تفسير الميزان
السيد الطباطبائي
الجزء الرابع عشر
/ صفحة 1 /
/ صفحة 3 /
الميزان في تفسير القران كتاب علمي، فني، فلسفي، أدبي، تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء الرابع عشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
/ صفحة 4 /
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره.
/ صفحة 5 /
سورة مريم مكية، وهي ثمان وتسعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم كهيعص (1) - ذكر رحمة ربك عبده زكريا (2) - إذ نادى ربه نداء خفيا (3) - قال رب إني وهن العظم منإ واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا (4) - وإنى خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لى من لدنك وليا (5) - يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (6) - يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا (7) - قال رب أنى لى غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا (8) - قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (9) - قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلث ليال سويا (10) - فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (11) - يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا (12) -
/ صفحة 6 /
وحنانا من لدنا وزكوة وكان تقيا (13) - وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا (14) - وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (15) (بيان) غرض السورة على ما ينبئ عنه قوله تعالى في آخرها: " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا "، الخ، هو التبشير والانذار غير أنه ساق الكلام في ذلك سوقا بديعا فأشار أولا إلى قصة زكريا ويحيى وقصة مريم وعيسى وقصة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وقصة موسى وهارون وقصة إسماعيل وقصة إدريس وما خصهم به من نعمة الولاية كالنبوة والصدق والاخلاص ثم ذكر أن هؤلاء الذين أنعم عليهم كان المعروف من حالهم الخضوع والخشوع لربهم لكن أخلافهم أعرضوا عن ذلك وأهملوا أمر التوجه إلى ربهم واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ويضل عنهم الرشد إلا أن يتوب منهم تائب ويرجع إلى ربه فإنه يلحق بأهل النعمة.
ثم ذكر نبذة من هفوات أهل الغي وتحكماتهم كنفي المعاد، وقولهم: اتخذ الله ولدا، وعبادتهم الاصنام، وما يلحقهم بذلك من النكال والعذاب.
فالبيان في السورة أشبه شئ ببيان المدعى بايراد أمثلته كأنه قيل: إن فلانا وفلانا وفلانا الذين كانوا أهل الرشد والموهبة كانت طريقتهم الانقلاع عن شهوات النفس والتوجه إلى ربهم وسبيلهم الخضوع والخشوع إذا ذكروا بآيات ربهم فهذا طريق الانسان إلى الرشد والنعمة لكن أخلافهم تركوا هذا الطريق بالاعراض عن صالح العمل، والاقبال على مذموم الشهوة ولا يؤديهم ذلك إلا إلى الغي خلاف الرشد، ولا يقرهم إلا على باطل القول كنفى الرجوع إلى الله وإثبات الشركاء لله وسد طريق الدعوة ولا يهديهم إلا إلى النكال والعذاب.
فالسورة كما ترى تفتح بذكر أمثلة ثم تعقبها باستخراج المعنى الكلي المطلوب بيانه وذلك قوله: " أولئك الذين أنعم الله عليهم " الايات، فالسورة تقسم الناس إلى
/ صفحة 7 /
ثلاث طوائف: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأهل الاجتباء.
والهدى وأهل الغى، والذين تابوا وآمنوا وعملوا صالحا وهم ملحقون بأهل النعمة والرشد ثم تذكر ثواب التائبين المسترشدين وعذاب الغاوين وهم قرناء الشياطين وأولياؤهم.
والسورة مكية بلا ريب تدل على ذلك مضامين آياتها وقد نقل على ذلك اتفاق المفسرين.
قوله تعالى: " كهيعص " قد تقدم في تفسير أول سورة الاعراف أن السور القرآنية المصدرة بالحروف المقطعة لا تخلو من ارتباط بين مضامينها وبين تلك الحروف فالحروف المشتركه تكشف عن مضامين مشتركة.
ويؤيد ذلك ما نجده من المناسبة والمجانسة بين هذه السورة وسورة ص في سرد قصص، الانبياء، وسيوافيك بحث جامع إن شاء الله في روابط مقطعات الحروف ومضامين السور التي صدرت بها، وكذا ما بين السور المشتركة في بعض هذه الحروف كهذه السورة وسورة يس وقد اشتركتا في الياء، وهذه السورة وسورة الشورى وقد اشتركتا في العين.
قوله تعالى: " ذكر رحمة ربك عبده زكريا " ظاهر السياق أن الذكر خبر لمبتدأ محذوف والمصدر بمعنى المفعول، والمال بحسب التقدير: هذا خبر رحمة ربك المذكور، والمراد بالرحمة استجابته سبحانه دعاء زكريا على التفصيل الذي قصة بدليل قوله تلوا: " إذ نادى ربه ".
قوله تعالى: " إذ نادى ربه نداء خفيا " الظرف متعلق بقوله: " رحمة ربك " والنداء والمناداة الجهر بالدعوة خلاف المناجاة ولا ينافية توصيفه بالخفاء لامكان الجهر بالدعوة في خلاء من الناس لا يسمعون معه الدعوة، ويشعر بذلك قوله الاتي: " فخرج على قومه من المحراب.
وقيل: إن العناية في التعبير بالنداء أنه تصور نفسه بعيدا منه تعالى بذنوبه وأحواله؟؟ السيئة كما يكون حال من يخاف عذابه.
قوله تعالى: " قال رب إني وهن العظم مني " إلى آخر الايي، تمهيد لما سيسأله وهو قوله: " فهب لى من لدنك وليا ".
/ صفحة 8 /
وقد قدم قوله: " رب " للاسترحام في مفتتح الدعاء، والتأكيد بأن للدلالة على تحققه بالحاجة والوهن هو الضعف ونقصان القوة وقد نسبه إلى العظم لانه الدعامة التى يعتمد عليها البدن في حركته وسكونه، ولم يقل: العظام مني ولا عظمي للدلالة على الجنس وليأتي بالتفصيل بعد الاجمال.
وقوله: " واشتعل الرأس شيبا " الاشتعال انتشار شواظ النار ولهيبها في الشئ المحترق قال في المجمع: وقوله: " واشتعل الرأس شيبا " من أحسن الاستعارات والمعنى اشتعل الشيب في الرأس وانتشر، كما ينتشر شعاع النار، وكأن المراد بالشعاع الشواظ واللهيب.
وقوله ولم أكن بدعائك رب شقيا " الشقاوة خلاف السعادة وكأن المراد بها الحرمان من الخير وهو لازم الشقاوة أو هو هي، وقوله: " بدعائك " متعلق بالشقي والباء فيه للسببية أو بمعنى في والمعنى وكنت سعيدا بسبب دعائي إياك كلما دعوتك استجبت لي من غير أن تشقينى وتحرمنى، أو لم أكن محروما خائبا في دعائي إياك عودتني الاجابة إذا دعوتك والتقبل إذا سألتك، والدعاء على أي حال مصدر مضاف إلى المفعول.
وقيل: إن " دعائك " مصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى لم أكن بدعوتك إياي إلى العبودية والطاعة شقيا متمردا غير مطيع بل عابدا لك مخلصا في طاعتك والمعنى الاول أظهر.
وفى تكرار قوله: " رب " ووضعه متخللا بين اسم كان وخبره في قوله: " ولم أكن بدعائك رب شقيا " من البلاغة ما لا يقدر بقدر، ونظيره قوله: " واجعله رب رضيا ".
قوله تعالى: " وإنى خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا " تتمة التمهيد الذى قدمه لدعائه، والمراد بالموالي العمومة وبنو العم، وقيل: الكلالة وقيل: العصبة، وقيل: بنو العم فحسب، وقيل: الورثة وكيف كان فهم غير الاولاد من صلب والمراد خفت فعل الموالي من ورائي أي بعد موتى وكان (عليه السلام) يخاف أن يموت بلا عقب من نسله فيرثوه، وهو كناية عن خوفه أن يموت بلا عقب.
/ صفحة 9 /
وقوله: " وكانت امرأتي عاقرا " العاقر المرأة التى لا تلد يقال: امرأة عاقر لا تلد ورجل عاقر لا يولد له ولد.
وفي التعبير بقوله: " وكانت امرأتي " دلالة على أن امرأته على كونها عاقرا جازت حين الدعاء سن الولادة.
وظاهر عدم تكرار إن في قوله: " وكانت امرأتي الخ أن الجملة حالية ومجموع الكلام أعني قوله: وإني خفت إلى قوله: " عاقرا " فصل واحد أريد به أن كون امرأتي عاقرا اقتضى أن أخاف الموالي من ورائي وبعد وفاتي، فمجموع ما مهدة للدعاء يؤل إلى فصلين أحدهما أن الله سبحانه عوده الاستجابة مدى عمره حتى شاخ وهرم والاخر أنه خاف الموالي بعد موته من جهة عقر امرأته، ويمكن تصوير الكلام فصولا ثلاثة بأخذ كل من شيخوخته وعقر امرأته فصلا مستقلا.
قوله تعالى: " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " هذا هو الدعاء، وقد قيد الموهبة الالهية التى سألها بقوله: " من لدنك " لكونه آيسا من الاسباب العادية التي كانت عنده وهي نفسه وقد صار شيخا هرما ساقط القوى.
وامرأته وقد شاخت وكانت قبل ذلك عاقرا.
وولي الانسان من يلي أمره، وولي الميت هو الذي يقوم بأمره ويخلفه فيما ترك، وآل الرجل خاصته الذين يؤل إليه أمرهم كولده وأقاربه وأصحابه وقيل: أصله أهل، والمراد بيعقوب على ما قيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام)، وقيل هو يعقوب بن ما ثان أخو عمران بن ما ثان أبي مريم وكانت امرأة زكريا أخت مريم وعلى هذا يكون معنى قوله: " يرثنى ويرث من آل يعقوب " يرثنى ويرث امرأتي وهي بعض آل يعقوب، والاشبه حينئذ أن تكون " من " في قوله: " من آل يعقوب " للتبعيض وإن صح كونها ابتدائية أيضا.
وقوله: " واجعله رب رضيا " الرضي بمعنى المرضي واطلاق الرضا يقتضي شموله للعلم والعمل جميعا فالمراد به المرضي في اعتقاده وعمله أي أجعله رب محلى بالعلم النافع والعمل الصالح.
وقد قص الله سبحانه هذه القصة في سورة آل عمران وهي مدنية متأخره نزولا عن سورة مريم المكية بقوله في ذيل قصة مريم " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا
/ صفحة 10 /
حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " آل عمران 38.
ولا يرتاب المتدبر في الايتين أن الذي دعا زكريا ودفعه إلى دعائه بما دعا هو ما شاهده من حال مريم وكرامتها على الله سبحانه في عبوديتها وإخلاصها العمل فأحب أن يخلفه خلف له من القرب والكرامة ما شاهد مثله في مريم ثم ذكر ما هو عليه من الشيب ونفاد القوة وما عليه أمراته من كبر السن والعقر وله موال لا يرتضيهم فوجد لذلك وهو ذاكر ما عوده ربه من استجابة الدعوة وكفاية كل مهمة ففزع إلى ربه بالدعاء واستيهاب ذرية طيبة.
فقوله في، سورة آل عمران: " رب هب لي من لدنك ذرية طيبة " بحذاء قوله في سورة مريم: " فهب لي من لدنك وليا يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا "، وقوله هناك: " طيبة " بحذاء قوله هنا: " واجعله رب رضيا " والمراد به ما شاهده من القرب والكرامة عند الله لمريم وعملها الصالح فيبقى قوله هناك: " هب لي من لدنك ذرية بحذاء "، قوله هنا: " فهب لي من لدنك وليا يرثنى ويرث من آل يعقوب " وهو يفسره فالمراد بقوله: " وليا يرثنى " الخ، ولد صلبي يرثه.
ومن هنا يظهر فساد ما قيل: " إنه (عليه السلام) طلب بقوله: " فهب لي من لدنك وليا يرثني " الخ، من يقوم مقامه ويرثه ولدا كان أو غيره، وكذا ما قيل: إنه أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه ويقوم مقامه من سائر الناس.
وذلك لصراحة قوله في نفس القصة في سورة آل عمران: " رب هب لي من لدنك ذرية طيبة " في طلب الولد.
على أن التعبير بمثل " هب لي " المشعر بنوع من الملك لا يستقيم في سائر الناس من الاجانب وإنما الملائم له التعبير بالجعل ونحوه كما في قوله تعالى: " واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا: النساء: 75.
ومن هنا يظهر أيضا أن المراد بقوله: " وليا يرثني الولد كما عبر عنه في آية آل عمران بالذرية فالمراد بالولي الذرية وهو ولي في الارث، والمراد بالوراثة وراثة ما
/ صفحة 11 /
تركه الميت من الاموال وأمتعة الحياة، وهو المتبادر إلى الذهن من الارث بلا ريب إما لكونه حقيقة في المال ونحوه مجازا في غيره كالارث المنسوب إلى العلم وسائر الصفات والحالات المعنوية وإما لكونه منصرفا إلى المال إن كان حقيقة في الجميع فاللفظ على أي حال ظاهر في وراثة المال ويتعين بانضمامه إلى الولي كون المراد به الولد، ويزيد في ظهوره في ذلك قوله قبل: " وإني خفت الموالي من ورائي " على ما سيأتي من البيان إن شاء الله.
وأما قول من قال: إن المراد به وراثة النبوة وإنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرثه النبوة فيدفعه ما عرفت آنفا أن الذي دعاه (عليه السلام) إلى هذا الدعاء والمسألة هو ما شاهده من مريم ولا خبر في ذلك عن النبوة ولا أثر فأي رابطة بين أن يشاهد منها عبادة وكرامة فيعجبه ذلك وبين أن يطلب من ربه ولدا يرثه النبوة؟ على أن النبوة مما لا يورث بالنسب وهو ظاهر ولو أصلح ذلك بأن المراد بالوراثة مجرد إتيان نبي بعد نبي أو ظهور نبي من ذرية نبي بنوع من العناية مجازا ظهر الاشكال من جهة اخرى وهي عدم ملاءمة ذلك قوله بعد: " واجعله رب رضيا " إذ لا معنى لقول القائل: هب لي ولدا نبيا واجعله رضيا، ولو حمل على التأكيد كان من تأكيد الشئ بما هو دونه، وكذا احتمال أن يكون المراد بالرضى المرضي عند الناس لمنافاته إطلاق المرضي كما تقدم مع عدم مناسبته لداعيه كما مر.
ويقرب منه في الفساد قول من قال: إن المراد به وراثة العلم وإنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرثه علمه، إذ لا معنى لان يشاهد زكريا من مريم عبادة وكرامة فيعجبه ذلك فيطلب من ربه ولدا يرثه علمه من دون أي مناسبة بين الداعي والمدعو إليه.
والقول بأن المراد بالوراثة وراثة العلم وبقوله: " واجعله رب رضيا " العمل الصالح ومجموع العلم النافع والعمل الصالح يقرب مما شاهده من مريم من الاخلاص والعبادة والكرامة.
يدفعه أن قوله: " واجعله رب رضيا " يكفي وحده في الدلالة على طلب العلم النافع والعمل الصالح لمكان الاطلاق، وإنما الانسان المحسن عملا مع الغض عن العلم مرضي العمل ولا يسمى مرضيا مطلقا البتة، ونظير ذلك القول بأن المراد بالرضى
/ صفحة 12 /
المرضي عند الناس.
ويقرب منه في الفساد احتمال أن يكون المراد بالوراثة وراثة التقوى والكرامة وأنه طلب من ربه أن يهب له ولدا يرث ما له من القرب والمنزلة عند الله إذ المناسب لذلك أن يطلب ولدا له ما لمريم من القرب والكرامة أو مطلق القرب والكرامة لا أن يطلب ولدا ينتقل إليه ما لنفسه من القرب والكرامة.
على أنه لا يلائمه قوله: " وإنى خفت الموالي من ورائي " إذ ظاهر السياق أنه يطلب ولدا يرثه وينتقل إليه ما لولاه لانتقل ذلك إلى الموالي وهو يخاف منهم أن يتلبسوا بذلك بعد وفاته، ولا معنى لان يخاف (عليه السلام) تلبس مواليه بالقرب والمنزلة واتصافهم بالتقوى والكرامة لا قبل وفاته ولا بعدها فساحة الانبياء أنزه وأطهر من هذه الضنة ولا أمنية لهم إلا صلاح الناس وسعادتهم.
وقول بعضهم إن مواليه (عليه السلام) كانوا شرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته في أمته بعده، فيه أن هذه الخلافة إن كانت خلافة باطنية إلهية فهي مما لا يورث بالنسب قطعا، على أنها لا تخطئ المورد الصالح لها ولا يتلبس بها إلا أهلها ولا وجه للخوف من ذلك، وإن كانت خلافة ظاهرية دنيوية تورث بالنسب ونحوه فهي قنية اجتماعية ومن أمتعة الحياة الدنيا نظير المال فلا جدوى لصرف الوراثة في الاية عن وراثة المال إلى وراثة الخلافة والملك.
على أن يحيى (عليه السلام) لم يتقلد من هذه الخلافة والملك شيئا حتى يكون هو ميراثه الذي منع موالي أبيه أن يرثوه منه، ولم يكن لبنى إسرائيل ملك في زمن زكريا ويحيى بل كانت الروم مستولية عليهم حاكمة فيهم.
فان قلت: يؤيد حمل الوراثة في الاية على وراثة العلم ونحوه دون المال أنه ليس في الانظار العالية والهمم العليا للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم المنقطع الفاني واتصلت بالعالم الباقي ميل إلى المتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لا سيما زكريا (عليه السلام) فإنه كان مشهورا بكمال الانقطاع والتجرد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف والحزن والخوف ويستدعي من ربه ذلك النحو من الاستدعاء وهو يدل على كمال المحبة
/ صفحة 13 /
وتعلق القلب بالدنيا وزخارفها.
بيان والقول بأنه خاف أن يصرف مواليه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب لذلك عن ربه وارثا مرضيا فاسد فإنه إذا مات الرجل وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال الوارث فصرفه على ذمته صوابا أو خطأ ولا مؤاخذة في ذلك على الميت ولا عتاب.
مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرا له (عليه السلام) بأن يصرفه قبل موته ويتصدق به كله في سبيل الله ويترك بني عمه الاشرار خائبين لسوء أحوالهم وقبح أفعالهم فليس قصده (عليه السلام) من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى وترويج الشريعة وبقاء النبوة في أولاده.
قلت: الاشكال مبني على كون قوله: " فهب لي من لدنك وليا يرثني " مسوقا لبيان طلب الوراثة المالية لولده والواقع خلافه فليس المقصود من قوله: " وليا يرثني " بالقصد الاول إلا طلب الولد كما هو الظاهر أيضا من قوله في سورة آل عمران: " هب لى من لدنك ذرية " وقوله في موضع آخر: " رب لا تذرني فردا " الانبياء: 89.
وإنما قوله: " يرثني " قرينة معينة لكون المراد بالولة في الكلام ولاية الارث التى تنطبق على الولد لكون الولاية معنى عاما ذا مصاديق مختلفة لا تتعين واحد منها إلا بقرينة معينة كما قيدت بالنصرة في قوله: " وما كان لهم من أولياء ينصرونهم " الشورى: 46، والمراد به ولاية النصرة، وقيدت بالامر والنهي في قوله: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " التوبه: 71، والمراد ولاية التدبير.
إلى غير ذلك.
ولو لا أن المراد به الوراثة المالية وأنها قرينة معينة لم يبق في الكلام ما يدل على طلب الولد الذي هو المقصود الاصلي بالدعاء فإن وراثة العلم أو النبوة أو العبادة والكرامة لا إشعار فيها بكون الوارث هو الولد كما اعترف به بعض من حمل الوراثة في الاية على شئ من هذه المعاني فيبقى الدعاء خاليا عن الدلالة على المطلوب الاصلي وكفى به سقوطا للكلام.
وبالجملة العناية إنما هي متعلقة بإفادة طلب الولد، وأما الوراثة المالية فليست
/ صفحة 14 /
مقصودة بالقصد الاول وإنما هي قرينة معينة لكون المراد بالولي هو الولد نعم هي في نفسها تدل على أنه لو كان له ولد لورثه ماله، وليس في ذلك ولا في قوله: وإني خفت الموالي من ورائي " وحاله حال قوله: " وليا يرثنى " دلالة على تعلق قلبه (عليه السلام) بالدنيا الفانية ولا بزخارف حياتها التي هي متاع الغرور.
وأما طلب الولد فهو مما فطر الله عليه النوع الانساني سواء في ذلك الصالح والطالح والنبي ومن دونه وقد جهز الجميع بجهاز التوالد والتناسل وغرز فيهم ما يدعوهم إليه، فالواحد منهم لو لم ينحرف طباعه ينساق إلى طلب الولد ويرى بقاء ولده بعده بقاء لنفسه واستيلاءهم على ما كان مستوليا عليه من أمتعة الحياة - وهذا هو الارث - استيلاء نفسه وعيش شخصه هذا.
والشرائع الالهية لم تبطل هذا الحكم الفطري ولا ذمت هذه الداعية الغريزية بل مدحته وندبت إليه، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام) " رب هب لي من الصالحين " الصافات: 100، وقوله: " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء " إبراهيم: 39، وقوله حكاية عن المؤمنين: " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " الفرقان: 74 إلى غير ذلك من الايات.
فإن قلت: ما تقدم من الوجه في معنى الوراثة كان مبنيا على أن يستفاد من قوله: " هنالك دعا زكريا ربه الاية، أن الذي دعاه إلى طلب الولد هو ما شاهده من عبادة مريم وكرامتها عند الله سبحانه فأحب أن يرزق ولدا يماثلها في العبادة والكرامة لكن يمكن أن يكون داعيه غير ذلك فقد ورد في بعض الاثار أن زكريا كان يجد عند مريم فواكه في غير موسمها ثمرة الشتاء في الصيف وثمرة الصيف في الشتاء فقال في نفسه: إذا كان الله لا يعز عليه أن يرزقها ثمرة الشتاء في الصيف وثمرة الصيف في الشتاء لم يعز عليه أن يرزقني ولدا في غير وقته وأنا شيخ فان وامرأتي عاقر فقال: هب لي من لدنك وليا يرثنى.
فمشاهدة الثمرة في غير موسمها بعثه إلى طلب الولد في غير وقته لكن هذا النبي الكريم أجل من أن يطلب الولد ليرث ماله فهو إنما طلبه ليرث النبوة أو العلم أو العبادة والكرامة.
/ صفحة 15 /
قلت: لا دليل من جهة السياق اللفظي على كون المراد بالرزق في قوله: " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " هي الثمرة في غير موسمها، وأن الذي دعا زكريا (عليه السلام) إلي طلب الولد مشاهدة ذلك أو قول مريم: " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " ولو كان كذلك لكانت الاشارة إليه بوجه أبلغ بل ظاهر السياق وخاصة صدر الاية " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا " أن العناية بإفاده كون مريم ذات كرامة عند ربه يرزقها لا من طريق الاسباب العادية فهذا هو الداعي لزكريا (عليه السلام) إلى طلب ذرية طيبة وولد رضي.
ولو سلم ذلك كان مقتضاه أن ينبعث زكريا بالقصد الاول إلى طلب الذرية والولد وإذ كان نبيا كريما لا إربة له في غير الولد الصالح دعا ثانيا أن يكون طيبا مرضيا كما يدل عليه استئناف الدعاء بقوله: " واجعله رب رضيا " والتقييد بالطيب في قوله: " ذرية طيبة ".
وقد أفاد مقصوده هذا على ما حكي عنه في سورة آل عمران بقوله: " هب لي من لدنك ذرية وفي هذه السورة بعد تقديم ذكر شيخوخته وعقر امرأته وخوفه الموالي بقوله: " فهب لي من لدنك وليا يرثني " فالمراد بقوله: " وليا يرثني " هو الولد بلا شك، وقد عبر عنه وأشير إليه بعنوان ولاية الارث.
ولاية الوراثة التى تصلح أن تكون عنوانا معرفا للولد هي ما يختص به من ولاية وراثة التركة، وأما ولاية وراثة النبوة لو جازت تسميتها ولاية وراثة وكذا ولاية وراثة العلم كما يرث التلميذ علم أستاذه وكذا ولاية وراثة المقامات المعنوية والكرامات الالهية فهذه الولايات أجنبية عن النسب والولادة ربما جامعتها وربما فارقتها فلا تصلح أن تجعل معرفة ومرآة لها إلا مع قرينة قوية، وليس في الكلام ما يصلح لذلك، وكل ما فرض صالحا له فهو صالح لخلافه فيكون قد أهمل في الدعاء ما هو المقصود بالقصد الاول واشتغل بما وراءه " وكفى به سقوطا للكلام.
قوله تعالى: " يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا " في الكلام حذف إيجازا، والتقدير: " فاستجبنا له وناديناه يا زكريا إنا نبشرك " الخ،
/ صفحة 16 /
وقد ورد في سورة الانبياء في القصة: " فاستجبنا له ووهبنا له يحيى " الانبياء: 90، وفي سورة آل عمران: " فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى " آل عمران: 39.
وتشهد آية آل عمران على أن قوله: " يا زكريا إنا نبشرك " الخ، كان وحيا بتوسط الملائكة فهو قوله تعالى أدته الملائكة إلى زكريا، وذلك في قوله ثانيا: " قال كذلك قال ربك هو علي هين " الخ، أظهر.
وفي الاية دلالة على أن الله سبحانه هو الذي سماه يحيى وهو قوله: " اسمه يحيى " وأنه لم يسم بهذا الاسم قبله أحد، وهو قوله: " لم نجعل له من قبل سميا " أي شريكا في الاسم.
وليس من البعيد أن يراد بالسمي المثل على حد ما سيأتي من قوله تعالى " فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا " الاية 65 من السورة، ويشهد عليه أن الله سبحانه نعته في كلامه بنعوت لم ينعت به أحدا من أنبيائه وأوليائه قبله كقوله فيما سيأتي: " وآتيناه الحكم صبيا " وقوله: " وسيدا وحصورا " آل عمران: 39، وقوله: " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " والمسيح (عليه السلام) وإن شاركه في هذه النعوت وهما ابنا الخالة لكن ولادته بعد ولادة يحيى (عليهما السلام).
قوله تعالى: " قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا " قال الراغب: الغلام الطار الشارب (1) يقال: " غلام بين الغلومة والغلومية، قال تعالى:: " أنى يكون لي غلام ".
قال: واغتلم الغلام: إذا بلغ حد الغلمة.
انتهى.
وقال في المجمع: العتي والعسي بمعنى يقال: عتا يعتو عتوا وعتيا وعسا يعسو عسوا وعسيا فهو عات وعاس إذا غيره طول الزمان إلى حال اليبس والجفاف.
انتهى.
وبلوغ العتى كناية عن بطلان شهوة النكاح وانقطاع سبيل الايلاد.
واستفهامه (عليه السلام) عن كون الغلام مع عقر امرأته وبلوغه العتي مع ذكره
* (هامش) *
(1) غلام طر شاربه من باب نصر وضرب: أي طلع.
/ صفحة 17 /
الامرين في ضمن دعائه إذ قال: رب إني وهن العظم مني " الخ، مبنى على استعجاب البشرى واستفسار خصوصياتها دون الاستبعاد والانكار فإن من بشر بما لا يتوقعه لتوفر الموانع وفقدان الاسباب تضطرب نفسه بادئ ما يسمعها فيأخذ في السؤال عن خصوصيات ما بشر به ليطمئن قلبه ويسكن اضطراب نفسه وهو مع ذلك على يقين من صدق ما بشر به فإن الخطورات النفسانية ربما لا تنقطع مع وجود العلم والايمان وقد تقدم نظيره في تفسير قوله تعالى: " وإذ قال ابراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " البقرة: 260.
قوله تعالى: " قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " جواب عما استفهمه واستفسره لتطيب به نفسه، ويسكن جأشه، وضمير قال راجع إليه تعالى، وقوله: " كذلك " مقول القول وهو خبر مبتدء محذوف والتقدير " هو كذلك " أي الامر واقع على ما أخبرناك به في البشرى لا ريب فيه.
وقوله: " قال ربك هو علي هين مقول ثان لقال الاول، وهو بمنزلة التعليل لقوله: " كذلك " يرتفع به أي استعجاب فلا يتخلف عن إرادته مراد وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن، فخلق غلام من رجل بالغ في الكبر وامرأة عاقر هين سهل عليه.
وقد وقع التعبير عن هذا الاستفهام والجواب في سرد القصة من سورة آل عمران بقوله: " قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء " آل عمران: 40 فقوله: " قال هو على هين " ههنا يحاذي قوله هناك: " الله يفعل ما يشاء " وهو يؤيد ما قدمناه من المعنى، وقوله ههنا: " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " بيان لبعض مصاديق الخلق الذى يرفع به الاستعجاب.
وفي الاية وجوه أخر تعرضوا لها: منها أن قوله: " كذلك " متعلق بقال الثاني ومجموع الجملة هو الجواب والمراد أمر ربك بذلك وقضى كذلك، وقوله: " هو علي هين " مقول آخر للقول أو أنه جئ به على سبيل الحكاية.
ومنها أن الخطاب في قوله: " قال ربك للنبى (صلى الله عليه وآله وسلم) لا لزكريا (عليه السلام) وتلك وجوه لا يساعد عليها السياق.
/ صفحة 18 /
قوله تعالى: " قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " قد تقدم في القصة من سورة آل عمران أن إلقاء البشرى إلى زكريا كان بتوسط الملائكة: فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى "، وهو (عليه السلام) إنما سأل الاية ليتميز به الحق من الباطل فتدله على أن ما سمعه من النداء وحي ملكي لا إلقاء شيطاني ولذلك أجيب بآية إلهية لا سبيل للشيطان إليها وهو أن لا ينطلق لسانه ثلاثة أيام إلا بذكر الله سبحانه فإن الانبياء معصومون بعصمة إلهية ليس للشيطان أن يتصرف في نفوسهم.
فقوله: " قال رب اجعل لي آية سؤال لاية مميزة وقوله: " قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " إجابة ما سأل، وهو أن يعتقل لسانه ثلاثة أيام من غير ذكر الله وهو سوى أي صحيح سليم من غير مرض وآفة.
فالمراد بعدم تكليم الناس عدم القدرة على تكليمهم، من قبيل إطلام اللازم وإرادة الملزوم كناية، والمراد بثلاث ليال ثلاث ليال بأيامها وهو شائع في الاستعمال فكان (عليه السلام) يذكر الله بفنون الذكر ولا يقدر على تكليم الناس إلا رمزا وإشارة، والدليل على ذلك كله قوله تعالي في القصة من سورة آل عمران: " قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار " آل عمران: 41.
قوله تعالى: " فخرج على قومه من المحراب وأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا " قال في المجمع: وسمي المحراب محرابا لان المتوجه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته، والاصل فيه مجلس الاشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله.
وقال الايحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة، وأصله من قولهم: الوحى الوحى أي الاسراع الاسراع.
انتهى ومعنى الاية ظاهر.
قوله تعالى: " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " قد تكرر في كلامه تعالى ذكر أخذ الكتاب بقوة والامر به كقوله: " فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " الاعراف: 145، وقوله: خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه " البقرة 63، وقوله: " خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا " البقرة: 93 إلى غير ذلك من الايات،
/ صفحة 19 /
والسابق إلى الذهن من سياقها أن المراد من أخذ الكتاب بقوة التحقق بما فيه من المعارف والعمل بما فيه من الاحكام بالعناية والاهتمام.
وفي الكلام حذف وإيجاز رعاية للاختصار، والتقدير: فلما وهبنا له يحيى قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوة في جانبي العلم والعمل، وبهذا المعنى يتأيد أن يكون المراد بالكتاب التوراة أو هي وسائر كتب الانبياء فإن الكتاب الذي كان يشتمل على الشريعة يومئذ هو التوراة (1).
قوله تعالى: " وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة " فسر الحكم بالفهم وبالعقل وبالحكمة وبمعرفة آداب الخدمة وبالفراسة الصادقة وبالنبوة، لكن المستفاد من مثل قوله تعالى: " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة " الجاثيه: 16، وقوله: " اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة " الانعام: 89، وغيرهما من الايات أن الحكم غير النبوة فتفسير الحكم بالنبوة ليس على ما ينبغى، وكذا تفسيره بمعرفة آداب الخدمة أو بالفراسة الصادقة أو بالعقل إذ لا دليل من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى على شئ من ذلك.
نعم ربما يستأنس من مثل قوله يتلوا عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " البقرة: 129، وقوله: " يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " الجمعه: 2 - والحكمة بناء نوع من الحكم - أن المراد بالحكم العلم بالمعارف الحقة الالهية وانكشاف ما هو تحت أستار الغيب بالنسبة إلى الانظار العادية ولعله إليه مرجع تفسير الحكم بالفهم.
وعلى هذا يكون المعنى إنا أعطيناه العلم بالمعارف الحقيقية وهو صبي لم يبلغ الحلم بعد.
وقوله: " وحنانا من لدنا " معطوف على الحكم أي وأعطيناه حنانا من لدنا والحنان: العطف والاشفاق، قال الراغب ولكون الاشفاق لا ينفك من الرحمة عبر عن الرحمة بالحنان في قوله تعالى: " وحنانا من لدنا " منه قيل: الحنان المنان وحنانيك إشفاقا بعد إشفاق.
* (هامش) *
(1) وليس من البعيد أن يكون له (عليه السلام) كتاب يخصه.
(*)
/ صفحة 20 /
وفسر الحنان في الاية بالرحمة ولعل المراد بها النبوة أو الولاية كقول نوح (عليه السلام): " وآتاني رحمة من عنده " هود: 28، وقول صالح: " وآتاني منه رحمة: هود: 63.
وفسر بالمحبة ولعل المراد بها محبة الناس له على حد قوله: " وألقيت عليك محبة مني " طه: 39، أي كان لا يراه أحد إلا أحبه.
وفسر بتعطفه على الناس ورحمته ورقته عليهم فكان رؤوفا بهم ناصحا لهم يهديهم إلى الله ويأمرهم بالتوبة ولذا سمي في العهد الجديد بيوحنا المعمد.
وفسر بحنان الله عليه كان إذا نادى ربه لباه الله سبحانه على ما في الخبر فيدل على أنه كان لله سبحانه حنان خاص به على ما يفيده تنكير الكلمة.
والذي يعطيه السياق وخاصة بالنظر إلى تقييد الحنان بقوله: " من لدنا " - والكلمة إنما تستعمل فيما لا مجرى فيه للاسباب الطبيعية العادية أو لا نظر فيه إليها - أن المراد به نوع عطف وانجذاب خاص إلهي بينه وبين ربه غير مألوف، وبذلك يسقط التفسير الثاني والثالث ثم تعقبه بقوله: " زكاة والاصل في معناه النمو الصالح، وهو لا يلائم المعنى الاول كثير ملاءمة فالمراد به إما حنان من الله سبحانه إليه بتولي أمره والعناية بشأنه وهو ينمو عليه، وإما حنان وانجذاب منه إلى ربه فكان ينمو عليه، والنمو نمو الروح.
ومن هنا يظهر وهن ما قيل: " إن المراد بالزكاة البركة ومعناها كونه مباركا نفاعا معلما للخير، وما قيل: إن المراد به الصدقة، والمعنى وآتيناه الحكم حال كونه صدقة نتصدق به على الناس أو المعنى أنه صدقة من الله على أبويه أو المعنى أن الحكم المؤتى صدقة من الله عليه وما قيل: إن المراد بالزكاة الطهارة من الذنوب.
قوله تعالى: " وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا " التقي صفة مشبهة من التقوى مثال واوي وهو الورع عن محارم الله والتجنب عن اقتراف المناهي المؤدى إلى عذاب الله، والبر بفتح الباء صفة مشبهة من البر بكسر الباء وهو الاحسان، والجبار قال في المجمع: الذي لا يرى لاحد عليه حقا وفيه جبرية وجبروت، والجبار من النخل ما فات اليد.
انتهى.
فيؤل معناه إلى أنه المستكبر المستعلى الذي يحمل الناس ما أراد ولا يتحمل عنهم ويؤيده تعقيبه بالعصى فإنه صفة مشبهة من العصيان
/ صفحة 21 /
والاصل في معناه الامتناع.
ومن هنا يظهر أن الجمل الثلاث مسوقة لبيان جوامع أحواله بالنسبة إلى الخالق والمخلوق، فقوله: " وكان تقيا " حاله بالنسبة إلى ربه، وقوله: " وبرا بوالديه " حاله بالنسبة إلى والدية، وقوله: " ولم يكن جبارا عصيا " حاله بالنسبة إلى سائر الناس، فكان رؤفا رحيما بهم ناصحا متواضعا لهم يعين ضعفاءهم ويهدى المسترشدين منهم، وبه يظهر أيضا أن تفسير بعضهم لقوله: " عصيا " بقوله: أي عاصيا لربه ليس على ما ينبغي.
قوله تعالى: " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " السلام قريب المعنى من الامن، والذى يظهر من موارد استعمالها في الفرق بينهما أن الامن خلو المحل مما يكرهه الانسان ويخاف منه والسلام كون المحل بحيث كل ما يلقاه الانسان فيه فهو يلائمه من غير أن يكرهه ويخاف منه.
وتنكير السلام لافادة التفخيم أي سلام فخيم عليه مما يكرهه في هذه الايام الثلاثه التي كل واحد منها مفتتح عالم من العوالم التي يدخلها الانسان ويعيش فيها فسلام عليه يوم ولد فلا يمسه مكروه في الدنيا يزاحم سعادته، وسلام عليه يوم يموت، فسيعيش في البرزخ عيشة نعيمة، وسلام عليه يوم يبعث حيا فيحيى فيها بحقيقة الحياة ولا نصب ولا تعب.
وقيل: " إن تقييد البعث بقوله: " حيا " للدلالة على أنه سيقتل شهيدا لقوله تعالى في الشهداء: " بل أحياء عند ربهم يرزقون " آل عمران: 169.
واختلاف التعبير في قوله: " ولد " " يموت " يبعث " لتمثيل أن التسليم في حال حياته (عليه السلام).
(بحث روائي) في المجمع: وروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنه قال في دعائه: أسألك يا كهيعص وفي المعاني بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوري عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: وكهيعص معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد.
/ صفحة 22 /
أقول: وروى فيه أيضا ما يقرب منه عن محمد بن عماره عنه (عليه السلام).
وروى في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله: كهعيص قال: كبير هاد أمين عزيز صادق - وفي لفظ - كاف بدل كبير، وروى عنه أيضا بطرق أخر: كريم هاد حكيم عليم صادق وروي عنه ابن مسعود وغيره ذلك، ومحصل الروايات - كما ترى - أن الحروف المقطعة مأخوذه من أوائل الاسماء الحسنى على اختلافها كالكاف من الكافي أو الكبير أو الكريم وهكذا غير أنه تلا يتم في الياء فقد أخذ في الروايات من الولي أو الحكيم أو العزيز كما في بعضها، وروي فيه عن أم هاني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن معناها كاف هاد عالم صادق، وقد أهمل في الحديث حرف الياء، وقد تقدم في بيان الاية بعض الاشارة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولم أكن بدعائك رب شقيا " يقول: لم يكن دعائي خائبا عندك.
وفي المجمع في قوله: وإنى خفت الموالي قيل: هم العمومة وبنو العم عن أبي جعفر (عليه السلام)، وقرأ على بن الحسين ومحمد بن على الباقر (عليهم السلام): " وإني خفت الموالي " بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء.
أقول: وبه قرأ جمع من الصحابة والتابعين.
وفي الاحتجاج روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليهم السلام) أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك وبلغها ذلك جاءت إليه وقالت له: يا بن أبي قحافي أ في كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا.
أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول فيما أقتص من خبر يحيى بن زكريا " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " الحديث.
أقول: مضمون الرواية مروي بطرق من الشيعة وغيرهم، واستدلالها (عليها السلام) مبني على كون المراد بالوراثة في الاية وراثة المال، وقد تقدم الكلام في ذلك في بيان الاية، وقد ورد من طرق أهل السنة بعض ما يدل على ذلك ففي الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن الحسن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يرحم الله أخي زكريا ما كان عليه من ورثة، ويرحم الله أخي لوطا إن كان يأوي إلى ركن شديد، وروي فيه أيضا عن الفاريابي عن ابن عباس قال: كان زكريا لا يولد له فسأل ربه فقال:
/ صفحة 23 /
" رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب - قال: يرثنى مالي ويرث من آل يعقوب النبوة.
وقال في روح المعاني: مذهب أهل السنة أن الانبياء (عليهم السلام) لا يرثون مالا ولا يورثون لما صح عندهم من الاخبار، وقد جاء أيضا ذلك من طريق الشيعة فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البخترى عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: إن العلماء ورثة الانبياء، وذلك أن الانبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشئ منها فقد أخذ بحظ وافر، وكلمه إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة.
والوراثة في الاية محمولة على ما سمعت، ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعم وراثة العلم والمنصب والمال وإنما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصة بالمال كالمنقولات العرفية.
ولو سلمنا أنها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصا في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوى الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا "، وقوله تعالى: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب " وقوله تعالى: " إن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم "، وقوله تعالى: " إن الارض لله يورثها من يشاء من عباده "، " ولله ميراث السماوات والارض ".
قولهم: " لا داعى إلى الصرف عن الحقيقة.
قلنا: " الداعي متحقق وهي صيانة قول المعصوم عن الكذب ودون تأويله خرط القتاد، والاثار الدالة على أنهم يورثون المال لا يعول عليها عند النقاد.
وزعم البعض أنه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله: " واجعله رب رضيا " قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه، وزعم أن كسبية الشئ تمنع من كونه موروثا ليس بشئ فقد تعلقت الوراثة بما ليس بكسبي في كلام الصادق.
ومن ذلك أيضا ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله رضى الله عنه قال: إن سليمان ورث داود، وإن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ورث سليمان (عليه السلام) فإن وراثة النبي سليمان لا يتصور أن تكون وراثة غير العلم والنبوة ونحوهما انتهى.
/ صفحة 24 /
وللبحث جهة كلامية ترجع إلى أمر فدك وهي من قرى خيبر وقد كانت في يد فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانتزعها من يدها الخليفة الاول استنادا إلى حديث رواها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الانبياء لا يورثون مالا وما تركوه صدقة وقد طالت المشاجرة فيه بين متكلمي الشيعة وأهل السنة وهو نوع بحث خارج عن غرض هذا الكتاب فلا نتعرض له، وجهة تفسيرية يهمنا التعرض لها لتعلقها بمدلول قوله تعالى: " وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ".
أما قوله: وقد جاء ذلك أيضا من طريق الشيعة الخ، فالرواية في ذلك غير منحصرة فيما نقله عن الصادق (عليه السلام) بل روي ما في مضمونها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا من طريقهم، ومعناه - على ما يسبق إلى ذهن كل سامع - أن الانبياء ليس من شأنهم أن يهتموا بجمع المال وتركه لمن خلفهم من الورثة وإنما الذي من شأنهم أن يتركوا لمن خلفهم الحكمة، وهذا معنى سائغ واستعمال شائع لا سبيل إلى دفعه.
وأما قوله: ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال إلى آخر ما ذكره فليس الكلام في كونه حقيقة لغويه في شئ أو مجازا مشهورا أو غير مشهور ولا إصرار على شئ من ذلك، وإنما الكلام في أن الوراثة سواء كانت حقيقة في وراثة المال مجازا في مثل العلم والحكمة أو حقيقة مشتركة بين ما يتعلق بالمال وما يتعلق بمثل العلم والحكمة تحتاج في إرادة وراثة العلم والحكمه إلى قرينة صارفة أو معينة وسياق الاية وسائر آيات القصة في سورتي آل عمران والانبياء والقرائن الحافة بها تأبى إرادة وراثة العلم ونحوه من لفظة يرثنى فضلا أن يصرف عنها أو يعينها على ما قدمنا توضيحه في بيان الاية.
نعم لا يصح تعلق الوراثة بالنبوة على ما يتحصل من تعليم القرآن أنها موهبة إلهيه لا تقبل الانتقال والتحول، ولا ريب أن الترك والانتقال مأخوذ في مفهوم الوراثة كوراثة المال والملك والمنصب والعلم ونحو ذلك ولذا لم يرد استعمال الوراثة في النبوة والرسالة في كتاب ولا سنة.
وأما قوله: قلنا: الداعي متحقق وهي صيانة قول المعصوم عن الكذب: ففيه
/ صفحة 25 /
اعتراف بأن لا قرينة على إرادة غير المال من لفظة يرثني من جهة سياق الايات بل الامر بالعكس وإنما اضطرهم إلى الحمل المذكور حفظ ظاهر الحديث لصحته عندهم وفيه أنه لا معنى لتوقف كلامه تعالى في الدلالة الاستعمالية على قرينة منفصلة وخاصة من غير كلامه تعالى وخاصة مع احتفاف الكلام بقرائن مخالفة، وهذا غير تخصيص روايات الاحكام وتقييدها لعمومات آيات الاحكام ومطلقاتها، فإن ذلك تصرف في محصل المراد من الخطاب لا في دلالة اللفظ بحسب الاستعمال.
على أنه لا معنى لحجية أخبار الاحاد في غير الاحكام الشرعية التي ينحصر فيها الجعل التشريعي لا سيما مع مخالفة الكتاب وهذه كلها امور مبينة في علم الاصول.
وأما قوله: " قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه " يشير إلى أخذ قوله: " واجعله رب رضيا " تأكيدا لقوله: " وليا يرثني " أي في النبوة أو أخذ قوله: رضيا، بمعنى المرضي عند الناس دفعا للغو الكلام وقد قدمنا في بيان الاية ما يعلم منه ما فيه.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن زكريا لما دعا ربه أن يهب له ذكرا فنادته الملائكه بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله أوحي إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام.
قال: لما أمسك لسانه ولم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله.
الحديث.
وفي تفسير النعماني بإسناده عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) حين سألوه عن معنى الوحى فقال: منه وحي النبوة ومنه وحي الالهام ومنه وحي الاشارة - وساقه إلى أن قال: وأما وحي الاشارة فقوله عزوجل: " فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا " أي أشار إليهم كقوله تعالى: " لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " وفي المجمع: " عن معمر قال: إن الصبيان قالوا ليحيى: إذهب بنا نلعب قال: ما للعب خلقنا، فأنزل الله تعالى: " وآتيناه الحكم صبيا " وروي ذلك عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام).
أقول: وروي في الدر المنثور هذا المعنى عن ابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا، وروى أيضا ما في معناه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
/ صفحة 26 /
وفي الكافي بإسناده عن علي بن أسباط قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) وقد خرج إلي فأجدت النظر إليه وجعلت أنظر إلى رأسه ورجليه لا صف قامته لاصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتى قعد فقال: يا علي إن الله احتج في الامامة بمثل ما احتج به في النبوة فقال: " وآتيناه الحكم صبيا " " ولما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة " فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي، ويجوز أن يؤتى الحكمة وهو ابن أربعين سنة.
أقول: وفي الرواية تفسير الحكم بالحكمة فتؤيد ما قدمناه.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: " ولم يكن جبارا عصيا " قال: كان سعيد بن المسيب يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا.
قال قتادة وقال الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أذنب يحيى بن زكريا قط ولا هم بامرأة.
وفيه: أخرج أحمد والحكيم الترمذي في نوادر الاصول والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطا أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا لم يهم بخطيئة ولم يعملها.
أقول: وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة بألفاظ مختلفة وينبغي تخصيص الجميع بأهل العصمة من الانبياء والائمة وإن كانت آبية عنه ظاهرا لكن الظاهر أن ذلك ناشئ من سوء تعبير الرواة لابتلائهم بالنقل بالمعنى وتوغلهم فيه.
وبالجملة الاخبار في زهد يحيى (عليه السلام) كثيرة فوق الاحصاء، وكان (عليه السلام) - على ما فيها - يأكل العشب ويلبس الليف وبكى من خشية الله حتى اتخذت الدموع مجرى في وجهه.
وفيه: أخرج ابن عساكر عن قرة قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى ابن زكريا والحسين بن علي، وحمرتها بكاؤها.
أقول: وروى هذا المعنى في المجمع عن الصادق (عليه السلام)، وفي آخره: وكان قاتل يحيى ولد زنا وقاتل الحسين ولد زنا.
وفيه أخرج الحاكم وابن عساكر عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم: إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا.
/ صفحة 27 /
وفي الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: فما عنى بقوله في يحيى: " وحنانا من لدنا وزكاة؟ " قال: تحنن الله.
قلت: فما بلغ من تحنن الله عليه؟ قال: كان إذا قال: يا رب قال الله عزوجل: لبيك يا يحيى.
الحديث.
وفي عيون الاخبار بإسناده إلى ياسر الخادم قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاث مواطن: يوم يولد ويخرج من بطن أمة فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الاخرة وأهلها، ويوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا.
وقد سلم الله عزوجل على يحيى في هذه الثلاثة المواطن وآمن روعته فقال: " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا "، وقد سلم عيسى بن مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال: " والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ".
(قصة زكريا في القرآن) وصفة (عليه السلام): وصفه الله سبحانه في كلامه بالنبوة والوحي، ووصفه في أول سورة مريم بالعبودية، وذكره في سورة الانعام في عداد الانبياء وعده من الصالحين ثم من المجتبين - وهم المخلصون - والمهديين.
تاريخ حياته: لم يذكر من أخباره في القرآن إلا دعاؤه لطلب الولد واستجابته وإعطاؤه يحيى (عليهما السلام)، وذلك بعد ما رآى من أمر مريم في عبادتها وكرامتها عند الله ما رآى.
فذكر سبحانه أن زكريا تكفل مريم لفقدها أباها عمران ثم لما نشأت اعتزلت عن الناس واشتغلت بالعبادة في محراب لها في المسجد وكان يدخل عليها زكريا يتفقدها " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ".
هنالك دعا زكريا ربه وسأله أن يهب له من أمراته ذرية طيبة وكان هو شيخا فانيا وامرأته عاقرا فاستجيب له ونادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى فسأل ربه آية لتطمئن نفسه أن النداء من جانبه سبحانه
/ صفحة 28 /
فقيل له: إن آيتك أن يعتقل لسانك فلا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا وكان كذلك وخرج على قومه من المحراب وأشار إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا وأصلح الله له زوجه فولدت له يحيى (عليهما السلام) (آل عمران: 37 - 41 مريم: 2 - 11 الانبياء: 89 - 90) ولم يذكر في القرآن مآل أمره (عليه السلام) وكيفية ارتحاله لكن وردت أخبار متكاثرة من طرق العامة والخاصة، أن قومه قتلوه وذلك أن أعداءه قصدوه بالقتل فهرب منهم والتجأ إلى شجرة فانفرجت له فدخل جوفها ثم التأمت فدلهم الشيطان عليه وأمرهم أن ينشروا الشجرة بالمنشار ففعلوا وقطعوه نصفين فقتل (عليه السلام) عند ذلك.
وقد ورد في بعض الاخبار أن السبب في قتله أنهم اتهموه في أمر مريم وحبلها بالمسيح وقالوا: هو وحده كان المتردد إليها الداخل عليها، وقيل غير ذلك.
(قصة يحيى (عليه السلام) في القرآن) 1 - الثناء عليه: ذكره الله في بضعة مواضع من كلامه وأثنى عليه ثناء جميلا فوصفه بأنه كان مصدقا بكلمة من الله وهو تصديقه بنبوة المسيح، وأنه كان سيدا يسود قومه، وأنه كان حصورا لا يأتي النساء، وكان نبيا ومن الصالحين (سورة آل عمران: 39) ومن المجتبين وهم المخلصون - ومن المهديين (الانعام: 85 - 87)، وأن الله هو سماه بيحيى ولم يجعل له من قبل سميا، وأمره بأخذ الكتاب بقوة وآتاه الحكم صبيا، وسلم عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (مريم: 2 - 15) ومدح بيت زكريا بقوله: " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين " الانبياء: 90 وهم يحيى وأبوه وأمه.
2 - تاريخ حياته: ولد (عليه السلام) لابويه على خرق العادة فقد كان أبوه شيخا فانيا وأمه عاقرا فرزقهما الله يحيى وهما آئسان من الولد، وأخذ بالرشد والعبادة والزهد في صغره وآتاه الله الحكم صبيا، وقد تجرد للتنسك والزهد والانقطاع فلم يتزوج قط ولا ألهاه شئ من ملاذ الدنيا.
وكان معاصرا لعيسى بن مريم (عليه السلام) وصدق نبوته، وكان سيدا في قومه تحن
/ صفحة 29 /
إليه القلوب وتميل إليه النفوس ويجتمع إليه الناس فيعظهم ويدعوهم إلى التوبة ويأمرهم بالتقوى حتى استهشد (عليه السلام).
ولم يرد في القرآن مقتله (عليه السلام)، والذي ورد في الاخبار أنه كان السببب في قتله أن امرأة بغيا افتتن بها ملك بني اسرائيل وكان يأتيها فنهاه يحيى ووبخه على ذلك - وكان مكرما عند الملك يطيع أمره ويسمع قوله - فأضمرت المرأة عداوته وطلبت من الملك رأس يحيى وألحت عليه فأمر به فذبح وأهدي إليها رأسه.
وفي بعض الاخبار أن التي طلبت منه رأس يحيى كانت ابنة أخي الملك وكان يريد أن يتزوج بها فنهاه يحيى عن ذلك فزينتها أمها بما يأخذ بمجامع قلب الملك وأرسلتها إليه ولقنتها إذا منح الملك عليها بسؤال حاجة أن تسأله رأس يحيى ففعلت فذبح (عليه السلام) ووضع رأسه في طست من ذهب وأهدى إليها.
وفي الروايات نوادر كثيرة من زهده وتنسكه وبكائه من خشية الله ومواعظه وحكمه.
3 - قصه زكريا ويحيى في الانجيل قال (1): كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا وامرأته من بنات هارون واسمها إليصابات وكان كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم.
ولم يكن لهما ولد إذ كانت اليصابات عاقرا وكانا كلاهما متقدمين في أيامهما.
فبينما هو يكهن في نوبه فرقته أمام الله.
حسب عادة الكهنوت، أصابته القرعة أن يدخل إلى هيكل الرب ويبخر.
وكان كل جمهور الشعب يصلون خارجا وقت البخور.
فظهر له ملاك الرب واقفا عن يمين مذبح البخور.
فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف.
فقال له الملاك لا تخف يا زكريا لان طلبتك قد سمعت وأمرأتك إليصابات ستلد ابنا وتسميه يوحنا ويكون لك فرج وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته.
لانه يكون عظيما أمام الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس.
ويرد كثيرين من بنى اسرائيل إلى الرب إلههم.
ويتقدم أمامه بروح
* (هامش) *
(1) انجيل لوقا.
الاصحاح 5.
(*)
/ صفحة 30 /
إيليا وقوته ليرد قلوب الاباء إلى الابناء والعصاة إلى فكر الابرار لكى يهيئ للرب شعبا مستعدا.
فقال زكريا للملاك كيف أعلم هذا لانى أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها فأجاب الملاك وقال أنا جبريل الواقف قدام الله وأرسلت لا كلمك وأبشرك بهذا وها أنت تكون صامتا ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لانك لم تصدق كلامي الذى سيتم في وقته.
وكان الشعب منتظرين زكريا ومتعجبين من إبطائه في الهيكل.
فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم ففهموا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل فكان يومي إليهم وبقي صامتا ولما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته.
وبعد تلك الايام حبلت إليصابات امرأته وأخفت نفسها خمسة أشهر قائلة: هكذا قد فعل بي الرب في الايام التي فيها نظر إلى لينزع عاري بين الناس.
إلى أن قال: وأما إليصابات فتم زمانها لتلد فولدت ابنا وسمع جيرانها وأقرباؤها أن الرب عظم رحمته لها ففرحوا معها.
وفي اليوم جاءوا ليختنوا الصبي وسموه باسم أبيه زكريا فأجابت أمه وقالت لا بل يسمى يوحنا.
فقالوا لها ليس أحد في عشيرتك تسمى بهذا الاسم.
ثم أو مأوا إلى أبيه ماذا يريد أن يسمى.
فطلب لوحا وكتب قائلا اسمه يوحنا فتعجب الجميع.
وفي الحال انفتح فمه ولسانه وتكلم وبارك الله.
فوقع خوف على كل جيرانهم وتحدث بهذه الامور جميعها في كل جبال اليهودية.
فأودعها جميع السامعين في قلوبهم قائلين أترى ماذا يكون هذا الصبى وكانت يد الرب معه.
وامتلا زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ.
.
.
الخ.
وفيه (1): وفي السنة الخامسة عشرة من سلطنة طيباريوس قيصر إذ كان بيلاطس النبطي واليا على اليهودية، وهيرودس رئيس ربع على الجليل، وفيلبس أخوه رئيس ربع على إيطورية وكورة تراخوتينس وليسانيوس رئيس ربع على الابلية في أيام رئيس الكهنة حنان وقيافا كانت كلمة الله على يوحنا بن زكريا في البرية.
* (هامش) *
(1) انجيل لوقا الاصحاح الثالث - 1.
(*)
/ صفحة 31 /
فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالاردن يكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا.
كما هو مكتوب في سفر أقوال أشعيا النبي القائل " صوت خارج في البرية أعدوا طريق الرب أصنعوا سبله مستقيمة، كل واد يمتلئ وكل جبل وأكمة ينخفض وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرقا سهلة ويبصر كل بشر خلاص الله.
وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعمدوا منه يا أولاد الافاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الاتي فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة ولا تبتدؤا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أبا لاني أقول لكم إن الله قادر على أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لابراهيم والان قد وضعت الفأس على أصل الشجر - فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار.
وسأله الجموع قائلين فماذا نفعل.
فأجاب وقال لهم من له ثوبان فليعط من ليس له ومن له طعام فليفعل هكذا.
وجاء عشارون أيضا ليعمدوا فقالوا له يا معلم ماذا نفعل - فقال لهم لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم.
وسأله جنديون أيضا قائلين وماذا نفعل نحن، فقال لهم لا تظلموا أحدا ولا تشوا بأحد واكتفوا بعلائفكم.
وإذ كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح أجاب يوحنا الجميع قائلا أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني الذى لست أهلا أن أحل سيور حذائه هو سيعمدكم بروح القدس ونار الذي رفشه في يده وسينقي بيدره ويجمع القمح إلى مخزنه وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ وبأشياء أخر كثيرة كان يعظ الشعب ويبشرهم.
أما هيرودس رئيس الربع فإذا توبخ منه لسبب هيروديا امرأة فيلبس أخيه ولسبب جميع الشرور التي كان هيرودس يفعلها زاد هذا أيضا على الجميع أنه حبس يوحنا في السجن.
ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا.
وفيه (1): أن هيرودس نفسه كان قد أرسل وأمسك يوحنا وأوثقه في السجن من أجل هيروديا امرأة فيلبس أخيه إذ كان قد تزوج بها.
لان يوحنا كان يقول لهيرودس لا يحل أن تكون لك امرأة أخيك.
فحنقت هيروديا عليه وأرادت أن
* (هامش) *
(1) انجيل مرقس الاصحاح السادس 17 - 29.
(*)
/ صفحة 32 /
تقتله ولم تقدر.
لان هيرودس كان يهاب يوحنا عالما أنه رجل بار وقديس وكان يحفظه.
وإذ سمعه فعل كثيرا وسمعه بسرور.
وإذ كان يوم موافق لما صنع هيرودس في مولده عشاء لعظمائه وقواد الالوف ووجوه الجليل.
دخلت ابنة هيروديا ورقصت، فسرت هيرودس والمتكئين معه.
فقال الملك للصبيه مهما أردت اطلبي منى فاعطيك.
وأقسم لها أن مهما طلبت منى لاعطينك حتى نصف مملكتي.
فخرجت وقالت لامها ماذا أطلب.
فقالت رأس يوحنا المعمدان.
فدخلت للوقت بسرعة إلى الملك وطلبت قائله أريد أن تعطيني حالا رأس يوحنا المعمدان على طبق فحزن الملك جدا ولاجل الاقسام والمتكئين لم يرد أن يردها.
فللوقت أرسل الملك سيأفا وأمر أن يؤتى برأسه فمضى وقطع رأسه في السجن وأتى برأسه على طبق وأعطاه للصبية والصبية أعطته لامها.
ولما سمع تلاميذه جاءوا ورفعوا جثته ووضعوها في قبر.
انتهى.
وليحيى (عليه السلام) أخبار أخر متفرقة في الاناجيل لا تتعدى حدود ما أوردناه وللمتدبر الناقد أن يطبق ما نقلناه من الاناجيل على ما تقدم حتى يحصل على موارد الاختلاف.
واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) - فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) - قالت إنى أعوذ بالرحمن منك أن كنت تقيا (18) - قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) - قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان
/ صفحة 33 /
امرا مقضيا (21) - فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22) - فأجائها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا (23) - فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا (24) - وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا (25) - فكلى واشربي وقرى عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26) - فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا (27) - يا أخت هرون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت أمك بغيا (28) - فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29) - قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا - (30) - وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلوة والزكوة ما دمت حيا (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (32) - والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33) - ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون (34) - ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (35) - وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (36) - فاختلف الاحزاب
/ صفحة 34 /
من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم (37) - أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين (38) - وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الامر وهم في غفله وهم لا يؤمنون (39) - إنا نحن نرث الارض ومن عليها وإلينا يرجعون (40) - (بيان) انتقال من قصة يحيى إلى قصة عيسى (عليهما السلام) وبين القصتين شبها تاما فولادتهما على خرق العادة وقد أوتي عيسى الرشد والنبوة وهو صبى كيحيى، وقد أخبر أنه بر بوالدته وليس بجبار شقى وأن السلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا كما أخبر الله عن يحيى (عليه السلام) بذلك إلى غير ذلك من وجوه الشبه وقد صدق يحيى بعيسى وآمن به.
قوله تعالى: " واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا المراد بالكتاب القرآن أو السورة فهي جزء من الكتاب وجزء الكتاب كتاب والاحتمالان من حيث المآل واحد فلا كثير جدوى في اصرار بعضهم على تقديم الاحتمال الثاني وتعيينه.
والنبذ - على ما ذكره الراغب - طرح الشئ الحقير الذي لا يعبأ به يقال نبذه إذا طرحه مستحقرا له غير معتن به والانتباذ الاعتزال من الناس والانفراد.
ومريم هي أبنة عمران أم المسيح (عليهما السلام)، والمراد بمريم نبأ مريم وقوله: " إذا " ظرف له، وقوله: " انتبذت " إلى آخر القصة تفصيل المظروف الذي هو نبأ مريم، والمعنى واذكر يا محمد في هذا الكتاب نبأ مريم حين اعتزلت من أهلها في مكان شرقي، وكأنه شرقي المسجد.
قوله تعالى: " فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " الحجاب ما يحجب الشئ ويستره عن غيره، وكأنها اتخذت الحجاب من دون
/ صفحة 35 /
أهلها لتنقطع عنهم وتعتكف للعبادة كما يشير إليه قوله: " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " آل عمران: 37 وقد مر الكلام في تفسير الاية.
وقيل: " إنها كانت تقيم المسجد حتى إذا حاضت خرجت منها وأقامت في بيت زكريا حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مشرفة لها في ناحيه الدار وقد ضربت بينها وبين أهلها حجابا لتغتسل إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شاب أمرد سوى الخلق فاستعاذت بالله منه.
وفيه أنه لا دليل على هذا التفصيل من جهة اللفظ، وقد عرفت أن آية آل عمران لا تخلو من تأييد للمعنى السابق.
وقوله: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " ظاهر السياق أن فاعل " تمثل " ضمير عائد إلى الروح فالروح المرسل إليها هو المتمثل لها بشرا سويا ومعنى تمثله لها بشرا ترائيه لها، وظهوره في حاستها في صورة البشر وهو في نفسه روح وليس ببشر.
وإذ لم يكن بشرا وليس من الجن فقد كان ملكا بمعنى الخلق الثالث الذي وصفه الله سبحانه في كتابه وسماه ملكا، وقد ذكر سبحانه ملك الوحي في كلامه وسماه جبريل بقوله: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " البقرة: 97 وسماه روحا في قوله: " قل نزله روح القدس من ربك " النحل: 102 وقوله: " نزل به الروح الامين على قلبك " الشعراء: 194 وسماه رسولا في قوله: " إنه لقول رسول كريم " الحاقة: 40، فبهذا كله يتأيد أن الروح الذي أرسله الله إليها إنما هو جبريل.
وأما قوله: " إذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم - إلى أن قال - قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يفعل ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " آل عمران: 47.
فتطبيقه على الايات التى نحن فيها لا يدع ريبا في أن قول الملائكة لمريم ومحاورتهم معها المذكور هناك هو قول الروح لها المذكور ههنا، ونسبة قول جبريل إلى الملائكة من قبيل نسبة قول الواحد من القوم إلى جماعتهم لاشتراكهم معه في خلق أو سنة أو عادة، وفي القرآن منه شئ كثير كقوله تعالى: " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة
/ صفحة 36 /
ليخرجن الاعز منها الاذل " المنافقون: 8، والقائل واحد.
وقوله: " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " الانفال: 32، والقائل واحد: وإضافة الروح إليه تعالى للتشريف مع إشعار بالتعظيم، وقد تقدم كلام في معنى الروح في تفسير قوله تعالى: " يسألونك عن الروح " الاية أسرى: 85.
ومن التفسير الردي قول بعضهم إن المراد بالروح في الاية عيسى (عليه السلام) وضمير تمثل عائد على جبريل.
وهو كما ترى.
ومن القراءة الردية قراءة بعضهم " روحنا " بتشديد النون على أن روحنا أسم الملك الذي أرسل إلى مريم، وهو غير جبريل الروح الامين.
وهو أيضا كما ترى.
(كلام في معنى التمثل) كثيرا ما ورد ذكر التمثل في الروايات، وأما في الكتاب فلم يرد ذكره إلا في قصة مريم في سورتها قال تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا الاية 17 من السورة، والايات التالية التى يعرف فيها جبريل نفسه لمريم خير شاهد أنه كان حال تمثله لها في صورة بشر باقيا على ملكيته ولم يصر بذلك بشرا، وإنما ظهر في صورة بشر وليس ببشر بل ملك وإنما كانت مريم تراها في صورة بشر.
فمعنى تمثله لها كذلك ظهوره لها في صورة بشر وليس عليها في نفسه بمعنى أنه كان في ظرف إدراكها على صورة بشر وهو في الخارج عن إدراكها على خلاف ذلك.
وهذا هو الذي ينطبق على معنى التمثل اللغوي فإن معنى تمثل شئ لشئ في صورة كذا هو تصوره عنده بصورته وهو هو لا صيرورة الشئ شيئا آخر فتمثل الملك بشرا هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الانسان لا صيرورة الملك إنسانا، ولو كان التمثل واقعا في نفسه وفي الخارج عن ظرف الادراك كان من قبيل صيرورة الشئ شيئا آخر وانقلابه إليه لا بمعنى ظهوره له كذلك.
واستشكل أمر هذا التمثل بامور مذكورة في التفسير الكبير وغيره.
أحدها: أن جبريل شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الاخبار فمتى صار في
/ صفحة 37 /
مقدار جثة الانسان فإن تساقطت أجزاؤه الزائدة على مقدار جثه الانسان لزم أن لا يبقى جبريل، وإن لم تتساقط لزم تداخلها وهو محال.
الثاني: أنه لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذى يرى الان هو زيد الذي رئي بالامس لاحتمال التمثل.
الثالث أنه لو جاز التمثل بصورة الانسان جاز التمثل بصورة غيره كالبعوض والحشرات وغيرها ومعلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل.
الرابع: أنه لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل هو المتمثل به.
وأجيب عن الاول: بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة ويتمكن بالاجزاء من أن يتمثل بشرا هذا على القول بأنه جسم وأما على القول بكونه روحانيا فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير.
وأنت ترى أن اول الشقين في الجواب كأصل الاشكال مبنى على كون التمثل تغيرا من المتمثل في نفسه وبطلان صورته الاولى وانتقاله إلى صورة أخرى، وقد تقدم أن التمثل ظهوره في صورة ما وهو في نفسه بخلافها.
والاية بسياقها ظاهرة في أن جبريل لم يخرج بالتمثل عن كونه ملكا ولا صار بشرا في نفسه وإنما ظهر لها في صورة البشر فهو كذلك في ظرف إدراكها لا في نفسه وفي الخارج عن ظرف إدراكها، ونظير ذلك نزول الملائكة الكرام في قصة البشارة بإسحاق وتمثلهم لابراهيم ولوط (عليهما السلام) في صورة البشر ونظيره ظهور إبليس في صورة سراقة بن مالك يوم بدر، وقد أشار تعالى إليه في سورة الانفال الايه وقد كان سراقة يومئذ بمكة.
وفة الروايات من ذلك شئ كثير كتمثل إبليس يوم الندوة للمشركين في صورة شيخ كبير، وتمثله يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج، وتمثله ليحيى (عليه السلام) في صورة عجيبة، ونظير تمثل الدنيا لعلي (عليه السلام) في صورة مرأة حسناء فتانة كما في الرواية، وما ورد من تمثل المال والولد والعمل للانسان عند الموت، وما ورد من تمثل الاعمال للانسان في القبر ويوم القيامة.
ومن هذا القبيل التمثلات المنامية كتمثل العدو في
/ صفحة 38 /
صورة الكلب أو الحية أو العقرب وتمثل الزوج في صورة النعل وتمثل العلاء في صورة الفرس والفخر في صورة التاج إلى غير ذلك.
فالمتمثل في أغلب هذه الموارد - كما ترى - من المعاني التي لا صورة لها في نفسها ولا شكل، ولا يتحقق فيها تغير من صورة إلى صورة ولا من شكل إلى شكل كما عليه بناء الاشكال والجواب.
واجيب عن الثاني: بأنه مشترك الورود فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك لجواز أن يخلق تعالى مثل زيد مثلا وبذلك يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على حذو ما ذكر في الاشكال، وكذا من لم يعترف بالصانع و أسند الحوادث إلى الاسباب الطبيعية أو الاوضاع السماوية يجوز عنده أن يتحقق من الاسباب ما يستتبع حدوث مثل زيد مثلا فيعود الاشكال.
ولعله لما كان مثل هذه الحوادث نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الاحساس فلا يلزم الشك في كون زيد الذي نشاهده الان هو زيد الذي شاهدناه أمس.
وأنت خبير بأن هذا الجواب لا يحسم مادة الاشكال إذ تسليم المغايرة بين الحس والمحسوس كرؤية غير زيد في صورة زيد وإن كانت نادرة يبطل العلم الحسي ولا يبقى إلا أن يدعى أنه إنما يسمى علما لان ندرة التخلف والخطأ تستوجب غفلة الانسان عن الالتفات إلى الشك فيه واحتمال المغايرة بين الحس والمحسوس.
على أنه إذا جازت المغايرة وهي محتملة التحقق في كل مورد مورد لم يكن لنا سبيل إلى العلم بكونها نادرة فمن أين يعلم أن مثل ذلك نادر الوجود؟.
والحق أن الاشكال و الجواب فاسدان من أصلهما: أما الاشكال فهو مبنى على أن الذي يناله الحس هو عين المحسوس الخارجي بخارجيته دون الصورة المأخوذة منه ويتفرع على ذلك الغفلة عن معنى كون الاحكام الحسية بديهية والغفلة عن أن تحميل حكم الحس على المحسوس الخارجي إنما هو بالفكر والنظر لا بنفس الحس.
فالذي يناله الحس من العين الخارجي شئ من كيفياته وهيآته يشابهه في الجملة لا نفس الشئ الخارجي ثم التجربة والنظر يعرفان حاله في نفسه والدليل على ذلك
/ صفحة 39 /
أقسام المغايرة بين الحس والمحسوس الخارجي وهي المسماة بأغلاط الحس كمشاهدة الكبير صغيرا والعالي سافلا والمستقيم مائلا والمتحرك ساكنا وعكس ذلك باختلاف المناظر وكذلك حكم سائر الحواس كما نرى الفرد من الانسان مثلا مع بعد المسافة أصغر ما يمكن ونحكم بتكرر الحس وبالتجربة أنه إنسان يماثلنا في عظم الجثة، ونشاهد الشمس قدر صحفة وهي تدور حول الارض ثم البراهين الرياضية تسوقنا إلى أنها أكبر من الارض كذا وكذا مرة وأن الارض هي التي تدور حول الشمس.
فتبين أن المحسوس لنا بالحقيقة هي الصورة التي في ظرف حسنا دون الامر الخارجي بخارجيته، ثم إنا لا نرتاب في أن الذي أحسسناه وهو في حسنا قد أحسسناه وهذا معنى بداهة الحس، وأما المحسوس وهو الذي في الخارج عنا وعن حسنا فالحكم الذي نحكم به عليه إنما هو ناشئ عن فكرنا ونظرنا وهذا ما قلناه أن الذى نعتقده من حال الشئ الخارجي حكم ناشئ عن الفكر والنظر دون الحس هذا.
وقد بين في العلوم الباحثة عن الحس والمحسوس أن لجهازات الحواس أنواعا من التصرف في المحسوس.
ثم إن من الضروري عندنا أن في الخارج من إدراكنا سببا تتأثر عنه نفوسنا فتدرك ما تدرك، وهذا السبب ربما كان خارجيا كالاجسام التى ترتبط بكيفياتها وأشكالها بنفوسنا من طريق الحواس فندرك بالحس صورا منها ثم نحصل بتجربة أو فكر شيئا من أمرها في نفسها، وربما كان داخليا كالخوف الشديد الطارئ على الانسان فجأة يصور له صورا هائلة مهيبة على حسب ما عنده من الاوهام والخواطر المؤلمة.
وفي جميع هذه الاحوال ربما أصاب الانسان في تشخيصه حال المحسوس الخارجي وهو الاغلب وربما أخطأ كمن يرى سرابا فيقدر أنه ماء أو أشباحا فيحسب أنها أشخاص.
فقد تبين من جميع ما تقدم أن المغايرة بين الحس والمحسوس الخارجي في نفسه - على كونها مما لا بد منه في الجملة - لا تستدعي ارتفاع الوثوق وبطلان الاعتماد على الجس فإن الامر في ذلك يدور مدار ما حصله الانسان من تجربة أو نظر أو غير ذلك وأصدقها ما صدقته التجربة.
وأما وجه فساد الجواب فبناؤه على تسليم ما تسلمه في الاشكال من نيل الحس
/ صفحة 40 /
نفس المحسوس الخارجي بعينه، وأن العلم بالمحسوس في نفسه مستند إلى الحس نفسه مع التخلف نادرا.
وأجيب عن الاشكال الثالث بأن أصل تجويز تصور الملك بصور سائر الحيوان غير الانسان قائم في الاصل، وإنما عرف فساده بدلائل السمع.
وفيه أنه لا دليل من جهة السمع يعتد به نعم يرد على أصل الاشكال أن المراد بالامكان إن كان هو الامكان المقابل للضرورة والامتناع فمن البين أن تمثل الملك بصورة الانسان لا يستلزم إمكان تمثله بصورة غيره من الحيوان، وإن كان هو الامكان بمعنى الاحتمال العقلي فلا محذور في الاحتمال حتى يقوم الدليل على نفيه أو إثباته.
وأجيب عن الاشكال الرابع بمثل ما أجيب به عن الثالث فإن احتمال التخلف قائم في المتواتر لكن دلائل السمع تدفعه.
وفيه أن نظير الاحتمال قائم في نفس دليل السمع، فإن الطريق إليه حاسة السمع والجواب الصحيح عن هذا الاشكال هو الذي أوردناه جوابا عن الاشكال الثاني.
والله أعلم.
فظهر مما قدمناه أن التمثل هو ظهور الشئ للانسان بصورة يألفها الانسان وتناسب الغرض الذي لاجله الظهور كظهور جبريل لمريم في صورة بشر سوي لما أن المعهود عند الانسان من الرسالة أن يتحمل إنسان الرسالة ثم يأتي المرسل إليه ويلقي إليه ما تحمله من الرسالة من طريق التكلم والتخاطب، وكظهور الدنيا لعلي (عليه السلام) في صورة أمرأة حسناء لتغرها لما أن الفتاة الفائقة في جمالها هي في باب الاهواء واللذائذ النفسانية أقوى سبب يتوسل به للاخذ بمجامع القلب والغلبة على العقل إلى غير ذلك من الامثلة الواردة.
فإن قلت: لازم ذلك القول بالسفسطة فإن الادراك الذي ليست وراءه حقيقة تطابقه من جميع الجهات ليس إلا وهما سرابيا وخيالا باطلا ورجوعه إلى السفسطة.
قلت: فرق بين أن يكون هناك حقيقة يظهر للمدرك بما يألفه من الصور وتحتمله أدوات إدراكه وبين أن لا يكون هناك إلا صورة إدراكية ليس وراءها شئ، والسفسطي هي الثاني دون الاول وتوخي أزيد من ذلك في باب العلم الحصولي طمع فيما لا مطمع فيه وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله.
والله الهادي.
/ صفحة 41 /
قوله تعالى: " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " ابتدرت إلى تكليمه لما أدهشها حضوره عندها وهي تحسب أنه بشر هجم عليها لامر يسوؤها واستعاذت بالرحمن استدرارا للرحمة العامة الالهية التي هي غايه آمال المنقطعين؟ إليه من أهل القنوت.
واشتراطها بقولها: " إن كنت تقيا " من قبيل الاشتراط بوصف يدعيه المخاطب لنفسه أو هو محقق فيه ليفيد إطلاق الحكم المشروط وعلية الوصف للحكم، والتقوى وصف جميل يشق على الانسان أن ينفيه عن نفسه ويعترف بفقده فيؤل المعنى إلى مثل قولنا: إني أعوذ وأعتصم بالرحمان منك إن كنت تقيا ومن الواجب أن تكون تقيا فليردعك تقواك عن أن تتعرض بي وتقصدني بسوء.
فالاية من قبيل خطاب المؤمنين بمثل قوله تعالى: " واتقوا الله إن كنتم مؤمنين " المائدة: 57، وقوله: " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " المائدة: 23.
وربما احتمل في قوله: " إن كنت " أن تكون إن نافية والمعنى ما كنت تقيا إذ هتكت علي ستري ودخلت بغير إذني.
وأول الوجهين أوفق بالسياق.
والقول بأن التقي اسم رجل طالح أو صالح لا يعبأ به.
قوله تعالى: " قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا " جواب الروح لمريم وقد صدر الكلام بالقصر ليفيد أنه ليس ببشر كما حسبته فيزول بذلك روعها ثم يطيب نفسها بالبشرى، والزكي هو النامى نموا صالحا والنابت نباتا حسنا.
ومن لطيف التوافق في هذه القصص الموردة في السورة أنه تعالى ذكر زكريا وأنه وهب له يحيى، وذكر مريم وأنه وهب لها عيسى، وذكر إبراهيم وأنه وهب له إسحاق ويعقوب، وذكر موسى وأنه وهب له هارون (عليه السلام).
قوله تعالى: " قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " مس البشر بقرينة مقابلته للبغي وهو الزنا كناية عن النكاح وهو في نفسه أعم ولذا اكتفى في القصة من سورة آل عمران بقوله: " ولم يمسسني بشر " والاستفهام للتعجب أي كيف يكون لي ولد ولم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح ولا من طريق الحرام بالزنا.
والسياق يشهد أنها فهمت من قوله: " لاهب لك غلاما الخ، أنه سيهبه حالا
/ صفحة 42 /
ولذا قالت ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " فنفت النكاح والزنا في الماضي.
قوله تعالى: " قال كذلك قال ربك هو علي هين " الخ، أي قال الروح الامر كذلك أي كما وصفته لك ثم قال: قال: " ربك هو علي هين " وقد تقدم في قصة زكريا ويحيى (عليهما السلام) توضيح ما للجملتين.
وقوله: " وليكون آية للناس ورحمة منا " ذكر بعض ما هو الغرض من خلق المسيح على هذا النهج الخارق، وهو معطوف على مقدر أي خلقناه بنفخ الروح من غير أب لكذا وكذا ولنجعله آية للناس بخلقته ورحمة منا برسالته والايات الجارية على يده وحذف بعض الغرض وعطف بعضه المذكور عليه كثير في القرآن كقوله تعالى: " وليكون من الموقنين " الانعام: 75، وفي هذه الصنعة أيهام أن الاغراض الالهية أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ.
وقوله: " وكان أمرا مقضيا " إشارة إلى تحتم القضاء في أمر هذا الغلام الزكي فلا يرد بإباء أو دعاء.
قوله تعالى: " فحملته فانتبذت به مكانا قصيا " القصي البعيد أي حملت بالولد فانفردت واعتزلت به مكانا بعيدا من أهله.
قوله تعالى: " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " إلى آخر الاية الاجاءة إفعال من جاء يقال: أجاءه وجاء به بمعنى وهو في الاية كناية عن الدفع والالجاء، والمخاض والطلق وجع الولادة وجذع النخلة ساقها، والنسي بفتح النون وكسرها كالوتر والوتر هو الشئ الحقير الذي من شأنه أن ينسى، والمعنى - أنها لما اعتزلت من قومها في مكان بعيد منهم - دفعها وألجأها الطلق إلى جذع نخلة كان هناك لوضع حملها - والتعبير بجذع النخلة دون النخلة مشعر بكونها يابسة غير مخضرة - وقالت استحياء من الناس يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا وشيئا لا يعبأ به منسيا لا يذكر فلم يقع فيه الناس كما سيقع الناس في.
قوله تعالى: " فناداها من تحتها أن لا تحزني " إلى آخر الايتين ظاهر السياق أن ضمير الفاعل في " ناداها لعيسى (عليه السلام) لا للروح السابق الذكر، ويؤيده تقييده بقوله: " من تحتها " فإن هذا القيد انسب لحال المولود مع والدته حين الوضع منه لحال الملك
/ صفحة 43 /
المنادى مع من يناديه، ويؤيده أيضا احتفافه بالضمائر الراجعة إلى عيسى (عليه السلام).
وقيل: الضمير للروح وأصلح كون الروح تحتها بأنها كانت حين الوضع في أكمة وكان الروح واقفا تحت الاكمة فناداها من تحتها، ولا دليل على شئ من ذلك من جهة اللفظ.
ولا يبعد أن يستفاد من ترتب قوله: " فناداها " على قوله: " قالت يا ليتنى " الخ، إنها انما قالت هذه الكلمة حين الوضع أو بعده فعقبها (عليه السلام) بقوله: لا تحزني، الخ.
وقوله: " ألا تحزني " تسلية لها لما أصابها من الحزن والغم الشديد فإنه لا مصيبة هي أمر وأشق على المرأة الزاهدة المتنسكة وخاصة إذا كانت عذراء بتولا من أن تتهم في عرضها وخاصي إذا كانت من بيت معروف بالعفة والنزاهة في حاضر حاله وسابق عهده وخاصة إذا كانت تهمة لا سبيل لها إلى الدفاع عن نفسها وكانت الحجة للخصم عليها، ولذا أشار أن لا تتكلم مع أحد وتكفل هو الدفاع عنها وتلك حجة لا يدفعها دافع.
وقوله: " قد جعل ربك تحتك سريا " السري جدول الماء والسري هو الشريف الرفيع، والمعنى الاول هو الانسب للسياق، ومن القرينة عليه قوله بعد: " فكلي واشربي " كما لا يخفى.
وقيل: المراد هو المعنى الثاني ومصداقه عيسى (عليه السلام)، وقد عرفت أن السياق لا يساعد عليه، وعلى أي تقدير الجملة إلى آخر كلامه تطييب لنفس مريم (عليهما السلام).
وقوله: " وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " الهز هو التحريك الشديد، ونقل عن الفراء أن العرب تقول: هزه وهز به، والمساقطة هي الاسقاط، وضمير " تساقط " للنخلة، ونسبة الهز إلى الجذع والمساقطة إلى النخلة لا تخلو من إشعار بأن النخلة كانت يابسة وإنما أخضرت وأورقت وأثمرت رطبا جنيا لساعتها، والرطب هو نضيج البسر، والجني هو المجني وذكر في القاموس - على ما نقل - أن الجني إنما يقال لما جني من ساعته.
قوله تعالى: " فكلي واشربي وقري عينا " قرار العين كناية عن المسرة يقال:
/ صفحة 44 /
أقر الله عليك أي سرك، والمعنى فكلي من الرطب الجني الذي تسقط واشربي من السري الذي تحتك وكوني على مسرة من غير أن تحزني والتمتع بالاكل والشرب من أمارات السرور والابتهاج فإن المصاب في شغل من التمتع بلذيذ الطعام ومرئ الشراب ومصيبته شاغلة، والمعنى، فكلى من الرطب الجني واشربي من السري وكوني على مسرة - مما حباك الله به - من غير أن تحزني، وأما ما تخافين من تهمة الناس ومساءلتهم فالزمي السكوت ولا تكلمي أحدا فأنا أكفيكهم.
قوله تعالى: " فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " المراد بالصوم صوم الصمت كما يدل عليه التفريع الذي في قوله: " فلن أكلم اليوم إنسيا " وكذا يستفاد من السياق أنه كان أمرا مسنونا في ذلك الوقت ولذا أرسل عذرا إرسال المسلم، والانسي منسوب إلى الانس مقابل الجن والمراد به الفرد من الانسان.
وقوله: " فإما ترين " الخ، ما زائدة والاصل أن تري بشرا فقولي الخ، والمعنى: إن تري بشرا وكلمك أو سألك عن شأن الولد فقولي الخ، والمراد بالقول التفهيم بالاشارة فربما يسمى التفهيم بالاشارة قولا، وعن الفراء أن العرب تسمى كل ما وصل إلى الانسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام.
وليس ببعيد أن يستفاد من قوله: " فقولي إني نذرت للرحمن صوما " بمعونة السياق أنه أمرها أن تنوي الصوم لوقتها وتنذره لله على نفسها فلا يكون أخبارا بما لا حقيقة له.
وقوله: " فإما ترين " الخ، على أي حال متفرع على قوله: " وقري عينا " والمراد لا تكلمي بشرا ولا تجيبي أحدا سألك عن شأني بل ردي الامر إلي فأنا أكفيك جواب سؤالهم وأدافع خصامهم.
قوله تعالى: " فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم أنى لك هذا لقد جئت شيئا فريا " الضميران في " به " و " تحمله " لعيسى، والاستفهام إنكارى حملهم عليه ما شاهدوه من عجيب أمرها مع ما لها من سابقة الزهد والاحتجاب وكانت ابنة عمران
/ صفحة 45 /
ومن آل هارون القديس، والفري هو العظيم البديع وقيل: هو من الافتراء بمعنى الكذب كناية عن القبيح المنكر والاية التالية تؤيد المعنى الاول، ومعنى الاية واضح.
قوله تعالى: " يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت أمك بغيا " ذكر في المجمع أن في المراد من هارون أربعة أقوال: أحدها: أنه كان رجلا صالحا من بني إسرائيل ينسب إليه كل صالح، وعلى هذا فالمراد بالاخوة الشباهة ومعنى " يا أخت هارون " يا شبيهة هارون، والثاني: أنه كان أخاها لابيها لا من امها والثالث: أن المراد به هارون أخو موسى الكليم وعلى هذا فالمراد بالاخوة الانتساب كما يقال: " أخو تميم، والرابع: أنه كان رجلا معروفا بالعهر والفساد انتهى ملخصا والبغي الزانية ومعنى الاية ظاهر.
قوله تعالى: " فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا " إشارتها إليه إرجاع لهم إليه حتى يجيبهم ويكشف لهم عن حقيقة الامر وهو جرى منها على ما أمرها به حينما ولد بقوله: " فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمان صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " على ما تقدم البحث عنه.
والمهد السرير الذي يهيؤ للصبي فيوضع فيه وينوم عليه، وقيل: المراد بالمهد في الاية حجر أمه، وقيل المرباة أي المرجحة، وقيل المكان الذي استقر عليه كل ذلك لانها لم تكن هيأت له مهدا، والحق أن الاية ظاهرة في ذلك ولا دليل على أنها لم تكن هيأت وقتئذ له مهدا فلعل الناس هجموا عليها وكلموها بعد ما رجعت إلى بيتها واستقرت فيه وهيأت له مهدا أو مرجحة وتسمى أيضا مهدا.
وقد استشكلت الاية بأن الاتيان بلفظة كان مخل بالمعنى فإن ما يقتضيه المقام هو أن يستغربوا تكليم من هو في المهد صبي لا تكليم من كان في المهد صبيا قبل ذلك فكل من يكلمه الناس من رجل أو أمراة كان في المهد صبيا قبل التكليم بحين ولا استغراب فيه.
وأجيب عنه أولا أن الزمان الماضي منه بعيد ومنه قريب يلي الحال وإنما يفسد المعنى لو كان مدلول كان في الاية هو الماضي البعيد، وأما لو كان هو القريب المتصل بالحال وهو زمان التكليم فلا محذور فساد فيه.
والوجه للزمخشري في الكشاف.
/ صفحة 46 /
وفيه أنه وإن دفع الاشكال غير أنه لا ينطبق على نحو إنكارهم فإنهم إنما كانوا ينكرون تكليمه وتكلمه من جهة أنه صبي في المهد بالفعل لا من جهة أنه كان قبل زمان يسير صبيا في المهد فيكون " كان زائدا مستدركا.
وأجيب عنه ثانيا: بأن قوله: " كيف نكلم " لحكاية الحال الماضية و " من " موصولة والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي لم نكلمهم إلى الان حتى نكلم هذا.
وهذا الوجه أيضا للزمخشري في الكشاف.
وفيه أنه وإن استحسنه غير واحد لكنه معنى بعيد عن الفهم ! وأجيب عنه ثالثا أن كان زائد للتأكيد من غير دلالة على الزمان، و " من في المهد " مبتدأ وخبر، وصبيا حال مؤكدة.
وفيه أنه لا دليل عليه، على أنه زيادة موجبة للالتباس من غير ضرورة على أنه قيل: إن " كان " الزائدة تدل على الزمان وإن لم تدل على الحدث.
وأجيب عنه رابعا بأن " من " في الاية شرطية و " كان في المهد صبيا " شرطها وقوله: " كيف نكلم " في محل الجزاء والمعنى من كان في المهد صبيا لا يمكن تكليمه والماضي في الجملة الشرطية بمعنى المستقبل فلا إشكال.
وفيه أنه تكلف ظاهر.
ويمكن أن يقال: إن " كان " منعزلة عن الدلالة على الزمان لما في الكلام من معنى الشرط والجزاء فانه في معنى من كان صبيا لا يمكن تكليمه أو أن كان جئ بها للدلالة على ثبوت الوصف لموصوفة ثبوتا يقضى مضيه عليه وتحققه فيه ولزومه له كقوله تعالى: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " أسرى 93 أي أن البشرية والرسالة تحققا في فلا يسعني ما لا يسع البشر الرسول، وقوله تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا اسرى 36 أي إن النصرة لازمة له بجعلنا لزوم الوصف الماضي لموصوفه ويكون المعنى كيف نكلم صبيا في المهد ممعنا في صباه من شأنه أنه لبث وسيلبث في صباه برهة من الزمان.
والله أعلم.
قوله تعالى: " قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " شروع منه (عليه السلام)
/ صفحة 47 /
في الجواب ولم يتعرض لمشكلة الولادة التي كانوا يكرون بها على مريم (عليها السلام) لان نطقه على صباه وهو آية معجزة وما أخبر به من الحقيقة لا يدع ريبا لمرتاب في أمره على أنه سلم في آخر كلامه على نفسه فشهد بذلك على نزاهته وأمنه من كل قذارة وخباثة ومن نزاهته طهارة مولده.
وقد بدأ بقوله: " إني عبد الله " اعترافا بالعبودية لله ليبطل به غلو الغالين وتتم الحجة عليهم، كما ختمه بمثل ذلك إذ يقول: " وإن الله ربي وربكم فاعبدوه.
وفي قوله: " آتاني الكتاب " إخبار بإعطاء الكتاب والظاهر أنه الانجيل، وفي قوله: وجعلني نبيا " إعلام بنبوته، وقد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب الفرق بين النبوة والرسالة، فقد كان يومئذ نبيا فحسب ثم اختاره الله للرسالة وظاهر الكلام أنه كان أوتي الكتاب والنبوة لا أن ذلك إخبار بما سيقع.
قوله تعالى: " وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " كونه (عليه السلام) مباركا أينما كان هو كونه محلا لكل بركة والبركة نماء الخير كان نفاعا للناس يعلمهم العلم النافع ويدعوهم إلى العمل الصالح ويربيهم تربية زاكية ويبرئ الاكمه والابرص ويصلح القوي ويعين الضعيف.
وقوله: " وأوصاني بالصلاة والزكاة " الخ، إشارة إلى تشريع الصلاة والزكاة في شريعته، والصلاة هي التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه والزكاة الانفاق المالي وهذا هو الذي استقر عليه عرف القرآن كلما ذكر الصلاة والزكاة وقارن بينهما وذلك في نيف وعشرين موضعا فلا يعتد بقول من قال: إن المراد بالزكاة تزكية النفس وتطهيرها دون الانفاق المالي.
قوله تعالى: " وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا " أي جعلني حنينا رؤفا بالناس ومن ذلك أني بر بوالدتي ولست جبارا شقيا بالنسبة إلى سائر الناس، والجبار هو الذي يحمل الناس ولا يتحمل منهم، ونقل عن ابن عطاء أن الجبار الذي لا ينصح والشقى الذي لا ينتصح.
قوله تعالى: " والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا تسليم منه على نفسه في المواطن الثلاثة الكلية التي تستقبله في كونه ووجوده، وقد تقدم توضيحه
/ صفحة 48 /
في آخر قصة يحيى المتقدمة.
نعم بين التسليمتين فرق، فالسلام في قصة يحيى نكرة يدل على النوع، وفي هذه القصة محلى بلام الجنس يفيد بإطلاقه الاستغراق، وفرق آخر وهو أن المسلم على يحيى هو الله سبحانه وعلى عيسى هو نفسه.
قوله تعالى: " ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " الظاهر أن هذه الاية والتي تليها معترضتان، والاية الثالثة: " وإن الله ربي وربكم " من تمام قول عيسى (عليه السلام).
وقوله: " ذلك عيسى بن مريم " الاشارة فيه إلى مجموع ما قص من أمره وشرح من وصفه أي ذلك الذي ذكرنا كيفية ولادته وما وصفه هو للناس من عبوديته وإيتائه الكتاب وجعله نبيا هو عيسى بن مريم.
وقوله: " قول الحق " منصوب بمقدر أي أقول قول الحق، وقوله: " الذي فيه يمترون " أي يشكون أو يتنازعون، وصف لعيسى، والمعنى: ذلك عيسى بن مريم الذي يشكون أو يتنازعون فيه.
وقيل: المراد بقول الحق كلمة الحق وهو عيسى (عليه السلام) لان الله سبحانه سماه كلمته في قوله: " وكلمته ألقاها إلى مريم " النساء: 171 وقوله: " يبشرك بكلمة منه " آل عمران: 45، وقوله: " بكلمة من الله " آل عمران: 39، وعليه فقول الحق منصوب على المدح، ويؤيد المعنى الاول قوله تعالى في هذا المعنى في آخر القصة من سورة آل عمران: الحق من ربك فلا تكن من الممترين " آل عمران: 60.
قوله تعالى: " ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " نفى وإبطال لما قالت به النصارى من بنوة المسيح، وقوله: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن " حجة اقيمت على ذلك، وقد عبر بلفظ القضاء للدلالة على ملاك الاستحالة.
وذلك أن الولد إنما يراد للاستعانة به في الحوائج، والله سبحانه غني عن ذلك لا تتخلف مراد عن إرادته إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
وأيضا الولد هو أجزاء من وجود الوالد يعزلها ثم يربيها بالتدريج حتى يصير
/ صفحة 49 /
فردا مثله، والله سبحانه غني عن التوسل في فعله إلى التدريج ولا مثل له بل ما أراده كان كما أراده من غير مهلة وتدريج من غير أن يماثله، وقد تقدم نظير هذا المعنى في تفسير قوله: " وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه "، الاية البقره: 116 في الجزء الاول من الكتاب.
قوله تعالى: " وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " معطوف على قوله: " إني عبد الله " وهو من قول عيسى (عليه السلام)، ومن الدليل عليه وقوع الاية بعينها في المحكي من دعوته قومه في قصته من سورة آل عمران، ونظيره في سورة الزخرف حيث قال: " إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم " الزخرف: 65.
فلا وجه لما احتمله بعضهم أن الاية استئناف وابتداء كلام من الله سبحانه أو أمر منه للنبي صلى الله عليه أن يقول: إن الله ربي وربكم " الخ " على أن سياق الايات أيضا لا يساعد على شئ من الوجهين فهو من كلام عيسى (عليه السلام) ختم كلامه بالاعتراف بالمربوبية كما بدأ كلامه بالشهادة على العبودية ليقطع به دابر غلو الغالين في حقة ويتم الحجة عليهم.
قوله تعالى: " فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم " الاحزاب جمع حزب وهو الجمع المنقطع في رأيه عن غيره فاختلاف الاحزاب هو قول كل منهم فيه (عليه السلام) خلاف ما يقوله الاخرون، وإنما قال: " من بينهم " لان فيهم من ثبت على الحق، وربما قيل " من " زائدة والاصل اختلف الاحزاب بينهم، وهو كما ترى.
والويل كلمة تهديد تفيد تشديد العذاب، والمشهد مصدر ميمي بمعنى الشهود: هذا.
وقد تقدم الكلام في تفصيل قصص المسيح (عليه السلام) وكليات اختلافات النصارى فيه في الجزء الثالث من الكتاب.
قوله تعالى: " أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين
/ صفحة 50 /
أي ما أسمعهم وأبصرهم بالحق يوم يأتوننا ويرجعون الينا وهو يوم القيامة فيتبين لهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه كما حكى اعترافهم به في قوله: " ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " الم السجدة: 12.
وأما الاستدراك الذي في قوله: " لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين " فهو لدفع توهم أنهم إذا سمعوا وأبصروا يوم القيامة وانكشف لهم الحق سيهتدون فيسعدون بحصول المعرفة واليقين فاستدرك أنهم لا ينتفعون بذلك ولا يهتدون بل الظالمون اليوم في ضلال مبين لظلمهم.
وذلك أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فلا يواجهون اليوم إلا ما قدموه من العمل وأثره وما اكتسبوه في أمسهم ليومهم وأما أن يستأنفوا يوم القيامة عملا يتوقعون جزاءه غدا فليس لليوم غد، وبعبارة أخرى هؤلاء قد رسخت فيهم ملكة الضلال في الدنيا وانقطعوا عن موطن الاختيار بحلول الموت فليس لهم إلا أن يعيشوا مضطرين على ما هيأوا لانفسهم من الضلال لا معدل عنه فلا ينفعهم انكشاف الحق وظهور الحقيقة.
وذكر بعضهم أن المراد بالاية أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسمع القوم ويبصرهم ببيان أنهم يوم يحضرون للحساب والجزاء سيكونون في ضلال مبين.
وهو وجه سخيف لا ينطبق على الاية البتة.
قوله تعالى: " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الامر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون " ظاهر السياق أن قوله: " إذ قضى الامر " بيان لقوله: " يوم الحسرة " ففيه إشارة إلى أن الحسرة إنما تأتيهم من ناحية قضاء الامر والقضاء إنما يوجب الحسرة إذا كان بحيث يفوت به عن المقضي عليه ما فيه قرة عينه وأمنية نفسه ومخ سعادته الذي كان يقدر حصوله لنفسه ولا يرى طيبا للعيش دونه لتعلق قلبه به وتولهه فيه، ومعلوم أن الانسان لا يرضى لفوت ما هذا شأنه وإن احتمل في سبيل حفظه أي مكروه إلا أن يصرفه عنه الغفلة فيفرط في جنبه ولذلك عقب الكلام بقوله: " وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ".
فالمعنى - والله أعلم وخوفهم يوما يقضى فيه الامر فيتحتم عليهم الهلاك الدائم