تفسير الميزان
السيد الطباطبائي
الجزء العاشر
/ صفحة 1 /
الميزان في تفسير القرآن 10
/ صفحة 3 /
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
/ صفحة 4 /
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء العاشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
/ صفحة 5 /
(سورة يونس وهي مائة وتسع آيات) بسم الله الرحمن الرحيم الر تلك آيات الكتاب الحكيم - 1.
أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين - 2.
إن ربكم الله الذى خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون - 3.
إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون - 4.
هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الايات لقوم يعلمون - 5.
إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والارض لايات لقوم يتقون - 6.
إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحيوه الدنيا
/ صفحة 6 /
واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون - 7.
أولئك مأويهم النار بما كانوا يكسبون - 8.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الانهار في جنات النعيم - 9.
دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين - 10.
(بيان) السورة - كما يلوح من آياتها - مكية من السور النازلة في أوائل البعثة وقد نزلت دفعة للاتصال الظاهر بين كرائم آياتها، وقد استثنى بعضهم قوله تعالى: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرئون الكتاب من قبلك) إلى تمام ثلاث آيات فذكر أنها مدنية، وبعضهم قوله تعالى: (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين) فذكر أنها نزلت في اليهود بالمدينة، ولا دليل من جهة اللفظ على شئ من القولين.
وغرض السورة وهو الذى أنزلت لاجل بيانه هو تأكيد القول في التوحيد من طريق الانذار والتبشير كأنها أنزلت عقيب إنكار المشركين الوحى النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسميتهم القرآن بالسحر فرد الله سبحانه ذلك عليهم ببيان أن القرآن كتاب سماوي نازل بعلمه تعالى، وأن الذى يتضمنه من معارف التوحيد كوحدانيته تعالى وعلمه وقدرته وانتهاء الخلقة إليه وعجائب سننه في خلقه ورجوعهم جميعا إليه بأعمالهم التى سيجزون بها خيرا أو شرا كل ذلك مما تدل عليه آيات السماء والارض ويهتدى إليه العقل السليم فهى معان حقة ولا يدل على مثلها إلا كلام حكيم لا سحر مزوق باطل.
/ صفحة 7 /
والدليل على ما ذكرنا افتتاح السورة بالكلام على تكذيبهم القرآن: (أكان للناس عجبا أن اوحينا - إلى قوله - قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) واختتامها بمثل قوله: (واتبع ما يوحى إليك واصبر) الاية ثم عوده تعالى إلى مسألة الايحاء بالقرآن وتكذيبهم له في تضاعيف الايات مرة بعد مرة كقوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) الاية، وقوله: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) الاية، وقوله: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة) الاية، وقوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) الاية.
فتكرر هذه الايات والافتتاح والاختتام بها يدل على أن الكلام مبنى على تعقيب إنكارهم لكلام الله وتكذيبهم الوحى ولذلك كان من عمدة الكلام في هذه السورة الوعيد على مكذبى آيات الله من هذه الامة بعذاب يقضى بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبينهم وأن ذلك من سنة الله في خلقه، وعلى تعقيبه تختتم السورة حتى كاد يكون بيان هذه الحقيقة من مختصات هذه السورة فمن الحرى أن تعرف السورة بأنها سورة الانذار بالقضاء العدل بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أمته وقد اختتمت بقوله: (واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين).
قوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) الاشارة باللفظ الدال على البعد للدلالة على ارتفاع مكانة القرآن وعلو مقامه فإنه كلام الله النازل من عنده وهو العلى الاعلى رفيع الدرجات ذو العرش.
والاية - ومعناها العلامة - وإن كان من الجائز أن يسمى بها ما هو من قبيل المعاني أو الاعيان الخارجية كما في قوله: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بنى اسرائيل) الشعراء: 197 وفي قوله: (وجعلناها وابنها آية للعالمين) الانبياء: 91 وكذا ما هو من قبيل القول كما في قوله ظاهرا: (وإذا بدلنا آية مكان آية) النحل: 101 ونحو ذلك لكن المراد بالايات ههنا هي أجزاء الكلام الالهى قطعا فإن الكلام في الوحى النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو كلام متلو مقرو بأى معنى من المعاني صورنا نزول الوحى.
فالمراد بالايات أجزاء الكتاب الالهى، وتتعين في الجملة من جهة المقاطع التى
/ صفحة 8 /
تفصل الايات بعضها من بعض مع إعانة ما من ذوق التفاهم، ولذلك ربما وقع الخلاف في عدد آيات بعض السور بين علماء الاحصاء كالكوفيين والبصريين وغيرهم.
والمراد بالكتاب الحكيم هو الكتاب الذى استقرت فيه الحكمة، وربما قيل: إن الحكيم من الفعيل بمعنى المفعول والمراد به المحكم غير القابل للانثلام والفساد، والكتاب الذى هذا شأنه - وقد وصفه تعالى في الاية التالية بأنه من الوحى - هو القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وربما قيل: إن الكتاب الحكيم هو اللوح المحفوظ، وكون الايات آياته هو أنها نزلت منه وهى محفوظة فيه، وهو وإن لم يخل عن وجه بالنظر إلى أمثال قوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) البروج: 22 وقوله: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون) الواقعة: 78 لكن الاظهر من الاية التى نحن فيها وسائر ما في سياقها من آيات أوائل هذه السور المفتتحة بالحروف (الر) وسائر الايات المشابهة لها أو الناظرة إلى وصف القرآن ان المراد بالكتاب وباياته هو هذا القرآن المتلو المقرو وآياته المتلوة المقروة بما أنه من اللوح المحفوظ من التغيير والبطلان كالكتاب المأخوذ بوجه من الكتاب كما يستفاد من مثل قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) الحجر: 1، وقوله: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود: 1، وغير ذلك.
قوله تعالى: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم) إلى آخر الاية الاستفهام للانكار فهو إنكار لتعجبهم من إيحاء الله إلى رجل منهم ما اشتملت عليه الدعوة القرآنية.
وقوله: (أن أنذر الناس) الخ تفسير لما أوحاه إليه، ويتبين به أن الذى ألقاه إليه من الوحى هو بالنسبة إلى عامة الناس إنذار وبالنسبة إلى الذين آمنوا منهم خاصة تبشير فهو لا محالة يضر الناس على بعض التقادير وهو تقدير الكفر والعصيان وينفعهم على تقدير الايمان والطاعة.
وقد فسر البشرى الذى أمره أن يبشر به المؤمنين بقوله: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) والمراد بقدم الصدق هو المنزلة الصادقة كما يشير إليه قوله: (في
/ صفحة 9 /
مقعد صدق عند مليك مقتدر) القمر: 55 فإن الايمان لما استتبع الزلفى والمنزلة عند الله كان الصدق في الايمان يستتبع الصدق في المنزلة التى يستتبعها فلهم منزلة الصدق كما أن لهم إيمان الصدق.
فإطلاق القدم على المنزلة والمكانة من الكناية ولما كان إشغال المكان عادة إنما هو بالقدم استعملت القدم في المكان إن كان في الماديات، في المكانة والمنزلة إن كان في المعنويات ثم أضيفت القدم إلى الصدق، وهو صدق صاحب القدم في شأنه أي قدم منسوبة إلى صدق صاحبها أو قدم هي صادقة لصدق صاحبها في شأنه.
وهناك معنى آخر وهو أن يراد بالصدق طبيعته كأن للصدق قدما وللكذب قدما وقدم الصدق هي التى تثبت ولا تزول.
وقوله: (قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقرئ: (إن هذا لسحر مبين) أي القرآن ومال القراءتين واحد فإنهم إنما كانوا يرمونه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسحر من جهة القرآن الكريم.
والجملة كالتعليل لقوله: (كان للناس عجبا) يمثل به معنى تعجبهم وهو أنهم لما سمعوا ما تلاه عليهم من القرآن وجدوه كلاما من غير نوع كلامهم خارقا للعادة المألوفة في سنخ الكلام يأخذ بمجامع القلوب وتتوله إليه النفوس فقالوا: إنه لسحر مبين، وإن الجائى به لساحر مبين.
قوله تعالى: (إن ربكم الله الذى خلق السماوات والارض في ستة أيام) لما ذكر في الاية السابقة عجبهم من نزول الوحى وهو القرآن على النبي صلى اله عليه وآله وسلم وتكذيبهم له برميه بالسحر شرع تعالى في بيان ما كذبوا به من الجهتين أعنى من جهة أن ما كذبوا به من المعارف المشتمل عليها القرآن حق لا ريب فيه، ومن جهة أن القرآن الذى رموه بالسحر كتاب إلهى حق وليس من السحر الباطل في شئ.
فقوله: (إن ربكم الله) الخ، شروع في بيان الجهة الاولى وهى أن ما يدعوكم إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يعلمكم القرآن حق لا ريب فيه ويجب عليكم أن تتبعوه.
والمعنى: إن ربكم معاشر الناس هو الله الذى خلق هذا العالم المشهود كله
/ صفحة 10 /
سماواته وأرضه في ستة أيام ثم استوى على عرش قدرته وقام مقام التدبير الذى إليه ينتهى كل تدبير وإدارة فشرع يدبر امر العالم، وإذا انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين أو الاعتضاد بأعضاد لم يكن لشئ من الاشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الامور - وهو الشفاعة - إلا من بعد إذنه تعالى فهو سبحانه هو السبب الاصلى الذى لا سبب بالاصالة دونه، ومن دونه من الاسباب أسباب بتسبيبه وشفعاء من بعد إذنه.
وإذا كان كذلك كان الله تعالى هو ربكم الذى يدبر امركم لا غيره مما اتخذتموها أربابا من دون الله وشفعاء عنده، وهو المراد بقوله: (ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون) أي هلا انتقلتم انتقالا فكريا إلى ما يستنير به أن الله هو ربكم لا رب غيره بالتأمل في معنى الالوهيه والخلقة والتدبير.
وقد تقدم الكلام في معنى العرش والشفاعة والاذن وغير ذلك في ذيل قوله: (إن ربكم الله) الاعراف: 54 في الجزء الثامن من الكتاب.
قوله تعالى: (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا) تذكير بالمعاد بعد التذكير بالمبدء، وقوله: (وعد الله حقا) من قيام المفعول المطلق مقام فعله، والمعنى: وعده الله وعدا حقا.
والحق هو الخبر الذى له أصل في الواقع يطابق الخبر فكون وعده تعالى بالمعاد حقا معناه كون الخلقة الالهية بنحو لا تتم خلقة إلا برجوع الاشياء - ومن جملتها الانسان - إليه تعالى وذلك كالحجر الهابط من السماء فإنه يعد بحركته السقوط على الارض فإن حركته سنخ أمر لا يتم إلا بالاقتراب التدريجي من الارض والسقوط والاستقرار عليها، والاشياء على حال كدح إلى ربها حتى تلاقيه، قال تعالى: (يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) الانشقاق: 6 فافهم ذلك.
قوله تعالى: (إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) الخ تأكيد لقوله: (إليه مرجعكم جميعا) وتفصيل لاجمال ما يتضمنه من معنى الرجوع والمعاد.
ويمكن أن يكون في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: (إليه مرجعكم) الخ
/ صفحة 11 /
أشير به إلى حجتين من الحجج المستعملة في القرآن لاثبات المعاد: أما قوله: (إنه يبدؤ الخلق ثم يعيده) فلان الجارى من سنة الله سبحانه أنه يفيض الوجود على ما يخلقه من شئ ويمده من رحمته بما تتم له به الخلقة فيوجد ويعيش ويتنعم برحمة منه تعالى ما دام موجودا حتى ينتهى إلى اجل معدود.
وليس انتهاؤه إلى أجله المعدود المضروب له فناء منه وبطلانا للرحمة الالهية التى كان بها وجوده وبقاؤه وسائر ما يلحق بذلك من حياة وقدرة وعلم ونحو ذلك بل بقبضه تعالى ما بسطه عليه من الرحمة فإن ما أفاضه الله عليه من عنده هو وجهه تعالى ولن يهلك وجهه.
فنفاد وجود الاشياء وانتهائها إلى أجلها ليس فناء منها وبطلانا لها على ما نتوهمه بل رجوعا وعودا منها إلى عنده وقد كانت نزلت من عنده، وما عند الله باق فلم يكن إلا بسطا ثم قبضا فالله سبحانه يبدؤ الاشياء ببسط الرحمة، ويعيدها إليه بقبضها وهو المعاد الموعود.
وأما قوله: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) الخ فإن الحجة فيه أن العدل والقسط الالهى - وهو من صفات فعله - يأبى أن يستوى عنده من خضع له بالايمان به وعمل صالحا ومن استكبر عليه وكفر به وباياته، والطائفتان لا يحس بينهما بفرق في الدنيا فإنما السيطرة فيها للاسباب الكونية بحسب ما تنفع وتضر بإذن الله.
فلا يبقى إلا أن يفرق الله بينهما بعدله بعد إرجاعهما إليه فيجزى المؤمنين المحسنين جزاء حسنا والكفار المسيئين جزاء سيئا من جهة ما يتلذذون به أو يتألمون.
فالحجة معتمدة على تمايز الفريقين بالايمان والعمل الصالح وبالكفر وعلى قوله: (بالقسط) هذا، وقوله: (ليجزى) متعلق بقوله: (إليه مرجعكم جميعا) على ظاهر التقرير.
ويمكن أن يكون قوله: (ليجزى) الخ متعلقا بقوله: (ثم يعيده) ويكون الكلام مسوقا للتعليل وإشارة إلى حجة واحدة وهى الحجة الثانية المذكورة، والاقرب من جهة اللفظ هو الاخير.
/ صفحة 12 /
قوله تعالى: (هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا) إلى آخر الاية، الضياء - على ما قيل - مصدر ضاء يضوء ضوء وضياء كعاذ يعوذ عوذا وعواذا، وربما كان جمع ضوء كسياط جمع سوط، واللفظ - على ما قيل - على تقدير مضاف والاصل جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور.
وكذلك قوله: (وقدره منازل) أي وقدر القمر ذا منازل في مسيره ينزل كل ليلة منزلا من تلك المنازل غير ما نزله في الليلة السابقة فلا يزال يتباعد من الشمس حتى يوافيها من الجانب الاخر، وذلك في شهر قمرى كامل فترتسم بذلك الشهور وترتسم بالشهور السنون، ولذلك قال: (لتعلموا عدد السنين والحساب).
والاية تنبئ عن حجة من الحجج الدالة على توحده تعالى في ربوبيته للناس وتنزهه عن الشركاء، والمعنى أنه هو الذى جعل الشمس ضياء تستفيدون منه في جميع شؤون حياتكم كما يستفيد منه ما في عالمكم الارضى من موجود مخلوق، وكذا جعل القمر نورا يستفاد منه، وقدره ذا منازل يؤدى اختلاف منازله إلى تكون الشهور والسنين فتستفيدون من ذلك في العلم بعدد السنين والحساب ولم يخلق ما خلق من ذلك بما يترتب عليه من الغايات والفوائد إلا بالحق فانها غايات حقيقية منتظمة تترتب على خلقة ما خلق فليست بلغو باطل ولا صدفة اتفاقية.
فهو تعالى إنما خلق ذلك ورتبة على هذا الترتيب لتدبير شؤون حياتكم وإصلاح أمور معاشكم ومعادكم فهو ربكم الذى يملك أمركم ويدبر شأنكم لا رب سواه.
وقوله: (يفصل الايات لقوم يعلمون) من المحتمل أن يراد به التفصيل بحسب التكوين الخارجي أو بحسب البيان اللفظى، ولعل الاول اقرب إلى سياق الاية.
قوله تعالى: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والارض لايات لقوم يتقون) قال في المجمع: الاختلاف ذهاب كل واحد من الشيئين في جهة غير جهة الاخر فاختلاف الليل والنهار ذهاب احدهما في جهة الضياء والاخر في جهة الظلام، انتهى.
والظاهر أنه مأخوذ من الخلف، والاصل في معناه أخذ أحد الشيئين الاخر في جهة خلفه ثم اتسع فاستعمل في كل تغاير كائن بين شيئين
/ صفحة 13 /
يقال: اختلفه أي جعله خلفه، واختلف الناس في كذا ضد اتفقوا فيه، واختلف الناس إليه أي ترددوا بالدخول عليه والخروج من عنده فجعل بعضهم بعضا خلفه.
والمراد باختلاف الليل والنهار إما ورود كل منهما على الارض خلف الاخر وهو توالى الليل والنهار الراسم للاسابيع والشهور والسنين، وإما اختلاف كل من الليل والنهار في أغلب بقاع الارض المسكونة فالليل والنهار يتساويان في الاعتدال الربيعي ثم يأخذ النهار في الزيادة في المناطق الشمالية فيزيد النهار كل يوم على النهار السابق عليه حتى يبلغ اول الصيف فيأخذ في النقيصة حتى يبلغ الاعتدال الخريفى وهو اول الخريف فيتساويان.
ثم يأخذ الليل في الزيادة على النهار إلى اول الشتاء وهو منتهى طول الليالى ثم يعود راجعا إلى التساوى حتى ينتهى إلى الاعتدال الربيعي وهو اول الربيع هذا في المناطق الشمالية والامر في المناطق الجنوبية بالخلاف منه فكلما زاد النهار طولا في احد الجانبين زاد الليل طولا في الجانب الاخر بنفس النسبة.
والاختلاف الاول بالليل والنهار هو الذى يدبر أمر اهل الارض بتسليط حرارة الاشعة ثم بسط برد الظلمة ونشر الرياح وبعث الناس للحركة المعاشية ثم جمعهم للسكن والراحة، قال تعالى: (وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا) النبأ: 11.
والاختلاف الثاني هو الذى يرسم الفصول الاربعة السنوية التى يدبر بها أمر الاقوات والارزاق كما قال تعالى: (وقدر فيها أقواتها في اربعة ايام سواء للسائلين) حم السجدة: 10.
والنهار واليوم مترادفان إلا أن في النهار - على ما قيل - فائدة اتساع الضياء ولعله لذلك لا يستعمل النهار إلا بعناية مقابلته الليل بخلاف اليوم فانه يستعمل فيما لا عناية فيه بذلك كما في مورد الاحصاء يقال: عشرة ايام وعشرين يوما وهكذا، ولا يقال: عشرة نهارات وعشرين نهارا وهكذا.
والاية تشتمل على حجة تامة على توحده تعالى في ربوبيته فان اختلاف الليل
/ صفحة 14 /
والنهار وما خلق الله في السماوات والارض يحمل نظاما واحدا عاما متقنا يدبر به أمر الموجودات الارضية والسماوية وخاصة العالم الانساني تدبيرا واحدا يتصل بعض أجزائه ببعض على أحسن ما يتصور.
وهو يكشف عن ربوبية واحدة ترب كل شئ ومنه الانسان فلا رب إلا الله سبحانه لا شريك له في ربوبيته.
ومن المحتمل أن يكون قوله: (إن في اختلاف الليل والنهار) الخ، في مقام التعليل لقوله في الاية السابقة: (يفصل الايات لقوم يعلمون) لمكان إن، والانسب على هذا أن يكون المراد باختلاف الليل والنهار تواليهما على الارض دون الاختلاف بالمعنى الاخر فان هذا المعنى من الاختلاف هو الذى يسبق إلى الذهن من قوله في الاية السابقة: (جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل) وهو ظاهر.
قوله تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) إلى آخر الايتين.
شروع في بيان ما يتفرع على الدعوة السابقة المذكورة بقوله: (ذلكم الله ربكم فاعبدوه) من حيث عاقبة الامر في استجابته ورده وطاعته ومعصيته.
فبدء سبحانه بالكافرين بهذا الامر فقال: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون) فوصفهم أولا بعدم رجائهم لقاءه، وهو الرجوع إلى الله بالبعث يوم القيامة، وقد تقدم الكلام في وجه تسميته بلقاء الله في مواضع من هذا الكتاب ومنها ما في تفسير آية الرؤية من سورة الاعراف فهؤلاء هم المنكرون ليوم الجزاء، وبإنكاره يسقط الحساب والجزاء فالوعد والوعيد والامر والنهى، وبسقوطها يبطل الوحى والنبوة وما يتفرع عليه من الدين السماوي.
وبإنكار البعث والمعاد ينعطف هم الانسان على الحياه الدنيا فان الانسان وكذا كل موجود ذى حياة له هم فطرى ضروري في بقائه وطلب لسعادة تلك الحياة فان كان مؤمنا بحياة دائمة تسع الحياة الدنيوية والاخروية معا فهو، وإن لم يذعن إلا بهذه الحياة المحدودة الدنيوية علقت همته الفطرية بها، ورضى بها
/ صفحة 15 /
وسكن بسببها عن طلب الاخرة، وهو المراد بقوله: (ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها).
ومن هنا يظهر أن الوصف الثاني أعنى قوله: (ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) من لوازم الوصف الاول أعنى قوله: (لا يرجون لقاءنا) وهو بمنزلة المفسر بالنسبة إليه، وأن الباء في قوله: (اطمأنوا بها) للسببية أي سكنوا بسببها عن طلب اللقاء وهو الاخرة.
وقوله: (والذين هم عن آياتنا غافلون) في محل التفسير لما تقدمه من الوصف لمكان ما بينهما من التلازم فان نسيان الاخرة وذكر الدنيا لا ينفك عن الغفلة عن آيات الله.
والاية قريبة المضمون من قوله تعالى: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) الاية النجم: 30 حيث دل على ان الاعراض عن ذكر الله وهو الغفلة عن آياته يوجب قصر علم الانسان في الحياة الدنيا وشؤونها فلا يريد إلا الحياة الدنيا وهو الضلال عن سبيل الله، وقد عرف هذا الضلال بنسيان يوم الحساب في قوله: (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ص - 26.
فقد تبين أن إنكار اللقاء ونسيان يوم الحساب يوجب رضى الانسان بالحياة الدنيا والاطمئنان إليها من الاخرة وقصر العلم عليه وانحصار الطلب فيه، وإذ كان المدار على حقيقة الذكر والطلب لم يكن فرق بين انكاره والرضى بالحياة الدنيا قولا وفعلا أو فعلا مع القول الخالى به.
وتبين ايضا ان الاعتقاد بالمعاد أحد الاصول التى يتقوم بها الدين إذ بسقوطه يسقط الامر والنهى والوعد والوعيد والنبوة والوحى وهو بطلان الدين الالهى من رأس.
وقوله: (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) بيان لجزائهم بالنار الخالدة قبال أعمالهم التى كسبوها.
/ صفحة 16 /
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم) إلى آخر الاية، هذا بيان لعاقبة أمر المؤمنين وما يثيبهم الله على استجابتهم لدعوته وطاعتهم لامره.
ذكر سبحانه أنه يهديهم بإيمانهم، وإنما يهديهم إلى ربهم لان الكلام في عاقبة أمر من يرجو لقاء الله، وقد قال تعالى: (ويهدى إليه من أناب) الرعد: 27.
فإنما يهدى الايمان بإذن الله إلى الله سبحانه وكلما اهتدى المؤمنون إلى الحق أو إلى الصراط المستقيم أو غير ذلك مما يشتمل عليه كلامه فإنما هي وسائل ومدارج تنتهى بالاخرة إليه تعالى، قال تعالى: (وأن إلى ربك المنتهى) النجم: 42.
وقد وصف المؤمنين بالايمان والاعمال الصالحة ثم نسب هدايتهم إليه إلى الايمان وحده فإن الايمان هو الذى يصعد بالعبد إلى مقام القرب، وليس للعمل الصالح إلا اعانة الايمان وإسعاده في عمله كما قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة: 11 حيث ذكر للرفع الايمان والعلم وسكت عن العمل الصالح، وأوضحه منه في الدلالة قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فاطر: 10.
هذا في الهداية التى هي شأن الايمان، وأما نعم الجنة فإن للعمل الصالح دخلا فيها كما أن للعمل الطالح دخلا في أنواع العذاب وقد ذكر تعالى في المؤمنين قوله: (تجرى من تحتهم الانهار في جنات النعيم) كما ذكر في الكافرين قوله: (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون).
وليتنبه الباحث المتدبر أنه تعالى ذكر لهؤلاء المهتدين بإيمانهم من مسكن القرب جنات النعيم، ومن نعيمها الانهار التى تجرى من تحتهم فيها، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم) الحمد: 7 وقوله: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) الاية النساء: 69 أن النعيم بحقيقة معناه في القرآن الكريم هو الولاية الالهية، وقد خص الله أولياءه المقربين بنوع من شراب الجنة اعتنى به في حقهم كما قال: (إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا) الانسان: 6، وقال أيضا: (إن الابرار لفى
/ صفحة 17 /
نعيم - إلى أن قال - يسقون من رحيق مختوم - إلى أن قال - عينا يشرب بها المقربون) المطففين: 28، وعليك بالتدبر في الايات وتطبيق بعضها على بعض حتى ينجلى لك بعض ما أودعه الله سبحانه في كلامه من الاسرار اللطيفة.
قوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) أول ما يكرم به الله سبحانه أولياءه - وهم الذين ليس في قلوبهم إلا الله ولا مدبر لامرهم غيره - أنه يطهر قلوبهم عن محبه غيره فلا يحبون إلا الله فلا يتعلقون بشئ إلا الله وفي الله سبحانه فهم ينزهونه عن كل شريك يجذب قلوبهم إلى نفسه عن ذكر الله سبحانه، وعن أي شاغل يشغلهم عن ربهم.
وهذا تنزيه منهم لربهم عن كل ما لا يليق بساحة قدسه من شريك في الاسم أو في المعنى أو نقص أو عدم، وتسبيح منهم له لا في القول واللفظ فقط بل قولا وفعلا ولسانا وجنانا، وما دون ذلك فإن له شوبا من الشرك، وقد قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106.
وهؤلاء الذين طهر الله قلوبهم عن قذارة حب غيره الشاغلة عن ذكره وملاها بحبه فلا يريدون إلا إياه وهو سبحانه الخير الذى لا شر معه قال: (والله خير) طه: 73.
فلا يواجهون بقلوبهم التى هي ملاى بالخير والسلام أحدا إلا بخير وسلام اللهم إلا أن يكون الذى واجهوه بقلوبهم هو الذى يبدل الخير والسلام شرا وضرا كما أن القرآن شفاء لمن استشفى به لكنه لا يزيد الظالمين إلا خسارا.
ثم إن هذه القلوب الطاهرة لا تواجه شيئا من الاشياء إلا وهى تجده وتشاهده نعمة لله سبحانه حاكية لصفات جماله ومعانى كماله واصفة لعظمته وجلاله فكلما وصفوا شيئا من الاشياء وهم يرونه نعمة من نعم الله ويشاهدون فيه جماله تعالى في أسمائه وصفاته ولا يغفلون ولا يسهون عن ربهم في شئ كان وصفهم لذلك الشئ وصفا منهم لربهم بالجميل من أفعاله وصفاته فيكون ثناء منهم عليه وحمدا منهم له
/ صفحة 18 /
فليس الحمد إلا الثناء على الجميل من الفعل الاختياري.
فهذا شأن اوليائه تعالى وهم قاطنون في دار العمل يجتهدون في يومهم لغد فإذا لقوا ربهم فوفى لهم بوعده وأدخلهم في رحمته وأسكنهم دار كرامته أتم لهم نورهم الذى كان خصهم به في الدنيا كما قال تعالى: (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا) التحريم: 8.
فسقاهم شرابا طهورا يطهر به سرائرهم من كل شرك جلى وخفى، وغشيهم بنور العلم واليقين، وأجرى من قلوبهم على ألسنتهم عيون التوحيد فنزهوا الله وسبحوه اولا وسلموا على رفقائهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ثم حمدوا الله سبحانه وأثنوا عليه بأبلغ الحمد وأحسن الثناء.
وهذا هو الذى يقبل الانطباق عليه - والله اعلم - قوله في الايتين: (تجرى من تحتهم الانهار في جنات النعيم) وفيه ذكر جنة الولاية وتطهير قلوبهم: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) وفيه تنزيهه تعالى وتسبيحه عن كل نقص وحاجة وشريك تنزيها على وجه الحضور لانهم غير محجوبين عن ربهم (وتحيتهم فيها سلام) وهو توسيم اللقاء بالامن المطلق، ولا يوجد في غيرها من الامن إلا اليسير النسبى (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) وفيه ذكر ثنائهم على الله بالجميل بعد تسبيحهم له وتنزيههم، وهذا آخر ما ينتهى إليه اهل الجنة في كمال العلم.
وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين) الحمد: 2 أن الحمد توصيف، ولا يسع وصفه تعالى لاحد من خلقه إلا للمخلصين من عباده الذين أخلصهم لنفسه وخصهم بكرامة من القرب لا واسطة فيها بينهم وبينه قال تعالى: (سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين) الصافات: 160.
ولذلك لم يحك في كلامه حمده إلا عن آحاد من كرام أنبيائه كنوح وإبراهيم ومحمد وداود وسليمان (عليهم السلام) كقوله فيما أمر به نوحا: (فقل الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين) المؤمنون: 28، وقوله حكاية عن إبراهيم: (الحمد لله الذى وهب لى على الكبر اسماعيل وإسحاق) ابراهيم: 39، وقوله فيما أمر به محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)
/ صفحة 19 /
في عدة مواضع: (قل الحمد لله) النمل: 93، وقوله حكاية عن داود وسليمان: (وقالا الحمد لله) النمل: 15.
وقد حكى سبحانه حمده عن أهل الجنة في عدة مواضع من كلامه كقوله: (وقالوا الحمد لله الذى هدانا لهذا) الاعراف: 43، وقوله ايضا: (وقالوا الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن) فاطر: 34، وقوله ايضا: (وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده) الزمر: 74، وقوله في هذه الاية: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
والاية تدل على أن الله سبحانه يلحق اهل الجنة من المؤمنين بالاخرة بعباده المخلصين ففيها وعد جميل وبشارة عظيمة للمؤمنين.
(بحث روائي) في تفسير العياشي عن يونس بن عبد الرحمن عمن ذكره عن ابى عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) الاية قال: الولاية.
وفي الكافي بإسناده عن إبراهيم بن عمر اليماني عمن ذكره عن ابى عبد الله (عليه السلام) في قول الله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) قال: هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
أقول: ورواه القمى في تفسيره مسندا والعياشي في تفسيره مرسلا عن إبراهيم بن عمر عمن ذكره عنه (عليه السلام).
والظاهر أن المراد به شفاعته (صلى الله عليه وآله وسلم).
ويدل على ذلك ما رواه الطبرسي في المجمع حيث قال: قيل: قدم صدق شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال: وهو المروى عن ابى عبد الله (عليه السلام).
وما رواه في الدر المنثورعن ابن مردويه عن على بن ابى طالب في قوله: (قدم صدق عند ربهم) قال: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) شفيع لهم يوم القيامة.
وفي تفسير العياشي عن زيد الشحام عن ابى عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن التسبيح قال: هو اسم من أسماء الله ودعوى اهل الجنة.
/ صفحة 20 /
أقول: ومراده بالتسبيح قولنا: سبحان الله، ومعنى اسميته دلالته على تنزيهه تعالى.
وفي الاختصاص بإسناده عن جعفر بن محمد عن ابيه عن جده الحسين بن على بن ابى طالب (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل مع يهودى وقد سأله عن مسائل: قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا قال العبد: سبحان الله سبح كل شئ معه ما دون العرش فيعطى قائلها عشر أمثالها، وإذا قال: الحمد لله أنعم الله عليه بنعيم الدنيا حتى يلقاه بنعيم الاخرة، وهي الكلمة التي يقولها أهل الجنة إذا دخلوها، والكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمدلله، وذلك قوله: تحيتهم يوم يلقونه سلام.
اقول: وقوله: (والكلام ينقطع في الدنيا ما خلا الحمدلله) أي جميع الكلام المستعمل في الدنيا لمقاصد تعود إلى مستعمله كالكلام المستعمل لمقاصد المعاش كجميع المحاورات الانسانية والكلام المستعمل في العبادات لغرض الثواب ونحو ذلك ينقطع بانقطاع الدنيا إذ لا خبر بعد ذلك عن هذه المقاصد الدنيوية، ولا يبقى بعدئذ إلا الحمدلله والثناء عليه بالجميل وهو كلام اهل الجنة فيها.
وقوله: وذلك قوله: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) معناه أن كون التحية يومئذ هو السلام المطلق يدل على أن ليس هناك إلا موافقة كل شئ وملائمته لما يريده الانسان فكل ما يريده فهو له فلا يستعمل هناك كلام لتحصيل غاية من الغايات على حد الكلام الدنيوي إلا الثناء على جميل ما يشاهد منه تعالى فافهم ذلك.
* * *
ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون - 11.
وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره
/ صفحة 21 /
مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون - 12.
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين - 13.
ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون - 14.
(بيان) لما ذكر سبحانه الاصلين من أصول الدعوة الحقة وهما التوحيد والمعاد واحتج عليهما من طريق العقل الفطري ثم أخبر عن عاقبة الايمان والكفر بهما بحث عن سبب إمهال الناس وعدم تعجيل نزول العذاب بساحتهم مع تماديهم في غيهم وضلالتهم وعمههم في طغيانهم وما هو السبب الذى يوجب لهم ذلك فبين أن الامر بين لا ستر عليه، وقد بينه لهم رسل الله بالبينات لكن الشيطان زين لهؤلاء المسرفين أعمالهم فأغفلهم عن ذكر المعاد فذهلوا ونسوا بعد ما ذكروا ثم لم يعجل الله لهم العذاب بل أمهلهم في الدنيا إلى حين ليبتليهم ويمتحنهم فإنما الدار دار ابتلاء وامتحان.
قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) الخ، تعجيل الشئ الاتيان به بسرعة وعجلة، والاستعجال بالشئ طلب حصوله بسرعة وعجلة، والعمه شدة الحيرة.
ومعنى الاية: ولو يعجل الله للناس الشر وهو العذاب كما يستعجلون بالخير كالنعمة لانزل عليهم العذاب بقضاء أجلهم لكنه تعالى لا يعجل لهم الشر فيذر هؤلاء المنكرين للمعاد المارقين عن ربقة الدين يتحيرون في طغيانهم أشد التحير.
/ صفحة 22 /
وتوضيحه أن الانسان عجول بحسب طبعه يستعجل بما فيه خيره ونفعه أي إنه يطلب من الاسباب أن تسرع في إنتاج ما يبتغيه ويريده فهو في الحقيقة يطلب الاسراع المذكور من الله سبحانه لانه السبب في ذلك بالحقيقة فهذه سنة الانسان وهى مبنية على الاهواء النفسانية فإن الاسباب الواقعة ليست في نظامها تابعة لهوى الانسان بل العالم الانساني هو التابع الجارى على ما يجريه عليه نظام الاسباب اضطرارا أحب ذلك أو كرهه.
ولو أن السنة الالهية في خلق الاشياء والاتيان بالمسببات عقيب أسبابها اتبعت أو شابهت هذه السنة الانسانية المبنية على الجهل فعجلت المسببات والاثار عقيب أسبابها لاسرع الشر وهو الهلاك بالعذاب إلى الانسان فإن سببه قائم معه، وهو الكفر بعدم رجاء لقاالله والطغيان في الحياة الدنيا لكنه تعالى لا يعجل الشر لهم كاستعجالهم بالخير لان سنته مبنية على الحكمة بخلاف سنتهم المبنية على الجهالة فيذرهم في طغيانهم يعمهون.
وقد بان بذلك اولا: أن في قوله (لقضى إليهم أجلهم) نوعا من التضمين فقد ضمن فيه (قضى) معنى مثل الانزال أو الابلاغ ولذا عدى بإلى.
والمعنى قضى منزلا أو مبلغا إليهم أجلهم أو أنزل أو أبلغ إليهم أجلهم مقضيا وهو كناية عن نزول العذاب فالكلمة من الكناية المركبة.
وثانيا: أن في قوله: (فنذر الذين) التفاتا من الغيبة إلى التكلم مع الغير، ولعل النكتة فيه الاشارة إلى توسيط الاسباب في ذلك فإن المذكور من أفعاله تعالى في الاية وما بعدها كتركهم في عمههم وكشف الضر والتزيين والاهلاك أمور يتوسل إليها بتوسيط الاسباب، والعظماء إذا أرادوا أن يشيروا إلى دخل أعوانهم وخدمهم في بعض أمورهم أتوا بصيغة المتكلم مع الغير.
قوله تعالى: (وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) إلى آخر الاية.
الضر بالضم ما يمس الانسان من الضرر في نفسه، وقوله: (دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) أي دعانا منبطحا لجنبه الخ، والظاهر أن الترديد للتعميم أي دعانا على أي حال من أحواله فرض من انبطاح أو قعود أو قيام مصرا على دعائه لا
/ صفحة 23 /
ينسانا في حال، ويمكن أن يكون (لجنبه) الخ، أحوالا ثلاثة من الانسان لا من فاعل دعانا والعامل فيه (مس) والمعنى إذا مس الانسان الضر وهو منبطح أو قاعد أو قائم دعانا في تلك الحال وهذا معنى ما ورد في بعض المرسلات: (دعانا لجنبه) العليل الذى لا يقدر أن يجلس (أو قاعدا) الذى لا يقدر أن يقوم (أو قائما) الصحيح.
وقوله: (مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) كناية عن النسيان والغفلة عما كان لا يكاد ينساه.
والمعنى: وإذا مس الانسان الضر لم يزل يدعونا لكشف ضره وأصر على الدعاء فإذا كشفنا عنه ضره الذى مسه نسينا وترك ذكرنا وانجذبت نفسه إلى ما كان يتمتع به من أعماله كذلك زين للمسرفين المفرطين في التمتع بالزخارف الدنيوية أعمالهم فأورثهم نسيان جانب الربوبية والاعراض عن ذكر الله تعالى.
وفي الاية بيان السبب في تمادى منكري المعاد في غيهم وضلالتهم وخصوصية سببه وهو أن هؤلاء مثلهم كمثل الانسان يمسه الضر فيذكر ربه ويلح عليه بالدعاء لكشف ضره حتى إذا كشف عنه الضر - ولذلك كان يدعوه - مر لوجهه متوغلا في شهواته وقد نسى ما كان يدعوه ويذكره فلم يكن تركه لدعاء ربه بعد ذكره إلا معلولا لما زين له من عمله فأورثه النسيان بعد الذكر.
فكذلك هؤلاء المسرفون زين لهم أعمالهم فجذبتهم إلى نفسها فنسوا ربهم بعد ذكره، وقد ذكرهم الله مقامه بإرسال الرسل إلى من قبلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا وإهلاك القرون من قبلهم بظلمهم وهذه هي السنة الالهية يجزى القوم المجرمين.
ومن هنا يظهر أن الاية التالية: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم) الخ، متمم للبيان في هذه الاية: (وإذا مس الانسان الضر دعانا) إلى آخر الايه.
قوله تعالى: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم) إلى آخر الاية، قد ظهر معناه مما تقدم، وفي الاية التفات في قوله: (من قبلكم) من الغيبة إلى الخطاب،
/ صفحة 24 /
وكأن النكتة فيه التشديد في الانذار لان الانذار و التخويف بالمشافهة أوقع أثرا وأبلغ من غيره.
ثم في قوله: (كذلك نجزى القوم المجرمين) التفات آخر بتوجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والنكتة فيه أنه إخبار عن السنة الالهية في أخذ المجرمين، والنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الاهل لفهمه والاذعان بصدقه دونهم ولو أذعنوا بصدقه لامنوا به ولم يكفروا، وهذا بخلاف قوله: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم.
.
.
وجاءتهم رسلهم) فإنه خبر تاريخي لا ضير في تصديقهم به.
قوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون) معناه ظاهر، وفيه بيان أن سنة الامتحان والابتلاء عامة جارية.
* * *
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسي إن اتبع إلا ما يوحى إلى إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم - 15.
قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون - 16.
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب باياته إنه لا يفلح المجرمون - 17.
و 30: 31: 09 يعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الارض سبحانه وتعالى عما يشركون - 18.
وما كان الناس إلا أمة
/ صفحة 25 /
واحدة فاختلفوا ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم فيما فيه يختلفون - 19.
ويقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين - 20.
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون - 21.
هو الذى يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين - 22.
فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الارض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون - 23.
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الارض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالامس كذلك نفصل الايات لقوم يتفكرون - 24.
والله يدعوا إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم - 25.
/ صفحة 26 /
(بيان) احتجاجات يلقنها الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليرد بها ما قالوه في كتاب الله أو في آلهتهم أو اقترحوه في نزول الاية.
قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) هؤلاء المذكورون في الاية كانوا قوما وثنيين يقدسون الاصنام ويعبدونها، ومن سننهم التوغل في المظالم والاثام واقتراف المعاصي، والقرآن ينهى عن ذلك كله، ويدعو إلى توحيد الله تعالى ورفض الشركاء، وعبادة الله مع التنزه عن الظلم والفسق واتباع الشهوات.
ومن المعلوم أن كتابا هذا شأنه إذا تليت آياته على قوم ذلك شأنهم لم يكن ليوافق ما تهواه أنفسهم بما يشتمل عليه من الدعوة المخالفة فلو قالوا: ائت بقرآن غير هذا دل على انهم يقترحون قرآنا لا يشتمل على ما يشتمل عليه هذا القرآن من الدعوة إلى رفض الشركاء واتقاء الفحشاء والمنكر، وإن قالوا: بدل القرآن كان مرادهم تبديل ما يخالف آراءهم من آياته إلى ما يوافقها حتى يقع منهم موقع القبول، وذلك كالشاعر ينشد من شعره أو القاص يقص القصة فلا تستحسنه طباع السامعين فيقولون: ائت بغيره أو بدله، وفي ذلك تنزيل القرآن أنزل مراتب الكلام وهو لهو الحديث الذى إنما يلقى لتلهو به نفس سامعه وتنشط به عواطفه ثم لا يستطيبه السامع فيقول: ائت بغير هذا أو بدله.
فبذلك يظهر أن قولهم إذا تليت عليهم آيات القرآن: (ائت بقرآن غير هذا) يريدون به قرآنا لا يشتمل من المعارف على ما يتضمنه هذا القرآن بأن يترك هذا ويؤتى بذاك، وقولهم: (أو بدله) أن يغير ما فيه من المعارف المخالفة لاهوائهم إلى معان يوافقها مع حفظ أصله فهذا هو الفرق بين الاتيان بغيره وبين تبديله.
فما قيل: إن الفرق بينهما أن الاتيان بغيره قد يكون معه وتبديله لا يكون
/ صفحة 27 /
إلا برفعه، غير سديد.
فإنهم ما كانوا يريدون أن يأتيهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا القرآن وغيره معا قطعا.
وكذا ما ذكره بعضهم أن قولهم: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) إنما ارادوا به أن يمتحنوه بذلك فيغروه حتى إذا أجابهم إلى ذلك كان ذلك نقضا منه لدعوى نفسه أنه كلام الله، وذلك أنهم لما سمعوا ما بلغهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من آيات القرآن وتلاه عليهم وتحداهم بالاتيان بمثله وعجزوا عن الاتيان بمثله، وكانوا في ريب من كونه كلام الله، وفي ريب من كونه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه ولم يكن يفوقهم في الفصاحة والبلاغة والعلم، بل كانوا يرونه دون كبار فصحائهم ومصاقع خطبائهم أرادوا أن يمتحنوه بهذا القول حتى إذا أتاهم بما سألوه كان ذلك ناقضا لاصل دعواه انه كلام الله.
وكان قصارى أمره أنه امتاز عليهم بهذا النوع من البيان لقوة نفسية فيه كانت خفية عليهم كأسباب السحر لا بوحى.
هذا.
وفيه مضافا إلى مناقضة آخره أوله أنه مدفوع بما يلقنه الله سبحانه من الحجة فإن السؤال الذى لم يصدر إلا بداعي الامتحان والاختبار من غير داع جدى لا معنى للجواب عنه بالاثبات الجدى بحجة جدية وهو ظاهر.
وفي قوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) التفات من الخطاب إلى الغيبة، والظاهر أن النكتة فيه أن يكون توطئه إلى إلقاء الامر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (قل ما يكون لى أن أبدله) الخ، فان ذلك لا يتم إلا بصرف الخطاب عنهم وتوجيهه إليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: (قل ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلى) إلى آخر الاية التلقاء، بكسر التاء مصدر كاللقاء نظير التبيان والبيان ويستعمل ظرفا.
والله سبحانه على ما أجاب عن مقترحهم بقولهم: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) في أثناء كلامه بقوله (بينات) فإن الايات إذا كانت بينات ظاهرة الاستناد إلى الله سبحانه كشفت كشفا قطعيا عما يريده الله سبحانه منهم من رفض الاصنام والاجتناب من كل ما لا يرتضيه بما أوحى إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تفصيل دينه، رد
/ صفحة 28 /
سؤالهم إليهم تفصيلا بتلقين نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة في ذلك بقوله: (قل ما يكون لى) إلى آخر الايات الثلاث.
فقوله: (قل ما يكون لى أن أبدله) الخ، جواب عن قولهم: (أو بدله) ومعناه: قل لا أملك - وليس لى بحق - أن أبدله من عند نفسي لانه ليس بكلامي وإنما هو وحى إلهى أمرنى ربى أن أتبعه ولا أتبع غيره، وإنما لا أخالف أمر ربى لانى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم وهو يوم لقائه.
فقوله: (ما يكون لى أن أبدله) نفى الحق وسلب الخيرة، وقوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إلى) في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: (ما يكون لى) وقوله: (إنى أخاف إن عصيت ربى) الخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: (إن أتبع) الخ، بما يلوح منه أنه مما تعلق به الامر الالهى.
وفي قوله: (إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) نوع محاذاة لما في صدر الكلام من قوله: (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن) الخ فإن الاتيان بالوصف للاشعار بأن الباعث لهم أن يقولوا ما قالوا إنما هو إنكارهم للمعاد وعدم رجائهم لقاء الله فقابلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر من ربه بقوله: (إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم) فيؤول المعنى إلى أنكم تسألون ما تسألون لانكم لا ترجون لقاء الله لكننى لا أشك فيه فلا يمكننى إجابتكم إليه لانى أخاف عذاب يوم اللقاء، وهو يوم عظيم.
وفي تبديل يوم اللقاء بيوم عظيم فائدة الانذار مضافا إلى أن العذاب لا يناسب اللقاء تلك المناسبة.
قوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) أدراكم به أي أعلمكم الله به، والعمر بضمتين أو بالفتح فالسكون هو البقاء، وإذا استعمل في القسم كقولهم: لعمري ولعمرك تعين الفتح.
وهذه الاية تتضمن رد الشق الاول من سؤالهم وهو قولهم: (ائت بقرآن غير هذا) ومعناها على ما يساعد عليه السياق: أن الامر فيه إلى مشية الله لا إلى
/ صفحة 29 /
مشيتى فإنما أنا رسول ولو شاء الله أن ينزل قرآنا غير هذا ولم يشأ هذا القرآن ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فإنى مكثت فيكم عمرا من قبل نزول القرآن وعشت بينكم وعاشرتكم وعاشرتمونى وخالطتكم وخالطتمونى فوجدتمونى لا خبر عندي من وحى القرآن، ولو كان ذلك إلى وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك، وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه، فليس إلى من الامر شئ، وإنما الامر في ذلك إلى مشية الله وقد تعلقت مشيته بهذا القرآن لا غيره أفلا تعقلون؟ قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب باياته انه لا يفلح المجرمون) استفهام إنكارى أي لا أحد أظلم وأشد إجراما من هذين الفريقين: المفترى على الله كذبا، والمكذب باياته فان الظلم يعظم بعظمة من يتعلق به وإذا اختص بجنب الله كان أشد الظلم.
وظاهر سياق الاحتجاج في الايتين أن هذه الاية من تمامها والمعنى: لا أجيبكم إلى ما اقترحتم على من الاتيان بقرآن غير هذا أو تبديله فإن ذلك ليس إلى ولا لى حق فيه، ولو أجبتكم إليه لكنت أظلم الناس وأشدهم إجراما ولا يفلح المجرمون فإنى لو بدلت القرآن وغيرت بعض مواضعه مما لا ترتضونه لكنت مفتريا على الله كذبا ولا أظلم منه، ولو تركت هذا القرآن وجئتكم بغيره مما ترتضونه لكنت مكذبا لايات الله، ولا أظلم منه.
وربما احتمل كون الاستفهام الانكارى بشقيه تعريضا للمشركين أي أنتم أظلم الناس بإثباتكم لله شركاء وهو افتراء الكذب على الله وبتكذيبكم بنبوتي والايات النازلة على وهو تكذيب بايات الله ولا يفلح المجرمون.
وذكر بعضهم أن الاول من شقى الترديد للنبى على تقدير إجابتهم والثانى للمشركين، أي لا أحد أظلم عند الله من هذين الفريقين: المفترين على الله والمكذبين باياته، وأنا أنعى عليكم الثاني منهما فكيف أرضى لنفسي بالاول وهو شر منه؟ وأى فائدة لى من هذا الاجرام العظيم وأنا أريد الاصلاح.
والذى ذكره من المعنى لا بأس به في نفسه لكن الشأن في استفادته من الاية
/ صفحة 30 /
ودلالة لفظها عليه، وكذا الوجه السابق عليه بالنظر إلى السياق.
قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) إلى آخر الاية، الكلام: موجه نحو عبدة الاصنام من المشركين وإن كان ربما شمل غيرهم كأهل الكتاب بحسب سعة معناه، وذلك لمكان (ما) وكون السورة مكية من أوائل ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القرآن.
وقد كانت عبدة الاصنام يعبدون الاصنام ليتقربوا بعبادتها إلى أربابها وبأربابها إلى رب الارباب وهو الله سبحانه، ويقولون: (إننا على ما بنا من ألواث البشرية المادية وقذارات الذنوب والاثام لا سبيل لنا إلى رب الارباب لطهارة ساحته وقدسها ولا نسبة بيننا وبينه.
فمن الواجب أن نتقرب إليه بأحب خلائقه إليه وهم أرباب الاصنام الذين فوض الله إليهم أمر تدبير خلقه، ونتقرب إليهم بأصنامهم وتماثيلهم وإنما نعبد الاصنام لتكون شفعاء لنا عند الله لتجلب الينا الخير وتدفع عنا الشر فتقع العبادة للاصنام حقيقة، والشفاعة لاربابها وربما نسبت إليها.
وقد وضع في الكلام قوله: (ما لا يضرهم ولا ينفعهم) موضع الاصنام للتلويح إلى موضع خطأهم في مزعمتهم، وهو أن هذا السعي إنما كان ينجح منهم لو كانت هذه الاصنام ضارة نافعة في الامور وكانت ذوات شعور بالعبادة والتقرب حتى ترضى عن عبادها بعبادتهم لها فتشفع أو يشفع اربابها لهم عند الله إن كان الله يرتضى شفاعتهم وهؤلاء اجسام ميتة لا تشعربشئ ولا تضر ولا تنفع شيئا.
وقد أمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحتج على بطلان دعواهم الشفاعة - مضافا إلى ما يلوح إليه قوله: (لا يضرهم ولا ينفعهم) - بقوله: (قل أتنبؤون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الارض) ومحصله أن الله سبحانه لا علم له بهذه الشفعاء في شئ من السماوات والارض فدعواكم هذه إخبار منكم إياه بما لا يعلم، وهو من أقبح الافتراء وأشنع المكابرة، وكيف يكون في الوجود شئ لا يعلم به الله وهو يعلم ما في السماوات والارض؟
/ صفحة 31 /
فالاستفهام إنكارى، ونفى العلم بوجود الشفعاء كناية عن نفى وجودها، ولعل اختيار هذا التعبير لكون الشفاعة مما يتقوم بالعلم لذاته فإن الشفاعة إنما تتحقق إذا كان المشفوع عنده عالما بوجود الشافع وشفاعته فإذا فرض أنه لا يعلم بالشفعاء فكيف تتحقق الشفاعة عنده وهو لا يعلم.
وقوله: (سبحانه وتعالى عما يشركون) كلمة تنزيه، وهى من كلام الله وليست مقولة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فان ظرف المشركين بالنسبة إليه هو الخطاب دون الغيبة فلو كان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقيل: عما تشركون بالخطاب.
قوله تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) قد تقدم في تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) البقرة: 213 أن الاية تكشف عن نوعين من الاختلاف بين الناس.
أحدهما: الاختلاف من حيث المعاش وهو الذى يرجع إلى الدعاوى وينقسم به الناس إلى مدع ومدعى عليه وظالم ومظلوم ومتعد ومتعدي عليه وآخذ بحقه وضائع حقه، وهذا هو الذى رفعه الله سبحانه بوضع الدين وبعث النبيين وإنزال الكتاب معهم ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويعلمهم معارف الدين ويواجههم بالانذار والتبشير.
وثانيهما: الاختلاف في نفس الدين وما تضمنه الكتاب الالهى من المعارف الحقة من الاصول والفروع، وقد صرح القرآن في مواضع من آياته أن هذا النوع من الاختلاف ينتهى إلى علماء الكتاب بغيا بينهم، وليس مما يقتضيه طباع الانسان كالقسم الاول، وبذلك ينقسم الطريق إلى طريقي الهداية والضلال فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، وقد ذكر سبحانه في مواضع من كلامه بعد ذكر هذا القسم من الاختلاف أنه لو لا قضاء من الله سبق لحكم بينهم فيما اختلفوا فيه ولكن يؤخرهم إلى أجل، قال تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا
/ صفحة 32 /
بينهم ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم) الشورى: 14 إلى غير ذلك من الايات.
وسياق الاية السابقة أعنى قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) الخ، لا يناسب من الاختلافين المذكورين إلا الاختلاف الثاني وهو الاختلاف في نفس الدين لانها تذكر ركوب الناس طريق الضلال بعبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم واتخاذهم شفعاء عند الله، ومقتضى ذلك أن يكون المراد من كون الناس سابقا أمة واحدة كونهم على دين واحد وهو دين التوحيد ثم اختلفوا فتفرقوا فريقين موحد ومشرك.
فذكر الله فيها أن اختلافهم كان يقضى أن يحكم الله بينهم باظهار الحق على الباطل وفيه هلاك المبطلين وإنجاء المحقين لكن السابق من الكلمد الالهية منعت من القضاء بينهم، والكلمة هي قوله تعالى لما أهبط الانسان إلى الدنيا: (ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) البقرة: 36.
وللمفسرين في الاية أقوال عجيبة منها: أن المراد بالناس هم العرب كانوا على دين واحد حق وهو دين إبراهيم (عليه السلام) إلى زمن عمرو بن لحى الذى زوج بينهم الوثنية فانقسموا إلى حنفاء مسلمين، وعبدة أصنام مشركين، وأنت خبير أنه لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة.
ومنها: أن المراد بالناس جميعهم، والمراد من كونهم أمة واحدة كونهم على فطرة الاسلام وإن كانوا مختلفين دائما، فلفظة (كان) منسلخ الزمان، والاية تحكى عما عليه الناس بحسب الطبع وهو التوحيد، وما هم عليه بحسب الفعلية وهو الاختلاف فليس الناس بحسب الطبع الفطري إلا أمة واحدة موحدين لكنهم اختلفوا على خلاف فطرتهم.
وفيه أنه خلاف ظاهر الاية والاية التى في سورة البقرة، وكذا ظاهر سائر الايات كقوله: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) الشورى: 14 وقوله: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) آل عمران: 19.
/ صفحة 33 /
على أن القول بوجود الاختلاف الدائم بين الناس مع عدم رجوعه إلى الفطرة مما لا يجتمعان.
ومنها: أن المراد أن الناس جميعا كانوا على ملة واحدة هي الكفر والشرك ثم اختلفوا فكان مسلم وكافر.
وهذا أسخف الاقوال في الاية فإنه مضافا إلى كونه قولا بغير دليل يأباه ظاهر الايات فإن ظاهرها أن ظهور الاختلاف لانتهائه إلى بغى الناس من بعد ما جاءهم العلم أي ظهور الكفر والشرك عن بغى كان هو المقتضى للحكم بينهم والقضاء عليهم بنزول العذاب والهلاك فإذا كانوا جميعا على الكفر والشرك من غير سابقه هدى وإيمان فما معنى استناد الاقتضاء إلى البغى عن علم؟ وما معنى خلق الجميع ووجود المقتضى لاهلاكهم جميعا إلا انتقاض الغرض الالهى؟ وهذا القول أشبه بما قالته النصارى في مسألة التفدية أن الله خلق الانسان ليطعمه فيسكنه الجنة دائما لكنه عصاه ونقض بذلك غرض الخلقة فتداركه الله بتفدية المسيح.
ومنها: قول بعضهم: إن المراد بالكلمة في قوله: (ولو لا كلمة سبقت من ربك) الخ قوله تعالى فهذه السورة: (إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) الاية 93.
وفيه: أن المراد بالسبق إن كان هو السبق بحسب البيان فالاية متأخرة عن هذه الاية لوقوعها في أواخر السورة، والايات متصلة جارية.
على ان الاية في بنى إسرائيل خاصة والضمير في قوله: (بينهم) راجع إليهم وهى قوله: (ولقد بوأنا بنى إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) يونس: 93.
على أن قوله في بعض الايات: (ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم) الشورى: 14 لا يلائم هذا المعنى من السبق.
/ صفحة 34 /
وإن كان المراد بالسبق السبق بحسب القضاء فينبغي أن يتبع في ذلك اول كلمة قالها الله تعالى في ضلال الناس وشركهم و معصيتهم، وليست إلا ما قاله عند أول ما أسكن الانسان الارض وهو ما قدمناه من الاية.
قوله تعالى: (ويقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين) الاية كقوله قبلها: (ويعبدون من دون الله) وقوله قبله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا) تعد أمورامن مظالم المشركين في أقوالهم وأعمالهم ثم ترد عليها بحجج تلقنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليقيمها عليهم كما مر في أول الايات فقوله: (ويقولون لو لا أنزل) الخ، عطف على قوله في أول الايات: (وإذا تتلى عليهم آياتنا).
وفيها مع ذلك عود بعد عود إلى إنكارهم أمر القرآن فإن مرادهم بقولهم: (لو لا أنزل عليه آية من ربه) وإن كان طلب آية أخرى غير القرآن لكنهم إنما قالوه إزراء وتحقيرا لامر القرآن واستخفافا به لعدم عده آية إلهية والدليل عليه قوله تعالى: (فقل إنما الغيب لله) ولم يقل: (قل) كما قال في سائر الايات كأنه يقول: ويطلبون منك آية أخرى غير مكتفين بالقرآن ولا راضين به فإذا لم يكتفوا به آية فقل: إنما الايات من الغيب المختص بالله وليست بيدى فانتظروا إنى معكم من المنتظرين.
فهذا هو المستفاد من الاية وفيها دلالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينتظر آية فاصلة بين الحق والباطل غير القرآن قاضية بينه وبين أمته، وسيجئ الوعد الصريح منه بهذه الاية - التى يأمر بانتظارها ههنا - في قوله: (وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم) يونس: 46 إلى تمام عدة آيات.
قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمد من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا) إلى آخر الاية مضمون الاية وإن كان من المعاني العامة الجارية في أغلب الناس في اكثر الاوقات فإن الفرد من الانسان لا يخلو عن أن يمسه سراء بعد ضراء بل قلما يتفق أن لا يتكرر في حقه ذلك لكن الاية من جهة السياق المتقدم كأنها مسوقة للتعريض للمشركين ومكرهم في آيات الله، والدليل عليه قوله: (قل الله أسرع مكرا) فقد كان النظر معطوفا على مكر طائفة خاصة وهم المخاطبون بهذه الايات
/ صفحة 35 /
حيث كانوا يمكرون بايات السراء والضراء بعد ظهورها، ومن مكرهم مكرهم في القرآن الذى هو آية إلهية ورحمة أذاقهم الله إياها بعد ضراء الجهالة العالقة بهم وشمول ضنك العيش والذلة والتفرقة وتباعد القلوب وبغضائها لهم وهم يمكرون به فتارة يقولون: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) وتارة يقولون: (لو لا أنزل عليه آية من ربه).
فالاية تبين لهم أن هذا كله مكر يمكرونه في آيات الله، وتبين لهم أن المكر بايات الله لا يعقب إلا السوء من غير أن ينفعهم شيئا فإن الله أسرع مكرا يأخذهم مكره قبل أن يأخذ مكرهم آياته فإن مكرهم بايات الله عين مكر الله بهم.
فمعنى الاية: (وإذا أذقنا الناس) عبر عن الاصابة بالاذاقة للايماء إلى التذاذهم بالرحمة وعنايد بالقلة فإن الذوق يستعمل في القليل من التغذى (رحمة من بعد ضراء مستهم) والتعبير بالرحمة في موضع السراء للاشارة إلى أنها من الرحمة الالهية من غير أن يستوجبوا ذلك فكان من الواجب عليهم أن يقوموا بحقه، ويخضعوا لما تدعو إليه الاية وهو توحيد ربهم وشكر نعمته لكنهم يفاجئون بغير ذلك (اذالهم مكر في آياتنا) كتوجيه الحوادث بما تبطل به دلالة الايات كقولهم قد مس آباءنا السراء والضراء، والاعتذار بما لا يرتضيه الله كقولهم: (لو لا أنزل عليه آية) وقولهم: (إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا).
فأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يجيبهم بقوله: (قل الله أسرع مكرا) ثم علله بقوله: (ان رسلنا يكتبون ما تمكرون) فلنا عليكم شهداء رقباء ارسلناهم اليكم يكتبون اعمالكم ويحفظونها، وبمجرد ما عملتم عملا حفظ عليكم وتعين جزاؤه لكم قبل ان يؤثر مكركم اثره أو لا يؤثر كما فسروه.
وهنا شئ وهو أن الظاهر من قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) الجاثية: 29 على ما سيجئ من البيان في تفسير الاية أن شاء الله تعالى ان معنى كتابة الملائكة اعمال العباد هو اخراجهم الاعمال من كمون الاستعدادات إلى مرحلة الفعليد الخارجية ورسم نفس الاعمال في صحيفة الكون وبذلك تنجلي عليه كتابة الرسل لاعمالهم لكونه تعالى اسرع مكرا تمام الانجلاء فان حقيقة المعنى على هذا: أنا نحن نخرج اعمالكم التى تمكرون بها من
/ صفحة 36 /
داخل ذواتكم ونضعها في الخارج فكيف يخفى علينا كونكم تريدون بنا المكر بذلك؟ هل المكر إلا صرف الغير عما يتصده بحيلة وستر عليه بل ذاك الذى تزعمونه مكرابنا مكر منا بكم حيث نجعلكم تزعمونه مكرا وتقدمون على المكر بنا، وهذه المزعمة والاقدام ضلال منكم وإضلال منا لكم جزاء بما كسبته ايديكم، وسيأتى نظير هذا المعنى في قوله: (يا ايها الناس انما بغيكم على انفسكم) الاية 23 من السورة.
وفي الاية التفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: (ان رسلنا يكتبون ما تمكرون) على قراءة تمكرون بتاء الخطاب وهى القراءة المشهورة، وهو من عجيب الالتفات الواقع في القرآن ولعل النكتة فيه تمثيل معنى قوله: (قل الله أسرع مكرا) في العين كأنه تعالى لما قال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): (قل الله اسرع مكرا) اراد ان يوضحه لهم عيانا ففاجأهم بتجليه لهم دفعة فكلمهم وأوضح لهم السبب في كونه اسرع مكرا ثم حجبهم عن نفسه فعادوا إلى غيبتهم وعاد الكلام إلى حاله، وخوطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببقية الخطاب: (هو الذى يسيركم) الخ، وهذا من لطيف الالتفات.
قوله تعالى: (هو الذى يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) إلى آخر الاية، الفلك السفينة وتستعمل مفردا وجمعا، والمراد بها ههنا الجمع بدليل قوله: (وجرين بهم) والريح العاصف: الشديدة الهبوب، وقوله: (أحيط بهم) كناية عن الاشراف على الهلاك، وتقديره احاط بهم البلاء أو الامواج، والاشارة بقوله: (من هذه) إلى الشدة.
ومعنى الاية ظاهر.
وفيها من عجيب الالتفات الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: (وجرين بهم بريح طيبة - إلى قوله - بغير الحق) ولعل النكتة فيه ارجاعهم إلى الغيبة وتوجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصف اعجب جزء من هذه القصة الموصوفة له ليسمعه ويتعجب منه، ويكون فيه مع ذلك اعراض عن الامر بمخاطبتهم لانهم لا يفقهون القول.
قوله تعالى: (فلما انجاهم إذا هم يبغون في الارض بغير الحق) اصل البغى
/ صفحة 37 /
هو الطلب ويكثر استعماله في مورد الظلم لكونه طلبا لحق الغير بالتعدي عليه ويقيد حينئذ بغير الحق، ولو كان بمعنى الظلم محضا لكان القيد زائدا.
والجملة من تتمة الاية السابقة، والمجموع اعني قوله: (هو الذى يسيركم في البر والبحر - إلى قوله - بغير الحق) بمنزلة الشاهد والمثال بالنسبة إلى عموم قوله قبله: (وإذا اذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) إلى آخر الاية، أو لخصوص قوله: (قل الله اسرع مكرا) وعلى أي حال فقوله: (يا ايها الناس انما بغيكم على انفسكم) الخ، مما يتوقف عليه تمام الغرض من الكلام في الاية السابقة وان لم يكن من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فافهم ذلك.
قوله تعالى: (يا ايها الناس انما بغيكم على انفسكم متاع الحياد الدنيا ثم الينا مرجعكم) إلى آخر الاية، في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب فقوله: (يا ايها الناس) الخ، خطاب منه تعالى للناس بلا واسطة، وليس من كلام النبي (عليه السلام) مما امره الله سبحانه ان يخاطب به الناس.
والدليل على ذلك قوله تعالى (ثم الينا مرجعكم) إلى آخر الاية، فانه لا يصلح ان يكون من خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
والنكتة في هذا الالتفات هي نظير النكتة التى قدمنا ذكرها في قوله تعالى في اول الكلام: (ان رسلنا يكتبون ما تمكرون) فكأنه سبحانه يفاجئهم بالاطلاع عليهم اثناء ما يخاطبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يحسبون ان ربهم غائب عنهم غافل عن نياتهم ومقاصدهم في اعمالهم فيشرف عليهم ويمثل بذلك كونه معهم في جميع احوالهم واحاطته بهم ويقول لهم: انا اقرب اليكم وإلى اعمالكم منكم فما تعملونه من عمل تريدون به ان تبتغوا علينا وتمكروا بنا انما توجد بتقديرنا وتجرى بأيدينا فكيف يمكنكم ان تبغوا بها علينا؟ بل هي بغى منكم على انفسكم فانها تبعدكم منا وتكتب آثامها في صحائف اعمالكم فبغيكم على انفسكم وهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به اياما قلائل ثم الينا مرجعكم فنخبركم ونوضح لكم هناك حقائق اعمالكم.
وقوله: (متاع الحياة الدنيا) بالنصب في قراءة حفص عن عاصم والتقدير:
/ صفحة 38 /
تتمتعون متاع الحياة الدنيا، وبالرفع في قراءة غيره وهو خبر لمبتدء محذوف، والتقدير هو أي بغيكم وعملكم متاع الحياة الدنيا.
وعلى كلتا القراءتين فقوله: (متاع الحياة الدنيا) إلى آخر الاية، تفصيل لاجمال قوله: (انما بغيكم على انفسكم) فقوله (متاع) الخ، في مقام التعليل بالنسبة إلى كون بغيهم على انفسهم من قبيل تعليل الاجمال بالتفصيل وبيانه به.
قوله تعالى: (انما مثل الحياة الدنيا كماء انزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض) إلى آخر الاية، لما ذكر سبحانه في الاية السابقة متاع الحياة الدنيا مثل له بهذا المثل يصف فيه من حقيقة امره ما يعتبر به المعتبرون، وهو من الاستعارة التمثيلية وليس من تشبيه المفرد بالمفرد من شئ وان اوهم ذلك قوله: (كماء انزلناه) ابتداء، ونظائره شائعة في امثال القرآن، والزخرف الزينة والبهجة، وقوله: (لم تغن) من غنى في المكان إذا اقام فيه فأطال المقام، والباقى ظاهر.
قوله تعالى: (والله يدعوا إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) الدعاء والدعوة عطف نظر المدعو إلى ما يدعى إليه وجلب توجهه وهو اعم من النداء فان النداء يختص بباب اللفظ والصوت، والدعاء يكون باللفظ والاشارة وغيرهما، والنداء انما يكون بالجهر ولا يقيد به الدعاء.
والدعاء في الله سبحانه تكويني وهو ايجاد ما يريده لشئ كأنه يدعوه إلى ما يريده، قال تعالى: (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) اسرى: 52 أي يدعوكم إلى الحياة الاخروية فتستجيبون إلى قبولها، وتشريعي وهو تكليف الناس بما يريده من دين بلسان آياته، والدعاء من العبد لربه عطف رحمته وعنايته إلى نفسه بنصب نفسه في مقام العبودية والمملوكية، ولذا كانت العبادة في الحقيقة دعاء لان العبد ينصب فيها نفسه في مقام المملوكية والاتصال بمولاه بالتبعية والذلة ليعطفه بمولويته وربوبيته إلى نفسه وهو الدعاء.
وإلى ذلك يشير قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم ان الذين
/ صفحة 39 /
يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) المؤمن 60 حيث عبر اولا بالدعاء ثم بدله ثانيا العبادة.
وقد التبس الامر على صاحب المنار فقال في تفسيره: ان قول بعض المفسرين وغيرهم: ان من معاني الدعاء العبادة لا يصح على اطلاقه في العبادة الشرعية التكليفية فان الصيام لا يسمى دعاء لغة ولا شرعا وانما الدعاء هو مخ العبادة الفطرية واعظم اركان التكليفية منها كما ورد في الحديث فكل دعاء شرعى عبادة وما كل عبادة شرعية دعاء.
انتهى ومنشأ خطأه زعمه ان معنى الدعاء هو النداء للطلب وغفلته عما تقدم من تحليل معناه.
والاصل في معنى السلام على ما ذكره الراغب في المفردات هو التعري عن الافات الظاهرة والباطنة، واليه يرجع معناه في جميع مشتقاته، والسلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة، والظاهر ان السلام والامن متقاربان معنى، وانما الفارق ان السلام هو الامن مأخوذا في نفسه، والامن هو السلام مضافا إلى ما يسلم منه يقال: هو في سلام، وهو في أمن من كذا وكذا.
والسلام من اسمائه تعالى لان ذاته المتعالية نفس الخير الذى لا شر فيه، وتسمى الجنة دار السلام حيث لا شر فيها ولا ضر على ساكنها، وقيل: انما سميت دار السلام، لانها دار الله الذى هو السلام والمال واحد في الحقيقة لانه تعالى إنما سمى سلاما لبراءته من كل شر وسوء، وفي سياق الاية ما يشعر بكون معنى السلام الوصفى مقصودا في الكلام.
وقد أطلق سبحانه السلام ولم يقيده بشئ ولا ورد في كلامه ما يقيده ببعض الحيثيات فهو دار السلام على الاطلاق وليست إلا الجنة فإن ما يوجد عندنا في الدنيا من السلام إنما هو الاضافي دون المطلق فما من شئ إلا وهو مزاحم ممنوع من بعض ما يحبه ويهواه، وما من حال إلا وفيه مقارنات من الاضداد والانداد.
فإذا أخذت معنى السلام مطلقا غير نسبي تحصل عندك ما عليه الجنة من الوصف، وانكشف أن توصيفها بهذه الصفة نظير توصيفها في قوله: (لهم ما يشاءون
/ صفحة 40 /
فيها) ق: 35، فإن سلامة الانسان من كل ما يكرهه ولا يحبه تلازم سلطانه على كل ما يشاؤه ويحبه.
وفي تقييد دار السلام بكونها عند ربهم دلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك أصلا، وقد تقدم الكلام في معنى الهداية ومعنى الصراط المستقيم في مواضع من الابحاث السابقة كتفسير سورة الحمد وغيره.
(بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: (قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا) الاية، قال: فإن قريشا قالت: يا رسول الله ائتنا بقرآن غير هذا فإن هذا شئ تعلمته من اليهود والنصارى، قال الله: قل لهم: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم اربعين سنة قبل أن يوحى إلى، ولم أتكلم بشئ منه حتى أوحى إلى.
إقول: وفي انطباق مضمونه على الاية خفاء، على ما فيه من مخاطبتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة.
وفي تفسير العياشي عن منصور بن حازم عن ابى عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: انى اخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم حتى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.
إقول: والرواية لا تخلو عن شئ.
وفي الدر المنثور أخرج البيهقى في الدلائل عن عروة قال: فر عكرمة بن ابى جهل يوم الفتح فركب البحر فأخذته الريح فنادى باللات والعزى، فقال اصحاب السفينة: لا يجوز ههنا أحد يدعو شيئا إلا الله وحده مخلصا، فقال عكرمة: والله لئن كان في البحر وحده إنه لفى البر وحده، فأسلم.
/ صفحة 41 /
أقول: والرواية مروية بطرق كثيرة مختلفة.
وفي تفسير العياشي عن منصور بن يونس عن ابى عبد الله (عليه السلام) ثلاث يرجعن على صاحبهن: النكث والبغى والمكر، قال الله: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم.
أقول: وهو مروى عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث هن رواجع على اهلها: النكث والمكر والبغى.
ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس إنما بغيكم على انفسكم) (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه).
أورده في الدر المنثور.
وفي الدر المنثور اخرج أبو نعيم في الحلية عن ابى جعفر محمد بن على قال: ما من عبادة أفضل من أن تسأل، وما يدفع القضاء إلا الدعاء، وإن أسرع الخير ثوابا البر، وأسرع الشر عقوبة البغى وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه، وأن يؤذى جليسه بما لا يعنيه.
وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بغى جبل على جبل لدك الباغى منهما.
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن العلاء بن عبد الكريم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول في قول الله عزوجل: (والله يدعوا إلى دار السلام) فقال: إن السلام هو الله عزوجل وداره التى خلقها لاوليائه الجنة.
وفيه عن ابن شهر آشوب عن على بن عبد الله بن عباس عن أبيه وزيد بن على بن الحسين (عليه السلام) في قوله تعالى: (والله يدعوا إلى دار السلام) يعنى به الجنة (ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) يعنى ولاية على بن أبى طالب.
أقول: إن كانت الرواية موقوفة فهى من الجرى أو من الباطن من معنى القرآن، وفي معناها روايات أخر.
/ صفحة 42 /
* * *
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون - 26.
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 27.
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون - 28.
فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين - 29.
هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون - 30.
(بيان) استئناف يعود فيه إلى ذكر جزاء الاعمال وعود الجميع إلى الله الحق، وقد تقدم إيماء إلى ذلك، وفيه إثبات توحيد الربوبية.
قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) الخ، الحسنى مؤنث أحسن والمراد المثوبة الحسنى، والمراد بالزيادة الزيادة على الاستحقاق بناء على أن الله جعل من فضله للعمل مثلا من الجزاء والثواب ثم جعله حقا للعامل في مثل قوله: (لهم أجرهم عند ربهم) آل عمران: 199 ثم ضاعفه وجعل المضاعف منه أيضا حقا للعامل كما في قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر
/ صفحة 43 /
أمثالها) الانعام: 160 وعند ذلك كان مفاد قوله: (للذين أحسنوا الحسنى) استحقاقهم للجزاء والمثوبة الحسنى، وتكون الزيادة هي الزيادة على مقدار الاستحقاق من المثل أو العشرة الامثال نظير ما يفيده قوله: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) النساء: 173.
ولو كان المراد بالحسنى في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى) العاقبة الحسنى، وليس فيما يعقل فوق الحسنى شئ كان معنى قوله: (وزيادة) الزيادة على ما يعقله الانسان من الفضل الالهى كما يشير إليه قوله: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) الم السجدة: 17 وما في قوله: (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) ق: 35 فإن من المعلوم أن كل أمر حسن يشاؤه الانسان فالمزيد على ما يشاؤه أمر فوق ما يدركه فافهم ذلك.
والرهق بفتحتين اللحوق والغشيان يقال: رهقه الدين أي لحق به وغشيه، والقتر الدخان الاسود أو الغبار الاسود، وفي توصيفهم بقوله: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) محاذاة لما في الاية التالية من وصف أهل النار بسواد وجوههم بالقتر وهو سواد صوري والذلة وهى سواد معنوى.
والمعنى: للذين أحسنوا في الدنيا المثوبة الحسنى وزيادة من فضل الله - أو العاقبة الحسنى وزيادة لا تخطر ببالهم - ولا يغشى وجوههم سواد من قتر ولا ذلة، وأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
قوله تعالى: (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة) إلى آخر الاية، جملة (جزاء سيئة بمثلها) مبتدء لخبر محذوف والتقدير: لهم جزاء سيئة بمثلها من العذاب، والجملة خبر للمبتدء الذى هو قوله: (الذين كسبوا السيئات) والمراد أن الذين كسبوا السيئات لا يجزون إلا مثل ما عملوه من العقوبات السيئة فجزاء فعلة سيئة عقوبة سيئة.
وقوله: (ما لهم من الله من عاصم) أي ما لهم عاصم يعصمهم من الله أي من عذابه وفيه نفى لشركائهم الذين يظنونهم شفعاء على وجه ينفى كل عاصم مانع سواء كان شريكا شفيعا أو ضدا قويا ممانعا أو أي عاصم غيرهما.
/ صفحة 44 /
وقوله: (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) القطع جمع قطعة ومظلما حال من الليل، والمراد كأن الليل المظلم قسم إلى قطع فاغشيت وجوههم تلك القطع فاسودت بالتمام، والمتبادر منه أن يغشى وجه كل من المشركين بقطعة من تلك القطع لا كما فسره بعضهم أن المراد أن الوجوه أغشيت تلك القطع قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات بعضها فوق بعض.
فليس في الكلام ما يدل على ذلك.
وقوله: (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) يدل على دوام بقائهم في النار للدلالة الصحابة والخلود عليه كما أن نظيره في أصحاب الجنة يدل على نظيره.
قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم) إلى آخر الاية.
المراد حشر جميع من سبق ذكره من المؤمنين والمشركين وشركائهم فإنه تعالى يذكر المشركين وشركاءهم في هذه الاية وما يتلوها ثم يشير إلى الجميع بقوله في الاية التالية: (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت).
وقوله: (ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم) أي الزموا مكانكم أنتم وليلزم شركاؤكم مكانهم وتفرع على هذا الخطاب أن زيلنا بينهم، وقطعنا الرابطة التى كانت تربطهم بشركائهم وهى رابطة الوهم والحسبان التى يتصلون بسببها بشركائهم فانقطعوا عن شركائهم وانقطع شركاؤهم عنهم فبان أن عبادتهم لم تقع عليهم ولم تتعلق بهم لانهم إنما عبدوا الشركاء وهم ليسوا بشركاء.
والدليل على هذا الذى ذكرناه قوله تعالى بعده: (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) فالكلام على ظاهره من النفى الجدى الصادق لعبادتهم إياهم، وليسوا يكذبون في كلامهم هذا بدليل استنادهم إلى شهادة الله سبحانه، ولا أنهم يريدون أنا لم نكن ندعوكم إلى عبادتنا فإن الكلام لا يلائم هذا المعنى، ولا أن مرادهم التعريض لهم بأنكم كنتم تعبدون أهواءكم وشياطينكم المغوين لكم في الحقيقة فإن ذلك لا يلائم دعواهم الغفلة، وكذا لا يلائمه قوله بعده: (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت) الخ، على ما سيجئ من معناه بل مرادهم نفى العبادة حقيقة بنفى حقيقة الشركة، والاستشهاد على ذلك بشهادة الله وعلمه بغفلتهم عن عبادتهم.
/ صفحة 45 /
والعبادة التى هي اتصال ما بالمملوكية والتذلل من العابد بالمعبود إنما تكون عبادة إذا اتصلت وارتبطت بالمعبود - حتى يتم به معنى اللام في قولنا: العبادة له - ولا يكون ذلك إلا بشعور من المعبود وعلم منه بذلك فإذا لم يتحقق هناك علم لم تتحقق عبادة حقيقة، وإنما هي صورة عبادة.
فقد تبين أن المراد بقوله: (ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم) إظهاره وإبرازه تعالى يومئذ حقيقة الامر الذى سترت عليه الاوهام وحجبته الاهواء في الدنيا وهو أن حقيقة المولوية ومالكية زمان التدبير لله سبحانه وليس لغيره من المولوية والربوبية شئ حتى يصح الالتجاء إليه وتصدق عبادته.
فإذا كشف الله الغطاء عن وجه هذه الحقيقد يومئذ بأن للمشركين أن شركاءهم لم يكونوا شركاء ولا معبودين لهم في الحقيقة - لغفلتهم عن عبادتهم، وإنما كانوا يأتون لهم بصورة العبادة التى كان الوهم والهوى يصور انها عبادة وليست بها.
وإليه يشير أيضا قوله تعالى: (وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) النحل: 86.
وقد تبين بذلك أيضا أن قوله: (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) قول من شركائهم لهم على الجد والحقيقه، ويظهر به فساد قول بعضهم: المراد أنكم لم تعبدونا بأمرنا ودعائنا لا أنكم لم تعبدونا أصلا لان ذلك كذب لا يجوز أن يقع في الاخرة لكونهم ملجئين فيها إلى ترك القبيح.
فإن نفى أصل العبادة بما عرفت من معناه هو حق الصدق، وإثبات العبادة وإن لم يكن كذبا إلا أنه لا يخلو عن مجاز في الجملة بالنظر إلى حقيقة الامر على أن ما ذكره أن المراد نفى العبادة بأمرهم ودعوتهم معنى لا دليل عليه من جهة اللفظ.
على أن الكذب إنما لا يقع في الاخرة إذا كان عملا وكسبا وأما بمعنى نتيجة الملكات الدنيوية فلا مانع من إمكانه بل هو واقع كما يحكيه تعالى في قوله: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم) الانعام: 24 وغيره من الايات.
/ صفحة 46 /
وكذا قول بعضهم: إن المراد ما كنتم تخصوننا بالعبادة، وإنما كنتم تعبدون اهواءكم وشهواتكم وشياطينكم المغوية لكم - فإن صدق عبادة الاهواء والشيطان على عملهم من جهة انه اتباع للهوى والشيطان لا ينفى عنه صدق كونه عبادة للاصنام كما انه تعالى يصدق في كلامه الجهات الثلاث جميعا، قال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) يونس: 18، وقال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) الجاثية: 23، وقال: (أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) يس: 60.
ومن المعلوم أن الشركاء يحتجون لنفى كونهم معبودين لهم لا لاثبات كون الهوى والشيطان معبودين لهم مع الشركاء فإن هذا لا ينفعهم في الحجة البتة، ويستلزم لغوية إثباتهم الغفلة لانفسهم في قولهم: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) لان الاهواء أيضا ما كانت شاعرة بعبادتهم كما أن الاصنام وهى أجسام ميتة كذلك.
ولعل القائل اعتمد في قوله على الحصر المفهوم من قوله: (ما كنتم إيانا تعبدون) بتقديم المفعول على فعله، وظاهره أنه قصر قلب مدلوله نفى المعبودية عن أنفسهم وإثباته لغيرهم، ليس نفيا لاصل العبادة فإنهم يثبتونها في قولهم: (عن عبادتكم) فإن إضافة المصدر إلى معموله يفيد الثبوت.
لكن الحق أن هؤلاء الشركاء إنما قالوا لهم: (ما كنتم إيانا تعبدون) تجاه ما قاله المشركون على ما حكاه الله: (ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك) النحل: 86 فنفوا عبادتهم عن الله سبحانه وأثبتوها للشركاء، والشركاء لم يكن ينفعهم إلا نفى عبادة المشركين عن أنفسهم، وأما أنها ثابتة لمن؟ فلا غرض لهم يتعلق بذلك وإنما همهم تنزيه أنفسهم عن دعوى الشركة، وقد احتجوا على ذلك بإثبات الغفلة عن ذلك لانفسهم، ولو كانوا شاعرين بعبادتهم وعبدوهم كان لزمهم أعنى الشركاء دعوى الشركة.
قوله تعالى: (فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم) إلى آخر الاية، ظهر معناه بما مر من التقرير، والفاء في قوله: (فكفى بالله) يفيد التعليل كقولنا: ا عبد الله فهو ربك، وهو شائع في الكلام.
قوله تعالى: (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت) إلى آخر الاية، البلاء
/ صفحة 47 /
الاختبار، والاشارة بقوله: (هنالك) الى الموقف الذى ذكره بقوله: (ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم).
فذلك الموقف موقف تختبر وتمتحن كل نفس ما أسلفت وقدمت من الاعمال فتنكشف لها حقيقة أعمالها وتشاهدها مشاهدة عيان لا مجرد الذكر أو البيان، وبمشاهدة الحق من كل شئ عيانا ينكشف أن المولى الحق هو الله سبحانه، وتسقط وتنهدم جميع الاوهام، وتضل جميع الدعاوى التى يفتريها الانسان بأوهامه وأهوائه على الحق.
فهذه الافتراءات والدعاوى جميعا إنما نشأت من حيث الروابط التى نضعها في هذه الدنيا بين الاسباب والمسببات والاستقلال والمولوية التى نعطيها الاسباب ولا إله إلا الله ولا مولى حقا إلا هو سبحانه فإذا انجلت حقيقة الامر، وانكشف غيم الوهم وانهتك حجاب الدعاوى ظهر أن لا مولى حقا إلا هو سبحانه، وبطل جميع الالهة التى إنما أثبتها الافتراء من الانسان، وسقطت وحبطت جميع الاعمال إلا ما عبد به الله سبحانه عبادة حق.
فالفقرات الثلاث من الاية أعنى قوله: (تبلوا كل نفس) الخ، وقوله: (ردوا إلى الله) الخ، وقوله: (وضل عنهم) الخ، كل منها تعين الاخريين على إفادة حقيقة معناها، ومحصل مفاد المجموع ظهور حقيقة الولاية الالهية يومئذ ظهور عيان وأن ليس لغيره تعالى إلا الفقر والمملوكية المحصنة فيبطل عند ذلك كل دعوى باطلة وينهدم بنيان الاوهام.
كما يشير إلى ذلك قوله: (هنالك الولاية لله الحق) الكهف: 44، وقوله: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) المؤمن: 16، وقوله: (والامر يومئذ لله) الانفطار: 19، إلى غير ذلك.
/ صفحة 48 /
(بحث روائي) في أمالى المفيد بإسناده إلى ابى إسحاق الهمداني عن امير المؤمنين (عليه السلام) فيما
كتب إلى محمد بن ابى بكر حين ولاه مصر وأمره أن يقرأه على الناس، وفيما كتب: قال الله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) والحسنى هي الجنة والزيادة هي الدنيا.
وفي تفسير القمى في رواية ابى الجارود عن أبى جعفر (عليه السلام) في الاية: فأما الحسنى فهى الجنة، وأما الزيادة فالدنيا ما أعطاهم الله في الدنيا يحاسبهم الله في الاخرة، ويجمع الله لهم ثواب الدنيا والاخرة.
الحديث.
أقول: والروايتان ناظرتان إلى المعنى الاول الذى قدمناه في البيان المتقدم وروى ما في معنى الثاني الطبرسي في المجمع عن الباقر (عليه السلام).
وفي تفسير البرهان روى في نهج البيان عن على بن إبراهيم قال: قال: الزيادة هبة الله عزوجل.
وفي الدر المنثور أخرج الدار قطني وابن مردويه عن صهيب في الاية قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الزيادة النظر إلى وجه الله.
أقول: وروى هذا المعنى بعدة طرق من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد تقدم توضيح معناها في تفسير قوله تعالى: (رب أرنى أنظر إليك) الاعراف: 143 في الجزء الثامن من الكتاب.
وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير عن أبى عبد الله (عليه السلام) في قوله: (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما) قال: أما ترى البيت إذا كان الليل كان أشد سوادا من خارج فكذلك وجوههم يزدادون سوادا.
أقول: ورواه العياشي عن أبى بصير عنه (عليه السلام) وكأنه (عليه السلام) يريد تفسير القطع من الليل الواقعة في الاية.
/ صفحة 49 /
وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن السدى في قوله: (وردوا إلى الله مولاهم الحق) قال: نسختها قوله: (مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم).
أقول: وهو من أسخف القول بل الايتان ناظرتان إلى جهتين مختلفتين من المعنى وهما الظاهر والباطن.
* * *
قل من يرزقكم من السماء والارض امن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون - 31.
فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون - 32.
كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون 33.
قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون - 34.
قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع امن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون - 35.
وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون - 36.
/ صفحة 50 /
حجج ساطعة على توحيده تعالى في الربوبية يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإقامتها على المشركين، وهى ثلاث حجج مرتبة بحسب الدقة والمتانة فالحجة الاولى تسلك من الطريق الذى يعتبره الوثنيون وعبدة الاصنام فإنهم إنما يعبدون أرباب الاصنام بأصنامهم من جهة تدبيرهم للكون فيعبدون كلا منهم لاجل ما يخص به من الشأن، وما يرجع إليه من التدبير ليرضى بذلك عمن يعبده فيفيض عليه بركاته أو ليؤمنه فلا يرسل إليه سخطه وعقابه كما كان يعبد سكان السواحل رب البحر، وأهل الجبال وأهل البر وأهل العلوم والصنائع وأهل الحروب والغارات وغيرهم كل يعبد من يناسب تدبيره الشأن الذى يهمه ليرضى عنه ربه فيبارك عليه برضاه أو يكف عنه غضبه.
ومحصل الحجة ان تدبير العالم الانساني وسائر الموجودات جميعا يقوم به الله سبحانه لا غير على ما يعترفون به فمن الواجب ان يوحدوه بالربوبية ولا يعبدوا إلا اياه.
والحجة الثانية ما يعتبره عامة المؤمنين، وذلك انهم لا يلتفتون كثيرا إلى زخارف هذه النشأة من لذائذ المادة، وانما جل اعتنائهم بالحياة الدائمة الاخروية التى تتعين سعادتها وشقاوتها بالجزاء الالهى بأعمالهم فإذا قامت البينة العقلية على الاعادة كالبدء كان من الواجب ان لا يعبد إلا الله سبحانه، ولا يتخذ ارباب من دونه طمعا في ثوابه وخوفا من عقابه.
والحجة الثالثة وهى التى تحن إليها قلوب الخاصة من المؤمنين وهى ان المتبع عند العقل هو الحق، ولما كان الحق سبحانه هو الهادى إلى الحق دون ما يدعونه من الارباب من دون الله فليكن هو المتبع دون ما يدعونه من الارباب، وسيأتى في تفسير الايات توضيح هذه الحجج الثلاث بما تنجلي به مزيد انجلاء ان شاء الله.
ولو لا اعتبار هذه النكتة كان الظاهر ان تذكر اولا الحجة الثانية ثم الثالثة ثم الاولى أو تذكر الثانية ثم يجمع بين الاولى والثالثة فيذكر بعدها.
/ صفحة 51 /
قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والابصار) إلى آخر الاية.
الرزق هو العطاء الجارى، ورزقه تعالى للعالم الانساني من السماء هو نزول الامطار والثلوج ونحوه، ومن الارض هو بانباتها نباتها وتربيتها الحيوان ومنهما يرتزق الانسان، وببركة هذه النعم الالهية يبقى النوع الانساني و المراد بملك السمع والابصار كونه تعالى متصرفا في الحواس الانسانية التى بها ينتظم له انواع التمتع من الارزاق المختلفة التى اذن الله تعالى ان يتمتع بها فانما هو يشخص ويميز ما يريده مما لا يريده باعمال السمع والبصر واللمس و الذوق والشم فيتحرك نحو ما يريده، ويتوقف أو يفر مما يكرهه بها.
فالحواس هي التى تتم بها فائده الرزق الالهى، وانما خص السمع والبصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الاعمال الحيوية اكثر من غيرهما، والله سبحانه هو الذى يملكهما ويتصرف فيهما بالاعطاء والمنع والزيادة والنقيصة.
وقوله: (ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى) الحياة بحسب النظر البادئ في الانسان هي المبدء الذى يظهر به العلم والقدرة في الشئ فيصدر اعماله عن العلم والقدرة ما دامت الحياة، وإذا بطلت بطل الصدور كذلك.
ثم اكتشف من طريق النظر العلمي ان ذلك لا يختص باقسام الحيوان كما كان يعطيه النظر الابتدائي فان الملاك الذى كان يوجب للحيوان كونه ذا حياة - وهو كونه ذا نفس يصدر عنها اعمال مختلفة لا على وتيرة واحدة طبيعية كحركته إلى جهات مختلفة بحركات مختلفة وسكونه من غير حركة - موجود في النبات.
وكذلك الابحاث الجارية على الطرق الحديثة تعطى ذلك فان جراثيم الحياة الموجودة في الحيوان التى إليها تنتهى اعماله الحيوية توجد في النبات نظيرها فهو ذو حياة كمثل الحيوان فالنظر العلمي على أي حال يهدى إلى عموم الحياة لجميع انواع الحيوان والنبات.
ثم الحياة وهى تقابل الموت الذى هو بطلان مبدء الاعمال الحيوية تعود بحسب التحليل إلى كون الشئ بحيث تترتب عليه آثاره المطلوبة منه كما ان الموت عدم كونه كذلك فحياة الارض هي كونها نابتة مخضرة وموتها خلافه، وحياة العمل
/ صفحة 52 /
كونه بحيث ينتهى إلى الغرض الذى اتى به لاجله وموته خلافه، وحياة الكلمة كونها بحيث تؤثر في السامع اثرا مطلوبا وموتها خلافه، وحياة الانسان كونه جاريا على ما تهدى إليه الفطرة الانسانية ككونه ذا عقل سليم ونفس زاكية، ولذا عد القرآن الشريف الدين حياة للانسان لانه يرى ان الدين الحق وهو الاسلام هو الفطرة الالهية.
إذا تبين هذا اتضح أن خروج الحى من الميت وخروج الميت من الحى يختلف معناه بحسب اختلاف المراد بالحياة والموت فعلى النظرتين الاوليين هو خروج الحيوان أو الحيوان والنبات بالكينونة من غيرها كالمني والبيضة والبذر فان الحى كما لا تدوم له هذه الحياة بقاء إلى غير النهاية لا تذهب ايضا بحسب البدء في حياة غير متناهية ولا طريق إلى اثباته، وخروج اجزاء غير ذات حياة من الحيوان أو الحيوان والنبات بالانفصال.
وعلى النظرة الاخيرة اعني نظرة تعميم الحياة لكل ما يترتب عليه آثارها المطلوبة منها هو ان يخرج من الامور غير المفيدة في باب امور مفيدة في ذلك الباب بالكينونة والتولد كخلق الانسان الحى والحيوان الحى والنبات الحى من التراب الميت وبالعكس، وكخروج الانسان العاقل الصالح من الانسان الذى لا عقل له ولا صلاح وبالعكس، وخروج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
وظاهر الاية الكريمة بالنظر إلى سياقها ومقام المخاطبة فيها ان يكون المراد باخراج الحى من الميت وبالعكس فيها هو هذا المعنى الاخير، وذلك أن الاية تقيم الحجة على المشركين من المسلك الذى كانوا يسلكونه في الاحتجاج على اتخاذ الالهة المختلفة وهو ان العالم المشهود مجموعة من موجودات مختلفة متشتة علوية وسفلية والسفلية من انسان وحيوان ونبات وبحر وبر وامور وراء ذلك كثيرة، وكل منها تحت تدبير مدبر شفيع عند الله نعبده بعبادة صنمه ليقربنا إلى الله زلفى وبالجملة انتهاء التدبيرات على اختلافها إلى مدبرات مختلفة يوجب وجود ارباب من دون الله كثيرة.
والاية ترد عليهم حجتهم ببيان انتهاء التدبيرات المختلفة إليه تعالى وان ذلك
/ صفحة 53 /
يدل على أن الله سبحانه رب كل شئ وحده، فهى تخاطبهم بأنكم تعترفون بأن ما يخصكم من التدبير كرزقكم وما يعمكم وغيركم منه ينتهى إلى الله سبحانه فهو المدبر لامركم وأمر غيركم فهو الرب لا رب سواه.
وقد بدأت في التعداد بما يخص الانسان أعنى قوله: (قل من يرزقكم من السماء والارض) وختمت بمايعمه وغيره اعني قوله: (ومن يدبر الامر) وظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: (أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحى من الميت) هو التدبير الخاص بالانسان فيكون المراد ملك السمع والابصار التى لافراد الانسان، وكذا اخراج الحى من الانسان من ميته وبالعكس، وقد تبين ان الحياة المخصوصة بالانسان هو كونه ذا نعمة العقل والدين.
فالمراد باخراج الحى من الميت وبالعكس - والله اعلم - اخراج الانسان الحى بالسعادة الانسانية من الانسان الميت الذى لا سعادة له وبالعكس.
فالله سبحانه يلقن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة على توحيده بالربوبية فأمره بقوله: (قل) ان يقول لهم في سياق الاستفهام (من يرزقكم من السماء والارض) بالامطار والانبات والتكوين (أمن يملك السمع والابصار) منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث ترتزقون بتشخيصهما من طيبات الرزق، ولولاهما لم توفقوا لذلك وفنيتم عن آخركم (ومن يخرج الحى من الميت) أي كل امر مفيد في بابه من غيره (ويخرج الميت من الحى) فيتولد الانسان السعيد من الشقى والشقى من السعيد (ومن بر الامر) في جميع الخليقة.
(فسيقولون الله) اعترافا بأنه الذى ينتهى إليه جميع هذه التدبيرات في الانسان وغيره لان الوثنيين يعتقدون ذلك فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يوبخهم اولا على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى فقال: (فقل أفلا تتقون) ثم قال: (فذلكم الله ربكم).
قوله تعالى: (فذلكم الله ربكم الحق فما ذابعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) الجملة الاولى نتيجة الحجة السابقة، وقد وصف الرب بالحق ليكون توضيحا لمفاد الحجة، وتوطئة وتمهيدا لقوله بعده: (فما ذا بعد الحق إلا الضلال).
/ صفحة 54 /
وقوله: (فما ذا بعد الحق إلا الضلال) أخذ بلازم الحجة السابقة لاستنتاج أنهم ضالون في عبادة الاصنام فانه إذا كانت ربوبيته تعالى حقة فان الهدى في اتباعه وعبادته فان الهدى مع الحق لا غير فلا يبقى عند غيره الذى هو الباطل إلا الضلال.
فتقدير الكلام: فماذا بعد الحق الذى معه الهدى إلا الباطل الذى معه الضلال فحذف من كل من الطرفين شئ وأقيم الباقي مقامه ايجازا، وقيل: فماذا بعد الحق إلا الضلال، ولذا قال بعضهم: ان في الاية احتباكا - وهو من المحسنات البديعية - وهو أن يكون هناك متقابلان فيحذف من كل منهما شئ يدل عليه الاخر فان تقدير الكلام: فما ذا بعد الحق إلا الباطل؟ وما ذا بعد الهدى إلا الضلال؟ فحذف الباطل من الاول والهدى من الثاني وبقى قوله: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ والوجه هو الذى قدمناه.
ثم تمم الاية بقوله: (فأنى تصرفون) أي إلى متى تصرفون عن الحق الذى معه الهدى إلى الضلال الذى مع الباطل.
قوله تعالى: (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا انهم لا يؤمنون) ظاهر السياق ان الكلمة التى تكلم الله سبحانه بها على الفاسقين هي انهم لا يؤمنون أي أنه سبحانه قضى عليهم قضاء حتما وهو ان الفاسقين - وهم على فسقهم - لا يؤمنون ولا تنالهم الهداية الالهية إلى الايمان، وقد قال تعالى: (والله لا يهدى القوم الفاسقين) المائدة: 108.
وعلى هذا فالاشارة بقوله: (كذلك) إلى ما تحصل من الاية السابقة: ان المشركين صرفوا عن الحق وفسقوا عنه فوقعوا في الضلال إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.
فمعنى قوله: (كذلك حقت كلمة ربك) الخ، ان الكلمة الالهية والقضاء الحتمى الذى قضى به في الفاسقين - هو أنهم لا يؤمنون - هكذا حقت وثبتت في الخارج واخذت مصداقها وهو انهم خرجوا عن الحق فوقعوا في الضلال أي إنا لم نقض عدم هدى الفاسقين وعدم إيمانهم ظلما ولا جزافا وانما قضينا ذلك لانهم صرفوا عن الحق وفسقوا فوقعوا في الضلال ولا واسطة بينهما فافهم ذلك.
/ صفحة 55 /
وفي الاية دلالة على ان الامور الضرورية والاحكام والقوانين البينة التى تجرى في النظام المشهود كقولنا: لا واسطة بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال لها نوع استناد إلى القضاء الالهى، وليست ثابتة في ملكه تعالى من تلقاء نفسها.
وربما ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالكلمة في الاية كلمة العذاب وقوله: (أنهم لا يؤمنون) في موضع التعليل بتقدير لامه، والتقدير كثبوت هذه الحجة عليهم حقت كلمة ربك على الذين فسقوا وهى وعيدهم بالعذاب وانما حقت عليهم العذاب لانهم لا يؤمنون.
ولا يخلو عن سقم فان وجه الشبه غير ظاهر ولا متفق فيهما فالحجة ثابتة عليهم بذاتها وأما العذاب فليس ثبوته كذلك بل لامر آخر وهو انهم لا يؤمنون.
والحجة - كما سمعت في البيان المتقدم - حجة ساذجة يعترف بحقيتها الوثنية، وقد صرفوها عن وجهها وأقاموا على ما يدعونها من ربوبية اربابهم واستحقاقها للعبادة من دون الله حيث قالوا: ان تدبير كل شأن من شؤون العالم العامة إلى واحد من هذه الارباب فهو رب ذلك الشأن، وانما نعبد اصنامها وتماثيلها لنرضيها بذلك فتشفع لنا عند الله بما لها من القرب عنده.
فأخذت الاية اعترافهم بأن هذه التدابير لله سبحانه - وكيف لا تكون له وهو خالق الكل ومبقيها؟ - فله سبحانه وحده حقيقة الربوبية وهو المستحق للعبادة لا غيره.
قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يبدء الخلق ثم يعيده) إلى آخر الاية.
تلقين للاحتجاج من جهة المبدء والمعاد فان الذى يبدء كل شئ ثم يعيده يستحق ان يعبده الانسان اتقاء من يوم لقائه ليأمن من أليم عذابه وينال عظيم ثوابه يوم المعاد.
ولما كان المشركون - وهم المخاطبون بالحجة - غير قائلين بالمعاد أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يتصدى جواب سؤاله بنفسه وقال: (قل الله يبدء الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون) وإلى متى تصرفون عن الحق.
/ صفحة 56 /
وليس اعتماد الاية على مسألة الابداء والاعادة في احتجاجها اعتمادا على مقدمة غير بينة ولا مبينة فقد احتج عليها في كلامه تعالى من طرق مختلفة كالاحتجاج من طريق لزوم الغاية في فعله، ومن طريق وجوب الجزاء على الاعمال في العدل وغير ذلك وقد نفى سبحانه الريب عن البعث والقيامة فيما يبلغ عشر مواضع من كلامه.
والحجة - كما تقدم الايماء إليه - حجة عامة المؤمنين الذين يعبدونه تعالى خوفا من العقاب أو رغبة في الثواب الذى اعد لهم يوم القيامة.
قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق) إلى آخر الاية، يهدى للحق وإلى الحق بمعنى واحد فالهداية تتعدى بكلتا الحرفين، وقد ورد تعديتها باللام في مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله: (أو لم يهدلهم) الم السجدة: 26، وقوله: (يهدى للتى هي اقوم) اسرى: 9 إلى غير ذلك فما ذكره بعضهم من كون اللام في قوله: (يهدى للحق) للتعليل ليس بشئ.
لقن سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الحجة وهى ثالثة الحجج، وهى حجة عقلية يعتمد عليها الخاصة من المؤمنين، وتوضيحها ان من المرتكز في الفطرة الانسانية وبه يحكم عقله ان من الواجب على الانسان ان يتبع الحق حتى انه ان انحرف في شئ من اعماله عن الحق واتبع غيره لغلط أو شبهة أو هوى فانما اتبعه لحسبانه اياه حقا والتباس الامر عليه، ولذا يعتذر عنه بما يحسبه حقا فالحق واجب الاتباع على الاطلاق ومن غير قيداو شرط.
والهادي إلى الحق واجب اتباعه لما عنده من الحق، ومن الواجب ترجيحه على من لا يهدى إليه أو يهدى إلى غيره لان اتباع الهادى إلى الحق اتباع لنفس الحق الذى معه وجوب اتباعه ضروري.
وقد اعتمد في الحجة على هذه المقدمة الضرورية فافتتح الكلام فيها بسؤالهم عن شركائهم هل فيهم من يهدى إلى الحق؟ ومن البين ان لا جواب للمشركين في ذلك مثبتا إذ شركاؤهم سواء أكانوا جمادا غير ذى حياة كالاوثان والاصنام ام كانوا من الاحياء كالملائكة وأرباب الانواع والجن والطواغيت من فرعون ونمرود وغيرهما لا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
/ صفحة 57 /
واذ لم يكن لهم في ذلك جواب مثبت فانهم لا يجيبون، ولذلك امر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يخلفهم في الجواب فيجيب في ذلك - اعني الهداية إلى الحق - باثباتها لله سبحانه فقيل: (قل الله يهدى للحق) فان الله سبحانه هو الذى يهدى كل شئ إلى مقاصده التكوينية والامور التى يحتاج إليها في بقائه كما في قوله: (ربنا الذى اعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقوله: (الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى) الاعلى: 3 وهو الذى يهدى الانسان إلى سعادة الحياة ويدعوه إلى الجنة والمغفرة باذنه بارسال الرسل وانزال الكتب وتشريع الشرائع، وأمرهم ببث الدعوة الحقة الدينية بين الناس.
وقد مر في تفسير قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) آل عمران: 60 أن الحق من الاعتقاد والقول والفعل انما يكون حقا بمطابقة السنة الجارية في الكون للذى هو فعله فالحق بالحقيقة انما يكون حقا بمشيته وارادته.
واذ تحقق انه ليس من شركائهم من يهدى إلى الحق، وان الله سبحانه يهدى إلى الحق سألهم بقوله: (أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع امن لا يهدى إلا ان يهدى)؟ ان يقضوا في الترجيح بين اتباعه تعالى واتباع شركائهم وهو تعالى يهدى إلى الحق وهم لا يهدون ولا يهتدون إلا بغيرهم، ومن المعلوم ان الرجحان لمن يهدى على من لا يهدى أي لاتباعه تعالى على اتباعهم، والمشركون يحكمون بالعكس، ولذلك لامهم ووبخهم بقوله: (فما لكم كيف تحكمون)؟ والتعبير في الترجيح في قوله: (أحق أن يتبع) بأفعل التفضيل الدال على مطلق الرجحان دون التعين والانحصار مع أن اتباعه تعالى حق لا غير واتباعهم لا نصيب له من الحق انما هو بالنظر إلى مقام الترجيح، وليسهل بذلك قبولهم للقول من غير إثارة لعصبيتهم وتهييج لجهالتهم.
وقد أبدع تعالى في قوله (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى والقراءة الدائرة: (لا يهدى) بكسر الهاء وتشديد الدال وأصله يهتدى، وظاهر قوله: (لا يهدى إلا أن يهدى) وقد حذف متعلقات الفعل فيه أنه إنما يهتدى بغيره لا بنفسه.
/ صفحة 58 /
والكلام قد قوبل فيه قوله: (يهدى إلى الحق) بقوله: (من لا يهدى) مع أن الهداية إلى الحق يقابلها عدم الهداية إلى الحق، وعدم الاهتداء إلى الحق يقابله الاهتداء إلى الحق فلازم هذه المقابلة الملازمة بين الاهتداء بالغير وعدم الهداية إلى الحق، وكذا الملازمة بين الهدايد إلى الحق والاهتداء بالذات فالذي يهدى إلى الحق يجب أن يكون مهتديا بنفسه لا بهداية غيره والذى يهتدى بغيره ليس يهدى إلى الحق أبدا.
هذا ما تدل عليه الاية بحسب ظاهرها الذى لا ريب فيه وهو أعدل شاهد على أن الكلام موضوع فيها على الحقيقة دون التجوزات المبنية على المساهلة التى نبنى عليها ونداولها فيما بيننا معاشر أهل العرف فننسب الهدايد إلى الحق إلى كل من تكلم بكلمة حق ودعا إليها وإن لم يعتقد بها أو اعتقد ولم يعمل بها أو عمل ولم يتحقق بمعناها، وسواء اهتدى إليها بنفسه أو هداه إليها غيره.
بل الهداية إلى الحق أعنى الايصال إلى صريح الحق ومتن الواقع ليس إلا لله سبحانه أو لمن اهتدى بنفسه أي هداه الله سبحانه من غير واسطة تتخلل بينه وبينه فاهتدى بالله وهدى غيره بأمر الله سبحانه، وقد تقدمت نبذة من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) الاية البقرة: 124.
وقد تبين بما قدمناه في معنى الاية أمور: أحدها: أن المراد بالهداية إلى الحق ما هو بمعنى الايصال إلى المطلوب دون ما هو بمعنى إراءة الطريق المنتهى إلى الحق فإن من الضرورى أن وصف طريق الحق يتأتى من كل أحد سواء اهتدى إلى الحق بنفسه أو بغيره أو لم يهتد.
وثانيها: أن المراد بقوله: (من لا يهدى إلا أن يهدى) من لا يهتدى بنفسه، وهذا أعم من أن يكون ممن يهتدى بغيره أو يكون ممن لا يهتدى أصلا، لا بنفسه ولا بغيره كالاوثان والاصنام التى هي جماد لا يقبل هداية من غيره، وذلك أن قوله: (إلا أن يهدى) استثناء من قوله: (من لا يهدى) الاعم من أن لا يهتدى أصلا أو يهتدى بغيره، والمأخوذ في قوله: (أن يهدى) فعل دخلت عليه أن المصدرية
/ صفحة 59 /
المؤولة إلى المصدر، والجملة الفعلية المؤولة إلى المصدر كذلك لا يدل على التحقق بخلاف المصدر المضاف إلى معموله ففرق بين قوله: (أن تصوموا خير لكم) البقرة: 184 فلا يدل على الوقوع وبين نحو قوله: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) يونس: 29 فيدل على الوقوع، ويقال: ضربك زيدا عجيب إذا ضربته، وأن تضرب زيدا عجيب إذا هممت أن تضربه.
فقوله: (من لا يهدى إلا أن يهدى) معناه من لا يكون هداه من نفسه إلا أن تأتيه الهداية من ناحية الغير، ومن المعلوم أنها إنما تأتيه من الغير إذا كان في طبعه أن يقبل ذلك، وأما إذا لم يقبل فإنما يبقى له من الوصف أنه لا يهتدى فافهم ذلك.
وللمفسرين في معنى هذا الاستثناء أقوال عجيبة: منها: أنه استثناء مفرغ من أعم الاحوال لان من نفى عنهم الهداية: ممن اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى بن مريم وعزيرا والملائكة (عليهم السلام)، وهؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه كما قال تعالى في الانبياء من سورتهم: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الانبياء: 73.
وفيه: أن محصله: أن المعنى لا يهدى إلا أن يهديه الله تعالى فيهدى غيره بعد اهتدائه بهدايته تعالى، وقد اختل عليه معنى الاية من أصله فإن من لا يهتدى إلى الحق بنفسه لا يتأتى له أن يهدى إلى الحق فإنه إنما يماس الحق من وراء حجاب فكيف يوصل إليه؟ على ان ما ذكره لا ينطبق على الاصنام التى هي مورد الاحتجاج في الاية فانها لا تقبل الهدايد من اصلها، وقد ذكر المسيح وعزيرا وهما ممن قدسته النصارى واليهود وليس وجه الكلام في الاية إليهم وان شملتهما وغيرهما الاية بحسب عموم الملاك.
ومنها: ان الاستثناء منقطع والمراد بمن لا يهدى الاصنام التى لا تقبل الهداية اصلا فحسب، والمعنى: ام من لا يهتدى اصلا كالاصنام إلا ان يهديه الله فيهتدى حينئذ.
/ صفحة 60 /
وفيه: أنه لا يفى بتوجيه المقابلة التى بين قوله: (من يهدى إلى الحق) وقوله: (من لا يهدى) فان الهداية إلى الحق والاهتداء إليه لا يتقابلان إلا ان يؤول المعنى إلى مثل قولنا: أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع ام من لا يهتدى أصلا إلا ان يهديه الله فيهتدى فيهدى غيره، ويرد عليه انه لا وجه حينئذ لتخصيصه بمثل الاصنام ممن لا يهتدى اصلا حتى يصير الاستثناء منقطعا بل يعم ما لا يهتدى اصلا لا بنفسه ولا بغيره، ومن لا يهتدى بنفسه ويهتدى بغيره كالملائكة مثلا، ويرد عليه ما ورد على الوجه السابق.
ومنها: أن المراد بمن لا يهدى الاصنام التى لا تقبل الهداية و (إلا) بمعنى حتى والمعنى لا يهتدى ولا يقبل الهداية حتى يهدى.
وفيه: ان الترديد يرجع حينئذ إلى مثل قولنا: أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع ام من لا يهتدى اصلا حتى يهدى إلى الحق، ويعود الاستثناء مستدركا لا يتعلق به غرض في الكلام.
مضافا إلى أن مجئ إلا بمعنى حتى غير ثابت وعلى تقدير ثبوته قليل في الكلام لا يحمل على مثله افصح الكلام.
ومنها: أن المراد بمن لا يهدى إلا ان يهدى الملائكة والجن ممن يعبدون من دون الله وهم يقبلون الهداية من الله وان لم يهتدوا من عند انفسهم أو المراد الرؤساء المضلون الذين يدعون إلى الكفر فانهم وان لم يهتدوا لكنهم يقبلون الهداية ولو هدوأ إلى الحق لهدوا إليه.
وفيه: ان الايات واقعة في سياق الاحتجاج على عبدة الاصنام، والقول بأن المراد بمن لا يهدى إلا ان يهدى الملائكة والجن أو الرؤساء المضلون يخرجها عن صلاحية الانطباق على المورد.
وثالثها: أن الهداية إلى الحق بمعنى الايصال إليه انما هي شأن من يهتدى بنفسه أي لا واسطة بينه وبين الله سبحانه في أمر الهداية اما من بادئ أمره أو بعناية خاصة من الله سبحانه كالانبياء والاوصياء من الائمة، وأما الهداية بمعنى اراءة
/ صفحة 61 /
الطريق ووصف السبيل فلا يختص به تعالى ولا بالائمة من الانبياء والاوصياء كما يحكيه الله تعالى عن مؤمن آل فرعون إذ يقول: (وقال الذى آمن يا قوم اتبعونى اهدكم سبيل الرشاد) المؤمن: 38، وقال: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) الانسان: 3.
وأما قوله تعالى خطابا للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو امام: (إنك لا تهدى من احببت ولكن الله يهدى من يشاء) القصص: 56 وغيره من الايات فهى مسوقة لبيان الاصالة والتبع كما في آيات التوفى وعلم الغيب ونحو ذلك مما سيقت لبيان ان الله سبحانه هو المالك لها بالذات والحقيقة، وغيره يملكها بتمليك الله ملكا تبعيا أو عرضيا، ويكون سببا لها باذن الله، قال تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الانبياء: 73 وفي الاحاديث اشارة إلى ذلك وان الهداية إلى الحق شأن النبي وأهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد مر بعض الكلام في الهداية فيما تقدم.
وقوله في ذيل الاية: (فما لكم كيف تحكمون) استفهام للتعجيب استغرابا لحكمهم باتباع شركائهم مع حكم العقل الصريح بعدم جواز اتباع من لا يهتدى ولا يهدى إلى الحق.
قوله تعالى: (وما يتبع اكثرهم إلا ظنا ان الظن لا يغنى من الحق شيئا) أغنى يغنى يتعدى بمن وعن كلتيهما وقد جاء في الكلام الالهى بكل من الوجهين فعدى بمن كما في الاية، وبعن كما في قوله: (ما أغنى عنى ماليه) الحاقة: 29.
وإنما نسب اتباع الظن إلى أكثرهم لان الاقل منهم وهم أئمة الضلاله على يقين من الحق، ولم يؤثروا عليه الباطل و يدعواإليه إلا بغيا كما قال تعالى: (وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) البقرة: 213.
وأما الاكثرون فإنما اتبعوا آباءهم تقليدا لهم لحسن ظنهم بهم.
وقوله: (إن الله عليم بما يفعلون) تعليل لقوله: (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) والمعنى أن الله عليم بما يأتونه من الاعمال يعلم أنها اتباع للظن
/ صفحة 62 /
* * *
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين - 37.
أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين - 38.
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين - 39.
ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين - 40.
وإن كذبوك فقل لى عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون - 41.
ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون - 42.
ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون - 43.
إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون - 44.
ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين - 45.
/ صفحة 63 /
(بيان) رجوع إلى أمر القرآن وأنه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه وتلقين الحجة في ذلك، وللايات اتصال بما تقدمها من قوله: (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق) الاية، فقد تقدم أن من هدايته تعالى إلى الحق هدايته الناس إلى دينه الذى يرتضيه من طريق الوحى إلى انبيائه والكتب التى أنزلها إليهم ككتب نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد (عليهم السلام)، وهذه الايات تذكرها وتقيم الحجة على أن القرآن منها هاد إلى الحق، ولذلك أشير إليها معه حيث قيل: (ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين).
وفي آخر الايات الرجوع إلى ذكر الحشر وهو من مقاصد السورة كما تقدم.
قوله تعالى: (وما كان هذا القرآن ان يفترى من دون الله) إلى آخر الاية، قد تقدمت الاشارة إلى ان نفى صفة أو معنى بنفى الكون يفيد نفى الشأن والاستعداد، وهو أبلغ من نفيه نفسه ففرق بين قولنا: ما كان زيد ليقوم، وقولنا: لم يقم أو ما قام زيد إذ الاول يدل على أن القيام لم يكن من شأن زيد ولا استعد له استعدادا والثانى ينفى القيام عنه فحسب وفي القرآن منه شئ كثير كقوله: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) يونس: 74، وقوله: (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان) الشورى: 53، وقوله: (وما كان الله ليظلمهم) العنكبوت: 40.
فقوله: (وما كان هذا القرآن ان يفترى من دون الله) نفى لشأنية الافتراء عن القرآن كما قيل وهو أبلغ من نفى فعليته، والمعنى ليس من شأن هذا القرآن ولا في صلاحيته أن يكون افتراء من دون الله يفتريه على الله سبحانه.
وقوله: (ولكن تصديق الذى بين يديه) أي تصديقا لما هو حاضر منزل من الكتاب وهو التوراة والانجيل كما حكى عن المسيح قوله: (يا بنى اسرائيل انى رسول الله اليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة) الصف: 6، وإنما وصفهما بما بين
/ صفحة 64 /
يديه مع تقدمهما لان هناك كتابا غير الكتابين ككتاب نوح وكتاب ابراهيم (عليهما السلام) فإذا لوحظ تقدم جميعها عليه كان الاقرب منها زمانا إليه وهو التوراة والانجيل موصوفا بأنه بين يديه.
وربما قيل: إن المراد بما بين يديه هو ما يستقبل نزوله من الامور كالبعث والنشور والحساب والجزاء، وليس بشئ.
وقوله: (وتفصيل الكتاب) عطف على (تصديق) والمراد بالكتاب بدلالة من السياق جنس الكتاب السماوي النازل من عند الله سبحانه على انبيائه، والتفصيل إيجاد الفصل بين أجزائها المندمجة بعضها في بعض المنطوية جانب منها في آخر بالايضاح والشرح.
وفيه دلالة على أن الدين الالهى المنزل على أنبيائه (عليهم السلام) واحد لا اختلاف فيه إلا بالاجمال والتفصيل، والقرآن يفصل ما أجمله غيره كما قال تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) آل عمران: 19.
وأن القرآن الكريم مفصل لما أجمله الكتب السماوية السابقة مهيمن عليها جميعا كما قال تعالى: (وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) المائدة: 48.
وقوله: (لا ريب فيه من رب العالمين) أي لا ريب فيه هو من رب العالمين، والجملة الثانية كالتعليل للاولى.
قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله) إلى آخر الاية، أم منقطعة والمعنى بل يقولون افتراه، والضمير للقرآن، واتصاف السورة بكونها مثل القرآن شاهد على أن القرآن يصدق على الكثير منه والقليل.
والمعنى قل للذين يقولون افتراه: إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة مثل هذا القرآن المفترى وادعوا كل من استطعتم من دون الله مستمدين مستظهرين فانه لو كان كلاما مفترى كان كلاما بشريا وجاز ان يؤتى بمثله وفي ذلك تحد ظاهر بسورة واحدة من سور القرآن طويلة كانت أو قصيرة.
ومن هنا يظهر أولا: أن التحدي ليس بسورة معينة فإنهم لم يرموا بالافتراء
/ صفحة 65 /
بعض القرآن دون بعض بل جميعه، وهو يكلفهم أن يأتوا بسورة مثل ما يدعون أنه افتراه، وإنما ادعوه لجميع القرآن دون بعضه.
ولا يصغى إلى قول من يقول: إن التنكير (في سورة) للتعظيم أو للتنويع والمراد سورة من السور يذكر فيها قصص الانبياء وأخبار وعيد الدنيا والاخرة لان الافتراء إنما يتهم به الاخبار دون الانشاء.
أو يقول: المراد سورة طويلة مثل هذه السورة سورة يونس - في اشتمالها على أصول الدين والوعد والوعيد.
وذلك أن القرآن بجميع آياته منسوب إلى الله سبحانه، ولا يختلف في ذلك ما يتضمن الاخبار وما يتضمن الانشاء، وما كانت سورة طويلة أو قصيرة حتى الاية الواحدة، والرمى بالافتراء يصح أن يتعلق بالجميع لانه تكذيب للنسبة المتعلقة بالجميع.
وثانيا: أن الاية لا تتحدى ببلاغة القرآن وفصاحته فحسب بل السياق في هذه الاية وفي سائر الايات التى وردت مورد التحدي يشهد على أن التحدي إنما هو بما عليه القرآن من صفة الكمال ونعت الفضيلة من اشتماله على مخ المعارف الالهية، وجوامع الشرائع من الاحكام العبادية والقوانين المدنية السياسية والاقتصادية والقضائية والاخلاق الكريمة والاداب الحسنة، وقصص الانبياء، والامم الماضية، والملاحم والاخبار الغيبية، ووصف الملائكة والجن والسماء والارض والحكمة والموعظة والوعد والوعيد، وأخبار البدء والعود، وقوة الحجة وجذالة البيان والنور والهداية من غير أن يختلف جزء منه عن جزء، أضف إلى ذلك وقوعه في بلاغته وفصاحته موقعا يقصر عن البلوغ إليه أيدى البشر.
ولقد قصر الباحثون من علماء الصدر الاول ومن يتلونهم إذ قصروا إعجازه على بلاغته وفصاحته، وكتبوا في ذلك كتبا وألفوا رسائل فصرفهم ذلك عن التدبر في حقائقه والتعمق في معارفه، وأنهاهم إلى أن عدوا المعاني أمورا مطروحة في الطريق يستوى فيه البدوى والحضرى والعامي والخاصى والجاهل والعالم، وأن الفضل لنظم اللفظ على نظم المعنى ولا قيمة لما وراء ذلك.
/ صفحة 66 /
وقد وصفه الله تعالى بكل وصف جميل دخيل في التحدي كوصفه بأنه نور ورحمة وهدى وحكمة وموعظة وبرهان وتبيان لكل شئ وتفصيل الكتاب وشفاء للمؤمنين وقول فصل وما هو بالهزل، وأنه مواقع للنجوم، وأنه لا اختلاف فيه ولم يصرح ببلاغته بعينها.
وأطلق القول بأنهم لا يأتون بمثله ولو دعوا من استطاعوا من دون الله، ولو اجتمع على ذلك الجن والانس وكان بعضهم لبعض ظهيرا ولم يقيد الكلام بالبلاغة والفصاحة.
وقد فصلنا القول في إعجاز القرآن في تفسير قوله: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) البقرة: 23 في الجزء الاول من الكتاب.
قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) إلى آخر الاية.
الاية تبين وجه الحقيقة في عدم إيمانهم به وقولهم إنه افتراء وهو أنهم كذبوا من القرآن بما لم يحيطوا بعلمه أو كذبوا بالقرآن الذى لم يحيطوا بعلمه ففيه معارف حقيقية من قبيل العلوم الواقعية لا يسعها علمهم، ولم يأتهم تأويله بعد أي تأويل ذاك الذى كذبوا به حتى يضطرهم إلى تصديقه.
هذا ما يقتضيه السياق من المعنى فقوله: (ولما يأتهم تأويله) يشير إلى يوم القيامة كما يؤيده قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل) الاعراف: 53.
وهذا يؤيد ما قدمناه في تفسير قوله: (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله) آل عمران: 7 في الجزء الثالث من الكتاب أن المراد بالتأويل في عرف القرآن هو الحقيقة التى يعتمد عليها معنى من المعاني من حكم أو معرفة أو قصة أو غير ذلك من الحقائق الواقعية من غير أن يكون من قبيل المعنى، وأن لجميع القرآن وما يتضمنه من معرفة أو حكم أو خبر أو غير ذلك تأويلا.
ويؤيد ذلك أيضا قوله بعد: (كذلك كذب الذين من قبلهم) فإن التشبيه
/ صفحة 67 /
يعطى أن المراد أن الذين من قبلهم من المشركين أيضا كذبوا بما دعاهم إليه أنبياؤهم لكونهم لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، فلما جاء به سائر الانبياء من أجزاء الدعوة الدينية من معارف وأحكام تأويل كما أن لمعارف القرآن وأحكامه تأويلا من غير ان يكون من قبيل المفاهيم ومعانى الالفاظ كما توهموه.
فمحصل المعنى ان هؤلاء المشركين الرامين للقرآن بأنه افتراء مثل المشركين والكفار من الامم السابقة استقبلتهم من الدعوة الدينية بمعارفها وأحكامها أمور لم يحيطوا بها علما حتى يوقنوا بها ويصدقوا، فحملهم الجهل على التكذيب بها ولما يأتهم اليوم الذى يظهر لهم فيه تأويلها وحقيقة أمرها ظهورا يضطرهم على الايقان والتصديق بها وهو يوم القيامة الذى يكشف لهم فيه الغطاء عن وجه الحقائق بواقعيتها فهؤلاء كذبوا وظلموا كما كذب الذين من قبلهم وظلموا فانظر كيف كان عاقبة اولئك الظالمين حتى تحدس بما سيصيب هؤلاء.
هذا ما يعطيه دقيق البحث في معنى الاية، وللمفسرين فيها أقوال شتى مختلفة مبنية على ما ذهبوا إليه من معنى التأويل لا جدوى في التعرض لها وقد استقصينا اقوالهم سابقا.
قوله تعالى: (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين) قسمهم قسمين من يؤمن بالقرآن ومن لا يؤمن به ثم كنى عمن لا يؤمن به أنهم مفسدون فتحصل من ذلك ان الذين يكذبون بما في القرآن انما كذبوا به لانهم مفسدون.
فالاية لبيان حالهم الذى هم عليه من ايمان البعض وكفر البعض وأن الكفر ناش من رذيلة الافساد.
وأما ما ذكره بعضهم في تفسير الاية: ان المراد ان قومك لن يكونوا كاولئك الظالمين من قبلهم الذين كذبوا رسلهم إلا قليلا منهم فكان عاقبتهم عذاب الاستئصال بل سيكون قومك قسمين قسم سيؤمن بهذا القرآن وقسم لا يؤمن به ابدا فهو معنى خارج عن مدلول الاية البتة.
/ صفحة 68 /
قوله تعالى: (وان كذبوك فقل لى عملي ولكم عملكم) إلى آخر الاية، تلقين للتبرى على تقدير تكذيبهم له، وهو من مراتب الانتصار للحق ممن انتهض لاحيائه فالطريق هو حمل الناس عليه ان حملوا وإلا فالتبري منهم لئلا يحملوه على باطلهم.
وقوله: (انتم بريئون مما اعمل وأنا برئ مما تعملون) تفسير لقوله: (لى عملي ولكم عملكم).
قوله تعالى: (ومنهم من يستمعون اليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) الاستفهام للانكار، وقوله: (ولو كانوا لا يعقلون) قرينة على ان المراد بنفى السمع نفى ما يقارنه من تعقل ما يدل عليه الكلام المسموع وهو المسمى بسمع القلب.
والمعنى: ومنهم الذين يستمعون اليك وهم صم لا سمع لقلوبهم، ولست انت قادرا على إسماعهم ولا سمع لهم.
قوله تعالى: (ومنهم من ينظر اليك) إلى آخر الاية الكلام فيها نظير الكلام في سابقتها.
قوله تعالى: (ان الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس انفسهم يظلمون) مسوق للاشارة إلى ان ما ابتلى به هؤلاء المحرومون من السمع والبصر من جهة الصمم والعمى من آثار ظلمهم انفسهم من غير ان يكون الله تعالى ظلمهم بسلب السمع والبصر عنهم فانهم انما أوتوا ما أوتوا من قبل أنفسهم.
قوله تعالى: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم) (الخ) ظاهر الاية ان يكون (يوم) ظرفا متعلقا بقوله: (قد خسر) الخ، وقوله: (كأن لم يلبثوا إلا ساعة) الخ، حالا من ضمير الجمع في (يحشرهم) وقوله: (يتعارفون بينهم) حالا ثانيا مبينا للحال الاول.
والمعنى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله في يوم يحشرهم إليه حالكونهم يستقلون هذه الحياة الدنيا فيعدونها كمكث ساعة من النهار وهم يتعارفون بينهم من غير ان
/ صفحة 69 /
ينكر بعضهم بعضا أو ينساه.
وقد ذكر بعضهم ان قوله: (كأن لم يلبثوا) صفة ليوم أو صفة للمصدر المحذوف المدلول عليه بقوله: (يحشرهم)، وذكر بعض آخر أن قوله: (يتعارفون بينهم) صفة لساعة، وهما من الاحتمالات البعيدة التى لا يساعد عليها اللفظ.
وكيف كان ففى الاية رجوع إلى حديث اللقاء المذكور في أول السورة وانعطاف على ما ذكره آنفا أن من المتوقع أن يأتيهم تأويل الدين.
فكأنها تقول: إنهم وإن لم يأتهم تأويل القرآن بعد لا ينبغى لهم أن يغتروا بالجمود على مظاهر هذه الحياة الدنيا ويستكثروا الامد ويستبطئوا الاجل فإنهم سوف يحشرون إلى الله فيشاهدون أن ليست الحياة الدنيا إلا متاعا قليلا، ولا اللبث فيها إلا لبثا يسيرا كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم.
فيومئذ يظهر لهم خسرانهم في تكذبيهم بلقاء الله ظهور عيان وذلك بإتيان تأويل الدين وانكشاف حقيقة الامر وظهور نور التوحيد على ما كان، ووضوح أن الملك يومئذ لله الواحد القهار جل شأنه.
* * *
وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون - 46.
ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون - 47.
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين - 48.
قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون - 49.
قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا
/ صفحة 70 /
يستعجل منه المجرمون - 50.
أثم إذا ما وقع آمنتم به ء الان وقد كنتم به تستعجلون - 51.
ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون - 52.
ويستنبؤنك أحق هو قل أي وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين - 53.
ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الارض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون - 54.
ألا إن لله ما في السماوات والارض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون - 55.
هو يحيى ويميت وإليه ترجعون - 56.
(بيان) الايات تنبئ عن سنة إلهية جارية، وهى أن الله سبحانه قضى قضاء حق لا يرد ولا يبدل أن يرسل إلى كل أمة رسولا يبلغهم رسالته ثم يحكم بينه وبينهم حكما فصلا بإنزال العذاب عليهم وإنجاء المؤمنين وإهلاك المكذبين.
ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخبرهم أن هذه الامة يجرى فيهم ما جرى في الامم الماضية من السنة الالهيد من غير أن يستثنوا من كليته غير انه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكر لهم فيما لقنه الله من جواب سؤالهم عن وقت العذاب إلا أن القضاء حتم وللامة عمرا وأجلا كالفرد ينتهى إليه أمد حياتها، وأما وقت النزول فقد أبهم إبهاما.
وقد قدمنا في قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) الانفال: 33 أن الاية لا تخلو عن إشعار بأن الامة ستنتزع منهم نعمة الاستغفار بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فينزل عليهم العذاب، وقد تقدم أن
/ صفحة 71 /
الشواهد قائمة على كون الاية مدنية فهى بعد هذه الايات المكية من قبيل الايضاح في الجملة بعد الابهام ومن ملاحم القرآن.
وقد حمل بعض المفسرين ما وقع من حديث العذاب في هذه الايات على عذاب الاخرة، وسياق الايات يأبى ذلك.
قوله تعالى: (وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) إما نرينك أصله: إن نرك، زيد عليه ما والنون الثقيلة للتأكيد، والترديد بين الارادة والتوفى للتسوية واستيعاب التقادير، والمعنى الينا مرجعهم على أي تقدير، ولفظة ثم للتراخي بحسب ترتيب الكلام دون الزمان والاية مسوقة لتطييب نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولتكون كالتوطئة لحديث قضاء العذاب الذى ستفصله الايات التالية لهذه الاية.
والمعنى طب نفسا فإنا موقعون بهم ما نعدهم سواء أريناك بعض ذاك أو توفيناك قبل أن نريك ذاك فإن أمرهم الينا ونحن شاهدون لافعالهم المستوجبة للعذاب لا تغيب عنا ولا ننساها.
والالتفات من قوله: (نرينك) إلى قوله: (ثم الله شهيد) للدلالة على علة الحكم فإن الله سبحانه شهيد على كل فعل بمقتضى ألوهيته.
قوله تعالى: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) قضاء إلهى منحل إلى قضاءين أحدهما: أن لكل أمة من الامم رسولا يحمل رسالة الله إليهم ويبلغها إياهم، وثانيهما: أنه إذا جاءهم وبلغهم رسالته فاختلفوا من مصدق له ومكذب فإن الله يقضى ويحكم بينهم بالقسط والعدل من غير أن يظلمهم.
هذا ما يعطيه سياق الكلام من المعنى.
ومنه يظهر أن قوله: (فإذا جاء رسولهم) فيه إيجاز بالحذف والاضمار والتقدير: فإذا جاء رسولهم إليهم وبلغ الرسالة فاختلف قومه بالتكذيب والتصديق، ويدل على ذلك قوله: (قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) فإن القضاء إنما يكون فيما اختلف فيه، ولذا كان السؤال عن القسط وعدم الظلم في القضاء في مورد العذاب
/ صفحة 72 /
والضرار أسبق إلى الذهن.
وقد تقدم الفرق بين الرسول والنبى في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب، وهذا القضاء المذكور في الاية من خواص الرسالة دون النبوة.
قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) سؤال منهم عن وقت هذا القضاء الموعود، وهو القضاء بينهم في الدنيا، والسائلون هم بعض المشركين من معاصري النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والدليل عليه أمره أن يجيبهم بقوله: (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل) الخ، فقول بعضهم: إن السؤال عن عذاب يوم القيامة أو إن السائلين بعض المشركين من الامم السابقة لا يلتفت إليه.
قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل) إلى آخر الاية، لما كان قولهم: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) في معنى قولنا: أي وقت يفى ربك بما وعدك أو يأتي بما أوعدنا به أنه يقضى بيننا وبينك فيهلكنا وينجيك والمؤمنين بك فيصفو لكم الجو ويكون لكم الارض وتخلصون من شرنا؟ فهلا عجل لكم ذلك - وذلك أن كلامهم مسوق سوق الاستعجال تعجيزا واستهزاء كما تدل على استعجالهم الايات التالية وهذا نظير قولهم: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) الحجر: 7.
لقن سبحانه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبدأهم في الجواب ببيان أنه لا يملك لنفسه ضرا حتى يدفعه عنها ولا نفعا حتى يجلبه إليها ويستعجل ذلك إلا ما شاء الله ان يملكه من ضر ونفع فالامر إلى الله سبحانه جميعا، واقتراحهم عليه بأن يعجل لهم القضاء والعذاب من الجهل.
ثم يجيب عن سؤالهم عن أصل تعيين الوقت جوابا اجماليا بالاعراض عن تعيين الوقت والاقبال على ذكر ضرورة الوقوع، أما الاول فإنه من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله، وأمره الذى لا يتسلط عليه إلا هو، وقد تقدم قوله في آيات السورة: (ويقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا انى معكم من المنتظرين) الاية 20 من السورة.
/ صفحة 73 /
وأما الثاني أعنى ذكر ضرورة الوقوع فقد بين ذلك بالاشارة إلى حقيقة هي من النواميس العامة الجارية في الكون تنحل بها العقدة وتندفع بها الشبهة، وهى أن لكل أمة أجلا لا يتخطاهم ولا يتخطونه فهو آتيهم لا محالة، وإذا أتاهم لم يخبط في وقوعه موقعه ولا ساعة، وهو قوله تعالى: (لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) أي وأنتم أمة من الامم فلا محالة لكم أيضا أجل كمثلهم إذا جاءكم لا تستأخرون ساعة ولا تستقدمون.
فإذا فقهوا هذا الكلام وتدبروه بأن لهم أن لكل امة حياة اجتماعية وراء الحياة الفردية التى لكل واحد من أفرادها ولحياتها من البقاء والعمر ما قضى به الله سبحانه لها، ولها من السعادة والشقاوة والتكليف والرشد والغى والثواب والعقاب نصيبها، وهى مما اعتنى بها التدبير الالهى نظير الفرد من الانسان حذو النعل بالنعل.
ويدلهم على ذلك ما يحدثهم به التاريخ ويفصح عنه الاثار من ديارهم الخربة ومساكنهم الخالية، وقد قص عليهم القرآن أخبار بعضهم كقوم نوح، وعاد قوم هود، وثمود قوم صالح، وكلدة قوم ابراهيم وأهل سدوم وسائر المؤتفكات قوم لوط والقبط قوم فرعون وغيرهم.
فهؤلاء أمم منقرضة سكنت أجراسهم وخمدت أنفاسهم ولم ينقرضوا إلا بعذاب وهلاك، ولم يعذبوا إلا بعد ما جاءتهم رسلهم بالبينات ولم يأت قوما منهم رسوله إلا واختلفوا في الحق الذى جاءهم فمنهم من آمن به ومنهم من كذب به وهم الاكثرون.
فهذا يدلهم على أن هذه الامة - وقد اختلفوا في الحق لما جاءهم - سيقضى الله بين رسوله وبينهم فيأخذهم بما أخذ به من خلت من قبلهم من الامم وإن الله لبالمرصاد.
وعلى الباحث المتدبر أن يتنبه لان الله سبحانه وإن بدء في وعيده بالمشركين غير أنه هدد في أثناء كلامه المجرمين فتعلق الوعيد بهم، ومن أهل القبلة مجرمون كغيرهم فلينتظروا عذابا واصبا يفصل به الله بينهم وبين نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولينسوا ما يلقيه الشيطان في روعهم أن أمتهم هذه أمة مرحومة رفع الله عنهم عذاب الدنيا
/ صفحة 74 /
إكراما منه لنبيهم نبى الرحمة فهم في أمن من عذاب الله وإن انهمكوا في كل إثم وخطيئة وهتكوا كل حجاب مع أنه لا كرامة عند الله إلا بالتقوى وقد خاطب المؤمنين من هذه الامة بمثل قوله: (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به) النساء: 123.
وربما تعدى المتعدى فعطف عذاب الاخرة على عذاب الدنيا فذكر أن الامة مغفور لهم محسنهم ومسيئهم فلا يبقى لهم في الدنيا إلا كرامة أن لهم أن يفعلوا ما شاءوا فقد أسدل الله عليهم حجاب الامن، ولا في الاخرة إلا المغفرة والجنة.
ولا يبقى على هذا للملة والشريعة إلا أنها تكاليف وأحكام جزافية لعب بها رب العالمين ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون تعالى عما يقولون علوا كبيرا.
فهذا كله من الاعراض عن ذكر الله وهجر كتابه، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ما ذا يستعجل منه المجرمون) إلى آخر الايتين، البيات والتبييت الاتيان ليلا ويغلب في الشر كقصد العدو عدوه ليلا.
ولما كان قولهم: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) في معنى استعجال آية العذاب التى يلجئهم إلى الايمان رجع بعد بيان تحقق الوقوع إلى توبيخهم وذمهم من الجهتين فوبخهم أولا على استعجالهم بالعذاب، وهو عذاب فجاءى من الحزم أن يكون الانسان منه على حذر لا أن يستعجل فيه فقال تعالى ملقنا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): (قل أرأيتم) وأخبروني (إن أتاكم عذابه بياتا) ليلا (أو نهارا) فإنه عذاب لا يأتيكم إلا بغتة إذ لستم تعلمون وقت نزوله (ما ذا يستعجل منه) من العذاب (المجرمون) أي ما ذا تستعجلون منه وأنتم مجرمون لا يتخطاكم إذا أتاكم.
ففى قوله: (ما ذا يستعجل منه المجرمون) التفات من الخطاب إلى الغيبة وكأن النكتة فيه رعاية حالهم ان لا يشافهوا بصريح الشر وليكون تعرضا لملاك نزول العذاب عليهم وهو إجرامهم.
/ صفحة 75 /
ووبخهم ثانيا على تأخير إيمانهم إلى حين لا ينفعهم الايمان فيه وهو حين نزول العذاب فإن آية العذاب يلجئهم إلى الايمان قطعا على ما هو المجرب من إيمان الانسان عند إشراف الهلكة، ومن جهة أخرى الايمان توبة والتوبة غير مقبولة عند ظهور آية العذاب والاشراف على الموت.
فقال تعالى: (أثم إذا ما وقع) العذاب (آمنتم به) أي بالقرآن أو بالدين أو بالله (الان) أي أتؤمنون به في هذا الان والوقت (وقد كنتم به تستعجلون) وكان معنى استعجالهم عدم الاعتناء بشأن هذا العذاب وتحقيره بالاستهزاء به.
قوله تعالى: (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا ما كنتم تكسبون) الاشبه أن تكون الاية متصلة بقوله تعالى: (لكل أمة أجل) الخ، فتكون الاية الاولى تبين تحقق وقوع العذاب عليهم وإهلاكه إياهم، والاية الثانية تبين أنه يقال لهم بعد الوقوع والهلاك: ذوقوا عذاب الخلد وهو عذاب الاخرة ولا تجزون إلا أعمالكم التى كنتم تكسبونها وذنوبكم التى تحملونها، والخطاب تكويني كنى به عن شمول العذاب لهم ونيله إياهم، وعلى هذا المعنى فالايتان: (قل أرأيتم - إلى قوله - تستعجلون) واردتان مورد الاعتراض.
قوله تعالى: (ويستنبؤنك أحق هو قل إى وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) إلى آخر الاية - يستنبؤنك أي يستخبرونك، وقوله: (أحق هو) بيان له، والضمير على ما يفيده السياق راجع إلى القضاء أو العذاب، والمال واحد، وقد أمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يؤكد القول في إثباته من جميع جهاته، وبعبارة أخرى أن يجيبهم بوجود المقتضى وعدم المانع.
فقوله: (قل إى وربى إنه لحق) إثبات لتحققه وقد أكد الكلام بالقسم والجملة الاسمية وإن واللام، وقوله: (وما أنتم بمعجزين) بيان أنه لا مانع هناك يمنع من حلول العذاب بكم.
قوله تعالى: (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الارض لافتدت به) إلى آخر الاية، إشارة إلى شدة العذاب أهمية التخلص منه عندهم، وإسرار الندامة إخفاؤها
/ صفحة 76 /
وكتمانها خشية ه الشماتة ونحوها، والظاهر أن المراد بالقضاء والعذاب في الاية هو القضاء ولعذاب الدنيويان لا غير.
قوله تعالى: (أالا إن لله ما في السماوات والارض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) الاية وما بعدها بيان برهانى على حقية ما ذكره من كونه حقا واقعا لا يمنع عنه مانع فإن كل شئ مما في السماوات والارض إذا كان مملوكا لله وحده لا شريك له كان كل تصرف مفروض فيها إليه تعالى، ولم يكن لغيره شئ من التصرف إلا بإذنه فإذا تصرف في شئ كان مستندا إلى إرادته فقط من غير أن يستند إلى مقتض آخر خارج يتصرف في ذاته المقدسة فيحمله على الفعل، أو يتقيد بعدم مانع خارجي إذا وجد تصرف فيه سبحانه بمنعه عن الفعل، فهو تعالى يفعل ما يفعل عن نفسه من غير أن يرتبط إلى مقتض من خارج أو مانع من خارج فإذا أراد سبحانه شيئا فعله من غير ممد أو عائق، وإذا وعد وعدا كان حقا لا مرد له من غير ان يتغير عن وعده بصارف.
فإمعان النظر في ملكه تعالى المطلق الحقيقي يهدى إلى العلم بأن وعده حق لا يمازجه باطل ولكن أكثرهم وهم العامة من الناس لا يعلمون لعجزهم عن الامعان في هذه الابحاث الحقيقية أو إعجابهم بسذاجة الفهم وانسلاكهم في سلك العامة.
فهم على ذلك يقيسون ملكه تعالى إلى ملك العظماء المستعلين من الانسان فإنهم يجدون الواحد من عظمائهم وقد أوتى ملكا وسلطانا ومن كل ما يتنافس فيه فيرون له القدرة المطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ثم يجدونه ربما يهم ويسعى ولا يقع ما اهتم به أو وعد وعدا ثم لم يف به رعاية لمصلحة شخصه أو غيره أو لمانع عائق فيقيسون أمره تعالى إلى امره، ووعده إلى وعده.
على أن الوعد عندهم قول من شأنه جواز أن ينطبق على الخارج وأن لا ينطبق.
مع أن حقيقة معنى ملكه وسلطانه وسعة قدرته ونفوذ إرادته أن الناس يعتقدون له ذلك ويتصورونه عظيما فيهم ولو طحنته نازلات الدهر يوما فأهلكته
/ صفحة 77 /
أو تغيرت عليه عقائد الناس بسبب من الاسباب سلبته ما عنده من ملك وقدرة، ومعنى وقوع ما أراده أو أحبه أن الاسباب الكونية ساعدته على ذلك ووافقته على ما أحبه، ولو لم تساعده ولم توافقه كلية الاسباب لم يكن له أن يضطرها إلى الخضوع لما يتوهم لنفسه من القدرة كما لا توافقه على مثل الموت والحياة والشباب والشيب والصحة والمرض وأمور أخرى كثيرة فليس له من الامر شئ.
لكنه سبحانه مالك لخلقه بمعنى أن وجود كل شئ قائم به متكون متحول بأمره منوط باذنه، وما تصرف فيه من شئ فإنما يتصرف عن نفسه لا عن اقتضاء من مقتض خارج مؤثر فيه أو عدم مانع يعوقه عن فعله فلا ينتسب شئ إلا إليه تعالى نفسه أو إلى غيره بإذنه بمقدار ما أذن فكيف يمكن أن يتخلف عن مشيته شئ فيرجع إلى غيره ولا غير هناك يرجع نحوه وينتسب إليه؟ وقوله تعالى فعله بما يدل بنفسه على مراده فكيف يتسرب إليه الكذب وهو متن الخارج، والعين الخارجي لا كذب فيه؟ وإنما الكذب والخطأ شأن المفاهيم الذهنية من حيث انطباقها على الخارج، وكيف يكون وعده باطلا ووعده لنا هو فعله الغائب عن نظرنا المستقبل لنا، وقد وجه كليه الاسباب إليه ولا مرد له؟ فإمعان النظر في هذه الحقائق ينور للباحث المتدبر معنى ملكه تعالى لما في السماوات والارض، وأن لازم ذلك أن وعد الله حق، وأن الارتياب فيه إنما هو من الجهل بمقامه تعالى.
ولذلك قال تعالى أولا: (ألا إن لله ما في السماوات والارض) ثم عقبه بقوله كالاستنتاج منه: (ألا إن وعد الله حق) ثم استدرك فقال: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ثم بين ملكه بقوله: (هو يحيى ويميت) الخ في الاية التالية.
قوله تعالى: (هو يحيى ويميت واليه ترجعون) احتجاج على ما تقدم في الاية السابقة من ملكه تعالى بالنسبة إلى نوع الانسان كأنه تعالى يقول: إن أمركم جميعا من حياة وموت ورجوع إليه تعالى فكيف لا تكونون ملكا له.
/ صفحة 78 /
(بحث روائي) في تفسير القمى وفي رواية أبى الجارود عن أبى جعفر (عليه السلام) في قوله: (قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا) يعنى ليلا (أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون) فهذا عذاب ينزل في آخر الزمان على فسقة أهل القبلة وهم يجحدون نزول العذاب عليهم.
أقول: والرواية تتأيد بالايات وتؤيد ما أسلفناه من البيان.
وفيه بإسناده عن الحسن بن موسى الخشاب، عن رجل عن حماد بن عيسى عمن رواه، عن أبى عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قوله تبارك وتعالى: (وأسروا الندامة لما راوا العذاب) قال: قيل له ما ينفعهم إسرار الندامة وهم في العذاب؟ قال: كرهوا شماتة الاعداء.
يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين - 57.
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون - 58.
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ء الله أذن لكم أم على الله تفترون - 59.
وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون - 60.
وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال
/ صفحة 79 /
ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين - 61.
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 62.
الذين آمنوا وكانوا يتقون - 63.
لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم - 64.
ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم - 65.
ألا إن لله من في السماوات ومن في الارض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون - 66.
هو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لايات لقوم يسمعون - 67.
قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغنى له ما في السماوات وما في الارض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون - 68.
قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون - 69.
متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون - 70.
(بيان) عاد الكلام في الايات إلى وصف القرآن الكريم بما له من كرائم الاوصاف ويتلوه متفرقات ترتبط بسابق القول في غرض السورة، وفيها موعظة وحكمة وحجة على مقاصد شتى، وفيها وصف أولياء الله وبشارتهم.
/ صفحة 80 /
قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم) إلى آخر الاية.
قال الراغب في المفردات: الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب، والعظة والموعظة الاسم، انتهى.
والصدر معروف والناس لما وجدوا القلب في الصدر وهم يرون أن الانسان إنما يدرك ما يدرك بقلبه وبه يعقل الامور ويحب ويبغض ويريد ويكره ويشتاق ويرجو ويتمنى، عدوا الصدر خزانة لما في القلب من أسراره والصفات الروحية التى في باطن الانسان من فضائل ورذائل، وفي الفضائل صحة القلب واستقامته، وفي الرذائل سقمه ومرضه، والرذيلة داء يقال: شفيت صدري بكذا إذا ذهب به ما في صدره من ضيق وحرج، ويقال: شفيت قلبى، فشفاء الصدور وشفاء ما في الصدور كناية عن ذهاب ما فيها من الصفات الروحية الخبيثة التى تجلب إلى الانسان الشقاء وتنغص عيشته السعيدة وتحرمه خير الدنيا والاخرة.
والهدى هي الدلالة على المطلوب بلطف على ما ذكره الراغب، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) الانعام: 125 في الجزء السابع من الكتاب بحث فيها.
والرحمة تأثر خاص في القلب عن مشاهدة ضر أو نقص في الغير يبعث الراحم إلى جبر كسره وإتمام نقصه، وإذا نسبت إليه تعالى كان بمعنى النتيجة دون أصل التأثر لتنزهه تعالى عن ذلك فينطبق على مطلق عطيته تعالى وإفاضته الوجود على خلقه.
وعطيته إذا نسبت إلى مطلق خلقه كانت هي ما ينسب إليه تعالى من وجودهم وبقائهم ورزقهم الذى يمد به بقاؤهم وسائر ما ينعم به عليهم من نعمه التى لا تحصى كثرة وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، وإذا نسبت إلى المؤمنين خاصة كانت هي ما يختص بهم من سعادة الحياة الانسانية بمظاهرها المختلفة التى ينعم الله بها عليهم من المعارف الحقة الالهية والاخلاق الكريمة والاعمال الصالحة، والحياة الطيبة في الدنيا والاخرة والجنة والرضوان.
ومن ثم إذا وصف القرآن بأنه رحمة للمؤمنين كان معناه أنه يغشى المؤمنين
/ صفحة 81 /
أنواع الخيرات والبركات التى كنزها الله فيه لمن تحقق بحقائقها وتلبس بمعانيها، قال تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) أسرى: 82.
وإذا أخذت هذه النعوت الاربعة التى عدها الله سبحانه للقرآن في هذه الاية أعنى أنه موعظة وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة، وقيس بعضها إلى بعض ثم اعتبرت مع القرآن كانت الاية بيانا جامعا لعامة أثره الطيب الجميل وعلمه الزاكى الطاهر الذى يرسمه في نفوس المؤمنين منذ أول ما يقرع أسماعهم إلى آخر ما يتمكن من نفوسهم ويستقر في قلوبهم.
فإنه يدركهم أول ما يدركهم وقد غشيهم يم الغفلة وأحاطت بهم لجة الحيرة فأظلمت باطنهم بظلمات الشك والريب، وأمرضت قلوبهم بأدواء الرذائل وكل صفة أو حالة ردية خبيثة فيعظهم موعظة حسنة ينبههم بها عن رقدة الغفلة، ويزجرهم عما بهم من سوء السريرة والاعمال السيئة، ويبعثهم نحو الخير والسعادة.
ثم يأخذ في تطهير سرهم عن خبائث الصفات، ولا يزال يزيل آفات العقول وأمراض القلوب واحدا بعد آخر حتى يأتي على آخرها.
ثم يدلهم على المعارف الحقة والاخلاق الكريمة والاعمال الصالحة دلالة بلطف برفعهم درجة بعد درجة، وتقريبهم منزلة فمنزلة حتى يستقروا في مستقر المقربين، ويفوزوا فوز المخلصين.
ثم يلبسهم لباس الرحمة وينزلهم دار الكرامة ويقرهم على أريكة السعادة حتى يلحقهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ويدخلهم في زمرة عباده المقربين في أعلى عليين.
فالقرآن واعظ شاف لما في الصدور هاد إلى مستقيم الصراط مفيض للرحمة بإذن الله سبحانه، وإنما يعظ بما فيه ويشفى الصدور ويهدى ويبسط الرحمة بنفسه لا بأمر آخر فإنه السبب الموصول بين الله وبين خلقه فهو موعظة وشفاء لما في
/ صفحة 82 /
الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
فافهم ذلك.
وقد افتتح سبحانه الاية بقوله: (يا أيها الناس) وهو خطاب لعامة الناس دون المشركين أو مشركي مكة خاصة وإن كانت الاية واقعة في سياق الكلام معهم وذلك لان النعوت المذكورة فيها بقوله: (قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) تتعلق بعامتهم دون قبيل خاص منهم.
ومن غريب التفسير قول بعضهم: إن المراد بالرحمة ما يتصف به المؤمنون من الرحمة والرأفة فيما بينهم وهو خطأ يدفعه السياق البتة.
قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) الفضل هو الزيادة، وتسمى العطية فضلا لان المعطى إنما يعطى غالبا ما لا يحتاج إليه من المال ففى تسمية ما يفيضه الله على عباده فضلا إشارة إلى غناه تعالى وعدم حاجته في إفاضته إلى ما يفيضه ولا إلى من يفيض عليه.
وليس من البعيد أن يكون المراد بالفضل ما يبسطه الله من عطائه على عامة خلقه، وبالرحمة خصوص ما يفيضه على المؤمنين فإن رحمة السعادة الدينية إذا انضمت إلى النعمة العامة من حياة ورزق وسائر البركات العامة كان المجموع منهما أحق بالفرح والسرور وأحرى بالانبساط والابتهاج.
ومن الممكن أن يتأيد ذلك بقوله: (بفضل الله وبرحمته) حيث أدخلت باء السببية على كل من الفضل والرحمة، وهو مشعر بكون كل واحد منهما سببا مستقلا وإن جمع بينهما ثانيا بقوله: (فبذلك فليفرحوا) للدلالة على استحقاق مجموعهما لان ينحصر فيه الفرح.
ويمكن ان يكون المراد بالفضل غير الرحمة من الامور المذكورة في الاية السابقة اعني الموعظة وشفاء ما في الصدر والهدى، والمراد بالرحمة: الرحمة بمعناها المذكور في الاية السابقة وهى العطية الخاصة الالهية التى هي سعادة الحياة في الدنيا والاخرة.
والمعنى على هذا: ان ما تفضل الله به عليهم من الموعظة وشفاء ما في الصدور
/ صفحة 83 /
والهدى، وما رحم المؤمنين به من الحياة الطيبة ذلك احق ان يفرحوا به دون ما يجمعونه من المال.
وربما تأيد هذا الوجه بقوله سبحانه: (ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من احد ابدا ولكن الله يزكى من يشاء) النور: 21 حيث نسب زكاتهم إلى الفضل والرحمة معا واستناد الزكاة إلى الفضل بمعنى العطية العامة بعيد عن الفهم، ومما يؤيد هذا الوجه ملائمته لما ورد في الرواية من تفسير الاية بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى (عليه السلام) أو بالقرآن والاختصاص به وسيجئ ان شاء الله.
وقوله: (فبذلك فليفرحوا) ذكروا ان الفاء في قوله: (فليفرحوا) زائدة كقول الشاعر: (فإذا قتلت فعند ذلك فاجزعى) والظرف اعني قوله: (فبذلك) بدل من قوله: (بفضل الله وبرحمته) ومتعلق بقوله: (فليفرحوا) قدم عليه لافادة الحصر، وقوله: (هو خير مما يجمعون) بيان ثان لمعنى الحصر.
فظهر بذلك كله ان الاية تفريع على مضمون الاية السابقة فانه تعالى لما خاطب الناس امتنانا عليهم بأن هذا القرآن موعظة لهم وشفاء لما في صدورهم وهدى ورحمة للمؤمنين منهم فرع عليه انه ينبغى لهم حينئذ ان يفرحوا بهذا الذى امتن به عليهم من الفضل والرحمة لا بالمال الذى يجمعونه فان ذلك - وفيه سعادتهم وما تتوقف عليه سعادتهم - خير من المال الذى ليس إلا فتنة ربما اهلكتهم واشقتهم.
قوله تعالى: (قل أرأيتم ما انزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) إلى آخر الاية.
نسبة الرزق وهو ما يمد الانسان في بقائه من الامور الارضية من مأكول ومشروب وملبوس وغيرها إلى الانزال مبنى على حقيقة يفيدها القرآن وهى ان الاشياء لها خزائن عند الله تتنزل من هناك على حسب ما قدرها الله سبحانه، قال تعالى: (وان من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر: 21 وقال تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) الذاريات: 22 وقال: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية ازواج) الزمر: 6 وقال: (وانزلنا الحديد) الحديد: 25.
واما ما قيل: ان التعبير بالانزال انما هو لكون ارزاق العباد من المطر الذى
/ صفحة 84 /
ينزله الله من السماء، فوجه بسيط لا يطرد على تقدير صحته في جميع الموارد التى عبر فيها عن كينونتها بالانزال كما في الانعام وفي الحديد، والرزق الذى تذكر الاية ان الله انزله لهم فجعلوا منه حراما وحلالا هو الانعام من الابل والغنم كالوصيلة والسائبة والحام وغيرها.
واللام في قوله: (لكم) للغاية وتفيد معنى النفع أي انزل الله لاجلكم ولتنتفعوا به، وليست للتعدية فان الانزال انما يتعدى بعلى أو إلى، ومن هنا افاد الكلام معنى الاباحة والحل أي انزلها الله فأحلها، وهذا هو النكتة في تقديم التحريم على الاحلال في قوله: (فجعلتم منه حراما وحلالا) أي كان الله احله لكم بانزاله رزقا لكم تنتفعون به في حياتكم وبقائكم ولكنكم قسمتموه قسمين من عند انفسكم فحرمتم قسما وأحللتم آخر فالمعنى: قل لهم يا محمد: اخبروني عما انزل الله لكم ولاجلكم من الرزق الحلال فقسمتموه قسمين وجعلتم بعضه حراما وبعضه حلالا ما هو السبب في ذلك؟ ومن البين انه افتراء على الله لا عن إذن منه تعالى.
وقوله: (قل آلله اذن لكم ام على الله تفترون) سؤال عن سبب تقسيمهم الرزق إلى حرام وحلال، واذ كان من البين انه ليس ذلك عن اذن منه تعالى لعدم اتصالهم بربهم بوحى أو رسول كان من المتعين انه افتراء فالاستفهام في سياق الترديد كناية عن اثبات الافتراء لهم وتوبيخ وذم.
والذى يقضى به النظر الابتدائي ان الترديد في الاية غير حاصر إذ كما يجوز ان يكون تقسيمهم رزق الله إلى حرام وحلال عن اذن من الله أو افتراء عليه تعالى كذلك يجوز ان يكون عن مصلحة احرزوها أو زعموها في ذلك أو عن هوى لهم فيه من غير أن ينسبوه إلى الله تعالى فيكون افتراء عليه.
ومن وجه آخر الترديد في الاية بين إذن الله والافتراء على الله يشعر بأن الحكم إنما هو لله فالحكم بكون بعض الرزق حراما وبعضه حلالا وهو دائر بينهم إما أن يكون من الله أو افتراء عليه، ومن الممكن أن يمنع ذلك في بادئ النظر فكثير من السنن الدائرة بين الناس كونتها طبيعة مجتمعهم أو عادتهم القومية وغير ذلك.
/ صفحة 85 /
لكن التدبر في كلامه تعالى والبحث العميق يدفع ذلك فإن القرآن يرى أن الحكم يختص بالله تعالى، وليس لاحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم ووضعه في المجتمع الانساني، قال تعالى: (إن الحكم الا لله) يوسف: 40.
وقد أشار تعالى إلى لم ذلك في قوله: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) الروم: 30 فتبين به أن معنى كون الحكم لله كونه معتمدا على الخلقة والفطرة منطبقا عليها غير مخالف لما ينطق به الكون والوجود.
وذلك أن الله سبحانه لم يخلق الخلق عبثا كما قال: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا) المؤمنون: 115 بل خلقهم لاغراض إلهية وغايات كمالية يتوجهون إليها بحسب جبلتهم ويسيرون نحوها بفطرتهم بما جهزهم به من الاسباب والادوات وهداهم إليه من السبيل الميسر لهم كما قال: (أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقال: (ثم السبيل يسره) عبس: 20.
فوجود الاشياء في بدء خلقها مناسب لما هيئ لها من منزلة الكمال مجهز بقوى وأدوات يتوسل بها إلى غايتها، ولا يسير شئ منها إلى كماله المهيأ له إلا من طريق الصفات الاكتسابية والاعمال، فمن الواجب بالنظر إلى ذلك أن يكون الدين أعنى القوانين الجارية في الصفات والاعمال الاكتسابية منطبقا على الخلقة والفطرة فإن الفطرة لا تنسى غايتها ولا تتخطاها، ولا تبعث نحو فعل ولا تزجر عن فعل إلا لدعوة ما جهزت به إليه، ولا يدعو الجهاز إلا لاجل ما جهز لاجله وهو الغاية.
فالانسان لما كان مجهزا بجهاز التغذية والنكاح كان حكمه الحقيقي في دين الفطرة هو التغذى والنكاح دون الجوكية والرهبانية مثلا، ولما كان مطبوعا على الاجتماع والتعاون كان من حكمه أن يشارك سائر الناس في مجتمعهم ويقوم بالاعمال الاجتماعية، وعلى هذا القياس.
فالذي يتعين للانسان من الاحكام والسنن هو الذى يدعوه إليه الكون العالمي الذى هو جزء حقير منه، وقد جهز وجوده بما يسوقه إليه من مرحلة الكمال، فهذا
/ صفحة 86 /
الكون العام المرتبط بعض أجزائه ببعض، وهو مركب إرادة الله تعالى هو الحامل للشريعة الفطرية الانسانية، والداعى إلى دين الله الحنيف.
فالدين الحق هو حكم الله سبحانه لا حكم إلا له، وهو المنطبق على الخلقة الالهية، وما وراءه من حكم هو باطل لا يسوق الانسان إلا إلى الشقاء والهلاك ولا يهديه إلا إلى عذاب السعير.
ومن هنا ينحل ما تقدم من العقدتين فإن الحكم لما كان لله سبحانه وحده كان كل حكم دائر بين الناس إما حكما لله حقيقة مأخوذا من لدنه بوحى أو رسالة أو حكما مفترى على الله، ولا ثالث للقسمين.
على أن المشركين كانوا ينسبون أمثال هذه الاحكام التى ابتدعوها واستنوا بها فيما بينهم إلى الله سبحانه كما يشير إليه قوله تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) الاية الاعراف: 28.
قوله تعالى: (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) إلى آخر الاية، لما كان جواب الاستفهام المتقدم: (آلله أذن لكم أم على الله تفترون) معلوما من المورد، وهو أنه افتراء، استعظم وخامة عاقبته فإنه افتراء على الله سبحانه والافتراء من الاثام والذنوب بحكم البداهة فلا محاله له أثر سئ، ولذلك قال تعالى إيعادا وتهديدا: (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة).
وأما قوله: (إن الله لذو فضل على الناس ولكن اكثرهم لا يشكرون) فهو شكوى وعتبى يشار به إلى ما اعتاد عليه الناس من كفران اكثرهم لنعمة الله، وعدم شكرهم قبال عطيته ونعمته، والمراد بالفضل ههنا هو العطية الالهية فإن الكلام في الرزق الذى أنزله الله لهم وهو الفضل، وتحريمهم بعضه وهو الكفران وعدم الشكر.
وبرجوع ذيل الاية إلى صدرها يكون الافتراء على الله من مصاديق كفران نعمته، والمعنى أن الله ذو فضل وعطاء على الناس ولكن اكثرهم كافرون لنعمته وفضله فما ظن الذين يكفرون بنعمة الله ورزقه بتحريمه افتراء على الله الكذب يوم القيامة.
/ صفحة 87 /
قوله تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) إلى آخر الاية، قال الراغب: الشأن الحال والامر الذى يتفق ويصلح، ولا يقال إلا فيما يعظم من الاحوال والامور قال: (كل يوم هو في شأن).
انتهى.
وقوله: (وما تتلوا منه من قرآن) الظاهر أن الضمير إلى الله سبحان ومن الاولى للابتداء والنشوء والثانية للبيان، والمعنى: ولا تتلو شيئا هو القرآن ناشئا ونازلا من قبله تعالى، والافاضة في الفعل الخوض فيه جمعا.
وقد وقع في قوله: (إلا كنا عليكم شهودا) التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، والنكتة فيه الاشارة إلى كثرة الشهود فإن لله شهودا على أعمال الناس من الملائكة والناس والله من ورائهم محيط، والعظماء يتكلمون عنهم وعن غيرهم للدلالة على أن لهم أعوانا وخدمة.
وليس ينبغى أن يغفل عن أن اصل الالتفات يبدأ من اول الايه فإن الايات السابقة كانت تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأخذ المشركين على الغيبة وتكلمهم بوساطته من غير أن تواجهه بشئ من الخطاب يخص نفسه، وقد حولت هذه الاية وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يخص به نفسه فقالت: (وما تكون من شأن وما تتلوا منه من قرآن) ثم جمعته والمشركين وغيرهم جميعا في خطاب واحد فقالت: (ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا) وذلك بضمهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم على غيبتهم وبسط الخطاب على الجميع بنوع من التغليب كما تقول لمخاطبك: أنت وقومك تفعلون كذا وكذا.
والدليل على أن هذا الخطاب بنحو الضم والتغليب قوله بعده: (وما يعزب عن ربك) الخ، فإنه يكشف عن كون الخطاب معه (صلى الله عليه وآله وسلم) جاريا على ما كان.
وعلى أي حال فالتحول المذكور في خطاب الاية للاشارة إلى أن السلطنة والاحاطة التامة الالهية واقعة على الاعمال شهادة وعلما على أتم ما يكون من كل جهة من غير أن يستثنى منه نبى ولا مؤمن ولا مشرك أو يغفل عن عمل من الاعمال فلا يتوهمن احد أن الله يخفى عليه شئ من أمره فلا يحاسبه عليه يوم القيامة،
/ صفحة 88 /
وليكن هذا هو ظنه بربه يوم القيامة وليأخذ حذره.
وذكر تلاوة القرآن مستقلا مع دخوله في قوله قبلا: (وما تكون في شأن) فإنه احد شؤنه (صلى الله عليه وآله وسلم) للايماء إلى أهمية أمرها ومزيد العناية بها.
وفي الاية اولا تشديد في العظة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى أمته، وثانيا: أن الذى يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من القرآن للناس من وحى الله وكلامه لا يطرقه تغيير ولا يدب فيه باطل لا في تلقيه من الله ولا في تلاوته للناس فالاية قريبة المضمون من قوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم ان قد أبلغوا رسالات ربهم) الجن: 28.
وقوله: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة) إلى آخر الاية العزوب الغيبة والتباعد والخفاء، وفيه إشارة إلى حضور الاشياء عنده تعالى من غير غيبة وحفظه لها في كتاب من غير زوال، وقد تقدم بعض ما يتعلق به من الكلام في ذيل قوله: (وعنده مفاتح الغيب) الانعام: 59 في الجزء السابع من الكتاب.
قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) استئناف في الكلام غير أنه متعلق بغرض السورة وهو الدعوة إلى الايمان بكتاب الله والندب إلى توحيد الله تعالى بمعناه الوسيع.
وللدلالة على أهمية المطلب افتتح بلفظة (ألا) التنبيهية، والله سبحانه يذكر في هذه الاية والايتين بعدها أولياءه ويعرفهم ويصف آثار ولايتهم وما يختصون به من الخصيصة.
والولاية وإن ذكروا لها معاني كثيرة لكن الاصل في معناها ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئين بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما، ثم استعيرت لقرب الشئ من الشئ بوجه من وجوه القرب كالقرب نسبا أو مكانا أو منزلة أو بصداقة أو غير ذلك ولذلك يطلق الولى على كل من طرفي الولاية، وخاصة بالنظر إلى أن كلا منهما يلى من الاخر ما لا يليه غيره فالله سبحانه ولى عبده المؤمن لانه يلى أمره ويدبر شأنه فيهديه إلى صراطه المستقيم ويأمره وينهاه فيما ينبغى له أو لا ينبغى وينصره في الحياة الدنيا وفي الاخرة.
/ صفحة 89 /
والمؤمن حقا ولى ربه لانه يلى منه إطاعته في أمره ونهيه ويلى منه عامة البركات المعنوية من هداية وتوفيق وتأييد وتسديد وما يعقبها من الاكرام بالجنة والرضوان.
فأولياء الله - على أي حال - هم المؤمنون فان الله يعد نفسه وليا لهم في حياتهم المعنوية حيث يقول: (والله ولى المؤمنين) آل عمران: 68.
غير أن الاية التالية لهذه الاية المفسرة للكلمة تأبى أن تكون الولاية شاملة لجميع المؤمنين وفيهم أمثال الذين يقول الله سبحانه فيهم: (وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106 فإن قوله في الاية التالية: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) يعرفهم بالايمان والتقوى مع الدلالة على كونهم على تقوى مستمر سابق على إيمانهم من حيث الزمان حيث قيل: (آمنوا) ثم قيل عطفا عليه: (وكانوا يتقون) فدل على أنهم كانوا يستمرون على التقوى قبل تحقق هذا الايمان منهم ومن المعلوم أن الايمان الابتدائي غير مسبوق بالتقوى بل هما متقاربان أو هو قبل التقوى وخاصة التقوى المستمر.
فالمراد بهذه الايمان مرتبة أخرى من مراتب الايمان غير المرتبة الاولى منه.
فقد تقدم في الجزء الاول من الكتاب آية 130 من البقرة أن لكل من الايمان والاسلام وكذا الشرك والكفر مراتب مختلفة بعضها فوق بعض فالمرتبة الاولى من الاسلام إجراء الشهادتين لسانا والتسليم ظاهرا، وتليه المرتبة الاولى من الايمان وهو الاذعان بمؤدى الشهادتين قلبا إجمالا وإن لم يسر إلى جميع ما يعتقد في الدين من الاعتقاد الحق، ولذا كان من الجائز أن يجتمع مع الشرك من بعض الجهات، قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف: 106.
ولا يزال إسلام العبد يصفو وينمو حتى يستوعب تسليمه لله سبحانه في كل ما يرجع إليه واليه مصير كل أمر، وكلما ارتفع الاسلام درجة ورقى مرتبة كان الايمان المناسب له الاذعان بلوازم تلك المرتبة حتى يسلم العبد لربه حقيقة معنى ألوهيتة، وينقطع عنه السخط والاعتراض فلا يسخط لشئ من أمره من قضاء وقدر وحكم، ولا يعترض على شئ من إرادته، وبإزاء ذلك الايمان باليقين بالله وجميع
/ صفحة 90 /
ما يرجع إليه من أمر، وهو الايمان الكامل الذى تتم به للعبد عبوديته.
قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء: 65، والاشبه أن تكون هذه المرتبة من الايمان أو ما يقرب منه هو المراد بالاية أعنى قوله: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) فإنه الايمان المسبوق بتقوى مستمر دون الايمان بمرتبته الاولى كما تقدم.
على أن توصيفه أهل هذا الايمان بأنهم (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يدل على أن المراد منه الدرجة العالية من الايمان الذى يتم معه معنى العبودية والمملوكية المحضة للعبد الذى يرى معه أن الملك لله وحده لا شريك له، وأن ليس إليه من الامر شئ حتى يخاف فوته أو يحزن لفقده.
وذلك أن الخوف إنما يعرض للنفس عن توقع ضرر يعود إليها، والحزن إنما يطرء عليها لفقد ما تحبه أو تحقق ما تكرهه مميعود إليها نفعه أو ضرره، ولا يستقيم تحقق ذلك إلا فيما يرى الانسان لنفسه ملكا أو حقا متعلقا بما يخاف عليه أو يحزن لفقده من ولد أو مال أو جاه أو غير ذلك.
وأما ما لا علقه للانسان به بوجه من الوجوه اصلا فلا يخاف الانسان عليه ولا يحزن لفقده البتة.
والذى يرى كل شئ ملكا طلقا لله سبحانه لا يشاركه في ملكه احد لا يرى لنفسه ملكا أو حقا بالنسبة إلى شئ حتى يخاف في امره أو يحزن، وهذا هو الذى يصفه الله من اوليائه إذ يقول: (الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فهؤلاء لا يخافون شيئا ولا يحزنون لشئ لا في الدنيا ولا في الاخرة إلا ان يشاء الله وقد شاء ان يخافوا من ربهم وان يحزنوا لما فاتهم من كرامته ان فاتهم وهذا كله من التسليم لله فافهم ذلك.
فاطلاق الاية يفيد اتصافهم بهذين الوصفين: عدم الخوف وعدم الحزن في النشأتين الدنيا والاخرة، واما مثل قوله تعالى: (إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) الزخرف: 70 فان ظاهر الايات وان كان هو انها تريد الاولياء بالمعنى الذى تصفه الاية التى نحن فيها إلا ان اثبات عدم الخوف والحزن لهم يوم القيامة لا ينفى ذلك عنهم في غيره.
نعم
/ صفحة 91 /
هناك فرق من جهة اخرى وهو خلوص النعمة والكرامة وبلوغ صفائها يوم القيامة وكونها مشوبة غير خالصة في غيره.
ونظيرها قوله تعالى: (ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التى كنتم توعدون نحن اولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الاخرة) فصلت: 31 فان الايات وان كانت ظاهرة في كون هذا التنزل والقول والبشارة يوم الموت لمكان قوله: (كنتم توعدون) وقوله: (ابشروا) غير ان الاثبات في وقت لا يكفى للنفي في وقت آخر كما عرفت.
هذا ما يدل عليه الاية بحسب إطلاق لفظها وتأييد سائر الايات لها، وقد قيد اكثر المفسرين قوله: (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) - بالاستناد إلى آيات الاخرة - بيوم الموت والقيامة، واهملوا ما تفيده خصوصية اللفظ في قوله: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) وأخذوا الايمان والتقوى امرين متقارنين فرجع المعنى إلى ان أولياء الله هم المتقون من اهل الايمان ولا خوف عليهم في الاخرة ولا هم يحزنون وهذا - كما عرفت - من التقييد من غير مقيد.
وعمم بعضهم نفى الخوف والحزن فذكر انهم متصفون به في الدنيا والاخرة غير انه أفسد المعنى من جهة اخرى فقال: ان المراد بالاولياء على ما تفسرهم به الاية الثانية جميع المتقين من المؤمنين، والمراد بعدم خوفهم وحزنهم انهم لا يخافون في الاخرة مما يخاف منه الكافرون والفاسقون والظالمون من اهوال الموقف وعذاب الموقف وعذاب الاخرة ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم وأنهم لا يخافون في الدنيا كخوف الكفار ولا يحزنون كحزنهم.
قال: واما اصل الخوف والحزن فهو من الاعراض البشرية التى لا يسلم منها احد في الدنيا، وانما يكون المؤمنون الصالحون اصبر الناس وأرضاهم بسنن الله اعتقادا وعلما بأنه إذا ابتلاهم بشئ مما يخيف أو يحزن فانما يربيهم بذلك لتكميل نفوسهم وتمحيصها بالجهاد في سبيله الذى يزداد به أجرهم كما صرحت بذلك الايات الكثيرة.
انتهى.
اما تقييده الاية بأن المنفى عن الاولياء هو الخوف والحزن اللذين يعرضان
/ صفحة 92 /
للكفار دون ما يعرض لعامة المؤمنين بحسب الطبع البشرى واستناده في ذلك إلى الايات الكثيرة فهو من التقييد من غير مقيد، وأما قوله: إن اصل الخوف والحزن ما لا يسلم منه احد أصلا فهو من عدم تحصيل المراد بالكلام لعدم تعمقه في البحث عن الاخلاق العالية والمقامات المعنوية الانسانية فحمله ذلك على ان يقيس حال المكرمين من عباد الله المقربين من الانبياء والاولياء إلى ما يجده من حال المتوسطين من عامة الناس فزعم ان ما يغشى العامة من الاعراض التى سماها أحوالا طبيعية يغشى الخاصة لا محالة، وان ما يتعذر أو يتعسر على المتوسطين من الاحوال فهو كذلك عند الكاملين، ولا يبقى حينئذ للمقامات المعنوية والدرجات الحقيقية إلا انها اسماء ليس وراءها حقيقة، واعتبارات وضعية اصطلح عليها نظير المقامات الوهمية والدرجات الرسمية الاجتماعية التى نتداولها في مجتمعاتنا لمصلحة الاجتماع.
فلا وفى حق البحث العلمي حتى يهديه إلى حق النتيجة فيتبين ان التوحيد الكامل يقصر حقيقة الملك في الله سبحانه فلا يبقى لغيره شئ من الاستقلال في التأثير حتى يتعلق به لنفسه حب أو بغض أو خوف أو حزن ولا فرح ولا أسى ولا غير ذلك، وإنما يخاف هذا الذى غشيه التوحيد ويحزن أو يحب أو يكره بالله سبحانه، ويرتفع التناقض حينئذ بين قولنا: إنه لا يخاف شيئا إلا الله وبين قولنا: إنه يخاف كثيرا مما يضره ويحذر أمورا يكرهها فافهم ذلك.
ولا البحث القرآني اتقن واستفرغ فيه الوسع حتى يظهر له ان قوله تعالى: (ألا إن اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أطلق فيه نفى الخوف والحزن من غير تقييد بشئ أو حال إلا ما صرح به آيات من وجوب مخافة الله فهؤلاء لا يخافون من شئ في دنيا ولا آخرة إلا من الله سبحانه ولا يحزنون.
وأما الايات الكثيرة التى تصف المؤمنين بعدم الخوف والحزن عند الموت أو يوم القيامة فهى إنما تصف أحوالهم في ظرف ولا يستوجب نفى شئ أو إثباته في مورد خلافه في غيره وهو ظاهر.
والاية مع ذلك تدل على ان هذا الوصف إنما هو لطائفة خاصة من المؤمنين
/ صفحة 93 /
يمتازون عن غيرهم بمرتبة خاصة من الايمان تخصهم دون غيرهم من عامة المؤمنين وذلك بما يفسرها من قوله: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) بما تقدم من تقرير دلالته.
وبالجملة ارتفاع الخوف من غير الله والحزن عن الاولياء ليس معناه أن الخير والشر والنفع والضرر والنجاة والهلاك والراحة والعناء واللذة والالم والنعمة والبلاء متساوية عندهم ومتشابهة في إدراكهم فإن العقل الانساني بل الشعور العام الحيوانى لا يقبل ذلك.
بل معناه أنهم لا يرون لغيره تعالى استقلالا في التأثير أصلا، ويقصرون الملك والحكم فيه تعالى فلا يخافون إلا إياه أو ما يحب الله ويريد أن يحذروا منه أو يحزنوا عليه.
قوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) يبشرهم الله تعالى بشارة إجمالية بماتقر به أعينهم فإن كان قوله: (لهم البشرى) إنشاء للبشارة كان معناه وقوع ما بشر به في الدنيا وفي الاخرة كلتيهما، وإن كان اخبارا بأن الله سيبشرهم بشرى كانت البشارة واقعة في الدنيا وفي الاخرة، وأما المبشر به فهل يقع في الاخرة فقط أو في الدنيا والاخرة معا؟ الاية ساكتة عن ذلك.
وقد وقع في كلامه تعالى بشارات للمؤمنين بما ينطبق على أوليائه تعالى كقوله تعالى: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) الروم: 47 وقوله: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد) المؤمن: 51 وقوله: (بشراكم اليوم جنات تجرى من تحتها الانهار) الحديد: 12 إلى غير ذلك.
وقوله: (لا تبديل لكلمات الله) إشارة إلى ان ذلك من القضاء المحتوم الذى لا سبيل للتبدل إليه، وفيه تطييب لنفوسهم.
قوله تعالى: (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم) تأديب للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعزيته وتسليته فيما كانوا يؤذونه به بالوقوع في ربه والطعن في دينه والاعتزاز بشركائهم وآلهتهم كما يشعر به القول في الاية التالية فكاد يحزن لله فسلاه
/ صفحة 94 /
الله وطيب نفسه بتذكيره ما يسكن وجده وهو أن العزة لله وأنه سميع لمقالهم عليهم بحاله وحالهم وإذ كان له تعالى كل العزة فلا يعبأ بما اعتزوا به من العزة الوهمية فهذوا ما هذوا، وإذ كان سميعا عليما فلو شاء لاخذهم بالنكال وإذ كان لا يأخذهم فإنما في ذلك مصلحة الدعوة وخير العاقبة.
ومن هنا يظهر ان كلا من قوله: (إن العزة لله) وقوله: (هو السميع العليم) علة مستقلة للنهى ولذا جئ بالفصل من غير عطف.
قوله تعالى: (ألا إن لله من في السماوات ومن في الارض) إلى آخر الاية فيه بيان مالكيته تعالى لكل من في السماوات والارض التى بها يتم للاله معنى الربوبية فإن الرب هو المالك المدبر لامر مملوكه، وهذا الملك لله وحده لا شريك له فما يدعون له من الشركاء ليس لهم من معنى الشركة إلا ما في ظن الداعين وفي خرصهم من المفهوم الذى لا مصداق له.
فالاية تقيس شركاءهم إليه تعالى وتحكم ان نسبتهم إليه تعالى نسبة الظن والخرص إلى الحقيقة والحق، والباقى ظاهر.
وقد قيل: (من في السماوات ومن في الارض) ولم يقل: ما في السماوات وما في الارض لان الكلام في ربوبيه العباد من ذوى الشعور والعقل وهم الملائكة والثقلان.
قوله تعالى: (هو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا) الاية.
الاية تتمم البيان الذى أورد في الاية السابقة لاثبات ربوبيته تعالى والربوبية - كما تعلم - هي الملك والتدبير، وقد ذكر ملكه تعالى في الاية السابقة، فبذكر تدبير من تدابيره العامة في هذه الاية تصلح به عامة معيشة الناس وتستبقى به حياتهم يتم له معنى الربوبية.
وللاشارة إلى هذا التدبير ذكر مع الليل سكنهم فيه، ومع النهار إبصارهم فيه الباعث لهم إلى انواع الحركات والتنقلات لكسب مواد الحياة واصلاح شؤون المعاش فليس يتم أمر الحياة الانسانية بالحركة فقط أو بالسكون فقط فدبر الله
/ صفحة 95 /
سبحانه الامر في ذلك بظلمة الليل الداعية إلى تجديد تجهيز القوى بعد ما لحقها من العى والتعب والنصب وإلى الارتياح والانس بالاهل والتمتع مما جمع واكتسب بالنهار والفراغ للعبودية، وبضوء النهار الباعث إلى الرؤية فالاشتياق فالطلب.
قوله تعالى: (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغنى له ما في السماوات وما في الارض) إلى آخر الاية.
الاستيلاد بمعناه المعروف عند الناس هو ان يفصل الموجود الحى بعض اجزاء مادته فيربيه بالحمل أو البيض تربية تدريجية حتى يتكون فردا مثله، والانسان من بينها خاصة ربما يطلب الولد ليكون عونا له على نوائب الدهر وذخرا ليوم الفاقة، وهذا المعنى بجميع جهاته محال عليه تعالى فهو عز اسمه منزه عن الاجزاء متعال عن التدريج في فعله برئ عن المثل والشبه مستغن عن غيره بذاته.
وقد نفى القرآن الولد عنه بالاحتجاج عليه من كل من الجهات المذكورة كما تعرض لنفيه من جميعها في قوله: (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والارض كل له قانتون بديع السماوات والارض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) البقرة: 117 وقد مرت الاشارة إلى ذلك في تفسير الايات في الجزء الاول من الكتاب.
واما الاية التى نحن فيها فهى مسوقة للاحتجاج على نفى الولد من الجهة الاخيرة فحسب وهو ان الغرض من وجوده الاستعانة به عند الحاجة وذلك انما يتصور فيمن كان بحسب طبعه محتاجا فقيرا، والله سبحانه هو الغنى الذى لا يخالطه فقر فانه المالك لما فرض في السماوات والارض من شئ.
وقوله: (ان عندكم من سلطان) أي برهان (بهذا) اثبات لكونهم انما قالوه جهلا من غير دليل فيكون محصل المعنى انه لا دليل لكم على ما قلتموه بل الدليل على خلافه وهو انه تعالى غنى على الاطلاق، والولد انما يطلبه من به فاقة وحاجة، والكلام على ما اصطلح عليه في فن المناظرة من قبيل المنع مع السند.
وقوله: (أتقولون على الله ما لا تعلمون) توبيخ لهم في قولهم ما ليس لهم به
/ صفحة 96 /
علم، وهو مما يستقبحه العقل الانساني ولا سيما في ما يرجع إلى رب العالمين عز اسمه.
قوله تعالى: (قل ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) تخويف وانذار بشؤم العاقبة، وفي الايتين من لطيف الالتفات ما هو ظاهر فقد حكى الله اولا عنهم من طريق الغيبة قولهم: (اتخذ الله ولدا) ثم خاطبهم خطاب الساخط الغضبان مما نسبوا إليه وافتروا عليه فقال: (ان عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون) وانما خاطبهم متنكرا من غير ان يعرفهم نفسه حيث قال: (على الله) ولم يقل: على أو علينا صونا لعظمة مقامه ان يخالطهم معروفا ثم اعرض عنهم تنزها عن ساحة جهلهم ورجع إلى خطاب رسوله قائلا: (قل ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) لانه إنذار والانذار شأنه.
قوله تعالى: (متاع في الدنيا ثم الينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) خطاب للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه بيان وجه عدم فلاحهم بأنه كفر بالله ليس بحذائه إلا متاع قليل في الدنيا ثم الرجوع إلى الله والعذاب الشديد الذى يذوقونه.
(بحث روائي) في أمالى الشيخ قال: اخبرنا أبو عمرو قال: اخبرنا احمد قال: حدثنا يعقوب ابن يوسف بن زياد قال: حدثنا نصر بن مزاحم قال: حدثنا محمد بن مروان عن الكلبى عن ابى صالح عن ابن عباس قال: (بفضل الله وبرحمته) بفضل الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبرحمته على (عليه السلام).
أقول: ورواه الطبرسي وابن الفارسى عنه مرسلا، ورواه أيضا في الدر المنثورعن الخطيب وابن عساكر عنه.
وفي المجمع قال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): فضل الله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورحمته على بن ابى طالب (عليه السلام).
إقول: وذلك ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نعمة أنعم الله بها على العالمين بما جاء به من
/ صفحة 97 /
الرسالة ومواد الهداية، وعلى (عليه السلام) هو أول فاتح لباب الولاية وفعلية التحقق بنعمة الهداية فهو الرحمد فينطبق الخبر على ما قدمناه في تفسير الاية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي عن ابن عباس: (قل بفضل الله) القرآن و (برحمته) حين جعلهم من أهل القرآن.
أقول: أي الفضل مواد المعارف والاحكام التى فيه، والرحمة فعلية تحقق ذلك في العاملين به فيرجع إلى ما قدمناه في تفسير الاية فتبصر، ولا مخالفة بين هذه الرواية والرواية السابقة حينئذ بحسب الحقيقة.
وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (وما تكون في شأن) الاية قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قرأ هذه الاية بكى بكاء شديدا.
أقول: ورواه في المجمع عن الصادق (عليه السلام).
وفي أمالى المفيد بإسناده عن عباية الاسدي عن ابن عباس قال: سئل أمير المؤمنين على بن أبى طالب (عليه السلام) عن قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فقيل له: من هؤلاء الاولياء؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): قوم أخلصوا لله في عبادته، ونظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها فعرفوا آجلها حين غرت الخلق سواهم بعاجلها فتركوا ما علموا أنه سيتركهم، وأماتوا منها ما علموا أنه سيميتهم.
ثم قال: أيها المطل نفسه بالدنيا الراكض على حبائلها المجتهد في عمارة ما سيخرب منها ألم تر إلى مصارع آبائك في البلاد ومصارع أبنائك تحت الجنادل والثرى؟ كم مرضت ببدنك وعللت بكفنك تستوصف لهم الاطباء، وتستغيث لهم الاحباء فلم تغن عنهم غناءك، ولا ينجع عنهم دواؤك؟ وفتفسير العياشي عن مرثد العجلى عن أبى جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب على بن الحسين (عليه السلام): (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
/ صفحة 98 /
قال: إذا أدوا فرائض الله، وأخذوا بسنن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتورعوا عن محارم الله، وزهدوا في عاجل زهرة الدنيا، ورغبوا فيما عند الله، واكتسبوا الطيب من رزق الله، ولا يريدون هذا التفاخر والتكاثر ثم أنفقوا فيما يلزمهم من حقوق واجبة فاولئك الذين بارك الله لهم فيما اكتسبوا ويثابون على ما قدموا لاخرتهم.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والحكيم والترمذي عن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنه لا يحق العبد حق صريح الايمان حتى يحب لله ويبغض لله تعالى فإذا أحب الله وأبغض الله فقد استحق الولاء من الله.
الحديث.
أقول: والروايات الثلاث في معنى الولاية يرجع بعضها إلى بعض وينطبق الجميع على ما قدمناه في تفسير الاية.
وفيه اخرج ابن المبارك وابن ابى شيبة وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) قال: يذكر الله لرؤيتهم.
أقول: ينبغى أن يحمل إلى أن من آثار ولايتهم ذلك لا أن كل من كان كذلك كان من اهل الولاية إلا أن يراد أنهم كذلك في جميع أحوالهم وأعمالهم، وفي معناها ما روى عن ابى الضحى وسعد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الاية قال: إذا رأوا ذكر الله.
وفيه أخرج ابن ابى الدنيا في ذكر الموت وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو القاسم بن منده في كتاب سؤال القبر من طريق ابى جعفر عن جابر بن عبد الله قال: أتى رجل من اهل البادية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) فهى الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه، وأما قوله: (وفي الاخرة) فإنها بشارة المؤمن عند الموت ان الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك.
أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق اهل السنة ورواها الصدوق
/ صفحة 99 /
مرسلا وقوله: (ترى للمؤمن) بصيغة المجهول أعم من أن يراها هو نفسه أو غيره وقوله: (عند الموت) قد أضيف إليه في بعض الروايات البشرى يوم القيامة بالجنة.
وفي المجمع في قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة) عن ابى جعفر (عليه السلام) في معنى البشارة في الدنيا: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له، وفي الاخرة الجنة وهى ما يبشرهم به الملائكة عند خروجهم من القبور، وفي القيامة إلى أن يدخلوا الجنة يبشرونهم حالا بعد حال.
أقول: وقال بعد ذلك: وروى ذلك في حديث مروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انتهى وروى مثله عن الصادق (عليه السلام) ورواه القمى في تفسيره مضمرا.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهراشوب عن زريق عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) قال: هو أن يبشراه بالجنة عند الموت يعنى محمدا وعليا (عليهما السلام).
وفي الكافي بإسناده عن أبان بن عثمان عن عقبة أنه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الرجل إذا وقعت نفسه في صدره رأى.
قلت: جعلت فداك وما يرى؟ قال: يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول له رسول الله.
أنا رسول الله أبشر، ثم قال: ثم يرى على بن ابى طالب (عليه السلام) فيقول: أنا على بن ابى طالب الذى كنت تحب أما لانفعنك اليوم.
قال: قلت له: أيكون أحد من الناس يرى هذا ثم يرجع إلى الدنيا؟ قال: إذا رأى هذا أبدا مات وأعظم ذلك قال: وذلك في القرآن قول الله عزوجل: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الاخرة لا تبديل لكلمات الله).
أقول: وهذا المعنى مروى عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بطرق كثيرة جدا وقوله: (وأعظم ذلك) أي عده عظيما.
وقد أخذ في الحديث قوله تعالى: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) كلاما مستقلا ففسره بما فسر، وتقدم نظيره في رواية الدر المنثورعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أن ظاهر السياق كون الاية مفسرة لقوله قبلها: (ألا إن أولياء الله) الاية وهو يؤيد ما قدمناه في بعض الابحاث
/ صفحة 100 /
السابقة أن جميع التقادير من التركيبات الممكنة في كلامه تعالى حجة يحتج بها كما في قوله: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) الانعام: 91 وقوله: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم) وقوله: (قل الله ثم ذرهم) وقوله: (قل الله).
وفي الدر المنثور أخرج ابن ابى شيبة وأحمد والترمذي وصححه وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدى ولا نبى ولكن المبشرات.
قالوا: يا رسول الله وما المبشرات قال: رؤيا المسلم وهى جزء من أجزاء النبوة.
أقول: وروى ما في معناه عن أبى قتادة وعائشة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفيه أخرج ابن أبى شيبة ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة، والرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، والرؤيا من تحزن والرؤيا مما يحدث بها الرجل نفسه.
وإذا رأى احدكم ما يكره فليقم وليتفل ولا يحدث به الناس.
الحديث.
وفيه أخرج ابن أبى شيبة عن عوف بن مالك الاشجعى قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الرؤيا على ثلاثة: تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم ومنه الامر يحدث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ومنه جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة.
أقول: أما انقسام الرؤيا إلى الاقسام الثلاثة كما ورد في الروايتين وفي معناهما روايات أخرى من طرق أهل السنة وأخرى من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فسيجئ توضيحه في تفسير سورة يوسف إن شاء الله تعالى.
وأما كون الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة فقد وردت به روايات كثيرة من طرق أهل السنة رواها عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع من الصحابة كأبى هريرة وعبادد بن الصامت وأبى سعيد الخدرى وأبى رزين، وروى أنس وأبو قتادة و عائشة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها من أجزاء النبوة كما تقدم.