاب الله والله شديد العقاب.
وهذا المعنى - كما ترى - يقبل الانطباق على وسوسة الشيطان لهم في قلوبهم وتهييجهم على المؤمنين وتشجيعهم على قتالهم وتطييب نفوسهم بما استعدوا به حتى إذا تراءت الفئتان ونزل النصر واستولى الرعب على قلوبهم انتكست اوهامهم وتبدلت افكارهم وعادت مزعمة الغلبة وامنية الفتح والظفر مخافة مستولية على نفوسهم وخيبة ويأسا شاملة لقلوبهم.
ويقبل الانطباق على تصور شيطاني يبدو لهم فتنجذب إليه حواسهم بأن يكون قد تصور لهم في صورة انسان ويقول لهم ما حكاه الله من قوله: (لا غالب لكم اليوم من الناس وانى جار لكم) فيغويهم ويسيرهم ويقربهم من القتال حتى إذا تقاربت الفئتان وتراءتا فلما تراءت الفئتان ورأى الوضع على خلاف ما كان يؤمله ويطمع فيه نكص على عقبيه وقال: انى برئ منكم انى ارى ما لا ترون من نزول النصر والملائكة انى اخاف الله والله شديد العقاب، وقد ورد في روايات القصة من طرق الشيعه وأهل السنة ما يؤيد هذا الوجه.
وهو ان الشيطان تصور للمشركين في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكنانى ثم المدلجى وكان من أشراف كنانة وقال لهم ما قال وحمل رايتهم حتى إذا تلاقى الفريقان فر منهزما وهو يقول: (انى برئ منكم انى أرى ما لا ترون) إلى آخر ما حكاه الله تعالى، وستجئ الرواية في البحث الروائي التالى ان شاء الله تعالى.
وقد أصر بعض المفسرين على الوجه الاول، ورد الثاني بتزييف الاثار المروية وتضعيف أسناد الاخبار، وهى وإن لم تكن متواترة ولا محفوفة ببعض القرائن القطعية الموجبة للوثوق التام لكن اصل المعنى ليس من المستحيل الذى يدفعه العقل السليم، ولا من اللقصص التى تدفعها آثار صحيحة، ولا مانع من ان يتمثل لهم الشيطان فيوردهم مورد الضلال والغى حتى إذا تم له ما اراد تركهم في تهلكتهم أو حتى شاهد
/ صفحة 99 /
عذابا إلهيا نكص على عقبيه هاربا.
على ان سياق الاية الكريمة اقرب إلى إفادة هذا الوجه الثاني منه إلى الوجه الاول، وخاصة بالنظر إلى قوله: (وإنى جار لكم) وقوله: حتى إذا تراءت الفئتان نكص على عقبيه) وقوله: (إنى أرى ما لا ترون) الاية فان إرجاع معنى قوله: (إنى أرى) الخ مثلا إلى الخواطر النفسانية بنوع من العناية الاستعارية بعيد جدا.
قوله تعالى: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) إلى آخر الاية، أي يقول المنافقون وهم الذين أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر، والذين في قلوبهم مرض وهم الضعفاء في الايمان ممن لا يخلو نفسه من الشك والارتياب.
يقولون - مشيرين إلى المؤمنين إشارة تحقير واستذلال -: غرهؤلاء دينهم إذ لو لا غرور دينهم لم يقدموا على هذه المهلكة الظاهرة، وهم شرذمة أذلاء لا عدة لهم ولا عدة، وقريش على ما بهم من العدة والقوة والشوكة.
قوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فان الله عزيز حكيم) في مقام الجواب عن قولهم وإبانه غرورهم انفسهم.
وقوله: (فان الله عزيز حكيم) من وضع السبب موضع المسبب، والمعنى: وقد أخطا هؤلاء المنافقون والذين في قلوبهم مرض في قولهم فان المؤمنين توكلوا على الله ونسبوا حقيقة التأثير إليه وضموا انفسهم إلى قوته وحوله، ومن يتوكل امره على الله فان الله يكفيه لانه عزيز ينصر من استنصره حكيم لا يخطا في وضع كل امر موضعه الذى يليق به.
وفي الاية دليل على حضور جمع من المنافقين وضعفاء الايمان ببدر حين تلاقى الفئتين.
اما المنافقون وهم الذين كانوا يظهرون الاسلام ويبطنون الكفر فلا معنى لكونهم بين المشركين فلم يكونوا إلا بين المسلمين لكن الشأن في العامل الذى اوجب منهم الثبات واليوم يوم شديد.
وأما الضعفاء الايمان أو لشاكون في حقيقة الاسلام فمن الممكن ان يكونوا بين المومنين أو في فئة المشركين وقد قيل: انهم كانوا فئة من قريش أسلموا بمكة واحتبسهم آباؤهم، واضطروا إلى الخروج مع المشركين إلى بدر حتى إذا حضروها وشاهدوا ما عليه المسلمون من القلة والذلة قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم،
/ صفحة 100 /
وسيجئ في البحث الروائي التالى ان شاء الله تعالى.
وعلى أي حال ينبغى إمعان النظر في البحث عما تفيده هذه الاية من حضور جمع من المنافقين والذين في قلوبهم مرض يوم بدر عند القتال، واستخراج حقيقة السبب الذى اوجب لهؤلاء المنافقين والضعفاء حضور هذه الغزوة، والوقوف في ذلك الموقف الصعب الهائل الذى لا يساعد عليه الاسباب العادية ولا يقف فيه إلا رجال الحقيقة الذين امتحن الله قلوبهم للايمان.
وأنهم لماذا حضروها؟ وكيف ولماذا صبروا مع الصابرين من فئة الاسلام؟ ولعلنا نوفق لبعض البحث في ذلك فيما سيوافى من آيات سورة التوبة في شأن المنافقين والذين في قلوبهم مرض إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) إلى تمام الايتين.
التوفى اخذ الحق بتمامه، ويستعمل في كلامه تعالى كثيرا بمعنى قبض الروح، ونسبة قبض ارواحهم إلى الملائكة مع ما في بعض الايات من نسبته إلى ملك الموت، وفي بعض آخر إلى الله سبحانه كقوله: (قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم) الم السجدة: 11، وقوله: (الله يتوفى الانفس حين موتها) الزمر: 42 دليل على ان لملك الموت اعوانا يتولون قبض الارواح هم بمنزلة الايدى العمالة له يصدرون عن إذنه ويعملون عن امره، كما انه يصدر عن إذن مالله ويعمل عن امر منه، وبذلك يصح نسبة التوفى إلى الملائكة الاعوان، وإلى ملك الموت، وإلى الله سبحانه.
وقوله: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ظاهره انهم يضربون مقاديم ابدانهم وخلاف ذلك فيكنى به عن إحاطتهم واستيعاب جهاتهم بالضرب، وقيل: إن الادبار كناية عن الاستاه فبالمناسبة يكون المراد بوجوههم مقدم رؤوسهم، وضرب الوجوه والادبار بهذا المعنى يراد به الازراء والاذلال.
وقوله: (وذوقوا عذاب الحريق) أي يقول لهم الملائكة: ذوقوا عذاب الحريق وهو النار.
وقوله: (ذلك بما قدمت ايديكم) تتمة لقولهم المحكى أو إشاره إلى مجموع ما يفعل بهم وما يقول لهم الملائكة، والمعنى إنما نذيقكم عذاب الحريق بما قدمت ايديكم أو: نضرب وجوهكم وأدباركم ونذيقكم عذاب الحريق بما قدمت ايديكم.