/ صفحة 201 /

(سورة النحل مكية وهى مائة وثمان وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم أتى امر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون - 1 ينزل الملائكة بالروح من امره على من يشاء من عباده ان انذروا انه لا اله الا انا فاتقون - 2 خلق السموات والارض بالحق تعالى عما يشركون - 3 خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين - 4.

والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون - 5 ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون - 6 وتحمل اثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس ان ربكم لرؤف رحيم – 7 والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون - 8 وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين - 9 هو الذى انزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون - 10 ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون - 11 وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ان في ذلك لايات لقوم يعقلون - 12 وما ذرأ لكم في الارض مختلفا

 

/ صفحة 202 /

الوانه ان في ذلك لاية لقوم يذكرون - 13 وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون - 14 والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون - 15 وعلامات وبالنجم هم يهتدون - 16 أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون - 17 وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ان الله لغفور رحيم - 18 والله يعلم ما تسرون وما تعلنون - 19 والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون - 20 اموات غير احياء وما يشعرون ايان يبعثون - 21 (بيان) الغالب على الظن إذا تدبرنا السورة ان صدر السورة مما نزلت في اواخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبيل الهجرة وهى اربعون آية يذكر الله سبحانه في شطر منها انواع نعمه السماوية والارضية مما تقوم به حياة الانسان وينتفع به في معاشه نظاما متقنا وتدبيرا متصلا يدل على وحدانيته تعالى في ربوبيته.

ويحتج في شطر آخر على بطلان مزاعم المشركين وخيبة مساعيهم وانه سيجازيهم كما جازى امثالهم من الامم الماضية وسيفصل القضاء بينهم يوم القيامة.

وقد افتتح سبحانه هذه الايات بقوله اتى امر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون مفرعا آيات الاحتجاج على ما فيه من التنزيه والتسبيح ومن ذلك يعلم ان عمدة الغرض في صدر السورة الانباء باشراف الامر الالهى ودنوه منهم وقرب

 

/ صفحة 203 /

نزوله عليهم وفيه ابعاد للمشركين فقد كانوا يستعجلون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استهزاء به لما كانوا يسمعون كلام الله سبحانه يذكر كثيرا نزول امره تعالى وينذرهم به وفيه مثل قوله للمؤمنين فاعفوا واصفحوا حتى ياتي الله بامره وليس الا امره تعالى بظهور الحق على الباطل والتوحيد على الشرك والايمان على الكفر هذا ما يعطيه التدبر في صدر السورة.

واما ذيلها وهى ثمان وثمانون آية من قوله والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا إلى آخر السورة على ما بينها من الاتصال والارتباط فسياق الايات فيه يشبه ان تكون مما نزلت في اوائل عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة بعيد الهجرة فصدر السورة وذيلها متقاربا النزول وذلك لما فيها من آيات لا تنطبق مضامينها الا على بعض الحوادث الواقعة بعيد الهجرة كقوله تعالى: " والذين هاجروا في الله " الاية وقوله ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر الاية النازلة على قول في سلمان الفارسى وقد آمن بالمدينة وقوله من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره الاية النازلة في عمار كما سيأتي وكذا الايات النازلة في اليهود والايات النازلة في الاحكام كل ذلك يفيد الظن بكون الايات مدنية.

ومع ذلك فاختلاف النزول لائح من بعضها كقوله: " والذين هاجروا الخ " الاية: 41 وقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية " الاية 101 إلى تمام آيتين أو خمس آيات وقوله: " من كفر بالله من بعد ايمانه " الاية: 106 وعدة آيات تتلوها.

والانصاف بعد ذلك كله ان قوله تعالى: " والذين هاجروا " الاية: 41 إلى تمام آيتين وقوله: " من كفر بالله من بعد ايمانه " الاية: 106 وبضع آيات بعدها وقوله: " وان عاقبتم فعاقبوا " الاية: 126 وآيتان بعدها مدنية لشهادة سياقها بذلك والباقى اشبه بالمكية منها بالمدنية وهذا وان لم يوافق شيئا من المأثور لكن السياق يشهد به وهو اولى بالاتباع وقد مر في تفسير آية 118 من سورة الانعام احتمال ان تكون نازلة بعد سورة النحل وهى مكية والغرض الذى هو كالجامع لايات ذيل السورة ان فيها امرا بالصبر ووعدا حسنا على الصبر في ذات الله.

وغرض السورة الاخبار باشراف امر الله وهو ظهور الدين الحق عليهم ويوضح

 

/ صفحة 204 /

تعالى ذلك ببيان ان الله هو الاله المعبود لا غير لقيام تدبير العالم به كما إن الخلقة قائمة به ولانتهاء جميع النعم إليه وانتفاء ذلك عن غيره فالواجب ان يعبد الله ولا يعبد غيره وبيان ان الدين الحق لله فيجب ان يؤخذ به ولا يشرع دونه دين ورد ما ابداه المشركون من الشبهة على النبوة والتشريع وبيان امور من الدين الالهى هذا هو الذى يرومه معظم آيات السورة وتنعطف إلى بيانه مرة بعد مرة وفي ضمنها آيات تتعرض لامر الهجرة وما يناسب ذلك مما يحوم حولها.

قوله تعالى: " اتى امر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون " ظاهر السياق ان الخطاب للمشركين لان الايات التالية مسوقة احتجاجا عليهم إلى قوله في الاية الثانية والعشرين: " الهكم اله واحد " ووجه الكلام فيها إلى المشركين وهى جميعا كالمتفرعة على قوله في ذيل هذه الاية سبحانه وتعالى عما يشركون ومقتضاه ان يكون الامر الذى اخبر باتيانه امرا يطهر ساحة الربوبية من شركهم بحسم مادته ولم تقع في كلامه حكاية استعجال من المؤمنين في امر بل المذكور استعجال المشركين بما كان يذكر في كلامه تعالى من امر الساعة وامر الفتح وامر نزول العذاب كما يشير إليه قوله: " قل أرايتم ان اتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون إلى قوله ويستنبئونك أحق هو قل أي وربى انه لحق وما انتم بمعجزين " يونس: 53 إلى غير ذلك من الايات.

وعلى هذا فالمراد بالامر ما وعد الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذين آمنوا واوعد المشركين مرة بعد مرة في كلامه انه سينصر المؤمنين ويخزى الكافرين ويعذبهم ويظهر دينه بأمر من عنده كما قال: " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " البقرة: 109 واليه يعود ايضا ضمير فلا تستعجلوه على ما يفيده السياق أو يكون المراد باتيان الامر اشرافه على التحقق وقربه من الظهور وهذا شائع في الكلام يقال لمن ينتظر ورود الامير هذا الامير جاء وقد دنا مجيئه ولم يجئ بعد.

وعلى هذا أيضا يكون قوله سبحانه وتعالى عما يشركون من قبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبه اشارة إلى انهم ينبغى أن يعرض عن مخاطبتهم ومشافهتهم لانحطاط افهامهم لشركهم ولم يستعجلوا نزول الامر الا لشركهم استهزاء وسخرية.

 

/ صفحة 205 /

وبما مر يندفع ما ذكره بعضهم ان الخطاب في الاية للمؤمنين أو للمؤمنين والمشركين جميعا فان السياق لا يلائمه.

على انه تعالى يخص في كلامه الاستعجال بغير المؤمنين وينفيه عنهم قال: " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون انها الحق " الشورى: 18.

وكذا ما ذكروه ان المراد بالامر هو يوم القيامة وذلك ان المشركين وان كانوا يستعجلونه ايضا كما يدل عليه قولهم على ما حكاه الله تعالى: " متى هذا الوعد ان كنتم صادقين " يس: 48 لكن سياق الايات لا يساعد عليه كما عرفت.

ومن العجيب ما استدل به جمع منهم على ان المراد بالامر يوم القيامة انه تعالى لما قال في آخر سورة الحجر فو ربك لنسألنهم اجمعين وكان فيه تنبيه على حشر هؤلاء وسؤالهم قال في مفتتح هذه السورة: " اتى امر الله " فاخبر بقرب يوم القيامة وكذا قوله في آخر الحجر واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وهو مفسر بالموت شديد المناسبة بأن يكون المراد بالامر في هذه السورة يوم القيامة ومما يؤكد المناسبة قوله هناك ياتيك وههنا اتى وامثال هذه الاقاويل الملفقة مما لا ينبغى ان يلتفت إليه.

ونظيره قول بعضهم ان المراد بالامر واحدة الاوامر ومعناه الحكم كأنه يشير به إلى ما في السورة من احكام العهد واليمين ومحرمات الاكل وغيرها والخطاب على هذا للمؤمنين خاصة وهو كما ترى.

قوله تعالى ينزل الملائكة بالروح من امره على من يشاء من عباده إلى آخر الاية الناس على اختلافهم الشديد قديما وحديثا في حقيقة الروح لا يختلفون في انهم يفهمون منه معنى واحدا وهو ما به الحياة التى هي ملاك الشعور والارادة فهذا المعنى هو المراد في الاية الكريمة.

واما حقيقته اجمالا فالذي يفيده مثل قوله تعالى: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " النبأ: 38 وقوله: " تعرج الملائكة والروح إليه " المعارج: 4 وغيرهما انه موجود مستقل ذو حياة وعلم وقدرة وليس من قبيل الصفات والاحوال القائمة بالاشياء

 

/ صفحة 206 /

كما ربما يتوهم وقد افاد بقوله قل الروح من امر ربى انه من سنخ امره وعرف ايضا امره بمثل قوله: " انما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون فسبحان الذى بيده ملكوت كل شئ " يس: 83 فدل على انه كلمة الايجاد التى يوجد سبحانه بها الاشياء أي الوجود الذى يفيضه عليها لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى بلا مادة ولا زمان ولا مكان كما يفيده قوله: " وما امرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50 فان هذا التعبير انما يورد فيما لا تدريج فيه أي لا مادة ولا حركة له وليكن هذا الاجمال عندك حتى يرد عليك تفصيله فيما سيأتي ان شاء الله في تفسير سورة الاسراء.

فتحصل ان الروح كلمة الحياة التى يلقيها الله سبحانه إلى الاشياء فيحييها بمشيئته ولذلك سماه وحيا وعد القاءه وانزاله على نبيه ايحاء في قوله: " وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا " الشورى: 52 فان الوحى هو الكلام الخفى والتفهيم بطريق الاشارة والايماء فيكون القاء كلمته تعالى كلمة الحياة إلى قلب النبي (عليه السلام) وحيا للروح إليه فافهم ذلك.

فقوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من امره " الباء للمصاحبة أو للسببية ولا كثير تفاوت بينهما في المآل كما هو ظاهر عند المتأمل فان تنزيل الملائكة بمصاحبة الروح انما هو لالقائه في روح النبي (عليه السلام) ليفيض عليه المعارف الالهية وكذا تنزيلهم بسبب الروح لان كلمته تعالى اعني كلمة الحياة تحكم في الملائكة وتحييهم كما تحكم في الانسان وتحييه وضمير ينزل له تعالى والجملة استئناف تفيد تعليل قوله في الاية السابقة سبحانه وتعالى عما يشركون.

والمعنى ان الله منزه ومتعال عن شركهم أو عن الشريك الذى يدعونه له ولتنزهه وتعاليه عن الشريك ينزل سبحانه الملائكة بمصاحبة الروح الذى هو من سنخ امره وكلمته في الايجاد أو بسببه على من يشاء من عباده ان انذروا انه لا اله الا انا فاتقون.

وذكر بعضهم ان المراد بالروح الوحى أو القرآن وسمى روحا لان به حياة القلوب كما ان الروح الحقيقي به حياة الابدان قال وقوله من امره أي

 

/ صفحة 207 /

بأمره ونظيره قوله يحفظونه من امر الله أي بامر الله لان احدا لا يحفظه عن امره انتهى.

اما قوله ان من في قوله من امره بمعنى الباء استنادا إلى قوله يحفظونه من امر الله أي بامر الله الخ فقد مر في تفسير سورة الرعد ان من على ظاهر معناه وان بعض امره تعالى يحفظ الاشياء من بعض امره فلا وجه لاخذ من امره بمعنى بامره بل قوله بالروح من امره معناه بالروح الكائن من امره على ان الظرف مستقر لا لغو كما في قوله قل الروح من امر ربى ومعناه ما تقدم.

واما قوله ان الروح بمعنى الوحى أو القرآن وكذا قول بعضهم انه بمعنى النبوة فلا يخلو عن وجه بحسب النتيجة بمعنى ان نتيجة نزول الملائكة بالروح من امره هو الوحى أو النبوة واما في نفسه وهو ان يسمى الوحى أو النبوة روحا باشتراك لفظي أو مجازا من حيث انه يحيى القلوب ويعمرها كما ان الروح به حياة الابدان وعمارتها فهو فاسد لما بيناه مرارا ان الطريق إلى تشخيص مصاديق الكلمات في كلامه تعالى هو الرجوع إلى سائر ما يصلح من كلامه لتفسيره دون الرجوع إلى العرف وما يراه في مصاديق الالفاظ.

والمتحصل من كلامه سبحانه ان الروح خلق من خلق الله وهو حقيقة واحدة ذات مراتب ودرجات مختلفة منها ما في الحيوان وغير المؤمنين من الانسان ومنها ما في المؤمنين من الانسان قال تعالى: " وايدهم بروح منه " المجادلة: 22 ومنها ما يتأيد به الانبياء والرسل كما قال: " وايدناه بروح القدس " البقرة: 87 وقال: " وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا " الشورى: 52 على ما سيأتي تفصيله ان شاء الله.

هذا ما تفيده الايات الكريمة واما ان اطلاق اللفظ على هذا المعنى هل هي حقيقة أو مجاز وما امعنوا في البحث انه من الاستعارة المصرحة أو استعارة بالكناية أو ان قوله بالروح من امره من قبيل التشبيه لذكر المشبه صريحا بناء على كون من في قوله من امره بيانية كما صرحوا في قوله: " حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر " البقرة: 187 انه من التشبيه للتصريح بالمشبه

 

/ صفحة 208 /

في متن الكلام فكل ذلك من الابحاث الادبية الفنية التى ليس لها كثير تأثير في الحصول على الحقائق.

وذكر بعضهم ان من امره بيان للروح ومن للتبيين والمراد بالروح الوحى كما تقدم.

وفيه انه مدفوع بقوله تعالى قل الروح من امر ربى فان من الواضح ان الايتين تسلكان مسلكا واحدا وظاهر آية الاسراء ان من فيها للابتداء أو للنشوء والمراد بيان ان الروح من سنخ الامر وشأن من شؤنه ويقرب منها قوله تعالى: " تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل امر " القدر: 4.

وذكر بعضهم ان المراد بالروح هو جبريل وايده بقوله: " نزل به الروح الامين على قلبك " الشعراء: 194 فان من المسلم ان المراد به في الايه هو جبريل والباء للمصاحبة والمراد بالملائكة ملائكة الوحى وهم اعوان جبريل والمراد بالامر واحد الاوامر والمعنى ينزل تعالى ملائكة الوحى بمصاحبة جبريل بامره وارادته.

وفيه ان هذه الاية نظيرة قوله تعالى: " يلقى الروح من امره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق " المؤمن: 15 وظاهره لا يلائم كون المراد بالروح هو جبريل.

واردأ الوجوه ما ذكره بعضهم ان المراد بالروح ارواح الناس لا ينزل ملك الا ومعه واحد من الارواح وهو منقول عن مجاهد وفساده ظاهر.

وقوله على من يشاء من عباده أي ان بعث الرسل وتنزيل الملائكة بالروح من امره عليهم متوقف على مجرد المشية الالهية من غير ان يقهره تعالى في ذلك قاهر غيره فيجبره على الفعل أو يمنعه من الفعل كما في سائر افعاله تعالى فانه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

فلا ينافى ذلك كون فعله ملازما لحكم ومصالح ومختلفا باختلاف الاستعدادات لا يقع الا عن استعداد في المحل وصلاحية للقبول فان استعداد المستعد ليس الا كسؤال السائل فكما ان سؤال السائل انما يقربه من جود المسؤل وعطائه من غير ان يجبره على الاعطاء ويقهره كذلك الاستعداد في تقريبه المستعد لافاضته تعالى وحرمان غير المستعد من ذلك فهو تعالى يفعل ما يشاء من غير ان يوجبه عليه شئ أو يمنعه عنه شئ

 

/ صفحة 209 /

لكنه لا يفعل شيئا ولا يفيض رحمة الا عن استعداد فيما يفيض عليه وصلاحية منه وقد افاد ذلك في خصوص الرسالة حيث قال: " وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتى رسل الله الله اعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين اجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون " الانعام: 124 فان الاية ظاهرة في ان الموارد مختلفة في قبول كرامة الرسالة وان الله سبحانه اعلم بالمورد الذى يصلح لها ويستأهل لتلك الكرامة وهو غير هؤلاء المجرمين الماكرين واما هم فليس لهم عند الله الا الصغار والعذاب لاجرامهم ومكرهم هذا.

ومن هنا يظهر فساد استدلال بعضهم بالاية على نفى المرجح في مورد الرسالة ومحصل ما ذكره ان الاية تعلق الرسالة على مجرد المشية الالهية من غير ان تقيدها بشئ فالرسول انما ينال الرسالة بمشية من الله لا لاختصاصه بصفات تؤهله لذلك ويرجحه على غيره ووجه الفساد ظاهر مما تقدم.

ونظيره في الفساد الاستدلال بالاية على كون الرسالة عطائية غير كسبية وذلك انه تعالى غير محكوم عليه في ما ينسب إليه من الفعل لا يفعل الا ما يشاء والامور العطائية والكسبية في ذلك سواء ولا شئ يقع في الوجود الا باذنه.

وقوله ان انذروا انه لا اله الا انا فاتقون بيان لقوله ينزل الملائكة بالروح لكونه في معنى الوحى أو بيان للروح بناء على كونه بمعنى الوحى والانذار هو اخبار فيه تخويف كما ان التبشير هو اخبار فيه سرور على ما ذكره الراغب أو اعلام بالمحذور كما ذكره غيره والتقدير على الاول اخبروهم مخوفين بوحدانيتى في الالوهية ووجوب تقواى وعلى الثاني اعلموهم ذلك على ان يكون انه مفعولا ثانيا لا منصوبا بنزع الخافض.

وقد علم بذلك ان قوله فاتقون متفرع على قوله لا اله الا انا والجملتان جميعا مفعول ثان أو في موضعه لقوله انذروا ويوضح ذلك ان لا اله وهو الذى يبتدئ منه وينتهى إليه كل شئ أو المعبود بالحق من لوازم صفة الوهيته ان يتقيه الانسان لتوقف كل خير وسعادة إليه فلو فرض انه واحد لا شريك له في

 

/ صفحة 210 /

الوهيته كان لازمه ان يتقى وحده لان التقوى وهو اصلاح مقام العمل فرع لما في مقام الاعتقاد والنظر فعبادة الالهة الكثيرين والخضوع لهم لا يجامع الاعتقاد باله واحد لا شريك له الذى هو القيوم على كل شئ وبيده زمام كل امر ولذا لم يؤمر نبى ان يدعو إلى توحيد من غير عمل أو إلى عمل من غير توحيد قال تعالى: " وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحي إليه انه لا اله الا انا فاعبدون " الانبياء: 25.

فالذي امر الرسل بالانذار به في الاية هو مجموع قوله انه لا اله الا انا فاتقون وهو تمام الدين لاندراج الاعتقادات الحقة في التوحيد والاحكام العملية جميعا في التقوى ولا يعبؤ بما ذكره بعضهم ان قوله فاتقون للمستعجلين من الكفار المذكورين في الاية الاولى أو لخصوص كفار قريش من غير أن يكون داخلا فيما امر به الرسل من الانذار.

قوله تعالى خلق السماوات والارض بالحق تعالى عما يشركون تقدم معنى خلق السماوات والارض بالحق ولازم خلقها بالحق ان لا يكون للباطل فيها اثر ولذلك عقبه بتنزيهه عن الشركاء الذين يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله ويهدوهم إلى الخير ويقوهم الشر فانهم من الباطل الذى لا اثر له.

وفي الاية والايات التالية لها احتجاج على وحدانيته تعالى في الالوهية والربوبية من جهتى الخلق والتدبير جميعا فان الخلق والايجاد آية الالوهية وكون الخلق بعضها نعمة بالنسبة إلى بعض آية الربوبية لان الشئ لا يكون نعمه بالنسبة إلى آخر الا عن ارتباط بينهما واتصال من احدهما بالاخر يؤدى إلى نظام جامع بينهما وتدبير واحد يجمعهما ووحدة التدبير آية وحدة المدبر فكون ما في السماوات والارض من مخلوق نعما للانسان يدل على ان الله سبحانه وحده ربه ورب كل شئ.

قوله تعالى: " خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين " المراد به الخلق الجارى في النوع الانساني وهو جعل نسله من النطفة فلا يشمل آدم وعيسى (عليهم السلام) والخصيم صفة مشبهة من الخصومة وهى الجدال والاية وان امكن ان تحمل على الامتنان حيث ان من عظيم المن ان يبدل الله سبحانه بقدرته التامة قطرة من ماء مهين انسانا كامل الخلقة منطيقا متكلما ينبئ عن كل ما جل ودق ببيانه البليغ لكن كثرة

 

/ صفحة 211 /

الايات التى توبخ الانسان وتقرعه على وقاحته في خصامه في ربه كقوله تعالى: " أو لم ير الانسان انا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم " يس: 78 ترجح ان يكون المراد بذيل الاية بيان وقاحة الانسان.

ويؤيد ذلك ايضا بعض التأييد ما في ذيل الاية السابقة من تنزيهه تعالى من شركهم.

قوله تعالى: " والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون " الانعام جمع نعم وهى الابل والبقر والغنم سميت بذلك لنعمة مسها بخلاف الحافر الذى يصلب كذا في المجمع وفي المفردات الدف ء خلاف البرد انتهى وكأن المراد بالدف ء ما يحصل من جلودها واصوافها واوبارها من الحرارة للاتقاء من البرد أو المراد بالدف ء ما يدفؤ به.

 

والمراد بالمنافع سائر ما يستفاد منها لغير الدف ء من اصوافها واوبارها وجلودها والبانها وشحومها وغير ذلك وقوله لكم يمكن ان يكون متعلقا بقوله خلقها ويكون قوله فيها دف ء ومنافع حالا من ضمير خلقها ويمكن ان يكون لكم ظرفا مستقرا متعلقا بالجملة الثانية أي في الانعام دف ء كائنا لكم.

قوله تعالى: " ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون " الجمال الزينة وحسن المنظر قال في المجمع الاراحة رد الماشية بالعشى من مراعيها إلى منازلها والمكان الذى تراح فيه مراح والسروح خروج الماشية إلى المرعى بالغداة يقال سرحت الماشية سرحا وسروحا وسرحها اهلها انتهى.

يقول تعالى: " ولكم في الانعام منظر حسن حين تردونها بالعشى إلى منازلها وحين تخرجونها بالغداة إلى مراعيها.

قوله تعالى وتحمل اثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس ان ربكم لرؤف رحيم " الاثقال جمع ثقل وهو المتاع الذى يثقل حمله والمراد بقوله بشق الانفس مشقة تتحملها الانفس في قطع المسافات البعيدة والمسالك الصعبة.

والمراد ان الانعام كالابل وبعض البقر تحمل امتعتكم الثقيلة إلى بلد ليس يتيسر

 

/ صفحة 212 /

لكم بلوغها الا بمشقة تتحملها انفسكم فرفع عنكم المشاق بخلقها وتسخيرها لكم ان ربكم رؤف رحيم.

قوله تعالى: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون " معطوف على الانعام فيما مر أي والخيل والبغال والحمير خلقها لكم لتركبوها وزينة أي ان في خلقها ارتباطا بمنافعكم وذلك انكم تركبونها وتتخذونها زينة وجمالا وقوله ويخلق ما لا تعلمون أي يخلق ما لا علم لكم به من الحيوان وغيره وسخرها لكم لتنتفعوا بها والدليل على ما قدرناه هو السياق.

قوله تعالى وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين القصد على ما ذكره الراغب وغيره استقامة الطريق وهو كونه قيما على سالكيه يوصلهم إلى الغاية والظاهر ان المصدر بمعنى الفاعل والاضافة من اضافة الصفة إلى موصوفها والمراد السبيل القاصد بدليل مقابلته بقوله ومنها جائر أي ومن السبيل ما هو جائر أي مائل عن الغاية يورد سالكيه غيرها ويضلهم عنها والمراد بكون قصد السبيل على الله وجوب جعل سبيل قاصد عليه تعالى يسلكه عباده فيوردهم مورد السعادة والفلاح واذ لا حاكم غيره يحكم عليه فهو الذى اوجب على نفسه ان يجعل لهم طريقا هذا نعته ثم يهديهم إليه اما الجعل فهو ما جهز الله كل موجود ومنها الانسان من القوى والادوات بما لو استعملها كما نظمت ادته إلى سعادته وكماله المطلوب قال تعالى: " الذى اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 وقال في الانسان خاصة: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " الروم: 30.

واما الهداية فهى التى فعلها من ناحية الفطرة وتناها بما من طريق بعث الرسل وانزال الكتب وتشريع الشرائع قال تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " الشمس: 8 وقال: " انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا " الدهر: 3.

وانما ادرج سبحانه هذه الاية بين هذه الايات التى سياقها عد النعم العلوية والسفلية من السماء والارض والانعام والخيل والبغال والحمير والماء النازل من السماء والزرع ونظائرها لما ان الكلام انجر في آيتى الانعام والخيل إلى معنى قطع الطرق

 

/ صفحة 213 /

وركوب المراكب فناسب ان يذكر ما انعم به من الطريق المعنوي الموصل للانسان إلى غايته الحقيقية يبتغيها في مسير الحياة كما انعم بمثله في عالم المادة ونشأة الصورة.

فذكر سبحانه ان من نعمه التى من بها على عباده أن اوجب على نفسه لهم سبيلا قاصدا يوصلهم إلى سعادة حياتهم فجعله لهم وهداهم إليه.

وقد نسب سبحانه قصد السبيل إلى نفسه دون السبيل الجائر لان سبيل الضلال ليس سبيلا مجعولا له وفي عرض سبيل الهدى وانما هو الخروج عن السبيل وعدم التلبس بسلوكه فليس بسبيل حقيقة وانما هو عدم السبيل.

وكيف كان فالاية ظاهرة في نسبة قصد السبيل إليه تعالى وترك نسبة السبيل الجائر المؤدى بسبب المقابلة إلى نفى نسبته إليه تعالى.

واذ كان من الممكن ان يتوهم ان لازم جعله قصد السبيل ان يكون مكفورا في نعمته مغلوبا في تدبيره وربوبيته حيث جعل السبيل ولم يسلكه الاكثرون وهدى إليه ولم يهتد به المدعوون دفعه بقوله تعالى: " ولو شاء لهداكم اجمعين " أي ان عدم اهتداء الجميع ليس لعجز منه سبحانه عن ذلك أو غلبة من هؤلاء المتخلفين وظهورهم عليه بل لانه تعالى لم يشأ ذلك ولو شاء لم يسعهم الا ان يهتدوا جميعا فهو القاهر الغالب على كل حال.

وبعبارة اخرى السبيل القاصد الذى جعله الله تعالى هو السبيل المبنى على اختيار الانسان يقطعه باتيان الاعمال الصالحة واجتناب المعاصي عن اختيار منه وما هذا شأنه لم يكن مما يجبر عليه ولا عاما للجميع فان الطبائع متنوعة والتراكيب مختلفة ولا محالة تتنوع آثارها ويختلف الافراد بالايمان والكفر والتقوى والفجور والطاعة والمعصية.

والاية مما تشاجرت فيها الاشاعرة والمعتزلة من فرق المسلمين فاستدلت المعتزلة بأن تغيير الاسلوب يجعل قصد السبيل على الله دون السبيل الجائر للدلالة على ما يجوز اضافته إليه تعالى وما لا يجوز كما ذكره في الكشاف.

وتكلفت الاشاعرة في الجواب عنه فمن مجيب بان السبيلين جميعا منه تعالى وانما لم ينسب السبيل الجائر إليه تأدبا ومن مجيب بان المراد بقوله وعلى الله قصد

 

/ صفحة 214 /

السبيل ان عليه تعالى بيان السبيل الحق فضلا وكرما منه دون بيان السبيل الجائر واما اصل الجعل فهما جميعا مجعولان له تعالى ومن منكر ان يكون تغيير الاسلوب في الاية لامر مطلوب.

والحق ان دلالة الاية على كون قصد السبيل مضافا إليه تعالى دون السبيل الجائر مما لا ريب فيه لكن ذلك لا يستلزم كون السبيل الجائر مخلوقا لغيره تعالى لما تقدم ان سبيل الضلال ليس بسبيل حقيقة بل حقيقته عدم سلوك سبيل الهدى كما ان الضلال عدم الهدى فليس بامر موجود حتى ينسب خلقه وايجاده إليه تعالى وانما ينسب الضلال إليه تعالى فيما ينسب بمعنى عدم هدايته للضال أي عدم ايجاده الهدى في نفسه.

ومع ذلك فالذي ينسب إليه من الضلال كما في قوله: " يضل من يشاء ويهدى من يشاء " فاطر: 8 وقوله: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا " البقرة: 26 هو الضلال بطريق المجازاة دون الضلال الابتدائي كما يفسره قوله: " وما يضل به الا الفاسقين البقرة: 26 فإذا فسق الانسان وخرج بسوء اختياره عن زى العبودية بأن عصى ولم يرجع وهو ضلاله الابتدائي من قبل نفسه جازاه الله بالضلال بأن اثبته على حاله ولم يقض عليه الهدى.

واما الضلال الابتدائي من الانسان فانما هو انكفاف وقصور عن الطاعة وقد هداه الله من طريق الفطرة ودعوة النبوة.

قوله تعالى: " هو الذى انزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون " شروع في نوع آخر من النعم وهى النعم النباتية التى يقتات بها الانسان وغيره وما سخر له لتدبير امرها كالليل والنهار والشمس والقمر وما يحذو حذوها ولذلك غير السياق فقال هو الذى الخ ولم يقل وانزل من السماء.

وقوله تسيمون من الاسامة وهى رعى المواشى ومنه السائمة للماشية الراعية ومن الاولى تبعيضية والثانية نشوئية والشجر من النبات ما له ساق وورق وربما توسع فاطلق على ذى الساق وغيره جميعا ومنه الشجر المذكور في الاية لمكان قوله فيه تسيمون والباقى واضح.

 

/ صفحة 215 /

قوله تعالى: " ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات " الخ الزيتون شجر معروف ويطلق على ثمره ايضا يقال انه اسم جنس جمعى واحده زيتونة وكذا النخيل ويطلق على الواحد والجمع والاعناب جمع عنبة وهى ثمرة شجرة الكرم ويطلق على نفس الشجرة كما في الاية والسياق يفيد ان قوله ومن كل الثمرات تقديره ومن كل الثمرات انبت اشجارها ولعل التصريح باسماء هذه الثمرات الثلاث بخصوصها وعطف الباقي عليها لكونها مما يقتات بها غالبا.

ولما كان في هذا التدبير العام الوسيع الذى يجمع شمل الانسان والحيوان في الارتزاق به حجة على وحدانيته تعالى في الربوبية ختم الاية بقوله ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون.

قوله تعالى: " وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر " إلى آخر الاية قد تكرر الكلام في معنى تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ولكون كل من المذكورات وكذا مجموع الليل والنهار ومجموع الشمس والقمر والنجوم ذا خواص وآثار في نفسه من شأنه ان يستقل باثبات وحدانيته في ربوبيته تعالى ختم الاية بقوله ان في ذلك لايات لقوم يعقلون فجمع الايات في هذه الاية بخلاف الايتين السابقة واللاحقة.

قوله تعالى: " وما ذرأ لكم في الارض مختلفا الوانه ان في ذلك لاية لقوم يذكرون " الذرء الخلق واختلاف الوان ما ذرأه في الارض غير ما مر كما يختلف الوان المعادن وسائر المركبات العنصرية التى ينتفع بها الانسان في معاشه ولا يبعد ان يكون اختلاف الالوان كناية عن الاختلاف النوعى بينها فتقرب الايه مضمونا من قوله تعالى: " وفي الارض قطع متجاورات وجنات من اعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل " الرعد: 4 وقد تقدم تقريب الاستدلال به واختلاف الالوان فيما ذرأ في الارض كانبات الشجر والثمر امر واحد يستدل به على وحدانيته في الربوبية ولذا قال ان في ذلك لاية ولم يقل لايات.

وهذه حجج ثلاث نسب الاولى إلى الذين يتفكرون والثانية إلى الذين

 

/ صفحة 216 /

يعقلون والثالثة إلى الذين يتذكرون وذلك ان الحجة الاولى مؤلفة من مقدمات ساذجة يكفى في انتاجها مطلق التفكر والثانية مؤلفة من مقدمات علمية لا يتيسر فهمها الا لمن غار في اوضاع الاجرام العلوية والسفلية وعقل آثار حركاتها وانتقالاتها والثالثة مؤلفة من مقدمات كلية فلسفية انما ينالها الانسان بتذكر ما للوجود من الاحكام العامة الكلية كاحتياج هذه النشأة المتغيرة إلى المادة وكون المادة العامة واحدة متشابهة الامر ووجوب انتهاء هذه الاختلافات الحقيقية إلى امر آخر وراء المادة الواحدة المتشابهة.

قوله تعالى: " وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها " الخ وهذا فصل آخر من النعم الالهية وهو نعم البحر والجبال والانهار والسبل والعلامات وكأن ما تقدمه من الفصل مشتملا على نعم البر والسهل من الاشجار والاثمار ونحوها ولذلك قال وهو الذى سخر ولم يقل وسخر الخ.

والطرى فعيل من الطراوة وهو الغض الجديد من الشئ على ما ذكره في المفردات والمخر شق الماء عن يمين وشمال يقال مخرت السفينة تمخر مخرا فهى ماخرة ومخر الارض ايضا شقها للزراعة على ما في المجمع والمراد بأكل اللحم الطرى من البحر هو اكل لحوم الحيتان المصطادة منه و باستخراج حلية تلبسونها ما يستخرج منه بالغوص من امثال اللؤلؤ والمرجان التى تتحلى وتتزين بها النساء.

وقوله: " وترى الفلك مواخر فيه أي تشاهد السفائن تشق ماءه عن اليمين والشمال ولعل قوله وترى من الخطابات العامة التى لا يقصد بها مخاطب خاص وكثيرا ما يستعمل كذلك ومعناه يراه كل راء ويشاهده كل من له ان يشاهد فليس من قبيل الالتفات من خطاب الجمع السابق إلى خطاب الواحد.

وقوله ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون أي ولتطلبوا بعض رزقه في ركوب البحر وارسال السفائن فيه والجملة معطوفة على محذوف والتقدير وترى الفلك مواخر فيه لتنالوا بذلك كذا وكذا ولتبتغوا من فضله وهو كثير النظير في كلامه تعالى.

و قوله ولعلكم تشكرون أي ومن الغايات في تسخير البحر واجراء الفلك

 

/ صفحة 217 /

فيه شكركم له المرجو منكم إذ هو من زيادته تعالى في النعمة فقد اغناكم بما انعم عليكم في البر عن ان تتصرفوا في البحر بالغوص واجراء السفن وغير ذلك لكنه تعالى زادكم بتسخير البحر لكم نعمة لعلكم تشكرونه على هذا الزائد فان الانسان قليلا ما يتنبه في الضروريات انها نعمة موهوبة من لدنه سبحانه ولو شاء لقطعها واما الزوائد النافعة فهى اقرب من هذا التنبه والانتقال.

قوله تعالى: " والقى في الارض رواسي ان تميد بكم وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون " قال في المجمع الميد الميل يمينا وشمالا وهو الاضطراب ماد يميد ميدا انتهى.

وقوله ان تميد بكم أي كراهة ان تميد بكم أو ان لا تميد بكم والمراد انه طرح على الارض جبالا ثوابت لئلا تضطرب وتميل يمينا وشمالا فيختل بذلك نظام معاشكم.

وقوله وانهارا أي وجعل فيها انهارا تجرى بمائها وتسوقه إلى مزارعكم وبساتينكم وتسقيكم وما عندكم من الحيوان الاهلى.

وقوله وسبلا لعلكم تهتدون معطوف على قوله وانهارا أي وجعل سبلا لغاية الاهتداء المرجو منكم والسبل منها ما هي طبيعية وهى المسافات الواقعة بين بقعتين من الارض الواصلة احداهما بالاخرى من غير ان يقطع ما بينهما بحاجب أو مانع كالسهل بين الجبلين ومنها ما هي صناعية وهى التى تتكون بعبور المارة وآثار الاقدام أو يعملها الانسان.

والظاهر من السياق عموم السبل لكلا القسمين ولا ضير في نسبة ما جعله الانسان إلى جعله تعالى كما نسب الانهار والعلامات إلى جعله تعالى واكثرها من صنع الانسان وكما نسب ما عمله الانسان من الاصنام وغيرها إلى خلقه تعالى في قوله: " والله خلقكم وما تعملون " الصافات 96.

وذلك انها كائنة ما كانت من آثار مجعولاته تعالى وجعل الشئ ذى الاثر جعل لاثره بوجه وان لم يكن جعلا مستقيما من غير واسطة.

قوله تعالى: " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " العلامات جمع علامة وهى ما يعلم به الشئ وهو معطوف على قوله انهارا أي وجعل علامات تستدلون بها على

 

/ صفحة 218 /

الاشياء الغائبة عن الحس وهى كل آية وامارة طبيعية أو وضعية تدل على مدلولها ومنها الشواخص والنصب واللغات والاشارات والخطوط وغيرها.

ثم ذكر سبحانه الاهتداء بالنجوم فقال وبالنجم هم يهتدون ولعل الالتفات فيه من الخطاب إلى الغيبة للتحرز عن تكرار تهتدون بصيغة الخطاب في آخر الايتين.

والاية السابقة وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين المتضمنة لمسألة الهداية المعنوية التى هي كالمعترضة بين الايات العادة للنعم الصورية وان كان الانسب ظاهرا ان يوضع بعد هذه الاية اعني قوله وبالنجم هم يهتدون المتعرضة هي وما قبلها للهداية الصورية غير ان ذلك لم يكن خاليا من اللبس وايهام التناقض بخلاف موقعها الذى هي واقعة فيه وان كانت كالمعترضة كما هو ظاهر.

قوله تعالى: " أفمن يخلق كمن لا يخلق إلى قوله الهكم اله واحد " الايات تقرير اجمالي للحجة المذكورة تفصيلا في ضمن الايات الست عشرة الماضية واستنتاج للتوحيد وهى حجة واحدة اقيمت لتوحيد الربوبية وملخصها ان الله سبحانه خالق كل شئ فهو الذى انعم بهذه النعم التى لا يحيط بها الاحصاء التى ينتظم بها نظام الكون وهو تعالى عالم بسرها وعلنها فهو الذى يملك الكل ويدبر الامر فهو ربها وليس شئ مما يدعونه على شئ من هذه الصفات فليست اربابا فالاله واحد لا غير وهو الله عز اسمه.

ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم ان الايات تثبت التوحيد من طريقين طريق الخلقة وطريق النعمة بيان الفساد ان طريق الخلقة وحدها انما تثبت الصانع ووحدانيته في الخلق والايجاد والوثنيون واليهم وجه الكلام في الايات لا ينكرون وجود الصانع ولا ان الله سبحانه خالق الكل حتى اوثانهم وان اوثانهم ليسوا بخالقين لشئ وانما يدعون لاوثانهم تدبير امر العالم بتفويض من الله لذلك إليهم والشفاعة عند الله فلا يفيد اثبات الصانع تجاه هؤلاء شيئا.

وانما سيقت آيات الخلقة لتثبيت امر النعمة إذ من البين انه إذا كان الله سبحانه خالقا لكل شئ موجودا له كانت آثار وجودات الاشياء وهى النعم التى يتنعم بها

 

/ صفحة 219 /

له سبحانه كما ان وجوداتها له ملكا طلقا لا يقبل بطلانا ولا نقلا ولا تبديلا فهو سبحانه المنعم بها حقيقة لا غيره من شئ حتى الذى نفس النعمة من آثار وجوده فانه وما له من اثر هو لله وحده.

ولذلك ضم إلى حديث الخلق والانعام قوله تعالى: " والله يعلم ما تسرون وما تعلنون " لان مجرد استناد الخلق والانعام إلى شئ لا يستلزم ربوبيته ولا يستوجب عبادته لو لا انضمام العلم اليهما ليتم بذلك انه مدبر يهدى كل شئ إلى كماله المطلوب له وسعادته المكتوبة في صحيفة عمله ومن المعلوم ان العبادة انما تستقيم عبادة إذا كان المعبود موسوما بسمة العلم عالما بعبادة من يعبده شاهدا لخضوعه.

فمجموع ما تتضمنه الايات من حديث الخلق والنعمة والعلم مقدمات لحجة واحدة اقيمت على توحيد الربوبية الذى ينكره الوثنية كما عرفت.

فقوله: " أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون " قياس ما له سبحانه من النعت إلى ما لغيره منه ونفى للمساواة والاستفهام للانكار والمراد بمن لا يخلق آلهتهم الذين يدعونهم من دون الله.

وبيانه كما ظهر مما تقدم ان الله سبحانه يخلق الاشياء ويستمر في خلقها فلا يستوى هو ومن لا يخلق شيئا فانه تعالى لخلقه الاشياء يملك وجوداتها وآثار وجوداتها التى هي الانظمة الخاصة بها والنظام العام الجارى عليها.

وقوله وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها الخ اشارة إلى كثرة النعم الالهية كثرة خارجة عن حيطة الاحصاء وبالحقيقة ما من شئ الا وهو نعمة إذا قيس إلى النظام الكلى وان كان ربما وجد بينها ما ليس بنعمة إذا قيس إلى بعض آخر.

وقد علل سبحانه ذلك بقوله ان الله لغفور رحيم وهو من الطف التعليل وادقه فافاد سبحانه ان خروج النعمة عن حد الاحصاء انما هو من بركات اتصافه تعالى بصفتي المغفرة والرحمة فانه بمغفرته والمغفرة هي الستر يستر ما في الاشياء من وبال النقص وشوهة القصور وبرحمته والرحمة اتمام النقص ورفع الحاجة يظهر فيها الخير والكمال ويحليها بالجمال فببسط المغفرة والرحمة على الاشياء يكون كل شئ نافعا في غيره خيرا مطلوبا عنده فيصير نعمة بالنسبة إليه فالاشياء بعضها نعمة

 

/ صفحة 220 /

لبعض فللنعمة الالهية من السعة والعرض ما لمغفرته ورحمته من ذلك فان تعدوا نعمة الله لا تحصوها فافهم ذلك.

والاية من الموارد التى استعملت فيها المغفره في غير الذنب والمعصية للامر المولوي كما هو المعروف عند المتشرعة.

وقوله والله يعلم ما تسرون وما تعلنون اشارة إلى الركن الثالث من اركان الربوبية وهو العلم فان الاله لو كان غير متصف بالعلم استوت العبادة واللاعبادة بالنسبة إليه فكانت عبادته لغوا لا اثر لها.

فمن الواجب في الرب المعبود ان يكون له علم ولا كل علم كيفما كان بل العلم بظاهر من يعبده وباطنه فان العبادة متقومة بالنية فهى انما تقع عبادة حقيقة إذا اتى بها عن نية صالحة وهو مما يرجع إلى الضمير فلا يتم العلم بكون صورة العبادة واجدة لحقيقة معناها الا بعد احاطة المعبود بظاهر من يعبده وباطنه لكن الله سبحانه عليم بما يسره الانسان وما يعلنه كما انه خالق منعم ويستحق بذلك ان يعبد.

ومن هنا يظهر وجه اختيار ما في الاية من التعبير لبيان علمه فلم يعبر بمثل قوله عالم الغيب والشهادة وقوله والله بكل شئ عليم بل قال والله يعلم ما تسرون وما تعلنون فذكر العلم بالاسرار والاعلان واضافه إلى الانسان لان الكلام في عبادة الانسان لربه والواجب في العلم بالعبادة المرتبطة بعمل الجوارح والقلب جميعا ان يكون عالما بما يسره الانسان وما يعلنه من النية القلبية والاحوال والحركات البدنية.

وقوله والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون اشارة إلى فقدان الركن الاول من اركان الربوبية في آلهتهم الذين يدعون من دون الله ويتفرع عليه الركن الثاني وهو ايتاء النعمة فليس الذين يدعونهم آلهة واربابا والله الرب.

وقوله اموات غير احياء وما يشعرون ايان يبعثون اشارة إلى فقدان الركن الثالث من اركان الربوبية في اصنامهم وهو العلم بما يسرون وما يعلنون وقد بالغ في نفى ذلك فنفى اصل الحياة المستلزم لنفى مطلق العلم فضلا عن نوعه الكامل الذى هو العلم بما يسرون وما يعلنون فقال اموات غير احياء فاثبت الموت اولا

 

/ صفحة 221 /

وهو لا يجامع الشعور ثم اكده بنفى الحياة ثانيا وخص من وجوه جهلهم عدم شعورهم متى يبعث عبادهم من الناس فقال وما يشعرون ايان يبعثون أي ما يدرى الاصنام ايان يبعث عبادهم فان العبادة هي التى يجزى بها الانسان يوم البعث فمن الواجب في الاله المعبود ان يعلم متى يوم البعث حتى يجزى عباده فيه عن عبادتهم وهؤلاء لا يدرون شيئا من ذلك.

ومن هنا يظهر ان اول ضميري الجمع يشعرون للاصنام والثانى يبعثون للمشركين واما ارجاعهما كليهما إلى الاصنام فغير مرضى لان العلم بالبعث مختص به سبحانه محجوب عن غيره ولا يختص الجهل به بالاصنام واردأ منه قول بعضهم إن ضميري الجمع معا في الاية عائدان إلى المشركين هذا.

والايات وان كانت مسوقة بظاهرها لنفى ربوبية الاصنام لكن البيان بعينه بأدنى دقة جار في ارباب الاصنام كالملائكة المقربين والجن والكملين من البشر والكواكب من كل ما يعبده الوثنيون فان صفات الخلق والانعام والعلم لا تقوم بالاصالة والاستقلال الا بالله سبحانه ولا ربوبية حقيقة الا بالاصالة والاستقلال فافهم.

وفي الايتين اعني قوله والذين يدعون من دون الله إلى قوله يبعثون التفات من الخطاب إلى الغيبة ولعل النكتة فيه ذكر يوم البعث فيهما والمشركون لا يقولون به فحول الخطاب منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتوسل بذلك إليه من غير اعتراض.

وقوله الهكم اله واحد بيان لنتيجة الحجة التى اقيمت في الايات السابقة أي إذا كان الله سبحانه هو الواجد لما تتوقف عليه الالوهية وهى المعبودية بالحق وغيره تعالى ممن يدعون من دونه غير واجد لشئ مما تتوقف عليه وهو الخلق والانعام والعلم فالهكم الذى يحق له ان يعبد واحد ولازم معناه انه الله عز اسمه.

(بحث روائي) في المجمع اربعون آية من اولها مكية والباقى من قوله والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم إلى آخر السورة مدنية عن الحسن وقتادة وقيل مكية كلها غير ثلاث آيات نزلت في انصراف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحد وان عاقبتم فعاقبوا

 

/ صفحة 222 /

إلى آخر السورة نزلت فيما بين مكة والمدينة عن ابن عباس وعطاء والشعبى وفي احدى الروايات عن ابن عباس بعضها مكى وبعضها مدنى فالمكي من اولها إلى قوله ولكم عذاب عظيم والمدنى قوله ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إلى قوله بأحسن ما كانوا يعملون.

اقول وقد قدمنا ان الذى يعطيه السياق خلاف ذلك كله فراجع.

وفي تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن بعض اصحابنا عن ابى عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن قول الله: " اتى امر الله فلا تستعجلوه قال إذا اخبر الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشئ إلى وقت فهو قوله: " أتى أمر الله فلا تستعجلوه " حتى يأتي ذلك الوقت وقال ان الله إذا أخبر ان شيئا كائن فكأنه قد كان اقول كأنه اشارة إلى إن التعبير في الآية بلفظ الماضي لتحقق الوقوع وفى الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال لما نزلت أتى أمر الله ذعر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل فلا تستعجلوه فسكنوا وفيه اخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريد قال لما نزلت هذه الآية: " اتى امر الله فلا تستعجلوه " قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض ان هذا يزعم إن امر الله قد أتى فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن فلما رأوا إنه لا ينزل شئ قالوا ما نراه نزل فنزلت: " اقترب للناس حسابهم " الآية فقالوا إن هذا يزعم مثلها ايضا فلما رأوا إنه لا ينزل شئ قالوا ما نراه نزل شئ فنزل: " ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى امة معدودة " الآية اقول والرواية تدل على إن المسلمين كان بينهم قبل الهجرة منافقون كما يشهد به بعض آخر من الروايات وفيه اخرج ابن ابي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع في السماء حتى تملا السماء ثم ينادي مناد يا ايها الناس فيقبل الناس بعضهم على بعض هل سمعتم؟ فمنهم من يقول نعم ومنهم من

 

/ صفحة 223 /

يشك ثم ينادى الثانية يا ايها الناس فيقول الناس هل سمعتم؟ فيقولون نعم ثم ينادى ايها الناس اتى امر الله فلا تستعجلوه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فو الذى نفسي بيده ان الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه وان الرجل ليملؤ حوضه فما يسقى فيه شيئا وان الرجل ليحلب ناقته فما يشربه ويشغل الناس.

اقول وقد رام بعضهم ان يستفيد من هذه الروايات الثلاث وفي معناها بعض روايات اخر ان المراد بالامر هو يوم القيامة ولا دلالة فيها على ذلك.

اما الرواية الاولى فلا يدل ذعرهم انهم فهموا منها ذلك فان امر الله ايا ما كان مما يهيب عباده على انه لا حجة في فهمهم وليس الشبهة مفهومية حتى يرجع إليهم بما هم اهل اللسان.

على ان الرواية لا تخلو عن شئ فان الله سبحانه يعد الاستعجال بالقيامة من صفات الكفار ويذمهم عليه ويبرئ المؤمنين منه قال: " والذين آمنوا مشفقون منها " الشورى: 18 وقد مرت الاشارة إليه في البيان المتقدم هذا إذا كان الخطاب في قوله فلا تستعجلوه للمؤمنين واما إذا كان المخاطب به المشركين وهم كانوا يستعجلونه فمعنى النهى عن استعجالهم هو حلول الاجل وقرب الوقوع لا الامهال والانظار ولا معنى حينئذ لسكونهم لما سمعوا قوله فلا تستعجلوه.

واما الرواية الثانية فظاهرها انهم فهموا منها العذاب الدنيوي دون الساعة فهى تؤيد ما قدمناه في البيان لا ما ذكروه.

واما الرواية الثالثة فاقصى ما تدل عليه ان قيام الساعة من مصاديق اتيان امر الله ولا ريب في ذلك وهو غير كون المراد بالامر في الاية هو الساعة.

وفي كتاب الغيبة للنعماني باسناده عن عبد الرحمان بن كثير عن ابى عبد الله (عليه السلام): في قوله عز وجل: " اتى امر الله فلا تستعجلوه قال هو امرنا امر الله عز وجل فلا يستعجل به يؤيده بثلاثة اجناد الملائكة والمؤمنون والركب وخروجه كخروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك قوله كما اخرجك ربك من بيتك بالحق.

اقول ورواه المفيد في كتاب الغيبة عن عبد الرحمان عنه (عليه السلام) ومراده

 

/ صفحة 224 /

ظهور المهدى (عليه السلام) كما صرح به في روايات اخر وهو من جرى القرآن أو بطنه.

وفي الكافي باسناده عن سعد الاسكاف قال: اتى رجل امير المؤمنين (عليه السلام) يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل؟ فقال له امير المؤمنين (عليه السلام) جبرئيل من الملائكة والروح غير جبرئيل فكبر ذلك على الرجل فقال له لقد قلت عظيما من القول ما احد يزعم ان الروح غير جبرئيل فقال له امير المؤمنين (عليه السلام) انك ضال تروى عن اهل الضلال يقول الله لنبيه اتى امر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون ينزل الملائكة بالروح والروح غير الملائكة.

اقول وهو يؤيد ما قدمناه وفي روايات اخر انه خلق اعظم من جبرئيل.

وفي تفسير القمى: في قوله تعالى فإذا هو خصيم مبين قال (عليه السلام) خلقه من قطرة من ماء مهين فيكون خصيما متكلما بليغا وفيه: في قوله تعالى حين تريحون وحين تسرحون قال (عليه السلام) حين ترجع من المرعى وحين تخرج إلى المرعى وفي تفسير العياشي عن زرارة عن احدهما (عليه السلام) قال سألته عن ابوال الخيل والبغال والحمير قال نكرهها قلت أليس لحمها حلالا؟ قال فقال أليس قد بين الله لكم والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون وقال في الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة فجعل الاكل من الانعام التى قص الله في الكتاب وجعل للركوب الخيل والبغال والحمير وليس لحومها بحرام ولكن الناس عافوها.

اقول والروايات في الخيل والبغال والحمير مختلفة ومذهب اهل البيت (عليهم السلام) حلية اكل لحومها على كراهية.

وفي تفسير القمى: في قوله تعالى ويخلق ما لا تعلمون قال قال (عليه السلام) العجائب التى خلقها الله في البر والبحر وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر " اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن الانباري في المصاحف عن على انه كان يقرء هذه الاية فمنكم جائر وفي تفسير العياشي عن اسماعيل بن ابى زياد عن جعفر بن محمد عن ابيه عن آبائه

 

/ صفحة 225 /

عن على (عليه السلام) قال قال رسول الله صلى الله: وبالنجم هم يهتدون قال هو الجدى لانه نجم لا يدور عليه بناء القبلة وبه يهتدى اهل البر والبحر.

اقول وهو مروى عن الصادق (عليه السلام) ايضا وفي الكافي بإسناده عن داود الجصاص قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وعلامات وبالنجم هم يهتدون قال - النجم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والعلامات الائمة (عليهم السلام) أقول ورواه ايضا بطريقين آخرين عنه وعن الرضا (عليه السلام) ورواه العياشي والقمى في تفسيريهما والشيخ في أماليه عن الصادق (عليه السلام).

وليس بتفسير وإنما هو من البطن ومن الدليل عليه ما رواه الطبرسي في المجمع قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن العلامات والنجم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقد قال إن الله جعل النجوم أمانا لاهل السماء - وجعل أهل بيتى امانا لاهل الارض

* * *

 الهكم اله واحد فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون - 22 لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين - 23 وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الاولين - 24 ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الا ساء ما يزرون - 25 قد مكر الذين من قبلهم فاتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون - 26

 

/ صفحة 226 /

ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول اين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين اوتوا العلم ان الخزى اليوم والسوء على الكافرين - 27 الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى ان الله عليم بما كنتم تعملون - 28 فادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين - 29 وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم قالوا خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين - 30 جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الانهار لهم فيها ما يشاؤن كذلك يجزى الله المتقين - 31 الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون - 32 هل ينظرون الا أن تأتيهم الملائكة أو ياتي امر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا انفسهم يظلمون - 33 فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن - 34 وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين - 35 ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم

 

/ صفحة 227 /

من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين - 36 إن تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين - 37 وأقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن اكثر الناس لا يعلمون - 38 ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا انهم كانوا كاذبين - 39 انما قولنا لشئ إذا اردناه ان نقول له كن فيكون - 40 (بيان) هذا هو الشطر الثاني من آيات صدر السورة وقد كان الشطر الاول يتضمن توحيد الربوبية واقامة الحجة على المشركين في ذلك بعد ما انذرهم باتيان الامر ونزه الله سبحانه عن شركهم.

وهذا الشطر الثاني يتضمن ما يناسب المقام ذكره من مساوى صفات المشركين المتفرعة على انكارهم التوحيد وأباطيل اقوالهم كاستكبارهم على الله واستهزائهم باياته وانكارهم الحشر وبيان بطلانها واظهار فسادها وتهديدهم باتيان الامر وحلول العذاب الدنيوي والايعاد بعذاب يوم الموت ويوم القيامة وحقائق أخر ستنكشف بالبحث.

قوله تعالى الهكم اله واحد فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون قد تقدم الكلام في قوله الهكم اله واحد وانه نتيجة الحجة التي اقيمت في الايات السابقة.

وقوله فالذين لا يؤمنون بالاخرة الخ تفريع عليه وافتتاح لفصل

 

/ صفحة 228 /

جديد من الكلام حول اعمال الكفار من اقوالهم واعمالهم الناشئة عن عدم ايمانهم بالله سبحانه وانما ذكر عدم ايمانهم بالاخرة ولم يذكر عدم ايمانهم بالله وحده لان الذى اقيمت عليه الحجة هو التوحيد الكامل وهو وجوب الاعتقاد باله عليم قدير خلق كل شئ واتم النعمة لا لغوا باطلا بل بالحق ليرجعوا إليه فيحاسبهم على ما عملوا ويجازيهم بما اكتسبوا مما عهده إليهم من الامر والنهى بواسطة الرسل.

فالتوحيد المندوب إليه في الايات الماضية هو القول بوحدانيته تعالى والايمان بما اتى به رسل الله والايمان بيوم الحساب والجزاء ولذلك وصف الكفار بعدم الايمان بالاخرة لان الايمان بها يستلزم الايمان بالوحدانية والرسالة.

ولك ان تراجع في استيضاح ما ذكرناه قوله في اول الايات ينزل الملائكة بالروح من امره على من يشاء من عباده ان انذروا انه لا اله الا انا فاتقون خلق السماوات والارض بالحق سبحانه عما يشركون فانه كلام جامع للاصول الثلاثة.

وقوله قلوبهم منكرة أي للحق وقوله وهم مستكبرون أي عن الحق والاستكبار على ما ذكروه طلب الترفع بترك الاذعان للحق.

والمعنى الهكم واحد على ما تدل عليه الايات الواضحة في دلالتها وإذا كان الامر على هذا الوضوح والجلاء لا يستتر بستر ولا يرتاب فيه فهم فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة للحق جاحدة له عنادا وهم مستكبرون عن الانقياد للحق من غير حجة ولا برهان.

قوله تعالى لا جرم ان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون انه لا يحب المستكبرين لا جرم كلمة مركبة باقية على حالة واحدة يفيد معنى التحقيق على ما ذكره الخليل وسيبويه واليه يرجع ما ذكره غيرهما وان اختلفوا في اصل تركبه قال الخليل وهو كلمة تحقيق ولا يكون الا جوابا يقال فعلوا كذا فيقول السامع لا جرم يندمون.

والمعنى من المحقق أو حق ان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون وهو كناية وتهديد بالجزاء السئ أي انه يعلم ما يخفونه من اعمالهم وما يظهرونه فسيجزيهم بما عملوا ويؤاخذهم على ما انكروا واستكبروا انه لا يحب المستكبرين.

 

/ صفحة 229 /

قوله تعالى: " وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم قالوا اساطير الاولين " قال الراغب في المفردات السطر والسطر بفتح فسكون أو بفتحتين السطر من الكتابة ومن الشجر المغروس ومن القوم الوقوف إلى ان قال وجمع السطر اسطر وسطور واسطار.

قال واما قوله اساطير الاولين فقد قال المبرد هي جمع اسطورة نحو

ارجوحة واراجيح واثفية واثافى واحدوثة واحاديث وقوله تعالى: " وإذا قيل لهم ماذا انزل ربكم قالوا اساطير الاولين " أي شئ كتبوه كذبا ومينا فيما زعموا نحو قوله تعالى: " اساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة واصيلا " انتهى وقال غيره اساطير جمع اسطار واسطار جمع سطر فهو جمع الجمع وقوله وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم يمكن ان يكون القائل بعض المؤمنين وانما قاله اختبارا لحالهم واستفهاما لما يرونه في الدعوة النبوية ويمكن ان يكون من المشركين وانما قاله لهم ليقلدهم فيما يرونه وعبر عن القرآن بمثل قوله ما ذا انزل ربكم لنوع من التهكم والاستهزاء ويمكن ان يكون شاكا متحيرا باحثا والاية التالية وكذا قوله فيما سيأتي وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم يؤيد احد الوجهين الاخيرين.

وقوله قالوا اساطير الاولين أي الذى يسأل عنه اكاذيب خرافية كتبها الاولون واثبتوها وتركوها لمن خلفهم ولازم هذا القول دعوى انه ليس نازلا من عند الله سبحانه.

قوله تعالى: " ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة إلى آخر الاية قال في المفردات الوزر بفتحتين الملجأ الذى يلتجأ إليه من الجبل قال تعالى: " كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر " والوزر بالكسر فالسكون الثقل تشبيها بوزر الجبل ويعبر بذلك عن الاثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: " ليحملوا اوزارهم كاملة " الاية كقوله: " وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم ".

قال وحمل وزر الغير بالحقيقة هو على نحو ما اشار إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله من سن سنة حسنة كان له اجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من اجره شئ ومن

 

/ صفحة 230 /

سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها وقوله: " ولا تزر وازرة وزر اخرى " أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه انتهى.

والذى ذكره من الحديث النبوى مروى من طرق الخاصة والعامة جميعا ويصدقه من الكتاب العزيز مثل قوله تعالى: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم وما التناهم من عملهم من شئ كل امرء بما كسب رهين " الطور: 21 وقوله: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس: 12 والايات في هذا المعنى كثيرة.

واما قوله في تفسير قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): كان له وزرها ووزر من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها فكلام ظاهري لا بأس بأن يوجه به الاية والرواية لرفع التناقض بينهما وبين مثل قوله تعالى: " لا تزر وازرة وزر اخرى " الانعام: 164 وقوله: " ليوفينهم ربك اعمالهم " هود: 111 إذ لو حمل الآمر وزر السيئة وعذب بعذابها دون الفاعل ناقض ذلك الاية الاولى ولو قسم بينهما وحمل كل منهما بعض الوزر وعذب ببعض العذاب ناقض الاية الثانية واما لو حمل السان والآمر مثل ما للعامل الفاعل لم يناقض شيئا.

واما بحسب الحقيقة فكما ان العمل عمل واحد حسنة أو سيئة كذلك وزره وعذابه مثلاواحد لا تعدد فيه غير ان نفس العمل لما كان قائما باكثر من واحد قيامه بالآمر والفاعل قياما طوليا لا عرضيا يوجب المحذور كانت تبعته من الوزر والعذاب قائمة باكثر من واحد فهناك وزر واحد يزرها اثنان وعذاب واحد يعذب به الآمر والفاعل جميعا.

ويسهل تصور ذلك بالتأمل في مضمون الايات المبنية على تجسم الاعمال فان العمل كالسيئة مثلا على تقدير التجسم واحد شخصي يتمثل لاثنين ويعذب بتمثله انسانين الآمر والفاعل أو السان والمستن فهو بوجه بعيد كالشخص الواحد يتصوره اثنان فيلتذان أو يتألمان معا به وليس الا واحدا.

وقد تقدم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الاية في الجزء التاسع من الكتاب وسياتى ان شاء الله تفصيل القول فيه فيما يناسبه من المورد.

 

/ صفحة 231 /

وكيف كان فقوله ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن اوزار الذين يضلونهم بغير علم اللام للغاية وهى متعلقة بقوله قالوا اساطير الاولين وفي قوله يضلونهم دلالة على ان حملهم لاوزار غيرهم انما هو من جهة اضلالهم فيعود الاضلال غاية والحمل غاية الغاية والتقدير قالوا اساطير الاولين ليضلوهم وهم انفسهم ضالون فيحملوا اوزار انفسهم كاملة ومن اوزار اولئك الذين يضلونهم بغير علم.

وفي تقييد قوله ليحملوا اوزارهم بقوله كاملة دفع لتوهم التقسيم والتبعيض بان يحملوا بعضا من اوزار انفسهم وبعضا من اوزار الذين يضلونهم فيعود الجميع اوزارا كاملة بل يحملون اوزار انفسهم كاملة ثم من اوزار الذين يضلونهم.

وقوله ومن اوزار الذين يضلونهم من تبعيضية لانهم لا يحملون جميع اوزارهم بل اوزارهم التى ترتبت على اضلالهم خاصة بشهادة السياق فالتبعيض انما هو لتمييز الاوزار المترتبة على الاضلال من غيرها لا للدلالة على تبعيض كل وزر من اوزار الاضلال وحمل بعضه على هذا وبعضه على ذاك ولا تقسيم مجموع اوزار الاضلال وحمل قسم منه على هذا وقسم منه على ذاك مع تعريته عن القسم الاخر فان امثال قوله تعالى: " ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " الزلزال: 8 تنافى ذلك فافهم.

ومما تقدم يظهر وهن ما استفاده بعضهم من قوله ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة إن مقتضاه انه لم ينقص منها شئ ولم تكفر بنحو بلية تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك اوزار المؤمنين.

وكذا ما استفاده بعض آخر ان في الاية دلالة على انه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة.

وجه الوهن ان ما ذكراه من خزى الكافرين واكرام المؤمنين وان كان حقا في نفسه كما تدل عليه الايات الدالة على خزى الكفار بما يصيبهم في الدنيا وحبط اعمالهم وشمول المغفرة والشفاعة لطائفة من المؤمنين لكن هذه الاية ليست ناظرة إلى شئ من ذلك بل العناية فيها انما هي بالفرق بين اوزار انفسهم واوزار غيرهم الذين اضلوهم وان الطائفة الثانية يلحقهم بعضها وهى التى ترتبت من الاوزار على الاضلال بخلاف

 

/ صفحة 232 /

الطائفة الاولى فهى لهم انفسهم.

واوهن منهما ما ذكره بعضهم ان من في قوله ومن اوزار الذين الخ زائدة أو بيانية وهو كما ترى.

وتقييده سبحانه قوله يضلونهم بقوله بغير علم للدلالة على ان الذين اضلهم هؤلاء المشركون الذين قالوا اساطير الاولين انما ضلوا باتباعهم لهم تقليدا وبغير علم فالقائلون ائمة الضلال وهؤلاء الضلال اتباعهم ومقلدوهم ثم ختم سبحانه الاية بذمهم وتقبيح امرهم جميعا فقال: " ألا ساء ما يزرون " قوله تعالى: " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد " الخ اتيانه تعالى بنيانهم من القواعد هو حضور امره تعالى عنده بعد ما لم يكن حاضرا وهذا شائع في الكلام وخرور السقف سقوطه على الارض وانهدامه والظاهر كما يشعر به السياق ان قوله فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم كناية عن ابطال كيدهم وافساد مكرهم من حيث لا يتوقعون كمن يتقى امامه ويراقبه فيأتيه العدو من خلفه فالله سبحانه يأتي بنيان مكرهم من ناحية قواعده وهم مراقبون سقفه مما ياتيه من فوق فينهدم عليهم السقف لا بهادم يهدمه من فوقه بل بانهدام القواعد.

وعلى هذا فقوله وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون عطف تفسيرى يفسر قوله فأتى الله بنيانهم الخ والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي.

وفي الاية تهديد للمشركين الذين كانوا يمكرون بالله ورسوله بتذكيرهم ما فعل الله بالماكرين من قبلهم من مستكبرى الامم الماضية حيث رد مكرهم إلى انفسهم فكانوا هم الممكورين.

قوله تعالى: " ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول اين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم " الاخزاء من الخزى وهو على ما ذكره الراغب الذل الذى يستحيى منه والمشاقة من الشق وهو قطع بعض الشئ وفصله منه فهى المخاصمة والمعاداة والاختلاف ممن من شأنه ان يأتلف ويتفق فمشاقة المشركين في شركائهم هو اختلافهم مع اهل التوحيد وهم امة واحدة فطرهم الله جميعا على التوحيد ودين الحق ومخاصمتهم

 

/ صفحة 233 /

لهم وانفصالهم عنهم.

والمعنى ان الله سبحانه سيخزيهم يوم القيامة ويضرب عليهم الذلة والهوان بقوله اين شركائي الذين كنتم تشاقون اهل الحق فيهم وتخاصمونهم وتوجدون الاختلاف في دين الله.

قوله تعالى: " قال الذين اوتوا العلم ان الخزى اليوم والسوء على الكافرين " الخزى ذلة الموقف والسوء العذاب على ما يفيده السياق.

وهؤلاء الذين وصفهم الله بانهم اوتوا العلم واخبر أنهم يتكلمون بكذا هم الذين رزقوا العلم بالله وانكشفت لهم حقيقة التوحيد فان ذلك هو الذى يعطيه السياق من جهة المقابلة بينهم مع وصفهم بالعلم وبين المشركين الذين ينكشف لهم يومئذ انهم ما كانوا يعبدون الا اسماء سموها وسرابا توهموه.

على ان الله سبحانه يخبر عنهم انهم يتكلمون يومئذ ويقولون كذا وقد قال في وصف اليوم: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا " النبأ: 38 والقول لا يكون صوابا بحق المعنى الا مع كون قائله مصونا من خطأه ولغوه وباطله ولا يكون مصونا في قوله الا إذا كان مصونا في فعله وفي علمه فهؤلاء قوم لا يرون الا الحق ولا يفعلون الا الحق ولا ينطقون الا بالحق.

فان قلت فالذين اوتوا العلم بناء على ما فسرهم اهل العصمة لكن تدفعه كثرة ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى وإرادة غيرهم كقوله: " وقال الذين اوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير " القصص: 80 وقوله: " وليعلم الذين اوتوا العلم انه الحق من ربك فيؤمنوا به " الحج: 54 إلى غير ذلك من الموارد الظاهر فيها عدم ارادة العصمة من ايتاء العلم.

قلت ما ذكرناه انما هو استفادة بمؤنة المقام لا انه مدلول اللفظ كلما اطلق في كلامه تعالى.

واما قولهم ان المراد بالذين اوتوا العلم هم الانبياء فقط أو الانبياء والمؤمنون الذين علموا في الدنيا بدلائل التوحيد أو المؤمنون فحسب أو الملائكة فلا دليل في كلامه تعالى على واحد منها بخصوصه.

 

/ صفحة 234 /

 

قوله تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم فألقوا السلم " إلى آخر الاية الظاهر انه تفسير للكافرين الواقع في آخر الاية السابقة كما ان قوله الاتى الذين تتوفاهم الملائكة طيبين الخ تفسير للمتقين الواقع في آخر الاية التى قبله ولا يستلزم كونه بيانا للكافرين كونه من تمام قول الذين اوتوا العلم حتى يختل نظم الكلام بقولهم ان الخزى اليوم الخ ثم بيانهم بقولهم الذين تتوفاهم الملائكة الخ دون ان يقولوا الذين توفاهم الملائكة كما لا يخفى.

وقوله فألقوا السلم أي الاستسلام وهو الخضوع والانقياد وضمير الجمع للكافرين والمعنى الكافرون هم الذين تتوفاهم الملائكة ويقبضون ارواحهم والحال انهم ظالمون لانفسهم بكفرهم بالله فالقوا السلم وقدموا الخضوع والانقياد مظهرين بذلك انهم ما كانوا يعملون من سوء فيرد عليهم قولهم ويكذبون ويقال لهم بلى قد فعلتم وعملتم ان الله عليم بما كنتم تعملون قبل ورودكم هذا المورد وهو الموت.

قوله تعالى: " فادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين " الخطاب للمجموع كما كان قوله ان الخزى اليوم والسوء على الكافرين وكذا قوله الذين تتوفاهم الملائكة الخ ناظرا إلى جماعة الكافرين دون كل واحد واحد منهم.

وعلى هذا يعود معناه إلى مثل قولنا ليدخل كل واحد منكم بابا من جهنم يناسب عمله وموقفه من الكفر لا ان يدخل كل واحد منهم جميع الابواب أو اكثر من واحد منها وقد تقدم الكلام في معنى ابواب جهنم في تفسير قوله تعالى: " لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم " الحجر 44.

والمتكبرون هم المستكبرون بحسب المصداق وان كانت العناية اللفظية مختلفة فيهما كالمسلم والمستسلم فالمستكبر هو الذى يطلب الكبر لنفسه باخراجه من القوة إلى الفعل واظهاره لغيره والمتكبر هو الذى يقبله لنفسه ويأخذه صفة.

قوله تعالى: " وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم قالوا خيرا " إلى آخر الاية.

اخذ المسؤل عنهم هم الذين اتقوا أي الذين شأنهم في الدنيا انهم تلبسوا بالتقوى وهم المتصفون به المستمرون بدليل اعادة ذكرهم بعد بلفظ المتقين مرتين فيكون المسؤل

 

/ صفحة 235 /

عنهم من هذه الطائفة خيارهم الكاملين في الايمان كما كان المسؤل عنهم في الطائفة الاخرى شرارهم الكاملين في الكفر وهم المستكبرون.

فقول بعضهم ان المراد بالذين اتقوا مطلق المؤمنين الذين اتقوا الشرك أو الشرك والمعاصي في الجملة ليس في محله.

وقوله قالوا خيرا أي انزل خيرا لانه انزل قرآنا يتضمن معارف وشرائع في اخذها والعمل بها خير الدنيا والاخرة وفي قولهم خيرا اعتراف بكون القرآن نازلا من عنده تعالى مضافا إلى وصفهم له بالخيرية وفي ذلك اظهار منهم المخالفة للمستكبرين حيث اجابوا بقولهم اساطير الاولين أي هو اساطير ولو قال المتقون خير بالرفع لم يكن فيه اعتراف بالنزول كما انه لو قال المستكبرون اساطير الاولين بالنصب كان فيه اعتراف بالنزول كذا قيل.

وقوله للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ظاهر السياق انه بيان لقولهم خيرا وهل هو تتمة قولهم أو بيان منه تعالى؟ ظاهر قوله ولنعم دار المتقين جنات عدن إلى آخر الاية انه كلام منه تعالى يبين به وجه الخيرية فيما انزله إليهم فانه اشبه بكلام الرب تعالى منه بكلام المربوب وخاصة المتقين الذين لا يجترؤن على امثال هذه الاقتراحات.

والمراد بالحسنة المثوبة الحسنة وذلك لانهم بالاحسان الذى هو العمل بما يتضمنه الكتاب يرزقون مجتمعا صالحا يحكم فيه العدل والاحسان وعيشة طيبة مبنية على الرشد والسعادة ينالون ذلك جزاء دنيويا لاحسانهم لقوله لهم في الدنيا ولدار الحياة الاخرة خير جزاء لان فيها بقاء بلا فناء ونعمة من غير نقمة وسعادة ليس معها شقاء.

ومعنى الاية وقيل للمتقين من المؤمنين ماذا انزل ربكم من الكتاب وما شأنه؟ قالوا انزل خيرا وكونه خيرا هو ان للذين احسنوا أي عملوا بما فيه فوضع الاحسان موضع الاخذ والعمل بما في الكتاب ايماء إلى ان الذى يامر به الكتاب اعمال حسنة في هذه الدنيا مثوبة حسنة ولدار الاخرة خير لهم جزاء.

ثم مدح دارهم ليكون تأكيدا للقول فقال ولنعم دار المتقين ثم بين دار المتقين بقوله جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الانهار لهم فيها ما يشاؤن

 

/ صفحة 236 /

كذلك يجزى الله المتقين والمعنى ظاهر قوله تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون " بيان للمتقين كما كان قوله الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم الخ بيانا للمستكبرين.

والطيب تعرى الشئ مما يختلط به فيكدره ويذهب بخلوصه ومحوضته يقال طاب لى العيش أي خلص وتعرى مما يكدره وينغصه والقول الطيب ما كان عاريا من اللغو والشتم والخشونة وسائر ما يوجب فيه غضاضة والفرق بين الطيب والطهارة ان الطهارة كون الشئ على طبعه الاصلى بحيث يخلو عما يوجب التنفر عنه والطيب كونه على اصله من غير ان يختلط به ما يكدره ويفسد امره سواء تنفر عنه ام لا ولذلك قوبل الطيب بالخبيث المشتمل على الخبث الزائد قال تعالى: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " النور: 26 وقال: " والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا " الاعراف: 58.

وعلى هذا فالمراد بكون المتقين طيبين في حال توفيهم خلوصهم من خبث الظلم في مقابل المستكبرين الذين وصفهم بالظلم حال التوفى في قوله السابق الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم ويكون معنى الاية ان المتقين هم الذين تتوفاهم الملائكة متعرين عن خبث الظلم الشرك والمعاصي يقولون لهم سلام عليكم وهو تأمين قولى لهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وهو هداية لهم إليها.

فالاية كما ترى تصف المتقين بالتخلص عن التلبس بالظلم وتعدهم الامن والاهتداء إلى الجنة فيعود مضمونها إلى معنى قوله: " الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون " الانعام: 82.

وذكر بعض المفسرين ان المراد بالطيب في الاية الطهارة عن دنس الشرك وفسره بعضهم بكون اقوالهم وافعالهم زاكية والاكثر على تفسيره بالطهارة عن قذارة الذنوب وانت بالتأمل فيما تقدم تعرف ان شيئا مما ذكروه لا يخلو عن تسامح.

قوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي امر ربك كذلك فعل

 

/ صفحة 237 /

الذين من قبلهم " الخ رجوع إلى حديث المستكبرين من المشركين وذكر بعض احوالهم واقوالهم وقياسهم ممن سبقهم من طغاة الامم الماضين وما آل إليه امرهم.

وقوله: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو ياتي امر ربك " سياق الاية وخاصة ما في الاية التالية من حديث العذاب ظاهر في انها مسوقة للتهديد فالمراد باتيان الملائكة نزولهم لعذاب الاستئصال وينطبق على مثل قوله: " ما ننزل الملائكة الا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8 والمراد باتيان امر الرب تعالى قيام الساعة وفصل القضاء والانتقام الالهى منهم.

واما كون المراد باتيان الامر ما تقدم في اول السورة من قوله اتى امر الله وقد قربنا هناك ان المراد به مجئ النصر وظهور الاسلام على الشرك فلا يلائم اللحن الشديد الذى في الاية تلك الملائمة وايضا سيأتي في ذيل الايات ذكر انكارهم للبعث واصرارهم على نفيه والرد عليهم وهو يؤيد كون المراد باتيان الامر قيام الساعة.

وقد اضاف الرب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال امر ربك ولم يقل امر الله أو امر ربهم ليدل به على ان فيه انتصارا له (صلى الله عليه وآله وسلم) وقضاء له عليهم.

وقوله كذلك فعل الذين من قبلهم تأكيد للتهديد وتأييد بالنظير أي فعل الذين من قبلهم مثل فعلهم من الجحود والاستهزاء مما فيه بحسب الطبع انتظار عذاب الله فأصابهم سيئات ما عملوا الخ.

وقوله وما ظلمهم الله ولكن كانوا انفسهم يظلمون معترضة يبين بها ان الذى نزل بهم من العذاب لم يستوجبه الا الظلم غير ان هذا الظلم كان هو ظلمهم انفسهم لا ظلما منه تعالى وتقدس ولم يعذبهم الله سبحانه عن ظلم وقع منهم مرة أو مرتين بل امهلهم إذ ظلموا حتى استمروا في ظلمهم واصروا عليه كما يدل عليه قوله كانوا انفسهم يظلمون فعند ذلك انزل عليهم العذاب ففى قوله وما ظلمهم الله الخ اثبات الاستمرار على الظلم عليهم ونفى اصل الظلم عن الله سبحانه.

قوله تعالى فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن حاق بهم أي حل بهم وقيل معناه نزل بهم واصابهم والذى كانوا به يستهزؤن هو العذاب الذى كانت رسلهم ينذرونهم به ومعنى الاية ظاهر.

 

/ صفحة 238 /

قوله تعالى: " وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ " الخ الذى تورده الاية شبهة على النبوة من الوثنيين المنكرين لها ولذلك عرفهم بنعتهم الصريح حيث قال وقال الذين اشركوا ولم يكتف بالضمير ولم يقل وقالوا كما في الايات السابقة ليعلم ان الشبهة لهم بعينهم.

وقوله لو شاء الله ما عبدنا جملة شرطية حذف فيها مفعول شاء لدلالة الجزاء عليه والتقدير لو شاء الله ان لا نعبد من دونه شيئا ما عبدنا الخ.

وقول بعضهم ان الارادة والمشية لا تتعلق بالعدم وانما تتعلق بالوجود فلا معنى لمشية عدم العبادة فالاولى ان يقدر متعلق المشية امرا وجوديا ملازما لعدم العبادة كالتوحيد مثلا ويكون التقديم لو شاء الله ان نوحده أو ان نعبده وحده ما عبدنا من دونه من شئ واستدل بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن حيث علق عدم الكون على عدم المشية لا على مشية العدم وفيه ان ما ذكره حق بالنظر إلى حقيقة الامر إلا ان العنايات اللفظية والتوسعات الكلامية لا تدور دائما مدار الحقائق الكونية والانظار الفلسفية وان الافهام البسيطة ولم تكن افهام اولئك الوثنيين بأرقى منها كما تجيز ترتب الفعل الوجودى على المشية تجيز تعلق عدمه بها وفي كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) جريا على هذه العناية الظاهرية اللهم ان شئت ان لا تعبد لم تعبد.

على انهم يشيرون بقولهم لو شاء الله ما عبدنا الخ إلى قول الرسل لهم لا تشركوا بالله ولا تعبدوا غير الله ولا تحرموا ما احل الله وهى نواه ومدلول النهى طلب الترك.

على ان الوثنيين لا ينكرون توحيده تعالى في الالوهية بمعنى الصنع والايجاد وانما يشركون في العبادة بمعنى انهم يخصونه تعالى بالصنع والايجاد ويخصون آلهتهم بالعبادة فلهم آلهة كثيرون احدهم اله موجد غير معبود وهو الله سبحانه والباقون شفعاء معبودون غير موجدين فهم لا يعبدون الله اصلا لا انهم يعبدونه تعالى وآلهتهم جميعا وحينئذ لو كان التقدير لو شاء الله أن نوحده في العبادة أو ان نعبده وحده

 

/ صفحة 239 /

لكان الاهم ان يقع في الجزاء توحيدهم له في العبادة أو عبادتهم له وحده لا نفى عبادتهم لغيره أو كان نفى عبادة الغير كناية عن توحيد عبادته أو عبادته وحده فافهم ذلك.

وان كان ولا بد من تقدير متعلق المشية امرا وجوديا فليكن التقدير لو شاء الله ان نكف عن عبادة غيره ما عبدنا الخ حتى يتحد الشرط والجزاء بحسب الحقيقة في عين انهما يختلفان في النفى والاثبات.

وقوله ما عبدنا من دونه من شئ لفظة من الاولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق في النفى والمعنى ما عبدنا شيئا دونه ونظير ذلك قوله ولا حرمنا من دونه من شئ.

وقوله نحن ولا آباؤنا بيان لضمير التكلم في عبدنا للدلالة على انهم يتكلمون عنهم وعن آبائهم جميعا لانهم كانوا يقتدون في عبادة الاصنام بآبائهم وقد تكرر في القرآن حكاية مثل قولهم انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون " الزخرف: 23.

وقوله ولا حرمنا من دونه من شئ " عطف على قوله عبدنا الخ أي ولو شاء الله ان لا نحرم من دونه من شئ اونحل ما حرمناه ما حرمنا الخ والمراد البحيرة والسائبة وغيرهما مما حرموه.

ثم ان قولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ ظاهر من جهة تعليق نفى العبادة على نفس مشيته تعالى في انهم ارادوا بالمشية ارادته التكوينية التى لا تتخلف عن المراد البتة ولو ارادوا غيرها لقالوا لو شاء الله كذا لاطعناه واستجبنا دعوته أو ما يفيد هذا المعنى.

فكأنهم يقولون لو كانت الرسالة حقة وكان ما جاء به الرسل من النهى عن عبادة الاصنام والاوثان والنهى عن تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها نواهى لله سبحانه كان الله سبحانه شاء ان لا نعبد شيئا غيره وان لا نحرم من دونه شيئا ولو شاء الله سبحانه ان لا نعبد غيره ولا نحرم شيئا لم نعبد ولم نحرم لاستحالة تخلف مراده عن ارادته لكنا نعبد غيره ونحرم اشياء فليس يشاء شيئا من ذلك فلا نهى ولا امر منه تعالى ولا شريعة ولا رسالة من قبله.

 

/ صفحة 240 /

هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق ومغزى مرادهم ان عبادتهم لغير الله وتحريمهم لما حرموه وبالجملة عامة اعمالهم لم تتعلق بها مشية من الله بنهي ولو تعلقت لم يعملوها ضرورة.

وليسوا يعنون بها إن مشية الله تعلقت بعبادتهم وتحريمهم فصارت ضرورية الوجود وهم ملجؤن في فعلها مجبرون في الاتيان بها فلا معنى لنهى الرسل عنها بعد الالجاء وذلك ان لو تفيد امتناع الجزاء لامتناع الشرط فيكون مفهوم الشرطية لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ انه لم يشأ ذلك فعبدنا غيره وان شئت قلت لكنا عبدنا غيره فانكشف انه لم يشأ ذلك واما مثل قولنا لكنه شاء أن نعبد غيره فعبدنا غيره أو قولنا لكنه شاء ان لا نوحده فعبدنا غيره فهو اجنبي عن مفهوم الشرطية ومنطوقها جميعا.

على انهم لو عنوا ذلك وكان غرضهم رد النبوة باثبات الالجاء في افعالهم بما اقاموه من الحجة كانوا بذلك معترفين على الضلال مسلمين له غير انهم معتذرون عن اتباع الهدى الذى اتاهم به الرسل بالالجاء والاجبار وان الله شاء منهم ما هم عليه من الضلال والشقاء بعبادة غير الله وتحريم ما احل الله واجبرهم على ذلك فليسوا يقدرون على تركه ولا يستطيعون التخلف عنه.

لكنهم مدعون للاهتداء مصرون على هذه المزعمة مصرحون بها كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم بعد ذكر عبادتهم للملائكة إذ قال وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ان هم الا يخرصون إلى ان قال: " بل قالوا انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون " الزخرف: 22 وقد تكرر في كلامه حكاية تعليلهم عبادة الاصنام بأنها سنة قومية قدسها سلفهم قبل خلفهم فمن الواجب ان يقدسها ويجرى عليها خلفهم بعد سلفهم واين هذا من الاعتراف بالضلال والشقاء؟ وكذا ليسوا يعنون بهذه الحجة إن اعمالهم مخلوقة لانفسهم غير مرتبطة بالمشية الالهية ولا انه خالقها إذ الاعمال والافعال على هذا التقدير بمعزل من ان تتعلق بها الارادة الالهية وانما يتسبب تعالى لعدم فعل من الافعال بايجاد المانع عنه فكان الانسب حينئذ ان يقولوا لو شاء الله لصرفنا عن عبادة غيره وتحريم ما حرمناه وهو

 

/ صفحة 241 /

مدفوع بظاهر الكلام أو يقولوا لو شاء الله شيئا من اعمالنا لبطل وخرج عن كونه عملا لنا ونحن مستقلون به.

على انه لو كان معنى قولهم لو شاء الله ما عبدنا هو انه لو شاء لصرفنا كان حقا فلم يكن معنى لقوله تعالى في آية الزخرف السابقة: " وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ان هم الا يخرصون " الزخرف: 20.

فالحق انهم ارادوا بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ ان يستدلوا بعبادتهم لها على ان المشية الالهية لم تتعلق بتركها من غير تعرض لتعلق المشية بفعل العبادة أو لكون المشية مستحيلة التعلق بعبادتهم إلا بالصرف.

قوله تعالى: " كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين " خطاب للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره ان يبلغ رسالته بلاغا مبينا ولا يعتنى بما لفقوه من الحجة فانها داحضة والحجة تامة عليهم بالبلاغ وفيه اشارة اجمالية إلى دحض حجتهم.

فقوله كذلك فعل الذين من قبلهم أي على هذا الطريق الذى سلكه هؤلاء سلك الذين من قبلهم فعبدوا غير الله وحرموا ما لم يحرمه الله ثم إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك قالوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ فالجملة كقوله تعالى: " كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بايات الله فأخذهم الله بذنوبهم " الانفال: 52.

وقوله فهل على الرسل إلا البلاغ المبين أي بلغهم الرسالة بلاغا مبينا تتم به الحجة عليهم فانما وظيفة الرسل البلاغ المبين وليس من وظيفتهم ان يلجؤا الناس إلى ما يدعونهم إليه وينهونهم عنه ولا أن يحملوا معهم ارادة الله الموجبة التى لا تتخلف عن المراد ولا امره الذى إذا اراد شيئا قال له كن فيكون حتى يحولوا بذلك الكفر إلى الايمان ويضطروا العاصى على الاطاعة.

فانما الرسول بشر مثلهم والرسالة التى بعث بها انذار وتبشير وهى مجموعة قوانين اجتماعية اوحاها إليه الله فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم صورتها صورة الاوامر والنواهي المولوية وحقيقتها الانذار والتبشير قال تعالى: " قل لا اقول لكم عندي

 

/ صفحة 242 /

خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول لكم انى ملك " الانعام: 50 فهذا ما امر به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يبلغهم وقد امر به نوحا ومن بعده من الرسل (عليهم السلام) ان يبلغوه اممهم كما في سورة هود وغيرها.

وقال ايضا مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): " قل انما انا بشر مثلكم يوحى إلى انما الهكم اله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا " الكهف: 110.

فهذا هو الذى يشير إليه على سبيل الاجمال بقوله كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين فان ظاهره كما اشرنا إليه سابقا ان هذه حجة دائرة بينهم قديما وحديثا وعلى هذا ليس من شأن الرسول اجبار الناس والجاؤهم على الايمان والطاعة بل البلاغ المبين بالانذار والتبشير وحجتهم لا تدفع ذلك فبلغ ما ارسلت به بلاغا مبينا ولا تطمع في هداية من ضل منهم وستفصل الايتان التاليتان ما اجملته هذه الاية وتوضحانها.

قوله تعالى: " ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " الخ الطاغوت في الاصل مصدر كالطغيان وهو تجاوز الحد بغير حق واسم المصدر منه الطغوى قال الراغب الطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله ويستعمل في الواحد والجمع قال تعالى: " فمن يكفر بالطاغوت " والذين اجتنبوا الطاغوت " اولياؤهم الطاغوت " انتهى.

وقوله ولقد بعثنا في كل امة رسولا اشارة إلى ان بعث الرسول امر لا يختص به امة دون امة بل هو سنة الهية جارية في جميع الناس بما انهم في حاجة إليه وهو يدركهم اينما كانوا كما اشار إلى عمومه في الاية السابقة اجمالا بقوله كذلك فعل الذين من قبلهم.

وقوله ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت بيان لبعث الرسول على ما يعطيه السياق أي ما كانت حقيقة بعث الرسول الا ان يدعوهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت لان الامر وكذا النهى من البشر وخاصة إذا كان رسولا ليس إلا دعوة عادية

 

/ صفحة 243 /

لا الجاء واضطرارا تكوينيا ولا ان للرسول ان يدعى ذلك حتى يرد عليه انه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ واذ لم يشأ فلا معنى للرسالة.

ومن هنا يظهر ان قول بعضهم ان التقدير ليقول لهم اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ليس في محله.

وقوله فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة أي كانت كل من هذه الامم مثل هذه الامة منقسمة إلى طائفتين فبعضهم هو من هداه الله إلى ما دعاهم إليه الرسول من عبادة الله واجتناب الطاغوت وذلك ان الهداية من الله سبحانه لا يشاركه فيها غيره ولا تنسب إلى احد دونه إلا بالتبع كما قال: " انك لا تهدى من احببت ولكن الله يهدى من يشاء " القصص: 56 وسنشير إليه في الاية التالية ان تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل والايات في حصر الهداية فيه تعالى كثيرة ولا يستلزم ذلك كونها امرا اضطراريا لا صنع فيه للعبد اصلا فانها اختيارية بالمقدمة كما يشير إليه قوله: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين " العنكبوت: 69 يفيد ان للهداية الالهية طريقا ميسرا للانسان وهو الاحسان في العمل وان الله لمع المحسنين لا يدعهم يضلون.

وبعض هذه الامم الطائفة الثانية منهم هو من حقت عليه الضلالة أي ثبتت ولزمت وهذه الضلالة هي التى من قبل العبد بسوء اختياره وليس بالتى تتبعها مجازاة من الله فان الله يصفها بقوله حقت ثم يضيفها في الاية التالية إلى نفسه إذ يقول فان الله لا يهدى من يضل فقد كانت هناك ضلالة ثم حقت وثبتت باثبات الله مجازاة فصارت هي التى من قبل الله سبحانه مجازاة فتبصر.

ولم ينسب الله سبحانه في كلامه إلى نفسه اضلالا الا ما كان مسبوقا بظلم من العبد أو فسق أو كفر وتكذيب أو نظائرها كقوله: " والله لا يهدى القوم الظالمين " الجمعة: 5 وعدم الهداية هو الاضلال وقوله: " ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " ابراهيم: 27 وقوله: " وما يضل به الا الفاسقين " البقرة: 26 وقوله: " ان الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم " النساء: 168 وقوله: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " الصف: 5 إلى غير ذلك من الايات.

 

/ صفحة 244 /

ولم يقل سبحانه فمنهم من هدى الله ومنهم من اضله مع كون ضلالهم ضلال مجازاة لا مانع من اضافته إليه تعالى دفعا لايهام نسبة اصل الضلال إليه بل ذكر اولا من هداه ثم قابله بمن كان من حقه ان يضل وهو الذى اختار الضلالة على الهدى أي اختار ان لا يهتدى فلم يهده الله وحق له ذلك.

وتوضيحه ببيان آخر ان خلاصة الفرق بين الضلال الابتدائي ونسبته إلى العبد والضلال مجازاة ونسبته إليه تعالى ونسبة الهداية ابتداء ومجازاة إلى الله سبحانه هي ان الله اودع في الانسان امكان الرشد واستعداد الاهتداء فان جرى على سلامة الفطرة ولم يبطل الاستعداد باتباع الهوى والمعصية أو اصلحه بالندامة والتوبة بعد المعصية هداه الله وهذه هداية مجازاة من الله سبحانه بعد الهداية الاولى الفطرية.

وان اتبع هواه وعصى ربه بطل استعداده للاهتداء فلم يفض عليه الهدى وهو ضلاله بسوء اختياره فان لم يندم ولم يراجع اثبته الله على حاله وحقت عليه الضلالة وهو الضلال مجازاة.

وربما توهم متوهم ان الامكان والاستعداد لا يكون الا ذا طرفين فالذي يمكنه الهدى يمكنه الضلال والانسان لا يزال مترددا بين آثار وجودية وافعال مثبتة والجميع منه تعالى حتى الاستعداد والامكان الاول.

وهو من اوهن التوهم فان عد امكان الضلال وما يترتب عليه الضلال امرا وجوديا وعطاء ربانيا يفسد معنى الضلال ويبطله فان الضلال انما هو ضلال لكونه عدم الهداية فلو عاد امرا ثبوتيا لم يكن ضلالا بل صار الهدى والضلال كلاهما امرين وجوديين وعطاءين الهيين نظير ما يترتب على الجماد مثلا من الاثار الوجودية الخارجة عن الهدى والضلال.

وبعبارة اخرى الضلال انما يكون ضلالا إذا كان مقيسا إلى الهدى ومن الواجب حينئذ ان يكون عدم الهدى وإذا اخذ امرا وجوديا لم يكن ضلالا فلم ينقسم الموضوع إلى مهتد وضال ولا حاله إلى هدى وضلال فلا مفر من اخذ الضلال امرا عدميا ونسبة الضلال الاول إلى نفسه العبد فاحسن التأمل فيه فلا تزل قدم بعد ثبوتها.

وقوله فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ظاهر السياق

 

/ صفحة 245 /

ان الخطاب للذين اشركوا القائلين لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ والالتفات إلى خطابهم لكونه اشد تأثيرا في تثبيت القول واتمام الحجة.

والكلام متفرع على ما بين جوابا لحجتهم اجمالا وتفصيلا ومحصل المعنى ان الرسالة والدعوة النبوية ليست من الارادة التكوينية الملجئة إلى ترك عبادة الاصنام وتحريم ما لم يحرمه الله حتى يستدلوا بعدم وجود الالجاء على عدم وجود الرسالة وكذب مدعيها بل هي دعوة عادية بعث الله سبحانه بها رسلا يدعونكم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت وحقيقته الانذار والتبشير ومن الدليل على ذلك آثار الامم الماضية الظالمة التى تحكى عن نزول العذاب عليهم فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين حتى يتبين لكم ان الدعوة النبوية التى هي انذار حق وان الرسالة ليست كما تزعمون.

قوله تعالى: " إن تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين لما بين ان الامم الماضين انقسموا طائفتين وكانت احدى الطائفتين هم الذين حقت عليهم الضلالة وكانت هؤلاء الذين اشركوا وقالوا ما قالوا كالذين من قبلهم منهم بين في هذه الاية ان ثبوت الضلالة في حقهم انما هو ثبوت لا زوال معه وتحتم لا يقبل التغيير فانه لا هادى بالحقيقة الا الله فان جاز هداهم كان الله هو هاديهم لكنه لا يهديهم فانه يضلهم ولا يجتمع الهدى والضلال معا وليس هناك ناصر ينصرهم على الله فيقهره على هداهم فليؤيس منهم.

ففى الاية تعزية للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) وارشاد له ان لا يحرص في هداهم واعلام له ان القضاء قد مضى في حقهم وما يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد.

فقوله ان تحرص على هداهم الخ في تقدير ان تحرص على هداهم لم ينفعهم حرصك شيئا فليسوا ممن يمكن له الاهتداء فان الله هو الذى يهدى من اهتدى وهو لا يهديهم فانه يضلهم ولا يناقض تعالى فعل نفسه وليس لهم ناصرون ينصرونهم عليه.

وفي هذه الايات الثلاث مشاجرات طويلة بين المجبرة والمفوضة وكل يفسرها بما يقتضيه مذهبه حتى قال الامام الرازي ان المشركين ارادوا بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ انه لما كان الكل من التوحيد والشرك والهدى والضلال

 

/ صفحة 246 /

من الله كانت بعثة الانبياء عبثا فنقول هذا اعتراض على الله وجار مجرى طلب العلة في احكامه وافعاله تعالى وذلك باطل فلا يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك؟ قال فثبت ان الله تعالى انما ذم هؤلاء القائلين لانهم اعتقدوا ان كون الامر كذلك يمنع عن جواز بعثة الرسل لا لانهم كذبوا في قولهم ذلك انتهى ملخصا.

وقال الزمخشري ان المشركين فعلوا ما فعلوا من القبيح ثم نسبوه إلى ربهم وقالوا لو شاء الله إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل اسلافهم فهل على الرسل الا ان يبلغوا الحق وان الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله من افعال العباد وانهم فاعلوها بقصدهم وارادتهم واختيارهم وان الله باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه انتهى موضع الحاجة وقد اطالوا البحث عن ذلك من الجانبين.

وقد عرفت ان الايات تروم غرضا وراء ذلك وان مرادهم بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ ابطال الرسالة بأن ما اتى به الرسل من النهى عن عبادة غير الله وتحريم ما لم يحرمه الله لو كان حقا لكان الله مريدا لتركهم عبادة غيره وتحريم ما لم يحرمه ولو كان مريدا ذلك لم يتحقق منهم وليس كذلك واما إن الارادة الالهية تعلقت بفعلهم فوجب أو انها لم تتعلق ومن المحال أن تتعلق وليست افعالهم إلا مخلوقة لانفسهم من غير ان يكون لله سبحانه فيها صنع فانما ذلك امر خارج عن مدلول كلامهم اجنبي عن الحجة التى اقاموها على ما يستفاد من السياق كما تقدم.

وفي قوله وما لهم من ناصرين دلالة على ان لغيرهم ناصرين كثيرين وذلك ان السياق يدل على انه ليس لهم ناصر اصلا لا واحد ولا كثير فنفى الناصرين بصيغة الجمع يكشف عن عناية زائدة بذلك أي ان هناك ناصرين لكنهم ليسوا لهم بل لغيرهم وليس الا من يهتدى بهدى الله ونظير الاية ما حكاه الله سبحانه عن المجرمين يوم القيامة: " فما لنا من شافعين " الشعراء: 100.

وهؤلاء الناصرون هم الملائكة الكرام وسائر اسباب التوفيق والهداية والله سبحانه من ورائهم محيط قال تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " المؤمن: 51.

 

/ صفحة 247 /

قوله تعالى: " واقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث الله من يموت بلى " إلى آخر الاية قال في المفردات الجهد بفتح الجيم وضمها الطاقة والمشقة ابلغ من الجهد بالفتح قال وقال تعالى: " واقسموا بالله جهد ايمانهم " أي حلفوا واجتهدوا في الحلف ان يأتوا به على ابلغ ما في وسعهم انتهى.

وقال في المجمع في معنى قوله واقسموا بالله جهد ايمانهم أي بلغوا في القسم كل مبلغ انتهى.

وقولهم لا يبعث الله من يموت انكار للحشر والجملة كناية عن ان الموت فناء فلا يتعلق به بعده خلق جديد وهذا لا ينافى قول كلهم أو جلهم بالتناسخ فانه قول بتعلق النفس بعد مفارقتها البدن ببدن آخر انسانى أو غير انسانى وعيشها في الدنيا وهو قولهم بالتولد بعد التولد.

وقوله بلى وعدا عليه حقا أي ليس الامر كما يقولون بل يبعث الله من يموت وعده وعدا ثابتا عليه حقا أي ان الله سبحانه اوجبه على نفسه بالوعد الذى وعد عباده واثبته اثباتا فلا يتخلف ولا يتغير.

وقوله ولكن اكثر الناس لا يعلمون أي لا يعلمون انه من الوعد الذى لا يخلف والقضاء الذى لا يتغير لاعراضهم عن الايات الدالة عليه الكاشفة عن وعده وهى خلق السماوات والارض واختلاف الناس بالظلم والطغيان والعدل والاحسان والتكليف النازل في الشرائع الالهية.

قوله تعالى: " ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا انهم كانوا كاذبين " اللام للغاية والغرض أي يبعث الله من يموت ليبين لهم الخ والغايتان في الحقيقة غاية واحدة فان الثانية من متفرعات الاولى ولوازمها فان الكافرين انما يعلمون انهم كانوا كاذبين في نفى المعاد من جهة تبين الاختلاف الذى ظهر بينهم وبين الرسل بسبب اثبات المعاد ونفيه وظهور المعاد لهم عيانا.

وتبين ما اختلف فيه الناس من شؤن يوم القيامة وقد تكرر في كلامه هذا التعبير وما في معناه تكرارا صح معه جعل تبيين الاختلاف معرفا لهذا اليوم الذى ثقل في السماوات والارض وعلى ذلك يتفرع ما قصه الله سبحانه في كلامه من تفاصيل

 

/ صفحة 248 /

ما يجرى فيه من المرور على الصراط وتطاير الكتب ووزن الاعمال والسؤال والحساب وفصل القضاء ومن المعلوم وخاصة من سياق آيات القيامة ان المراد بالاختلاف ليس ما يوجد بينهم بحسب الخلقة بنحو ذكورة وانوثة وطول وقصر وبياض وسواد بل ما يوجد في دين الحق من الاختلاف في اعتقاد أو عمل وقد بين الله ذلك لهم في هذه النشأة الدنيوية في كتبه المنزلة وبلسان انبيائه بكل طريق ممكن كما يقول بعد عدة آيات: " وما انزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه " الاية: 64 من السورة.

ومن هنا يظهر للمتدبر ان البيان الذى يخبر تعالى عنه ويخصه بيوم القيامة نوع آخر من الظهور والوضوح غير ما يتمشى من الكتاب والنبوة في هذه الدنيا من البيان بالحكمة والموعظة والجدال بالتى هي احسن وليس الا العيان الذى لا يتطرق إليه شك وارتياب ولا يهجس معه خطور نفساني بالخلاف كما يشير إليه قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22 وقوله: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون ان الله هو الحق المبين " النور: 25.

فيومئذ يشاهدون حقائق ما اختلفوا فيه من المعارف الدينية الحقة والاعمال الصالحة وما اخلدوا إليه من الباطل ويفصل بينهم بظهور الحق وانجلائه.

قوله تعالى: " انما قولنا لشئ إذا اردناه ان نقول له كن فيكون " هو نظير قوله في موضع آخر: " انما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون " يس: 82 ومنه يعلم انه تعالى يسمى امره قولا كما يسمى امره وقوله من حيث قوته واحكامه وخروجه عن الابهام وكونه مرادا حكما وقضاء قال تعالى: " وما اغنى عنكم من الله من شئ ان الحكم إلا لله " يوسف: 67 وقال: " وقضينا إليه ذلك الامر إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " الحجر: 66 وقال: " وإذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون " البقرة: 117 وكما يسمى قوله الخاص كلمة قال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون " الصافات: 172 وقال: " ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران

 

/ صفحة 249 /

59 ثم قال في عيسى (عليه السلام): " وكلمة القاها إلى مريم وروح منه ": النساء: 171.

فتحصل من ذلك كله ان ايجاده تعالى اعني ما يفيضه على الاشياء من الوجود من عنده وهو بوجه نفس وجود الشئ الكائن هو امره وقوله حسب ما يسميه القرآن وكلمته لكن الظاهر ان الكلمة هي القول باعتبار خصوصيته وتعينه.

ويتبين بذلك ان ارادته وقضاءه واحد وانه بحسب الاعتبار متقدم على القول والامرفهو سبحانه يريد شيئا ويقضيه ثم يامره ويقول له كن فيكون وقد علل عدم تخلف الاشياء عن امره بالطف التعليل إذ قال: " وهو الذى خلق السماوات والارض بالحق يوم يقول كن فيكون قوله الحق " الانعام: 73 فافاد ان قوله هو الحق الثابت بحقيقة معنى الثبوت أي نفس العين الخارجية التى هي فعله فلا معنى لفرض التخلف فيه وعروض الكذب أو البطلان عليه فمن الضرورى ان الواقع لا يتغير عما هو عليه فلا يخطئ ولا يغلط في فعله ولا يرد امره ولا يكذب قوله ولا يخلف في وعده.

وقد تبين ايضا من هذه الاية ومن قوله: " وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ " الخ ان لله سبحانه ارادتين ارادة تكوين لا يتخلف عنها المراد وارادة تشريع يمكن ان تعصى وتطاع وسنستوفي هذا البحث بعض الاستيفاء ان شاء الله (بحث روائي) في تفسير القمى باسناده عن ابى جعفر (عليه السلام) في قوله: " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون قال بيت مكرهم أي ماتوا وابقاهم الله في النار " وهو مثل لاعداء آل محمد.

اقول وظاهره ان قوله فأتى الله بنيانهم الخ كناية عن بطلان مكرهم.

وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليه السلام) قال فأتى الله

 

/ صفحة 250 /

بنيانهم من القواعد قال كان بيت غدر يجتمعون فيه إذا ارادوا الشر وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " قال الذين اوتوا العلم " الاية قال قال (عليه السلام) الذين اوتوا العلم الائمة يقولون لاعدائهم اين شركاؤكم ومن اطعتموهم في الدنيا؟ ثم قال قال فهم ايضا الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم فالقوا السلم سلموا لما اصابهم من البلاء ثم يقولون ما كنا نعمل من سوء فرد الله عليهم فقال بلى الخ وفي امالي الشيخ باسناده عن ابى اسحاق الهمداني عن امير المؤمنين (عليه السلام): فيما كتبه إلى اهل مصر قال يا عباد الله ان اقرب ما يكون العبد من المغفرة والرحمة حين يعمل بطاعته وينصح في توبته عليكم بتقوى الله فانها يجمع الخير ولا خير غيرها ويدرك بها من خير الدنيا وخير الاخرة قال عز وجل: " وقيل للذين اتقوا ماذا انزل ربكم قالوا خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين وفي تفسير العياشي عن ابن مسكان عن ابى جعفر (عليه السلام): في قوله ولنعم دار المتقين قال الدنيا وفي تفسير القمى: في قوله الذين تتوفاهم الملائكة طيبين قال قال (عليه السلام) هم المؤمنون الذين طابت مواليدهم في الدنيا.

اقول وهو بالنظر إلى ما يقابله من قوله الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم الاية لا يخلو عن خفاء والرواية ضعيفة.

وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم عن السدى قال ": اجتمعت قريش فقالوا ان محمدا رجل حلو اللسان - إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا اناسا من اشرافكم المعدودين المعروفة انسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس كل ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه.

فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا اقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد؟ فينزل بهم قالوا له انا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه ويقول انا اخبرك بمحمد فلا يريد ان يعنى إليه هو رجل كذاب لم يتبعه على امره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه واما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع احدهم فذلك قوله

/ صفحة 251 /

وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم قالوا اساطير الاولين.

فإذا كان الوافد ممن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك في محمد قال بئس الوافد انا لقومي ان كنت جئت حتى بلغت إلا مسيرة يوم رجعت قبل ان القى هذا الرجل وانظر ما يقول وآتى قومي ببيان امره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد فيقولون خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة يقول مال ولدار الاخرة خير وهى الجنة.

اقول والاعتبار يساعد على القصة وما في آخرها من تفسير الحسنة بالمال غير مرضي.

وفي الكافي باسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت لابي الحسن (عليه السلام) اخبرني عن الارادة من الله ومن الخلق قال فقال الارادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل واما من الله تعالى فارادته احداثه لا غير ذلك لانه لا يروى ولا يهم ولا يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهى صفات الخلق فاراده الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همه ولا تفكر ولا كيف لذلك كما انه لا كيف له وفي الدر المنثور اخرج احمد والترمذي وحسنة وابن ابى حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان واللفظ له عن ابى ذر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يقول الله يا بن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني اغفر لكم وكلكم فقراء الا من اغنيت فسلوني اعطكم وكلكم ضال الا من هديت فسلوني الهدى اهدكم ومن استغفرني وهو يعلم انى ذو قدرة على ان اغفر له غفرت له ولا ابالى.

ولو ان اولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب اشقى واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة ولو ان اولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب اتقى واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة ولو ان اولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهى مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كغرز ابرة لو غمسها احدكم في البحر.

 

/ صفحة 252 /

وذلك انى جواد ماجد واحد عطائي كلام وعذابي كلام انما امرى لشئ إذا اردته ان اقول له كن فيكون

* * *

 والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الاخرة اكبر لو كانوا يعلمون - 41 الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون - 42 وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون - 43 بالبينات والزبر وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون - 44 أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون - 45 أو ياخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين - 46 أو يأخذهم على تخوف فان ربكم لرؤف رحيم - 47 أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون - 48 ولله يسجد ما في السموات وما في الارض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون - 49 يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون - 50 وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين انما هو اله واحد فإياى فارهبون - 51 وله ما في السموات والارض وله الدين واصبا

 

/ صفحة 253 /

أفغير الله تتقون - 52 وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون - 53 ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون - 54 ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون - 55 ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون - 56 ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون - 57 وإذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم - 58 يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون - 59 للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم - 60 ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون - 61 ويجعلون لله ما يكرهون وتصف السنتهم الكذب ان لهم الحسنى لا جرم ان لهم النار وانهم مفرطون - 62 تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان اعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب اليم - 63 وما انزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون - 64

 

/ صفحة 254 /

(بيان) الايتان الاوليان تذكران الهجرة وتعدان المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا والاخرة وباقى الايات تعقب حديث شركهم بالله وتشريعهم بغير اذن الله وهى بحسب المعنى تفصيل القول في الجواب عن عد المشركين الدعوة النبوية إلى ترك عبادة الالهة وتحريم ما لم يحرمه الله امرا محالا كما اشير إليه في قوله وقال الذين اشركوا الخ.

قوله تعالى: " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الاخرة خير لو كانوا يعلمون " وعد جميل للمهاجرين وقد كانت من المؤمنين هجرتان عن مكة احداهما إلى حبشة هاجرتها عدة من المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باذن من الله ورسوله إليها ولبثوا فيها حينا في امن وراحة من اذى مشركي مكة وعذابهم وفتنتهم.

والثانية هجرتهم من مكة إلى المدينة بعد مهاجره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والظاهر ان المراد بالهجرة في الاية هي الهجرة الثانية فسياق الايتين اكثر ملاءمة لها من الاولى وهو ظاهر.

وقوله في الله متعلق بهاجروا والمراد بكون المهاجرة في الله ان يكون طلب مرضاته محيطا بهم في مهاجرتهم لا يخرجون منه إلى غرض آخر كما يقال سافر في طلب العلم وخرج في طلب المعيشة أي لا غاية له الا طلب العلم ولا بغية له الا طلب المعيشة والسياق يعطى ان قوله من بعد ما ظلموا ايضا مقيد بذلك معنى والتقدير والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فيه وانما حذف اختصارا وانما اكتفى به قيدا للمهاجرة لانها محل الابتلاء فتخصيصه بايضاح الحال اولى.

وقوله لنبوئنهم في الدنيا حسنة قيل أي بلدة حسنة بدلا مما تركوه من وطنهم كمكة وحواليها بدليل قوله لنبوئنهم فانه من بوأت له مكانا أي سويت واقررته فيه.

وقيل أي حالة حسنة من الفتح والظفر ونحو ذلك فيكون قوله لنبوئنهم

 

/ صفحة 255 /

الخ من الاستعارة بالكناية.

والوجهان متحدان مآلا فانهم انما كانوا يهاجرون ليعقدوا مجتمعا اسلاميا طيبا لا يعبد فيه الا الله ولا يحكم فيه الا العدل والاحسان أو ليدخلوا في مجتمع هذا شأنه فلو رجعوا في مهاجرهم غاية حسنة أو وعدوا بغاية حسنة كان ذلك هذا المجتمع الصالح ولو حمدوا البلدة التى يهاجرون إليها لكان حمدهم للمجتمع الاسلامي المستقر فيها لا لمائها أو هوائها فالغاية الحسنة التى يعدهم الله في الدنيا هي هذا المجتمع سواء اريد بالحسنة البلدة أو الغاية.

وقوله ولاجر الاخرة اكبر لو كانوا يعلمون تتميم للوعد واشارة إلى ان أجر الاخرة افضل من هذا الاجر الدنيوي لو كانوا يعلمون ما اعد الله لهم فيها من النعم فان فيها سعادة من غير شقاء وخلودا من غير فناء ولذة غير مشوبة بألم وجوار رب العالمين.

قوله تعالى الذين: " صبروا وعلى ربهم يتوكلون لا يبعد ان يستفاد من سياق الايتين ان جملة العناية فيهما إلى وعد المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا والاخرة من غير نظر إلى الاخبار بتحقق المهاجرة قبل حال الخطاب فيكون الكلام في معنى الاشتراط من يهاجر في الله فله كذا وكذا وتكون العناية في قوله الذين صبروا الخ بتوصيف المهاجرين بالصبر والتوكل من غير نظر إلى ما تحقق منهم من ذلك ايام توقفهم في اوطانهم بين المشركين قبال إذا هم وفتنتهم.

والعناية بالتوصيف انما هي لكون كلتا الصفتين دخيلتين في الغاية الحسنة التى وعدوا بها إذ لو لم يصبروا على مر الجهاد واظهروا الجزع عند هجوم العظائم ولم يتأيدوا بالتوكل على الله واعتمدوا على انفسهم الضعيفة احيط بهم ولم يتهيأ لهم المستقر وفرقهم العدو المصر على عداوته بددا وتلاشى المجتمع الصالح الذى اقاموه في مهاجرهم هذا في الدنيا واما امر الاخرة ففساده بفساد المجتمع أو تلاشيه اوضح.

ولو كان المراد وعد المهاجرين الذين تحقق منهم الهجرة قبل نزول الاية تطييبا لنفوسهم وتسلية لهم عما اخرجوا من ديارهم واموالهم وقاسوا الفتن والمحن كان قوله الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون مدحا لهم بما ظهر منهم ايام اقامتهم بمكة

 

/ صفحة 256 /

وغيرها من الصبر في الله على اذى المشركين والتوكل على الله فيما عزموا عليه من الاسلام لله قوله تعالى: " وما ارسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون رجوع ثان إلى بيان كيفية ارسال الرسل وانزال الكتب حتى يتضح للمشركين انه لم تكن الدعوة الدينية إلا دعوة عادية من رجال يوحى إليهم من البشر يندبون إلى ما فيه صلاح الناس في دنياهم وعقباهم.

وانه لم يدع احد من الرسل ولا ادعى في كتاب من كتب الشرائع إن الدعوة الدينية ظهور للقدرة الغيبية القاهرة لكل شئ والارادة التكوينية لهدم النظام الجارى ونقض سنة الاختيار وابطالها حتى يقول القائل منهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ.

وعلى هذا فقوله سبحانه: " وما ارسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " مسوق لحصر الرسالة على البشر العادى من رجال يوحى إليهم قبال ما ادعاه المشركون انها لو كانت لكانت نقضا لنظام الطبيعة وابطالا للاختيار والاستطاعة.

وبه يظهر عدم استقامة ما ذكره غير واحد منهم ان الاية مسوقة لرد المشركين من قريش حيث كانوا يزعمون ان البشر لا يصلح للرسالة وانها لو كانت فهى من شأن الملائكة فالاية تخبر ان السنة الالهية جرت حسب ما اقتضته الحكمة على ان لا يبعث للدعوة الدينية إلا رجالا من البشر يوحى إليهم المعارف والاوامر والنواهي.

وذلك ان سياق الايات لا يساعد على ذلك ولم يتقدم في الكلام ذكر لقولهم ذلك أو لاقتراحهم بعثة الملائكة للرسالة حتى يوجه الكلام إلى ذلك.

وانما الذى تقدم هو قول المشركين لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ وكان مسوقا لاثبات استحالة النبوة لا لكونها من شأن الملائكة.

واستدل بعضهم بالاية على ان الله سبحانه لم يرسل صبيا ولا امرأة واستشكل بنبوة عيسى (عليه السلام) في المهد واجيب بأن النبوة اعم من الرسالة والذى اثبته عيسى لنفسه بقوله: " إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا " مريم: 30 هي النبوة دون الرسالة.

 

/ صفحة 257 /

وفيه ان الاستدلال المذكور بالاية انما هو بقوله وما ارسلنا وهذا الفعل كما يتعلق في القرآن بالرسول كذلك يتعلق بالنبي غير الرسول قال تعالى: " وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبى " الاية فلو تم الاستدلال المذكور لدل على حرمان الاطفال والنساء عن الرسالة والنبوة جميعا وقد حكى الله عن عيسى (عليه السلام) قوله: " إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا " مريم: 30 وقال في يحيى (عليه السلام): " وآتيناه الحكم صبيا " مريم: 12.

والحق ان الاية وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا انما هي في مقام بيان ان الرسل كانوا رجالا من البشر العادى من غير عناية بكونهم اول ما بعثوا للرسالة افرادا بالغين مبلغ الرجال فالغرض ان نوحا وابراهيم وموسى وعيسى ويحيى (عليهم السلام) وهم رسل كانوا رجالا يوحى إليهم ولم يكونوا اشخاصا مجهزين بقدرة قاهرة غيبية وارادة الهية تكوينية.

ويقرب من الاية قوله تعالى في موضع آخر: " وما ارسلنا قبلك الا رجالا نوحي إليهم فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين " الانبياء: 8.

وقوله: " فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون الظاهر انه خطاب للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقومه وقد كان الخطاب في سابق الكلام للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة والمعنى موجه إلى الجميع فهو تعميم الخطاب للجميع ليتخذ كل من المخاطبين سبيله فمن كان لا يعلم ذلك كبعض المشركين راجع اهل الذكر واسألهم ومن كان يعلم ذلك كالنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين به كان في غنى عن الرجوع والسؤال.

وقيل ان الخطاب في الاية للمشركين فانهم هم المنكرون فليرجعوا وليسألوا وفيه ان لازم ذلك كون الجملة التفاتا من خطاب الفرد إلى خطاب الجميع ولا نكتة ظاهرة تصحح ذلك والله اعلم.

والذكر حفظ معنى الشئ أو استحضاره ويقال لما به يحفظ أو يستحضر قال الراغب في المفردات الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للانسان ان يحفظ

 

/ صفحة 258 /

ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلا إن الحفظ يقال اعتبارا باحرازه والذكر يقال اعتبارا باستحضاره وتاره يقال لحضور الشئ في القلب أو القول ولذلك قيل الذكر ذكران ذكر بالقلب وذكر باللسان وكل واحد منهما ضربان ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن ادامة الحفظ انتهى موضع الحاجة.

والظاهر ان الاصل فيه ما هو للقلب وانما يسمى اللفظ ذكرا اعتبارا بافادته المعنى والقائه اياه في الذهن وعلى هذا المعنى جرى استعماله في القرآن غير ان مورده فيه ذكر الله تعالى فالذكر إذا اطلق فيه ولم يتقيد بشئ هو ذكره.

وبهذه العناية ايضا سمى القرآن وحى النبوة والكتب المنزلة على الانبياء ذكرا والايات في ذلك كثيرة لا حاجة إلى ايرادها في هذا الموضع وقد سمى الله سبحانه في الاية التالية القرآن ذكرا.

فالقرآن الكريم ذكر كما ان كتاب نوح وصحف ابراهيم وتوراة موسى وزبور داود وانجيل عيسى (عليهم السلام) وهى الكتب السماوية المذكورة في القرآن كلها ذكر واهلها المتعاطون لها المؤمنين بها اهل الذكر.

ولما كان اهل الشئ وخاصته اعرف بحاله وابصر باخباره كان على من يريد التبصر في امره ان يرجع إلى اهله واهل الكتب السماوية القائمون على دراستها وتعلمها والعمل بشرائعها هم اهل الخبرة بها والعالمون باخبار الانبياء الجائين بها فعلى من اراد الاطلاع على شئ من امرهم ان يراجعهم ويسألهم.

لكن المشركين المخاطبين بمثل قوله فاسألوا اهل الذكر لما كانوا لا يسلمون للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) النبوة ولا يصدقونه في دعواه ويستهزؤن بالقرآن ذى الذكر كما يذكره تعالى في قوله: " وقالوا يا ايها الذى نزل عليه الذكر انك لمجنون " الحجر: 6 لم ينطبق قوله فاسألوا اهل الذكر بحسب المورد الا على اهل التوراة وخاصة من حيث كونهم اعداء للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) رادين لنبوته وكانت نفوس المشركين طيبة بهم لذلك وقد قالوا في المشركين: " هؤلاء اهدى من الذين آمنوا سبيلا " النساء: 51.

وقال بعضهم المراد باهل الذكر اهل العلم باخبار من مضى من الامم سواء أكانوا مؤمنين ام كفارا؟ وسمى العلم ذكرا لان العلم بالمدلول يحصل غالبا من

 

/ صفحة 259 /

تذكر الدليل فهو من قبيل تسمية المسبب باسم السبب.

وفيه انه من المجاز من غير قرينة موجبة للحمل عليه على ان المعهود من الموارد التى ورد فيها الذكر في القرآن الكريم غير هذا المعنى.

وقال بعضهم المراد باهل الذكر اهل القرآن لان الله سماه ذكرا واهله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واصحابه وخاصة المؤمنين وفيه ان كون القرآن ذكرا واهله اهله لا ريب فيه لكن اراده ذلك من الاية خاصة لا تلائم تمام الحجة فان اولئك لم يكونوا مسلمين لنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف يقبلون من اتباعه من المؤمنين؟ وكيف كان فالاية ارشاد إلى اصل عام عقلائي وهو وجوب رجوع الجاهل إلى اهل الخبرة وليس ما تتضمنه من الحكم حكما تعبديا ولا امر الجاهل بالسؤال عن العالم ولا بالسؤال عن خصوص اهل الذكر امرا مولويا تشريعيا وهو ظاهر.

قوله تعالى: " بالبينات والزبر متعلق بمقدر يدل عليه ما في الاية السابقة من قوله وما ارسلنا أي ارسلناهم بالبينات والزبر وهى الايات الواضحة الدالة على رسالتهم والكتب المنزلة عليهم.

وذلك ان العناية في الاية السابقة انما هي ببيان كون الرسل بشرا على العادة فحسب فكأنه لما ذكر ذلك اختلج في ذهن السامع انهم بماذا ارسلوا؟ فاجيب عنه فقيل بالبينات والزبر اما البينات فلاثبات رسالتهم واما الزبر فلحفظ تعليماتهم.

وقيل هو متعلق بقوله وما ارسلنا أي وما ارسلنا بالبينات والزبر الا رجالا نوحي إليهم وفيه انه لا بأس به في نفسه لكنه مفوت لما تقدم من النكتة.

قوله تعالى: " وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " لاشك ان تنزيل الكتاب على الناس وانزال الذكر على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واحد بمعنى ان تنزيله على الناس هو انزاله إليه لياخذوا به ويوردوه مورد العمل كما قال تعالى: " يا ايها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وانزلنا اليكم نورا مبينا " النساء: 174 وقال: " لقد انزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون " الانبياء: 10.

فيكون محصل المعنى ان القصد بنزول هذا الذكر إلى عامة البشر وانك والناس في ذلك سواء وانما اخترناك لتوجيه الخطاب والقاء القول لا لنحملك قدرة غيبية

 

/ صفحة 260 /

وارادة تكوينية الهية فنجعلك مسيطرا عليهم وعلى كل شئ بل لامرين احدهما ان تبين للناس ما نزل تدريجا إليهم لان المعارف الالهية لا ينالها الناس بلا واسطة فلا بد من بعث واحد منهم للتبيين والتعليم وهذا هو غرض الرسالة ينزل إليه الوحى فيحمله ثم يؤمر بتبليغه وتعليمه تبيينه.

والثانى رجاء أن يتفكروا فيك فيتبصروا ان ما جئت به حق من عند الله فان الاوضاع المحيطة بك والحوادث والاحوال الواردة عليك في مدى حياتك من اليتم وخمود الذكر والحرمان من التعلم والكتابة وفقدان مرب صالح والفقر والاحتباس بين قوم جهلة اخساء صفر الايدى من مزايا المدنية وفضائل الانسانية كانت جميعا اسبابا قاطعة ان لا تذوق من عين الكمال قطرة ولا تقبض من عرى السعادة على مسكة لكن الله سبحانه انزل اليك ذكرا تتحدى به على الجن والانس مهيمنا على سائر الكتب السماوية تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبرهانا ونورا مبينا.

فالتفكر فيك نعم الدليل الهادى إلى ان ليس لك فيما جئت به صنع ولا لك من الامر شئ وان الله انزله بعلمه وايدك لذلك بقدرته من غير ان يداخله من الاسباب العادية شئ.

هذا ما تفيده الاية الكريمة نظرا إلى سياقها وسياق ما قبلها ومحصله ان قوله لتبين الخ غاية للانزال لا لنفسه بل من حيث تعلقه بشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وان متعلق يتفكرون المحذوف هو نحو قولنا فيك لا قولنا في الذكر.

لكن القوم ذكروا ان قوله لتبين غاية للانزال وان المراد بالتفكر التفكر في الذكر ليعلم بذلك انه حق ومعنى الاية على هذا وانزلنا اليك الذكر أي القرآن لتبين للناس كافة ما نزل إليهم في ذلك الذكر من اصول المعارف والاحكام والشرائع واحوال الامم الماضية وما جرى فيهم من سنة الله تعالى ولرجاء ان يتفكروا في الذكر فيهتدوا إلى انه حق من عند الله أو يتفكروا فيما تبينه لهم.

وانت خبير بأن لازم ذلك اولا شبه تحصيل الحاصل في انزاله إليه ليبين لهم ما نزل إليهم والانزال واحد ولا مدفع له الا ان يغير النظم إلى مثل قولنا وانزلنا اليك الذكر لتبينه لهم.

 

/ صفحة 261 /

وثانيا كون قوله اليك مستدركا مستغنى عنه وخاصة بالنظر إلى قوله ولعلهم يتفكرون وذلك ان الانزال غايته التبيين ولا اثر في ذلك لكونه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المنزل إليه دون غيره وكذلك التفكر في الذكر غاية مرجوة للعلم بانه حق من عند الله من غير نظر إلى من انزل إليه ولازم ذلك كون قوله اليك زائدا في الكلام لا حاجة إليه وثالثا انقطاع الاية بسياقها عن سياق الاية السابقة عليها وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم والايات المتقدمة عليها.

وههنا وجه آخر يمكن ان يندفع به بعض الاشكالات السابقة وهو كون المراد بالذكر المنزل لفظ القرآن الكريم وبما نزل إليهم معاني الاحكام والشرائع وغيرها ويكون قوله لتبين غاية للانزال وقوله ولعلهم يتفكرون معطوفا على مقدر وغاية للتبيين لا للانزال وهو خلاف ظاهر الاية وعليك باجادة التدبر فيها.

ومن لطيف التعبير في الاية قوله وانزلنا اليك وما نزل إليهم بتفريق الفعلين بالافعال الدال على اعتبار الجملة والدفعة والتفعيل الدال على اعتبار التدريج ولعل الوجه في ذلك ان العناية في قوله وانزلنا اليك بتعلق الانزال بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط من غير نظر إلى خصوصية نفس الانزال ولذلك اخذ الذكر جملة واحدة فعبر عن نزوله من عنده تعالى بالانزال.

واما الناس فان الذى لهم من ذلك هو الاخذ والتعلم والعمل وقد كان تدريجيا ولذلك عنى به وعبر عن نزوله إليهم بالتنزيل.

وفي الاية دلالة على حجية قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان الايات القرآنية واما ما ذكره بعضهم ان ذلك في غير النص والظاهر من المتشابهات أو فيما يرجع إلى اسرار كلام الله وما فيه من التأويل فمما لا ينبغى ان يصغى إليه.

هذا في نفس بيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويلحق به بيان اهل بيته لحديث الثقلين المتواتر وغيره واما سائر الامة من الصحابة أو التابعين أو العلماء فلا حجية لبيانهم لعدم شمول الاية وعدم نص معتمد عليه يعطى حجية بيانهم على الاطلاق.

 

/ صفحة 262 /

واما قوله تعالى: " فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون " فقد تقدم انه ارشاد إلى حكم العقلاء بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم من غير اختصاص الحكم بطائفة دون طائفة.

هذا كله في نفس بيانهم المتلقى بالمشافهة واما الخبر الحاكى له فما كان منه بيانا متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية وما يلحق به فهو حجة لكونه بيانهم واما ما كان مخالفا للكتاب أو غير مخالف لكنه ليس بمتواتر ولا محفوفا بالقرينة فلا حجية فيه لعدم كونه بيانا في الاول وعدم احراز البيانية في الثاني وللتفصيل محل آخر.

قوله تعالى: " أفأمن الذين مكروا السيئات ان يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون " هذه الاية والايتان بعدها انذار وتهديد للمشركين وهم الذين يعبدون غير الله سبحانه ويشرعون لانفسهم سننا يستنون بها في الحياة فما يعملون من الاعمال مستقلين فيها بأنفسهم معرضين عن شرائع الله النازلة من طريق النبوة استنادا إلى حجج داحضة اختلقوها لانفسهم كلها سيئات وما يتقلبون فيها مدى حياتهم من حركة أو سكون واخذ أو رد وفعل أو ترك وهم على ما هم عليه من استكبار وغرور كلها ذنوب يقترفونها مكرا بالله ربهم وبرسله الداعين إلى الاخذ بدين الله ولزوم سبيله.

فقوله السيئات مفعول مكروا بتضمينه بمعنى عملوا أي عملوا السيئات ماكرين وما احتمله بعضهم من كون السيئات وصفا سادا مسد المفعول المطلق والتقدير يمكرون المكرات السيئات بعيد من السياق.

وبالجملة الكلام لتهديد المشركين وانذارهم بالعذاب الالهى ويدخل فيهم مشركوا مكة والكلام متفرع على ما تقدم كما يدل عليه قوله أفأمن بفاء التفريع.

والمعنى والله اعلم فإذا دلت الايات البينات على ان الله هو ربهم لا شريك له في ربوبيته وان الرسالة ليست بأمر محال بل هي دعوة إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم وخير دنياهم واخراهم من رجال هم امثالهم يبعثهم الله ويوحى إليهم بما تشتمل عليه الدعوة فهؤلاء الذين يعرضون عن ذلك ويمكرون بالله ورسله بالتشبث بهذه الحجج الواهية لتسوية الطريق إلى ترك دين الله وتشريع ما يوافق اهواءهم ويعملون

 

/ صفحة 263 /

السيئات هل أمنوا ان يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أي يفاجئهم من غير أن يتنبهوا بتوجهه إليهم قبل نزوله.

قوله تعالى أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين الفاعل هو الله سبحانه وقد كثرت في القرآن نسبة الاخذ إليه وقيل الضمير للعذاب والتقلب هو التحول من حال إلى حال والمراد به تحول المشركين في مقاصدهم واعمالهم السيئة وانتقالهم من نعمة إلى نعمة اخرى من نعم الحياة الدنيا قال تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران: 197 فالمراد بأخذهم في تقلبهم ان ياخذهم في عين ما يتقلبون فيه من السيئات مكرا بالله ورسله بالعذاب أو المعنى يعذبهم بنفس ما يتقلبون فيه فيعود النعمة نقمة وهذا انسب بالنظر إلى قوله فما هم بمعجزين.

وقوله فماهم بمعجزين في مقام التعليل لاخذهم في تقلبهم ومكرهم السيئات أي لانهم ليسوا بمعجزين لله فيما اراد بالتغلب عليه أو بالفرار من حكمه والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: " أو يأخذهم على تخوف فان ربكم لرؤوف رحيم " التخوف تمكن الخوف من النفس واستقراره فيها فالاخذ على تخوف هو العذاب مبنيا على المخافة بأن يشعروا بالعذاب فيتقوه ويحذروه بما استطاعوا من توبة وندامة ونحوهما فيكون الاخذ على تخوف مقابلا لاتيان العذاب من حيث لا يشعرون.

وربما قيل ان الاخذ على تخوف هو العذاب بما يخاف منه من غير هلاك كالزلزلة والطوفان وغيرهما.

وربما قيل ان معنى التخوف التنقص بأن يأخذهم الله بنقص النعم واحدة بعد واحدة تدريجيا كأخذ الامن ثم الامطار ثم الرخص ثم الصحة وهكذا.

وقوله ان ربكم لرؤف رحيم في مقام التعليل أي يأخذهم على تخوف ويتنزل في عذابهم إلى هذا النوع من العذاب الذى هو اهون الانواع المعدودة لانه رؤف رحيم وفي التعبير بقوله ربكم اشارة إلى ذلك وكونه في مقام التعليل بالنسبة إلى الوجهين الاولين ظاهر واما بالنسبه إلى الثالث فلان الاخذ بالنقص لا يخلو من

 

/ صفحة 264 /

مهلة وفرصة يتنبه فيها من تنبه فيأخذ بالحذر بتوبة أو غيرها.

والكلام في تعداد انواع العذاب المذكورة ليس مسوقا للحصر كما نبه به بعضهم بل احصاء لانواع منه.

قوله تعالى: " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون " المراد بالرؤية الرؤية البصرية والنظر الحسى إلى الاشياء الجسمانية لان المطلوب الفات النظر إلى الاجسام ذوات الاظلال.

والتفيؤ من الفئ وهو الظل راجعا ولذا قيل ان الظل هو ما في اول النهار إلى زوال الشمس والفئ هو ما يكون بعد زوال الشمس إلى آخر النهار والظاهر ان الظل اعم من الفئ كما تقدم وتؤيده الاية فالتفيؤ رجوع الظل بعد زواله.

والشمائل جمع شمأل وهو خلاف اليمين وجمعه باعتبار اخذ كل سمت مفروض خلف الشئ وعن يساره جهة شمال على حده فهى شمائل تقابل اليمين كما ان عد كل شئ ذا اظلال بهذه العناية اخذا للظل بالنسبة إلى كل جهة من اليمين والشمائل ظلا غيره بالنسبة إلى جهة اخرى لا لان الشئ المذكور جمع بحسب المعنى وان كان مفردا بحسب اللفظ والدخور هو الخضوع والصغار.

وكون المراد بالرؤية الرؤية البصرية قرينة على ان المراد بما خلق الله من شئ ومن شئ بيان لما خلق الله هو الاشياء المرئية وما تعقبه من حديث تفيؤ الظلال يحصرها في الاجسام الكثيفة التى لها ظلال كالجبال والاشجار والابنية والاجسام القائمة على الارض فلا يرد ان ما خلق الله وخاصة بعد بيانه بالشئ لا يلازمه الظل كالاجرام العلوية المضيئة والاجسام الشفافة واعراض الاجسام.

ولدفع هذا الاشكال جعل بعضهم قوله يتفيؤ ظلاله الخ وصفا لشئ حتى يخص البيان بالاشياء المخلوقة التى لها افياء واظلال ولا يخلو من وجه.

والاية تهدى المشركين وهم منكرون للتوحيد والنبوة إلى النظر في حال الاجسام التى لها اظلال تدور عن يمينها وعن شمائلها فانها تمثل سجودها لله وخضوعها له وصغارها قبال عظمته وكبريائه وكذا سجود ما في السماوات والارض من دابة والملائكة.

فهى جميعا ساجدة لله وحده لانقيادها الذاتي لامره ممثلة للخضوع والصغار بهذا

 

/ صفحة 265 /

النسك الوجودى والعبادة التكوينية.

وهذا من اوضح الدليل على ان في العالم الها معبودا واحدا هو الله سبحانه وان من حقه ان يسجد له ويخضع لامره وهذا هو التوحيد والنبوة اللذان ينكرونهما فهل التوحيد إلا الاذعان بكون سبحانه هو الاله الذى يجب الخضوع له والتوجه بالذلة والصغار إليه؟ وهل الدين الذى تتضمنه دعوة الانبياء والرسل الا الخضوع لله سبحانه والانقياد لامره فيما اراد؟ فما بالهم ينكرون ذلك؟ وهم يرون ويعلمون ان ما على الارض من اظلال الاجسام الكثيفة يسجد له وما في السماوات والارض من الملائكة و الذوات ساجدة له منقادة لامره حتى ارباب اصنامهم الذين يتخذونهم آلهة دون الله فانهم اما من الملائكة واما من الجن واما من كملى البشر وهم جميعا داخرون له منقادون لامره.

فمعنى الاية والله اعلم أو لم يروا هؤلاء المشركون المنكرون لتوحيد الربوبية ولدعوة النبوة أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من شئ من هذه الاجسام القائمة على بسيط الارض من جبل أو بناء أو شجر أو أي جسم منتصب يتفيؤ ويرجع ويدور ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله واقعة على الارض تذللا وتعبدا له سبحانه وهم داخرون خاضعون صاغرون.

وقد تقدم الكلام في معنى سجدة الظلال ذيل قوله تعالى: " وظلالهم بالغدو والآصال " الرعد: 15 في الجزء الحادى عشر من الكتاب.

قوله تعالى: " ولله يسجد ما في السماوات وما في الارض من دابة والملائكة " إلى آخر الايتين ذكرت الاية السابقة سجود الظلال وهو معنى مشهود فيها يمثل معنى السجود لله وتذكر هذه الاية سجود ما في السماوات والارض من دابة و الدابة ما يدب ويتحرك بالانتقال من مكان إلى مكان بحقيقة السجود التى هي نهاية التذلل والتواضع قبال العظمة والكبرياء فان صورة السجدة التى هي خرور الانسان ووقوعه على وجهه على الارض انما تعد عبادة إذا اريد بها تمثيل هذا المعنى فحقيقة السجدة هي التذلل المذكور ويدخل في عموم الدابة الانسان وكذا الجن لانه سبحانه يصفهم في كلامه بما يفيد

 

/ صفحة 266 /

ان لهم دبيبا كما لسائر الدواب من الانسان والحيوان ولم يدخل سبحانه الملائكة في عموم الدابة وافردهم بالذكر وفي ذلك من التلويح إلى ان ما نسب إليهم في كلامه تعالى من النزول والصعود والذهاب والمجئ مما ظاهره النقلة والحركة المكانية ليس من نوع ما للدواب من الدبيب والانتقال المكانى ما لا يخفى.

فقوله ولله يسجد ما في السماوات وما في الارض من دابة أي له يخضع وينقاد خضوعا وانقيادا ذاتيا هي حقيقة السجود فمن حقه تعالى أن يعبد ويسجد له.

وفي الاية دلالة على ان في غير الارض من السماوات شيئا من الدواب يسكنها ويعيش فيها.

وقوله والملائكة وهم لا يستكبرون الاستكبار والتكبر من الانسان ان يعد نفسه كبيرا ويضعه موضع الكبر وليس به ولذلك يعد في الرذائل لكن التكبر ربما يطلق على ما لله سبحانه من الكبرياء بالحق وهو الكبير المتعال فهو تعالى كبير متكبر وليس يقال مستكبر ولعل ذلك كذلك اعتبارا باللفظ فان الاستكبار بحسب اصل هيئته طلب الكبر ولازمه ان لا يكون ذلك حاصلا للطالب من نفسه وانما يطلب الكبر والعلو على غيره دعوى فكان مذموما واما التكبر فهو الظهور بالكبرياء سواء كانت له في نفسه كما لله سبحانه وهو التكبر الحق أو لم يكن له الا دعوى وغرورا كما في غيره.

فتبين بذلك ان الاستكبار مذموم دائما اما استكبار المخلوق على مخلوق آخر فلان الفقر والحاجة قد استوعبهما جميعا وشئ منهما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا لغيره فاستكبار احدهما على الاخر خروج منه عن حده وتجاوز عن طوره وظلم وطغيان.

واما استكبار المخلوق على الخالق فلا يتم الا مع دعوى المخلوق الاستقلال والغنى لنفسه وذهوله عن مقام ربه فان النسبة بين العبد وربه نسبة الذلة والعزة والفقر والغنى فما لم يغفل العبد عن هذه النسبة ولم يذهل عن مشاهدة مقام ربه لم يعقل استكباره على ربه فان الصغير الوضيع القائم امام الكبير المتعالى وهو يشاهد صغار نفسه وذلته وكبرياء من هو امامه وعزته لا يتيسر له ان يرى لنفسه كبرياء وعزة إلا أن

 

/ صفحة 267 /

يأخذه غفلة وذهول.

واذ كان الكبرياء والعلو لله جميعا فدعواه الكبرياء والعلو تغلب منه على ربه وغصب منه لمقامه واستكبار واستعلاء عليه دعوى وهذا هو الاستكبار بحسب الذات ويتبعه الاستكبار بحسب الفعل وهو ان لا يأتمر بأمره ولا ينتهى عن نهيه فانه ما لم ير لنفسه ارادة مستقلة قبال الارادة الالهية مغايرة لها لم ير لنفسه ان يخالفه في امره ونهيه.

وعلى هذا فقوله وهم لا يستكبرون في تعريف الملائكة والكلام في سياق العبودية دليل على انهم لا يستكبرون على ربهم فلا يغفلون عنه تعالى ولا يذهلون عن الشعور بمقامه ومشاهدته.

وقد اطلق نفى الاستكبار من غير ان يقيده بما بحسب الذات أو بحسب الفعل فأفاد انهم لا يستكبرون عليه في ذات ولا فعل أي لا يغفلون عنه سبحانه ولا يستنكفون عن عبادته ولا يخالفون عن امره ولبيان هذا الاطلاق والشمول عقبه بيانا له بقوله يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون واشار بذلك إلى نفى الاستكبار عنهم ذاتا وفعلا.

توضيح ذلك ان قوله يخافون ربهم من فوقهم يثبت لهم الخوف من ربهم والله سبحانه ليس عنده الا الخير ولا شر عنده ولا سبب شر يخاف منه الا ان يكون الشر وسببه عند العبد وقد اخذ متعلق الخوف هو ربهم لا عذابه تعالى أو عصيان امره كما في قوله: " ويرجون رحمته ويخافون عذابه " اسرى: 57.

فهذه المخافة هي المخافة منه تعالى وهو وان لم يكن عنده الا الخير والخوف انما يكون من شر مترقب الا ان حقيقته التأثر والانكسار والصغار وتأثر الضعيف قبال القوى الظاهر بقوته وانكسار الصغير الوضيع امام الكبير المتعال القاهر بكبريائه وتعاليه ضروري فمخافتهم هي تأثرهم الذاتي عما يشاهدونه من مقام ربهم ولا يغفلون عنه قط.

ويؤيد ما ذكرناه تقييد قوله يخافون ربهم بقوله من فوقهم فان فيه اشارة إلى ان كونه تعالى فوقهم قاهرا لهم متعاليا بالنسبة إليهم هو السبب في

 

/ صفحة 268 /

مخافتهم وليس هذا إلا الخوف من مقامه تعالى لا من عذابه فهو خوف ذاتي ويرجع إلى نفى الاستكبار عن ذواتهم.

واما قوله ويفعلون ما يؤمرون فاشارة إلى عدم استكبارهم في مقام الفعل وقد تقدم انه إذا لم يستكبر عليه تعالى في ذات لم يستكبر عليه في فعل فهم لا يعصون الله سبحانه في امر بل يفعلون ما يؤمرون وفي اتيان قوله يؤمرون مبنيا للمجهول من التعظيم والتفخيم لمقامه سبحانه ما لا يخفى.

فتبين ان الملائكة نوع من خلق الله تعالى لا تأخذهم غفلة عن مقام ربهم ولا يطرأ عليهم ذهول ولا سهو ولا نسيان عن ذلك ولا يشغلهم عنه شاغل وهم لا يريدون الا ما يريده الله سبحانه.

وانما خص سبحانه الملائكة من بين الساجدين المذكورين في الاية بذكر شأنهم وتعريف اوصافهم وتفصيل عبوديتهم لان اكثر آلهة الوثنيين من الملائكة كإله السماء واله الارض واله الرزق واله الجمال وغيرهم وللدلالة على انهم بالرغم من زعم الوثنيين امعن خلق الله تعالى في عبوديته وعبادته.

ومن عجيب الاستدلال ما استدل به بعضهم بالاية على ان الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء كمثلنا اما دلالتها على التكليف فلمكان الامر واما ادارتهم بين الخوف والرجاء فلان الاية ذكرت خوفهم والخوف يستلزم الرجاء.

وهو ظاهر الفساد اما الامر فقد ورد في كلامه تعالى في موارد لا تكليف فيها قطعا كالسماء والارض وغيرهما قال تعالى: " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " حم السجدة: 11 وقال ويوم يقول كن فيكون.

واما استلزام الخوف للرجاء فانما الملازمة ما بين الخوف من نزول العذاب واصابة المكروه وبين الرجاء وقد تقدم ان الذى في الاية انما هو خوف مهابة واجلال بمعنى تأثر الضعيف من القوى وانكسار الصغير الحقير قبال العظيم الكبير الظاهر عليه بعظمته وكبريائه ولا مقابلة بين الخوف بهذا المعنى وبين الرجاء.

وقد استدل بالاية ايضا على ان الملائكة افضل من البشر وفيه ان من الممكن استظهار افضليتهم من عصاة البشر وكفارهم ممن يفقد الصفات المذكورة لكونها

 

/ صفحة 269 /

مسوقة في مقام المدح واما غيرهم فلا تعرض للاية لهم اثباتا ونفيا وسياتى تفصيل القول في الملائكة في موضع يليق به ان شاء الله.

قوله تعالى وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين انما هو اله واحد فاياى فارهبون الرهبة الخوف وتقابل الرغبة كما ان الخوف يقابل به الرجاء.

والكلام معطوف على قوله ولله يسجد وقيل معطوف على قوله وانزلنا اليك الذكر وقيل على قوله ما خلق الله على طريقه قوله (علفتها تبنا وماء باردا) أي وسقيتها ماء باردا والتقدير في الاية أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ وألم يسمعوا إلى ما قال الله لا تتخذوا الخ؟ والاول هو الوجه.

وقوله لا تتخذوا الهين اثنين اريد به والله اعلم النهى عن التعدي عن الاله الواحد باتخاذ غيره معه فيشمل الاثنين وما فوقه من العدد ويؤيده تأكيده بقوله انما هو اله واحد واثنين صفة الهين كما ان واحد صفة اله جئ بهما للايضاح والتبيين.

وبعبارة اخرى العناية متعلقة بالنهي عن اتخاذ غيره معه سواء كان واحدا أو اكثر من واحد لكن لما كان كل عدد اختاروه في الاله فوق الاثنين يجب ان يسلكوا إليه من الاثنين إذ لا يتحقق عدد هو فوق الاثنين الا بعد تحقق الاثنين نهى عن اتخاذ الاثنين واكتفى به عن النهى عن كل عدد فوق الواحد.

ويمكن ان يكون اعتبار الاثنين نظرا إلى ما عليه دأبهم وسنتهم فانهم يعتقدون من الاله باله الصنع والايجاد وهو الذى له الخلق فحسب وهو اله الالهة وموجد الكل وباله العبادة وهو الذى له الربوبية والتدبير وهذا المعنى انسب بما يتلوه من الجمل.

وعلى هذا فالمعنى لا تتخذوا الهين اثنين اله الخلق واله التدبير الذى له العبادة انما هو أي الاله اله واحد له الخلق والتدبير جميعا لان كل تدبير ينتهى إلى الايجاد واذ كنت انا الخالق الموجد فانا المدبر الذى تجب عبادته فاياى فارهبون واياى فاعبدون ومن هنا يظهر وجه تفرع قوله فاياى فارهبون على ما تقدمه وانه من لطيف الاستدلال والجملة تفيد الحصر بتقديم المفعول على سبيل الاشتغال و القصر

 

/ صفحة 270 /

قصر قلب لا قصر افراد كما يفيده كلامهم فان الوثنيين لا يعبدون الله وآلهتهم غير الله وانما يعبدون آلهتهم فحسب معتذرين بان الله سبحانه لا يحيط به علم ولا يناله فهم فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فمن الواجب ان يعبد الكرام أو الاقوياء من خلقه كالملائكة والكاملين من البشر والجن فهم المدبرون لامر العالم ينال بالعبادة خيرهم ويتقى بها شرهم وهذا معنى التقرب إلى الله بشفاعتهم.

والظاهر ان الامر بالرهبة كناية عن الامر بالعبادة وانما اختصت الرهبة بالذكر ليوافق ما تقدم في حديث سجدة الكل التى هي الاصل في تشريع العبادة من خوف الملائكة وعلى هذا فالظاهر ان المراد بالرهبة ما هي رهبة اجلال ومهابة لا ما هي رهبة مؤاخذة وعذاب فافهم ذلك.

قوله تعالى: " وله ما في السماوات والارض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون " قال في المفردات الوصب السقم اللازم وقد وصب فلان فهو وصب واوصبه كذا فهو يتوصب نحو يتوجع قال تعالى ولهم عذاب واصب وله الدين واصبا فتوعد لمن اتخذ الهين وتنبيه ان جزاء من فعل ذلك عذاب لازم شديد.

ويكون الدين ههنا الطاعة ومعنى الواصب الدائم أي حق الانسان ان يطيعه دائما في جميع احواله كما وصف به الملائكة حيث قال لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون ويقال وصب وصوبا دام ووصب الدين وجب ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها انتهى.

والاية وما بعدها تحتج على وحدانيته تعالى في الالوهية بمعنى المعبودية بالحق وان الدين له وحده ليس لاحد ان يشرع من ذلك شيئا ولا ان يطاع فيما شرع فالاية وما بعدها في مقام التعليل لقوله وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين إلى آخر الاية واحتجاج على مضمونها وعود بعد عود إلى ما تقدم بيانه من التوحيد والنبوة اللذين ينكرهما المشركون.

فقوله وله ما في السماوات والارض احتجاج على توحده تعالى في الربوبية فان ما في السماوات والارض من شئ فهو مملوك له بحقيقة معنى الملك إذ ما في العالم المشهود من شئ فهو بما له من الصفات والافعال قائم به تعالى موجود بايجاده

 

/ صفحة 271 /

وظاهر باظهاره لا يسعه ان ينقطع منه ولا لحظة فالاشياء قائمة به قيام الملك بمالكه مملوكة له ملكا حقيقيا لا يقبل تغييرا ولا انتقالا كما هو خاصة الملك الحقيقي كملك الانسان لسمعه وبصره مثلا.

وإذا كان كذلك كان هو تعالى المدبر لامر العالم إذ لا معنى لكون العالم مملوكا له بهذا الملك ثم يستقل غيره بتدبير امره والتصرف فيه وينعزل هو تعالى عما خلقه وملكه وإذا كان هو المدبر لامره كان هو الرب له إذ الرب هو المالك المدبر وإذا كان هو الرب كان هو الذى يجب ان يتقى ويخضع له بالعبادة.

وقوله وله الدين واصبا أي دائما لازما وذلك انه لما كان تعالى هو الرب الذى يملك الاشياء ويدبر امرها ومن واجب التدبير ان يستن العالم الانساني بسنة يبلغ به الجرى عليها غايته ويهديه إلى سعادته وهذه السنة والطريقة هي التى يسميها القرآن دينا كان من الواجب ان يكون تعالى هو القائم على وضع هذه السنة وتشريع هذه الطريقة فهو تعالى المالك للدين كما قال وله الدين واصبا وعليه أن يشرع ما يصلح به التدبير كما قال فيما مر وعلى الله قصد السبيل الاية.

وقيل المراد بالدين الطاعة وقيل الملك وقيل الجزاء ولكل منها وجه غير خفى على المتأمل والاوجه هو ما قدمناه لانه اوفق وانسب بسياق ما يحفها من الايات السابقة واللاحقة الباحثة عن توحيد الربوبية وتشريع الدين من طريق الوحى والرسالة.

وقوله: " أفغير الله تتقون " استفهام انكاري متفرع على الجملتين جميعا على الظاهر والمعنى وإذا كان كذلك فهل غيره تعالى تتقون وتعبدون؟ وليس يملك شيئا ولا يدبر امرا حتى يعبد وليس من حقه ان يشرع دينا فيطاع فيما وضعه وشرعه.

قوله تعالى: " وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " بيان آخر لوحدانيته تعالى في الربوبية يفرع سبحانه عليه ذمهم وتوبيخهم على شركهم بالله وعلى تشريعهم امورا من عند انفسهم من غير اذن منه ورضى ويجرى الكلام في هذا المجرى إلى تمام بضع آيات.

والمراد بالضر سوء الحال من جهة فقدان النعمة التى تصلح بها الحال والجؤار

 

/ صفحة 272 /

بضم الجيم صوت الوحوش استعير لرفع الصوت بالدعاء والتضرع والاستغاثة تشبيها له به.

وقوله: " وما بكم من نعمة فمن الله " الكلام مسوق للعموم وليس مجرد دعوى غير مستدل فقد بين ذلك في الايات السابقة على ان السامعين يسلمون ذلك ويقولون به ويدل عليه جؤارهم واستغاثتهم إليه عند مسيس الضر بفقدان نعمة من النعم.

فالمعنى ان جميع النعم التى عندكم من انعامه تعالى عليكم وانتم تعلمون ذلك ثم إذا حل بكم شئ من الضر وسوء حال يسير رفعتم اصواتكم بالتضرع وجأرتم إليه لا إلى غيره ولو كان لغيره صنيعة عندكم لتوجهتم إليه فهو سبحانه منعم النعمة وكاشف الضر فما بالكم لا تخصونه بالعبادة ولا تطيعونه.

والاستغاثة به تعالى والتضرع إليه عند حلول المصائب وهجوم الشدائد التى ينقطع عندها الرجاء عن الاسباب الظاهرية ضرورية لا يرتاب فيها فان الانسان ولو لم ينتحل إلى دين ولم يؤمن بالله سبحانه فانه لا ينقطع رجاؤه عند الشدائد إذا رجع إلى ما يجده من نفسه ولا رجاء إلا وهناك مرجو منه فمن الضرورى ان تحقق ما لا يخلو من معنى التعلق كالحب والبغض والارادة والكراهة والجذب ونظائرها في الخارج لا يمكن إلا مع تحقق طرف تعلقها في الخارج فلو لم يكن في الخارج مراد لم تتحقق ارادة من مريد ولو لم يكن هناك مطلوب لم يكن طلب ولو لم يكن جاذب يجذب لم يتصور مجذوب ينجذب وهذا حال جميع المعاني الموجودة التى لا تخلو كينونتها عن نسبة.

فتعلق الرجاء من الانسان بالتخلص من البلية عند انقطاع الاسباب دليل على انه يرى ان هناك سببا فوق هذه الاسباب المنقطع عنها لا تعجزه عظائم الحوادث وداهمات الرزايا ولا ينقطع عنه الانسان ولا يزول ولا يفنى ولا يسهو ولا ينسى قط.

هذا شئ يجده الانسان من نفسه وتقضى به فطرته وان الهاه عنه الاشتغال بالاسباب الظاهرة وجذبته إلى نفسها امتعة الحياة وزخارف المادة المحسوسة لكنه إذا احاطت به البلية واعيته الحيلة وسدت عليه طرق النجاة وانهزمت الاسباب الظاهرة عن آخرها وطارت الموانع عن نظره ولم يبق هناك مله يلهيه ولا شاغل يشغله ظهر له ما اخفته الاسباب وعاين ما كان على غفلة منه فتعلقت نفسه به وهو السبب الذى فوق كل سبب وهو الله عز اسمه.

 

/ صفحة 273 /

قوله تعالى: " ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون شروع في ذمهم وتوبيخهم وينتهى إلى ايعادهم وحق لهم ذلك لان الذى يستدعيه كشف الضر عن استغاثتهم ورجوعهم الفطري إلى ربهم ان يوحدوه بالربوبية بعد ما انكشفت لهم الحقيقة باندفاع البلية ونزول الرحمة لكن فريقا منهم تفاجئهم الشقوة فيعودون إلى التغلق بالاسباب فينتبه عندئذ الراقد من رذائل ملكاتهم فيثير لهم الاهواء ويشركون بربهم غيره ومنه الاسباب التى يتعلقون بها ومعنى الاية ظاهر.

قوله تعالى: " ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون اللام للغاية أي انهم انما يشركون بربهم ليكفروا بما اعطيناهم من النعمة بكشف الضر عنهم ولا يشكروه.

وجعل الكفر بالنعمة غاية للشرك انما هو بدعوى انهم لا غاية لهم في مسير حياتهم الا الكفر بنعمة الله وعدم شكره على ما اولى فان اشتغالهم بالحس والمادة اورثهم في قلوبهم ملكة التعلق بالاسباب الظاهرة واسناد النعم الالهية إليها وضربهم اياها حجابا ثخينا على عرفان الفطرة فأنساهم ذلك توحيد ربهم في ربوبيته فصاروا يذكرون عند كل نعمة اسبابها الظاهرة دون الله ويتعلقون بها ويخشون انقطاعها ويخضعون لها دون الله فكأنهم بل انهم لا غاية لهم الا كفر نعمة الله وعدم شكرها.

فالكفر بالله سبحانه هو غايتهم العامة في كل شأن ابدوه وكل عمل اتوا به فإذا اشركوا بربهم بعد كشف الضر بالخضوع لسائر الاسباب فانما اشركوا ليكفروا بما آتاهم من النعمة.

ولما كان كفرانهم هذا وهو كفر دائم يصرون عليه واستكبار على الله وقد قال تعالى: " لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد " ابراهيم: 7 أثار ذكر ذلك الغضب الالهى فعدل عن خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم على نعت الغيبة إلى خطابهم وايعادهم من غير توسيط فقال فتمتعوا فسوف تعلمون.

ولم يذكر ما يتمتعون به ليفيد بالاطلاق ان كل ما تمتعوا به سيؤاخذون عليه ولا ينفعهم شئ منه ولم يذكر ما يعلمونه وهو لا محالة امر يسوؤهم ليكونوا على جهل منه حتى يحل بهم مفاجأة ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وفيه

 

/ صفحة 274 /

تشديد للايعاد.

وذكر بعضهم ان اللام في قوله ليكفروا بما آتيناهم لام الامر والمراد به الايعاد على نحو التعجيز وهو تكلف.

قوله تعالى: " ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون " ذكروا انه معطوف على سائر جناياتهم التى دلت عليها الايات السابقة والتقدير انهم يفعلون ما قصصناه من جناياتهم ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا والظاهر ان ما في لما لا يعلمون موصولة والمراد به آلهتهم وضمير الجمع يعود إلى المشركين ومفعول لا يعلمون محذوف والمعنى ويجعل المشركون لالهتهم التى لا يعلمون من حالها انها تضر وتنفع نصيبا مما رزقناهم.

والمراد من هذا الجعل ما ذكره سبحانه في سورة الانعام: " بقوله وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون " الانعام: 136 هذا ما ذكروه ولا يخلو عن تكلف ويمكن ان يكون معطوفا على ما مر من قوله يشركون والتقدير إذا فريق منكم بربهم يشركون ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم والمراد بما لا يعلمون الاسباب الظاهرة التى ينسبون إليها الاثار على سبيل الاستقلال وهم جاهلون بحقيقة حالها ولا علم لهم جازما انها تضر وتنفع مع ما يرون من تخلفها عن التأثير احيانا.

وانما نسب إليهم انهم يجعلون لها نصيبا من رزقهم مع انهم يسندون الرزق إليها بالاستقلال من غير ان يذكروا الله معها ومقتضاه نفى التأثير عنه تعالى رأسا لا اشراكه معها لان لهم علما فطريا بأن الله سبحانه له تأثير في الامر وقد ذكر عنهم آنفا انهم يجأرون إليه عند مس الضر وإذا اعتبر اعترافهم هذا مع اسنادهم التأثير إلى الاسباب انتج ذلك ان الاسباب عندهم شركاء لله في الرزق ولها نصيب فيه ثم اوعدهم بقوله " تالله لتسألن عما كنتم تفترون ".

 

قوله تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون عتاب آخر لهم في حكم حكموا به جهلا من غير علم فاحترموا لانفسهم واساؤا الادب مجترئين على الله

 

/ صفحة 275 /

سبحانه حيث اختاروا لانفسهم البنين وكرهوا البنات لكنهم نسبوها إلى الله سبحانه.

فقوله ويجعلون لله البنات سبحانه هو اخذهم الالهة دون الله أو بعض الالهة اناثا وقولهم انهن بنات الله وقد قيل ان خزاعة وكنانة كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله.

وكانت الوثنية البرهمية والبوذية والصابئة يثبتون آلهة كثيرة من الملائكة والجن اناثا وهن بنات الله وفي القرآن الكريم: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان اناثا " الزخرف: 19 وقال تعالى: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " الصافات: 158.

وقال الامام في تفسيره في وجه ذلك اظن انهم سموها بنات لاستتارها عن العيون كالنساء كما انهم اخذوا الشمس مؤنثا لاستتار قرصها بنورها الباهر وضوئها عن العيون كالمخدرات من النساء ولا يلزم الاطراد في التسمية حتى يلزم مثل ذلك في الجن لاستتارهم عن العيون مع عدم التأنيث انتهى ملخصا.

وذكر بعضهم ان الوجه في التأنيث كونها مستترة عن العيون مع كونها في محل لا يصل إليه الاغيار فهى كالبنات التى يغار عليهن الرجل فيسكنهن في محل امين ومكان مكين والجن وان كانوا مستترين عن العيون لكنه على غير هذه الصورة انتهى.

وهذان الوجهان لا يتعديان طور الاستحسان وانت لو راجعت آراء الوثنية على اختلافهم وقد تقدم شطر منها في الجزء العاشر من هذا الكتاب عرفت ان العرب لم تكن مبتكرة في هذه العقيدة بل لها اصل قديم في آراء قدماء الوثنية في الهند ومصر وبابل واليونان والروم.

والامعان في اصول آرائهم يعطى انهم كانوا يتخذون الملائكة الذين ينتهى إليهم وجوه الخير في العالم والجن الذين يرجع إليهم الشرور آلهة يعبدونهم رغبا ورهبا وهذه المبادئ العالية والقوى الكلية التى هم يحملونها وبعبارة اخرى هم مظاهر لها تنقسم إلى فاعله ومنفعلة وهم يعتبرون اجتماع الفاعل والمنفعل منها نكاحا وازدواجا والفاعل منها أبا والمنفعل منها أما والمتحصل من اجتماعهما ولدا وينقسم الاولاد إلى بنين وبنات فمن الالهة ما هن امهات وبنات ومنها ما هم آباء وبنون.

فلئن كان بعض وثنية العرب قالت ان الملائكة جميعا بنات الله فقول ارادوا

 

/ صفحة 276 /

ان يقلدوا فيه من قبلهم جهلا ومن غير تثبت.

وقوله ولهم ما يشتهون ظاهر السياق انه معطوف على لله البنات والتقدير ويجعلون لهم ما يشتهون أي يثبتون لله سبحانه البنات باعتقاد ان الملائكة بناته ويثبتون لانفسهم ما يشتهون وهم البنون بقتل البنات ووأدها والمحصل انهم يرضون لله بما لا يرضون به لانفسهم.

وقيل ان ما يشتهون مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدم والجملة معطوفة على يجعلون وعلى هذا فالجملة مسوقة للتقريع أو الاستهزاء.

وقد وجهوا ذلك بأن عطف الجملة على لله البنات غير جائز لمخالفته القاعدة وهى ان الفعل المتعدى إلى المفعول بنفسه أو بحرف جر إذا كان فاعله ضميرا متصلا مرفوعا فانه لا يتعدى إلى نفس هذا الضمير بنفسه أو بحرف جر الا بفاصل مثلا إذا ضرب زيد نفسه لم يقل زيد ضربه وانت ضربتك وإذا غضب على نفسه لم يقل زيد غضب عليه وانما يقال زيد ضرب نفسه أو ما ضرب الا اياه وزيد غضب على نفسه أو ما غضب الا عليه الا في باب ظن وما الحق به من فقد وعدم فيجوز ان يقال زيد ظنه قويا أي نفسه.

وعلى هذا فلو كان قوله ولهم ما يشتهون معطوفا على قوله لله البنات كان من الواجب ان يقال ولانفسهم ما يشتهون انتهى محصلا.

والحق ان التزام هذه القاعدة انما هو لدفع اللبس وان تخلل حرف الجر بين الضميرين من الفصل وفي القرآن الكريم: " وهزى اليك بجذع النخلة " مريم: 25 " واضمم اليك جناحك " القصص: 32 ومنهم من رد القاعدة من رأس لانتقاضها بالايتين وأجابوا ايضا بوجوه اخر لا حاجة بنا إلى ذكرها من ارادها فليراجع التفاسير.

قوله تعالى: " وإذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسوداوهو كظيم " اسوداد الوجه كناية عن الغضب والكظيم هو الذى يتجرع الغيظ والجملة حالية أي ينسبون إلى ربهم البنات والحال انهم إذا بشر احدهم بالانثى فقيل ولدت لك بنت اسود وجهه من الغيظ وهو يتجرع غيظه.

قوله تعالى: " يتوارى من القوم من سوء ما بشر به إلى آخر الاية التوارى

 

/ صفحة 277 /

الاستخفاء والتخفى وهو مأخود من الوراء والهون الذلة والخزى والدس الاخفاء.

والمعنى يستخفى هذا المبشر بالبنت من القوم من سوء ما بشر به على عقيدته ويتفكر في امره أيمسك ما بشر به وهى البنت على ذلة من امساكه وحفظه أم يخفيه في التراب كما كان ذلك عادتهم في المواليد من البنات كما قيل ان احدهم كان يحفر حفيرة صغيرة فإذا كان المولود انثى جعلها في الحفيرة وحثا عليها التراب حتى تموت تحته وكانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهن فيطمع غير الاكفاء فيهن.

 

واول ما بدا لهم ذلك ان بنى تميم غزوا كسرى فهزمهم وسبى نساءهم وذراريهم فادخلهن دار الملك واتخذ البنات جواري وسرايا ثم اصطلحوا بعد برهة واستردوا السبايا فخيرن في الرجوع إلى اهلهن فامتنعت عدة من البنات فاغضب ذلك رجال بنى تميم فعزموا لا تولد لهم انثى إلا وأدوها ودفنوها حية ثم تبعهم في ذلك بعض من دونهم فشاع بينهم وأد البنات.

وقوله ألا ساء ما يحكمون هو حكمهم ان له البنات ولهم البنون لا لهوان البنات وكرامة البنين في نفس الامر بل معنى هذا الحكم عندهم ان يكون لله ما يكرهون ولهم ما يحبون وقيل المراد بالحكم حكمهم بوجوب وأد البنات وكون امساكهن هونا واول الوجهين اوفق وانسب للاية التالية.

قوله تعالى: " للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم " المثل هو الصفة ومنه سمى المثل السائر مثلا لانه صفة تسير في الالسن وتجرى في كل موضع تناسبه وتشابهه.

والسوء بالفتح والسكون مصدر ساء يسوء كما ان السوء بالضم اسمه واضافة المثل إلى السوء تفيد التنويع فان الاشياء انما توصف اما من جهة حسنها واما من جهة سوئها وقبحها فالمثل مثلان مثل الحسن ومثل السوء.

والحسن والقبح ربما كانا من جهة الخلقة لا صنع للانسان ولا مدخل لاختياره فيهما كحسن الوجه ودمامة الخلقة وربما لحقا من جهة الاعمال الاختيارية كحسن العدل وقبح الظلم وانما يحمد ويذم العقل ما كان من القسم الثاني دون القسم الاول فيدور الحمد والذم بحسب الحقيقة مدار العمل بما تستحسنه وتأمر به الفطرة الانسانية

 

/ صفحة 278 /

من الاعمال التى توصله إلى ما فيه سعادة حياته وترك العمل بها وهو الذى يتضمنه الدين الحق من احكام الفطرة.

ومن المعلوم ان الطبع الانساني لا رادع له عن اقتراف العمل السئ الا اليم المؤاخذة وشديد العقاب واذعانه بايقاعه وانجازه واما الذم فانه يتبدل مدحا إذا شاع الفعل وخرج بذلك عن كونه منكرا غير معروف.

ومن هنا يظهر ان الايمان بالاخرة والاذعان بالحساب والجزاء هو الاصل الوحيد الذى يضمن حفظ الانسان عن اقتراف الاعمال السيئة ويجيره من لحوق أي ذم وخزى وهو المنشأ الذى يقوم اعمال الانسان تقويما يحمله على ملازمة طريق السعادة ولا يؤثر اثره أي شئ آخر من المعارف الاصلية حتى التوحيد الذى إليه ينتهى كل اصل.

وإلى ذلك يشير قوله تعالى: " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص: 26.

فعدم الايمان بالاخرة واستخفاف امر الحساب والجزاء هو مصدر كل عمل سئ ومورده وبالمقابلة الايمان بالاخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كل خير وبركة.

فكل مثل سوء وصفة قبح يلزم الانسان ويلحقه فانما يأتيه من قبل نسيان الاخرة كما ان كل مثل حسن وصفة حمد بالعكس من ذلك.

وبما تقدم يظهر النكتة في قوله للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء فقد كان يصفهم في الايات السابقة بالشرك فلما اراد بيان ان لهم مثل السوء بدل ذلك من وصفهم بعدم ايمانهم بالاخرة.

فالذين لا يؤمنون بالاخرة هم الاصل في عروض كل مثل سوء وصفة قبح فان ملاكه وهو انكار الاخرة نعتهم اللازم لهم ولو لحق بعض المؤمنين بالاخرة شئ من مثل السوء فانما يلحقه لنسيان ما ليوم الحساب والمنكرون هم الاصل في ذلك.

هذا في صفات السوء التى يستقبحها العقل ويذمها وهناك صفات سوء لا يستقبحها العقل وانما يكرهها الطبع كالانوثة عند قوم وايلاد البنات عند آخرين والفقر المالى والمرض وكالموت والفناء والعجز والجهل تشترك بين المؤمن والكافر وصفات اخرى تحليلية كالفقر والحاجة والنقص والعدم والامكان لا تختص بالانسان بل هي مشتركة

 

/ صفحة 279 /

بين جميع الممكنات سارية في عامة الخلق والكافر يتصف بها كما يتصف بها غيره فالكافر في معرض الاتصاف بكل مثل سوء منها ما يختص به ومنها ما يشترك بينه وبين غيره كما بين تفصيلا والله سبحانه منزه من ان يتصف بشئ من هذه الصفات التى هي امثال السوء أما امثال السوء التى تتحصل من ناحية سيئات الاعمال مما يستقبحه العقل ويذمه ويجمعها الظلم فلانه لا يظلم شيئا قال تعالى: " ولا يظلم ربك احدا " الكهف: 49 وقال: " وهو الحكيم العليم " الزخرف: 84 فما قضاه من حكم أو فعله من شئ فهو المتعين في الحكمة لا يصلح بالنظر إلى النظام الجارى في الوجود الا ذاك.

واما امثال السوء مما يستكرهه الطبع أو يحلله العقل فلا سبيل لها إليه تعالى فانه عزيز مطلق يمتنع جانبه من ان تسرب إليه ذلة فان له كل القدرة لا يعرضه عجز وله العلم كله فلا يطرأ عليه جهل وله محض الحياة لا يهدده موت ولا فناء منزه عن كل نقص وعدم فلا يتصف بصفات الاجسام مما فيه نقص أو فقد أو قصور أو فتور والايات في هذه المعاني كثيرة ظاهرة لا حاجة إلى ايرادها.

فهو سبحانه ذو علو ونزاهة من ان يتصف بشئ من امثال السوء التى يتصف بها غيره ولا هذا المقدار من التنزه والتقدس فحسب بل منزه من ان يتصف بشئ من الامثال الحسنة والصفات الجميلة الكريمة بمعانيها التى يتصف بها غيره كالحياة والعلم والقدرة والعزة والعظمة والكبرياء وغيرها فان الذى يوجد من هذه الصفات الحسنة الكمالية في الممكنات محدودة متناه مشوب بالفقر والحاجة مخلوط بالفقدان والنقيصة لكن الذى له سبحانه من الصفات محض الكمال وحقيقته غير محدودة ولا متناه ولا مشوب بنقص وعدم فله حياة لا يهددها موت وقدرة لا يعتريها عى وعجز وعلم لا يقارنه جهل وعزة ليس معها ذلة.

فله المثل الاعلى والصفة الحسنى قال تعالى: " وله المثل الاعلى في السماوات والارض " الروم: 27 وقال: " له الاسماء الحسنى " طه: 8 فالامثال منها دانية ومنها عالية والعالية منها اعلى ومنها غيره والاعلى مثله تعالى والاسماء سيئة وحسنة والحسنة منها احسن وغيره ولله منها ما هو احسن فافهم ذلك.

 

/ صفحة 280 /

فقد تبين بما تقدم معنى كون مثله اعلى وان قوله ولله المثل الاعلى مسوق للحصر أي لله المثل الذى هو اعلى دون المثل الذى هو سئ دان ودون المثل الذى هو حسن عال من صفات الكمال الذى تتصف به الممكنات وليس بأعلى.

وتبين ايضا ان المثل الاعلى الذى يظهر له تعالى من البيان السابق هو انتفاء جميع الصفات السيئة عنه كما قال: " ليس كمثله شئ " الشورى: 11 ومن الصفات الثبوتية كل صفة حسنة منفيا عنه الحدود والنواقص.

وقوله وهو العزيز الحكيم مسوق لافادة الحصر وتعليل ما تقدمه أي وهو الذى له كل العزة فلا تعتريه ذلة اصلا لان كل ذلة فهو فقد عزة ما وليس يفقد عزة ما وله كل الحكمة فلا يعرضه جهالة لانها فقد حكمة ما وليس يفقد شيئا من الحكمة.

واذ لا سبيل لذلة ولا جهالة إليه فلا يتصف بشئ من صفات النقص ولا ينعت بشئ من نعوت الذم وامثال السوء لكن الكافر ذليل في ذاته جهول في نفسه فتلحقه وتلازمه صفات النقص ويتصف بصفات الذم وامثال السوء فللذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء.

والمؤمن وان كان ذليلا في ذاته جهولا في نفسه كالكافر الا انه لدخوله في ولاية الله اعزه ربه بعزته واظهره على الجهالة بتأييده بروح منه قال تعالى: " والله ولى المؤمنين " آل عمران: 68 وقال: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " المنافقون: 8 وقال: " اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه " المجادلة: 22.

قوله تعالى: " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة " إلى آخر الاية ضمير عليها عائد إلى الارض لدلالة الناس عليها.

ولا يبعد ان يدعى ان السياق يدل على كون المراد بالدابة الانسان فقط من جهة كونه يدب ويتحرك والمعنى ولو اخذ الله الناس بظلمهم مستمرا على المؤاخذة ما ترك على الارض من انسان يدب ويتحرك اما جل الناس فانهم يهلكون بظلمهم واما الاشذ الاندر وهم الانبياء والائمة المعصومون من الظلم فهم لا يوجدون لهلاك آبائهم وامهاتهم من قبل.

والقوم اخذوا الدابة في الاية باطلاق معناها وهو كل ما يدب على الارض من

 

/ صفحة 281 /

انسان وحيوان فعاد معنى الاية إلى انه لو يؤاخذهم بظلمهم لاهلك البشر وكل حيوان على الارض فتوجه إليه ان هذا هو الانسان يهلك بظلمه فما بال سائر الحيوان يهلك ولا ظلم له أو يهلك بظلم من الانسان؟ واوجه ما اجيب به عنه قول بعضهم باصلاح منا ان الله تعالى لو اخذهم بظلمهم بكفر أو معصية لهلك عامة الناس بظلمهم إلا المعصومين منهم واما المعصومون على شذوذهم وقلة عددهم فانهم لا يوجدون لهلاك آبائهم وامهاتهم من قبل وإذا هلك الناس وبطل النسل هلكت الدواب من سائر الحيوان لانها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله تعالى: " خلق لكم ما في الارض جميعا " البقرة: 29 ولهم وجوه أخر في الذب عن الاية على تقدير عموم الدابة فيها لا جدوى في نقلها من ارادها فليراجع مطولات التفاسير.

واحتج بعضهم بالاية على عدم عصمة الانبياء (عليهم السلام) وفيه ان الاية لا تدل على ازيد من انه تعالى لو اخذ بالظلم لهلك جميع الناس وانقرض النوع واما إن كل من يهلك فانما هلك عن ظلمه فلا دلالة لها عليه فمن الجائز ان يهلك الاكثرون بظلمهم ويفنى الاقلون بفناء آبائهم وامهاتهم كما تقدم فلا دلالة في الاية على استغراق الظلم الافراد حتى الانبياء والمعصومين وانما تدل على استغراق الفناء.

وربما قيل في الجواب ان المراد بالناس الظالمون منهم بقرينة قوله على ظلمهم فلا يشمل المعصومين من رأس.

وربما اجيب ان المراد بالظلم اعم من المعصية التى هي مخالفة الامر المولوي وترك الاولى الذى هو مخالفة الامر الارشادي وربما صدر عن الانبياء (عليهم السلام) كما حكى عن آدم وزوجه: " قالا ربنا ظلمنا انفسنا " الاعراف: 23 وغيره من الانبياء فحسنات الابرار سيئات المقربين وحينئذ فلا يدل عموم الظلم في الاية للانبياء على عدم عصمة الانبياء عن المعصية بمعنى مخالفة الامر المولوي.

وربما اجيب بأن اهلاك جميع الناس انما هو بان الله يمسك عن انزال المطر على الارض لظلم الظالمين من الناس فيهلك به الظالمون والاولياء والدواب فان العذاب إذا نزل لم يفرق بين الشقى والسعيد فيكون على العدو نقمة ونكالا وعلى غيره محنة ومزيد أجر.

 

/ صفحة 282 /

والاجوبة الثلاثة غير تامة جميعا اما الاول فان اختصاص الناس بالظالمين يوجب اختصاص الهلاك بهم كما ادعى فلا يعم الهلاك المعصومين ولا موجب حينئذ لهلاك سائر الدواب المخلوقة للانسان فلا يستقيم قوله ما ترك عليها من دابة كما لا يخفى.

واما الثاني فلان الايات بما لها من السياق تبحث عن الظلم بمعنى الشرك وسائر المعاصي المولوية فتعميم الظلم في الاية لترك الاولى وخاصة بالنظر إلى ذيل الاية ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى الظاهر في الايعاد لا يلائم السياق.

واما الثالث فلعدم دليل من جهة اللفظ على ما ذكر فيه.

وقوله ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون استدراك عن مقدر يدل عليه الجملة الشرطية في صدر الاية والتقدير فلا يعاجل في مؤاخذتهم ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى والاجل المسمى بالنسبة إلى الفرد من الانسان موته المحتوم وبالنسبة إلى الامة يوم انقراضها وبالنسبة إلى عامة البشر نفخ الصور وقيام الساعة ولكل منها ذكر في كلامه تعالى قال: " ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا اجلا مسمى " المؤمن: 67 وقال: " ولكل امة اجل فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " الاعراف: 34 وقال: " ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضى بينهم " الشورى: 14.

قوله تعالى: " ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى " إلى آخر الاية عود إلى نسبة المشركين إليه تعالى البنات واختيارهم لانفسهم البنين وهم يكرهون البنات ويحبون البنين ويستحسنونهم.

فقوله ويجعلون لله ما يكرهون يعنى البنات وقوله وتصف السنتهم الكذب أي تخبر السنتهم الخبر الكاذب وهو ان لهم الحسنى أي العاقبة الحسنى من الحياة وهى ان يخلفهم البنون وقيل المراد بالحسنى الجنة على تقدير صحة البعث وصدق الانبياء فيما يخبرون به كما حكاه عنهم في قوله: " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لى وما اظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربى ان لى عنده للحسنى " حم السجدة: 50 وهذا الوجه لا بأس به لو لا ذيل الاية بما سيجئ

 

/ صفحة 283 /

من معناه.

وقوله لا جرم ان لهم النار وانهم مفرطون أي المقدمون إلى عذاب النار يقال فرط وافرط أي تقدم والافراط الاسراف في التقدم كما ان التفريط التقصير فيه والفرط بفتحتين هو الذى يسبق السيارة لتهيئة المسكن والماء ويقال افرطه أي قدمه.

ولما كان قولهم كذبا وافتراء ان لله ما يكرهون ولهم الحسنى في معنى دعوى انهم سبقوا ربهم إلى الحسنى وتركوا له ما يكرهون اوعدهم بحقيقة هذا الزعم جزاء لكذبهم وهو ان لهم النار وانهم مقدمون إليها حقا وذلك قوله لا جرم إن لهم النار الخ.

قوله تعالى: " تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان اعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب اليم " ظاهر السياق ان المراد باليوم يوم نزول الاية والمراد بكون الشيطان وليا لهم يومئذ اتفاقهم على الضلال في زمان الوحى والمراد بالعذاب الموعود عذاب يوم القيامة كما هو ظاهر غالب الايات التى توعد بالعذاب.

والمعنى تالله لقد ارسلنا رسلنا إلى امم من قبلك كاليهود والنصارى والمجوس ممن لم ينقرضوا كعاد وثمود فزين لهم الشيطان اعمالهم فاتبعوه واعرضوا عن رسلنا فهو وليهم اليوم وهم متفقون على الضلال ولهم يوم القيامة عذاب اليم.

وجوز الزمخشري على هذا الوجه ان يكون ضمير وليهم لقريش والمعنى إن الشيطان زين للامم الماضين اعمالهم وهو اليوم ولى قريش ويبعده لزوم اختلاف الضمائر.

ويمكن ان يكون المراد بالامم الامم الماضين والهالكين فولاية الشيطان لهم اليوم كونهم من اولياء الشيطان في البرزخ ولهم هناك عذاب اليم وقيل المراد باليوم مدة الدنيا فهى يوم الولاية والعذاب يوم القيامة.

وقيل المراد به يوم القيامة فهناك ولاية الشيطان لهم ولهم هناك عذاب اليم.

وقيل المراد يوم تزيين الشيطان اعمالهم وهو من قبيل حكاية الحال الماضية.

واقرب الوجوه اولها ثم التالى فالتالي والله اعلم.

 

/ صفحة 284 /

قوله تعالى: " وما انزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه " الخ ضمير لهم للمشركين والمراد بالذى اختلفوا فيه هو الحق من اعتقاد وعمل فيكون المراد بالتبين الايضاح والكشف لاتمام الحجة والدليل على هذا الذى ذكرنا تفريق امر المؤمنين منهم وافرادهم بالذكر في قوله: " وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ".

والمعنى هذا حال الناس في الاختلاف في المعارف الحقة والاحكام الالهية وما انزلنا عليك الكتاب الا لتكشف لهؤلاء المختلفين الحق الذى اختلف فيه فيتم لهم الحجة وليكون هدى ورحمة لقوم يؤمنون يهديهم الله به إلى الحق ويرحمهم بالايمان به والعمل.

(بحث روائي) في الكافي باسناده عن عبد الرحمان بن كثير قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام) فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون قال الذكر محمد ونحن اهله المسؤولون الحديث.

اقول يشير (عليه السلام) إلى قوله تعالى: " قد انزل الله عليكم ذكرا رسولا " الطلاق: 11 وفي معناه روايات كثيرة.

وفي تفسير البرهان عن البرقى باسناده عن عبد الكريم بن ابى الديلم عن ابى عبد الله (عليه السلام): قال جل ذكره فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون قال الكتاب الذكر واهله آل محمد (عليهم السلام) امر الله عز وجل بسؤالهم ولم يأمر بسؤال الجهال وسمى الله عز وجل القرآن ذكرا فقال تبارك وتعالى: " وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " وقال تعالى: " وانه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ".

اقول وهذا احتجاج على كونهم اهل الذكر بأن الذكر هو القرآن وانهم اهله لكونهم قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والايتان في آخر الكلام للاستشهاد على ذلك كما صرح بذلك في غيره من الروايات وفي معنى الحديث احاديث أخر.

وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليه السلام) قال: قلت له ان من عندنا يزعمون ان قول الله تعالى فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون انهم اليهود والنصارى فقال إذا يدعونكم إلى دينهم قال ثم قال بيده إلى صدره نحن أهل الذكر

 

/ صفحة 285 /

الذكر ونحن المسؤولون قال قال أبو جعفر (عليه السلام) الذكر القرآن.

اقول وروى نظير هذا البيان عن الرضا (عليه السلام) في مجلس المأمون.

وقد مر ان الخطاب في الاية على ما يفيده السياق للمشركين من الوثنيين المحيلين للرسالة امروا أن يسألوا اهل الذكر وهم اهل الكتب السماوية هل بعث الله للرسالة رجالا من البشر يوحى إليهم؟ ومن المعلوم ان المشركين لما كانوا لا يقبلون من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن معنى لارجاعهم إلى غيره من اهل القرآن لانهم لم يكونوا يقرون للقرآن انه ذكر من الله فتعين ان يكون المسؤل عنه بالنظر إلى مورد الاية هم اهل الكتاب وخاصة اليهود.

واما إذا اخذ قوله فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون في نفسه مع قطع النظر عن المورد ومن شأن القرآن ذلك ومن المعلوم ان المورد لا يخصص بنفسه كان القول عاما من حيث السائل والمسئول والمسؤول عنه ظاهرا فالسائل كل من يمكن ان يجهل شيئا من المعارف حقيقية والمسائل من المكلفين والمسئول عنه جميع المعارف والمسائل التى يمكن ان يجهله جاهل واما المسئول فانه وان كان بحسب المفهوم عاما فهو بحسب المصداق خاص وهم اهل بيت النبي عليه و(عليهم السلام).

وذلك ان المراد بالذكر ان كان هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في آية الطلاق فهم اهل الذكر وان كان هو القرآن كما في آية الزخرف فهو ذكر للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) ولقومه وهم قومه أو المتيقن من قومه فهم اهله وخاصته وهم المسئولون وقد قارنهم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن وأمر الناس بالتمسك بهما في حديث الثقلين المتواتر قائلا: انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض الحديث ومن الدليل على ان كلامهم (عليهم السلام) من الجهة التى ذكرناها عدم تعرضهم لشئ من خصوصيات مورد الاية.

ومما قدمناه يظهر فساد ما اورده بعضهم على الاحاديث ان المشركين الذين امروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف يقبلون من اهل بيته؟ وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا ينبغى للعالم ان يسكت على علمه ولا ينبغى للجاهل ان يسكت على جهله وقد قال الله

 

/ صفحة 286 /

فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون فينبغي للمؤمن ان يعرف عمله على هدى أم على خلافه وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " أفأمن الذين مكروا السيئات إلى قوله بمعجزين قال قال (عليه السلام) إذا جاؤا وذهبوا في التجارات فيأخذهم في تلك الحالة أو يأخذهم على تخوف قال قال على تيقظ وفي تفسير العياشي عن سماعة عن ابى عبد الله (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله وله الدين واصبا قال واجبا وفي المعاني باسناده عن حنان بن سدير عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام) ولله المثل الاعلى الذى لا يشبهه شئ ولا يوصف ولا يتوهم وفي الدر المنثور: في قوله ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم الاية اخرج ابن مردويه عن ابى هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو ان الله يؤاخذنى وعيسى بن مريم بذنوبنا وفي لفظ بما جنت هاتان الابهام والتى تليها لعذبنا مايظلمنا شيئا.

اقول والحديث مخالف لما يثبته الكتاب والسنة من عصمة الانبياء (عليهم السلام) ولا وجه لحمله على ارادة ترك الاولى من الذنوب إذ لا عذاب عليه

* * *

 والله انزل من السماء ماء فأحيا به الارض بعد موتها ان في ذلك لاية لقوم يسمعون - 65 وان لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين – 66

ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ان في ذلك لاية لقوم يعقلون - 67 وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون - 68 ثم كلى

 

/ صفحة 287 /

من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء للناس ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون - 69 والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا ان الله عليم قدير - 70 والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادى رزقهم على ما ملكت ايمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون - 71 والله جعل لكم من انفسكم ازواجا وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون - 72 ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والارض شيئا ولا يستطيعون - 73 فلا تضربوا لله الامثال ان الله يعلم وانتم لا تعلمون - 74 ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستون الحمد لله بل اكثرهم لا يعلمون - 75 وضرب الله مثلا رجلين احدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم - 76 ولله غيب السموات والارض وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب ان الله على كل شئ قدير - 77

 

/ صفحة 288 /

(بيان) رجوع بعد رجوع إلى عد النعم والالاء الالهية واستنتاج التوحيد والبعث منها والاشارة إلى مسألة التشريع وهى النبوة.

قوله تعالى: " والله انزل من السماء ماء فأحيا به الارض بعد موتها " الخ يريد انبات الارض بعدما انقطعت عنه بحلول الشتاء بماء السماء الذين هو المطر فتأخذ اصول النباتات وبذورها في النمو بعد سكونها وهى حياة من سنخ الحياة الحيوانية وإن كانت اضعف منها وقد اتضح بالابحاث الحديث ان للنبات من جراثيم الحياة ما للحيوان وان اختلفتا صورة وأثرا.

وقوله ان في ذلك لاية لقوم يسمعون المراد بالسمع قبول ما من شأنه أن يقبل من القول فان العاقل الطالب للحق إذا سمع ما يتوقع فيه الحق اصغي واستمع إليه ليعيه ويحفظه قال تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب " الزمر: 18.

فإذا ذكر من فيه قريحة قبول الحق حديث انزال الله المطر واحيائه الارض بعد موتها كان له في ذلك آية للبعث وان الذى احياها لمحيى الموتى.

قوله تعالى: " وان لكم في الانعام لعبرة الخ الفرث هو الثفل الذى ينزل إلى الكرش والامعاء فإذا دفع فهو سرجين وليس فرثا والسائغ اسم فاعل من السوغ يقال ساغ الطعام والشراب إذا جرى في الحلق بسهولة.

وقوله وان لكم في الانعام لعبرة أي لكم في الابل والبقر والغنم لامرا أمكنكم أن تعتبروا به وتتعظوا ثم بين ذلك الامر بقوله نسقيكم مما في بطونه الخ أي بطون ما ذكر من الانعام اخذ الكثير شيئا واحدا.

وقوله من بين فرث ودم الفرث في الكرش والبان الانعام مكانها مؤخر البطن بين الرجلين والدم مجراه الشرايين والاوردة وهى محيطة بهما جميعا فأخذ اللبن شيئا هو بين الفرث والدم كأنه باعتبار مجاورته لكل منهما واجتماع الجميع في داخل الحيوان وهذا كما يقال اخترت زيدا من بين القوم ودعوته واخرجته من بينهم إذا

 

/ صفحة 289 /

اجتمع معهم في مكان واحد وجاورهم فيه وان كان جالسا في حاشية القوم لا وسطهم والمراد بذلك انى ميزته من بينهم وقد كان غير متميز.

والمعنى نسقيكم مما في بطونه لبنا خارجا من بين فرث ودم خالصا غير مختلط ولا مشوب بهما ولا مستصحب لشئ من طعمهما ورائحتهما سائغا للشاربين فذلك عبرة لمن اعتبر وذريعة إلى العلم بكمال القدرة ونفوذ الارادة وان الذى خلص اللبن من بين فرث ودم لقادر على ان يبعث الانسان ويحييه بعدما صار عظاما رميما وضلت في الارض اجزاؤه.

قوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " إلى آخر الاية قال في المفردات السكر بضم السين حالة تعرض بين المرء وعقله إلى ان قال والسكر بفتحتين ما يكون منه السكر قال تعالى: " تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا انتهى.

وقال في المجمع السكر في اللغة على اربعة اوجه الاول ما اسكر من الشراب والثانى ما طعم من الطعام قال الشاعر جعلت عيب الاكرمين سكرا أي جعلت ذمهم طعما لك والثالث السكون ومنه ليلة ساكرة أي ساكنة قال الشاعر وليست بطلق ولا ساكرة ويقال سكرت الريح سكنت قال وجعلت عين الحرور تسكر والرابع المصدر من قولك سكر سكرا ومنه التسكير التحيير في قوله سكرت ابصارنا انتهى والظاهر ان الاصل في معناه هو زوال العقل باستعمال ما يوجب ذلك وسائر ما ذكره من المعاني مأخوذة منه بنوع من الاستعارة والتوسع.

وقوله ومن ثمرات النخيل والاعناب اما جملة اسمية معطوفة على قوله

والله انزل من السماء ماء كقوله في الاية السابقة وان لكم في الانعام لعبرة والتقدير ومن ثمرات النخيل والاعناب ما أو (1) شئ تتخذون منه الخ قالوا

 

* (هامش) *

(1) الترديد مبنى على المذهبين في حذف الموصول كما سيأتي.

(*)

 

/ صفحة 290 /

والعرب ربما يضمرما الموصولة كثيرا ومنه قوله تعالى: " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا " الدهر: 20 والتقدير رأيت ما ثم أو التقدير ومن ثمرات النخيل والاعناب شئ تتخذون منه بناء على عدم جواز حذف الموصول وابقاء الصلة على ما ذهب إليه البصريون من النحاة.

واما جملة فعلية معطوفة على قوله انزل من السماء كما في الاية التالية واوحى ربك والتقدير خلق لكم أو آتاكم من ثمرات النخيل والاعناب وقوله تتخذون منه الخ بدل منه أو استئناف كأن قائلا يقول ما ذا نستفيد منه فقيل تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا وافراد ضمير منه بتأويل المذكور كقوله مما في بطونه في الاية السابقة.

وقوله تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا أي تتخذون مما ذكر من ثمرات النخيل والاعناب ما هو مسكر كالخمر بأنواعها ورزقا حسنا كالتمر والزبيب والدبس وغير ذلك مما يقتات به.

ولا دلالة في الاية على اباحة استعمال السكر ولا على تحسين استعماله ان لم تدل على نوع من تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن وانما الاية تعد ما ينتفعون به من ثمرات النخيل والاعناب وهى مكية تخاطب المشركين وتدعوهم إلى التوحيد.

وعلى هذا فالاية لا تتضمن حكما تكليفيا حتى تكون منسوخة أو غير منسوخة وبه يظهر فساد القول بكونها منسوخة بآية المائدة كما نسب إلى قتادة.

وقد اغرب صاحب روح المعاني إذ قال وتفسير السكر بالخمر هو المروى عن ابن مسعود وابن عمر وابى رزين والحسن ومجاهد والشعبى والنخعي وابن ابى ليلى وابى ثور والكلبي وابن جبير مع خلق آخرين والاية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها البر و الفاجر وتحريمها انما كان بالمدينة اتفاقا واختلفوا في انه قبل احد أو بعدها والاية المحرمة لها يا ايها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وابى ثور وابن جبير.

وقيل نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روى عن ابن عباس ان السكر هو الخل

 

/ صفحة 291 /

بلغة الحبشة أو على ما نقل عن ابى عبيدة ان السكر المطعوم المتفكه به كالنقل وانشد جعلت اعراض الكرام سكرا إلى ان قال وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا المراد بالسكر ما لا يسكر من الانبذة واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان الا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز انتهى موضع الحاجة.

اما ما ذكره في الخمر فقد فصلنا القول في ذلك في ذيل آيات التحريم من سورة المائدة واقمنا الشواهد هناك على ان الخمر كانت محرمة قبل الهجرة وكان الاسلام معروفا بتحريمها وتحريم الزنا عند المشركين عامتهم وان تحريمها نزل في سورة الاعراف وقد نزلت قبل سورة النحل قطعا وفي سورتي البقرة والنساء وقد نزلتا قبل سورة المائدة وان التى نزلت في المائدة انما نزلت لتشديد الحرمة وزجر بعض المسلمين حيث كانوا يتخلفون عن حكم التحريم كما وقع في الروايات وهو الذى يشير إليه بقوله يشربها البر والفاجر وفي لفظ الايات دلالة على ذلك إذ يقول فهل انتم منتهون.

واما ما نقله عن ابن عباس ان السكر في لغة الحبشة بمعنى الخل فلا معول عليه واستعمال اللفظ غير العربي وان كان غير عزيز في القرآن كما قيل في استبرق وجهنم وزقوم وغيرها لكنه انما يجوز فيما لم يكن هناك مانع من لبس أو ابهام واما في مثل السكر وهو في اللغة العربية الخمر وفي الحبشية الخل فلا وكيف يجوز ان ينسب إلى ابلغ الكلام انه ترك الخل وهو عربي جيد واستعمل مكانه لفظة حبشية تفيد في العربية ضد معناها؟ واما ما نسبه إلى ابى عبيدة فقد تقدم ما عليه في اول الكلام فراجع.

واما ما نسبه إلى الحنفية من ان المراد بالسكر النبيذ وان الاية تدل على جواز شرب القليل منه ما لم يصل إلى حد الاسكار لمكان الامتنان ففيه ان الاية لا تدل على اكثر من انهم يتخذون منه سكرا واما الامتنان عليهم بذلك فبمعزل من دلالة الاية وانما عد من النعم ثمرات النخيل والاعناب لا كل ما عملوا منها من حلال وحرام ولو كان في ذلك امتنان لم يقابله بالرزق الحسن الدال بمقابلته على نوع من العتاب على اتخاذهم منه سكرا كما اعترف به البيضاوى وغيره.

 

/ صفحة 292 /

على ان ما في الاية من لفظ السكر غير مقيد بكونه نبيذا أو خمرا ولا قليلا لا يبلغ حد الاسكار ولا غيره فلو كان اتخاذ السكر متعلقا للامتنان الدال على الجواز لكانت الاية صريحة في حلية الجميع ثم لم يقبل النسخ اصلا فان لسان الامتنان لا يقبل امدا يرتفع بعده كيف يجوز ان يعد الله شيئا من نعمه ويمتن على الناس به ثم يعده بعد برهة رجسا ومن عمل الشيطان كما في آية المائدة الا بالبداء بمعناه المستحيل عليه تعالى.

ثم ختم سبحانه الاية بقوله ان في ذلك لاية لقوم يعقلون حثا على التعقل والامعان في امر النبات وثمراته.

قوله تعالى: " واوحى ربك إلى النحل ان اتخذى من الجبال بيوتا " إلى آخر الايتين الوحى كما قال الراغب الاشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بصوت مجرد عن التركيب أو باشارة ونحوها والمحصل من موارد استعماله انه القاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد افهامه فالالهام بالقاء المعنى في فهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحى وكذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أو من طريق الوسوسة أو بالاشارة كل ذلك من الوحى وقد استعمل في كلامه تعالى في كل من هذه المعاني كقوله واوحى ربك إلى النحل الاية وقوله: " واوحينا إلى أم موسى " القصص: 7 وقوله: " إن الشياطين ليوحون إلى اوليائهم " الانعام: 121 وقوله: " فأوحى إليهم ان سبحوا بكرة وعشيا " مريم: 11 ومن الوحى التكليم الالهى لانبيائه ورسله قال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا " الشورى: 51 وقد قرر الادب الدينى في الاسلام ان لا يطلق الوحى على غير ما عند الانبياء والرسل من التكليم الالهى.

قال في المجمع والذلل جمع الذلول يقال دابة ذلول بين الذل ورجل ذلول بين الذل والذلة انتهى.

وقوله واوحى ربك إلى النحل أي ألهمه من طريق غريزته التى اودعها في بنيته وامر النحل وهو زنبور العسل في حياته الاجتماعية وسيرته وصنعته لعجيب ولعل بداعة امره هو الموجب لصرف الخطاب عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ قال واوحى ربك.

 

/ صفحة 293 /

وقوله ان اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون هذا من مضمون الوحى الذى اوحى إليه والظاهر ان المراد بما يعرشون هو ما يبنون لبيوت العسل.

وقوله ثم كلى من كل الثمرات الامر بان تأكل من كل الثمرات مع انها تنزل غالبا على الازهار انما هو لانها انما تأكل من مواد الثمرات اول ما تتكون في بطون الازهار ولما تكبر وتنضج.

وقوله فاسلكي سبل ربك ذللا تفريعه على الامر بالاكل يؤيد ان المراد به رجوعها إلى بيوتها لتودع فيها ما هيأته من العسل المأخوذ من الثمرات واضافة السبل إلى الرب للدلالة على إن الجميع بالهام الهى.

وقوله يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه الخ استئناف بعد ذكر جملة ما امرت به يبين فيه ما يترتب على مجاهدتها في امتثال امر الله سبحانه ذللا وهو انه يخرج من بطونها أي بطون النحل شراب وهو العسل مختلف الوانه بالبياض والصفرة والحمرة الناصعة وما يميل إلى السواد فيه شفاء للناس من غالب الامراض.

وتفصيل القول في حياة النحلة هذه الحشرة الفطنة التى بنت حياتها على مدنية عجيبة فاضلة لا تكاد تحصى غرائبها ولا يحاط بدقائقها ثم الذى تهيؤه ببالغ مجاهدتها وما يشتمل عليه من الخواص خارج عن وسع هذا الكتاب فليراجع في ذلك مظان تحقيقه.

ثم ختم الاية بقوله ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون وقد اختلف التعبير بذلك في هذه الايات فخص الاية في احياء الارض بعد موتها بقوم يسمعون وفي ثمرات النخيل والاعناب بقوم يعقلون وفي امر النحل بقوم يتفكرون.

ولعل الوجه في ذلك ان النظر في امر الموت والحياة بحسب طبعه من العبرة والموعظة وهى بالسمع انسب والنظر في الثمرات من حيث ما ينفع الانسان في وجوده من السير البرهانى من مسلك اتصال التدبير وارتباط الانظمة الجزئية ورجوعها إلى نظام عام واحد لا يقوم الا بمدبر واحد وهو للعقل انسب وامر النحل في حياتها يتضمن دقائق عجيبة لا تنكشف للانسان الا بالامعان في التفكر فهو آية للمتفكرين.

وقد اشرنا سابقا إلى ما في آيات السورة من مختلف الالتفاتات وعمدتها في هذه الايات ترجع إلى خطاب المشركين رحمة لهم واشفاقا بحالهم وهم لا يعلمون والاعراض

 

/ صفحة 294 /

عن مخاطبتهم لكفرهم وجحودهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا ظاهر مشهود في آيات السورة فلا يزال الخطاب فيها يتقلب بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين المشركين فيتحول منه إليهم ومنهم إليه.

قوله تعالى: " والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا " الخ الارذل اسم تفضيل من الرذالة وهى الرداءة والرذل الدون والردئ والمراد بأرذل العمر بقرينة قوله لكى لا يعلم الخ سن الشيخوخة والهرم التى فيها انحطاط قوى الشعور والادراك وهى تختلف باختلاف الامزجة وتبتدئ على الاغلب من الخمس و السبعين.

والمعنى والله خلقكم معشر الناس ثم يتوفاكم في عمر متوسط ومنكم من يرد إلى سن الهرم فينتهى إلى ان لا يعلم بعد علم شيئا لضعف القوى وهذا آية ان حياتكم وموتكم وكذا شعوركم وعلمكم ليست بأيديكم وإلا اخترتم البقاء على الوفاة والعلم على عدمه بل ذلك على ما له من عجيب النظام منته إلى علمه وقدرته تعالى ولهذا علله بقوله ان الله عليم قدير.

قوله تعالى: " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " إلى آخر الاية فضل بعض الناس على بعض في الرزق وهو ما تبقى به الحياة ربما كان من جهة الكمية كالغنى المفضل بالمال الكثير على الفقير وربما كان من جهة الكيفية كأن يستقل بالتصرف فيه بعضهم ويتولى امر الاخرين مثل ما يستقل المولى الحر بملك ما في يده والتصرف فيه بخلاف عبده الذى ليس له ان يتصرف في شئ الا باذنه وكذا الاولاد الصغار بالنسبة إلى وليهم و الانعام والمواشى بالنسبة إلى مالكها وقوله: " فما الذين فضلوا برادى رزقهم على ما ملكت ايمانهم " قرينة على ان المراد هو القسم الثاني من التفضيل وهو ان بعضهم فضل بالحرية والاستقلال بملك ما رزق وليس يختار ان يرد ما رزق باستقلاله وحريته إلى من يملكه ويملك رزقه ولا ان يبذل له ما اوتيه من نعمة حتى يتساويا ويتشاركا فيبطل ملكه ويذهب سودده.

فهذه نعمة ليسوا بمغمضين عنها ولا برادين لها على غيرهم وليست إلا من الله سبحانه فان امر المولوية والرقية وان كان من الشئون الاجتماعية التى ظهرت عن آراء

 

/ صفحة 295 /

الناس والسنن الاجتماعية الجارية في مجتمعاتهم لكن له اصول طبيعية تكوينية هي التى بعثت آرائهم على اعتباره كسائر الامور الاجتماعية العامة.

ومن الشاهد على ذلك ان الامم الراقية منذ عهد طويل اعلنوا بالغاء سنة الاسترقاق ثم اتبعتهم سائر الامم من الشرقيين وغيرهم وهم لا يزالون يحترمون معناها إلى هذه الغاية وان ألغوا صورتها ويجرون مسماها وان هجروا اسمها (1) ولن يزالوا كذلك فليس في وسع الانسان أن يسد باب المغالبة وقد قدمنا كلاما في هذا المعنى في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب فليراجعه من شاء.

وكون هذا المعنى نعمة من الله انما هو لان من صلاح المجتمع الانساني ان يتسلط بعضهم على بعض فيصلح القوى الضعيف بصالح التدبير ويكمله.

وعلى هذا فقوله فهم فيه سواء متفرع على المنفى في قوله فما الذين فضلوا برادى رزقهم دون النفى والمعنى ليسوا برادى رزقهم على عبيدهم فيكونوا متساوين فيه متشاركين وفي ذلك ذهاب مولويتهم ويحتمل ان يكون جملة استفهامية حذفت منها اداة الاستفهام وفيها انكار ان يكون المفضلون والمفضل عليهم في ذلك متساويين ولو كانوا سواء لم يمتنع المفضل من ان يرد رزقه على من فضل عليه فان في ذلك دلالة على انها نعمة خصه الله بها.

ولذلك عقبه ثانيا بقوله أفبنعمة الله يجحدون وهو استفهام توبيخي كالمتفرع لما تقدمه من الاستفهام الانكارى والمراد بنعمة الله هذا التفضيل المذكور بعينه.

والمعنى والله اعلم والله فرق بينكم بأن فضل بعضكم على بعض في الرزق فبعضكم حر مستقل في التصرف فيه وبعضكم عبد تبع له لا يتصرف الا عن اذن فليس الذين فضلوا برادى رزقهم الذى رزقوه على سبيل الحرية والاستقلال على ما ملكت ايمانهم حتى يكون هؤلاء المفضلون والمفضل عليهم في الرزق سواء فليسوا سواء بل هي نعمة تختص بالمفضلين أفبنعمة الله يجحدون؟ هذا ما يفيده ظاهر الاية بما احتفت به من القرائن والسياق سياق تعداد النعم

 

* (هامش) *

(1) وإنما نقلوا حكم الاسترقاق مما بين الفرد والفرد إلى ما بين المجتمع والمجتمع وسموه بغير اسمه.

(*)

 

/ صفحة 296 /

وربما قرر معنى الاية على وجه آخر فقيل المعنى أنهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم وأزواجهم حتى يكونوا في ذلك سواء ويرون ذلك نقصا لانفسهم فكيف يشركون عبيدى في ملكى وسلطاني ويعبدونهم ويتقربون إليهم كما يعبدونني ويتقربون إلى كما فعلوا في عيسى بن مريم (عليه السلام)؟ قالوا والاية على شاكلة قوله تعالى: " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء " الروم: 28 قالوا والاية نزلت في نصارى نجران.

وفيه أن سياق الآية هو سياق تعداد النعم لاستنتاج التوحيد لا المناقضة والتوبيخ فلا أثر فيها منه.

على أن الآية مما نزلت بمكة واين ذاك من وفود نصارى نجران على المدينة سنة ست من الهجرة أو بعدها؟ وقياس هذه الاية من آية سورة الروم مع الفارق لاختلاف السياقين فسياق هذه الاية سياق الاحتجاج بذكر النعمة وسياق آية الروم هو سياق التوبيخ على الشرك.

وقيل ان المعنى فهؤلاء الذين فضلهم الله في الرزق من الاحرار لا يرزقون مماليكهم وعبيدهم بل الله تعالى هو رازق الملاك والمماليك فإن الذى ينفقه المولى على مملوكه إنما ينفقه مما رزقهم الله فالله رازقهم جميعا فهم فيه سواء.

ومحصله ان قوله فهم فيه سواء حال محل اضراب مقدر والتقدير ان الموالى ليسوا برادى رزق انفسهم على عبيدهم فيما ينفقون عليهم بل الله يرزق العبيد بأيدى مواليهم وهم سواء في الرزق من الله.

وفيه ان ما قرر من المعنى مقتضاه ان يبطل التسوية اخيرا حكم التفضيل أولا ولا يستقيم عليه مدلول قوله أفبنعمة الله يجحدون.

 

وقيل المراد أن الموالى ليسوا برادى ما بأيديهم من الرزق على مواليهم حتى يستووا في التمتع منه.

وفيه أنه يعود حينئذ إلى أن الانسان يمنع غيره من أن يتسلط على ما ملكه من

 

/ صفحة 297 /

الرزق وحينئذ يكون تخصيصذلك بالعبيد مستدركا زائدا ولو وجه بأنه انما لا يرده عليه لمكان تسلطه على عبيده رجع إلى ما قدمناه من المعنى ولكانت النعمة المعدودة هي الفضل من جهة مالكية المولى لعبده ولما عنده من الرزق.

قوله تعالى: " والله جعل لكم من انفسكم ازواجا وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة " إلى آخر الاية قال في المفردات قال الله تعالى: " 2 وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة " جمع حافد وهو المتحرك المسرع بالخدمة اقارب كانوا أو اجانب قال المفسرون هم الاسباط ونحوهم وذلك ان خدمتهم اصدق إلى ان قال قال الاصمعي اصل الحفد مداركة الخطو انتهى.

وفي المجمع واصل الحفد الاسراع في العمل إلى ان قال ومنه قيل للاعوان حفدة لاسراعهم في الطاعة انتهى والمراد بالحفدة في الاية الاعوان الخدم من البنين لمكان قوله وجعل لكم من ازواجكم ولذا فسر بعضهم قوله بنين وحفدة بصغار الاولاد وكبارهم وبعضهم بالبنين والاسباط وهم بنو البنين.

والمعنى والله جعل لكم من انفسكم ازواجا تألفونها وتأنسون بها وجعل لكم من ازواجكم بالايلاد بنين وحفدة واعوانا تستعينون بخدمتهم على حوائجكم وتدفعون بهم عن انفسكم المكاره ورزقكم من الطيبات وهى ما تستطيبونه من امتعة الحياة وتنالونه بلا علاج وعمل كالماء والثمرات أو بعلاج وعمل كالاطعمة والملابس ونحوها ومن في من الطيبات للتبعيض وهو ظاهر.

ثم وبخهم بقوله أفبالباطل وهى الاصنام والاوثان ومن ذلك القول بالبنات لله والاحكام التى يشرعها لهم ائمتهم ائمة الضلال يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون والنعمة هي جعل الازواج من انفسهم وجعل البنين والحفدة من ازواجهم فان ذلك من اعظم النعم واجلاها لكونه اساسا تكوينيا يبتنى عليه المجتمع البشرى ويظهر به فيهم حكم التعاون والتعاضد بين الافراد وينتظم به لهم امر تشريك الاعمال والمساعي فيتيسر لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا والاخرة.

ولو ان الانسان قطع هذا الرابط التكويني الذى انعم الله به عليه وهجر هذا السبب الجميل وان توسل بأى وسيلة غيره لتلاشي جمعه وتشتت شمله وفي ذلك

 

/ صفحة 298 /

هلاك الانسانية قوله تعالى: " ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا في السماوات والارض شيئا ولا يستطيعون " عطف على موضع الجملة السابقة والمعنى يكفرون بنعمة الله ويعبدون من دون الله ما لا يملك الخ.

وقد ذكروا ان رزقا مصدر وشيئا مفعوله والمعنى لا يملك لهم أن يرزق شيئا وقيل الرزق بمعنى المرزوق وشيئا بدل منه وقيل ان شيئا مفعول مطلق والتقدير لا يملك شيئا من الملك وخير الوجوه اوسطها.

ويمكن ان يقال في السماوات والارض شيئا بدل من رزقا وهو من بدل الكل من البعض يفيد معنى الاضراب والترقى والمعنى ويعبدون ما لا يملك لهم رزقا بل لا يملك لهم في السماوات والارض شيئا.

وقوله ولا يستطيعون أي ولا يستطيعون ان يملكوا رزقا وشيئا ويمكن أن يكون منسى المتعلق جاريا مجرى اللازم أي ولا استطاعة لهم اصلا.

وقد اجتمع في الاية رعاية الاعتبارين في الاصنام فانها من جهة انها معمولة من حجر أو خشب أو ذهب أو فضة غير عاقلة وبهذا الاعتبار قيل ما لا يملك الخ ومن جهة انهم يعدونها آلهة دون الله ويعبدونها والعبادة لا تكون الا لعاقل منسلكة على زعمهم في سلك العقلاء وبهذا الاعتبار قيل ولا يستطيعون.

وفي الاية رجوع إلى التخلص لبيان الغرض من تعداد النعم وهو التوحيد واثبات النبوة بمعنى التشريع والمعاد يجرى ذلك إلى تمام اربع آيات ينهى في اولاها عن ضربهم الامثال لله سبحانه ويضرب في الثانية مثل تبين به وحدانيته تعالى في ربوبيته وفي الثالثة مثل يتبين به امر النبوة والتشريع ويتعرض في الرابعة لامر المعاد.

قوله تعالى: " فلا تضربوا لله الامثال ان الله يعلم وانتم لا تعلمون " الظاهر السابق إلى الذهن ان المراد بضرب الامثال التوصيف المصطلح عليه بالاستعارة التمثيلية وهى اجراء الاوصاف عليه تعالى بضرب من التشبيه كقولهم ان له بنات كالانسان وان الملائكة بناته وان بينه وبين الجنة نسبا وصهرا وانه كيف يحيى العظام وهى

 

/ صفحة 299 /

رميم إلى غير ذلك وهذا هو المعنى المعهود من هذه الكلمة في كلامه تعالى وقد تقدم في خلال الايات السابقة قوله للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى.

فالمعنى إذا كان الامر على ما ذكر فلا تصفوه سبحانه بما تشبهونه بغيره وتقيسونه إلى خلقه لان الله يعلم وانتم لا تعلمون حقائق الامور وكنهه تعالى.

وقيل المراد بالضرب الجعل وبالامثال ما هو جمع المثل بمعنى الند فقوله: " فلا تضربوا لله الامثال " في معنى قوله في موضع آخر فلا تجعلوا لله اندادا " البقرة: 22 وهو معنى بعيد.

 

قوله تعالى: " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ " إلى آخر الاية ما في الاية من المثل المضروب يفرض عبدا مملوكا لا يقدر على شئ وآخر رزق من الله رزقا حسنا ينفق منه سرا وجهرا ثم يسأل هل يستويان؟ واعتبار التقابل بين المفروضين يعطى ان كلا من الطرفين مقيد بخلاف ما في الاخر من الوصف مع تبيين الاوصاف بعضها لبعض.

فالعبد المفروض مملوك غير مالك لا لنفسه ولا لشئ من متاع الحياة وهو غير قادر على التصرف في شئ من المال والذى فرض قباله حر يملك نفسه وقد رزقه الله رزقا حسنا وهو ينفق منه سرا وجهرا على قدرة منه على التصرف بجميع اقسامه.

وقوله هل يستوون سؤال عن تساويهما ومن البديهى ان الجواب هو نفى التساوى ويثبت به ان الله سبحانه وهو المالك لكل شئ المنعم بجميع النعم لا يساوى شيئا من خلقه وهم لا يملكون لا انفسهم ولا غيرهم ولا يقدرون على شئ من التصرف فمن الباطل قولهم ان مع الله آلهة غيره وهم من خلقه.

والتعبير بقوله يستوون دون أن يقال يستويان للدلالة على ان المراد من ذلك الجنس من غير أن يختص بمولى وعبد معينين كما قيل.

وقوله الحمد لله أي له عز اسمه جنس الحمد وحقيقته وهو الثناء على الجميل الاختياري لان جميل النعمة من عنده ولا يحمد الا الجميل فله تعالى كل الحمد كما ان له جنسه فافهم ذلك.

 

/ صفحة 300 /

والجملة من تمام الحجة ومحصلها انه لا يستوى المملوك الذى لا يقدر أن يتصرف في شئ وينعم بشئ والمالك الذى يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه فيتصرف وينعم كيف شاء والله سبحانه هو المحمود بكل حمد إذ ما من نعمة إلا وهى من خلقه فله كل صفة يحمد عليها كالخلق والرزق والرحمة والمغفرة والاحسان والانعام وغيرها فله كل ثناء جميل وما يعبدون من دونه مملوك لا يقدر على شئ فهو سبحانه الرب وحده دون غيره.

وقد قيل ان الحمد في الاية شكر على نعمه تعالى وقيل حمد على تمام الحجة وقوتها وقيل تلقين للعباد ومعناه قولوا الحمد لله الذى دلنا على توحيده وهدانا إلى شكر نعمه وهى وجوه لا يعبأ بها.

وقوله بل اكثرهم لا يعلمون أي اكثر المشركين لا يعلمون ان النعمة كلها لله لا يملك غيره شيئا ولا يقدر على شئ بل يثبتون لاوليائهم شيئا من الملك والقدرة على سبيل التفويض فيعبدونهم طمعا وخوفا هذا حال اكثرهم واما اقلهم من الخواص فانهم على علم من الحق لكنهم يحيدون عنه بغيا وعنادا.

وقد تبين مما تقدم ان الاية مثل مضروب في الله سبحانه وفيمن يزعمونه شريكا له في الربوبية وقيل انها مثل تمثل به حال الكافر المخذول والمؤمن الموفق فإن الكافر لاحباط عمله وعدم الاعتداد باعماله كالعبد المملوك الذى لا يقدر على شئ فلا يعد له احسان وان انفق وبالغ بخلاف المؤمن الذى يوفقه الله لمرضاته ويشكر مساعيه فهو ينفق مما عنده من الخير سرا وجهرا.

وفيه انه لا يلائم سياق الاحتجاج الذى للايات وقد تقدم ان الاية احدى الايات الثلاث المتوالية التى تتعرض لغرض تعداد النعم الالهية وهى تذكر بالتوحيد بمثل يقيس حال من ينعم بجميع النعم من حال من لا يملك شيئا ولا يقدر على شئ فيستنتج ان الرب هو المنعم لا غير.

قوله تعالى: " وضرب الله مثلا رجلين احدهما أبكم " إلى آخر الاية قال في المجمع الابكم الذى يولد اخرس لا يفهم ولا يفهم وقيل الابكم الذى لا يقدر أن يتكلم والكل الثقل يقال كل عن الامر يكل كلا إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه.

/ صفحة 301 /

وكلت السكين كلولا إذا غلظت شفرتها وكل لسانه إذا لم ينبعث في القول لغلظه وذهاب حده فالاصل فيه الغلظ المانع من النفوذ والتوجيه الارسال في وجه من الطريق يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه انتهى.

فقوله وضرب الله مثلا رجلين مقايسة اخرى بين رجلين مفروضين متقابلين في اوصافهما المذكورة.

وقوله احدهما ابكم لا يقدر على شئ أي محروم من ان يفهم الكلام ويفهم غيره بالكلام لكونه ابكم لا يسمع ولا ينطق فهو فاقد لجميع الفعليات والمزايا التى يكتسبها الانسان من طريق السمع الذى هو اوسع الحواس نطاقا به يتمكن الانسان من العلم باخبار من مضى وما غاب عن البصر من الحوادث وما في ضمائر الناس ويعلم العلوم والصناعات وبه يتمكن من القاء ما يدركه من المعاني الجليلة والدقيقة إلى غيره ولا يقوى الابكم على درك شئ منها إلا النزر اليسير مما يساعد عليه البصر بإعانة من الاشارة.

فقوله لا يقدر على شئ مخصص عمومه بالابكم أي لا يقدر على شئ مما يقدر عليه غير الابكم وهو جملة ما يحرمه الابكم من تلقى المعلومات والقائها.

وقوله وهو كل على مولاه أي ثقل وعيال على من يلى ويدبر امره فهو لا يستطيع ان يدبر امر نفسه وقوله اينما يوجهه لا يأت بخير أي إلى أي جهة ارسله مولاه لحاجة من حوائج نفسه أو حوائج مولاه لم يقدر على رفعها فهو لا يستطيع ان ينفع غيره كما لا ينفع نفسه فهذا اعني قوله احدهما ابكم لا يقدر على شئ الخ مثل احد الرجلين ولم يذكر سبحانه مثل الاخر لحصول العلم به من قوله هل يستوى هو ومن يامر بالعدل الخ وفيه ايجاز لطيف.

وقوله هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فيه اشارة إلى وصف الرجل المفروض وسؤال عن استوائهما إذا قويس بينهما وعدمه.

اما الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن ان يتلبس به غير الابكم من الخير والكمال الذى يحلى نفسه ويعدو إلى غيره وهو العدل الذى هو التزام الحد الوسط في الاعمال واجتناب الافراط والتفريط فان الامر بالعدل إذا جرى على حقيقته كان لازمه

 

/ صفحة 302 /

أن يتمكن الصلاح من نفس الانسان ثم ينبسط على اعماله فيلتزم الاعتدال في الامور ثم يحب انبساطه على اعمال غيره من الناس فيأمرهم بالعدل وهو كما عرفت مطلق التجنب عن الافراط والتفريط أي العمل الصالح اعم من العدل في الرعية.

ثم وصفه بقوله وهو على صراط مستقيم وهو السبيل الواضح الذى يهدى سالكيه إلى غايتهم من غير عوج والانسان الذى هو في مسير حياته على صراط مستقيم يجرى في اعماله على الفطرة الانسانية من غير ان يناقض بعض اعماله بعضا أو يتخلف عن شئ مما يراه حقا وبالجملة لا تخلف ولا اختلاف في اعماله.

وتوصيف هذا الرجل المفروض الذى يامر بالعدل بكونه على صراط مستقيم يفيد اولا ان امره بالعدل ليس من امر الناس بالبر ونسيان نفسه بل هو مستقيم في احواله واعماله يأتي بالعدل كما يأمر به.

وثانيا ان امره بالعدل ليس ببدع منه من غير اصل فيه يبتنى عليه بل هو في نفسه على مستقيم الصراط ولازمه ان يحب لغيره ذلك فيأمرهم ان يلتزموا وسط الطريق ويجتنبوا حاشيتي الافراط والتفريط.

واما السؤال اعني ما في قوله هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل الخ فهو سؤال لا جواب له الا النفى لا شك فيه وبه يثبت ان ما يعبدونه من دون الله من الاصنام والاوثان وهو مسلوب القدرة لا يستطيع أن يهتدى من نفسه ولا ان يهدى غيره لا يساوى الله تعالى وهو على صراط مستقيم في نفسه هاد لغيره بارسال الرسل وتشريع الشرائع.

ومنه يظهر ان هذا المثل المضروب في الاية في معنى قوله تعالى: " أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع أم من لا يهدى إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون " يونس: 35 فالله سبحانه على صراط مستقيم في صفاته وافعاله ومن استقامة صراطه ان يجعل لما خلقه من الاشياء غايات تتوجه إليها فلا يكون الخلق باطلا كما قال وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما باطلا وان يهدى كلا إلى غايته التى تخصه كما خلقها وجعل لها غاية كما قال: " الذى اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 فيهدى الانسان إلى سبيل قاصد كما قال: " وعلى الله قصد السبيل " النحل: 9 وقال

 

/ صفحة 303 /

" إنا هديناه السبيل " الدهر: 3 وهذا اصل الحجة على النبوة والتشريع وقد مر تمامه في ابحاث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.

فقد تحصل ان الغرض من المثل المضروب في الاية اقامة حجة على التوحيد مع اشارة إلى النبوة والتشريع.

وقيل انه مثل مضروب فيمن يؤمل منه الخير ومن لا يؤمل منه واصل الخير كله من الله تعالى فكيف يستوى بينه وبين شئ سواه في العبادة؟ وفيه ان المورد اخص من ذلك فهو مثل مضروب فيمن هو على خير في نفسه وهو يأمر بالعدل وهو شأنه تعالى دون غيره على انهم لا يساون بينه وبين غيره في العبادة بل يتركونه ويعبدون غيره.

وقيل انه مثل مضروب في المؤمن والكافر فالابكم هو الكافر والذى يأمر بالعدل هو المؤمن وفيه ان صحة انطباق الاية على المؤمن والكافر بل على كل من يأمر بالعدل ومن يسكت عنه وجريها فيهما امر ومدلولها من جهة وقوعها في سياق تعداد النعم والاحتجاج على التوحيد وما يلحق به من الاصول امر آخر والذى تفيده بالنظر إلى هذه الجهة ان مورد المثل هو الله سبحانه وما يعبدون من دونه لا غير.

قوله تعالى: " ولله غيب السماوات والارض وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب ان الله على كل شئ قدير الغيب يقابل الشهادة في اطلاقات القرآن الكريم وقد تكرر فيه عالم الغيب والشهادة وقد تقدم مرارا انهما امران اضافيان فالامر الواحد غيب وغائب بالنسبة إلى شئ وشهادة ومشهود بالنسبة إلى آخر.

واذ كان من الاشياء ما هو ذو وجوه يظهر ببعض منها لغيره ويخفى ببعض اعني انه متضمن غيبا وشهادة كانت اضافة الغيب والشهادة إلى الشئ تارة بمعنى اللام فيكون مثلا غيب السماوات والارض ما هو غائب عنهما خارج من حدودهما ويلحق بهذا الباب الاضافة لنوع من الاختصاص كما في قوله: " فلا يظهر على غيبه احدا " الجن: 26.

وتارة بمعنى من أو ما يقرب منه فيكون المراد بغيب السماوات والارض

 

/ صفحة 304 /

الغيب الذى يشتملان عليه نوعا من الاشتمال قبال ما يشتملان عليه من الشهادة وبعبارة اخرى ما يغيب عن الافهام من امرهما قبال ما يظهر منهما.

والساعة هي من غيب السماوات والارض بهذا المعنى الثاني اما اولا فلانه سبحانه يعدها في كلامه من الغيب وليست بخارج من امر السماوات والارض فهو من الغيب بهذا المعنى.

 

واما ثانيافلان ما يصفها به من الاوصاف انما يلائم هذا المعنى الثاني ككونها يوما ينبئهم الله بما كانوا فيه يختلفون ويوم تبلى السرائر ويوما يخاطب فيه الانسان بمثل قوله: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ويوما يخاطبون ربهم بقولهم ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا " وبالجملة هي يوم يظهر فيه ما استتر من الحقائق في هذه النشأة ظهور عيان ومن المعلوم ان هذه الحقائق غير خارجة من السماوات والارض بل هي معهما ثابتة.

كيف؟ وهو تعالى يقول: " ولله غيب السماوات والارض " فيثبته ملكا لنفسه وليس ملكه من الملك الاعتباري يتعلق بكل امر موهوم أو جزافي بل ملك حقيقي يتعلق بامر ثابت فلها نوع من الثبوت وان فرض جهلنا بحقيقة ثبوتها.

والشواهد القرآنية على هذا الذى ذكرناه كثيرة وقد عد سبحانه حياة هذه النشأة متاع الغرور ولعبا ولهوا وكرر ان اكثر الناس لا يعلمون ما هو يوم القيامة وذكر ان الدار الاخرة هي الحيوان وانهم سيعلمون ان الله هو الحق المبين وسيبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون إلى غير ذلك مما يشتمل عليه الايات على اختلاف السنتها.

وبالجملة الساعة من غيب السماوات والارض والاية اعني قوله ولله غيب السماوات والارض تقرر ملكه تعالى لنفس هذا الغيب لا لعلمه فلم يقل ولله علم غيب السماوات والارض وسياق الاية يعطى إن الجملة اعني قوله ولله غيب الخ توطئة وتمهيد لقوله ما امر الساعة إلا كلمح البصر الخ فالجملة مسوقة للاحتجاج.

وعلى هذا يعود معنى الاية إلى ان الله سبحانه يملك غيب السماوات والارض ملكا له ان يتصرف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما وكيف لا؟ وغيب الشئ لا يفارق

 

/ صفحة 305 /

شهادته وهو موجود ثابت معه وله الخلق والامر والساعة الموعودة ليست بأمر محال حتى لا يتعلق بها قدرة بل هي من غيب السماوات والارض وحقيقتها المستورة عن الافهام اليوم فهى مما استقر عليه ملكه تعالى وله ان يتصرف فيه بالاخفاء يوما وبالاظهار آخر.

وليست بصعبة عليه تعالى فانما امرها كلمح البصر أو اقرب من ذلك لان الله على كل شئ قدير.

ومن هنا يظهر ان قوله وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب إن الله على كل شئ قدير مسوق لا لاثبات اصل الساعة أو امكانها بل لنفى صعوبتها والمشقة في اقامتها وهوان امرها عنده سبحانه.

فقوله وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب أي بالنسبة إليه وإلا فقد استعظم سبحانه امرها بما يهون عنده كل امر خطير ووصفها بأوصاف لا يعادلها فيها غيرها قال تعالى: " ثقلت في السماوات والارض " الاعراف: 187.

وتشبيه امرها بلمح البصر انما هو من جهة إن اللمحة وهى مد البصر وارساله للرؤية اخف الاعمال عند الانسان واقصرها زمانا فهو تشبيه بحسب فهم السامع ولذلك عقبه بقوله أو هو اقرب فان مثل هذا السياق يفهم منه الاضراب فكأنه تعالى يقول ان امرها في خفة المؤنة والهوان والسهولة بالنسبة الينا يشبه لمح احدكم ببصره وانما اشبهه به رعاية لحالكم وتقريبا إلى فهمكم وإلا فالامر اقرب من ذلك كما قال فيها: " ويقول كن فيكون " الانعام: 73 فأمر الساعة بالنسبة إلى قدرته ومشيته تعالى كامر ايسر الخلق واهونه.

وعلل تعالى ذلك بقوله ان الله على كل شئ قدير فقدرته على كل شئ توجب أن تكون الاشياء بالنسبة إليه سواء.

واياك أن تتوهم ان عموم القدرة لا يستوجب ارتفاع الاختلاف من بين الاشياء من حيث النسبة فقلة الاسباب المتوسطة بين الفاعل وفعله والشرائط والموانع وكثرتها لهما تأثير في ذلك لا محالة فالانسان مثلا قادر على التنفس وحمل ما يطيقه من الاثقال

 

/ صفحة 306 /

وليسا سواء بالنسبة إليه وعلى هذا القياس.

فان في ذلك غفلة عن معنى عموم القدرة وتوضيحه ان القدرة التى فينا قدرة مقيدة فان قدرة الانسان مثلا على اكل الغذاء وهى إن له نسبة الفاعلية إليه وهى في تأثيرها مشروطة بتحقق غذاء في الخارج وكونه بين يديه وممكن التناول وعدم ما يمنع من ذلك من انسان أو غيره وكون ادوات الفعل كاليد والفم وغيرهما غير مصابة بآفة إلى غير ذلك والذى يملكه الانسان هو الارادة والزائد على ذلك وسائط وشرائط وموانع خارجة عن قدرته بالحقيقة وقيد يقيدها وإذا اراد الانسان أن يعمل قدرته فيأكل كان عليه ان يهئ تلك الامور التى تتقيد بها قدرته في التأثير كتحصيل الغذاء ووضعه قريبا منه ورفع الموانع واعمال الادوات البدنية مثلا.

ومن المعلوم ان قلة هذه الامور وكثرتها وقربها وبعدها وما اشبه ذلك من صفاتها توجب اختلاف الفعل في السهولة وعدمها وضعف القدرة وقوتها فتقيد القدرة هو الموجب للاختلاف.

اما قدرته تعالى فانها عين ذاته التى يجب وجودها ويمتنع عدمها وإذا كان كذلك فلو تقيدت بقيد من وجود سبب أو شرط أو عدم مانع لانعدمت بانعدام قيدها وهو محال فقدرته تعالى مطلقة غير محدودة بحد ولا مقيدة بقيد عامة تتعلق بكل شئ على حد سواء من غير ان يكون شئ بالنسبة إليه اصعب من شئ أو اسهل واقرب إليه من شئ أو ابعد وانما الاختلاف بين الاشياء انفسها بقياس بعضها إلى بعض.

وبتقريب آخر ما من شئ الا وهو يفتقر إليه سبحانه في وجوده فإذا فرضنا كل امر موجود بحيث لا يشذ عنها شاذ في جانب ونسبناها إليه تعالى كان الجميع متعلقا لقدرته وليس هناك امر ثالث يكون قيدا لقدرته من سبب أو شرط أو عدم مانع وإلا لكان شريكا في التأثير تعالى عن ذلك.

واما الذى بين الاشياء انفسها من الاسباب المتوسطة والشرائط والموانع فانها توجب تقيد بعضها ببعض لا تقيد القدرة العامة الالهية التى تتعلق بها ثم تتعلق القدرة بالمقيد منها دون المطلق بمعنى ان متعلق القدرة هو زيد الذى ابوه فلان وامه فلان وهو في زمان كذا ومكان كذا وهكذا فوجود زيد بجميع روابطه وجود جميع العالم

 

/ صفحة 307 /

والقدرة المتعلقة به متعلقة بالجميع بعينه وليست هناك إلا قدرة واحدة متعلقة بالجميع يوجد بها كل شئ في موطنه الخاص به وهى مطلقة غير مقيدة لا اختلاف للاشياء بالنسبة إليها وانما الاختلاف بينها انفسها.

فقد تبين مما تقدم ان عموم القدرة يوجب ارتفاع الاختلاف من بين الاشياء بالنسبة إليها بالسهولة والصعوبة وغير ذلك والاية الكريمة من غرر الايات القرآنية يتبين بها اولا إن حقيقة المعاد ظهور حقيقة الاشياء بعد خفائها.

وثانيا إن القدرة الالهية تتعلق بجميع الاشياء على نعت سواء من غير اختلاف بالسهولة والصعوبة والقرب والبعد وغير ذلك.

وثالثا إن الاشياء بحسب الحقيقة مرتبطة وجودا بحيث ان ايجاد الواحد منها ايجاد الجميع والجميع متعلق قدرة واحدة لا مؤثر فيها غيرها.

نعم هناك نظر آخر ابسط من ذلك وهو النظر فيها من جهة نظام الاسباب والمسببات وقد صدقه الله في كلامه كما تقدم بيانه في البحث عن الاعجاز في الجزء الاول من الكتاب وبهذه النظرة ينفصل الاشياء بعضها عن بعض ويتوقف وجود بعضها على وجود بعض أو عدمه فتتقدم وتتأخر وتسهل وتصعب وتكون الاسباب وسائط بينها وبينه تعالى ويكون تعالى فاعلا بوساطة الاسباب وهو نظر بسيط.

وقد ذكر كثير من المفسرين في قوله ولله غيب السماوات والارض انه بحذف مضاف والتقدير ولله علم غيب الخ وفيه إنه يستلزم ارتفاع الاتصال بين هذه الجملة وبين ما يليها إذ لا رابطة بين علم الغيب وبين هوان أمر الساعة فتعود الجملة مستدركة مستغنى عنها في الكلام.

وقول بعضهم في رفع الاستدراك ان صدر الاية وذيلها يثبتان العلم والقدرة وبهما معا يتم خلق الساعة غير مفيد فانهم انما استشكلوا في الساعة من جهة القدرة لعدهم اياها ممتنعة فلا حاجة إلى التشبث لاثباتها بمسألة العلم ويشهد لذلك ما في سائر الايات المثبتة لامكان المعاد بعموم القدرة.

وذكر بعضهم ان المراد به علم غيبهما لا بتقدير العلم في الكلام حتى يقال إن الاصل عدمه بل لان اضافة الغيب وهو ما يغيب عن الحس والعقل إلى السماوات

 

/ صفحة 308 /

والارض تفيد ان المراد الامور المجهولة التى فيهما مما يقع فيهما حالا أو بعد حين وملكه تعالى له ملكه للعلم به.

وفيه ان المقدمة الاخيرة ممنوعة وقد تقدم بيانه على إن اشكال ارتفاع الاتصال بين الجملتين في محله بعد.

وايضا ذكر بعضهم في توجيه التعليل المستفاد من قوله ان الله على كل شئ قدير ان من جملة الاشياء اقامة الساعة في اسرع ما يكون فهو قادر على ذلك.

وفيه انه لا يفى بتعليل ما يستفاد من الحصر بالنفى والاثبات وانما يفى بتعليل ما لو قيل ان الله سيجعل امر الساعة كلمح البصر مع امكان كونه لا كذلك فافهم ذلك (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: " من بطونه من بين فرث ودم " قال قال (عليه السلام) الفرث ما في الكرش وفي الكافي عن على بن ابراهيم عن ابيه عن النوفلي عن السكوني قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): ليس أحد يغص بشرب اللبن لان الله عز وجل يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين وفي تفسير القمى باسناده عن رجل عن حريز عن ابى عبد الله (عليه السلام) في قوله واوحى ربك إلى النحل قال نحن النحل الذى اوحى الله إليه أن اتخذى من الجبال بيوتا أمرنا أن نتخذ من العرب شيعة ومن الشجر يقول من العجم ومما يعرشون من الموالى والذى خرج من بطونها شراب مختلف الوانه العلم الذى يخرج منا اليكم.

اقول وفي هذا المعنى روايات أخر وهى من باب الجرى ويشهد به ما في بعض هذه الروايات من تطبيق النحل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والجبال على قريش والشجر على العرب ومما يعرشون على الموالى وما يخرج من بطونها على العلم.

 

/ صفحة 309 /

وفي تفسير القمى باسناده عن على بن المغيرة عن ابى عبد الله (عليه السلام) قال إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك ارذل العمر وفي المجمع روى عن على (عليه السلام): إن أرذل العمر خمس وسبعون سنة وروى عن النبي مثل ذلك.

اقول روى ذلك في الدر المنثور عن الطبري عن على (عليه السلام) وروى عن ابن مردويه عن انس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديثا مفصلا يدل على ان ارذل العمر مائة سنة وفي تفسير العياشي عن عبد الرحمان الاشل عن الصادق (عليه السلام): في قول الله وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة قال الحفدة بنو البنت ونحن حفدة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه عن جميل بن دراج عن ابى عبد الله (عليه السلام) في الحفدة قال وهم العون منهم يعنى البنين وفي المجمع في معنى الحفدة هي اختان الرجل على بناته قال وهو المروى عن ابى عبد الله (عليه السلام).

اقول ولا تنافى بين الروايات كما تقدم في البيان.

وفي التهذيب باسناده عن شعيب العقرقوفى عن ابى عبد الله (عليه السلام) في طلاق العبد ونكاحه قال ليس له طلاق ولا نكاح أما تسمع الله تعالى يقول عبدا مملوكا لا يقدر على شئ قال لا يقدر على طلاق ولا على نكاح إلا باذن مولاه.

اقول وفي هذا المعنى عدة روايات من طرق الشيعة.

وفي تفسير القمى في قوله تعالى هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل قال قال (عليه السلام) كيف يستوى هذا؟ ومن يأمر بالعدل امير المؤمنين والائمة (عليهم السلام) وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن حمزة بن عطاء عن ابى جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: " هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل " الاية قال هو على بن ابى طالب (عليه السلام) وهو على صراط مستقيم.

اقول والروايتان من الجرى وليستا من اسباب النزول في شئ لما تقدم في البيان السابق.

 

/ صفحة 310 /

وكذا ما روى من طرق اهل السنة إن قوله: " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا " الاية نزل في هشام بن عمرو وهو الذى ينفق ماله سرا وجهرا في عبده ابى الجوزاء الذى كان ينهاه وكذا ما روى ان الاية نزلت في عثمان بن عفان وعبد له.

وكذا ما روى في قوله وضرب الله مثلا رجلين الاية إن الابكم ابى بن خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن مظعون وكذا ما روى ان الابكم هاشم بن عمر بن الحارث القرشى وكان قليل الخير يعادى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما روى ان الابكم أبو جهل والامر بالعدل عمار وما روى ان الآمر بالعدل عثمان بن عفان والابكم مولى له كافر وهو اسيد بن ابى العيص إلى غير ذلك

* * *

 والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون - 78 ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن الا الله ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون - 79 والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم اقامتكم ومن اصوافها واوبارها واشعارها اثاثا ومتاعا إلى حين - 80 والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال اكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون - 81 فان تولوا فانما عليك البلاغ المبين - 82 يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها واكثرهم الكافرون - 83

 

/ صفحة 311 /

ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون - 84 وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون - 85 وإذا رأى الذين اشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول انكم لكاذبون - 86 وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون - 87 الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون - 88 ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين - 89 (بيان) الايات تذكر عدة اخرى من النعم الالهية ثم تعطف الكلام إلى ما تكشف عنه من حق القول في وحدانيته تعالى في الربوبية وفي البعث وفي النبوة والتشريع نظيره القبيل السابق الذى اوردناه من الايات.

قوله تعالى: " والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا إلى آخر الاية الامهات جمع ام والهاء زائدة نظير اهراق واصله اراق وقد تأتى أمات وقيل الامهات في الانسان والامات في غيره من الحيوان والافئدة جمع قلة للفؤاد وهو القلب واللب ولم يبن له جمع كثرة.

 

/ صفحة 312 /

وقوله: " والله اخرجكم من بطون امهاتكم " اشارة إلى التولد ولا تعلمون شيئا حال من ضمير الخطاب أي اخرجكم من ارحامهن بالتولد والحال ان نفوسكم خالية من هذه المعلومات التى احرزتموها من طريق الحس والخيال والعقل بعد ذلك.

والاية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس ان لوح النفس خالية عن المعلومات اول تكونها ثم تنتقش فيها شيئا فشيئا كما قيل وهذا في غير علم النفس بذاتها فلا يطلق عليه عرفا يعلم شيئا والدليل عليه قوله تعالى في خلال الايات السابقة فيمن يرد إلى ارذل العمر لكى لا يعلم من بعد علم شيئا فان من الضرورى انه في تلك الحال عالم بنفسه.

واحتج بعضهم بعموم الاية على ان العلم الحضوري يعنى به علم الانسان بنفسه كسائر العلوم الحصولية مفقود في بادئ الحال حادث بعد ذلك ثم ناقش في ادلة كون علم النفس بذاتها حضوريا مناقشات عجيبة.

وفيه ان العموم منصرف إلى العلم الحصولي ويشهد بذلك الاية المتقدمة.

وقوله: " وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون " اشارة إلى مبادى العلم الذى انعم بها على الانسان فمبدأ التصور هو الحس والعمدة فيه السمع والبصر وان كان هناك غيرهما من اللمس والذوق والشم ومبدأ الفكر هو الفؤاد.

قوله تعالى: " ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله " الخ قال في المجمع الجو الهواء البعيد من الارض انتهى يقول ألم ينظروا إلى الطير حال كونها مسخرات لله سبحانه في جو السماء والهواء البعيد من الارض ثم استأنف فقال مشيرا إلى ما هو نتيجة هذا النظر ما يمسكهن الا الله.

واثبات الامساك لله سبحانه ونفيه عن غيره مع وجود اسباب طبيعية هناك مؤثرة في ذلك وكلامه تعالى يصدق ناموس العلية والمعلولية انما هو من جهة ان توقف الطير في الجو من دون ان تسقط كيفما كان وإلى أي سبب استند هو وسببه والرابطة التى بينهما جميعا مستندة إلى صنعه تعالى فهو الذى يفيض الوجود عليه وعلى سببه وعلى الرابطة التى بينهما فهو السبب المفيض لوجوده حقيقة وان كان سببه الطبيعي القريب معه يتوقف هو عليه.

ومعنى توقفه في وجوده على سببه ليس إن سببه يفيد وجوده بعد ما استفاد

 

/ صفحة 313 /

وجود نفسه منه تعالى بل ان هذا المسبب يتوقف في اخذه الوجود منه تعالى إلى اخذ سببه الوجود منه تعالى قبل ذلك وقد تقدم بعض الكلام في توضيح ذلك من قريب.

وهذا معنى توحيد القرآن والدليل عليه من جهة لفظه امثال قوله: " ألا له الخلق والامر " الاعراف: 54 وقوله: " إن القوة لله جميعا " البقرة: 165 وقوله: " الله خالق كل شئ " الزمر: 62 وقوله: " إن الله على كل شئ قدير " النحل: 77.

والدليل على ما قدمناه في معنى النفى والاثبات في الاية قوله تعالى مسخرات فان التسخير انما يتحقق بقهراحد السببين الاخر في فعله على ما يريده السبب القاهر ففى لفظه دلالة على إن للمقهور نوعا من السببية.

وليس طيران الطائر في جو السماء بالحقيقة بأعجب من سكون الانسان في الارض فالجميع ينتهى إلى صنعه تعالى على حد سواء لكن ألفة الانسان لبعض الامور وكثرة عهده به توجب خمود قريحة البحث عنه فإذا صادف ما يخالف ما ألفه وكثر عهده به كالمستثنى من الكلية انتبه لذلك وانتزعت القريحة للبحث عنه والانسان يرى الاجسام الارضية الثقيلة معتمدة على الارض مجذوبة إليها فإذا وجد الطير مثلا تنقض كلية هذا الحكم بطيرانها تعجب منه وانبسط للبحث عنه والحصول على علته وللحق نصيب من هذا البحث وهذا هو احد الاسباب في اخذ هذا النوع من الامور في القرآن مواد للاحتجاج.

وقوله ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون أي في كونها مسخرات في جو السماء فان للطير وهو في الجو دفيفا وصفيفا وبسطا لاجنحتها وقبضا وسكونا وانتقالا وصعودا ونزولا وهى جميعا آيات لقوم يؤمنون كما ذكره الله.

قوله تعالى والله جعل لكم من بيوتكم سكنا إلى آخر الاية في المفردات البيت مأوى الانسان بالليل لانه يقال بات اقام بالليل كما يقال ظل بالنهار ثم قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه وجمعه ابيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن اخص والابيات بالشعر قال ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومدر وصوف ووبر انتهى موضع الحاجة.

والسكن ما يسكن إليه والظعن الارتحال وهو خلاف الاقامة والصوف

 

/ صفحة 314 /

للضأن والوبر للابل كالشعر للانسان ويسمى ما للمعز شعرا كالانسان والاثاث متاع البيت الكثير ولا يقال للواحد منه اثاث قال في المجمع ولا واحد للاثاث كما انه لا واحد للمتاع انتهى والمتاع اعم من الاثاث فانه مطلق ما يتمتع به ولا يختص بما في البيت.

وقوله والله جعل لكم من بيوتكم سكنا أي جعل لكم بعض بيوتكم سكنا تسكنون إليه ومن البيوت ما لا يسكن إليه كالمتخذ لادخار الاموال واختزان الامتعة وغير ذلك وقوله وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا الخ أي من جلودها بعد الدبغ وهى الانطاع والادم بيوتا وهى القباب والخيام تستخفونها أي تعدونها خفيفة من جهه الحمل يوم ظعنكم وارتحالكم ويوم اقامتكم من غير سفر وظعن وقوله ومن اصوافها واوبارها واشعارها الخ معطوف على موضع من جلود أي وجعل لكم من اصوافها وهى للضأن وأوبارها وهى للابل واشعارها وهى للمعز اثاثا تستعملونه في بيوتكم ومتاعا تتمتعون به إلى حين محدود قيل وفيه اشارة إلى انها فانية داثرة فلا ينبغى للعاقل ان يختارها على نعيم الاخرة.

قوله تعالى: " والله جعل لكم مما خلق ظلالا " إلى آخر الاية الظرفان اعني قوله لكم ومما خلق متعلقان بجعل وتعليق الظلال بما خلق لكونها امرا عدميا محققا بتبع غيره وهى مع ذلك من النعم العظيمة التى أنعم الله بها على الانسان وسائر الحيوان والنبات فما الانتفاع بالظل للانسان وغيره بأقل من الانتفاع بالنور ولو لا الظل وهو ظل الليل وظل الابنية والاشجار والكهوف وغيرها لما عاش على وجه الارض عائش.

وقوله وجعل لكم من الجبال اكنانا الكن ما يستتر به الشئ حتى ان القميص كن للابسه وأكنان الجبال هي الكهوف والثقب الموجودة فيها.

وقوله وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر أي قميصا يحفظكم من الحر قال في المجمع ولم يقل وتقيكم البرد لان ما وقى الحر وقى البرد وانما خص الحر

 

/ صفحة 315 /

بذلك مع ان وقايتها للبرد اكثر لان الذين خوطبوا بذلك اهل حر في بلادهم فحاجتهم إلى ما يقى الحر اكثر عن عطاء.

قال على ان العرب يكتفى بذكر احد الشيئين عن الاخر للعلم به قال الشاعر وما ادرى إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يلينى.

فكنى عن الشر ولم يذكره لاند مدلول عليه ذكره الفراء انتهى.

ولعل بعض الوجه في ذكره الحر والاكتفاء به ان البشر الاولى كانوا يسكنون المناطق الحارة من الارض فكان شدة الحر أمس بهم من شدة البرد وتنبههم لاتخاذ السراويل انما هو للاتقاء مما كان الابتلاء به اقرب إليهم وهو الحر والله اعلم.

وقوله وسرابيل تقيكم بأسكم الظاهر ان المراد به درع الحديد ونحوه.

وقوله كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون امتنان عليهم باتمام النعم التى ذكرها وكانت الغاية المرجوة من ذلك اسلامهم لله عن معرفتها فإن المترقب المتوقع ممن يعرف النعم واتمامها عليه ان يسلم لارادة منعمه ولا يقابله بالاستكبار لان منعما هذا شأنه لا يريد به سوء.

قوله تعالى: " فان تولوا فانما عليك البلاغ المبين " قال في المجمع البلاغ الاسم والتبليغ المصدر مثل الكلام والتكليم انتهى.

لما فرغ عن ذكر ما اريد ذكره من النعم والاحتجاج بها ختمها بما مدلولها العتاب واللوم والوعيد على الكفر ويتضمن ذكر وحدانيته تعالى في الربوبية والمعاد والنبوة وبدأ ذلك ببيان وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في رسالته وهو البلاغ فقال فان تولوا أي يتفرع على هذا البيان الذى ليس فيه الا دعوتهم إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم من غير أن يتبعه اجبار أو اكراه انهم ان تولوا واعرضوا عن الاصغاء إليه والاهتداء به فانما عليك البلاغ المبين والتبليغ الواضح الذى لا ابهام فيه ولا ستر عليه لانك رسول وما على الرسول الا ذلك.

وفي الاية تسلية للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيان وظيفة له.

قوله تعالى: " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها واكثرهم الكافرون " المعرفة

 

/ صفحة 316 /

والانكار متقابلان كالعلم والجهل وهذا هو الدليل على ان المراد بالانكار وهو عدم المعرفة لازم معناه وهو الانكار في مقام العمل وهو عدم الايمان بالله ورسوله واليوم الاخر أو الجحود لسانا مع معرفتها قلبا لكن قوله واكثرهم الكافرون يخص الجحود باكثرهم كما يسجئ فيبقى للانكار المعنى الاول.

وقوله واكثرهم الكافرون دخول اللام على الكافرون يدل على الكمال أي انهم كافرون بالنعم الالهية أو بما تدل عليه من التوحيد وغيره جميعا لكن اكثرهم كاملون في كفرهم وذلك بالجحود عنادا والاصرار عليه والصد عن سبيل الله.

والمعنى يعرفون نعمة الله بعنوان انها نعمة منه ومقتضاه ان يؤمنوا به وبرسوله واليوم الاخر ويسلموا في العمل ثم إذا وردوا مورد العمل عملوا بما هو من آثار الانكار دون المعرفة واكثرهم لا يكتفون بمجرد الانكار العملي بل يزيدون عليه بكمال الكفر والعناد مع الحق والجحود والاصرار عليه.

وفيما قدمناه كفاية لك عما اطال فيه المفسرون في معنى قوله واكثرهم الكافرون مع انهم جميعا كافرون بانكارهم من قول بعضهم انما قال اكثرهم لان منهم من لم تقم عليه الحجة كمن لم يبلغ حد التكليف أو كان مؤفا في عقله أو لم تصل إليه الدعوة فلا يقع عليه اسم الكفر.

وفيه ان هؤلاء خارجون على اطلاق الاية رأسا فانها تذكر توبيخا وايعادا انهم ينكرون نعمة الله بعد ما عرفوها وهؤلاء ان كانوا ينكرونها كانوا بذلك كافرين وان لم ينكروها لم يدخلوا في اطلاق الاية قطعا وكيف يصح ان يقال انهم لم تقم عليهم الحجة وليست الحجة إلا النعمة التى يعدها الله سبحانه وهم يعرفونها؟ وقول بعضهم انما قال واكثرهم الكافرون لانه كان يعلم ان فيهم من سيؤمن وفيه انه قول لا دليل عليه.

وقول بعضهم ان المراد بالاكثر الجميع وانما عدل عن البعض احتقارا له ان يذكره ونسب إلى الحسن البصري وهو قول عجيب.

قيل وفي الاية دليل على فساد قول المجبرة انه ليس لله على الكافر نعمة

 

/ صفحة 317 /

وان جميع ما فعله بهم انما هو خذلان ونقمة لانه سبحانه نص في هذه الاية على خلاف قولهم انتهى.

والحق ان للنعمة اعتبارين احدهما كونها نعمه أي ناعمة ملائمة لحال المنعم عليه من حيث كونه في صراط التكوين أي من حيث سعادته الجسمية والاخر من حيث وقوع المنعم عليه في صراط التشريع أي من حيث سعادته الروحية الانسانية بأن تكون النعمة بحيث توجب معرفتها ايمانه بالله ورسوله واليوم الاخر واستعمالها في طريق مرضاة الله والمؤمن منعم بالنعمتين كلتيهما والكافر منعم في الدنيا بالطائفة الاولى محروم من الثانية وفي كلامه سبحانه شواهد كثيرة تشهد على ذلك.

قوله تعالى: " ويوم نبعث من كل امة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون " قال في المجمع قال الزجاج والعتب الموجودة يقال عتب عليه يعتب إذا وجد عليه فإذا فاوضه ما عتب عليه قالوا عاتبه وإذا رجع إلى مسرته قيل اعتب والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب واستعتبه طلب منه ان يعتب انتهى.

وقوله ويوم نبعث من كل امة شهيدا يفيد السياق ان المراد بهذا اليوم يوم القيامة وبهؤلاء الشهداء الذين يبعث كل واحد منهم من امة شهداء الاعمال الذين تحملوا حقائق اعمال امتهم في الدنيا وهم يستشهد بهم ويشهدون عليهم يوم القيامة وقد تقدم بعض الكلام في معنى هذه الشهادة في تفسير قوله: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143 في الجزء الاول من الكتاب.

ولا دلالة في لفظ الاية على ان المراد بشهيد الامة نبيها ولا ان المراد بالامة امة الرسول فمن الجائز ان يكون غير النبي من امته كالامام شهيدا كما يدل عليه آية البقرة السابقة وقوله تعالى: " وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر: 69 وعلى هذا فالمراد بكل امة امة الشهيد المبعوث واهل زمانه.

وقوله ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ذكر بعث شهداء الامم دليل على انهم يشهدون على اممهم بما عملوا في الدنيا وقرينة على ان المراد من نفى الاذن للكافرين انهم لا يؤذن لهم في الكلام وهو الاعتذار لا محالة ونفى الاذن في الكلام

 

/ صفحة 318 /

انما هو تمهيد لاداء الشهود شهادتهم كما تلوح إليه آيات اخر كقوله: " اليوم نختم على افواههم وتكلمنا ايديهم وتشهد ارجلهم " يس: 65 وقوله: " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " المرسلات: 36.

على ان سياق قوله ثم لا يؤذن الخ يفيد ان المراد بهذا الذى ذكر نفى ما يتقى به الشر يومئذ من الحيل وبيان انه لا سبيل إلى تدارك ما فات منهم واصلاح ما فسد من اعمالهم في الدنيا يومئذ وهو احد امرين الاعتذار أو استئناف العمل اما الثاني فيتكفله قوله ولا هم يستعتبون ولا يبقى للاول وهو الاعتذار بالكلام إلا قوله ثم لا يؤذن للذين كفروا.

ومن هنا يظهر ان قوله ولا هم يستعتبون أي لا يطلب منهم ان يعتبوا الله ويرضوه بيان لعدم امكان تدارك ما فات منهم بتجديد العمل والرجوع إلى السمع والطاعة فان اليوم يوم جزاء لا يوم عمل ولا سبيل إلى رجوعهم القهقرى إلى الدنيا حتى يعملوا صالحا فيجزوا به.

وقد بين سبحانه ذلك في مواضع اخرى من كلامه بلسان آخر كقوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " القلم: 43 وقوله: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " الم السجدة: 12.

قوله تعالى: " وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون " كانت الاية السابقة بالحقيقة مسوقة لبيان الفرق بين يوم الجزاء الذى هو يوم القيامة وبين سائر ظروف الجزاء في الدنيا بأن جزاء يوم القيامة لا يرتفع ولا يتغير باعتذار ولا باستعتاب وهذه الاية بيان فرق عذاب اليوم مع العذابات الدنيوية التى تتعلق بالظالمين في الدنيا فانها تقبل بوجه التخفيف أو الانظار بتأخير ما وعذاب يوم القيامة لا يقبل تخفيفا ولا انظارا.

فقوله: " واذارأى الذين ظلموا العذاب " ذكر الظلم في الصلة دون الكفر ونحوه للدلالة على سبب الحكم وملاكه والمراد برؤية العذاب اشرافه عليهم

 

/ صفحة 319 /

واشرافهم عليه بعد فصل القضاء كما يفيده السياق والمراد بالعذاب عذاب يوم القيامة وهو عذاب النار.

والمعنى والله اعلم وإذا قضى الامر بعذابهم وأشرفوا على العذاب بمشاهدة النار فلا مخلص لهم عنه بتخفيف أو بانظار وامهال.

قوله تعالى: " وإذا رأى الذين اشركوا شركاءهم " إلى آخر الاية مضى في حديث يوم البعث وقوله وإذا رأى الذين اشركوا وهم في عرف القرآن عبدة الاصنام والاوثان قرينة على ان المراد بقوله شركاءهم الذين اشركوهم بالله زعما منهم انهم شركاء لله وافتراء ويدل ايضا عليه ذيل الاية والاية التالية.

فتسميتهم شركاءهم وهم يسمونهم شركاء الله للدلالة بها على ان ليس لهم من الشركة إلا الشركة بجعلهم بحسب وهمهم فليس لاشراكهم شركاءهم من الحقيقة إلا انها لا حقيقة لها وبذلك يظهر ان تفسير شركائهم بالاصنام أو بالمعبودات الباطلة وانهم انما عدوا شركائهم لانهم جعلوا لها نصيبا من اموالهم وانعامهم أو الشياطين لانهم شاركوهم في الاموال والاولاد أو شركاؤهم في الكفر وهم الذين كفروا مثل كفرهم أو شاركوهم في وبال كفرهم كل ذلك في غير محله ولا نطيل بالمناقشة في كل واحد منها.

وقوله: " قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا " من دونك معناه ظاهر وهو تعريف منهم اياهم لربهم ولا حاجة إلى البحث عن غرض المشركين في تعريفهم فان اليوم يوم احاط بهم الشقاء والعذاب من كل جانب والانسان في مثل ذلك يلوى إلى كل ما يخطر بباله من طرق السعي في خلاص نفسه وتنفيس كربه.

وقوله فألقوا إليهم القول انكم لكاذبون قال في المجمع تقول القيت الشئ إذا طرحته واللقى الشئ الملقى والقيت إليه مقالة إذا قلتها له وتلقاها إذا قبلها انتهى.

والمعنى ان شركائهم ردوا إليهم وكذبوهم وقد عبر سبحانه في موضع آخر عن هذا التكذيب بالكفر كقوله: " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فاطر: 14 وقوله حكاية عن مخاطبة الشيطان لهم يوم القيامة: " انى كفرت بما اشركتمون من

 

/ صفحة 320 /

قبل " ابراهيم: 22.

قوله تعالى: " وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون " السلم الاسلام والاستسلام وكان في التعبير بالقاء السلم اشارة إلى انضمام شئ من الخضوع والمقهورية بالقهر الالهى إلى سلمهم.

وضمير ألقوا عائد إلى الذين اشركوا بقرينة قوله بعد وضل عنهم ما كانوا يفترون فالمراد إن المشركين يسلمون يوم القيامة لله وقد كانوا يدعون إلى الاسلام في الدنيا وهم يستكبرون.

وليس المراد بالقاء السلم هذا يوم القيامة هو انكشاف الحقيقة وظهور الوحدانية وهو مدلول قوله في صفة يوم القيامة: " ويعلمون إن الله هو الحق المبين " النور: 25 لان العلم بثبوت شئ امر والتسليم والايمان بثبوته امر آخر كما يظهر من قوله تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم " النمل: 14.

ومجرد العلم بأن الله هو الحق لا يكفى في سعادة الانسان بل تحتاج في تمامها إلى تسليمه والايمان به بترتيب آثاره عليه ثم من التسليم والايمان ما كان عن طوع واختيار ومنه ما كان عن كره واضطرار والذى ينفع في السعادة هو التسليم والايمان عن اختيار وموطن الاختيار الدنيا التى هي دار العمل دون الاخرة التى هي دار الجزاء.

وهم لم يسلموا للحق ما داموا في الدنيا وان أيقنوا به حتى إذا وردوا الدار الاخرة وأوقفوا موقف الحساب عاينوا ان الله هو الحق المبين وان عذاب الشقاء أحاط بهم من كل جانب اسلموا للحق وهم مضطرون وليس ينفعهم وإلى هذا العلم والتسليم الاضطراري يشير قوله تعالى: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون إن الله هو الحق المبين " النور: 25 فصدر الاية يخبر عن اسلامهم لانه الدين الحق قال تعالى: " إن الدين عند الله الاسلام " آل عمران: 19 وذيل الاية عن انكشاف الحق لهم وظهور الحقيقة عليهم.

والاية المبحوث عنها اعني قوله وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون صدرها يشير إلى اسلامهم وذيلها إلى كون ذاك الاسلام اضطراريا لا ينفعهم لانهم كانوا يرون لله الوهية ولشركائهم الوهية فاختاروا تسليم شركائهم

 

/ صفحة 321 /

وعبادتهم على التسليم لله ثم لما ظهر لهم الحق يوم القيامة وكذبهم شركائهم بطل ما زعموه وضل عنهم ما افتروه فلم يبق للتسليم الا الله سبحانه فسلموا له مضطرين وانقادوا له كارهين.

قوله تعالى: " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون " استئناف متعرض لحال ائمة الكفر بالخصوص بعد ما اشار إلى حال عامة الظالمين والمشركين في الايات السابقة.

والسامع إذا سمع ما شرحه الله من حالهم يوم القيامة في هذه الايات وانهم معذبون جميعا من غير ان يخفف عنهم أو ينظروا فيه وقد سمع منه ان منهم طائفة هم اشد كفرا واشقى من غيرهم إذ يقول واكثرهم الكافرون خطر بباله طبعا انهم هل يساوون غيرهم في العذاب الموعود وهم يزيدون عليهم في السبب وهو الكفر.

فاستؤنف الكلام جوابا عن ذلك فقيل الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله بالعناد واللجاج فاكتملوا في الكفر واقتدى بهم غيرهم زدناهم عذابا وهو الذى للصد وهم يختصون به فوق العذاب وهو الذى بازاء مطلق الظلم والكفر ويشاركون فيه عامة اخوانهم وكان اللام في العذاب للعهد الذكرى يشار بها إلى ما ذكر في قوله وإذا رأى الذين ظلموا العذاب الخ بما كانوا يفسدون تعليل لزيادة العذاب.

ومن هنا يظهر ان المراد بالافساد الواقع في التعليل هو الصد لانه الوصف الذى يزيدون به على غيرهم وهو افساد الغير بصرفه عن سبيل الله وبتقرير آخر افساد في الارض بالمنع عن انعقاد مجتمع صالح كان من المترقب حصوله باقبال اولئك المصروفين على دين الله وسلوك سبيله.

قوله تعالى: " ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء " الخ صدر الاية تكرار ما تقدم قبل بضع آيات من قوله ويوم نبعث من كل امة شهيدا غير انه كان هناك توطئة وتمهيدا لحديث عدم الاذن لهم في الكلام يومئذ وهو ههنا توطئة وتمهيد لذكر شهادته (صلى الله عليه وآله وسلم) لهؤلاء يومئذ وهو في الموضعين

 

/ صفحة 322 /

مقصود لغيره لا لنفسه وكيف كان فقوله ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم يدل على بعث واحد في كل امة للشهادة على اعمال غيره وهو غير البعث بمعنى الاحياء للحساب بل بعث بعد البعث وانما جعل من انفسهم ليكون اتم للحجة واقطع للمعذرة كما يفيده السياق وذكره المفسرون حتى انهم ذكروا شهادة لوط على قومه ولم يكن منهم نسبا ووجهوه بأنه كان تأهل فيهم وسكن معهم فهو معدود منهم.

وقوله وجئنا بك شهيدا على هؤلاء يفيد انه (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد على هؤلاء واستظهروا ان المراد بهؤلاء هم امته وايضا انهم قاطبة من بعث إليه من لدن عصره إلى يوم القيامة ممن حضره ومن غاب ومن عاصره ومن جاء بعده من الناس.

وآيات الشهادة من معضلات آيات القيامة على ما في جميع آيات القيامة من الاعضال وصعوبة المنال وقد تقدم في ذيل قوله: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143 في الجزء الاول من الكتاب نبذة من الكلام في معنى هذه الشهادة.

ومن الواجب قبل الورود في بحث الشهادة وسائر الامور التى تصفها الايات ليوم القيامة كالجمع والوقوف والسؤال والميزان والحساب ان يعلم انه تعالى يعد في كلامه هذه الامور في عداد الحجج التى تقام يوم القيامة على الانسان لتثبيت ما عمله من خير أو شر والقضاء عليه بما ثبت بالحجة القاطعة للعذر والمنيرة للحق ثم المجازاة بما يستوجبه القضاء من سعادة أو شقاء وجنة أو نار وهذا من اوضح ما يستفاد من آيات القيامة الشارحة لشؤن هذا اليوم وما يواجه الناس منها.

وهذا اصل مقتضاه ان يكون بين هذه الحجج واجزائها ونتائجها روابط حقيقية بينة يضطر العقل إلى الاذعان بها ولا يسع للانسان بما عنده من الشعور الفطري ردها ولا الشك والارتياب فيها.

وعلى هذا فمن الواجب ان تكون الشهادة القائمة هناك باقامة منه تعالى مشتملة من الحقيقة على ما لا سبيل للمناقشة فيها والله سبحانه لو امر اشقى الناس على أن يشهد على الاولين والاخرين بما عملوه باختيار من الشاهد أو يخلق الشهادة في لسانه بلا

 

/ صفحة 323 /

ارادة منه أو أن يشهد بما عملوه من غير ان يكون قد تحملها في الدنيا وشهدها شهود عيان بل معتمدا على اعلام من الله أو ملائكته أو على حجة ثم امضى تعالى ذلك وأنفذه وجازى به محتجا في جميع ذلك بشهادته ثانيا عليها لم يكن ذلك مما لا تطيقه سعة قدرته ولا يسعه نفوذ ارادته ولا استطاع احد أن ينازعه في ملكه أو يعقب حكمه أو يغلبه على امره.

لكنها حجة تحكمية غير تامة لا تقطع بالحقيقة عذرا ولا تدفع ريبا نظير التحكمات التى نجدها من جبابرة الانسان والطواغيت العابثين بالحق والحقيقة وكيف يتصور لمثل هذه الحجج المختلقة عين أو اثر يوم لا عين فيه الا للحق ولا اثر فيه الا للحقيقة؟ وعلى هذا فمن الواجب ان يكون هذا الشهيد ذا عصمة الهية يمتنع عليه الكذب والجزاف وان يكون عالما بحقائق الاعمال التى يشهد عليها لا بظاهر صورها وهيئاتها المحسوسة بل بحقيقة ما انعقدت عليه في القلوب وان يستوى عنده الحاضر والغائب من الناس كما تقدمت الاشارة إليه في تفسير آية سورة البقرة.

ومن الواجب أن تكون شهادته شهادة عن معاينة كما هو ظاهر لفظ الشهيد وظاهر تقييده بقوله من انفسهم في قوله شهيدا عليهم من انفسهم غير مستندة إلى حجة عقلية أو دليل سمعي ويشهد به قوله تعالى حكاية عن المسيح (عليه السلام): " وكنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت انت الرقيب عليهم وانت على كل شئ شهيد " المائدة: 117.

وبهذا تتلاءم الايتان مضمونا اعني قوله ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء وقوله: " وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143.

فان ظاهر آية البقرة ان بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الناس الذين هم عامة من بعث إليهم من زمانه إلى يوم القيامة شهداء يشهدون على اعمالهم وان الرسول انما هو شهيد على هؤلاء الشهداء دون سائر الناس إلا بواسطتهم ولا ينبغى ان يتوهم ان الامة هم المؤمنون وغيرهم الناس وهم خارجون من الامة فان ظاهر الاية السابقة في السورة " ويوم نبعث من كل امة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا " الاية إن الكفار من الامة

 

/ صفحة 324 /

المشهود عليهم.

ولازم ذلك ان يكون المراد بالامة في الاية المبحوث عنها ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم جماعة الناس من اهل عصر واحد يشهد اعمالهم شهيد واحد ويكون حينئذ الامة التى بعث إليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منقسمة إلى امم كثيرة.

ويكون المراد بالشهيد الانسان المبعوث بالعصمة والمشاهدة كما تقدم ويؤيده قوله من انفسهم إذ لولا المشاهدة لم يكن لكونه من انفسهم وقع ولا لتعدد الشهداء بتعدد الامم وجه فلكل قوم شهيد من انفسهم سواء كان نبيا لهم أو غير نبيهم فلا ملازمة كما يؤيده قوله: " وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر: 69.

ويكون المراد بهؤلاء في قوله وجئنا بك شهيدا على هؤلاء الشهداء دون عامة الناس فالشهداء شهداء على الناس والنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد على الشهداء وظاهر الشهادة على الشاهد تعديله دون الشهادة على عمله فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد على مقامهم لا على اعمالهم ولذلك لم يكن من الواجب ان يعاصرهم ويتحد بهم زمانا فافهم ذلك.

والانصاف انه لو لا هذا التقريب لم يرتفع ما يتراءى ما في آيات الشهادة من الاختلاف كدلالة آية البقرة وقوله: " ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس " الحج: 78 على كون الامة هم المؤمنين ودلالة غيرهما على الاعم ودلالتهما على ان النبي انما هو شهيد على الشهداء وان بينه وبين الناس شهداء ودلالة غيرهما على خلافه وان على الناس شهيدا واحدا هو نبيهم لان المفروض حينئذ ان شهيد كل امة هو نبيهم وكون اخذ الشهيد من انفسهم لغو لا اثر له مع عدم لزوم الحضور والمعاصرة وان الشهادة انما تكون من حى كما في الكلام المحكى عن المسيح (عليه السلام) واشكالات اخرى تتوجه على نجاح الحجة ومضيها تقدمت الاشارة إليها والله الهادى.

وقوله: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " ذكروا انه استئناف يصف القرآن بكرائم صفاته فصفته العامة انه تبيان لكل شئ والتبيان والبيان واحد كما قيل واذ كان كتاب هداية لعامة الناس وذلك شأنه كان الظاهر ان المراد بكل شئ كل ما يرجع إلى امر الهداية مما يحتاج إليه الناس في

 

/ صفحة 325 /

اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدأ والمعاد والاخلاق الفاضلة والشرائع الالهية والقصص والمواعظ فهو تبيان لذلك كله.

ومن صفته الخاصة أي المتعلقة بالمسلمين الذين يسلمون للحق انه هدى يهتدون به إلى مستقيم الصراط ورحمة لهم من الله سبحانه يحوزون بالعمل بما فيه خير الدنيا والاخرة وينالون به ثواب الله ورضوانه وبشرى لهم يبشرهم بمغفرة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.

هذا ما ذكروه وهو مبنى على ما هو ظاهر التبيان من البيان المعهود من الكلام وهو اظهار المقاصد من طريق الدلالة اللفظية فإنا لا نهتدي من دلالة لفظ القرآن الكريم إلا على كليات ما تقدم لكن في الروايات ما يدل على ان القرآن فيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ولو صحت الروايات لكان من اللازم ان يكون المراد بالتبيان الاعم مما يكون من طريق الدلالة اللفظية فلعل هناك اشارات من غير طريق الدلالة اللفظية تكشف عن اسرار وخبايا لا سبيل للفهم المتعارف إليها.

والظاهر على ما يستفاد من سياق هذه الايات المسوقة للاحتجاج على الاصول الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد والكلام فيها ينعطف مرة بعد اخرى عليها إن قوله ونزلنا عليك الكتاب الخ ليس باستئناف بل حال عن ضمير الخطاب في جئنا بك بتقدير قد أو بدون تقديرها على الخلاف بين النحاة في الجملة الحالية المصدرة بالفعل الماضي.

والمعنى وجئنا بك شهيدا على هؤلاء والحال إنا نزلنا عليك من قبل في الدنيا الكتاب وهو بيان لكل شئ من امر الهداية يعلم به الحق من الباطل فيتحمل شهادة اعمالهم فيشهد يوم القيامة على الظالمين بما ظلموا وعلى المسلمين بما اسلموا لان الكتاب كان هدى ورحمة وبشرى لهم وكنت انت بذلك هاديا ورحمة ومبشرا لهم.

وعلى هذا فصدر الاية كالتوطئة لذيلها كأنه قيل سيبعث شهداء يشهدون على الناس بأعمالهم وانت منهم ولذلك نزلنا عليك كتابا يبين الحق والباطل ويميز بينهما حتى تشهد به يوم القيامة على الظالمين بظلمهم وقد تبين الكتاب وعلى المسلمين باسلامهم وقد كان الكتاب هدى ورحمة وبشرى لهم وكنت هاديا ورحمة ومبشرا به.

 

/ صفحة 326 /

ومن لطيف ما يؤيد هذا المعنى مقارنة الكتاب بالشهادة في بعض آيات الشهادة كقوله: " واشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر: 69 وسيجئ ان شاء الله ان المراد به اللوح المحفوظ وقد تكرر في كلامه تعالى ان القرآن من اللوح المحفوظ كقوله: " انه لقرآن كريم في كتاب مكنون " الواقعة: 78 وقوله: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " البروج: 22.

وشهادة اللوح المحفوظ وان كانت غير شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنهما جميعا متوقفتان على قضاء الكتاب النازل.

(بحث روائي) في الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم عن مجاهد: ان اعرابيا اتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله فقرأ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والله جعل لكم من بيوتكم سكنا قال الاعرابي نعم قال وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها قال الاعرابي نعم ثم قرأ عليه كل ذلك يقول نعم حتى بلغ كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فولى الاعرابي فأنزل الله: " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها واكثرهم الكافرون " في تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: " يعرفون نعمة الله " الاية قال عرفهم ولاية علي وأمرهم بولايته ثم انكروا بعد وفاته.

اقول والرواية من الجرى.

وفي تفسير العياشي عن جعفر بن احمد عن التركي النيشابوري عن على بن جعفر ابن محمد عن اخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) إنه سئل عن هذه الاية يعرفون نعمة الله الاية قال عرفوه ثم انكروه وفي تفسير القمى: قى قوله تعالى: " ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم قال الصادق (عليه السلام) لكل زمان وامة شهيد تبعث كل امة مع امامها اقول وذيل كلامه (عليه السلام) مضمون قوله تعالى: " يوم ندعو كل اناس بامامهم " وفي الدر المنثور اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن

 

/ صفحة 327 /

قتادة قال الله وجئنا بك شهيدا على هؤلاء قال ذكر لنا ان نبى الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا قرأ هذه الاية فاضت عيناه اقول والروايات في باب الشهادة يوم القيامة كثيرة جدا وقد أوردنا بعضها في ذيل قوله وكذلك جعلناكم امة وسطا " البقرة: 143 وبعضها في ذيل قوله: " وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " النساء: 41 وقوله: " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " النساء: 159.

وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه والخطيب في تالى التلخيص عن البراء ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قول الله زدناهم عذابا فوق العذاب قال عقارب امثال النخل الطوال ينهشونه في جهنم وفي الكافي باسناده عن عبد الاعلى بن اعين قال سمعت ابا عبد الله (عليه السلام) يقول قد ولدنى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وانا اعلم كتاب الله وفيه بدؤ الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة وفيه خبر السماء وخبر الارض وخبر الجنة وخبر النار وخبر ما كان وخبر ما هو كائن اعلم ذلك كما انظر إلى كفى إن الله عز وجل يقول فيه تبيان كل شئ.

اقول والاية منقولة في الرواية بالمعنى.

وفي تفسير العياشي عن منصور عن حماد اللحام قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) نحن نعلم ما في السماوات ونعلم ما في الارض وما في الجنة وما في النار وما بين ذلك قال فبهت انظر إليه فقال يا حماد ان ذلك في كتاب الله تعالى ثم تلا هذه الاية: " ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " انه من كتاب فيه تبيان كل شئ وفي الكافي عن عدة من اصحابنا عن احمد بن محمد بن سنان عن يونس بن يعقوب عن الحارث بن المغيرة وعدة من اصحابنا منهم عبد الاعلى وابو عبيدة وعبد الله بن بشير الخثعمي سمعوا ابا عبد الله (عليه السلام) يقول انى لاعلم ما في السماوات وما في الارض واعلم ما في الجنة واعلم ما في النار واعلم ما كان وما يكون ثم مكث هنيئة فرأى

 

/ صفحة 328 /

إن ذلك كبر على من سمعه منه - فقال علمت ذلك من كتاب الله عز وجل إن الله يقول فيه تبيان كل شئ وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن الوليد قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال الله لموسى وكتبنا له في الالواح من كل شئ فعلمنا انه لم يكتب لموسى الشئ كله وقال الله لعيسى لابين لكم بعض الذى تختلفون فيه وقال الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ.

اقول ورواه العياشي بالاسناد (عليه السلام)

* * *

 إن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون - 90 وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون - 91 ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا تتخذون ايمانكم دخلا بينكم ان تكون أمة هي أربى من امة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون - 92 ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدى من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون - 93 ولا تتخذوا ايمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم - 94 ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا انما عند الله هو خير

 

/ صفحة 329 /

لكم ان كنتم تعلمون - 95 ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا اجرهم بأحسن ما كانوا يعملون - 96 من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حيوة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون - 97 فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم - 98 إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون - 99 إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون - 100 وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا انما انت مفتر بل اكثرهم لا يعلمون - 101 قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين - 102 ولقد نعلم إنهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين - 103 إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب اليم - 104 انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله واولئك هم الكاذبون - 105 (بيان) تذكر الايات عدة من الاحكام مما يلائم حال الاسلام قبل الهجرة مما يصلح به حال المجتمع العام كالامر بالعدل والاحسان والنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى وما

 

/ صفحة 330 /

يلحق بذلك كالامر بايتاء ذى القربى والنهى عن نقض العهد واليمين وتذكر امورا اخرى تناسب ذلك وتثبتها.

قوله تعالى: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذى القربى " ابتدأ سبحانه بهذه الاحكام الثلاثة التى هي بالترتيب أهم ما يقوم به صلب المجتمع الانساني لما ان صلاح المجتمع العام اهم ما يبتغيه الاسلام في تعاليمه المصلحة فان اهم الاشياء عند الانسان في نظر الطبيعة وان كان هو نفسه الفردية لكن سعادة الشخص مبنية على صلاح الظرف الاجتماعي الذى يعيش هو فيه وما اصعب ان يفلح فرد في مجتمع فاسد احاط به الشقاء من كل جانب.

ولذلك اهتم في اصلاح المجتمع اهتماما لا يعادله فيه غيره وبذل الجهد البالغ في جعل الدساتير والتعاليم الدينية حتى العبادات من الصلاة والحج والصوم اجتماعية ما امكن فيها ذلك كل ذلك ليستصلح الانسان في نفسه ومن جهة ظرف حياته.

فقوله إن الله يأمر بالعدل امر بالعدل ويقابله الظلم قال في المفردات العدالة والمعادلة لفظ يقتضى معنى المساواة ويستعمل باعتبار المضايفة والعدل بفتح العين والعدل بكسرها يتقاربان لكن العدل بفتح العين يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالاحكام وعلى ذلك قوله تعالى أو عدل ذلك صياما والعدل بكسر العين والعديل فيما يدرك بالحاسة كالموزونات والمعدودات والمكيلات فالعدل هو التقسيط على سواء.

قال والعدل ضربان مطلق يقتضى العقل حسنه ولا يكون في شئ من الازمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه نحو الاحسان إلى من احسن اليك وكف الاذى عمن كف أذاه عنك وعدل يعرف كونه عدلا بالشرع ويمكن ان يكون منسوخا في بعض الازمنة كالقصاص واروش الجنايات واصل مال المرتد ولذلك قال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه وقال وجزاء سيئة سيئة مثلها فسمى اعتداء وسيئة.

وهذا النحو هو المعنى بقوله ان الله يأمر بالعدل والاحسان فان العدل هو المساواة في المكافاة ان خيرا فخير وان شرا فشر والاحسان ان يقابل الخير بأكثر

 

/ صفحة 331 /

منه والشر بأقل منه انتهى موضع الحاجة.

وما ذكره على ما فيه من التفصيل يرجع إلى قولهم ان العدل هو لزوم الوسط والاجتناب عن جانبى الافراط والتفريط في الامور وهو من قبيل التفسير بلازم المعنى فان حقيقة العدل هي اقامة المساواة والموازنة بين الامور بأن يعطى كل من السهم ما ينبغى ان يعطاه فيتساوى في ان كلا منها واقع موضعه الذى يستحقه فالعدل في الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحق والعدل في فعل الانسان في نفسه ان يفعل ما فيه سعادته ويتحرز مما فيه شقاؤه باتباع هوى النفس والعدل في الناس وبينهم أن يوضع كل موضعه الذى يستحقه في العقل أو في الشرع أو في العرف فيثاب المحسن باحسانه ويعاقب المسئ على اساءته وينتصف للمظلوم من الظالم ولا يبعض في اقامة القانون ولا يستثنى.

ومن هنا يظهر ان العدل يساوق الحسن ويلازمه إذ لا نعنى بالحسن إلا ما من طبعه ان تميل إليه النفس وتنجذب نحوه واقرار الشئ في موضعه الذى ينبغى ان يقر عليه من حيث هو كذلك مما يميل إليه الانسان ويعترف بحسنه ويقدم العذر لو خالفه إلى من يقرعه باللوم لا يختلف في ذلك اثنان وان اختلف الناس في مصاديقه كثيرا باختلاف مسالكهم في الحياة.

ويظهر ايضا ان ما عد الراغب في كلامه من الاعتداء والسيئة عدلا لا يخلو عن مسامحة فان الاعتداء والسيئة الذين يجازى بهما المعتدى والمسئ انما هما اعتداء وسيئة بالنسبة اليهما وأما بالنسبة إلى من يجازيهما بهما فهما من لزوم وسط الاعتدال وخصلة الحسن لكونهما من وضع الشئ موضعه الذى ينبغى ان يوضع فيه.

وكيف كان فالعدل وان كان منقسما إلى عدل الانسان في نفسه وإلى عدله بالنسبة إلى غيره وهما العدل الفردى والعدل الاجتماعي واللفظ مطلق لكن ظاهر السياق إن المراد به في الاية العدل الاجتماعي وهو أن يعامل كل من افراد المجتمع بما يستحقه ويوضع في موضعه الذى ينبغى ان يوضع فيه وهذا امر بخصلة اجتماعية متوجه إلى افراد المكلفين بمعنى ان الله سبحانه يأمر كل واحد من افراد المجتمع أن يأتي بالعدل ولازمه أن يتعلق الامر بالمجموع ايضا فيكلف المجتمع اقامة هذا الحكم وتتقلده الحكومة

 

/ صفحة 332 /

بما انها تتولى امر المجتمع وتدبره.

وقوله والاحسان الكلام فيه من حيث اقتضاء السياق كسابقه فالمراد به الاحسان إلى الغير دون الاحسان بمعنى اتيان الفعل حسنا وهو ايصال خير أو نفع إلى غير لا على سبيل المجازاة والمقابلة كأن يقابل الخير باكثر منه ويقابل الشر بأقل منه كما تقدم ويوصل الخير إلى غير متبرعا به ابتداء.

والاحسان على ما فيه من اصلاح حال من اذلته المسكنة والفاقة أو اضطرته النوازل وما فيه من نشر الرحمة وايجاد المحبة يعود محمود اثره إلى نفس المحسن بدوران الثروة في المجتمع وجلب الامن والسلامة بالتحبيب.

وقوله وايتاء ذى القربى أي اعطاء المال لذوى القرابة وهو من افراد الاحسان خص بالذكر ليدل على مزيد العناية باصلاح هذا المجتمع الصغير الذى هو السبب بالحقيقة لانعقاد المجتمع المدنى الكبير كما ان مجتمع الازدواج الذى هو اصغر بالنسبة إلى مجتمع القرابة سبب مقدم مكون له فالمجتمعات المدنية العظيمة انما ابتدأت من مجتمع بيتى عقده الازدواج ثم بسطه التوالد والتناسل ووسعه حتى صار قبيلة وعشيرة ولم يزل يتزايد ويتكاثر حتى عادت امة عظيمة فالمراد بذى القربى الجنس دون الفرد وهو عام لكل قرابة كما ذكروه.

وفي التفسير المأثور عن ائمة اهل البيت (عليهم السلام) إن المراد بذى القربى الامام من قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد بالايتاء اعطاء الخمس الذى فرضه الله سبحانه في قوله: " واعلموا انما غنمتم من شئ فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين " الاية الانفال: 41 وقد تقدم تفسيرها ولعل التعبير بالافراد حيث قيل ذى القربى ولم يقل ذوى القربى أو اولى القربى كما في قوله: " وإذا حضر القسمة اولوا القربى واليتامى والمساكين " النساء: 8 وقوله: " وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين " البقرة: 177 يؤيد ذلك.

واحتمال ارادة الجنس من ذى القربى يبعده ما وقع في سياق آية الخمس من ذكر اليتامى والمساكين معه بصيغة الجمع مع عدم ظهور نكتة يختص بها ذوى القربى أو

 

/ صفحة 333 /

اليتامى والمساكين تقضى بالفرق.

على ان الاية لا قرينة واضحة فيها على كون المراد بالايتاء هو الاحسان ثم بالاحسان مطلق الاحسان والله اعلم.

قوله تعالى: " وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون " قال في المفردات الفحش والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الافعال والاقوال.

انتهى ولعل الاصل في معناه الخروج عن الحد فيما لا ينبغى يقال غبن فاحش أي خارج عن حد التحمل والصبر والسكوت.

والمنكر ما لا يعرفه الناس في مجتمعهم من الاعمال التى تكون متروكة عندهم لقبحها أو اثمها كالمواقعة أو كشف العورة في مشهد من الناس في المجتمعات الاسلامية.

والبغى الاصل في معناه الطلب وكثر استعماله في طلب حق الغير بالتعدي عليه فيفيد معنى الاستعلاء والاستكبار على الغير ظلما وعتوا وربما كان بمعنى الزنا والمراد به في الاية هو التعدي على الغير ظلما.

وهذه الثلاثة اعني الفحشاء والمنكر والبغى وان كانت متحدة المصاديق غالبا فكل فحشاء منكر وغالب البغى فحشاء ومنكر لكن النهى انما تعلق بها بما لها من العناوين لما ان وقوع الاعمال بهذه العناوين في مجتمع من المجتمعات يوجب ظهور الفصل الفاحش بين الاعمال المجتمعة فيه الصادرة من اهله فينقطع بعضها من بعض ويبطل الالتيام بينها ويفسد بذلك النظم وينحل المجتمع في الحقيقة وان كان على ساقه صورة وفي ذلك هلاك سعادة الافراد.

فالنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى امر بحسب المعنى باتحاد مجتمع تتعارف اجزاؤه وتتلاءم اعماله لا يستعلى بعضهم على بعض بغيا ولا يشاهد بعضهم من بعض الا الجميل الذى يعرفونه لا فحشاء ولا منكرا وعند ذلك تستقر عليهم الرحمة والمحبة والالفة وترتكز فيهم القوة والشدة وتهجرهم السخطة والعداوة والنفرة وكل خصلة سيئة تؤدى إلى التفرق والتهلكة.

ثم ختم سبحانه الاية بقوله يعظكم لعلكم تذكرون أي تتذكرون فتعلمون ان الذى يدعوكم إليه فيه حياتكم وسعادتكم.

 

/ صفحة 334 /

قوله تعالى: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " الخ قال في المفردات العهد حفظ الشئ ومراعاته حالا بعد حال وسمى الموثق الذى يلزم مراعاته عهدا قال وعهد فلان إلى فلان يعهد أي القى إليه العهد وأوصاه بحفظه انتهى.

وظاهر اضافة العهد إلى الله تعالى في قوله وأوفوا بعهد الله ان المراد به هو العهد الذى يعاهد فيه الله على كذا دون مطلق العهد ويأتى نظير الكلام في نقض اليمين.

وقوله ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها نقض اليمين نكثه ومخالفة مقتضاه والمراد باليمين هو اليمين بالحلف بالله سبحانه كأن ما عدا ذلك ليس بيمين والدليل عليه قوله بعد وقد جعلتم الله عليكم كفيلا.

والمراد بتوكيدها احكامها بالقصد والعزم وكونها لامر راجح بخلاف قولهم لا والله وبلى والله وغيره من لغو الايمان فالتوكيد في هذه الاية يفيد ما يفيده التعقيد في قوله تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " المائدة: 89.

ونقض اليمين بحسب الاعتبار اشنع من نقض العهد وان كان منهيا عنهما جميعا على إن العناية بالحلف في الشرع الاسلامي اكثر كما في باب القضاء.

وتوضيح شناعة نقضه إن حقيقة معنى اليمين ايجاد ربط خاص بين النسبة الكلامية من خبر أو انشاء وبين امر ذى بال شريف بحيث يستوجب بطلان النسبة من جهة ظهور كذبه ان كان خبرا ومخالفة مقتضاه ان كان عزما أو امرا أو نهيا كقولنا والله لافعلن كذا وبالله عليك افعل أو لا تفعل كذا أن يذهب بذلك ما يعتقده المقسم من الكرامة والعزة للمقسم به فيؤول الامر إلى إن المقسم به بما له من الكرامة والعزة هو المسئول عن صحة النسبة الكلامية والمقسم هو المسئول عند المقسم به بما علق صحة النسبة على كرامته وعزته كمن يعقد عقدا أو يتعهد عملا ثم يعطى لمن عاقده أو تعهد له موثقا يثق به من مال أو ولد أو غير ذلك أو يضمن له ذلك شريف بشرافته.

وبهذا يظهر معنى قوله تعالى: " وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " فان الحالف إذا قال والله لافعلن كذا أو لا تركن كذا فقد علق ما حلف عليه نوعا من التعليق

 

/ صفحة 335 /

على الله سبحانه وجعله كفيلا عنه في الوفاء بما عقد عليه اليمين فان نكث ولم يف كان لكفيله ان يؤديه إلى الجزاء والعقوبة ففى نكث اليمين اهانة وارزاء بساحة العزة والكرامة مضافا إلى ما في نقض اليمين والعهد معا من الانقطاع والانفصال عنه سبحانه بعد توكيد الاتصال.

فقوله: " وقد جعلتم الله " الخ حال من ضمير الجمع في قوله ولا تنقضوا وقوله ان الله يعلم بما تفعلون في معنى تأكيد النهى بان العمل مبغوض وهو به عليم.

قوله تعالى: " ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا " إلى آخر الاية النقض ويقابله الابرام افساد ما احكم من حبل أو غزل بالفتل فنقض الشئ المبرم كحل الشئ المعقود والنكث النقض قال في المجمع وكل شئ نقض بعد الفتل فهو انكاث حبلا كان أو غزلا والدخل بفتحتين في الاصل كل ما دخل الشئ وليس منه ويكنى به عن الدغل والخدعة والخيانة كما قيل واربى افعل من الربا وهو الزيادة.

وقوله: " ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا " في معنى التفسير لقوله في الاية السابقة: " ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " وهو تمثيل بمرأة تغزل الغزل بقوة ثم تعود فتنقض ما اتعبت نفسها فيه وغزلته من بعد قوة وتجعله انكاثا لا فتل فيه ولا ابرام.

ونقل عن الكلبى انها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثم تأمرهن ان ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها واسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مره وكانت تسمى خرقاء مكة.

وقوله: " تتخذون ايمانكم دخلا بينكم ان تكون امة هي اربى من امة " أي تتخذون ايمانكم وسيلة للغدر والخدعة والخيانة تطيبون بها نفوس الناس ثم تخونون وتخدعونهم بنقضها وانما يفعلون ذلك لتكون امة وهم الحالفون اربى وازيد سهما من زخارف الدنيا من امة وهم المحلوف لهم.

فالمراد بالدخل وسيلته من تسمية السبب باسم المسبب وان تكون امة مفعول له بتقدير اللام والكلام نوع بيان لنقض اليمين أو لكونهم كالتى نقضت غزلها

 

/ صفحة 336 /

من بعد قوة انكاثا ومحصل المعنى انكم كمثلها إذ تتخذون ايمانكم دخلا بينكم فتؤكدونها وتعقدونها ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثها والله ينهاكم عنه.

وذكر بعضهم ان قوله تتخذون ايمانكم الخ جملة استفهامية محذوفة الاداة والاستفهام للانكار.

وقوله انما يبلوكم الله به الخ أي ان ذلك امتحان الهي يمتحنكم به واقسم ليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك ما حقيقة ما انتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لاماطة الحق ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هو المهتدى.

قوله تعالى: " ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدى من يشاء " الخ لما انجر الكلام إلى ذكر اختلافهم عقب ذلك ببيان ان اختلافهم ليس بناقض للغرض الالهى في خلقهم ولا انهم معجزون له سبحانه ولو شاء لجعلهم امة واحدة لا اختلاف بينهم ولكن الله سبحانه جعلهم مختلفين بالهداية والاضلال فهدى قوما واضل آخرين.

وذلك انه تعالى وضع سعادة الانسان وشقاءه على اساس الاختيار وعرفهم الطاعة المفضية إلى غاية السعادة والمعصية المؤدية إلى غاية الشقاء فمن سلك مسلك المعصية واجتاز للضلال جازاه الله ذلك ومن ركب سبيل الطاعة واختار الهدى جازاه الله ذلك وسيسألهم جميعا عما عملوا واختاروا.

وبما تقدم يظهر ان المراد بجعلهم امة واحدة رفع الاختلاف من بينهم وحملهم على الهدى والسعادة وبالاضلال والهداية ما هو على سبيل المجازاة لا الضلال والهدى الابتدائيان فان الجميع على هدى فطرى فالذي يشاء الله ضلاله فيضله هو من اختار المعصية على الطاعة من غير رجوع ولا ندم والذى شاء الله هداه فهداه هو من بقى على هداه الفطري وجرى على الطاعة أو تاب ورجع عن المعصية صراطا مستقيما وسنة الهية ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.

وان قوله: " ولتسألن عما كنتم تعملون " لدفع ما يسبق إلى الوهم ان استناد الضلال والهدى إليه سبحانه يبطل تأثير اختيارهم في ذلك وتبطل بذلك الرسالة وتلغو

 

/ صفحة 337 /

الدعوة فاجيب بان السؤال باق على حاله لما ان اختياركم لا يبطل بذلك بل الله سبحانه يمد لكم من الضلال والهدى ما انتم تختارونه بالركون إلى معصيته أو بالاقبال إلى طاعته.

 

قوله تعالى: " ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها " إلى آخر الاية قال في المفردات الصدود والصد قد يكون انصرافا عن الشئ وامتناعا نحو يصدون عنك صدودا وقد يكون صرفا ومنعا نحو وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل انتهى.

والاية نهى عن اتخاذ الايمان دخلا بعد النهى عن اصل نقص الايمان لان لخصوص اتخاذها دخلا مفسدة مستقلة هي ملاك النهى غير المفسدة التى لاصل نقض الايمان وقد اشار إلى مفسدة اصل النقض بقوله وقد جعلتم الله عليكم كفيلا الخ ويشير في هذه الاية إلى مفسدة اتخاذها دخلا بقوله: " فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ".

والملاكان كما هو ظاهر متغايران نعم احدهما كالمقدمة للاخر كما ان نقض الايمان كالمقدمة لاتخاذها دخلا فان الانسان إذا نقض اليمين لسبب من الاسباب لاول مرة هان عليه امر النقض ومهد ذلك السبيل إلى النقض ثانيا وثالثا وجعل الحلف ثم النقض وسيلة خدعة وخيانة فلا يلبث دون ان تكون حليف دغل وخدعة وخيانة وغرور ومكر وكيد وكذب وزور لا يبالى ما قال وما فعل ويعود جرثومة فساد يفسد المجتمع الانساني اينما توجه ويقع في سبيل غير سبيل الله الذى خطته الفطرة السليمة.

وكيف كان فظاهر قوله ولا تتخذوا ايمانكم دخلا بينكم نهى استقلالي عن الخدعة باليمين بعد النهى الضمنى عنه في الاية السابقة وقوله: " فتزل قدم بعد ثبوتها " تفريع على المنهى عنه دون النهى أي يتفرع على اتخاذها دخلا ان تزل قدم بعد ثبوتها الخ وزلة القدم بعد ثبوتها مثل لنقض اليمين بعد العقد والتوكيد والزوال عن الموقف الذى ارتكز فيه فان ثبات الانسان واستقامته على ما عزم عليه واهتم به من كرائم الانسانية واصول فضائلها وعليه بناء الدين الالهى وحفظ اليمين على توكيده

 

/ صفحة 338 /

قدم من الاقدام التى يتم بها هذا الاصل الوسيع وكأنه لذلك جئ بالقدم نكرة في قوله فتزل قدم الخ.

وقوله: " وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم " معطوف على قوله تزل قدم الخ وبيان نتيجته كما انه بيان نتيجة وعاقبة لقوله تتخذوا ايمانكم دخلا وبذلك يظهر ان قوله بما صددتم عن سبيل الله بمنزلة التفسير لقوله فتزل قدم بعد ثبوتها.

والمراد بالصدود عن سبيل الله الاعراض والامتناع عن السنة الفطرية التى فطر الله الناس عليها ودعت الدعوة النبوية إليها من التزام الصدق والاستقامة ورعاية العهود والمواثيق والايمان والتجنب عن الدغل والخدعة والخيانة والكذب والزور والغرور.

والمراد بذوق السوء العذاب وقوله ولكم عذاب عظيم حال عن فاعل تذوقوا ويمكن ان يكون المراد بذوق السوء ما ينالهم من آثار الضلال السيئة في الدنيا وقوله ولكم عذاب عظيم اخبارا عما يحل بهم في الاخرة هذا ما يستفاد من ظاهر الاية الكريمة.

فالمعنى ولا تتخذوا ايمانكم وسيلة دخل بينكم حتى يؤديكم ذلك إلى الزوال عما ثبتم عليه ونقض ما ابرمتموه وفيه اعراض عن سبيل الله الذي هو التزام الفطرة والتحرز عن الغدر والخدعة والخيانة والدغل وبالجملة الافساد في الارض بعد اصلاحها ويؤديكم ذلك إلى أن تذوقوا السوء والشقاء في حياتكم الدنيا ولكم عذاب عظيم في الاخرى.

وذكر بعضهم أن الاية مختصة بالنهي عن نقض بيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما استقرت عليه السنة في صدر الاسلام وأن الاية نزلت في الذين بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على نصرة الاسلام وأهله فنهاه الله عن نقض تلك البيعة وعلى هذا فالمراد بالصد عن سبيل الله صرف الناس ومنعهم عن اتباع دين الله كما ان المراد بزلة قدم بعد ثبوتها الردة بعد الاسلام والضلال بعد الرشد.

وفيه أن السياق لا يساعد على ذلك وعلى تقدير التسليم خصوص المورد لا ينافى عموم الاية.

 

/ صفحة 339 /

قوله تعالى: " ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون " قال في المفردات كل ما يحصل عوضا عن شئ فهو ثمنه انتهى.

والظاهر أن الاية نهي عن نقض العهد بعدما تقدم الامر بالوفاء به اعتناء بشأنه كما جرى مثل ذلك في نقض الايمان والاية مطلقة والمراد بعهد الله العهد الذي عوهد به الله مطلقا والمراد بالاشتراء به ثمنا قليلا بقرينة ذيل الاية أن يبدل العهد من شئ من حطام الدنيا فينقض لنيله فسمى المبدل منه ثمنا لانه عوض كما تقدم والباقي ظاهر.

قوله: " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " في مقام التعليل لقوله في الاية السابقة: " ما عند الله هو خير لكم " وقد وجهه بأن الذي عندكم أي في الحياة الدنيا التي هي حياة مادية قائمة على أساس التبدل والتحول منعوتة بنعت الحركة والتغير زائل نافد وما عند الله سبحانه مما يعد المتقين منكم باق لا يزول ولا يفنى والباقى خير من النافد بصريح حكم العقل.

واعلم ان قوله: " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " على ما في لفظه من الاطلاق قاعدة كلية غير منقوضة باستثناء تحتها جزئيات كثيرة من المعارف الحقيقية.

قوله تعالى: " ولنجزين الذين صبروا اجرهم باحسن ما كانوا يعملون " لما كان الوفاء بالعهد مستلزما للصبر على مر مخالفة هوى النفس في نقضه والاسترسال فيما تشتهيه صرف الكلام عن ذكر اجر خصوص الموفين بالعهد إلى ذكر اجر مطلق الصابرين في جنب الله.

فقوله ولنجزين الذين صبروا اجرهم وعد مؤكد على مطلق الصبر سواء كان صبرا على الطاعة أو عن المعصية أو عند المصيبة غير انه يجب ان يكون صبرا في جنب الله ولوجه الله فان السياق لا يساعد على غيره.

وقوله باحسن ما كانوا يعملون الباء للمقابلة كما في قولنا بعت هذا بهذا وليس المراد باحسن ما كانوا يعملون الاحسن من اعمالهم في مقابل الحسن منها بان يميز الله سبحانه بين اعمالهم الحسنة فيقسمها إلى حسن واحسن ثم يجزيهم باحسنها ويلغى الحسن كما ذكره بعضهم فان المقام لا يؤيده وآيات الجزاء تنفيه والرحمة الواسعة الالهية تأباه.

 

/ صفحة 340 /

وليس المراد به الواجبات والمستحبات من اعمالهم قبال المباحات التى اتوا بها فانها لا تخلو من حسن كما ذكره آخرون.

فان الكلام ظاهر في ان المراد بيان الاجر على الاعمال الماتى بها في ظرف الصبر مما يرتبط به ارتباطا وواضح ان المباحات التى ياتي بها الصابر في الله لا ارتباط لها بصبره فلا وجه لاعتبارها بين الاعمال ثم اختيار الاحسن من بينها.

على انه لا مطمع لعبد في ان يثيبه الله على ما اتى به من المباحات حتى يبين له أن الثواب في مقابل ما اتى به من الواجبات والمستحبات التى هي احسن مما اتى به من المباحات فيكون ذكر الحسن مستدركا زائدا.

ومن هنا يظهر ان ليس المراد به النوافل بناء على عدم الالزام فيها فتكون احسن ما عمل فان كون الواجب مشتملا من المصلحة الموجبة للحسن على ازيد من النقل معلوم من الخطابات التشريعية بحيث لا يرتاب فيه.

بل المراد بذلك ان العمل الذى ياتون به وله في نوعه ما هو حسن وما هو احسن فالله سبحانه يجزيه من الاجر على ما اتى به ما هو اجر الفرد الاحسن من نوعه فالصلاة التى يصليها الصابر في الله يجزيه الله سبحانه لها اجر الفرد الاحسن من الصلاة وان كانت ما صلاها غير احسن وبالحقيقة يستدعى الصبر ان لا يناقش في العمل ولا يحاسب ما هو عليه من الخصوصيات المقتضية لخسته ورداءته كما يفيده قوله تعالى: " انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب ".

ويستفاد من الاية ان الصبر في الله يوجب كمال العمل وفي قوله ولنجزينهم الخ التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير كما قيل والذى اظنه انه رجوع إلى السياق السابق في الايات وكان سياق التكلم مع الغير وانما الالتفات في قوله تعالى قبل بضع آيات ان الله يامر بالعدل والاحسان والوجه فيه ان هذه الاية وما بعدها من الايات المسرودة إلى هذه الغاية مشتملة على عدة من الاوامر والنواهي الالهية والانسب بالامر والنهى ان يستندا إلى اعظم مقامات مصدرهما واقواها ليتأيدا بذلك وهذه صناعة معمولة في المحاورات فيقال ان الملك يأمر بكذا وان مولاك يقول لك كذا ولا يقال فلان ابن فلان يأمر أو يقول.

 

/ صفحة 341 /

فكان من الانسب ان يسند هذه التكاليف إلى مقام الجلالة ويقال بالالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة ان الله يأمر بالعدل والاحسان الخ ولذلك استمر السياق على هذا النسق في التكاليف التالية ايضا فقيل: " واوفوا بعهد الله " الخ انما يبلوكم الله الخ ولو شاء الله الخ ولا تشتروا بعهد الله الخ وما عند الله باق.

ثم رجع إلى السياق السابق وهو التكلم مع الغير فقال: " ولنجزين الذين صبروا " وجرى على ذلك حتى إذا بلغ قوله فإذا قرأت القرآن وهو حكم التفت ثانيا فقال فاستعذ بالله واحسن ما يجلى المعنى الذى ذكرناه قوله تعالى بعده وإذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل حيث جمع بين الامرين فاسند تبديل آية مكان آية إلى ضمير التكلم والاعلمية إلى الله عز اسمه.

قوله تعالى: " من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " إلى آخر الاية.

وعد جميل للمؤمنين ان عملوا عملا صالحا وبشرى للاناث ان الله لا يفرق بينهن وبين الذكور في قبول ايمانهن ولا اثر عملهن الصالح الذى هو الاحياء بحياة طيبة والاجر باحسن العمل على الرغم مما بنى عليه اكثر الوثنية واهل الكتاب من اليهود والنصارى من حرمان المرأة من كل مزية دينية أو جلها وحط مرتبتها من مرتبة الرجل ووضعها وضعا لا يقبل الرفع البتة.

فقوله من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن حكم كلى من قبيل ضرب القاعدة لمن عمل صالحا أي من كان وقد قيده بكونه مؤمنا وهو في معنى الاشتراط فان العمل ممن ليس مؤمنا حابط لا يترتب عليه اثر كما قال تعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " المائدة: 5 وقال: " وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون " هود: 16.

 

وقوله فلنحيينه حياة طيبة الاحياء القاء الحياة في الشئ وافاضتها عليه فالجملة بلفظها دالة على ان الله سبحانه يكرم المؤمن الذى يعمل صالحا بحياة جديدة غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة وليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه وتبديل الخبيثة من الطيبة مع بقاء اصل الحياة على ما كانت عليه ولو كان كذلك

 

/ صفحة 342 /

لقيل فلنطيبن حياته.

فالاية نظيرة قوله: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " الانعام: 122 وتفيد ما يفيده من تكوين حياة ابتدائية جديدة.

وليس من التسمية المجازية لان الايات المتعرضة لهذا الشأن ترتب عليه آثار الحياة الحقيقية كقوله تعالى: " اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه " المجادلة: 22 وكقوله في آية الانعام المنقولة آنفا: " وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " فان المراد بهذا النور العلم الذى يهتدى به الانسان إلى الحق في الاعتقاد والعمل قطعا.

وكما ان له من العلم والادراك ما ليس لغيره كذلك له من موهبة القدرة على احياء الحق واماطة الباطل ما ليس لغيره وقد قال سبحانه: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " الروم: 47 وقال: " من آمن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " المائدة: 69.

وهذا العلم والقدرة الحديثان يمهدان له ان يرى الاشياء على ما هي عليها فيقسمها قسمين حق باق وباطل فان فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذى هو الحياة الدنيا بزخارفها الغارة الفتانة ويعتز بعزة الله فلا يستذله الشيطان بوساوسه ولا النفس بأهوائها وهوساتها ولا الدنيا بزهرتها لما يشاهد من بطلان امتعتها وفناء نعمتها.

ويتعلق قلبه بربه الحق الذى هو يحق كل حق بكلماته فلا يريد الا وجهه ولا يحب الا قربه ولا يخاف الا سخطه وبعده يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلدة لا يدبر امرها الا ربه الغفور الودود ولا يواجهها في طول مسيرها الا الحسن الجميل فقد احسن كل شئ خلقه ولا قبيح الا ما قبحه الله من معصيته.

فهذا الانسان يجد في نفسه من البهاء والكمال والقوة والعزة واللذة والسرور ما لا يقدر بقدر وكيف لا؟ وهو مستغرق في حياة دائمة لا زوال لها ونعمة باقية لا نفاد لها ولا ألم فيها ولا كدورة تكدرها وخير وسعادة لا شقاء معها هذا ما يؤيده الاعتبار وينطق به آيات كثيرة من القرآن لا حاجة إلى ايرادها على كثرتها.

فهذه آثار حيوية لا تترتب الا على حياة حقيقية غير مجازية وقد رتبها الله

 

/ صفحة 343 /

سبحانه على هذه الحياة التى يذكرها ويخصها بالذين آمنوا وعملوا الصالحات فهى حياة حقيقية جديدة يفيضها الله سبحانه عليهم.

وليست هذه الحياة الجديدة المختصة بمنفصلة عن الحياة القديمة المشتركة وان كانت غيرها فانما الاختلاف بالمراتب لا بالعدد فلا يتعدد بها الانسان كما ان الروح القدسية التى يذكرها الله سبحانه للانبياء لا توجب لهم الا ارتفاع الدرجة دون تعدد الشخصية.

هذا ما يعطيه التدبر في الاية الكريمة وهو حقيقة قرآنية وبه يظهر وجه توصيفها بالطيب في قوله حياة طيبة كأنها كما اتضح حياة خالصة لا خبث فيها يفسدها في نفسها أو في اثرها.

وللمفسرين في الاية وجوه من التفسير منها ان الحياة الطيبة هي الحياة التى تكون في الجنة فلا موت فيها ولا فقر ولا سقم ولا أي شقاء آخر.

ومنها انها الحياة التى تكون في البرزخ ولعل التخصيص من حمل ذيل الاية على جنة الاخرة.

ومنها انها الحياة الدنيوية المقارنة للقناعة والرضا بما قسم الله سبحانه فانها اطيب الحياة.

ومنها انها الرزق الحلال إذ لا عقاب عليه.

ومنها انها رزق يوم بيوم.

ووجوه المناقشة فيها لا تكاد تخفى على الباحث المتدبر فلا نطيل بايرادها.

وقوله: " ولنجزينهم اجرهم باحسن ما كانوا يعملون " تقدم الكلام فيه في الاية السابقة وفي معنى الاية قوله تعالى: " ومن عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب " المؤمن: 40.

قوله تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " الاستعاذة طلب المعاذ والمعنى إذا قرأت القرآن فاطلب منه تعالى ما دمت تقرؤه ان يعيذك من الشيطان الرجيم ان يغويك فالاستعاذة المأمور بها حال نفس القارئ ما دام يقرأ وقد أمر ان يوجدها لنفسه ما دام يقرأ واما قول القارئ اعوذ بالله من الشيطان

 

/ صفحة 344 /

الرجيم أو ما يشابهه من اللفظ فهو سبب لايجاد معنى الاستعاذة في النفس وليس بنفسها الا بنوع من المجاز وقد قال سبحانه استعذ بالله ولم يقل قل اعوذ بالله.

وبذلك يظهر ان قول بعضهم ان المراد بالقراءة ارادتها فهى مجاز مرسل من قبيل اطلاق المسبب وارادة السبب لا يخلو عن تساهل.

قوله تعالى: " انه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون " في مقام التعليل للامر الوارد في الاية السابقة أي استعذ بالله حين القراءة ليعيذك منه لانه ليس له سلطان على من آمن بالله وتوكل عليه.

 

ويظهر من الاية اولا ان الاستعاذة بالله توكل عليه فانه سبحانه بدل الاستعاذة في التعليل من التوكل ونفى سلطانه عن المتوكلين.

وثانيا ان الايمان والتوكل ملاك صدق العبودية كقوله تعالى لابليس: " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين " الحجر: 42 فنفى سلطانه عن عباده وقد بدل العباد في هذه الاية من الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والاعتبار يساعد عليه فان التوكل وهو القاء زمام التصرف في امور نفسه إلى غيره والتسليم لما يؤثره له منها اخص آثار العبودية.

قوله تعالى: " انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون " ضمائر الافراد الثلاثة للشيطان أي ينحصر سلطان الشيطان في الذين يتخذونه وليا لهم يدبر امورهم كما يريد وهم يطيعونه وفي الذين يشركون به إذ يتخذونه وليا من دون الله وربا مطاعا غيره فان الطاعة عبادة كما يشير إليه قوله: " ألم اعهد اليكم يا بنى آدم ان لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وان اعبدوني " يس: 61.

وبذلك يظهر اولا ان ذيل الاية يفسر صدرها وان تولى من لم يأذن الله في توليه شرك بالله وعبادة لغيره.

وثانيا ان لا واسطة بين التوكل على الله وتولى الشيطان وعبادته فمن لم يتوكل على الله فهو من اولياء الشيطان.

وربما قيل ان ضمير الافراد في قوله: " والذين هم به مشركون " راجع إليه

 

/ صفحة 345 /

تعالى وتفيد الاية حينئذ ان سلطانه على طائفتين المشركين والذين يتولونه من الموحدين هذا ولزوم اختلاف الضمائر يدفعه.

قوله تعالى: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله اعلم بما ينزل قالوا انما انت مفتر بل اكثرهم لا يعلمون " اشارة إلى النسخ وحكمته وجواب عما اتهموه (صلى الله عليه وآله وسلم) به من الافتراء على الله والظاهر من سياق الايات ان القائلين هم المشركون وان كانت اليهود هم المتصلبين في نفى النسخ ومن المحتمل ان تكون الكلمة مما تلقفه المشركون من اليهود فكثيرا ما كانوا يراجعونهم في امر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية " قال في المفردات الابدال والتبديل والتبدل والاستبدال جعل شئ مكان آخر وهو اعم من العوض فان العوض هو ان يصير لك الثاني باعطاء الاول والتبديل قد يقال للتغيير مطلقا وان لم يأت ببدله قال تعالى: " فبدل الذين ظلموا قولا غير الذى قيل لهم " إلى ان قال وقال تعالى: " فمن بدله بعد ما سمعه " وإذا بدلنا آية مكان آية و " بدلناهم بجنتيهم جنتين " " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة " انتهى موضع الحاجة.

فالتبديل بمعنى التغيير يخالف التبديل بمعناه المعروف في ان مفعوله الاول هو المأخوذ والمطلوب بخلافه بالمعنى المعروف فمعنى قوله وإذا بدلنا آية مكان آية معناه وضعنا الاية الثانية مكان الاولى بالتغيير فكانت الثانية المبدلة هي الباقية المطلوبة.

وقوله: " والله اعلم بما ينزل " كناية عن ان الحق لم يتعد مورده وان الذين انزله هو الحقيق بان ينزل فان الله اعلم به منهم والجملة حالية.

وقوله قالوا انما انت مفتر القول للمشركين يخاطبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتهمونه بانه يفترى على الله الكذب فان تبديل قول مكان قول والثبات على رأي ثم العدول عنه مما يتنزه عنه ساحة رب العزة.

وقد بالغوا في قولهم إذ لم يقولوا افتريت في هذا التبديل والنسخ بل قالوا انما انت مفتر فقصروه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الافتراء واتوا بالجملة الاسمية وسموه مفتريا وقد بنوا ذلك على ان ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سنخ واحد وهو يسند الجميع إلى ربه ويقول انما انا نذير فإذا كان مفتريا في واحد كان مفتريا في الجميع فليس الا مفتريا.

 

/ صفحة 346 /

وقوله: " بل اكثرهم لا يعلمون " أي اكثر هؤلاء المشركين الذين يتهمونك بقولهم انما انت مفتر لا يعلمون حقيقة هذا التبديل والحكمة المؤدية إليه على ما سينكشف في الجواب ان الاحكام الالهية تابعة لمصالح العباد ومن المصالح ما يتغير بتغير الاوضاع والاحوال والازمنة فمن الواجب ان يتغير الحكم بتغير مصلحته فينسخ الحكم الذى ارتفعت مصلحته الموجبة له بحكم آخر حدثت مصلحته.

فاكثر هؤلاء غافلون عن هذا الامر واما الاقل منهم فهم واقفون على حقيقة الامر ولو اجمالا غير انهم مستكبرون على الحق معاندون له وانما يلقون القول القاء من غير رعاية جانب الحق.

قوله تعالى: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين " قد تقدمت في اول السورة اشارة إلى معنى الروح والقدس الطهارة والنزاهة والظاهر ان الاضافة للاختصاص أي روح طاهرة عن قذارات المادة نزيهة عن الخطأ والغلط والضلال وهو المسمى في موضع آخر من كلامه تعالى بالروح الامين وفي موضع آخر بجبريل من الملائكة قال تعالى: " نزل به الروح الامين على قلبك " الشعراء: 194 وقال: " من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك " البقرة: 97.

 

فقوله قل نزله روح القدس من ربك امر بالجواب والاسبق إلى الذهن ان يكون الضمير راجعا إلى القرآن من جهة كونه ناسخا أي الاية الناسخة ويمكن ان يكون راجعا إلى مطلق القرآن وفي التعبير بالتنزيل دون الانزال اشارة إلى التدريج.

وكان من طبع الكلام ان يقال من ربى لكن عدل عنه إلى قوله من ربك للدلالة على كمال العناية والرحمة في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنه لا يرضى بانقطاع خطابه فيغتنم الفرصة لتكليمه اينما امكن وليدل على ان المراد بالقول المأمور به اخبارهم بذلك لا مجرد التلفظ بهذه الالفاظ فافهم.

وقوله: " ليثبت الذين آمنوا " التثبيت تحكيم الثبات وتأكيده بالقاء الثبات بعد الثبات عليهم كأنهم بأصل ايمانهم بالله ورسوله واليوم الاخر ثبتوا على الحق وبتجدد الحكم حسب تجدد المصلحة يؤتون ثباتا على ثبات من غير ان يضعف ثباتهم الاول بالمضي

 

/ صفحة 347 /

على اعمال لا تطابق مصلحه الوقت فان من الواضح ان من امر بسلوك سبيل لمصلحة غاية فاخذ بسلوكه عن ايمان بالآمر الهادى فقطع قطعة منه على حسب ما يأمره به رعاية لمصلحة الغاية بسرعة أو بطء أو في ليل أو نهار ثم تغير نحو المصلحة فلو لم يغير الآمر الهادى نحو السلوك واستمر على امره السابق لضعف ايمان السالك وانسلب اركانه لكن لو امر بنحو جديد من السلوك يوافق المصلحة ويضمن السعادة زاد ايمانه ثباتا على ثبات.

ففى تنزيل القرآن بالنسخ وتجديد الحكم حسب تجدد المصلحة تثبيت للذين آمنوا واعطاء لهم ثباتا على ثبات.

وقوله وهدى وبشرى للمسلمين وهم الذين يسلمون الحكم لله من غير اعتراض فالاية الناسخة بالنسبة إليهم اراءة طريق وبشارة بالسعادة والجنة.

وتفريق الاثار بتخصيص التثبيت بالمؤمنين والهدى والبشرى بالمسلمين انما هو لما بين الايمان والاسلام من الفرق فالايمان للقلب ونصيبه التثبت في العلم والاذعان والاسلام في ظاهر العمل ومرحلة الجوارح ونصيبها الاهتداء إلى واجب العمل والبشرى بأن الغاية هي الجنة والسعادة.

وقد مر بعض الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة: 106 في الجزء الاول من الكتاب.

قوله تعالى: " ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر " افتراء آخر منهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو قولهم انما يعلمه بشر وهو كما يلوح إليه سياق اعتراضهم وما ورد في الجواب عنه انه كان هناك رجل اعجمي غير فصيح في منطقه عنده شئ من معارف الاديان واحاديث النبوة ربما لاقاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاتهموه بانه ياخذ ما يدعيه وحيا منه والرجل هو الذى يعلمه وهو الذى حكاه الله تعالى من قولهم انما يعلمه بشر وفي القول ايجاز وتقديره انما يعلمه بشر وينسب من تعلمه منه إلى الله افتراء عليه وهو ظاهر.

ومن المعلوم ان الجواب عنه بمجرد ان لسان الرجل اعجمي والقرآن عربي مبين لا يحسم مادة الشبهة من اصلها لجواز ان يلقى إليه المطالب بلسانه الاعجمي ثم يسبكها

 

/ صفحة 348 /

هو (صلى الله عليه وآله وسلم) ببلاغة منطقه في قالب العربية الفصيحة بل هذا هو الاسبق إلى الذهن من قولهم انما يعلمه بشر حيث عبروا عن ذلك بالتعليم دون التلقين والاملاء والتعليم اقرب إلى المعاني منه إلى الالفاظ.

وبذلك يظهر ان قوله لسان الذى يلحدون إليه إلى قوله مبين ليس وحده جوابا عن شبهتهم بل ما يتلوه من الكلام إلى تمام آيتين من تمام الجواب.

وملخص الجواب مأخوذ من جميع الايات الثلاث ان ما اتهمتموه به ان بشرا يعلمه ثم هو ينسبه إلى الله افتراء ان اردتم انه يعلمه القرآن بلفظه بالتلقين عليه وان القرآن كلامه لا كلام الله فجوابه ان هذا الرجل لسانه اعجمي وهذا القرآن عربي مبين.

وان اردتم ان الرجل يعلمه معاني القرآن واللفظ لا محالة للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ينسبه إلى الله افتراء عليه فالجواب عنه ان الذى يتضمنه القرآن معارف حقة لا يرتاب ذو لب فيها وتضطر العقول إلى قبولها قد هدى الله النبي إليها فهو مؤمن بايات الله إذ لو لم يكن مؤمنا لم يهده الله والله لا يهدى من لا يؤمن باياته واذ كان مؤمنا بايات الله فهو لا يفترى على الله الكذب فانه لا يفترى عليه الا من لا يؤمن باياته فليس هذا القرآن بمفترى ولا مأخوذا من بشر ومنسوبا إلى الله سبحانه كذبا.

فقوله: " لسان الذى يلحدون إليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين " جواب عن اول شقى الشبهة وهو ان يكون القرآن بلفظه مأخوذا من بشر على نحو التلقين والمعنى ان لسان الرجل الذى يلحدون أي يميلون إليه وينوونه بقولهم انما يعلمه بشر اعجمي أي غير فصيح بين وهذا القرآن المتلو عليكم لسان عربي مبين وكيف يتصور صدور بيان عربي بليغ من رجل اعجمي اللسان؟ وقوله ان الذين لا يؤمنون إلى آخر الايتين جواب عن ثانى شقى الشبهة وهو ان يتعلم منه المعاني ثم ينسبها إلى الله افتراء.

 

والمعنى ان الذين لا يؤمنون بايات الله ويكفرون بها لا يهديهم الله إليه وإلى معارفه الحقة الظاهرة ولهم عذاب أليم والنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤمن بايات الله لانه مهدى بهداية الله وانما يفترى الكذب وينسبه إلى الله الذين لا يؤمنون بايات الله واولئك هم الكاذبون المستمرون على الكذب واما مثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤمن بايات الله فانه لا

 

/ صفحة 349 /

يفترى الكذب ولا يكذب فالايتان كنايتان عن ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهدى بهداية الله مؤمن باياته ومثله لا يفترى ولا يكذب.

والمفسرون قطعوا الايتين عن الاية الاولى وجعلوا الاية الاولى هي الجواب الكامل عن الشبهة وقد عرفت انها لا تفى بتمام الجواب.

ثم حملوا قوله وهذا لسان عربي مبين على التحدي باعجاز القرآن في بلاغته وانت تعلم ان لا خبر في لفظ الاية عن ان القرآن معجز في بلاغته ولا اثر عن التحدي ونهاية ما فيه انه عربي مبين لا وجه لان يفصح عنه ويلفظه اعجمي.

ثم حملوا الايتين التاليتين على تهديد اولئك الكفرة بايات الله الرامين لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالافتراء ووعيدهم بالعذاب الاليم وقلب الافتراء والكذب إليهم بانهم اولى بالافتراء والكذب بما انهم لا يؤمنون بايات الله فان الله لم يهدهم.

ثم تكلموا بالبناء عليه في مفردات الايتين بما يزيد في الابتعاد عن حق المعنى.

وقد عرفت ان ذلك يؤدى إلى عدم كفاية الجواب في حسم الاشكال من اصله.

(بحث روائي) في الدر المنثور اخرج احمد عن عثمان بن ابى العاصى قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره فقال - اتانى جبريل فأمرني ان اضع هذه الاية بهذا الموضع من السورة: " ان الله يأمر بالعدل والاحسان إلى قوله تذكرون ".

اقول ورواه ايضا عن ابن عباس عن عثمان بن مظعون رضى الله عنه.

وفي المجمع وجاءت الرواية ان عثمان بن مظعون قال كنت اسلمت استحياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - لكثرة ما كان يعرض على الاسلام ولم يقر الاسلام في قلبى فكنت ذات يوم عنده حال تأمله - فشخص بصره نحو السماء كأنه يستفهم شيئا - فلما سرى عنه سألته عن حاله فقال: نعم بينا انا احدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الاية: " ان الله يأمر بالعدل والاحسان " فقرأها علي إلى آخرها فقر الاسلام في قلبى.

واتيت عمه ابا طالب فاخبرته فقال: يا آل قريش اتبعوا محمدا ترشدوا فانه لا

 

/ صفحة 350 /

يأمركم الا بمكارم الاخلاق وأتيت الوليد بن المغيره وقرأت عليه هذه الاية فقال: ان كان محمد قاله فنعم ما قال وان قاله ربه فنعم ما قال.

قال فانزل الله: " أفرأيت الذى تولى واعطى قليلا واكدى " الحديث.

وفيه عن عكرمة قال ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الاية على الوليد بن المغيرة فقال يا بن اخى اعد فأعاد فقال ان له لحلاوة وان له لطلاوة وان اعلاه لمثمر وان اسفله لمعذق وما هو قول البشر.

وفي تفسير القمى باسناده عن اسماعيل بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) في الاية ليس لله في عباده أمر الا العدل والاحسان.

وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن عمرو بن عثمان قال خرج علي (عليه السلام) على اصحابه وهم يتذاكرون المروءة فقال اين انتم من كتاب الله؟ قالوا يا امير المؤمنين في أي موضع؟ فقال في قوله عز وجل: " ان الله يأمر بالعدل والاحسان " فالعدل الانصاف والاحسان التفضل.

اقول ورواه العياشي عن عمرو بن عثمان العاصى عنه (عليه السلام) ورواه في الدر المنثور عن ابن النجار في تاريخه من طريق العكلى عن ابيه عنه (عليه السلام) ولفظه مر على بن ابى طالب بقوم يتحدثون فقال فيم انتم؟ فقالوا نتذاكر المروءة فقال أو ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول الله إن الله يامر بالعدل والاحسان فالعدل الانصاف والاحسان التفضل.

اقول وقد ورد في عدة روايات تفسير العدل بالتوحيد أو بالشهادتين وتفسير الاحسان بالولاية وفي اخرى ارجاع تحريم نقض العهد بوجوب الثبات على الولاية.

وفي تفسير القمى في قوله تعالى من عمل صالحا من ذكر أو انثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الاية قال قال (عليه السلام): القنوع وفي المعاني باسناده عن ابن ابى عمير عن بعض اصحابه عن ابى عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له ان ابا الخطاب يذكر عنك انك قلت - إذا عرفت الحق فاعمل بما شئت فقال لعن الله ابا الخطاب والله ما قلت هكذا - ولكني قلت له إذا عرفت الحق فاعمل ما شئت من خير يقبل منك - ان الله عز وجل يقول من عمل صالحا من

/ صفحة 351 /

ذكر أو انثى - وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويقول من عمل صالحا من ذكر أو انثى - وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة.

اقول وهو ما قدمناه في معنى الاية.

وفي الكافي باسناده عن ابى بصير عن ابى عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله - إلى قوله يتوكلون فقال يا محمد يسلط والله من المؤمن على بدنه ولا يسلط على دينه قد سلط على ايوب فشوه خلقه ولم يسلط على دينه وقد يسلط من المؤمنين على ابدانهم ولا يسلط على دينهم.

قلت له قوله عز وجل انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون قال الذين هم بالله مشركون يسلط على ابدانهم وعلى اديانهم.

اقول ورواه العياشي عن ابى بصير عنه (عليه السلام) وارجاع ضمير به إلى الله احد المعنيين في الاية.

وفي الدر المنثور اخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عباس ": في قوله انما يعلمه بشر قال قالوا - انما يعلم محمدا عبدة بن الحضرمي وهو صاحب الكتب فقال الله لسان الذى يلحدون إليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين وفي تفسير العياشي عن محمد بن عزامة الصيرفى عمن اخبره عن ابى عبد الله (عليه السلام) قال: ان الله عز وجل خلق روح القدس - فلم يخلق خلقا اقرب إلى الله منها وليست بأكرم خلقه عليه فإذا اراد امرا القاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به قوله تعالى (1) ولقد نعلم انهم يقولون - انما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه وهو لسان ابى فكيهة مولى بنى الحضرمي - كان اعجمي اللسان - وكان قد اتبع نبى الله وآمن به وكان من اهل الكتاب فقالت قريش - هذا والله يعلم محمدا علمه بلسانه يقول الله وهذا لسان عربي مبين.

 

 

* (هامش) *

(1) هذا الذيل مذكور في تفسير البرهان نقلا عن العياشي لكنه غير موجود في النسخة المطبوعة اخيرا من التفسير.

(*)

 

/ صفحة 352 /

اقول والروايات في هذا الرجل مختلفة ففى هذه الرواية انه أبو فكيهة مولى بنى الحضرمي وفي الرواية السابقة انه عبدة بن الحضرمي وعن قتادة انه عبدة بن الحضرمي وكان يسمى مقيص وعن السدى انه كان عبدا لبنى الحضرمي نصرانيا كان قد قرأ التوراة والانجيل يقال له أبو بشر وعن مجاهد انه ابن الحضرمي كان اعجميا يتكلم بالرومية وعن ابن عباس ايضا في رواية انه كان قينا بمكة اسمه بلعام وكان عجمى اللسان فكان المشركون يرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدخل عليه ويخرج من عنده فقالوا انما يعلمه بلعام.

والمتيقن من مضامينها انه كان رجلا روميا مولى لبنى الحضرمي يسكن مكة نصرانيا له خبرة بكتب اهل الكتاب رموه بانه يعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن الضحاك في الاية قال: كانوا يقولون انما يعلمه سلمان الفارسى فأنزل الله لسان الذى يلحدون إليه اعجمي اقول وهو لا يلائم كون الاية مكية.

وفيه اخرج ابن الخرائطي في مساوى الاخلاق وابن عساكر في تاريخه عن عبد الله ابن جراد انه سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هل يزنى المؤمن؟ قال - قد يكون ذلك قال هل يسرق المؤمن؟ قال قد يكون ذلك قال هل يكذب المؤمن؟ قال لا ثم اتبعها نبى الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون وفي تفسير العياشي عن العباس بن الهلال عن ابى الحسن الرضا (عليه السلام): انه ذكر رجلا كذابا ثم قال قال الله انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون

* * *

 من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم - 106 ذلك بانهم استحبوا الحياة الدنيا على

 

/ صفحة 353 /

الاخرة وان الله لا يهدى القوم الكافرين - 107 اولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم واولئك هم الغافلون - 108 لا جرم انهم في الاخرة هم الخاسرون - 109 ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم - 110 يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون - 111 (بيان) في الايات وعيد على الكفر بعد الايمان وهو الارتداد ووعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا المجاهدين الصابرين في الله وفيها تعرض لحكم التقية.

قوله تعالى: " من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من اكره " الاطمئنان السكون والاستقرار والشرح البسط قال في المفردات اصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال شرحت اللحم وشرحته ومنه شرح الصدر أي بسطه بنور الهى وسكينة من جهة الله وروح منه قال تعالى: " رب اشرح لى صدري ألم نشرح لك صدرك " أفمن شرح الله صدره وشرح المشكل من الكلام بسطه واظهار ما يخفى من معانيه انتهى.

وقوله من كفر بالله من بعد ايمانه شرط جوابه قوله فعليهم غضب من الله وعطف عليه قوله ولهم عذاب عظيم وضمير الجمع في الجزاء عائد إلى اسم الشرط من لكونه بحسب المعنى كليا ذا افراد.

وقوله إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان استثناء من عموم الشرط والمراد

 

/ صفحة 354 /

بالاكراه الاجبار على كلمة الكفر والتظاهر به فان القلب لا يقبل الاكراه والمراد استثنى من اكره على الكفر بعد الايمان فكفر في الظاهر وقلبه مطمئن بالايمان وقوله ولكن من شرح بالكفر صدرا أي بسط صدره للكفر فقبله قبول رضى ووعاه والجملة استدراك من الاستثناء فيعود إلى معنى المستثنى منه فان المعنى ما اريد بقولى من كفر بالله من بعد ايمانه من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن اريد به من شرح بالكفر صدرا وفي مجموع الاستثناء والاستدراك بيان كامل للشرط وهذه هي النكتة لاعتراض الاستثناء بين الشرط والجزاء وعدم تأخيره إلى ان تتم الشرطية.

وقيل قوله من كفر بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله في الاية السابقة وقوله واولئك هم الكاذبون جملة معترضة وقوله الا من اكره استثناء من ذلك وقوله ولكن من شرح مبتدأ خبره أو القائم مقام خبره قوله فعليهم غضب من الله.

والمعنى على هذا انما يفترى الكذب الذين كفروا من بعد ايمانهم إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وعند ذلك تم الكلام ثم بدأ فقال ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله.

والذوق السليم يكفى مؤنة هذا الوجه على ما به من السخافة.

قوله تعالى: " ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الاخرة وان الله لا يهدى القوم الكافرين " بيان لسبب حلول غضب الله بهم وثبوت العذاب العظيم عليهم وهو انهم اختاروا الحياة الدنيا وهى الحياة المادية التى لا غاية لها الا التمتع الحيوانى والاشتغال بمشتهيات النفس على الاخرة التى هي حياة دائمة مؤبدة في جوار رب العالمين وهى غاية الحياة الانسانية.

وبعبارة اخرى هؤلاء لم يريدوا الا الدنيا وانقطعوا عن الاخرة وكفروا بها والله لا يهدى القوم الكافرين واذ لم يهدهم الله ضلوا عن طريق السعادة والجنة والرضوان فوقعوا في غضب من الله وعذاب عظيم.

قوله تعالى: " اولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم واولئك

 

/ صفحة 355 /

هم الغافلون اشارة إلى ان اختيار الحياة الدنيا على الاخرة والحرمان من هداية الله سبحانه هو الوصف الذى يوصف به الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم والذين يسمون غافلين.

فانهم باختيارهم الحياة الدنيا غاية لانفسهم وحرمانهم من الاهتداء إلى الاخرى انقطعوا عن الاخرة وتعلقوا بالدنيا وجعلوها غاية لانفسهم فوقف حسهم وعقلهم فيها دون ان يتعدياها إلى ما وراءها وهو الاخرة فليسوا يبصرون ما يعتبرون به ولا يسمعون عظة يتعظون بها ولا يعقلون حجة يهتدون بها إلى الاخرة.

فهم مطبوع على قلوبهم وسمعهم وابصارهم فلا تنال قلوبهم ولا سمعهم وابصارهم ما يدلهم على الاخرة وهم غافلون عنها لا يتنبهون لشئ من امرها.

فظهر ان ما في الاية السابقة من الوصف بمنزلة المعرف لما في هذه الاية من الطبع ومن الغفلة فعدم هداية الله اياهم اثر ما تعلقوا بالدنيا هو معنى الطبع والغفلة والطبع صنع الهى منسوب إليه تعالى فعله بهم مجازاة والغفلة صفة منسوبة إليهم انفسهم.

قوله تعالى: " لا جرم انهم في الاخرة هم الخاسرون لانهم ضيعوا رأس مالهم في الدنيا فبقوا لا زاد لهم يعيشون به في اخراهم وقد وقع في نظير المقام من سورة هود: " لا جرم انهم في الاخرة هم الاخسرون " هود: 22 ولعل وجه التشديد هناك انه تعالى اضاف إلى صفاتهم هناك انهم صدوا عن سبيل الله فراجع.

قوله تعالى: " ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم " الفتنة في الاصل ادخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق البلاء والتعذيب وقد كانت قريش ومشركو مكة يفتنون المؤمنين ليردوهم عن دينهم ويعذبونهم بانواع العذاب حتى ربما كانوا يموتون تحت العذاب كما فتنوا عمارا وأباه وامه فقتل ابواه وارتد عمار ظاهرا فتفصى منهم بالتقية وفي ذلك نزلت الايات السابقة كما سيأتي ان شاء الله في البحث الروائي.

ومن هنا يظهر ان للاية اتصالا بما قبلها من قوله الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وهى في معنى قولنا وبعد ذلك كله ان الله غفور رحيم للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا.

 

/ صفحة 356 /

فقوله ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا وعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا بالمغفرة والرحمة يوم القيامة قبال ما اوعد غيرهم بالخسران التام يومئذ وقد قيد ذلك بالجهاد والصبر بعد المهاجرة وقوله ان ربك من بعدها لغفور رحيم بمنزلة تلخيص صدر الكلام لطوله ليلحق به ذيله ويفيد فائدة التأكيد كقولنا زيد في الدار زيد في الدار كذا وكذا ويفيد ان لما ذكر من قيود الكلام دخلا في الحكم فالله سبحانه لا يرضى عنهم الا أن يهاجروا ولا عن هجرتهم الا ان يجاهدوا بعدها ويصبروا.

قوله تعالى: " يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون " اتيان النفس يوم القيامة كناية عن حضورها عند الملك الديان كما قال فانهم لمحضرون " الصافات - 127 والضمير في قوله عن نفسها للنفس ولا ضير في اضافة النفس إلى ضمير النفس فان النفس ربما يراد بها الشخص الانساني كقوله " من قتل نفسا بغير نفس " المائدة: 22 وربما يراد بها التأكيد ويتحدد معناها بما تقدمها من المؤكد سواء كان انسانا أو غيره كما يقال الانسان نفسه والفرس نفسه والحجر نفسه والسواد نفسه ويقال نفس الانسان ونفس الفرس ونفس الحجر ونفس السواد وقوله عن نفسها المراد فيه بالمضاف المعنى الثاني وبالمضاف إليه المعنى الاول وقد دفع التعبير بالضمير بشاعة تكرار اللفظ بالاضافة وفي هذا المقدار كفاية عن الابحاث الطويلة التى اوردها المفسرون.

وقوله يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها الظرف متعلق بقوله في الاية السابقة لغفور رحيم ومجادلة النفس عن نفسها دفاعها عن نفسها وقد نسيت كل شئ وراء نفسها على خلاف ما كانت عليه في الدنيا من التعلق بكل شئ دون نفسها بنسيانها وليس ذلك الا لظهور حقيقة الامر عليها وهى ان الانسان لا سبيل له إلى ما وراء نفسه وليس له في الحقيقة الا ان يشتغل بنفسه.

فاليوم تأتى النفس وتحضر للحساب وهى تجادل وتصر على الدفاع عن نفسها بما تقدر عليه من الاعذار.

وقوله وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون التوفية اعطاء الحق تاما

 

/ صفحة 357 /

من غير تنقيص وقد علق التوفية على نفس العمل إذ قيل ما عملت فأفيد ان الذى اعطيته نفس العمل من غير ان يتصرف فيه بتغيير أو تعويض وفيه كمال العدل حيث لم يضف إلى ما استحقته شئ ولا نقص منه ولذلك عقبه بقوله وهم لا يظلمون ففى الاية اشارة اولا إلى ان نفسا لا تدافع يوم القيامة ولا تجادل عن غيرها بل انما تشتغل بنفسها لا فراغ لها لغيرها كما قال: " يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا " الدخان - 41 وقال: " يوم لا ينفع مال ولا بنون " الشعراء - 88 وقال: " يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " البقرة: 254.

وثانيا إلى ان الجدال لا ينفعها في صرف ما استحقتها من الجزاء شيئا فان الذى تجزاه هو عين ما عملت ولا سبيل إلى تغيير هذه النسبة وليس من الظلم في شئ.

(بحث روائي) في الدر المنثور اخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال ": لما اراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يهاجر إلى المدينة قال لاصحابه - تفرقوا عنى فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل - ومن لم تكن به قوة فليذهب في اول الليل - فإذا سمعتم بى قد استقرت بى الارض فالحقوا بى.

فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار - وجاريه من قريش كانت اسلمت فاصبحوا بمكة فاخذهم المشركون وابو جهل فعرضوا على بلال - ان يكفر فأبى فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس - ثم يلبسونها اياه فإذا البسوها اياه قال أحد أحد واما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك - واما عمار فقال لهم كلمه اعجبتهم تقية - واما الجارية فوتد لها أبو جهل اربعة اوتاد ثم مدها فادخل الحربة في قلبها حتى قتلها ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - فاخبروه بالذى (كان) من امرهم واشتد على عمار الذى كان تكلم به فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - كيف كان قلبك حين قلت الذى قلت؟ أكان منشرحا بالذى قلت ام لا؟ قال لا قال - وانزل الله الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان.

 

/ صفحة 358 /

اقول والجارية المذكورة في الرواية هي سمية ام عمار وكان معهم ياسر أبو عمار وقيل وكان أبو عمار اول شهيدين في الاسلام وقد استفاضت الروايات على قتلهما بالفتنة واظهار عمار الكفر تقية ونزول الاية فيه.

وفيه اخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن ابى حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل من طريق ابى عبيدة بن محمد بن عمار عن ابيه قال ": اخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه.

فلما اتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ما وراءك شئ؟ قال شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير - قال كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالايمان قال ان عادوا فعد فنزلت الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وفي المجمع عن ابن عباس وقتاده ": ان الاية نزلت في جماعة اكرهوا - وهم عمار وياسر ابوه وامه سمية وصهيب وبلال وخباب عذبوا وقتل أبو عمار وامه وأعطاهم عمار بلسانه - ما ارادوا منه ثم اخبر سبحانه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال قوم كفر عمار فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا ان عمارا ملئ ايمانا من قرنه إلى قدمه - واختلط الايمان بلحمه ودمه.

وجاء عمار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يبكى - فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ما وراءك؟ فقال شر يا رسول الله - ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح عينيه ويقول ان عادوا لك فعد لهم بما قلت فنزلت الاية وفي الدر المنثور اخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم قال كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدرى ما يقول - وكان صهيب يعذب حتى لا يدرى ما يقول - وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدرى ما يقول - وبلال وعامر وابن فهيرة وقوم من المسلمين - وفيهم نزلت هذه الاية " ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ".

اقول وسمى منهم في بعض الروايات عباس بن ابى ربيعة وفي بعضها الاخر هو والوليد بن ابى ربيعة والوليد بن الوليد بن المغيرة وابو جندل بن سهيل بن عمرو واجمع رواية في ذلك ما عن ابن عباس ان هذه الاية نزلت فيمن كان يفتن من اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا

 

/ صفحة 359 /

وفي الكافي باسناده عن ابى عمرو الزبيري عن ابى عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: فاما ما فرض على القلب من الايمان - الاقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا اله الا الله وحده لا شريك له الها واحدا - لم يتخذ صاحبة ولا ولدا - وان محمدا عبده ورسوله - والاقرار بما جاء به من عند الله من نبى أو كتاب - فذلك ما فرض الله على القلب من الاقرار والمعرفة - وهو عمله وهو قول الله عز وجل " الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان - ولكن من شرح بالكفر صدرا " وفيه باسنادة عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لابي عبد الله (عليه السلام) ان الناس يروون إن عليا (عليه السلام) قال على منبر الكوفة - يا ايها الناس انكم ستدعون إلى سبى فسبوني ثم تدعون إلى البراءة منى فلا تبرؤوا منى - قال ما اكثر ما يكذبون الناس على علي (عليه السلام) ثم قال انما قال انكم ستدعون إلى سبى فسبوني - ثم تدعون إلى البراءة وانى لعلى دين محمد - ولم يقل ولا تبرؤوا منى.

فقال له السائل أرايت ان اختار القتل دون البراءة؟ قال والله ما ذاك عليه وما له - الا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث اكرهه اهل مكة - وقلبه مطمئن بالايمان فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندها يا عمار ان عادوا فعد فقد انزل الله عذرك الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وأمرك ان تعود إن عادوا اقول وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن معمر بن يحيى بن سالم عن ابى جعفر (عليه السلام) وقوله (عليه السلام) وامرك ان تعود ان عادوا يستفاد ذلك من الاية حيث لم يرد الاستثناء فيها من الشخص بل وردت على العنوان وهو اكراه من اطمأن قلبه بالايمان واما كونه امرا منه تعالى كما امر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلعل الوجه ان صريح الاستثناء هو الجواز ومع جواز ذلك لا مساغ للاباء الذى هو عرض النفس للقتل والقاؤها في التهلكة فيجامع هذا الجواز الوجوب دون الاباحة.

وفي تفسير العياشي عن عمرو بن مروان قال سمعت ابا عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رفع عن امتى اربعة خصال - ما اخطأوا وما نسوا وما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وذلك في كتاب الله " الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان "

* * *

 

 

/ صفحة 360 /

وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون - 112 ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون - 113 فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله ان كنتم اياه تعبدون - 114 انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم - 115 ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون - 116 متاع قليل ولهم عذاب أليم - 117 وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون - 118 ثم ان ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم - 119 إن ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين - 120 شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم - 121 وآتيناه في الدنيا حسنة وانه في الاخرة لمن الصالحين - 122 ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين - 123

 

/ صفحة 361 /

انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وان ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون - 124 ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين - 125 وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين - 126 واصبر وما صبرك الا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون - 127 ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون - 128 (بيان) تتمة آيات الاحكام السابقة تذكر فيها محرمات الاكل ومحللاته ونهى عن التحليل والتحريم ابتداعا بغير اذن الله وذكر بعض ما شرع لليهود من الاحكام التى نسخت بعد وفي ذلك عطف على ما تقدم من حديث النسخ في قوله وإذا بدلنا آية مكان آية واشارة إلى ان ما انزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انما هو دين ابراهيم (عليه السلام) المبنى على الاعتدال والتوحيد مرفوعا عنه ما في دين اليهود من التشديد عليهم قبال ظلمهم.

 

وفي آخرها امر بالعدل في المعاقبة وندب إلى الصبر والاحتساب ووعد جميل بالنصرة والكفاية ان اتقوا واحسنوا.

قوله تعالى: " ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا " إلى آخر الاية الرغد من العيش هو الواسع الطيب.

هذا مثل ضربه الله تعالى فوصف فيه قرية آتاها ما تحتاج إليه من نعم الحياة وأتم ذلك كله بنبى بعثه إليهم يدعوهم إلى ما فيه صلاح دنياهم واخراهم فكفروا بأنعمه وكذبوا رسوله فبدل الله نعمته نقمة وعذبهم بما ظلموا بتكذيب رسوله وفي المثل

 

/ صفحة 362 /

تحذير عن كفران نعمة الله بعد إذ بذلت والكفر باياته بعد إذ انزل وفيه توطئة وتمهيد لما سيذكره من محللات الاكل ومحرماته وينهى عن تشريع الحلال والحرام بغير اذن الله كل ذلك بالاستفادة من سياق الايات فان كل سابقة منها تسوق النظر إلى اللاحقة.

وقيل ان هذه القرية هي مكة عذبهم الله بالجوع سبع سنين لما كفروا بأنعم الله وقد وسعها عليهم وكذبوا رسوله وقد ارسله إليهم فابتلوا بالقحط وكان يغار عليهم قوافلهم بسخط من الله سبحانه لما دعا عليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكره في المجمع ونسبه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة.

وفيه ان لا اشكال في انه في نفسه يقبل الانطباق على ما ذكر لكن سياق الايات انما يلائم كونه مثلا عاما مذكورا توطئة وتمهيدا لما بيناه.

فقوله ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا وصف القرية بثلاثة اوصاف متعاقبة غير ان الاوسط منها وهى الاطمئنان كالرابط بين الطرفين فان القرية إذا أمنت المخاطرات كمهاجمة الاشرار وشن الغارات وقتل النفوس وسبى الذرارى ونهب الاموال وكذا أمنت الحوادث الطبيعية كالزلازل وغيرها اطمأنت وسكنت فلم يضطر اهلها إلى الجلاء والتفرق.

ومن كمال اطمئنانها ان يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ولا يلجأ اهلها إلى الاغتراب وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمل المشاق البالغة في طلب الرزق وجلبه إليها.

فاتصاف القرية بصفاتها الثلاث المذكورة الامن والاطمئنان واتيان رزقها إليها من كل مكان يتم ويكمل لها جميع النعم المادية الصورية وسيضيف سبحانه إليها النعم المعنوية في الاية التالية ولقد جاءهم رسول منهم فهى قرية أتم اللة نعمة عليها واكملها.

وقوله فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف التعبير بأنعم الله وهو جمع قلة للاشارة بها إلى الاصناف المذكورة وهى ثلاثة الامن والاطمئنان واتيان الرزق والاذاقة استعارة للايصال اليسير فاذاقة الجوع والخوف مشعر بأن الذى يوصلهما قادر على تضعيف ذلك وتكثيره بما لا يقدر بقدر كيف لا؟ وهو الله الذى له القدرة كلها.

 

/ صفحة 363 /

ثم اضافة اللباس إلى الجوع والخوف وفيها دلالة على الشمول والاحاطة كما يشمل اللباس البدن ويحيط به تشعر بأن هذا المقدار اليسير من الجوع والخوف الذى اذاقهم شملهم كما يشمل اللباس بدن الانسان وهو سبحانه قادر على ان يزيد على ذلك فهو المتناهى في قهره وغلبته وهم المتناهون في ذلتهم وهوانهم.

ثم ختم الاية بقوله بما كانوا يصنعون للدلالة على ان سنة المجازاة في الشكر والكفر قائمة على ساق.

والمعنى ضرب الله مثلا مثل قرية كان اهلها آمنين من كل شر وسوء يهددهم في نفوسهم واعراضهم واموالهم ساكنين غير مضطرين يأتيهم رزقهم طيبا واسعا من كل مكان من غير أن يضطروا إلى السفر والاغتراب فكفر اهلها بهذه النعم الالهية ولم يشكروه سبحانه فأنالهم الله شيئا يسيرا من نقمته بسلب هذه النعم وهو الجوع والخوف اللذان عماهم وشملاهم قبال ما استمروا عليه بكفران الانعم جزاء لكفرانهم.

قوله تعالى: " ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون " وهذا هو النعمة المعنوية التى اضافها إلى نعمه المادية المذكورة وكان فيها صلاح معاشهم ومعادهم وتحذير لهم من الكفران بأنعم الله وشرح ما فيه من الشؤم والشقاء لكنهم كذبوا رسولهم الذى هو منهم يعرفونه ويدرون انه انما يدعوهم لامر الهى ويهديهم إلى سبيل الرشاد وسعادة الجد فظلموا ذلك فأخذهم العذاب بظلمهم.

وبهذا التقرير يظهر ما في القيود المأخوذة في الاية من النكات.

قوله تعالى: " فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " إلى آخر الاية تفريع على ما تحصل من المثل نتيجة والتقدير إذا كان الحال هذا الحال وكان في كفران هذا الرزق الرغد عذاب وفي تكذيب الدعوة عذاب فكلوا مما رزقكم الله حال كونه حلالا طيبا أي لستم بممنوعين منه وانتم تستطيبونه فكلوا منه واشكروا نعمة الله ان كنتم إياه تعبدون.

وقد ظهر بذلك اولا ان الاية مسوقة لتحليل طيبات الرزق مطلقا فلا سبيل إلى ما ذكره بعضهم إن المراد فكلوا مما رزقكم الله من الغنائم رزقا حلالا طيبا بناء على ان الاية

 

/ صفحة 364 /

نزلت بعد وقعة بدر والمثل السابق مثل مضروب لاهل مكة والمراد بالرسول الذى كذبوه هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالعذاب الذى اخذهم هو القتل الذريع لصناديدهم يوم بدر.

 

وهذا كله مما لا دليل عليه من طريق لفظ الايات على انه قد تأيد سابقا انها مكية.

وثانيا ان المراد بالحل والطيب كون الرزق بحيث لم يحرم منه الانسان طبعا وطبعه يستطيبه أي الحل والطيب بحسب الطبع وذلك ملاك الحلية الشرعية التى تتبع الحلية بحسب الفطرة فان الدين فطرى لان الله سبحانه فطر الانسان مجهزا بجهاز التغذية وجعل اشياء ارضية من الحيوان والنبات ملائمة لقوامه يميل إليها طبعه من غير نفرة فله ان يأكل منها وهو الحل.

وثالثا ان قوله فكلوا امرمقدمى بالنسبة إلى قوله واشكروا نعمة الله وذكر النعمة تلويح إلى سبب الحكم فان كون الشئ نعمة هو السبب في وجوب الشكر عليه.

ورابعا ان قوله ان كنتم اياه تعبدون خطاب للمؤمنين فانهم هم الذين يعبدون الله ولا يعبدون غيره والقصر في الجملة الذى يدل عليه تقديم المفعول على الفعل قصر القلب وغيرهم وهم المشركون انما يعبدون الاصنام والالهة من دون الله.

وجعل الخطاب للمشركين ودعوى ان المراد بالعبادة في قوله ان كنتم إياه تعبدون الاطاعة أو ان المعنى ان صح زعمكم انكم تقصدون بعبادتكم لآلهتكم عبادته تعالى لا يرجع إلى طائل فان جعل العبادة بمعنى الاطاعة يحتاج إلى قرينة ولا قرينة والمشركون لا يعبدون الله سبحانه ولو باشراكه في العبادة ولا يقصدون بعبادة آلهتهم عبادته تعالى بل ينزهونه تعالى عن عبادتهم لكونه اجل من ان يناله ادراك أو ينتهى إليه توجه.

وكون الخطاب في الاية للمؤمنين يوجب كون المثل مضروبا لاجلهم ورجوع سائر الخطابات التشريعية فيما قبل الاية وما بعدها متوجهة إليهم وربما قيل ان الخطاب لعامة الناس أعم من المؤمن والكافر وتطبيقه على الايات لا يخلو من تكلف وان كان دون تخصيص الخطاب بالمشركين اشكالا.

 

/ صفحة 365 /

قوله تعالى: " انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم " تقدم الكلام في معنى الاية في تفسير سورة البقرة الاية 173 وسورة المائدة الاية 3 وسورة الانعام الاية 145.

والاية بمعناها على اختلاف ما في لفظها واقعة في اربعة مواضع من القرآن في سورتي الانعام والنحل وهما مكيتان من اوائل ما نزلت بمكة وأواخرها وفي سورتي البقرة والمائدة وهما من اوائل ما نزلت بالمدينة واواخرها وهى تدل على حصر محرمات الاكل في الاربع المذكورة الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به كما نبه عليه بعضهم.

لكن بالرجوع إلى السنة يظهر ان هذه هي المحرمات الاصلية التى عنى بها في الكتاب وما سوى هذه الاربع من المحرمات مما حرمه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر من ربه وقد قال تعالى: " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " الحشر: 7 وقد تقدم بعض الروايات الدالة على هذا المعنى.

قوله تعالى ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب الخ ما في قوله لما تصف مصدرية والكذب مفعول تصف أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام بسبب وصف السنتكم لغاية افتراء الكذب على الله.

وكون الخطاب في الايات للمؤمنين على ما يؤيده سياقها كما مر أو لعامة الناس يؤيد ان يكون المراد بقوله ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام النهى عن الابتداع بادخال حلال أو حرام في الاحكام الجارية في المجتمع المعمولة بينهم من دون ان ينزل به الوحى فان ذلك من ادخال ما ليس من الدين في الدين وافتراء على الله وان لم ينسبه واضعه إليه تعالى وذلك ان الدين في عرف القرآن هو سنة الحياة وقد تكرر منه سبحانه قوله يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أو ما يقرب منه فالدين لله ومن زاد فيه شيئا فقد نسبه إليه تعالى افتراء عليه وان سكت عن الاسناد أو نفي ذلك بلسانه.

وذكر الجمهور ان المراد بالاية النهى عما كان المشركون يحلونه كالميتة والدم وما

 

/ صفحة 366 /

أهل لغير الله به أو يحرمونه كالبحيرة والسائبة وغيرهما والسياق كما مر لا يؤيده.

ثم قال سبحانه في مقام تعليل النهى ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ثم بين حرمانهم من الفلاح بقوله متاع قليل ولهم عذاب اليم.

قوله تعالى: " وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل " الخ المراد بقوله ما قصصنا عليك من قبل كما قيل ما قصه تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة الانعام وقد نزلت قبل سورة النحل بلا اشكال بقوله: " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر " إلى آخر الاية الانعام: 146.

والاية في مقام دفع الدخل وفيها عطف على مسألة النسخ المذكورة سابقا كأن قائلا يقول فإذا كانت محرمات الاكل منحصرة في الاربع المذكورة الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به وكان ما وراءها حلالا فما هذه الاشياء المحرمة على بنى اسرائيل من قبل؟ هل هذا إلا ظلم بهم؟ فأجاب عنه بأنا حرمنا عليهم ذلك وما ظلمناهم في تحريمه ولكنهم كانوا يظلمون انفسهم فنحرم عليهم بعض الاشياء أي انه كان محللا لهم مأذونا فيه لكنهم ظلموا انفسهم وعصوا ربهم فجزيناهم بتحريمه عقوبة كما قال سبحانه في موضع آخر فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم الاية ولو انهم بعد ذلك كله رجعوا إلى ربهم وتابوا عن معاصيهم تاب الله عليهم ورفع الحظر عنهم وأذن لهم فيما منعهم عنه انه لغفور رحيم.

فقد ظهر إن الاية متصلة بما قبلها من حديث التحليل والتحريم وانها كالجواب عن سؤال مقدر وان ما بعدها من قوله ثم ان ربك للذين عملوا السوء الاية متصل بها متمم لمضمونها.

قوله تعالى: " ثم ان ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم الجهالة والجهل واحد وهو في الاصل ما يقابل العلم لكن الجهالة كثيرا ما تستعمل بمعنى عدم الانكشاف التام للواقع وان لم يخل المحل عن علم ما مصحح للتكليف كحال من يقترف المحرمات وهو يعلم بحرمتها لكن الاهواء النفسانية تغلبه وتحمله على المعصية ولا تدعه يتفكر في حقيقة هذه المخالفة

 

/ صفحة 367 /

والمعصية فله علم بما ارتكب ولذلك يؤاخذ ويعاقب على ما فعل وهو مع ذلك جاهل بحقيقة الامر ولو تبصر تمام التبصر لم يرتكب والمراد بالجهالة في الاية هذا المعنى إذ لو كان المراد هو الاول وكان ما ذكر من عمل السوء مجهولا من حيث حكمه أو من حيث موضوعه لم يكن العمل معصية حتى يحتاج إلى التوبة فالمغفرة والرحمة.

والاية كما تقدمت الاشارة إليه متصلة بما قبلها متممة لمضمونها ومعنى الايتين انا لم نظلم بنى اسرائيل في تحريم الطيبات التي حرمناها لهم بل هم الذين ظلموا انفسهم حيث ارتكبوا المعاصي واصروا عليها فأدى ذلك إلى تحريم الطيبات عليهم وبعد ذلك كله باب المغفرة والرحمة مفتوح وان ربك للذين عملوا السوء أي عملوا عملا سوء وهو السيئة بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا حتى يتبين التوبة وتستقر إن ربك من بعدها أي من بعد التوبة لغفور رحيم.

وفي تقييد التوبة أولا بالاصلاح ثم ارجاع الضمير اخيرا إليها وحدها في قوله إن ربك من بعدها لغفور دلالة على إن شمول المغفرة والرحمة من تبعات التوبة واما الاصلاح فانما هو لتبيين التوبة وظهور كونها توبة حقيقية ورجوعا جديا لا مجرد صورة خالية عن المعنى.

وقوله في ذيل الاية ان ربك من بعدها تلخيص لتفصيل قوله في صدرها إن ربك للذين الخ وفائدته حفظ فهم السامع عن التشوش والضلال وابراز العناية ببعدية المغفرة والرحمة بالنسبة إلى التوبة نظير ما مر من قوله ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم.

قوله تعالى: " إن ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين " الاية وما يتلوها على اتصالها بما تقدم من حصر محرمات الاكل في الاربع وتحليل ما وراءها وهذه الاية إلى تمام اربع آيات بمنزلة التفصيل لما تقدمها كأنه قيل هذا حال ملة موسى التي حرمنا فيها على بنى اسرائيل بعض ما احل لهم من الطيبات واما هذه الملة التي انزلناها اليك فانما هي الملة التي تحقق بها ابراهيم فاجتباه الله وهداه إلى صراط مستقيم واصلح بها دنياه وآخرته وهي ملة معتدلة جارية على الفطرة تحلل الطيبات

 

/ صفحة 368 /

وتحرم الخبائث يجلب العمل بها من الخير ما جلبه لابراهيم (عليه السلام) منه.

فقوله إن ابراهيم كان امة قال في المفردات وقوله ان ابراهيم كان امة قانتا لله أي قائما مقام جماعة في عبادة الله نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة انتهى وهو قريب مما نقل عن ابن عباس وقيل معناه الامام المقتدى به وقيل انه كان أمة منحصرة في واحد مدة من الزمان لم يكن على الارض موحد يوحد الله غيره.

وقوله قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين القنوت الاطاعة والعبادة أو دوامها والحنف الميل من الطرفين إلى حاق الوسط وهو الاعتدال.

قوله تعالى: " شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم " الاجتباء من الجباية وهو الجمع واجتباء الله الانسان هو اخلاصه لنفسه وجمعه من التفرق في المذاهب المختلفة وفي تعقيب قوله شاكرا لانعمه بقوله اجتباه الخ مفصولا اشعار بالعلية وذلك يؤيد ما تقدم في سورة الاعراف في تفسير قوله: " ولا تجد اكثرهم شاكرين " الاعراف: 17 إن حقيقة الشكر هو الاخلاص في العبودية.

قوله تعالى: " وآتيناه في الدنيا حسنة وانه في الاخرة لمن الصالحين " الحسنة هي المعيشة الحسنة فقد كان (عليه السلام) ذا مال كثير ومروة عظيمة.

وقد بسطنا الكلام في معنى الاجتباء في تفسير سورة يوسف عند الاية 6 وفي معنى الهداية والصراط المستقيم في تفسير الفاتحة عند قوله " اهدنا الصراط المستقيم " الاية: 6 وفي معنى قوله: " وانه في الاخرة لمن الصالحين " البقرة: 130 فراجع.

وفي توصيفه تعالى ابراهيم (عليه السلام) بما وصفه من الصفات اشارة إلى انها من مواهب هذا الدين الحنيف فان انتحل به الانسان ساقه إلى ما ساق إليه ابراهيم (عليه السلام).

 

قوله تعالى: " ثم اوحينا اليك أن اتبع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين " تكرار اتصافه بالحنف ونفي الشرك لمزيد العناية به.

قوله تعالى: " انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه " إلى آخر الاية قال في المفردات اصل السبت القطع ومنه سبت السير قطعه وسبت شعره حلقه وأنفه اصطلمه وقيل سمى يوم السبت لان الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والارض يوم

 

/ صفحة 369 /

الاحد فخلقها في ستة ايام كما ذكره فقطع عمله يوم السبت فسمى بذلك.

وسبت فلان صار في السبت وقوله يوم سبتهم شرعا قيل يوم قطعهم للعمل ويوم لا يسبتون قيل معناه لا يقطعون العمل وقيل يوم لا يكونون في السبت وكلاهما اشارة إلى حالة واحدة وقوله انما جعل السبت أي ترك العمل فيه وجعلنا نومكم سباتا أي قطعا للعمل وذلك اشارة إلى ما قال في صفة الليل لتسكنوا فيه انتهى.

فالمراد بالسبت على ما ذكره نفس اليوم لكن معنى جعله جعل ترك العمل فيه وتشريعه ويمكن ان يكون المراد به المعنى المصدرى دون اليوم المجعول فيه ذلك كما هو ظاهر قوله: " تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " الاعراف: 163.

وكيف كان فقد كان من طبع الكلام ان يقال انما جعل السبت للذين حتى يفيد نوعا من الاختصاص والملك وان الله شرع لهم في كل اسبوع ان يقطعوا العمل يوما يفرغون فيه لعبادة ربهم وهو يوم السبت كما جعل للمسلمين في كل اسبوع يوما يجتمعون فيه للعبادة والصلاة وهو يوم الجمعة.

فقوله انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه بتعدية جعل بعلى دون اللام من قبيل قولهم لى عليك دين وهذا عليك لا لك فتفيد معنى التكليف والتشديد والابتلاء أي انما جعل للتشديد عليهم وابتلائهم وامتحانهم فقد كان هذا الجعل عليهم لا لهم كما انجر امرهم فيه إلى لعن طائفة منهم ومسخ آخرين وقد اشير إلى ذلك في سورة البقرة الاية 65 وسورة النساء الاية 47.

والانسب على هذا ان يكون المراد بقوله اختلفوا فيه أي في السبت اختلافهم فيه بعد التشريع فانهم تفرقوا فيه فرقا ممن قبله وممن رده وممن احتال للعمل فيه على ما اشير إلى قصصهم في سور البقرة والنساء والاعراف لا اختلافهم فيه قبل التشريع بأن يعرض عليهم أن يسبتوا في كل اسبوع يوما للعبادة ثم يجعل ذلك اليوم هو الجمعة فيختلفوا فيه فيجعل عليهم يوم السبت كما وقع في بعض الروايات.

 

/ صفحة 370 /

والمعنى انما جعل يوم السبت أو قطع العمل للعبادة يوما في كل اسبوع تشديدا وابتلاء وفتنة وكلفة على اليهود الذين اختلفوا فيه بعد تشريعه بين من قبله ومن رده ومن احتال فيه للعمل مع التظاهر بقبوله وان ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

وبالبناء على هذا يكون وزان الاية وزان قوله السابق وعلى الذين هادوا حرمنا الخ في انها في معنى الجواب عن سؤال مقدر عطفا على ما مر من حديث النسخ والتقدير واما جعل السبت لليهود فانما جعل لا لهم بل عليهم ليبتليهم الله ويفتنهم به ويشدد عليهم كما قد تكرر نظائره فيهم لكونهم عاتين معتدين مستكبرين وبالجملة الاية ناظرة إلى الاعتراض بتشريع بعض الاحكام غير الفطرية على اليهود ونسخه في هذه الشريعة.

وانما لم يضم إلى قوله سابقا وعلى الذين هادوا حرمنا الخ لكون مسألة السبت مغايرة لسنخ مسألة تحليل الطيبات واستثناء محرمات الاكل وقد عرفت ان الكلام على اتصاله من قوله وعلى الذين هادوا إلى قوله وما كان من المشركين سبع آيات تامة ثم اتصلت بها هذه الاية وهي ثامنتها الملحقة بها.

ومن هنا يظهر الجواب عما اعترض به ان توسيط جعل السبت بين حكاية امر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع ملة ابراهيم (عليه السلام) وبين امره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة إليها وبعبارة اخرى وقوع قوله انما جعل السبت الخ بين قوله ثم اوحينا اليك الخ وقوله ادع إلى سبيل ربك الخ كالفصل بين الشجر ولحائه.

ومحصل الجواب ان قوله ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم الاية من تمام السياق السابق وقوله انما جعل السبت الاية متصل بما تقدمه كما عرفت واما قوله ادع إلى سبيل ربك الاية فهو استئناف وامر بالدعوة إلى سبيل الله بفنون الخطاب لا إلى ملة ابراهيم حتى يتصل بالاية السابقة نوع اتصال وان كان سبيل الله هو ملة ابراهيم بعينها لكن للفظ حكم وللمعنى بحسب المآل حكم آخر فافهم.

وللقوم في تفسير الاختلاف اختلاف عميق فمنهم من قال ان المراد انما جعل السبت على الذين اختلفوا على نبيهم فيه حيث امرهم بتعظيم الجمعة فعدلوا عنه واخذوا

 

/ صفحة 371 /

السبت فجعله الله عليهم تشديدا فالاختلاف اختلاف سابق على الجعل لا لاحق به وربما جعل في للتعليل فان الاختلاف على هذا لم يقع في السبت بل من اجل السبت.

وربما قيل الاختلاف بمعنى المخالفة فانهم خالفوا نبيهم في السبت ولم يختلفوا فيه.

وربما قيل انهم امروا باتخاذ الجمعة من غير تعيين ووكل ذلك إلى اجتهادهم فاختلفت احبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله إليه ووقعوا في السبت.

وربما قيل ان المراد انهم اختلفوا فيما بينهم في شأن السبت فطائفة منهم فضلته على الجمعة وطائفة منهم عكست الامر وفضلت الجمعة عليه إلى غير ذلك مما قيل والاصل في ذلك ما ورد في بعض الروايات من القصة.

وانت خبير بأن شيئا من الاقوال لا ينطبق على لفظ الاية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه.

قوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن " إلى آخر الآية لا شك في انه يستفاد من الاية إن هذه الثلاثة الحكمة والموعظة والمجادلة من طرق التكليم والمفاوضة فقد امر بالدعوة بأحد هذه الامور فهى من انحاء الدعوة وطرقها وإن كان الجدال لا يعد دعوة بمعناها الاخص.

وقد فسرت الحكمة كما في المفردات باصالة الحق بالعلم والعقل والموعظة كما عن الخليل بانه التذكير بالخير فيما يرق له القلب والجدال كما في المفردات بالمفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة.

والتأمل في هذه المعاني يعطى ان المراد بالحكمة والله اعلم الحجة التي تنتج الحق الذى لا مرية فيه ولا وهن ولا ابهام والموعظة هو البيان الذى تلين به النفس ويرق له القلب لما فيه من صلاح حال السامع من الغبر والعبر وجميل الثناء ومحمود الاثر ونحو ذلك.

والجدال هو الحجة التي تستعمل لفتل الخصم عما يصر عليه وينازع فيه من غير أن يريد به ظهور الحق بالمؤاخذة عليه من طريق ما يتسلمه هو والناس أو يتسلمه هو وحده في قوله أو حجته.

 

/ صفحة 372 /

فينطبق ما ذكره تعالى من الحكمة والموعظة والجدال بالترتيب على ما اصطلحوا عليه في فن الميزان بالبرهان والخطابة والجدل غير انه سبحانه قيد الموعظة بالحسنة والجدال بالتى هي احسن ففيه دلالة على إن من الموعظة ما ليست بحسنة ومن الجدال ما هو احسن وما ليس بأحسن ولا حسن والله تعالى يأمر من الموعظة بالموعظة الحسنة ومن الجدال بأحسنه.

ولعل ما في ذيل الاية من التعليل بقوله ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين يوضح وجه التقييد فمعناه انه سبحانه اعلم بحال اهل الضلال في دينه الحق وهو اعلم بحال المهتدين فيه فهو يعلم ان الذى ينفع في هذا السبيل هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال الاحسن لا غير.

والاعتبار الصحيح يؤيد ذلك فان سبيله تعالى هو الاعتقاد الحق والعمل الحق ومن المعلوم ان الدعوة إليه بالموعظة مثلا ممن لا يتعظ بما يعظ به دعوة عملا إلى خلاف ما يدعو إليه القول والدعوة إليه بالمجادلة مثلا بالمسلمات الكاذبة التي يتسلمها الخصم لاظهار الحق احياء لحق باحياء باطل وان شئت فقل احياء حق باماتة حق إلا أن يكون الجدال على سبيل المناقضة.

ومن هنا يظهر ان حسن الموعظة انما هو من حيث حسن اثره في الحق الذى يراد به بأن يكون الواعظ نفسه متعظا بما يعظ ويستعمل فيها من الخلق الحسن ما يزيد في وقوعها من قلب السامع موقع القبول فيرق له القلب ويقشعر به الجلد ويعيه السمع ويخشع له البصر.

ويتحرز المجادل مما يزيد في تهييج الخصم على الرد والعناد وسوقه إلى المكابرة واللجاج واستعمال المقدمات الكاذبة وان تسلمها الخصم إلا في المناقضة ويحترز سوء التعبير والازراء بالخصم وبما يقدسه من الاعتقاد والسب والشتم وأي جهالة اخرى فان في ذلك احياء للحق باحياء الباطل أي اماتة الحق كما عرفت.

والجدال احوج إلى كمال الحسن من الموعظة ولذلك اجاز سبحانه من الموعظة حسنتها ولم يجز من المجادلة إلا التي هي احسن.

 

/ صفحة 373 /

ثم إن في قوله بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن اخذا بالترتيب من حيث الافراد فالحكمة مأذون فيها بجميع افرادها والموعظة منقسمة إلى حسنة وغير حسنة والمأذون فيها منهما هي الموعظة الحسنة والمجادلة منقسمة إلى حسنة وغير حسنة ثم الحسنة إلى التي هي احسن وغيرها والمأذون فيها منها التي هي احسن والاية ساكتة عن توزيع هذه الطرق بحسب المدعوين بالدعوة فالملاك في استعمالها من حيث المورد حسن الاثر وحصول المطلوب وهو ظهور الحق.

فمن الجائز ان يستعمل في مورد جميع الطرق الثلاث وفي آخر طريقان أو طريق واحد حسب ما تستدعيه الحال ويناسب المقام.

ومنه يظهر ان قول بعضهم ان ظاهر الاية ان يجمع (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته بين الطرق الثلاث ليس في محله إذ لا دليل على لزوم الجمع بينها بالنسبة إلى كل مدعو واما بالنسبة إلى جميع المدعوين فهو حاصل.

وكذا ما ذكره بعضهم ان الطرق الثلاث المذكورة في الاية مترتبة حسب ترتب افهام الناس في استعدادها لقبول الحق فمن الناس الخواص وهم اصحاب النفوس المشرقة القوية الاستعداد لادراك الحقائق العقلية وشديدة الانجذاب إلى المبادئ العالية وكثيرة الالفة بالعلم واليقين فهؤلاء يدعون بالحكمة وهي البرهان.

ومنهم عوام وهم اصحاب نفوس كدرة واستعداد ضعيف مع شدة ألفتهم بالمحسوسات وقوة تعلقهم بالرسوم والعادات قاصرة عن تلقى البراهين من غير أن يكونوا معاندين للحق وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة.

ومنهم اصحاب العناد واللجاج الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق ويكابرون ليطفؤا نور الله بأفواههم رسخت في نفوسهم الاراء الباطلة وغلب عليهم تقليد اسلافهم في مذاهبهم الخرافية لا ينفعهم المواعظ والعبر ولا يهديهم سائق البراهين وهؤلاء هم الذين امر بمجادلتهم بالتى هي احسن.

وفيه انه لا يخلو من دقة لكن لا ينتج اختصاص كل طريق بما يناسبه من مرتبة الفهم فربما انتفع الخواص بالموعظة والمجادلة وربما انتفعت العوام وهم الفاء العادات والرسوم بالمجادلة بالتى هي احسن ولا دلالة في لفظ الاية على ما ذكر من التخصيص.

 

/ صفحة 374 /

وكذا ما ذكره بعضهم إن المجادلة بالتى هي احسن ليست من الدعوة في شئ بل الغرض منها شئ آخر مغاير لها وهو الالزام والافحام قال ولذلك لم يعطف الجدال في الاية على ما تقدمه بل غير السياق وقيل وجادلهم بالتى هي احسن.

وفيه غفلة عن حقيقة القياس الجدلي فالافحام وان كان غاية للقياس الجدلي لكنه ليس غاية دائمية فكثيرا ما يتألف قياس من مقدمات مقبولة أو مسلمة وخاصة في الامور العملية والعلوم غير اليقينية كالفقه والاصول والاخلاق و الفنون الادبية ولا يراد به الالزام والافحام.

على ان في الالزام والافحام دعوة كما ان في الموعظة دعوة وان اختلفت صورتها باختلاف الطرق نعم تغيير السياق لما في الجدال من معنى المنازعة والمغالبة.

قوله تعالى: " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " قال في المفردات العقوبة والعقاب والمعاقبة تختص بالعذاب انتهى.

والاصل في معناه العقب وهو مؤخر الرجل وعقيب الشئ وعاقبة الامر ما يليه من ورائه أو آخره والتعقيب الاتيان بشئ عقيب شئ ومعاقبتك غيرك أن تأتى بما يسوؤه عقيب اتيانه بما يسوؤك فينطبق على المجازاة والمكافأة بالعذاب.

فقوله وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الخطاب فيه للمسلمين على ما يفيده السياق ولازمه ان يكون المراد بالمعاقبة مجازاة المشركين والكفار وبقوله عوقبتم به عقاب الكفار اياهم ومجازاتهم لهم بما آمنوا بالله ورفضوا آلهتهم.

والمعنى وان اردتم مجازاة الكفار وعذابهم فجازوهم على ما فعلوا بكم بمثل ما عذبوكم به مجازاة لكم على ايمانكم وجهادكم في الله.

وقوله ولئن صبرتم لهو خير للصابرين أي صبرتم على مر ما عوقبتم به ولم تعاقبوا ولم تكافؤا لهو خير لكم بما انكم صابرون لما فيه من ايثار رضى الله وثوابه فيما اصابكم من المحنة والمصيبة على رضى انفسكم بالتشفى بالانتقام فيكون العمل خالصا لوجهه الكريم ولما في الصفح والعفو من اعمال الفتوة ولها آثارها الجميلة.

قوله تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله " إلى آخر الاية أمر للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر وبشرى له إن الله قواه على الصبر على مر ما يلقاه في سبيله فانه تعالى يذكر إن

 

/ صفحة 375 /

صبره انما هو بحول وقوة من ربه ثم يأمره بالصبر ولازم الامر قدرة المأمور على المأمور به ففي قوله وما صبرك إلا بالله اشارة إلى إن الله قواك على ما أمرك به.

وقوله: " ولا تحزن عليهم " أي على الكافرين لكفرهم وقد تقدم تفسير هذا المعنى سابقا في السورة وغيرها.

وقوله ولا تك في ضيق مما يمكرون الظاهر ان المراد النهى عن التحرج من مكرهم في الحال أو على سبيل الاستمرار دون مجرد الاستقبال.

قوله تعالى: " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " أي ان التقوى والاحسان كل منهما سبب مستقل في موهبة النصرة الالهية وابطال مكر اعداء الدين ودفع كيدهم فالاية تعليل لقوله ولاتك في ضيق مما يمكرون ووعد بالنصر.

وهذه الايات الثلاث اشبه مضمونا بالايات المدنية منها بالمكية وقد وردت روايات من طرق الفريقين انها نزلت في منصرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أحد وسياتى في البحث الروائي وان كان من الممكن توجيه اتصالها بما قبلها بوجه كما تصدى له بعضهم.

ومما يجب ان يتنبه له ان الاية التي قبل الثلاثة اجمع لغرض السورة من هذه الثلاث وان لايات السورة مع الاغماض عن قوله والذين هاجروا الاية وقوله " من كفر بعد ايمانه " إلى تمام بضع آيات وقوله وان عاقبتم إلى آخر السورة سياقا واحدا متصلا.

(بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: " وضرب الله مثلا " الاية قال قال (عليه السلام) نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له الثرثار وكانت بلادهم خصبة كثيرة الخير - وكانوا يستنجون بالعجين ويقولون هو ألين لنا فكفروا بأنعم الله واستخفوا فحبس الله عنهم الثرثار - فجدبوا حتى احوجهم الله إلى أكل ما يستنجون به حتى كانوا يتقاسمون عليه اقول ورواه في الكافي عنه باسناده عن عمرو بن شمر عن ابى عبد الله (عليه السلام) مفصلا والعياشي عن حفص وزيد الشحام عنه

 

/ صفحة 376 /

 

وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن انس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من عبد يشهد له امة إلا قبل الله شهادتهم والامة الرجل فما فوقه ان الله يقول ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين.

اقول وقد تقدم في تفسير آيات الشهادة ما له تعلق بالحديث.

وفي تفسير العياشي عن سماعة بن مهران قال سمعت ابا عبد الله (عليه السلام) يقول: لقد كانت الدنيا وما كان فيها إلا واحد يعبد الله ولو كان معه غيره لاضافه إليه حيث يقول ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين فصبر بذلك ما شاء الله ثم ان الله تبارك وتعالى آنسه باسماعيل واسحاق فصاروا ثلاثة اقول ورواه في الكافي باسناده عن سماعة عن عبد صالح وفي الدر المنثور اخرج الشافعي في الام والبخاري ومسلم عن ابى هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نحن الاخرون السابقون يوم القيامة بيد إنهم اوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذى فرض عليهم يوم الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد اقول وروى مثله عن احمد ومسلم عن ابى هريرة وحذيفة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): ولم ترد الرواية في تفسير الاية.

وفيه اخرج ابن مردويه عن ابى ليلى الاشعري إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تمسكوا بطاعة ائمتكم ولا تخالفوهم فان طاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله فان الله انما بعثنى - ادعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة - فمن خالفني في ذلك فهو من الهالكين - وقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ومن ولى من امركم شيئا فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " وجادلهم بالتى هي احسن " قال قال (عليه السلام) بالقرآن وفي الكافي عنه باسناده عن ابى عمر والزبيرى عن ابى عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن " قال بالقرآن

 

/ صفحة 377 /

اقول ظاهره انه تفسير بالتى هي احسن ومحصله الجدال على سنة القرآن الذى فيه ادب الله.

وفي تفسير العياشي عن الحسن بن حمزة قال سمعت ابا عبد الله (عليه السلام) يقول: لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما صنع بحمزه بن عبد المطلب قال اللهم لك الحمد واليك المشتكى وأنت المستعان على ما ارى ثم قال: لئن ظفرت لامثلن ولامثلن ولامثلن قال فأنزل الله " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - اصبر اصبر وفي الدر المنثور اخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم قتل حمزة ومثل به لئن ظفرت بقريش لامثلن بسبعين رجلا منهم فأنزل الله وإن عاقبتم الاية فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل نصبر يا رب فصبر ونهى عن المثلة.

اقول وروى ايضا ما في معناه عن ابى بن كعب وابى هريرة وغير هما عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) - تم والحمد لله -