/ صفحة 151 /
(بيان) هذه هي الطائفة الثالثة من الايات الموردة اثر ما ذكر في مفتتح السورة من استهزاء الكفار بالكتاب وبالنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) واقتراحهم عليه آية اخرى غير القرآن وقد ذكر الله سبحانه في هذه الطائفة بدء خلقة الانسان والجان وامره الملائكة وابليس أن يسجدوا له وسجودهم وإباء ابليس وهو من الجن ورجمه واغواءه بنى آدم وما قضى الله سبحانه عند ذلك من سعادة المتقين وشقاء الغاوين.
قوله تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حماء مسنون قال الراغب في المفردات اصل الصلصال تردد الصوت من الشئ اليابس ومنه قيل صل المسمار وسمى الطين الجاف صلصالا قال تعالى من صلصال كالفخار من صلصال من حماء مسنون والصلصلة بقية ماء سميت بذلك لحكاية صوت تحركه في المزادة وقيل الصلصال المنتن من الطين من قولهم صل اللحم.
وقال والحمأة والحمأ طين اسود منتن وقال وقوله من حماء مسنون قيل متغير وقوله لم يتسنه معناه لم يتغير والهاء للاستراحة انتهى.
وقوله ولقد خلقنا الانسان الخ المراد به بدء خلقة الانسان بدليل قوله: " وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " ألم السجدة: 8 فهو اخبار عن خلقة النوع وظهوره في الارض فان خلق اول من خلق منهم ومنه خلق الباقي خلق الجميع.
قال في مجمع البيان وأصل آدم كان من تراب وذلك قوله خلقه من تراب ثم جعل التراب طينا وذلك قوله وخلقته من طين ثم ترك ذلك الطين حتى تغير واسترخى وذلك قوله من حماء مسنون ثم ترك حتى جف وذلك قوله من صلصال فهذه الاقوال لا تناقض فيها إذ هي اخبار عن حالاته المختلفة انتهى.
قوله تعالى والجان خلقناه من قبل من نار السموم قال الراغب السموم الريح الحارة تؤثر تأثير السم انتهى وأصل الجن الستر وهو معنى سار في جميع ما اشتق منه كالجن والمجنة والجنة والجنين والجنان بالفتح وجن عليه الليل وغير ذلك.
/ صفحة 152 /
والجن طائفة من الموجودات مستورة بالطبع عن حواسنا ذات شعور وارادة تكرر في القرآن الكريم ذكرهم ونسب إليهم أعمال عجيبة وحركات سريعة كما في قصص سليمان (عليه السلام) وهم مكلفون ويعيشون ويموتون ويحشرون تدل على ذلك كله آيات كثيرة متفرقة في كلامه تعالى.
واما الجان فهل هو الجن بعينه أو هو أبو الجن كما ان آدم (عليه السلام) أبو البشر كما عن ابن عباس أو هو ابليس نفسه كما عن الحسن أو الجان نسل ابليس من الجن أو هو نوع من الجن كما ذكره الراغب؟ اقوال مختلفة لا دليل على اكثرها.
والذى يهدى إليه التدبر في كلامه تعالى انه قابل في هاتين الايتين الانسان بالجان فجعلهما نوعين اثنين لا يخلوان عن نوع من الارتباط في خلقتهما ونظير ذلك قوله: " خلق الانسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار " الرحمان: 15.
ولا يخلو سياق ما نحن فيه من الايات من دلالة على إن ابليس كان جانا وإلا لغى قوله والجان خلقناه من قبل الخ وقد قال تعالى في موضع آخر من كلامه في ابليس: " كان من الجن ففسق عن امر ربه " الكهف: 50 فأفاد إن هذا الجان المذكور هو الجن نفسه أو هو نوع من انواع الجن ثم ترك سبحانه في سائر كلامه ذكر الجان من اصله ولم يذكر الا الجن حتى في موارد يعم الكلام فيها ابليس وقبيله كقوله تعالى: " شياطين الانس والجن " الانعام: 112 وقوله وحق عليهم القول في امم قد خلت من قبلهم من الجن والانس " حم السجدة 25 وقوله: " سنفرغ لكم ايها الثقلان " إلى أن قال " يا معشر الجن والانس ان استطعتم ان تنفذوا من اقطار السماوات والارض فانفذوا " الرحمان: 33.
وظاهر هذه الايات من جهة المقابلة الواقعة فيها بين الانسان والجان تارة وبين الانس والجن اخرى ان الجن والجان واحد وان اختلف التعبير.
وظاهر المقابلة بين قوله ولقد خلقنا الانسان الخ وقوله: وخلقنا الجان من قبل الخ ان خلق الجان من نار السموم المراد به الخلق الابتدائي وبدء ظهور النوع كخلق الانسان من صلصال وهل كان استمرار الخلقة في افراد الجان المستتبع لبقاء النوع على سنة الخلق الاول من نار السموم بخلاف الانسان حيث بدئ
/ صفحة 153 /
خلقه من تراب ثم استمر بالنطفة؟ كلامه سبحانه خال عن بيانه ظاهرا غير ما في بعض كلامه من نسبة الذرية إلى ابليس كما قال: " أفتتخذونه وذريته اولياء من دوني " الكهف: 50 ونسبة الموت إليهم كما في قوله: " قد خلت من قبلهم من الجن والانس " حم السجدة: 25 والمألوف من نوع فيه ذرية وموت هو التناسل والكلام بعد في هذا التناسل هل هو بسفاد كسفاد نوع من الحيوان أو بغير ذلك؟ وقوله خلقناه من قبل مقطوع الاضافة أي من قبل خلق الانسان والقرينة هي المقابلة بين الخلقين.
وعد مبدأ خلق الجان في الاية هو نار السموم لا ينافى ما في سورة الرحمان من عده مارجا من نار أي لهيبا مختلطا بدخان فان الايتين تلخصان ان مبدأ خلقه ريح سموم اشتعلت فكانت مارج نار.
فمعنى الايتين اقسم لقد بدأنا خلق النوع الانسان من طين قد جف بعد ان كان سائلا متغيرا منتنا ونوع الجان بدأنا خلقه من ريح حارة حادة اشتعلت فصارت نارا قوله تعالى: " واذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا " إلى آخر الاية قال في المفردات البشرة ظاهر الجلد والادمة باطنه كذا قال عامة الادباء إلى أن قال وعبر عن الانسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التى عليها الصوف أو الشعر أو الوبر واستوى في لفظ البشر الواحد والجمع وثنى فقال تعالى: " أنؤمن لبشرين " وخص في القرآن في كل موضع اعتبر من الانسان جثته وظاهره بلفظ البشر نحو وهو الذى خلق من الماء بشرا انتهى موضع الحاجة.
وقوله واذ قال ربك للملائكة انى خالق بشرا باضمار فعل والتقدير واذكر إذ قال ربك وفي الكلام التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وكأن العناية فيه مثل العناية التى مرت في قوله وان ربك هو يحشرهم فان هذه الايات ايضا تكشف عن نبأ ينتهى إلى الحشر والسعادة والشقاوة الخالدتين.
على ان التكلم مع الغير في السابق ولقد خلقنا خلقناه من قبيل تكلم العظماء عنهم وعن خدمهم واعوانهم تعظيما أي باخذه تعالى ملائكته الكرام معه في
/ صفحة 154 /
الامر وهذه العناية مما لا يستقيم في مثل المقام الذى يخاطب فيه الملائكة في اخبارهم بارادته خلق آدم (عليه السلام) وأمرهم بالسجود له إذا سواه ونفخ فيه من روحه فافهم ذلك ومعنى الاية ظاهر.
قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " التسوية جعل الشئ مستويا قيما على امره بحيث يكون كل جزء منه على ما ينبغى أن يكون عليه فتسوية الانسان ان يكون كل عضو من اعضائه في موضع الذى ينبغى ان يكون فيه وعلى الحال التى ينبغى ان يكون عليها.
ولا يبعد ان يستفاد من قوله انى خالق فإذا سويته ان خلق بدن الانسان الاول كان على سبيل التدريج الزمانى فكان اولا الخلق وهو جمع الاجزاء ثم التسوية وهو تنظيم الاجزاء ووضع كل جزء في موضعه الذى يليق به وعلى الحال التى تليق به ثم النفخ ولا ينافيه ما في قوله تعالى: " خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران: 59 فان قوله ثم قال له الخ ناظر إلى كينونة الروح وهو النفس الانسانية دون البدن كما عبر عنه في موضع آخر بعد بيان خلق البدن بالتدريج بقوله: " ثم انشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14.
وقوله: " ونفخت فيه من روحي " النفخ ادخال الهواء في داخل الاجسام بفم أو غيره ويكنى به عن القاء اثر أو امر غير محسوس في شئ ويعنى به في الاية ايجاده تعالى الروح الانساني بما له من الرابطة والتعلق بالبدن وليس بداخل فيه دخول الهواء في الجسم المنفوخ فيه كما يشير إليه قوله سبحانه: " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14 وقوله تعالى: " قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم " ألم السجدة: 11.
فالاية الاولى كما ترى تبين ان الروح الانساني هو البدن منشأ خلقا آخر والبدن على حاله من غير ان يزاد فيه شئ والاية الثانية تبين ان الروح عند الموت مأخوذ من البدن والبدن على حاله من غير ان ينقص منه شئ.
فالروح امر موجود في نفسه له نوع اتحاد بالبدن بتعلقه به وله استقلال عن البدن إذا انقطع تعلقه به وفارقه وقد تقدم بعض ما يتعلق من الكلام بهذا المقام في
/ صفحة 155 /
تفسير قوله تعالى: " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله اموات " البقرة: 154 في الجزء الاول من الكتاب ونرجو ان نستوفي هذا البحث في ذيل قوله: " قل الروح من أمر ربي " الاية 85 من سورة اسرى ان شاء الله واضافة الروح إليه تعالى في قوله: " من روحي " للتكرمة والتشريف من الاضافة اللامية المفيدة للملك وقوله: " فقعوا له ساجدين " أي اسجدوا ولا يبعد ان يفهم منه ان خروا على الارض ساجدين له فيفيد التأكيد في الخضوع من الملائكة لهذا المخلوق الجديد كما قيل ومعنى الآية فإذا عدلت تركيبه وأتممت صنع بدنه وأوجدت الروح الكريم المنسوب الي الذي اربط بينه وبين بدنه فقعوا وخروا على الارض ساجدين له قوله تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا ابليس أبى أن يكون مع الساجدين " لفظة أجمعون تأكيد بعد تأكيد لتشديده والمراد أن الملائكة سجدوا له بحيث لم يبق منهم أحد وقد استثنى من ذلك ابليس ولم يكن منهم لقوله تعالى: " كان من الجن ففسق عن أمر ربه " الكهف: 50 واما قول من قال: ان طائفة من الملائكة كانوا يسمون الجن وكان ابليس منهم أو ان الجن بمعنى الستر فيعم الملائكة وغيرهم فمما لا يصغى إليه وقد تقدم في تفسير سورة الاعراف كلام في معنى شمول الامر بالسجود لابليس مع عدم كونه من الملائكة ومعنى الآيتين ظاهر قوله تعالى: " قال يا ابليس ما لم أن لا تكون مع الساجدين " ما لك مبتدأ وخبر اي ما الذي هو كائن لك؟ وقوله: " ان لا تكون " من قبيل نزع الخافض والتقدير في ان لا تكون مع الساجدين وهم الملائكة ومحصل المعنى ما بالك لم تسجد؟ قوله تعالى: " قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حماء مسنون " في التعبير بقوله لم أكن لاسجد دون ان يقول لا اسجد أو لست اسجد دلالة على ان الاباء على السجدة مقتضى ذاته وكان هو المترقب منه لو اطلع على جوهره فتفيد الاية بالكناية ما يفيده قوله في موضع آخر: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته
/ صفحة 156 /
من طين: ص: 76 بالتصريح.
وقد تقدم كلام في معنى السجود لادم وامر الملائكة وابليس بذلك وائتمارهم وتمرده عنه نافع في هذا الباب في تفسير سورتي البقرة والاعراف من هذا الكتاب.
قوله تعالى: " فاخرج منها فانك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين " الرجيم فعيل بمعنى المفعول من الرجم وهو الطرد وشاع استعماله في الطرد بالحجارة والحصاة واللعن هو الطرد والابعاد من الرحمة.
ومن هنا يظهر ان قوله وان عليك اللعنة الخ بمنزلة البيان لقوله فانك رجيم فان الرجم كان سببا لخروجه من بين الملائكة من السماء أو من المنزلة الالهية وبالجملة من مقام القرب وهو مستوى الرحمة الخاصة الالهية فينطبق على الابعاد من الرحمة وهو اللعن وقد نسب سبحانه هذه اللعنة المجعولة على ابليس في موضع آخر إلى نفسه فقال: " وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين " ص: 58 وقيدها في الايتين جميعا بقوله إلى يوم الدين.
اما جعل مطلق اللعنة عليه في قوله عليك اللعنة فلان اللعن يلحق المعصية وما من معصية إلا ولابليس فيه صنع بالاغواء والوسوسة فهو الاصل الذى يرجع إليه كل معصية وما يلحقها من لعن حتى في عين ما يعود إلى اشخاص العصاة من اللعن والوبال وتذكر في ذلك ما تقدم في ذيل قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه فيجعله في جهنم " الانفال: 37 في الجزء التاسع من الكتاب.
على انه لعنه الله اول فاتح فتح باب معصية الله وعصاه في امره فإليه يعود وبال هذا الطريق بسالكيه ما سلكوا فيه.
واما جعل لعنته خاصة عليه في قوله عليك لعنتي فلان الابعاد من الرحمة بالحقيقة انما يؤثر اثره إذا كان منه تعالى إذ لا يملك احد من رحمته اعطاء ومنعا الا باذنه فإليه يعود حقيقة الاعطاء والمنع.
على ان اللعن من غيره تعالى بالحقيقة دعاء عليه بالابعاد من الرحمة واما نفس
/ صفحة 157 /
الابعاد الذى هو نتيجة ادعاء فهو من صنعه القائم به تعالى وحقيقته المبالغة في منع الرحمة.
وقال في المجمع وقال بعض المحققين انما قال سبحانه هنا وان عليك اللعنة بالالف واللام وقال في سورة ص لعنتي بالاضافة لان هناك يقول لما خلقت بيدى مضافا فقال وان عليك لعنتي على المطابقة وقال هنا ما لك الا تكون مع الساجدين وساق الاية على اللام في قوله ولقد خلقنا الانسان وقوله والجان فاتى باللام ايضا في قوله وان عليك اللعنة انتهى وقال ايضا في الاية بيان انه لا يؤمن قط.
واما تقييد اللعنة بقوله إلى يوم الدين فلان اللعنة هي عنوان الاثم والوبال العائد إلى النفس من المعصية والمعصية محدودة بيوم القيامة فاليوم عمل ولا جزاء وغدا جزاء ولا عمل وان شئت فقل هذه الدار دار كتابة الاعمال وحفظها ويوم القيامة دار الحساب والجزاء.
واما قول القائل ان تحديد اللعن بيوم الدين دليل على كونه مغيا به مرفوعا فيه وفيما بعده فمما يدفعه ظاهر الايات المبينة للعذاب يوم القيامة.
ويؤيد ذلك التعبير في الاية عن يوم القيامة بيوم الدين المشعر بأنه ملعون قبل يوم القيامة ومجزى به فيه ولو انقطع العذاب بقيام الساعة لكان اليوم يوم انقطاع الدين لا يوم الدين.
وربما قيل في دفع اشكال الغاية ان ذلك ابعد غاية يضربها الخلائق فهو كقوله خالدين فيها ما دامت السماوات والارض الاية وهو كما ترى وقد عرفت معنى الاية المقيس عليها في تفسير سورة هود.
وربما قيل ان المراد باللعنة في الاية لعن الخلائق وذلك منقطع بمجئ يوم الدين دون لعنه تعالى وابعاده له من رحمته فانه متصل إلى الابد.
وكأن هذا القائل ذهب عليه قوله تعالى في سورة ص: " وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين الاية: 78.
قوله تعالى: " قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون " الانظار هو الامهال وقد صدر كلامه بقوله رب وهو يخاصمه وقد عصاه واستكبر عليه تعالى لانه في مقام
/ صفحة 158 /
الدعاء لا مفر له من دعوته تعالى بما يثير به الرحمة الالهية المطلقة وهو الالتجاء إليه بربوبيته له ليستجيب له وهو مغضوب عليه.
وقد صدر مسألته بفاء التفريع في قوله فانظرني وذكر فيه بعثة عامة البشر من غير أن يخص بالذكر آدم اباهم الذى ابتلى بالرجم واللعن من اجل الاباء عن السجود له وذلك كله مبنى على ما تقدم في تفسير آيات القصة في سورة الاعراف ان المأمور به كان هو السجود لعامة البشر وكان آدم (عليه السلام) كالقبلة المنصوبة للسجود يمثل به النوع الانساني.
وتوضيحه انه قد تقدم في قوله تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا ابليس " الاعراف 11 إنهم انما أمروا بالسجدة لنوع الانسان لا لشخص آدم (عليه السلام) ولم يكن هذه السجدة تشريفا اجتماعيا من غير غاية حقيقية بل كانت خضوعا بحسب الخلقة فهم بحسب ما اريد من خلقتهم خاضعون للانسان بحسب ما اريد من كمال خلقته أي إنهم مسخرون لاجله عاملون في سبيل سعادة حياته أي ان للانسان منزلة من القرب ومرحلة من كمال السعادة تفوق ما للملائكة من ذلك.
فسجودهم جميعا له دليل انهم جميعا مسخرون في سبيل كماله من السعادة عاملون لاجل فوزه وفلاحه كملائكة الحياة وملائكة الموت وملائكة الارزاق وملائكة الوحى والمعقبات والحفظة والكتبة وغيرهم ممن تذكرهم متفرقات الايات القرآنية فالملائكة اسباب الهية واعوان للانسان في سبيل سعادته وكما له ومن هنا يظهر للمتدبر الفطن إن إباء ابليس عن السجدة استنكاف منه عن الخضوع لنوع الانسان والعمل في سبيل سعادته واعانته على كماله المطلوب على خلاف ما ظهر من الملائكة فهو بإبائه عن السجدة خرج من جمع الملائكة كما يفيده قوله تعالى: " ما لك أن لا تكون مع الساجدين " واظهر الخصومة لنوع الانسان والبراءة منهم ما حيوا وعاشوا أو خالدا مؤبدا.
ويؤيده جعله تعالى اللعنة المطلقة عليه من يوم أبى إلى يوم الدين وهو مدة مكث النوع الانساني في هذه الدنيا فجعلها عليه كذلك ولما يدع ابليس انه سيغويهم ولم يقل
/ صفحة 159 /
بعد لاغوينهم اجمعين مشعر بأن اباءه عن السجدة نوع خصومة وعداوة منه لهذا النوع آخذا من آدم إلى آخر من سيولد ويعيش من ذريته.
فكأنه عليه اللعنة فهم من قوله تعالى: " وان عليك اللعنة إلى يوم الدين ان له شأنا مع النوع الانساني إلى يوم القيامة وان لشقائهم وفساد اعمالهم ارتباطا به من حيث امتنع عن السجود ولذلك سأل النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة المجعولة عليه فقال رب فانظرني إلى يوم يبعثون ولم يقل رب انظرني إلى يوم يبعثون ولم يقل انظرني إلى يوم يموت آدم أو انظرني ما دام حيا يعيش بل ذكر آدم وبنيه جميعا وطلب النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة إلى يوم الدين فلما اجيب إلى ما سأل ابدى ما في كمون ذاته وقال لاغوينهم اجمعين.
قوله تعالى: " قال فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم جواب منه سبحانه لابليس وفيه اجابة ورد اما الاجابة فبالنسبة إلى اصل الانظار الذى سأله واما الرد فبالنسبة إلى القيد وهو ان يكون الانظار إلى يوم يبعثون فان من الواضح اللائح بالنظر إلى سياق الايتين ان يوم وقت المعلوم غير يوم يبعثون فلم يسمح له بانظاره إلى يوم يبعثون بل إلى يوم هو غيره ولا محالة هو قبل يوم البعث.
وبذلك يظهر فساد قول من قال انه لعنه الله اجيب إلى ما سال واليومان في الايتين واحد ومن الدليل عليه قوله في سورة الاعراف في القصة: " قال انك من المنظرين " الاية: 15 من غير أن يقيد بشئ.
اما فساد دعواه اتحاد اليومين في الايتين فقد ظهر مما تقدم واما فساد الاستدلال باطلاق آية الاعراف فلانها تتقيد بما في هذه السورة وسورة ص من التقييد بقوله إلى يوم الوقت المعلوم وهذا كثير شائع في كلامه تعالى والقرآن يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض.
وظاهر يوم الوقت المعلوم انه وقت تعين في العلم الالهى نظير قوله: " وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21 وقوله: " اولئك لهم رزق معلوم " الصافات: 41 فهو معلوم عند الله قطعا واما انه معلوم لابليس أو مجهول عنده فغير معلوم من اللفظ وقول بعضهم انه سبحانه ابهم اليوم ولم يبين فهو معلوم لله غير معلوم لابليس لان في
/ صفحة 160 /
بيانه اغراء بالمعصية كلام خال عن الدليل فابهام اللفظ بالنسبة الينا غير ابهام ما القى إلى ابليس من القول بالنسبة إليه على ان اغراء ابليس بالمعصية وهو الاصل لكل معصية مفروضة لا يخلو عن اشكال فافهمه.
على ان قول ابليس ثانيا لاغوينهم اجمعين شاهد على انه سيبقى إلى آخر ما يعيش الانسان في الدنيا ممن يمكنه اغواؤه فقد كان فهم من قوله تعالى إلى يوم الوقت المعلوم انه آخر عمر البشر العائشين في الارض الجائز له اغواؤهم.
ونسب إلى ابن عباس ومال إليه الجمهور إن اليوم هو آخر ايام التكليف وهو النفخة الاولى يوم يموت الخلائق وكأنه مبنى على إن ابليس باق ما بقى التكليف وامكنت المخالفة والمعصية وهو مدة عمر الانسان في الدنيا وينتهى ذلك إلى النفخة الاولى التى بها يموت الخلائق فهو يوم الوقت المعلوم الذى انظره الله إليه وبينه وبين النفخة الثانية التى فيها يبعثون اربعمائة سنة أو اربعون سنة على اختلاف الروايات وهى ما به التفاوت بين ما سأله ابليس وبين ما اجاب إليه الله سبحانه.
وهذاوجه حسن لو لا ما فيه من قولهم ان ابليس باق ما بقى التكليف وامكنت المخالفة والمعصية فانها مقدمة لا بينة ولا مبينة وذلك ان تعويل القوم في ذلك على االمستفاد من الايات والاخبار كون كل كفر وفسوق موجود في النوع الانساني مستندا إلى اغواء ابليس ووسوسته كما يدل عليه امثال قوله تعالى: " ألم أعهد اليكم يا بنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين " يس: 60 وقوله: " وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فاخلفتكم " الخ إلى غير ذلك من الايات ومقتضاها أن يدوم وجود ابليس ما دام التكليف باقيا والتكليف باق ما بقى الانسان وهو المطلوب.
وفيه ان كون المعصية الانسانية مستندة بالجملة إلى اغواء ابليس مستفادة من الايات والروايات لا غبار عليه لكنه انما يقتضى بقاء ابليس ما دامت المعصية والغواية باقية لا بقائه ما دام التكليف باقيا ولا دليل على الملازمة بين المعصية والتكليف وجودا.
بل الحجة قائمة من العقل والنقل على إن غاية الانسان النوعية وهى السعادة ستعم النوع ويتخلص المجتمع الانساني إلى الخير والصلاح ولا يعبد على الارض يومئذ الا
/ صفحة 161 /
الله سبحانه وينطوى وقتئذ بساط الكفر والفسوق ويصفو العيش ويرتفع امراض القلوب ووساوس الصدور وقد تقدم تفصيل ذلك في مباحث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب قال تعالى: " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون " الروم: 41 وقال: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادي الصالحون " الانبياء: 105.
ومن ذلك يظهر ان الذى استندوا إليه من الحجة انما يدل على كون يوم الوقت المعلوم الذى جعله الله غاية انظار ابليس هو يوم يصلح الله سبحانه المجتمع الانساني فينقطع دابر الفساد ولا يعبد يومئذ الا الله لا يوم يموت الخلائق بالنفخة الاولى.
قوله تعالى: " قال رب بما اغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين " الباء في قوله بما اغويتني للسببية وما مصدرية أي اتسبب باغوائك اياى إلى التزيين لهم والقى إليهم ما استقر في من الغواية كما قالوا يوم القيامة على ما حكى الله: " اغويناهم كما غوينا " القصص: 63.
وقول بعضهم ان الباء للقسم أي اقسم باغوائك لازينن من اردء القول فلم يعهد في كتاب ولا سنة أن يقسم بمثل الاغواء والاضلال وليس فيه شئ مفهوم من التعظيم اللازم في القسم.
وقد نسب لعنه الله في قوله بما اغويتني إلى الله سبحانه انه اغواه ولم يرده الله سبحانه إليه ولا اجاب عنه وليس مراده به غوايته إذ عصى امر السجدة ولم يسجد لادم (عليه السلام) والدليل على ذلك ان لا رابطة بين معصيته في نفسه وبين معصية الانسان لربه حتى يكون معصيته سبب معصيتهم ويتسبب هو بها إلى اغوائهم.
وانما يريد به ما يفيده قوله تعالى: " وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين من استقرار اللعنة المطلقة فيه وهى الابعاد من الرحمة والاضلال عن طريق السعادة وهى اغواء له اثر الغواية التى ابداها من نفسه واتى بها من عنده فيكون من اضلاله تعالى مجازاة لا اضلالا ابتدائيا وهو جائز غير ممتنع عليه تعالى ولذلك لم يرده كما قال تعالى: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين " البقرة: 26 وقد بينا
/ صفحة 162 /
ذلك في ذيل الاية ومواضع اخرى من هذا الكتاب.
وعند هذا يستقيم معنى السببية اعني اغواؤه الناس بسبب الاغواء الذى مسه واستقر فيه فان البعد من الرحمة والبون من السعادة لما كان لازما لنفسه بلزوم اللعنة الالهية له كان كلما اقترب من قلب انسان بالوسوسة والتسويل أو استولى على نفس من النفوس وهو بعيد من الرحمة والسعادة اوجب ذلك بعد من اقترب منه أو تسلط عليه وهو اغواؤه بالقاء اثر الغواية التى عنده إليه وهو ظاهر.
هذا ما يعطيه التدبر في الاية ومحصله إن المراد بالاغواء ليس هو الاضلال الابتدائي بل الاضلال على سبيل المجازاة الذى يدل عليه قوله وان عليك لعنتي الاية.
واما القوم فكالمسلم عندهم ان قوله بما اغويتني لو كان بمعناه الظاهر وهو الاضلال لكان هو الاضلال الابتدائي وكان ناظرا إلى ابائه وامتناعه عن السجدة ولذا استشكلوا الاية واختلفوا في تفسير الاغواء على اختلاف مذاهبهم في استناد الشر إليه تعالى وصدوره منه جوازا وامتناعا.
فقال بعضهم وهم اهل الجبر إن اسناد الاغواء إليه تعالى بلا انكار منه لذلك يدل على ان الشر كالخير من الله تعالى والمعنى رب بما اضللتنى بالامتناع عن السجدة فهو منك اقسم لاضلنهم اجمعين.
وقال آخرون وهم غيرهم انه لا يجوز استناد الشر والمعصية وكل قبيح إليه تعالى ووجهوا الاية بوجوه.
احدها ان الاغواء في الاية بمعنى التخييب والمعنى رب بما خيبتنى من رحمتك لاخيبنهم بالدعوة إلى معصيتك.
الثاني ان المراد بالاغواء الاضلال عن طريق الجنة والمعنى بما اضللتنى عن طريق جنتك لما صدر منى من معصيتك لاضلنهم بالدعوة.
الثالث ان المراد بقوله بما اغويتني بما كلفتني امرا ضللت عنده بالمعصية وهو السجود فسمى ذلك اضلالا منه له توسعا وانت بالتأمل فيما قدمناه تعرف ان الاية في غنى عن هذا البحث وما ابدئ فيه من الوجوه.
/ صفحة 163 /
ونظير هذا البحث بحثهم عن الانظار الواقع في قوله انك من المنظرين من جهة انه مفض إلى الاغواء القبيح وترجيح للمرجوح على الراجح.
فقال المجوزون ان الاية تدل على ان الحسن والقبح اللذين يعلل بهما العقل افعالنا لا تأثير لهما في افعاله تعالى فله ان يثيب من يشاء ويعذب من يشاء من غير جهة مرجحة حتى مع رجحان الخلاف قالوا ومن زعم ان حكيما يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والافاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد اذى احد من اولئك القوم بالاحراق واللسع فقد خرج عن الفطرة الانسانية فاذن من حكم الفطرة إن الله تعالى اراد بانظار ابليس اضلال بعض الناس.
والمانعون يوجهون الانظار بانه تعالى كان يعلم من ابليس واتباعه انهم يموتون على الكفر والفسوق ويصيرون إلى النار انظر ابليس أو لم ينظر على انه تعالى تدارك تأييده ذلك بمزيد ثواب المؤمنين المتقين على انه يقول ولاغوينهم ولو كان الاغواء من الله لا نكره عليه إلى غير ذلك مما اوردوه من الوجوه وليت شعرى ما الذى اغفلهم عن آيات الامتحان والابتلاء على كثرتها كقوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الانفال: 37 وقوله: " وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم " آل عمران: 154 وغيرهما من الايات الدالة على إن نظام السعادة والشقاء والثواب والعقاب مبنى على اساس الامتحان والابتلاء والانسان واقع بين الخير والشر والسعادة والشقاء له ما يختاره من العمل بنتائجه.
فلو لا ان يكون هناك داع إلى الخير وهم الملائكة الكرام وان شئت فقل هو الله وداع إلى الشر وهم ابليس وقبيله لم يكن للامتحان معنى قال تعالى: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا " البقرة: 268.
ولئن ايد الله ابليس على الانسان بالانظار إلى يوم الوقت المعلوم فقد ايده عليه بالملائكة الباقين ببقاء الدنيا ولم يقل سبحانه له انك منظر بل قال انك من المنظرين فاثبت منظرين غيره وجعله بعضهم.
ولئن ايده بالتمكين بتزيين الباطل من الكفر والفسوق للانسان ايد الانسان بأن هداه إلى الحق وزين الايمان في قلبه وفطره على التوحيد وعرفه الفجور
/ صفحة 164 /
والتقوى وجعل له نورا يمشى به في الناس ان آمن بربه إلى غير ذلك من الايادي قال: " قل الله يهدى للحق " يونس: 35 وقال: " ولكن الله حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم " الحجرات: 7 وقال: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها " الروم: 30 وقال: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " الشمس: 8 وقال: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " الانعام: 122 وقال: " انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " المؤمن: 51 والتكلم بالغير مشعر بوساطة الملائكة.
فالانسان خلق هو في نفسه اعزل ليس معه شئ من السعادة والشقاء بحسب بدء خلقته واقف في ملتقى سبيلين سبيل الخير والطاعة وهو سبيل الملائكة ليس لهم الا الطاعة وسبيل الشر والمعصية وهو سبيل ابليس وجنوده وليس معهم إلا المخالفة والمعصية فإلى أي السبيلين مال في مسير حياته وقع فيه ورافقه اصحابه وزينوا له ما عندهم وهدوه إلى ما ينتهى إليه سبيلهم وهو الجنة أو النار والسعادة أو الشقاء.
فقد بان مما تقدم ان انظار ابليس إلى يوم الوقت المعلوم ليس من تقديم المرجوح على الراجح ولا ابطالا لقانون العلية بل ليتيسر به وبما يقابله من بقاء الملائكة ما هو الواجب من امر الامتحان والابتلاء فلا محل للاستشكال.
وقوله لازينن لهم في الارض أي لازينن لهم الباطل أو لازينن لهم المعاصي على ما قيل والمعنى الاول اجمع والمفعول محذوف على أي حال والظاهر ان المفعول معرض عنه والفعل مستعمل استعمال اللازم والغرض بيان اصل التزيين كناية عن الغرور يقال زين له كذا وكذا أي حمله عليه غرورا وضمير هم لآدم وذريته على ما يدل عليه السياق والمراد بالتزيين لهم في الارض غرورهم في هذه الحياة الارضية وهى الحياة الدنيا وهو السبب القريب للاغواء فيكون عطف قوله ولاغوينهم اجمعين عليه من عطف المسبب على السبب المترتب عليه.
والاية تشعر بل تدل على ما قدمناه في تفسير آيات جنة آدم في الجزء الاول من الكتاب ان معصية آدم بالاكل من الشجرة المنهية عن وسوسة ابليس لم تكن معصية لامر مولوى بل مخالفة لامر ارشادى لا يوجب نقضا في عصمته فانه يعرف الارض في
/ صفحة 165 /
الاية ظرفا لتزيينه واغوائه فما كان غروره لادم وزوجته في الجنة إلا ليخرجهما منها وينزلهما إلى الارض فيتناسلا فيها فيغويهما وبنيهما عن الحق ويضلهم عن الصراط قال تعالى: " يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان كما اخرج ابويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما " الاعراف: 27.
وقوله إلا عبادك منهم المخلصين استثنى من عموم الاغواء طائفة خاصة من البشر وهم المخلصون بفتح اللام على القراءة المشهورة والسياق يشهد انهم الذين اخلصوا لله وما أخلصهم الا الله سبحانه وقد قدمنا في الكلام على الاخلاص في تفسير سورة يوسف إن المخلصين هم الذين اخلصهم الله لنفسه بعد ما اخلصوا انفسهم لله فليس لغيره سبحانه فيهم شركة ولا في قلوبهم محل فلا يشتغلون بغيره تعالى فما ألقاه إليهم الشيطان من حبائله وتزييناته عاد ذكرا لله مقربا إليه.
ومن هنا يترجح ان الاستثناء انما هو من الاغواء فقط لا منه ومن التزيين بمعنى انه لعنه الله يزين للكل لكن لا يغوى إلا غير المخلصين.
ويستفاد من استثناء العباد اولا ثم تفسيره بالمخلصين ان حق العبودية انما هو بأن يخلص الله العبد لنفسه أي ان لا يملكه إلا هو ويرجع إلى ان لا يرى الانسان لنفسه ملكا وانه لا يملك نفسه ولا شيئا من صفات نفسه وآثارها واعمالها وان الملك بكسر الميم وضمها لله وحده.
وقوله تعالى: " قال هذا صراط على مستقيم " ظاهر الكلام على ما يعطيه السياق انه كناية على ان الامر إليه تعالى لا غنى فيه عنه بوجه كما ان كون طريق السفينة على البحر يقضى على راكبيها بأن لا مفر لهم مما يستدعيه العبور على الماء من العدة والوسيلة وكذا كون طريق القافلة على الجبل يحوجهم إلى ما يتهيأ به لعبور قلله الشاهقة ومسالكه الصعبة فكونه صراطا عليه تعالى بالاستقامة هو انه امر متوقف من كل جهة إلى حكمه وقضائه تعالى فانه الله الذى منه يبدأ كل شئ واليه ينتهى فلا يتحقق امر إلا وهو ربه القيوم عليه.
وظاهر السياق ايضا ان الاشارة بقوله هذا صراط الخ إلى قول ابليس " لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين " لما اظهر بقوله هذا انه سينتقم منهم
/ صفحة 166 /
ويبسط سلطته بالتزيين والاغواء عليهم جميعا فلا يخلص منهم الا القليل كأنه يشير إلى انه سيستقل بما عزم عليه ويعلو بارادته على الله سبحانه فيما اراد من خلقهم واستخلافهم واستعبادهم كما حكاه الله تعالى من قوله في موضع آخر من قوله: " ولا تجد اكثرهم شاكرين " الاعراف: 17.
فمعنى الاية ان ما ذكرت من انك ستغويهم اجمعين واستثنيت منهم من استثنيت واظهرت نسبته إلى قوتك ومشيئتك زاعما فيه انك مستقل به امر لا يملكه الا انا ولا يحكم فيه غيرى ولا يصدر الا عن قضائه فان اغويت فباذنى اغويت وان منعت فبمشيئتى منعت فليس اليك من الامر شئ ولا من الملك الا ما ملكتك ولا من القدرة إلا ما اقدرتك والذى اقضيه لك من السلطان ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك الخ.
قوله تعالى: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين " هذا هو القضاء الذى اشار سبحانه إليه في الاية السابقة في امر الاغواء وذكر انه له وحده ليس لغيره فيه صنع ولا نصيب.
ومحصله ان آدم وبنيه كلهم عباده لا كما قاله ابليس حيث قصر عباده على المخلصين منهم إذ قال إلا عبادك منهم المخلصين ولم يجعل سبحانه له عليهم أي على العباد سلطانا حتى يستقل بأمرهم فيغويهم وانما جعل له السلطان على طائفة منهم وهم الذين اتبعوه من الغاوين وولوه امرهم والقوا إليه زمام تدبيرهم فهؤلاء هم الذين له عليهم سلطان.
فإذا امعنت في الاية وجدتها ترد على ابليس قوله لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين من ثلاث جهات اصلية احداها انه حصر عباده في المخلصين منهم ونفى عنهم سلطان نفسه وعمم سلطانه على الباقين والله سبحانه عمم عباده على الجميع وقصر سلطان ابليس على طائفة منهم وهم الذين اتبعوه من الغاوين ونفى سلطانه على الباقين.
والثانية انه لعنه الله ادعى لنفسه الاستقلال في اغوائهم كما يظهر من قوله لاغوينهم في سياق المخاصمة والتقريع بالانتقام والله سبحانه يرد عليه بانه منه مزعمة
/ صفحة 167 /
باطلة وانما هو عن قضاء من الله وسلطان بتسليطه وانما ملكه اغواء من اتبعه وكان غاويا في نفسه وبسوء اختياره فلم يأت ابليس بشئ من نفسه ولم يفسد امرا على ربه لا في اغوائه اهل الغواية فانه بقضاء من الله سبحانه ان يستقر لاهل الغواية غيهم بسببه وقد اعترف لعنه الله بذلك بعض الاعتراف بقوله رب بما اغويتني ولا في استثنائه المخلصين فانه ايضا بقضاء من الله نافذ فلا حكم الا لله.
وهذا الذى تفيده الاية الكريمة اعني تسليط ابليس على اغواء الغاوين الذين هم في انفسهم غاوون وتخليص المخلصين وهم مخلصون في انفسهم من كيده كل ذلك بقضاء من الله مبنى على اصل عظيم يفيده التوحيد القرآني المفاد بامثال قوله تعالى: " إن الحكم الا لله " يوسف: 67 وقوله: " وهو الله لا اله الا هو له الحمد في الاولى والاخرة وله الحكم " القصص: 70 وقوله: " الحق من ربك " آل عمران: 60 وقوله: " ويحق الله الحق بكلماته " يونس: 82 وغير ذلك من الايات الدالة على إن كل حكم ايجابي أو سلبى فهو مملوك لله نافذ بقضائه.
ومن هنا يظهر ما في تفسيرهم قوله الا من اتبعك من الغاوين من المسامحة فانهم قالوا انه إذا قبل من ابليس واتبعه صار له سلطان عليه بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من الغى وظاهره انه سلطان قهرى يحصل لابليس عن سوء اختيارهم ليس من عند نفسه ولا بجعل من الله سبحانه.
وجه الفساد ان فيه اخذ الاستقلال والحول الذاتي من ابليس واعطاؤه ذوات الاشياء ولو كان ابليس لا يملك شيئا من عند نفسه وبغير اذن ربه فالاشياء والامور ايضا لا تملك لنفسها شيئا ولا حكما حتى الضروريات ولوازم الذوات الا باذن من الله وتمليك فافهمه.
والثالثة إن سلطانه على اغواء من يغويه وان كان بجعل وتسليط من الله سبحانه إلا انه ليس بتسليط على الاغواء والاضلال الابتدائي غير الجائز اسناده إلى ساحته سبحانه بل تسليط على الاغواء بنحو المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم وفي انفسهم.
والدليل على ذلك قوله تعالى: " الا من اتبعك من الغاوين " فابليس انما يغوى
/ صفحة 168 /
من اتبعه بغوايته أي ان الانسان يتبعه بغوايته اولا فيغويه هو ثانيا فهناك غواية بعدها اغواء والغواية اجرام من الانسان والاغواء بسبب ابليس مجازاة من الله سبحانه.
ولو كان هذا الاغواء اغواء ابتدائيا من ابليس لمن لا يستحق ذلك لكان هو الاليق باللوم دون الانسان كما يذكره يوم القيامة على ما يحكيه سبحانه بقوله: " وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلوموني ولوموا انفسكم " ابراهيم: 22 فاللوم على الانسان المجرم وهو مسؤول عن معصيته دون ابليس.
نعم ابليس ملوم على ما يتلبس به من الفعل بسوء اختياره وهو الاغواء الذى سلطه الله عليه مجازاة لما امتنع من السجود لادم لما امر به فالاغواء هو الذى استقرت ولايته عليه كما يشير سبحانه إليه في موضع آخر من كلامه إذ يقول: " إنا جعلنا الشياطين اولياء للذين لا يؤمنون " الاعراف: 27 وقال تعالى وهو اوضح ما يؤيد جميع ما قدمناه: " كتب عليه انه من تولاه فانه يضله ويهديه إلى عذاب السعير " الحج: 4.
وقد تحصل مما تقدم ان المراد بقوله عبادي عامة الانسان وان الاستثناء في قوله من اتبعك متصل لا منقطع وان من في قوله من الغاوين بيانية وان الكلام مبنى على رد قول ابليس وان الاية مشتملة على قضاءين من الله سبحانه في عقدى المستثنى والمستثنى منه وغير ذلك.
ومن ذلك يظهر عدم استقامة قول بعضهم ان المراد بعبادي هم الذين استثناهم ابليس وعبر عنهم بقوله عبادك منهم فيكون الاستثناء منقطعا والكلام مسوقا لتقرير قول ابليس ان له سلطانا على من يغويه وان المخلصين لا سبيل له إليهم والمعنى إن المخلصين لا سلطان لك عليهم لكنك مسلط على من اتبعك من الغاوين.
وانت تعلم بالتأمل فيما تقدم ان هذا هدم لاساس السياق وما يعطيه مقام المخاصمة وتحق نسبته إلى ساحة العزة والكبرياء وتنزيل خطابه تعالى منزلة لا يفيد معها اكثر من تغيير صورة كلام ابليس مع حفظ معناه تقريرا أو اعترافا فهو يقول سأغويهم إلا المخلصين والله سبحانه يقول لا تغوى المخلصين لكن تغوى غيرهم.
وربما فسر بعضهم قوله عبادي بجميع البشر واخذ مع ذلك الاستثناء
/ صفحة 169 /
منقطعا ولعل ذلك بالبناء على عدم جواز استثناء اكثر الافراد فلا يقال له علي مائة الا تسعة وتسعون مثلا ومن المعلوم ان الغاوين من الناس اكثر من المخلصين بما لا يقاس.
وفيه ان ذلك انما هو فيما كان النظر في الاستثناء إلى صريح العدد واما إذا كان المنظور إليه هو النوع أو الصنف بعنوانه فلا بأس بزيادة عدد الافراد وللانسان عدة اصناف المخلصون ومن دونهم من المؤمنين والمستضعفون والذين اتبعوا ابليس من الغاوين وقد استثنى الصنف الاخير في الاية بعنوانه وبقى الباقون وهم اصناف.
ومنهم من جعل الاستثناء منقطعا حذرا من ثبوت سلطان ابليس حتى على الغاوين زعما منه انه ينافى اطلاق السلطنة الالهية أو عدله تعالى ومعنى الاية على هذا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان لكن من اتبعك من الغاوين القى اليك زمام نفسه وجعل لك على نفسه سلطانا وليس ذلك من نفسك حتى تعجز الله في خلقه ولا من الله حتى ينافى عدله تعالى وفيه ان له سلطانا على الغاوين لا من نفسه بل بجعل من الله ولا ينافى ذلك عدله في خلقه فانه تسليط مجازاة لا تسليط ابتدائى ولا منافاة بين كون السلطان بقضاء منه تعالى وكونه باتباع الغاوين له باختيارهم فكل ذلك مما قد تبين فيما قدمناه.
على ان قوله تعالى فيه: " كتب عليه انه من تولاه فانه يضله " الحج: 4 وقوله: " إنا جعلنا الشياطين اولياء للذين لا يؤمنون " الاعراف: 27 يدلان صريحا على ثبوت سلطانه وانه بجعل من الله سبحانه وقضاء.
قوله تعالى: " وان جهنم لموعدهم اجمعين " الظاهر ان موعد اسم مكان والمراد بكون جهنم موعدهم كونه محل انجاز ما وعدهم الله من العذاب.
وهذا منه سبحانه تأكيد لثبوت قدرته ورجوع الامر كله إليه كأنه تعالى يقول له ما ذكرته من السلطان على الغاوين ليس لك من نفسك ولم تعجزنا بل نحن سلطناك عليهم لاتباعهم لك على إنا سنجازيهم بعذاب جهنم.
ولكون الكلام مسوقا لبيان حالهم اقتصر على ذكر جزائهم ولم يذكر معهم ابليس ولا جزاءه بخلاف قوله: " لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم اجمعين " ص: 85 وقوله: " فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا " اسرى: 63 لان المقام غير المقام.
/ صفحة 170 /
قوله تعالى: " لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم " لم يبين سبحانه في شئ من صريح كلامه ما هو المراد بهذه الابواب أهى كأبواب الحيطان مداخل تهدى الجميع إلى عرصة واحدة أم هي طبقات ودركات تختلف في نوع العذاب وشدته؟ وكثيرا ما يسمى في الامور المختلفة الانواع كل نوع بابا كما يقال ابواب الخير وابواب الشر وابواب الرحمة قال تعالى: " فتحنا عليهم ابواب كل شئ " الانعام: 44 وربما سمى اسباب الشئ وطرق الوصول إليه ابوابا كأبواب الرزق لانواع المكاسب والمعاملات.
وليس من البعيد ان يستفاد المعنى الثاني من متفرقات آيات النار كقوله تعالى: " وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت ابوابها " إلى ان قال: " قيل ادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها " الزمر: 72 وقوله: " إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار " النساء 145 إلى غير ذلك من الايات.
ويؤيده قوله لكل باب منهم جزء مقسوم فان ظاهره ان نفس الجزء مقسوم موزع على الباب وهذا انما يلائم الباب بمعنى الطبقة دون الباب بمعنى المدخل واما تفسير بعضهم الجزء المقسوم بالفريق المعين المفروز من غيره فوهنه ظاهر.
وعلى هذا فكون جهنم لها سبعة ابواب هو كون العذاب المعد فيها متنوعا إلى سبعة انواع ثم انقسام كل نوع اقساما حسب انقسام الجزء الداخل الماكث فيه وذلك يستدعى انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها سبعة اقسام وكذا انقسام الطرق المؤدية والاسباب الداعية إلى تلك المعاصي ذاك الانقسام وبذلك يتأيد ما ورد من الروايات في هذه المعاني كما سيوافيك ان شاء الله.
قوله تعالى: " ان المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين " أي انهم مستقرون في جنات وعيون يقال لهم ادخلوها بسلام لا يوصف ولا يكتنه نعته في حال كونكم آمنين من كل شر وضر.
لما ذكر سبحانه قضاءه فيمن اتبع ابليس من الغاوين ذكر ما قضى به في حق المتقين من الجنة وقد ورد تفسير التقوى في كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالورع عن محارم الله وقد تكرر في كلامه تعالى بشراهم بالجنة فيكون المتقون اعم من المخلصين.
/ صفحة 171 /
وما قيل انه لا شبهة في ان السياق يدل على ان المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم وان المطلق يحمل على الفرد الكامل.
فيه ان ذلك مبنى على كون المراد بالعباد في قوله ان عبادي ليس لك عليهم سلطان هم المخلصين حتى يختص السياق بالكلام فيهم وقد تقدم ان المراد بالعباد عامة افراد الانسان خرج منه الغاوون بالاستثناء وبقى الباقون وقد ذكر سبحانه قضاءه في الغاوين بالنار وهو ذا يذكر قضاءه في غيرهم ممن اوجب له الجنة والامر في المستضعفين مرجأ وفي العصاة من اهل الكبائر الذين يموتون بغير توبة منوط بالشفاعة فيبقى اهل التقوى من المؤمنين وهم اعم من المخلصين فقضى فيهم بالجنة.
واما حديث حمل المطلق على الفرد الكامل فهو خطأ وانما يحمل على الفرد المتعارف وتفصيل المسألة في فن الاصول.
وذكر الامام الرازي في تفسيره ان المراد بالمتقين في الاية الذين اتقوا الشرك ونقله عن جمهور الصحابة والتابعين واسنده إلى الخبر.
قال وهذا هو الحق الصحيح والذى يدل عليه ان المتقى هو الاتى بالتقوى مرة واحدة كما ان الضارب هو الاتى بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع انواع التقوى والذى يقرر ذلك إن الاتى بفرد واحد من افراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فان الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب ان يكون متقيا فالاتى بفرد يجب كونه متقيا ولهذا قالوا ظاهر الامر لا يفيد التكرار فظاهر الاية يقتضى حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد الا ان الامة مجمعة على ان التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم.
وايضا هذه الاية وردت عقيب قول ابليس: " إلا عبادك منهم المخلصين " عقيب قوله تعالى: " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان فلذا اعتبر الايمان في هذا الحكم فوجب ان لا يزاد فيه قيد آخر لان تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر فكلما كان التخصيص اقل كان اوفق بمقتضى الاصل والظاهر.
فثبت ان الحكم المذكور يتناول جميع القائلين لا اله الا الله محمد رسول الله ولو
/ صفحة 172 /
كانوا من اهل المعصية وهذا تقرير بين وكلام ظاهر انتهى.
ومقتضى كلامه شمول الاية لمن اتقى الشرك ولو اقترف جميع الكبائر الموبقة التى نص الكتاب العزيز باستحقاق النار باتيانها وترك جميع الواجبات التى نص على تركها بمثله والمستأنس بكلامه تعالى المتدبر في آياته لا يرتاب في ان القرآن لا يسمى مثل هذا متقيا ولا يعده من المتقين وقد اكثر القرآن ذكر المتقين وبشرهم بالجنة بشارة صريحة فيما يقرب من عشرين موضعا وصفهم في كثير منها باجتناب المحارم وبذلك فسر التقوى في الحديث كما تقدم.
ثم ان مجرد صحة اطلاق الوصف امر والتسمية امر آخر فلا يسمى بالمؤمنين والمحسنين والقانتين والمخلصين والصابرين وخاصة في الاوصاف التى تحتمل البقاء والاستمرار الا من استقر فيه الوصف ولو صح ما ذكره في المتقين لجرى مثل ذلك في الظالمين والفاسقين والمفسدين والمجرمين والغاوين والضالين وقد اوعدهم الله النار وادى ذلك إلى تدافع عجيب واختلال في كلامه تعالى ولو قيل ان هناك ما يصرف هذه الايات ان تشمل المرة والمرتين كايات التوبة والشفاعة ونظائرها فهناك ما يصرف هذه الاية ان تشمل المتقى بالمرة والمرتين وهى نفس آيات الوعيد على الكبائر الموبقة كآيات الزنا والقتل ظلما والربا واكل مال اليتيم واشباهها.
ثم الذى ذكره في تقريب الدلالة وجوه واهية كقوله ان هذه الاية وقعت عقيب قول ابليس الخ فانك قد عرفت فيما تقدم ان ذلك لا ينفعه شيئا وكقوله ان زيادة قيد آخر بعد الايمان خلاف الاصل الخ فان الاصل انما يركن إليه عند عدم الدليل اللفظى وقد عرفت ان هناك آيات جمة صالحة للتقييد.
وكقوله ان ذلك خلاف الظاهر وكأنه يريد به ظهور المطلق في الاطلاق وقد ذهب عليه ان ظهور المطلق انما هو حجة فيما إذا لم يكن هناك ما يصلح للتقييد.
فالحق ان الاية انما تشمل الذين استقرت فيهم ملكة التقوى وهو الورع عن محارم الله فاولئك هم المقضى عليهم بالسعادة والجنة قضاء لازما نعم المستفاد من الكتاب والسنة إن اهل التوحيد وهم من حضر الموقف بشهادة ان لا اله الا الله لا يخلدون في النار ويدخلون الجنة لا محالة وهذا غير دلالة آية المتقين على ذلك.
/ صفحة 173 /
قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين إلى آخر الايتين الغل الحقد وقيل هو ما في الصدر من حقد وحسد مما يبعث الانسان إلى اضرار الغير والسرر جمع سرير والنصب هو التعب والعى الوارد من خارج.
يصف تعالى في الايتين حال المتقين في سعادتهم بدخول الجنة اختص بالذكر هذه الامور من بين نعم الجنة على كثرتها فان العناية باقتضاء من المقام متعلقة ببيان انهم في سلام وامن مما ابتلى به الغاوون من بطلان السعادة وذهاب السيادة والكرامة فذكر انهم في امن من قبل انفسهم لان الله نزع ما في صدورهم من غل فلا يهم الواحد منهم بصاحبه سوء بل هم اخوان على سرر متقابلين ولتقابلهم معنى سيأتي في البحث الروائي ان شاء الله تعالى وانهم في امن من ناحية الاسباب والعوامل الخارجة فلا يمسهم نصب اصلا وانهم في امن وسلام من ناحية ربهم فما هم من الجنة بمخرجين ابدا فلهم السعادة والكرامة من كل جهة ولا يغشاهم ولا يمسهم شقاء ووهن من جهة اصلا لا من ناحية انفسهم ولا من ناحية سائر ما خلق الله ولا من ناحية ربهم.
(كلام) الاقضية التى صدرت عن مصدر العزة في بدء خلقة الانسان على ما وقع في كلامه سبحانه عشرة الاول والثانى قوله لابليس: " فاخرج منها فانك رجيم وان عليك اللعنة إلى يوم الدين " الحجر: 35 ويمكن ارجاعهما إلى واحد.
الثالث قوله سبحانه له: " فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم " الحجر - 38.
الرابع والخامس والسادس قوله له: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين وان جهنم لموعدهم اجمعين " الحجر: 43.
السابع والثامن قوله سبحانه لادم ومن معه: " اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " البقرة: 36.
التاسع والعاشر قوله لهم اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم منى هدى فمن تبع
/ صفحة 174 /
هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون " البقرة 39.
وهناك اقضية فرعية مترتبة على هذه الاقضية الاصلية يعثر عليها المتدبر الباحث.
(بحث روائي) في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله ونفخت فيه من روحي الاية قال روح خلقها الله فنفخ في آدم منها وفيه عن ابى بصير عن ابى عبد الله (عليه السلام): في قوله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي قال خلق خلقا وخلق روحا ثم امر الملك فنفخ فيه وليست بالتى نقصت من الله شيئاهى من قدرته تبارك وتعالى وفيه وفي رواية سماعة عنه (عليه السلام): خلق آدم ونفخ فيه وسألته عن الروح قال هي قدرته من الملكوت.
اقول أي هي قدرته الفعلية منبعثة عن قدرته الذاتية صادرة منها كما يدل عليه الخبر السابق.
وفي المعاني باسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت ابا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل ونفخت فيه من روحي قال روح اختاره واصطفاه وخلقه واضافه إلى نفسه وفضله على جميع الارواح فأمر فنفخ منه في آدم وفي الكافي باسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت ابا جعفر (عليه السلام) عما يروون إن الله خلق آدم على صورته فقال هي على صورة مخلوقة محدثة اصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة فاضافها إلى نفسه كما اضاف الكعبة إلى نفسه فقال بيتى ونفخت فيه من روحي.
اقول وهذه الروايات من غرر الروايات في معنى الروح تتضمن معارف جمة وسنوضح معناها عند الكلام في حقيقة الروح ان شاء الله.
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن ابى عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: " انك لمن المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت
/ صفحة 175 /
ابليس ما بين النفخة الاولى والثانية وفي تفسير العياشي عن وهب بن جميع وفي تفسير البرهان عن شرف الدين النجفي بحذف الاسناد عن وهب واللفظ للثاني عن ابى عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن ابليس وقوله رب فانظرني إلى يوم يبعثون قال فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم - أي يوم هو؟ قال يا وهب أتحسب انه يوم يبعث الله فيه الناس ولكن الله عز وجل انظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا - فيأخذ بناصيته ويضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم وفي تفسير القمى باسناده عن محمد بن يونس عن رجل عن ابى عبد الله (عليه السلام) في قول الله تبارك وتعالى فانظرني إلى قوله إلى يوم الوقت المعلوم قال يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصخرة التى في بيت المقدس.
اقول وهو من اخبار الرجعة وفي معناه ومعنى الرواية السابقة عليه اخبار اخرى من طرق اهل البيت (عليهم السلام) ومن الممكن ان تكون الرواية الاولى من هذه الثلاث الاخيرة صادرة على وجه التقية ويمكن ان توجه الروايات الثلاث من غير تناف بينها بما تقدم في الكلام على الرجعة في الجزء الاول من الكتاب وغيره ان الروايات الواردة من طرق اهل البيت (عليهم السلام) في تفسير غالب آيات القيامة تفسرها بظهور المهدى (عليه السلام) تارة وبالرجعة تارة وبالقيامة اخرى لكون هذه الايام الثلاثة مشتركة في ظهور الحقائق وان كانت مختلفة من حيث الشدة والضعف فحكم احدها جار في الاخرين فافهم ذلك.
وفي تفسير العياشي عن جابر عن ابى جعفر (عليه السلام) قال: قلت أرايت قول الله ان عبادي ليس لك عليهم سلطان؟ ما تفسير هذا؟ قال قال الله انك لا تملك ان تدخلهم جنة ولا نارا وفي تفسير القمى ": في قوله تعالى لها سبعة ابواب الاية قال قال يدخل في كل باب اهل مذهب وللجنة ثمانية ابواب وفي الدر المنثور اخرج احمد في الزهد عن خطاب بن عبد الله قال قال على: أتدرون كيف ابواب جهنم؟ قلنا كنحو هذه الابواب قال لا - ولكنها هكذا
/ صفحة 176 /
ووضع يده فوق يده وبسط يده على يده وفيه اخرج ابن المبارك وهناد وابن ابى شيبة وعبد بن حميد واحمد في الزهد وابن ابى الدنيا في صفة النار وابن جرير وابن ابى حاتم والبيهقي في البعث من طرق عن على قال: ابواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملا الاول ثم الثاني ثم الثالث حتى يملا كلها وفيه اخرج ابن مردويه والخطيب في تاريخه عن انس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى لكل باب منهم جزء مقسوم قال جزء اشركوا بالله وجزء شكوا في الله وجزء غفلوا عن الله.
اقول هو تعداد اجزاء الابواب دون نفسها والظاهر ان الكلام غير مسوق للحصر.
وفيه اخرج ابن مردويه عن ابى ذر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لجهنم باب لا يدخل منه الا من اخفرنى في اهل بيتى وأراق دماءهم من بعدى.
اقول يقال خفره أي غدر به ونقض عهده.
وفيه اخرج احمد وابن حبان والطبري وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عتبة ابن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: للجنة ثمانية ابواب وللنار سبعة ابواب وبعضها افضل من بعض.
اقول والروايات كما ترى تؤيد من قدمناه.
وفي تفسير القمى ": في قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل الاية قال قال العداوة وفي تفسير البرهان عن الحافظ ابى نعيم عن رجاله عن ابى هريرة قال قال على ابن ابى طالب: يا رسول الله ايما انا احب اليك ام فاطمة؟ قال فاطمة احب إلي منك وانت اعز علي منها وكأني بك وانت على حوضى تذود عنه الناس وان عليه اباريق عدد نجوم السماء - وانت والحسن والحسين وحمزة وجعفر في الجنة اخوانا على سرر متقابلين وانت معى وشيعتك ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اخوانا على سرر متقابلين لا ينظر احدكم في قفاء صاحبه
/ صفحة 177 /
وفيه عن ابن المغازلى في المناقب يرفعه إلى زيد بن ارقم قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال إنى مواخ بينكم كما آخى الله بين الملائكة ثم قال لعلى أنت اخى ثم تلا هذه الاية: " اخوانا على سرر متقابلين الاخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض " اقول ورواه ايضا عن احمد في مسنده مرفوعا إلى زيد بن اوفى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والرواية مبسوطة.
وفي الروايتين تفسير قوله تعالى على سرر متقابلين بقوله لا ينظر احدهم في قفاء صاحبه وقوله الاخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض وفيه اشارة إلى ان التقابل في الاية كناية عن عدم تتبع احدهم عورات اخوانه وزلاتهم كما يفعل ذلك من في صدره غل وهو معنى لطيف.
وما قرأه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الاية انما هو من باب الجرى والانطباق لا ان الاية نازلة في اهل البيت (عليهم السلام) فسياق الايات لا يلائمه البتة.
ونظيرها ما روى عن على (عليه السلام): إن الاية نزلت فينا اهل بدر وفي رواية اخرى عنه (عليه السلام): انها نزلت في ابى بكر وعمر وفي رواية اخرى عن على بن الحسين (عليه السلام): انها نزلت في ابى بكر وعمر وعلى وفي رواية اخرى ": انها نزلت في على والزبير وطلحة وفي رواية اخرى ": انها نزلت في على وعثمان وطلحة والزبير وفي رواية اخرى عن ابن عباس ": انها نزلت في عشرة ابى بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود.
والروايات على ما بها من الاختلاف تطبيقات من الرواة والاية تأبى بسياقها عن أن تكون نازلة في بعض المذكورين كيف؟ وهى في جملة آيات تقص ما قضاه الله وحكم به يوم خلق آدم وامر الملائكة وابليس بالسجود له فأبى ابليس فرجمه ثم قضى ما قضى ولا تعلق لذلك باشخاص بخصوصيتهم هذا
* * *
نبئ عبادي إنى أنا الغفور الرحيم - 49 وإن عذابي هو العذاب
/ صفحة 178 /
الاليم - 50 ونبئهم عن ضيف ابراهيم - 51 إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون - 52 قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم - 53 قال أبشرتموني على أن مسنى الكبر فبم تبشرون - 54 قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين - 55 قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون - 56 قال فما خطبكم ايها المرسلون - 57 قالوا إنا ارسلنا إلى قوم مجرمين - 58 إلا آل لوط إنا لمنجوهم اجمعين - 59 الا امراته قدرنا انها لمن الغابرين - 60 فلما جاء آل لوط المرسلون - 61 قال انكم قوم منكرون - 62 قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون - 63 واتيناك بالحق وانا لصادقون - 64 فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع ادبارهم ولا يلتفت منكم احد وامضوا حيث تؤمرون - 65 وقضينا إليه ذلك الامر ان دابر هؤلاء مقطوع مصبحين - 66 وجاء اهل المدينة يستبشرون - 67 قال ان هؤلاء ضيفي فلا تفضحون - 68 واتقوا الله ولا تخزون - 69 قالوا أو لم ننهك عن العالمين - 70 قال هؤلاء بناتى إن كنتم فاعلين - 71 لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون - 72 فاخذتهم الصيحة مشرقين - 73 فجعلنا عاليها سافلها وامطرنا عليهم حجارة من سجيل - 74 إن
/ صفحة 179 /
في ذلك لايات للمتوسمين - 75 وانها لبسبيل مقيم - 76 ان في ذلك لاية للمؤمنين - 77 وان كان اصحاب الايكة لظالمين - 78 فانتقمنا منهم وانهما لبإمام مبين - 79 ولقد كذب اصحاب الحجر المرسلين - 80 وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين - 81 وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين - 82 فأخذتهم الصيحة مصبحين - 83 فما اغنى عنهم ما كانوا يكسبون - 84 (بيان) بعد ما تكلم سبحانه حول استهزائهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما انزل إليه من الكتاب واقتراحهم عليه ان ياتيهم بالملائكه وهم ليسوا بمؤمنين وان سمح لهم باوضح الايات اتى سبحانه في هذه الايات ببيان جامع في التبشير والانذار وهو ما في قوله نبئ عبادي إلى آخر الايتين ثم اوضحه وايده بقصة جامعة للجهتين متضمنة للامرين معا وهى قصة ضيف ابراهيم وفيها بشرى ابراهيم بما لا مطمع فيه عادة وعذاب قوم لوط بأشد انواع العذاب.
ثم ايده تعالى باشارة اجمالية إلى تعذيب اصحاب الايكة وهم قوم شعيب واصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح (عليه السلام).
قوله تعالى: " نبئ عبادي انى انا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الاليم " المراد بقوله عبادي على ما يفيده سياق الايات مطلق العباد ولا يعبؤ بما ذكره بعضهم ان المراد بهم المتقون السابق ذكرهم أو المخلصون.
وتاكيد الجملتين بالاسمية وان وضمير الفصل واللام في الخبر يدل على ان الصفات المذكورة فيها اعني المغفرة والرحمة والم العذاب بالغة في معناها النهاية بحيث لا تقدر بقدر ولا يقاس بها غيرها فما من مغفرة أو رحمة الا ويمكن ان يفرض لها مانع يمنع
/ صفحة 180 /
من ارسالها أو مقدر يقدرها ويحدها لكنه سبحانه يحكم لا معقب لحكمه ولا مانع يقاومه فلا يمنع عن انجاز مغفرته ورحمته شئ ولا يحدهما امر الا أن يشاء ذلك هو عز وجل فليس لاحد ان ييأس من مغفرته أو يقنط من روحه ورحمته استنادا إلى مانع يمنع أو رادع يردع الا أن يخافه تعالى نفسه كما قال: " لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم وانيبوا إلى ربكم " الزمر - 54.
وليس لاحد ان يحقر عذابه أو يؤمل عجزه أو يأمن مكره والله غالب على امره ولا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون قوله تعالى ونبئهم عن ضيف ابراهيم الضيف معروف ويطلق على المفرد والجمع وربما يجمع على اضياف وضيوف وضيفان لكن الافصح كما قيل ان لا يثنى ولا يجمع لكونه مصدرا في الاصل.
والمراد بالضيف الملائكة المكرمون الذين ارسلوا لبشارة ابراهيم بالولد ولهلاك قوم لوط سماهم ضيفا لانهم دخلوا عليه في صورة الضيف.
قوله تعالى: " إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال انا منكم وجلون قالوا لا توجل انا نبشرك بغلام عليم ضمير الجمع في دخلوا وقالوا في الموضعين للملائكة فقولهم سلاما تحية وتقديره نسلم عليك سلاما وقول ابراهيم (عليه السلام) انا منكم وجلون أي خائفون والوجل الخوف.
وانما قال لهم ابراهيم ذلك بعد ما استقر بهم المجلس وقدم إليهم عجلا حنيذا فلم يأكلوا منه فلما رأى ايديهم لا تصل إليه نكرهم واوجس منهم خيفة كما في سورة هود فالقصة مذكورة على نحو التلخيص.
وقولهم لا توجل تسكين لوجله وتأمين له وتطييب لنفسه بانهم رسل ربه وقد دخلوا عليه ليبشروه بغلام عليم أي بولد يكون غلاما وعليما ولعل المراد كونه عليما بتعليم الله ووحيه فيقرب من قوله في موضع " آخر فبشرناه باسحاق نبيا " الصافات: 112.
قوله تعالى: " قال أبشرتموني على ان مسنى الكبر فبم تبشرون " تلقى ابراهيم (عليه السلام) البشرى وهو شيخ كبير هرم لا عقب له من زوجه وقد ايأسته العادة الجارية
/ صفحة 181 /
عن الولد وان كان يجل ان يقنط من رحمه الله ونفوذ قدرته ولذا تعجب من قولهم واستفهمهم كيف يبشرونه بالولد وحاله هذه الحال وزوجه عجوز عقيم كما وقع في موضع آخر من كلامه تعالى.
فقوله ا بشرتموني على ان مسنى الكبر الكبر كنايه عن الشيخوخه ومسه هو نيله منه ما نال بافناء شبابه واذهاب قواه والمعنى انى لا تعجب من بشارتكم اياى والحال انى شيخ هرم فنى شبابى و فقدت قوى بدنى والعاده تستدعى ان لا يولد لمن هذا شانه ولد.
وقوله فبم تبشرون تفريع على قوله مسنى الكبر وهو استفهام عما بشروه به كانه يشك في كون بشارتهم بشرى بالولد مع تصريحهم بذلك لا استبعاد ذلك فيسأل ما هو الذى تبشرون به فان الذى يدل عليه ظاهر كلامكم امر عجيب وهذا شائع في الكلام يقول الرجل إذا اخبر بما يستبعده أو لا يصدقه ما تقول؟ وما تريد؟ وماذا تصنع؟ قوله تعالى: " قالوا بشرناك بالحق إلى قوله الا الضالون " الباء في بالحق للمصاحبة أي ان بشارتنا ملازمة للحق غير منفكة منه فلا تدفعها بالاستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله وهذا جواب للملائكة وقد قابلهم ابراهيم (عليه السلام) على نحو التكنية فقال ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون والاستفهام انكاري أي ان القنوط من رحمة الله مما يختص بالضالين ولست انا بضال فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد.
قوله تعالى: " قال فما خطبكم ايها المرسلون " الخطب الامر الجليل والشأن العظيم وفي خطابهم بالمرسلين دلالة على انهم ذكروا له ذلك قبلا ومعنى الاية ظاهر.
قوله تعالى: " قالوا إنا ارسلنا إلى قوم مجرمين " إلى قوله لمن الغابرين قال في المفردات الغابر الماكث بعد مضى من هو معه قال تعالى: " إلا عجوزا في الغابرين " يعنى فيمن طال اعمارهم وقيل فيمن بقى ولم يسر مع لوط وقيل فيمن بقى بعد في العذاب وفي آخر إلا امرأتك كانت من الغابرين وفي آخر قدرنا انها لمن الغابرين إلى ان قال والغبار ما يبقى من التراب المثار وجعل على بناء
/ صفحة 182 /
الدخان والعثار ونحوهما من البقايا انتهى ولعله من هنا ما ربما يسمى الماضي والمستقبل معا غابرا اما الماضي فبعناية انه بقى فيما مضى ولم يتعد إلى الزمان الحاضر واما المستقبل فبعناية انه باق لم يفن بعد كالماضي.
والايات جواب الملائكة لسؤال ابراهيم قالوا انا ارسلنا من عند الله سبحانه إلى قوم مجرمين نكروهم ولم يسموهم صونا للسان عن التصريح باسمهم تنفرا منه ومستقبل الكلام يعينهم ثم استثنوا وقالوا الا آل لوط وهم لوط وخاصته وظهر به ان القوم قومه انا لمنجوهم أي مخلصوهم من العذاب اجمعين وظاهر السياق كون الاستثناء منقطعا ثم استثنوا امرأة لوط من آله للدلالة على إن النجاة لا تشملها وإن العذاب سيأخذها ويهلكها فقالوا: " إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين " اي الباقين من القوم بعد خروج آل لوط من قريتهم وقد تقدم تفصيل القول في ضيف ابراهيم (عليه السلام) في سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب وعقدنا هناك بحثا مستقلا فيه قوله تعالى: " فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون " إنما قال لهم لوط (عليه السلام) ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان وكان يشقه ما يراه منهم وشأن قومه شأنهم من الفحشاء كما تقدم في سورة هود والمعنى ظاهر قوله تعالى: " قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون " الامتراء من المرية وهو الشك والمراد بما كانوا فيه يمترون العذاب الذي كان ينذرهم به لوط وهو يشكون فيه والمراد باتيانهم بالحق اتيانهم بقضاء حق في أمر القوم لا معدل عنه كما وقع في موضع آخر من قولهم: " وانهم آتيهم عذاب غير مردود " هود: 76 وقيل: المراد وأتيناك بالعذاب الذي لا شك فيه وما ذكرناه هو الوجه وفى آيات القصة تقديم وتأخير لا بمعنى اختلال ترتيبها بحسب النزول عند التأليف بوضع ما هو مؤخر في موضع المقدم وبالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض اجزاء القصة في غير محله الذي يقتضيه الترتيب الطبعي وتعينه له سنة الاقتصاص لنكتة توجب ذلك
/ صفحة 183 /
وترتيب القصة بحسب اجزائها على ما ذكرها الله سبحانه في سورة هود وغيرها والاعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله: " فلما جاء آل لوط " إلى تمام آيتين قبل سائر الايات ثم قوله وجاء اهل المدينة إلى تمام ست آيات ثم قوله قالوا بل جئناك إلى تمام اربع آيات ثم قوله فأخذتهم الصيحة مشرقين إلى آخر الايات.
وحقيقة هذا التقديم والتأخير ان للقصة فصولا اربعة وقد اخذ الفصل الثالث منها فوضع بين الاول والثانى اعني ان قوله وجاء اهل المدينة إلى آخره أخر في الذكر ليتصل آخره وهو قوله لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون بأول الفصل الاخير فأخذتهم الصيحة مشرقين وذلك ليتمثل به الغرض في الاستشهاد بالقصة وينجلى اوضح الانجلاء وهو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال سكرة منهم وأمن منه لا يخطر ببالهم شئ من ذلك وذلك ابلغ في الدهشة وأوقع في الحسرة يزيد في العذاب الما على الم.
ونظير هذا في التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصة اصحاب الحجر الاتية من اتصال قوله وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين بقوله فأخذتهم الصيحة مصبحين كل ذلك ليجلى معنى قوله تعالى في صدر المقال وان عذابي هو العذاب الاليم فافهم ذلك.
قوله تعالى: " فأسر بأهلك بقطع من الليل " إلى آخر الاية الاسراء هو السير بالليل فقوله بقطع من الليل يؤكده وقطع الليل شطر مقطوع منه والمراد باتباعه ادبارهم هو ان يسير وراءهم فلا يترك احدا يتخلف عن السير ويحملهم على السير الحثيث كما يشعر به قوله ولا يلتفت منكم احد.
والمعنى واذ جئناك بعذاب غير مردود وامر من الله ماض يجب عليك ان تسير بأهلك ليلا وتأخذ انت وراءهم لئلا يتخلفوا عن السير ولا يساهلوا فيه ولا يلتفت احد منكم إلى ورائه وامضوا حيث تؤمرون وفيه دلالة على انه كانت امامهم هداية الهية تهديهم وقائد يقودهم.
قوله تعالى وقضينا إليه ذلك الامر إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين القضاء
/ صفحة 184 /
مضمن معنى الوحى ولذا عدى بإلى كما قيل والمراد بالامر امر العذاب كما يفسره قوله إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين والاشارة إليه بلفظة ذلك للدلالة على عظم خطره وهول امره.
والمعنى وقضينا امرنا العظيم في عذابهم موحيا ذلك إلى لوط وهو إن دابر هؤلاء واثرهم الذى من شأنه ان يبقى بعدهم من نسل وبناء وعمل مقطوع حال كونهم مصبحين أو التقدير اوحينا إليه قاضيا الخ.
قوله تعالى: " وجاء اهل المدينة يستبشرون إلى قوله ان كنتم فاعلين " يدل نسبة المجئ إلى اهل المدينة على كونهم جماعة عظيمة يصح عدهم اهل المدينة لكثرتهم.
فالمعنى وجاء إلى لوط اهل المدينة جمع كثير منهم يريدون اضيافه وهم يستبشرون لولعهم بالفحشاء وخاصة بالداخلين في بلادهم من خارج فاستقبلهم لوط مدافعا عن اضيافه قال ان هؤلاء ضيفي فلا تفضحون بالعمل الشنيع بهم واتقوا الله ولا تخزون قالوا المهاجمون من اهل المدينة ألم نقطع عذرك في ايوائهم أو لم ننهك عن العالمين ان تؤويهم وتشفع فيهم وتدافع عنهم فلما يئس لوط (عليه السلام) منهم عرض عليهم بناته ان ينصرفوا عن اضيافه بنكاحهن كما تقدم بيانه في سورة هود قال ان هؤلاء بناتى ان كنتم فاعلين.
قوله تعالى: " لعمرك انهم لفى سكرتهم يعمهون " إلى قوله من سجيل " قال في المفردات العمارة ضد الخراب قال والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة فهو دون البقاء فإذا قيل طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه وإذا قيل بقاؤه فليس يقتضى ذلك فان البقاء ضد الفناء ولفضل البقاء على العمر وصف الله به وقلما وصف بالعمر قال والعمر بالضم والعمر بالفتح واحد لكن خص القسم بالعمر بالفتح دون العمر بالضم نحو لعمرك انهم لفى سكرتهم انتهى.
والخطاب في لعمرك للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو قسم ببقائه وقول بعضهم انه خطاب من الملائكة للوط (عليه السلام) وقسم بعمره لا دليل عليه من سياق الايات.
والعمه هو التردد على حيرة والسجيل حجارة العذاب وقد تقدم تفصيل القول في معناه في تفسير سورة هود.
/ صفحة 185 /
والمعنى اقسم بحياتك وبقائك يا محمد انهم لفى سكرتهم وهى غفلتهم بانغمارهم في الفحشاء والمنكر يترددون متحيرين فاخذتهم الصيحة وهى الصوت الهائل مشرقين أي حال كونهم داخلين في اشراق الصبح فجعلنا عالى بلادهم سافلها وفوقها تحتها وامطرنا وانزلنا من السماء عليهم حجارة من سجيل.
قوله تعالى: " إن في ذلك لايات للمتوسمين " إلى قوله للمؤمنين الاية العلامة والمراد بالايات اولا العلامات الدالة على وقوع الحادثة من بقايا الاثار وبالاية ثانيا العلامة الدالة للمؤمنين على حقية الانذار والدعوة الالهية والتوسم التفرس والانتقال من سيماء الاشياء على حقيقة حالها.
والمعنى ان في ذلك أي فيما جرى من الامر على قوم لوط وفي بلادهم لعلامات من بقايا الاثار للمتفرسين وان تلك العلامات لبسبيل للعابرين مقيم لم تعف ولم تنمح بالكلية بعد ان في ذلك لاية للمؤمنين تدل على حقية الانذار والدعوة وقد تبين بذلك وجه ايراد الايات جمعا ومفردا في الموضعين قوله تعالى: " وان كان اصحاب الايكة لظالمين - فانتقمنا منهم وانهما لبإمام مبين " الايكة واحدة الايك وهو الشجر الملتف بعضه ببعض فقد كانوا كما قيل في غيضة أي بقعة كثيفة الاشجار.
وهؤلاء كما ذكروا هم قوم شعيب (عليه السلام) أو طائفة من قومه كانوا يسكنون الغيضة ويؤيده قوله تعالى ذيلا وانهما لبامام مبين أي مكانا قوم لوط واصحاب الايكة لفى طريق واضح فان الذى على طريق المدينة إلى الشام هي بلاد قوم لوط وقوم شعيب الخربة اهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم لدعوة شعيب (عليه السلام) وقد تقدمت قصتهم في سورة هود وقوله فانتقمنا منهم الضمير لاصحاب الايكة وقيل لهم ولقوم لوط ومعنى الايتين ظاهر.
قوله تعالى: " ولقد كذب اصحاب الحجر المرسلين إلى قوله ما كانوا يكسبون " اصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح والحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها وعدهم مكذبين لجميع المرسلين وهم انما كذبوا صالحا المرسل إليهم انما هو لكون دعوة الرسل دعوة واحدة والمكذب لواحد منهم مكذب للجميع.
/ صفحة 186 /
وقوله وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين ان كان المراد بالايات المعجزات والخوارق كما هو الظاهر فالمراد بها الناقة وشربها وما ظهر لهم بعد عقرها إلى ان أهلكوا وقد تقدمت القصة في سورة هود وان كان المراد بها المعارف الالهية التى بلغها صالح (عليه السلام) ونشرها فيهم أو المجموع من المعارف الحقة والاية المعجزة فالامر واضح.
وقوله وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين أي كانوا يسكنون الغيران والكهوف المنحوتة من الحجارة آمنين من الحوادث الارضية والسماوية بزعمهم.
وقوله فاخذتهم الصيحة مصبحين أي صيحة العذاب التى كان فيها هلاكهم وقد تقدمت الاشارة إلى مناسبة اجتماع الامن مع الصيحة في الايتين لقوله في صدر الايات وان عذابي هو العذاب الاليم.
وقوله فما اغنى عنهم ما كانوا يكسبون أي من الاعمال لتأمين سعادتهم في الحياة.
(بحث روائي) في الدر المنثور اخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم عن مصعب بن ثابت قال: مر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ناس من اصحابه يضحكون قال اذكروا الجنة واذكروا النار فنزلت " نبئ عبادي انى أنا الغفور الرحيم ".
اقول وفي معناه روايات اخر لكن في انطباق معنى الاية على ما ذكر فيها من السبب خفاء.
وفيه اخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد في قوله ان في ذلك لايات للمتوسمين قال هم المتفرسون.
وفيه اخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن ابى حاتم وابن السنى وابو نعيم معا في الطب وابن مردويه والخطيب عن ابى سعيد الخدرى قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله ثم قرأ ان في ذلك لايات للمتوسمين قال المتفرسين
/ صفحة 187 /
وفي اختصاص المفيد باسناده عن ابى بكر بن محمد الحضرمي عن ابى جعفر (عليه السلام) قال قال: ما من مخلوق الا وبين عينيه مكتوب مؤمن أو كافر وذلك محجوب عنكم وليس بمحجوب عن الائمة من آل محمد ثم ليس يدخل عليهم احد إلا عرفوه مؤمنا أو كافرا ثم تلا هذه الاية إن في ذلك لايات للمتوسمين فهم المتوسمون.
اقول والروايات في هذا المعنى متظافرة متكاثرة وليس معناها نزول الاية فيهم (عليهم السلام) وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن مدين واصحاب الايكة أمتان بعث الله اليهما شعيبا.
اقول وقد اوردنا ما يجب ايراده من الروايات في قصة بشرى ابراهيم وقصص لوط وشعيب وصالح (عليهم السلام) في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب واكتفينا بذلك عن ايرادها ههنا فليرجع إلى هناك
* * *
وما خلقنا السموات والارض وما بينهما الا بالحق وان الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل - 85 ان ربك هو الخلاق العليم - 86 ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم - 87 لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ازواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين - 88 وقل إنى أنا النذير المبين - 89 كما انزلنا على المقتسمين - 90 الذين جعلوا القرآن عضين - 91 فو ربك لنسألنهم اجمعين - 92 عما كانوا يعملون - 93 فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين - 94 إنا كفيناك المستهزئين - 95
/ صفحة 188 /
الذين يجعلون مع الله الها آخرفسوف يعلمون - 96 ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون - 97 فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين - 98 واعبد ربك حتى يأتيك اليقين - 99 (بيان) في الايات تخلص إلى غرض البيان السابق وهو امر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصدع بما يؤمر وياخذ بالصفح والاعراض عن المشركين ولا يحزن عليهم ولا يضيق صدره بما يقولون فان من القضاء الحق ان يجازى الناس باعمالهم في الدنيا والاخرة وخاصة يوم القيامة الذى لا ريب فيه وهو اليوم الذى لا يغادر احدا ولا يدع مثقال ذرة من الخير والشر الا الحقه بعامله فلا ينبغى أن يؤسف لكفر كافر فان الله عليم به سيجازيه ولا يحزن عليه فان الاشتغال بالله سبحانه اهم وأوجب.
ولقد كرر سبحانه امره بالصفح والاعراض عن اولئك المستهزئين به وهم الذين مر ذكرهم في مفتتح السورة والاشتغال بتسبيحه وتحميده وعبادته واخبره انه كفاه شرهم فليشتغل بما امره الله به وبذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: " وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وان الساعة لآتية الباء في قوله بالحق للمصاحبة أي ان خلقها جميعا لا ينفك عن الحق ويلازمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال تعالى: " إن إلى ربك الرجعى " العلق: 8 ولو لا ذلك لكان لعبا باطلا قال تعالى: " وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق " الدخان: 39 وقال: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا " ص: 27 ومن الدليل على كون المراد بالحق ما يقابل اللعب الباطل تذييل الكلام بقوله وان الساعة لآتية وهو ظاهر.
وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم ان المراد بالحق العدل والانصاف والباء للسببية والمعنى ما خلقنا ذلك الا بسبب العدل والانصاف يوم الجزاء بالاعمال.
/ صفحة 189 /
وذلك ان كون الحق في الاية بمعنى العدل والانصاف لا شاهد عليه من اللفظ على ان الذى ذكره من المعنى انما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أو للمصاحبة دون السببية.
وكذا ما ذكره بعضهم ان الحق بمعنى الحكمة وان الجملة الاولى وما خلقنا الخ ناظرة إلى العذاب الدنيوي والثانية وان الساعة لآتية إلى العذاب الاخروي والمعنى وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما إلا متلبسا بالحق والحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور وقد اقتضت الحكمة اهلاك امثال هؤلاء دفعا لفسادهم وارشادا لمن بقى إلى الصلاح وان الساعة لآتية فينتقم ايضا فيها من امثال هؤلاء.
وفي الاية مشاجرة بين اصحاب الجبر والتفويض كل من الفريقين يجر نارها إلى قرصته فاستدل بها اصحاب الجبر على ان افعال العباد مخلوقة لله لان اعمالهم من جملة ما بينهما فهى مخلوقه له.
واستدل بها اصحاب التفويض على ان افعال العباد ليست مخلوقة له بل لانفسهم فان المعاصي وقبائح الاعمال من الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقا بالحق والحق ان الحجتين جميعا من الباطل فان جهات القبح والمعصية في الافعال حيثيات عدمية إذ الطاعة والمعصية كالنكاح والزنا وأكل المال من حله وبالباطل وامثال ذلك مشتركة في اصل الفعل وانما تختلف طاعة ومعصية بموافقة الامر ومخالفته والمخالفة جهة عدمية وإذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا يستلزم استناد القبيح أو المعصية إليها فان ذلك من جهاته العدمية فليس الفعل بجهته العدمية مما بين السماوات والارض حتى تشمله الاية ولا بجهته الوجودية من الباطل حتى يكون خلقه خلقا للباطل بالحق.
على ان الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل والمعلولات في الوجود وان قيام وجود شئ بشئ بحيث لا يستقل دونه هو ملاك الاتصاف فالمتصف بالطاعة والمعصية وحسن الفعل وقبيحه هو الانسان دون الذى خلقه ويسر له ان يفعل كذا وكذا كما
/ صفحة 190 /
ان المتصف بالسواد والبياض الجسم الذى يقوم به هذان اللونان دون الذى اوجده.
وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في تفسير قوله: " وما يضل به إلا الفاسقين " البقرة: 26 الجزء الاول من الكتاب.
قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل ان ربك هو الخلاق العليم قال في المفردات صفح الشئ عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر والصفح ترك التثريب وهو ابلغ من العفو ولذلك قال فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره وقد يعفوا الانسان ولا يصفح قال تعالى: " فاصفح عنهم وقل سلام فاصفح الصفح الجميل أفنضرب عنكم الذكر صفحا.
وصفحت عنه اوليته صفحة جميلة معرضا عن ذنبه أو لقيت صفحته متجافيا عنه أو تجاوزت الصفحة التى اثبت فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك تصفحت الكتاب وقوله: " إن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل " فأمر له (عليه السلام) ان يخفف كفر من كفر كما قال ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون والمصافحة الافضاء بصفحة اليد انتهى.
وسيأتى ما في الرواية من تفسير على (عليه السلام) الصفح بالعفو من غير عتاب.
وقوله فاصفح الصفح الجميل تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحق وهناك يوم فيه يحاسبون ويجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب والاستهزاء واعف عنهم من غير ان تقع فيهم بعتاب أو مناقشة وجدال فان ربك الذى خلقك وخلقهم هو عليم بحالك وحالهم ووراءهم يوم لا يفوتونه.
ومن هنا يظهر ان قوله ان ربك هو الخلاق العليم تعليل لقوله فاصفح الصفح الجميل.
وهذه الايات الحافة لقوله فاصدع بما تؤمر تسلية للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطييب لنفسه ليأخذ قوله فاصدع بما تؤمر موقعه فقد عرفت في اول السورة ان الغرض الاصيل منها هو الامر باعلان الدعوة وعرفت ايضا بالتدبر في الايات السابقة انها مسرودة ليتخلص بها إلى تسليته (صلى الله عليه وآله وسلم) عما لقى من قومه من الايذاء والاهانة والاستهزاء ويتخلص من ذلك إلى الامر المطلوب.
/ صفحة 191 /
قوله تعالى: " ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم " السبع المثانى هي سورة الحمد على ما فسر في عدة من الروايات المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وائمة اهل البيت (عليهم السلام) فلا يصغى إلى ما ذكره بعضهم انها السبع الطوال وما ذكره بعض آخر انها الحواميم السبع وما قيل انها سبع صحف من الصحف النازلة على الانبياء فلا دليل على شئ منها من لفظ الكتاب ولا من جهة السنة.
وقد كثر اختلافهم في قوله من المثانى من جهة كون من للتبعيض أو للتبيين وفي كيفية اشتقاق لفظة المثانى ووجه تسميتها بالمثاني.
والذى ينبغى ان يقال والله اعلم ان من للتبعيض فانه سبحانه سمي جميع آيات كتابه مثانى إذ قال: " كتابا متشابها مثانى تقشعر منه قلوب الذين يخشون ربهم " الزمر: 23 وآيات سورة الحمد من جملتها فهى بعض المثانى لا كلها.
والظاهر ان المثانى جمع مثنية اسم مفعول من الثنى بمعنى اللوى والعطف والاعادة قال تعالى: " يثنون صدورهم " هود - 5 وسميت الايات القرآنية مثانى لان بعضها يوضح حال البعض ويلوى وينعطف عليه كما يشعر به قوله كتابا متشابها مثانى حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضا وبين كون آياته مثانى وفي كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في صفة القرآن يصدق بعضه بعضا وعن على (عليه السلام): فيه ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير والاعادة كناية عن بيان بعض الايات ببعض.
ولعل في ذلك كفاية وغنى عما ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشاف وحواشيه والمجمع وروح المعاني وغيرها كقولهم انها من التثنية أو الثنى بمعنى التكرير والاعادة سميت آيات القرآن مثانى لتكرر المعاني فيها وكقولهم سميت الفاتحة مثانى لوجوب قراءتها في كل صلاة مرتين أو لانها تثنى في كل ركعة بما يقرؤ بعدها من القرآن أو لان كثيرا من كلماتها مكررة كالرحمان والرحيم واياك والصراط وعليهم أو لانها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله أو لان الله استثناها وادخرها لهذه الامة ولم ينزلها على الامم الماضين كما في الرواية إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.
/ صفحة 192 /
وفي قوله سبعا من المثانى والقرآن العظيم من تعظيم امر الفاتحة والقرآن ما لا يخفى اما القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة والكبرياء بالعظيم واما الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة سبعا وفيه من الدلالة على عظمة قدرها وجلالة شأنها ما لا يخفى وقد قوبل بها القرآن العظيم وهى بعضه.
والاية كما تبين في مقام الامتنان وهى مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة إلى الصفح والاعراض تفيد ان في هذه الموهبة العظمى المتضمنة لحقائق المعارف الالهية الهادية إلى كل كمال وسعادة باذن الله عدة ان تحملك على الصفح الجميل والاشتغال بربك والتوغل في طاعته.
قوله تعالى: " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ازواجا منهم " إلى قوله المبين الايتان في مقام بيان الصفح الجميل الذى تقدم الامر به ولذلك جئ بالكلام في صورة الاستئناف.
والمذكور فيهما اربعة دساتير منفيان ومثبتان فقوله لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به ازواجا منهم مد العينين إلى ما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية عن التعدي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة والمراد بالازواج الازواج من الرجال والنساء أو الاصناف من الناس كالوثنيين واليهود والنصارى والمجوس والمعنى لا تتجاوز عن النظر عما انعمناك به من النعم الظاهرة والباطنة إلى ما متعنا به ازواجا قليلة أو اصنافا من الكفار.
وربما اخذ بعضهم قوله لا تمدن عينيك كناية عن اطالة النظر وادامته وانت تعلم ان الغرض على أي حال النهى عن الرغبة والميل والتعلق القلبى بما في ايديهم من امتعة الحياة كالمال والشوكة والصيت والذى يكنى به عن ذلك هو النهى عن اصل النظر إليه لا عن اطالته وادامته ويشهد به ما سننقله من آية الكهف.
وقوله ولا تحزن عليهم أي من جهة تماديهم في التكذيب والاستهزاء واصرارهم على ان لا يؤمنوا بك.
وقوله واخفض جناحك للمؤمنين قالوا هو كناية عن التواضع ولين الجانب والاصل فيه ان الطائر إذا اراد ان يضم إليه افراخه بسط جناحه عليها ثم
/ صفحة 193 /
خفضه لها هذا والذى ذكروه وان امكن ان يتأيد بآيات اخر كقوله: " فبما رحمة من الله لنت لهم " آل عمران: 159 وقوله في صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمؤمنين رؤف رحيم " التوبة: 128 لكن الذى وقع في نظير الاية مما يمكن ان يفسر به خفض الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين وهو يناسب ان يكون كناية عن ضم المؤمنين إليه وقصر الهم على معاشرتهم وتربيتهم وتأديبهم بأدب الله أو كناية عن ملازمتهم والاحتباس فيهم من غير مفارقة كما ان الطائر إذا خفض الجناح لم يطر ولم يفارق قال تعالى: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا " الاية الكهف: 28.
وقوله وقل انى انا النذير المبين أي لا دعوى لى الا انى نذير انذركم بعذاب الله سبحانه مبين ابين لكم ما تحتاجون إلى بيانه وليس لى وراء ذلك من الامر شئ.
فهذه الامور الاربعة اعني ترك الرغبة بما في ايديهم من متاع الحياة الدنيا وترك الحزن عليهم إذا كفروا واستهزؤا وخفض الجناح للمؤمنين واظهار انه نذير مبين هو الصفح الجميل الذى يليق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو اسقط منها واحد لاختل الامر.
ومن ذلك يظهر ان قول بعضهم ان قوله فاصفح الصفح الجميل منسوخ بآية السيف غير وجيه فان هذا الصفح الذى تأمر به الاية ويفسره قوله لا تمدن عينيك باق على احكامه واعتباره حتى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه.
قوله تعالى: " كما انزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين " قال في المجمع عضين جمع عضة واصله عضوة فنقصت الواو لذلك جمعت عضين بالنون كما قيل عزوة وعزون والاصل عزوة والتعضية التفريق مأخوذ من الاعضاء يقال عضيت الشئ أي فرقته وبعضته قال رؤبة وليس دين الله بالمعضى انتهى موضع الحاجة.
وقوله كما انزلنا على المقتسمين لا يخلو السياق من دلالة على انه متعلق بمقدر يلوح إليه قوله وقل إنى أنا النذير المبين أي بعذاب منزل ينزل عليكم كما انزلنا على المقتسمين والمراد بالمقتسمين هم الذين يصفهم قوله بعد الذين
/ صفحة 194 /
جعلوا القرآن عضين وهم على ما وردت به الرواية قوم من كفار قريش جزؤا القرآن اجزاء فقالوا سحر وقالوا اساطير الاولين وقالوا مفترى وتفرقوا في مداخل طرق مكة ايام الموسم يصدون الناس الواردين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما سيأتي في البحث الروائي ان شاء الله.
وقيل قوله كما انزلنا متعلق بما تقدم من قوله ولقد آتيناك سبعا من المثانى أي انزلنا عليك القرآن كما انزلنا على المقتسمين والمراد بالمقتسمين اليهود والنصارى الذين فرقوا القرآن اجزاء وابعاضا وقالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
وفيه ان السورة مكية نازلة في اوائل البعثة ولم يبتل الاسلام يومئذ باليهود والنصارى ذاك الابتلاء وقولهم: " آمنوا بالذى انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره " آل عمران: 72 مما قالته اليهود بعد الهجرة وكذا ما اشبه ذلك والدليل على ما ذكرنا سياق الايات.
وربما قيل سموا مقتسمين لانهم اقتسموا انبياء الله وكتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ويدفعه ان الاية التالية تفسر المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين لا بالذين فرقوا بين انبياء الله أو بين كتبه.
فالظاهر أن الآيتين تذكران قوما نهضوا في أوائل البعثة على اطفاء نور القرآن وبعضوه ابعاضا ليصدوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب وأهلكهم، وهم الذين ذكروا في الآيتين ثم يذكر الله مآل أمرهم بقوله: " فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ".
قوله تعالى: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " قال في المجمع: الصدع والفرق والفصل نظائر، وصدع بالحق إذا تكلم به جهارا، انتهى.
والآية تفريع على ما تقدم، ومن حقها ان تتفرع لانها الغرض في الحقيقة من السورة اي إذا كان الامر على ما ذكر وأمرت بالصفح الجميل وكنت نذيرا بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحق وأعلن الدعوة.
وبذلك يظهر أن قوله: " إنا كفيناك المستهزئين " في مقام التعليل لقوله: فاصدع الخ، كما يشعر الكلام أو يدل على أن هؤلاء المستهزئين هم المقتسمون
/ صفحة 195 /
المذكورون قبل، ومعنى الآية إذا كان الامر كما ذكرناه وكنت نذيرا بعذابنا كما انزلناه على المقتسمين " فاصدع بما تؤمر " وأعلن الدعوة وأظهر الحق " وأعرض عن المشركين إنا " اي لاننا كفيناك المستهزئين بانزال العذاب عليهم وهم " الذين يجعلون مع الله الها آخر فسوف يعلمون ".
قوله تعالى: " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " رجع ثانيا إلى حزنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته وتطييب نفسه وتقوية روحه، وقد أكثر سبحانه في كلامه وخاصة في السور المكية من ذلك لشدة الامر عليه صلى الله عليه وآاه وسلم.
قوله تعالى: " فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وصاه سبحانه بالتسبيح والتحميد والسجدة والعبادة أو ادامة العبودية مفرعا ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففى ذلك استعانة على الغم والمصيبة وقد امره في الايات السابقة بالصفح والصبر ويستفاد الامر بالصبر ايضا من قوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين فان ظاهره الامر بالصبر على العبودية حتى حين وبذلك يصير الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد والمقاومة على مر الحوادث استعينوا بالصبر والصلاة " البقرة: 153.
وبذلك يتأيد ان المراد بالساجدين المصلون وانه امر بالصلاة وقد سميت سجودا تسمية لها باسم افضل اجزائها ويكون المراد بالتسبيح والتحميد اللفظى منهما كقول سبحان الله والحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجه إلى الله سبحانه امكن ان يكون المراد بالتسبيح والتحميد أو بهما وبالسجود المعنى اللغوى وهو تنزيهه تعالى عما يقولون والثناء عليه بما انعم به عليه من النعم والتذلل له تذلل العبودية.
واما قوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين فان كان المراد به الامر بالعبادة كان كالمفسر للاية السابقة وان كان المراد الاخذ بالعبودية كما هو ظاهر السياق وخاصة سياق الايات السابقة الآمرة بالصفح والاعراض ولازمهما الصبر كان بقرينة تقييده بقوله حتى يأتيك اليقين امرا بانتهاج منهج التسليم والطاعة والقيام بلوازم العبودية.
/ صفحة 196 /
وعلى هذا فالمراد باتيان اليقين حلول الاجل ونزول الموت الذى يتبدل به الغيب من الشهادة ويعود به الخبر عيانا ويؤيد ذلك تفريع ما تقدم من قوله فاصفح الصفح الجميل على قوله وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وان الساعة لآتية فانه بالحقيقة امر بالعفو والصبر على ما يقولون لان لهم يوما ينتقم الله منهم ويجازيهم باعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبودية واصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى مر ما يقولون حتى يدركك الموت وينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك.
وفي التعبير بمثل قوله حتى ياتيك اليقين اشعار ايضا بذلك فان العناية فيه بان اليقين طالب له وسيدركه فليعبد ربه حتى يدركه ويصل إليه وهذا هو عالم الاخرة الذى هو عالم اليقين العام بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقيني الذى ربما يحصل بالنظر أو بالعبادة.
وبذلك يظهر فساد ما ربما قيل ان الاية تدل على ارتفاع التكليف بحصول اليقين وذلك لان المخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد دلت آيات كثيرة من كتاب الله انه من الموقنين وانه على بصيرة وانه على بينة من ربه وانه معصوم وانه مهدى بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك مضافا إلى ما قدمناه من دلالة الاية على كون المراد باليقين هو الموت.
وسنفرد لدوام التكليف بحثا عقليا بعد الفراغ عن البحث الروائي ان شاء الله تعالى (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج ابن مردويه وابن النجار عن على بن ابى طالب: في قوله فاصفح الصفح الجميل قال الرضا بغير عتاب وفي المجمع حكى عن على بن ابى طالب (عليه السلام): ان الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب وفي العيون باسناده عن على بن الحسن بن فضال عن ابيه عن الرضا (عليه السلام): في
/ صفحة 197 /
الاية قال العفو من غير عتاب وفي التهذيب باسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت ابا عبد الله (عليه السلام) عن السبع المثانى والقرآن العظيم هي فاتحة الكتاب؟ قال نعم قلت بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال نعم هي افضلهن.
اقول وهو مرومن طرق الشيعة عن امير المؤمنين (عليه السلام) وغير واحد من ائمة اهل البيت (عليهم السلام) ومن طرق اهل السنة عن على وعدة من الصحابة كعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وابن عباس وابى بن كعب وابى هريرة وغيرهم.
وفي الدر المنثور اخرج الطبراني في الاوسط عن ابن عباس قال: سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال أرايت قول الله كما انزلنا على المقتسمين؟ قال اليهود والنصارى قال الذين جعلوا القرآن عضين قال آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
اقول وقد عرفت فيما مر ان مضمون الرواية لا يلائم كون السورة مكية.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر وابى عبد الله (عليه السلام): عن قوله الذين جعلوا القرآن عضين قالا هم قريش وفي المعاني باسناده عن عبد الله بن على الحلبي قال سمعت ابا عبد الله (عليه السلام) يقول: مكث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة بعد ما جاء الوحى - عن الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة مستخفيا منها ثلاث سنين خائفا لا يظهر - حتى امر الله عز وجل أن يصدع بما امر فاظهر حينئذ الدعوة وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير عن ابى عبيدة ان عبد الله بن مسعود قال ": ما زال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مستخفيا حتى نزل فاصدع بما تؤمر فخرج هو واصحابه وفي تفسير العياشي عن محمد بن على الحلبي عن ابى عبد الله (عليه السلام) قال اكتتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة سنين ليس يظهر وعلى معه وخديجة ثم امره الله ان يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا اتاهم قالوا كذاب امض عنا وفي تفسير العياشي عن ابان بن عثمان الاحمر رفعه قال كان المستهزؤن خمسة
/ صفحة 198 /
من قريش الوليد بن المغيرة المخزومى والعاص بن وائل السهمى والحارث بن حنظلة (1) والاسود بن عبد يغوث بن وهب الزهري والاسود بن المطلب بن اسد فلما قال الله إنا كفيناك المستهزئين علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قد اخزاهم فأماتهم الله بشر ميتات اقول ورواه الصدوق في المعاني باسناده عن ابان وروى فيه ايضا والطبرسي في الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه عن على (عليه السلام) ما في هذا المعنى وهو حديث طويل فيه تفصيل هلاك كل من هؤلاء الخمسة لعنهم الله وروى كون المستهزئين خمسة من قريش عن على وعن ابن عباس مع سبب هلاكهم والروايات مع ذلك مختلفة من طرق اهل السنة من جهة عددهم واسمائهم واسباب هلاكهم والذى اتفق فيه حديث الفريقين هو ما قدمناه.
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه والديلمي عن ابى الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول ما اوحى إلى أن أكون تاجراولا اجمع المال متكاثرا ولكن اوحى إلى أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
اقول وروى ما في معناه ايضا عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه اخرج البخاري وابن جرير عن ام العلاء ": ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على عثمان ابن مظعون وقد مات فقلت رحمة الله عليك ابا السائب فشهادتي عليك لقد اكرمك الله فقال - وما يدريك ان الله اكرمه؟ اما هو فقد جاءه اليقين انى لارجو له الخير وفي الكافي باسناده عن حفص بن غياث قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): ان من صبر صبر قليلا ومن جزع جزع قليلا.
ثم قال عليك بالصبر في جميع امورك فان الله عز وجل بعث محمدا وامره بالصبر والرفق فقال واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرنى والمكذبين اولى النعمة وقال تبارك وتعالى: " ادفع بالتى هي احسن السيئة فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم وما يلقاها الا الذين صبرواوما يلقاها الا ذو حظ عظيم ".
* (هامش) *
(1) طلاطلة ط.
(*)
/ صفحة 199 /
فصبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نالوه بالعظائم ورموه بها وضاق صدره وقال الله: " ولقد نعلم انك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين " (بحث فلسفي في كيفية وجود التكليف ودوامه) قد تقدم في خلال ابحاث النبوة وكيفية انتشاء الشرائع السماوية في هذا الكتاب ان كل نوع من انواع الموجودات له غاية كمالية هو متوجه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجودية تناسب وجوده لا يسكن عنها دون ان ينالها الا ان يمنعه عن ذلك مانع مزاحم فيبطل دون الوصول إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد والنمو قبل ان تبلغ غايتها لآفات تعرضها وتقدم ايضا ان الحرمان من بلوغ الغايات انما هو في افراد خاصة من الانواع واما النوع بنوعيته فلا يتصور فيه ذلك.
وان الانسان وهو نوع وجودي له غاية وجودية لا ينالها الا بالاجتماع المدنى كما يشهد به تجهيز وجوده بما لا يستغنى به عن سائر امثاله كالذكورة والانوثة والعواطف والاحساسات وكثرة الحوائج وتراكمها.
وان تحقق هذا الاجتماع وانعقاد المجتمع الانساني يحوج افراد المجتمع إلى احكام وقوانين ينتظم باحترامها والعمل بها شتات امورهم ويرتفع بها اختلافاتهم الضرورية ويقف بها كل منهم في موقفه الذى ينبغى له ويحوز بها سعادته وكماله الوجودى وهذه الاحكام والقوانين العملية في الحقيقة منبعثة عن الحوائج التى تهتف بها خصوصية وجود الانسان وخلقته الخاصة بما لها من التجهيزات البدنية والروحية كما ان خصوصية وجوده وخلقته مرتبطة بخصوصيات العلل والاسباب التى تكون وجود الانسان من الكون العام.
وهذا معنى كون الدين فطريا أي انه مجموع احكام وقوانين يرشد إليها وجود الانسان بحسب التكوين وان شئت فقل سنن يستدعيها الكون العام فلو اقيمت اصلحت المجتمع وبلغت بالافراد غايتها في الوجود وكمالها المطلوب ولو تركت وابطلت افسدت العالم الانساني وزاحمت الكون العام في نظامه.
وان هذه الاحكام والقوانين سواء كانت معاملية اجتماعية تصلح بها حال المجتمع
/ صفحة 200 /
ويجمع بها شمله أو عبادية تبلغ بالانسان غاية كماله من المعرفة والصلاح في مجتمع صالح فانها جميعا يجب ان يتلقاها الانسان من طريق نبوة الهية ووحى سماوي لا غير.
وبهذه الاصول الماضية يتبين ان التكليف الالهى يلازم الانسان ما عاش في هذه النشأة الدنيوية سواء كان في نفسه ناقصا لم يكمل وجودا بعد أو كاملا علما وعملا اما لو كان ناقصا فظاهر واما لو كان كاملا فلان معنى كماله أن يحصل له في جانبى العلم والعمل ملكات فاضلة يصدر عنها من الاعمال المعاملية ما يلائم المجتمع ويصلحه ويتمكن من كمال المعرفة وصدور الاعمال العبادية الملائمة للمعرفة كما تقتضيه العناية الالهية الهادية للانسان إلى سعادته.
ومن المعلوم ان تجويز ارتفاع التكليف عن الانسان الكامل ملازم لتجويز تخلفه عن الاحكام والقوانين وهو فيما يرجع إلى المعاملات يوجب فساد المجتمع والعناية الالهية تأباه وفيما يرجع إلى العبادات يوجب تخلف الملكات عن آثارها فان الافعال مقدمات معدة لحصول الملكات ما لم تحصل وإذا حصلت عادت تلك الافعال آثارا لها تصدر عنها صدورا لا تخلف فيه.
ومن هنا يظهر فساد ما ربما يتوهم ان الغرض من التكليف تكميل الانسان وايصاله غاية وجوده فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى.
وجه الفساد إن تخلف الانسان عن التكليف الالهى وان كان كاملا في المعاملات يفسد المجتمع وفيه ابطال العناية الالهية بالنوع وفي العبادات يستلزم تخلف الملكات عن آثارها وهو غير جائز ولو جاز لكان فيه ابطال الملكة وفيه ايضا ابطال العناية نعم بين الانسان الكامل وغيره فرق في صدور الافعال وهو ان الكامل مصون عن المخالفة لمكان الملكة الراسخة بخلاف غير الكامل والله المستعان