/ صفحة 101 /
وقد نقل سبحانه نظير هذه الشبهة عن فرعون وعقبه بحديث غرقه وهلاكه، قال: " ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين، فلو لا ألقي عليه أسورة من ذهب - إلى أن قال - فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للاخرين " الزخرف: 56.
قوله تعالى: " قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا " إلى آخر الاية، لفظة كان في قوله: " من كان في الضلالة تدل على استمرارهم في الضلالة لا مجرد تحقق ضلالة ما، وبذلك يتم التهديد بمجازاتهم بالامداد والاستدراج الذي هو إضلال بعد الضلال.
وقوله: " فليمدد " صيغة أمر غائب ويؤل معناه إلى أن من الواجب على الرحمن أن يمده مدا، فإن أمر المتكلم مخاطبه أن يأمره بشئ معناه إيجاب المتكلم ذلك على نفسه.
والمد والامداد واحد لكن ذكر الراغب في المفردات أن أكثر ما جاء الامداد في المحبوب والمد في المكروه والمراد أن من استقرت عليه الضلالة واستمر هو عليها - والمراد به الكفار كناية - فقد أوجب الله على نفسه أن يمده بما منه ضلالته كالزخارف الدنيوية في مورد الكلام فينصرف بذلك عن الحق حتى يأتيه أمر الله من عذاب أو ساعة بالمفاجأة والمباهتة فيظهر له الحق عند ذلك ولن ينتفع به.
فقوله: " حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون " الخ، دليل على أن هذا المد خذلان في صورة إكرام والمراد به أن ينصرف عن الحق واتباعه بالاشتغال بزهرة الحياة الدنيا الغارة فلا يظهر له الحق إلا في وقت لا ينتفع به وهو وقت نزول البأس أو قيام الساعة.
كما قال تعالى: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده " المؤمن: 85، وقال: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " الانعام: 158.
وفي إرجاع ضمير الجمع في قوله: رأوا ما يوعدون " إلى " من " رعاية جانب
/ صفحة 102 /
معناه كما أن في إرجاع ضمير الافراد في قوله: " فليمدد له " إليه رعاية جانب لفظه.
وقوله: " فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا " قوبل به قولهم السابق: " أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا " أما مكانهم حين يرون العذاب - والظاهر أن المراد به عذاب الدنيا - فحيث يحل بهم عذاب الله وقد كان مكان صناديد قريش المتلو عليهم الايات حين نزول العذاب، قليب بدر التي ألقيت فيها أجسادهم وأما مكانهم يوم يرون الساعة فالنار الخالدة التي هي دار البوار، وأما ضعف جندهم فلانه لا عاصم لهم اليوم من الله ويعود كل ما هيأوه لانفسهم من عدة وعدة سدى لا أثر له.
قوله تعالى: " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " إلى آخر الاية الباقيات الصالحات الاعمال الصالحة التي تبقي محفوظة عند الله وتستعقب جميل الشكر وعظيم الاجر وقد وعد الله بذلك في مواضع من كلامه.
والثواب جزاء العمل قال في المفردات: أصل الثوب رجوع الشئ إلى حالته الاولى التي كان عليها أو إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة - إلى أن قال - والثواب ما يرجع إلى الانسان من جزاء أعماله فيسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو - إلي أن قال - والثواب يقال في الخير والشر لكن الاكثر المتعارف في الخير.
انتهى والمرد اسم مكان من الرد والمراد به الجنة.
والاية من تمام البيان في الاية السابقة فإن الاية السابقة تبين حال أهل الضلالة وتذكر أن الله سيمدهم فهم يعمهون في ضلالتهم منصرفين عن الحق معرضين عن الايمان لاعبين بما عندهم من شواغل الحياة الدنيا حتى يفاجئهم العذاب أو الساعة وتنكشف لهم حقيقة الامر من غير أن ينتفعوا به، وهؤلاء أحد الفريقين في قولهم: " أي الفريقين خير مقاما " الخ.
وهذه الاية تبين حال الفريق الاخر وهم المؤمنون وأن الله سبحانه يمد المهتدين منهم وهم المؤمنون بالهدى فيزيدهم هدى على هداهم فيوفقون للاعمال الباقية الصالحة وهي خير أجرا وخير دارا وهي الجنة، ودائم نعيمها فما عند المؤمنين من أمتعه الحياة وهي النعيم المقيم خير مما عند الكافرين من الزخارف الغارة الفانية.
وفي قوله: " عند ربك " إشارة إلى إن الحكم بخيرية ما للمؤمنين من ثواب ومرد
/ صفحة 103 /
حكم إلهى لا يخطئ ولا يغلط البتة.
وهاتان الايتان - كما ترى جواب ثان عن حجة الكفار أعنى قولهم: " أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ".
قوله تعالى: " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا " كما أن سياق الايات الاربع السابقة يعطي أن الحجة الفاسدة المذكورة قول بعض المشركين ممن تلي عليه القرآن فقال ما قال دحضا لكلمة الحق واستغواء واستخفافا للمؤمنين كذلك سياق هذه الايات الاربع وقد افتتحت بكلمة التعجيب واشتملت بقول يشبه القول السابق واختتمت بما يناسبه من الجواب يعطي أن بعض الناس ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو كان في معرض ذلك بعد ما سمع قول الكفار مال إليهم ولحق بهم قائلا لاوتين مالا وولدا يعني في الدنيا باتباع ملة الشرك كأن في الايمان بالله شؤما وفي اتخاذ الالهة ميمنة.
فرده الله سبحانه بقوله: " أطلع الغيب " الخ.
وأما ما ذكره الاكثر بالبناء على ما ورد من سبب النزول أن الجملة قول أحد المتعرقين في الشرك من قريش خاطب به خباب بن الارت حين طالبه دينا كان له عليه، وأن معنى الجملة لاوتين مالا وولدا في الجنة فاؤدي ديني فشئ لا يلائم سياق الايات إذ من المعلوم أن المشركين ما كانوا مذعنين بالبعث أصلا، فقوله لاوتين مالا وولدا إذا بعثت وعند ذلك اؤدي ديني لا يحتمل إلا الاستهزاء والتهكم ولا معنى لرد الاستهزاء بالاحتجاج كما هو صريح قوله: " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا " الخ.
ونظير هذا القول في السقوط ما نقل عن أبي مسلم المفسر أن الاية عامة فيمن له هذه الصفة.
فقوله: " أفرأيت الذي كفر بآياتنا " مسوق للتعجيب، وكلمة " أفرأيت " كلمة تعجيب وقد فرعه بفاء التفريع علي ما تقدمه من قولهم: " أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا " لان كفر هذا القائل وقوله: " لاوتين مالا وولدا " من سنخ كفرهم ومبني على قولهم للمؤمنين لا خير عند هؤلاء وسعادة الحياة وعزة الدنيا ونعمتها ولا خير إلا ذلك عند الكفار وفي ملتهم.
ومن هنا يظهر أن لقوله: " وقال لاوتين مالا وولدا " نوع ترتب على قوله " كفر
/ صفحة 104 /
بآياتنا " وأنه إنما كفر بآيات الله زاعما أن ذلك طريقة ميمونة مباركة تجلب لسالكها العزة والقدرة وترزقه الخير والسعادة في الدنيا وقد أقسم بذلك كما يشهد به لام القسم ونون التأكيد في قوله: " لاوتين ".
قوله تعالى: " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا " رد سبحانه عليه قوله: " لاوتين مالا وولدا بكفري " بأنه رجم بالغيب لا طريق له إلى العلم فليس بمطلع على الغيب حتى يعلم بأنه سيؤتى بكفره ما يأمله ولا بمتخذ عهدا عند الله حتى يطمئن إليه في ذلك، وقد جئ بالنفي في صورة الاستفهام الانكاري.
قوله تعالى: " كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا " كلا كلمة ردع وزجر وذيل الاية دليل على أنه سبحانه يرد بها ما يتضمنه قول هذا القائل من ترتب إيتاء المال والولد على الكفر بآيات الله ومحصله أن الذي يترتب على قوله هذا ليس هو إيتاء المال والولد فإن لذلك أسبابا أخر بل هو مد العذاب على كفره ورجمه فهو يطلب بما يقول في الحقيقة عذابا ممدودا يتلو بعضه بعضا لانه هو تبعة قوله لا إيتاء المال والولد وسنكتب قوله ونرتب عليه أثره الذي هو مد العذاب فالاية نظيرة قوله: " فليدع ناديه سندع الزبانية " العلق: 18.
ومن هنا يظهر أن الاقرب أن يكون المراد من كتابة قوله تثبيته ليترتب عليه أثره لا كتابته في صحيفة عمله ليحاسب عليه يوم القيامة كما فسره به أرباب التفسير، على أن قوله الاتي: " ونرثه ما يقول " لا يخلو على قولهم من شائبة التكرار من غير نكتة ظاهرة.
قوله تعالى: " ونرثه ما يقول ويأتينا فردا " المراد بوراثة ما يقول أنه سيموت ويفنى ويترك قوله: لاوتين بكفري مالا وولدا، وقد كان خطيئة لازمة له لزوم المال للانسان محفوظة عند الله كأنه مال ورثه بعده ففي الكلام استعارة لطيفة.
وقوله: " ويأتينا فردا " أي وحده وليس معه شئ مما كان ينتصر به ويركن إليه بحسب وهمه فمحصل الاية أنه سيأتينا وحده وليس معه إلا قوله الذي حفظناه عليه فنحاسبه على ما قال ونمد له من العذاب مدا.
هذا ما يقتضيه البناء على كون قوله في أول الايات " لاوتين مالا وولدا " ناظرا
/ صفحة 105 /
إلى الايتاء في الدنيا، وأما بناء على كونه ناظرا إلى الايتاء في الاخرة كما اختاره الاكثر فمعنى الايات كما فسروها: تعجب من الذي كفر بآياتنا وهو عاص بن وائل أو وليد بن المغيرة وقال: أقسم لاوتين إذا بعثت مالا وولدا في الجنة، أعلم الغيب حتى يعلم أنه في الجنة؟ - وقيل: أنظر في اللوح المحفوظ - أم اتخذ عند الرحمن عهدا بقول لا إله إلا الله حتى يدخل به الجنة - وقيل: أقدم عملا صالحا كلا وليس الامر كما قال - سنكتب ما يقول بأمر الحفظة أن يثبتوه في صحيفة عمله ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول أي ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطالنا ملكه ويأتينا أي يأتي الاخرة فردا ليس عنده شئ من مال وولد وعدة وعدد.
(بحث روائي) في تفسير القمى في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لاوتين مالا وولدا " أنه العاص بن وائل بن هشام القرشي ثم السهمي وكان أحد المستهزئين، وكان لخباب بن الارت على العاص بن وائل حق فأتاه يتقاضاه فقال له العاص: ألستم تزعمون أن في الجنة الذهب والفضة والحرير؟ قال: بلى.
قال فموعد ما بيني وبينك الجنة، فو الله لاوتين فيها خيرا مما أوتيت في الدنيا.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي والبيهقي في الدلائل وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه عن خباب بن الارت قال: كنت رجلا قينا وكان لي على العاصي بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث.
قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فاعطيك فأنزل الله: " أفرأيت الذي كفر بآياتنا - إلى قوله - ويأتينا فردا ".
أقول: وروى أيضا ما يقرب منه عن الطبراني عن خباب.
وأيضا عن سعيد ابن منصور عن الحسن عن رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يسم خبابا وأيضا عن ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس عن رجال من الصحابة.
/ صفحة 106 /
وقد تقدم أن الروايات لا تنطبق على سياق الايات فإن الروايات صريحة في أن الكلمة إنما صدرت عن العاص بن وائل على سبيل الاستهزاء والسخرية على أن النقل القطعي أيضا يؤيد أن المشركين لم يكونوا قائلين بالبعث والنشور.
ثم الايات تأخذ في رد كلمته بالاحتجاج ولو كانت كلمة استهزاء من غير جد لم يكن للاحتجاج عليها معنى إذ الاحتجاج لا يستقيم إلا على قول جدي وإلا كان هزلا فالروايات على صراحتها في كونها كلمة استهزاء لا تنطبق على الاية.
ولو حمل على وجه بعيد على أنه إنما قال: " لاوتين مالا وولدا " على وجه الالزام والتبكيت لخباب من غير أن يعتقده لا على وجه الاستهزاء ! لم يكن لذكر الولد مع المال وجه وكفاه أن يقول: لاوتين مالا مع أن في بعض هذه الروايات أنه قال لخباب: إنكم تزعمون أنكم ترجعون إلى مال وولد ولم يعهد من مسلمي صدر الاسلام شيوع القول بأن في الجنة توالدا وتناسلا ولا وقعت في شئ من القرآن إشارة إلى ذلك.
هذا أولا.
ولم يكن للقسم والتأكيد البالغ في قوله: " لاوتين " وجه إذ الالزام والتبكيت لا حاجة فيه إلى تأكيد وهذا ثانيا.
ولم يكن لاطلاق الايتاء في قوله: لاوتين من دون أن يقيده بالجنة أو الاخرة دفعا للبس نكتة ظاهرة.
وهذا ثالثا.
ولم يصلح للرد عليه وإبطاله إلا قوله تعالى: كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب " إلى آخر الايتين، وأما قوله: " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا " فغير وارد عليه البتة إذ الالزام والتبكيت لا يتوقف على العلم بصدق ما يلزم به حتى يتوقف عن منشأ علمه بل يجامع غالبا العلم بالكذب وإنما على التزام الخصم الذى يراد إلزامه به أو بما يستلزمه.
وهذا رابعا.
وأعلم أنه ورد في ذيل قوله: " والباقيات الصالحات " الاية أخبار عن النبي وأئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة، وقد أشرنا إليها في الجزء الثالث عشر من الكتاب في بحث روائي في ذيل الاية 46 من سورة الكهف.
/ صفحة 107 /
* * *
واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا (81) - كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا (82) - ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (83) - فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا (84) - يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا (85) - ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا (86) - لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا (87) - وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) - لقد جئتم شيئا ادا (89) - تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا (90) - أن دعوا للرحمن ولدا (91) - وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا (92) - إن كل من في السموات والارض إلا آتي الرحمن عبدا (93) - لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) - وكلهم آتية يوم القيمة فردا (95) - إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96) - (بيان) هذا هو الفصل الثالث مما نقل عنهم وهو شركهم بالله باتخاذ الالهة وقولهم: " اتخذ الله ولدا " سبحانه والجواب عن ذلك.
قوله تعالى: " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا " هؤلاء الالهة هم
/ صفحة 108 /
الملائكة والجن والقديسون من الانس وجبابرة الملوك فإن أكثرهم كانوا يرون الملك قداسة سماوية.
ومعنى كونهم لهم عزا كونهم شفعاء لهم يقربونهم إلى الله بالشفاعة فينالون بذلك العزة في الدنيا ينجر إليهم الخير ولا يمسهم الشر، ومن فسر كونهم لهم عزا بشفاعتهم لهم في الاخرة خفي عليه أن المشركين لا يقولون بالبعث.
قوله تعالى: " كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " الضد بحسب اللغة المنافي الذي لا يجتمع مع الشئ، وعن الاخفش أن الضد يطلق على الواحد والجمع كالرسول والعدو وأنكر ذلك بعضهم ووجه إطلاق الضد في الاية وهو مفرد على الالهة وهي جمع بأنها لما كانت متفقة في عداوة هؤلاء والكفر بعبادتهم كانت في حكم الواحد وصح بذلك إطلاق المفرد عليها.
وظاهر السياق أن ضميري " سيكفرون " و " يكونون " للالهة وضميري " بعبادتهم " و " عليهم " للمشركين المتخذين للالهة والمعنى: سيكفر الالهة بعبادة هؤلاء المشركين ويكون الالهة حال كونهم على المشركين لا لهم، ضدا لهم يعادونهم ولو كانوا لهم عزا لثبتوا على ذلك دائما وقد وقع ذلك في قوله تعالى: " وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون " النحل: 86.
وأوضح منه قوله: " والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فاطر: 14.
وربما احتمل أن يكون بالعكس من ذلك أي سيكفر المشركون بعبادة الالهة ويكونون على الالهة ضدا كما في قوله: " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " الانعام: 23، ويبعده أن ظاهر السياق أن يكون " ضدا " وقد قوبل به " عزا " في الاية السابقة، وصفا للالهة دون المشركين ولازم ذلك أن يكون الالهة الذين هم الضد هم الكافرين بعبادة المشركين نظرا إلى خصوص ترتب الضمائر.
على أن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال: سيكفرون بهم على حد ما يقال: كفر بالله، ولا يقال: كفر بعبادة الله.
/ صفحة 109 /
والمراد بكفر الالهة يوم القيامة بعبادتهم وكونهم عليهم ضدا هو ظهور حقيقة الامر يومئذ فإن شأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه لاهل الجمع لا حدوثها ولو لم تكن الالهة كافرين بعبادتهم في الدنيا ولا عليهم ضدا بل بدا لهم ذلك يوم القيامة لم تتم حجة الاية فافهم ذلك، وعلى هذا المعنى يترتب قوله: " ألم تر " على قوله " كلا سيكفرون بعبادتهم " الخ.
قوله تعالى: " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا " الاز والهز بمعنى واحد وهو التحريك بشدة وإزعاج والمراد تهييج الشياطين إياهم إلى الشر والفساد وتحريضهم على اتباع الباطل وإضلالهم بالتزلزل عن الثبات والاستقامة على الحق.
ولا ضير في نسبة إرسال الشياطين إليه تعالى بعد ما كان على طريق المجازاة فإنهم كفروا بالحق فجازاهم الله بزيادة الكفر والضلال ويشهد بذلك قوله: " على الكافرين " ولو كان إضلالا ابتدائيا لقيل: " عليهم " من غير أن يوضع الظاهر موضع المضمر.
والاية وهي مصدرة بقوله: " ألم تر المفيد معنى الاستشهاد مسوقة لتأييد ما ذكر في الاية السابقة من كون آلهتهم عليهم ضدا، فإن تهييج الشياطين إياهم للشر والفساد واتباع الباطل معاداة وضدية والشياطين وهم من الجن من جملة آلهتهم ولو لم يكن هؤلاء الالهة عليهم ضدا ما دعوهم إلى ما فيه هلاكهم وشقاؤهم.
فالاية بمنزلة أن يقال: هؤلاء الالهة الذين يحسبونهم لانفسهم عزا هم عليهم ضد وتصديق ذلك أن الشياطين وهم من آلهتهم يحركونهم بإزعاج نحو ما فيه شقاؤهم وليسوا مع ذلك مطلقي العنان بل إنما هو بإذن من الله يسمى إرسالا وعلى هذا فالاية متصلة بسابقتها وهو ظاهر.
وجعل صاحب روح المعاني هذه الاية مترتبة على مجموع الايات من قوله: " ويقول الانسان ءإذا ما مت لسوف أخرج حيا " إلى قوله: " ويكونون عليهم ضدا " ومتصلة به وأطنب في بيان كيفية الاتصال بما لا يجدي نفعا وأفسد بذلك سياق الايات واتصال ما بعد هذه الاية بما قبلها.
قوله تعالى: " فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا " العد هو الاحصاء والعد يفني
/ صفحة 110 /
المعدود وينفده وبهذه العناية قصد به إنفاد أعمارهم والانتهاء إلى آخر أنفاسهم كأن أنفاسهم الممدة لاعمارهم مذخورة بعددها عند الله فينفدها بإرسالها واحدا بعد آخر حتى تنتهى وهو اليوم الموعود عليهم.
وإذ كان مدة بقاء الانسان هي مدة بلائه وامتحانه كما ينبئ عنه قوله: " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا " الكهف: 7 كان العد بالحقيقة عدا للاعمال المثبتة في صحيفة العمر، ليتم بذلك بنية الحياة الاخروية الخالدة ويستقصى للانسان ما يلتئم به عيشه هناك من نعم أو نقم فكما أن مكث الجنين في الرحم مدة يتم به خلقة جسمه كذلك مكث الانسان في الدنيا لان يتم به خلقة نفسه وأن يعد الله ما قدر له من العطية ويستقصيه.
وعلى هذا فلا ينبغي للانسان أن يستعجل الموت لكافر طالح لان مدة بقائه مدة عد سيئاته ليحاسب عليها ويعذب بها ولا لمؤمن صالح لان مدة بقائه مده عد حسناته ليثاب بها ويتنعم والاية لا تقيد العد وإن فهم من ظاهرها في بادئ النظر عد الانفاس أو الايام.
وكيف كان فقوله: " فلا تعجل عليهم " تفريع على ما تقدم وقوله: " إنما نعد " تعليل له وهو في الحقيقة علة التأخير ومحصل المعنى إذ كان هؤلاء لا ينتفعون باتخاذ الالهة وكانوا هم وآلهتهم منتهين الينا غير خارجين من سلطاننا ولا مسيرهم في طريقهم بغير إذننا فلا تعجل عليهم بالقبض أو بالقضاء ولا يضيق صدرك عن تأخير ذلك إنما نعد لهم أنفاسهم أو أعمالهم عدا.
قوله تعالى: " يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا " الوفد هم القوم الواردون لزيارة أو استنجاز حاجة أو نحو ذلك ولا يسمون وفدا إلا إذا كانوا ركبانا وهو جمع واحده وافد.
وربما استفيد من مقابلة قوله في هذه الاية " إلى الرحمان " قوله في الاية التالية " إلى جهنم " أن المراد بحشرهم إلى الرحمن حشرهم إلى الجنة وإنما سمي حشرا إلى الرحمان لان الجنة مقام قربه تعالى فالحشر إليها حشر إليه.
ومعنى الاية ظاهر.
قوله تعالى: " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " فسر الورد بالعطاش وكأنه
/ صفحة 111 /
مأخوذ من ورود الماء أي قصده ليشرب ولا يكون ذلك إلا عن عطش فجعل بذلك الورد كناية عن العطاش، وفي تعليق السوق إلى جهنم بوصف الاجرام إشعار بالعلية ونظيره تعليق الحشر إلى الرحمن في الاية السابقة بوصف التقوى.
ومعنى الاية ظاهر.
قوله تعالى: " لا يملكون الشفاعة إلا من أتخذ عند الرحمن عهدا " وهذا جواب ثان عن اتخاذهم الالهة للشفاعة وهو أن ليس كل من يهوى الانسان شفاعته فاتخذه إلها ليشفع له يكون شفيعا بل إنما يملك الشفاعة بعهد من الله ولا عهد إلا لاحاد من مقربي حضرته، قال تعالى: " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " الزخرف: 86.
وقيل: المراد إن المشفع لهم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمان عهدا والعهد هو الايمان بالله والتصديق بالنبوة، وقيل: وعده تعالى له بالشفاعة كما في الانبياء والائمة والمؤمنين والملائكة على ما في الاخبار، وقيل: هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن يتبرء من الحول والقوة وأن لا يرجو إلا الله، والوجه الاول هو الاوجه وهو بالسياق أنسب.
قوله تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمان ولدا من قول الوثنيين وبعض خاصتهم، وإن قال ببنؤة الالهة أو بعضهم لله سبحانه تشريفا أو تجليلا لكن عامتهم وبعض خاصتهم - في مقام التعليم - قال بذلك تحقيقا بمعنى الاشتقاق من حقيقة اللاهوت واشتمال الولد على جوهرة والده، وهذا هو المراد بالاية والدليل عليه التعبير بالولد دون الابن، وكذا ما في قوله: " إن كل من في السماوات والارض " إلى تمام ثلاث آيات من الاحتجاج على نفيه.
قوله تعالى: " لقد جئتم شيئا إدا " إلى تمام ثلاث آيات، الاد بكسر الهمزة: الشئ المنكر الفظيع، والتفطر الانشقاق، والخرور السقوط، والهد الهدم.
والايات في مقام إعظام الذنب وإكبار تبعته بتمثيله بالمحسوس يقول: لقد أتيتم بقولكم هذا أمرا منكرا فظيعا تكاد السماوات يتفطرن وينشققن منه وتنشق ارلاض وتسقط الجبال على السهل سقوط انهدام أن دعوا للرحمان ولدا.
قوله تعالى: " وما ينبغى للرحمان أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والارض
/ صفحة 112 /
إلا آتي الرحمان عبدا " إلى تمام أربع آيات.
المراد بإتيان كل منهم عبدا له توجه الكل إليه ومثوله بين يديه في صفة المملوكية المحضة فكل منهم مملوك له لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وذلك أمر بالفعل ملازم له ما دام موجودا ولذا لم يقيد الاتيان في الاية بالقيامة بخلاف ما في الاية الرابعة.
والمراد بإحصائهم وعدهم تثبيت العبودية لهم فإن العبيد إنما تتعين لهم أرزاقهم وتتبين وظائفهم والامور التي يستعملون فيها بعد الاحصاء وعدهم وثبتهم في ديوان العبيد وبه تسجل عليهم العبودية.
والمراد بإتيانه له يوم القيامة فردا إتيان؟ يومئذ صفر الكف لا يملك شيئا مما كان يملكه بحسب ظاهر النظر في الدنيا وكان يقال: إن له حولا وقوة ومالا وولدا وأنصارا ووسائل وأسبابا إلى غير ذلك فيظهر يومئذ إذ تتقطع بهم الاسباب أنه فرد ليس معه شئ يملكه وأنه كان عبدا بحقيقة معنى العبودية لم يملك قط ولن يملك أبدا فشأن يوم القيامة ظهور الحقائق فيه.
ويظهر بما تقدم أن الذى تتضمنه الايات من الحجة على نفي الولد حجة واحدة ومحصلها أن كل من في السماوات والارض عبد الله مطيع له في عبوديته ليس له من الوجود وآثار الوجود إلا ما آتاه الله فأخذه هو ممتثلا لامره تابعا لارادته من غير أن يملك من ذلك شيئا، وليس من عبوديتها هذا فحسب بل الله أحصاهم وعدهم فسجل عليهم العبودية وأثبت كلا في موضعه وسخره مستعملا له فيما يريده منه فكان شاهدا لعبوديته، وليس هذا المقدار فحسب بل سيأتيه كل منهم فردا لا يملك شيئا ولا يصاحبه شئ ويظهر بذلك حقيقة عبوديتهم للكل فيشهدون ذلك وإذا كان هذا حال كل من في السموات والارض فكيف يمكن أن يكون بعضهم ولدا لله واجدا لحقيقة اللاهوت مشتقا من جوهرتها، وكيف تجتمع الالوهية والفقر؟ وأما انتهاء وجود الاشياء إليه تعالى وحده كما تضمنته الاية الاولى فمما لا يرتاب فيه مثبتوا الصانع سواء في ذلك الموحدون والمشركون وإنما الاختلاف في كثرة المعبود ووحدته وكثرة الرب بمعنى المدبر ولو بالتفويض وعدمها.
قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا " الود
/ صفحة 113 /
والمودة المحبة وفي الاية وعد جميل منه تعالى أنه سيجعل للذين آمنوا وعملوا الصالحات مودة في القلوب ولم يقيده بما بينهم أنفسهم ولا بغيرهم ولا بدنيا ولا بآخرة أو جنة فلا موجب لتقييد بعضهم ذلك بالجنة وآخرين بقلوب الناس في الدنيا إلى غير ذلك.
وقد ورد في أسباب النزول من طرق الشيعة وأهل السنة أن الاية نزلت في علي (عليه السلام)، وفي بعضها ما ورد من طرق أهل السنة أنها نزلت في مهاجري الحبشة وفي بعضها غير ذلك وسيجئ في البحث الروائي الاتى.
وعلى أي حال فعموم لفظ الاية في محله، والظاهر أن الاية متصلة بقوله السابق: " سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ".
(بحث روائي) في تفسير القمي بإسناده عن أبى بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله " كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " يوم القيامة أي يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة " من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرؤن منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.
وفي الكافي باسناده عن عبد الاعلى مولى آل سام قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام) قول الله عزوجل: " إنما نعد لهم عدا: قال: ما هو عندك؟ قلت: عد الايام قال الاباء والامهات يحصون ذلك ولكنه عدد الانفاس.
وفي نهج البلاغة من كلامه (عليه السلام): نفس المرء خطاه إلى أجله.
وفيه قال (عليه السلام): كل معدود متنقص وكل متوقع آت.
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد عن أبي جعفر محمد بن علي في قوله: " إنما نعد لهم عدا " قال: كل شئ حتى النفس.
أقول: وهي أشمل الروايات ولا يبعد أن يستفاد منها أن ذكر النفس في الروايات من قبيل ذكر المثال.
/ صفحة 114 /
وفي محاسن البرقي بإسناده عن حماد بن عثمان وغيره عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " قال: يحشرون على النجائب.
وفي تفسير القمي بإسناده عن عبد الله بن شريك العامري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأل علي (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تفسير قوله عزوجل: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " قال: يا علي الوفد لا يكون إلا ركبانا أولئك رجال اتقوا الله عز وجل فأحبهم وأختصهم ورضي أعمالهم فسماهم الله متقين.
الحديث.
أقول: ثم روى القمي حديثا آخر طويلا يذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه تفصيل خروجهم من قبورهم وركوبهم من نوق الجنة ووفودهم؟؟ إلى الجنة ودخولهم فيها وتنعمهم بما رزقوا من نعمها.
وفي الدر المنثور عن ابن مردويه عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاية قال: أما والله ما يحشرون على أقدامهم ولا يساقون سوقا ولكنهم يؤتون بنوق من الجنة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب وأزمتها الزبرجد فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة.
أقول: وروى أيضا هذا المعنى عن أبن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن علي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل يصف فيه ركوبهم ووفودهم ودخولهم الجنة.
واستقرارهم فيها وتنعمهم من نعمها.
ورواه فيه عن عدة من أرباب الجوامع عن علي (عليه السلام).
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت قوله: " لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا " قال: إلا من دان بولاية أمير المؤمنين والائمة من بعده - فهو العهد عند الله.
أقول: وروى في الدر المنثور عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن من أدخل على مؤمن سرورا فقد سرني ومن سرني فقد اتخذ عند الله عهدا.
الحديث، وروى عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أن المحافظة على العهد هو المحافظة على الصلوات الخمس، وهنا روايات أخر من طرق الخاصة والعامة قريبة مما اوردناه ويستفاد من مجموعها أن العهد المأخوذ عند الله اعتقاد حق أو عمل صالح ينجي المؤمن يوم القيامة وأن ما ورد في الروايات من قبيل المصاديق المتفرقة.
/ صفحة 115 /
وأعلم أيضا أن الروايات السابقة مبنية على كون المراد ممن يملك الشفاعة في الاية هو الذي ينال الشفاعة أو الاعم من الشفعاء والمشفوع لهم، وأما لو كان المراد هم الشفعاء فالاخبار أجنبية منها.
وفي تفسير القمى بإسناده عن أبي بصير عن أبى عبد الله (عليه السلام) قلت: قوله عز وجل: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " قال: هذا حيث قالت قريش: إن لله عزوجل ولدا وأن الملائكة إناث فقال الله تبارك وتعالى ردا عليهم " لقد جئتم شيئا إدا " أي عظيما " تكاد السماوات يتفطرن منه " يعني مما قالوه ومما رموه به وتنشق الارض وتخر الجبال هدا " مما قالوه ومما رموه به " أن دعوا للرحمن ولدا " فقال الله تبارك وتعالى " وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والارض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " واحدا واحدا.
وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قلت: قوله عزوجل " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " قال: ولاية أمير المؤمنين " هي الود الذي ذكره الله أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام).
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا وأجعل لي عندك ودا وأجعل لي في صدور المؤمنين مودة، فأنزل الله " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " قال: فنزلت في علي.
وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في على بن أبي طالب " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " قال: محبة في قلوب المؤمنين.
وفي المجمع: في الاية: قيل فيه أقوال: أحدها أنها خاصة في علي فما من مؤمن إلا وفي قلبه محبة لعلي (عليه السلام).
عن ابن عباس وفي تفسير أبي حمزه الثمالي: حدثني أبو جعفر الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلى: قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في قلوب المؤمنين ودا، فقالهما فنزلت هذه الاية وروى نحوه عن جابر بن عبد الله.
/ صفحة 116 /
أقول: قال في روح المعاني: الظاهر أن الاية على هذا مدنية، وأنت خبير بأن لا دلالة في شئ من الاحاديث على وقوع القصة في المدينة أصلا.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأميه بن خلف فأنزل الله " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا ".
أقول: صريح الحديث كون الاية مدنية ويدفعه اتفاق الكل على كون السورة بجميع آياتها مكية وقد تقدم في أول السورة.
وفيه أخرج الحكيم الترمذي وابن مردويه عن علي قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قوله: " سيجعل لهم الرحمان ودا " ما هو؟ قال المحبة في قلوب المؤمنين والملائكة المقربين، يا علي إن الله أعطى المؤمن ثلاثا: المقة والمحبة والحلاوة والمهابة في صدور الصالحين.
أقول: المقة المحبة وفي معناه بعض روايات أخر من طرق أهل السنة مبنية على عموم لفظ الاية وهو لا ينافي خصوص مورد النزول.
فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا (97) - وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا (98).
(بيان) الايتان ختام السورة يذكر سبحانه فيهما تنزيل حقيقة القرآن وهي أعلى من أن تنالها أيدى الافهام العادية أو يمسه غير المطهرين إلى مرتبة الذكر بلسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
/ صفحة 117 /
ويذكر أن الغاية من هذا التيسير أن يبشر به المتقين من عباده وينذر به قوما لدا خصماء، ثم لخص إنذارهم بتذكير هلاك من هلك من القرون السابقة عليهم.
قوله تعالى: " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا " التيسير وهو التسهيل ينبئ عن حال سابقة ما كان يسهل معها تلاوته ولا فهمه وقد أنبأ سبحانه عن مثل هذه الحالة لكتابه في قوله: " والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف: 4، فأخبر أنه لو أبقاه على ما كان عليه عنده - وهو الان كذلك - من غير أن يجعله عربيا مقروا لم يرج أن يعقله الناس وكان كما كان عليا حكيما أي آبيا متعصيا أن يرقى إليه أفهامهم وينفذ فيه عقولهم.
ومن هنا يتأيد أن معنى تيسيره بلسانه تنزيله على اللسان العربي الذي كان هو لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم) فتنبئ الاية أنه تعالى يسره بلسانه ليتيسر له التبشير والانذار.
وربما قيل: إن معنى تيسيره بلسانه إجراؤه على لسانه بالوحي وإختصاصه بوحي الكلام الالهي ليبشر به وينذر.
وهذا وإن كان في نفسه وجها عميقا لكن الوجه الاول مضافا إلى تأيده بالايات السابقة وأمثالها أنسب وأوفق بسياق آيات السورة.
وقوله: " وتنذر به قوما لدا " المراد قومه (صلى الله عليه وآله وسلم)، واللد جمع ألد من اللدد وهو الخصومة.
قوله تعالى: " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا " الاحساس هو الادراك بالحس، والركز هو الصوت، قيل: والاصل في معناه الحس، ومحصل المعنى أنهم وإن كانوا خصماء مجادلين لكنهم غير معجزى الله بخصامهم فكم أهلكنا قبلهم من قرن فبادوا فلا يحس منهم أحد ولا يسمع لهم صوت.
/ صفحة 118 /
(سورة طه مكية وهي مائة وخمس وثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم.
طه (1) - ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2) - إلا تذكرة لمن يخشى (3) - تنزيلا ممن خلق الارض والسموات العلى (4) - الرحمن على العرش استوى (5) - له ما في السموات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى (6) - وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى (7) - ألله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى (8).
(بيان) غرض السورة التذكرة من طريق الانذار تغلب فيها آيات الانذار والتخويف على آيات التبشير غلبة واضحة، فقد أشتملت على قصص تختتم بهلاك الطاغين والمكذبين لايات الله وتضمنت حججا بينة تلزم العقول على توحيده تعالى والاجابة لدعوة الحق وتنتهى إلى بيان ما سيستقبل الانسان من أهوال الساعة ومواقف القيامة وسوء حال المجرمين وخسران الظالمين.
وقد افتتحت الايات - على ما يلوح من السياق - بما فيه نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
/ صفحة 119 /
أن لا يتعب نفسه الشريفة في حمل الناس على دعوته التي يتضمنها القرآن فلم ينزل ليتكلف به بل هو تنزيل إلهي يذكر الناس بالله وآياته رجاء أن تستيقظ غريزة خشيتهم فيتذكروا فيؤمنوا به ويتقوا فليس عليه إلا التبليغ فحسب فإن خشوا وتذكروا وإلا غشيتهم غاشية عذاب الاستئصال أو ردوا إلى ربهم فأدركهم وبال ظلمهم وفسقهم ووفيت لهم أعمالهم من غير أن يكونوا معجزين لله سبحانه بطغيانهم وتكذيبهم.
وسياق آيات السورة يعطي أن تكون مكية وفي بعض الاثار أن قوله: واصبر على ما يقولون " الاية 130 مدنية وفي بعضها الاخر أن قوله: " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " الاية 131 مدنية، ولا دليل على شئ من ذلك من ناحية اللفظ.
ومن غرر الايات في السورة قوله تعالى: " الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى ".
قوله تعالى: " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " طه حرفان من الحروف المقطعة افتتحت بهما السورة كسائر الحروف المقطعة التي افتتحت بها سورها نحو ألم ألر ونظائرهما وقد نقل عن جماعة من المفسرين في معنى الحرفين أمور ينبغي أن يجل البحث التفسيري عن إيرادها والغور في أمثالها، وسنلوح إليها في البحث الروائي الاتي إن شاء الله تعالى.
والشقاوة خلاف السعادة قال الراغب: والشقاوة كالسعادة من حيث الاضافة فكما أن السعادة في الاصل ضربان: سعادة أخروية وسعادة دنيوية ثم السعادة الدنيوية ثلاثة أضرب: سعادة نفسيه وبدنية وخارجية كذلك الشقاوة على هذه الاضرب - إلى أن قال - قال بعضهم: قد يوضع الشقاء موضع التعب نحو شقيت في كذا، وكل شقاوة تعب، وليس كل تعب شقاوة، فالتعب أعم من الشقاوة.
انتهى، فالمعنى ما أنزلنا القرآن لتتعب نفسك في سبيل تبليغه بالتكلف في حمل الناس عليه.
قوله تعالى: " إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الارض والسماوات العلى " التذكرة هي إيجاد الذكر فيمن نسي الشئ وإذ كان الانسان ينال حقائق الدين الكلية بفطرته كوجوده تعالى وتوحده في وجوب وجوده وألوهيته وربوبيته والنبوة والمعاد وغير ذلك كانت أمورا مودعة في الفطرة غير أن إخلاد الانسان إلى الارض وإقباله إلى الدنيا واشتغاله بما يهواه من زخارفها اشتغالا لا يدع في قلبه فراغا أنساه ما أودع
/ صفحة 120 /
في فطرته وكان إلقاء هذه الحقائق إلفاتا لنفسه إليها وتذكرة له بها بعد نسيانها.
ومن المعلوم أن ذلك إعراض وإنما سمي نسيانا بنوع من العناية وهو اشتراكهما في الاثر وهو عدم الاعتناء بشأنه فلا بد في دفع هذا النسيان الذي أوجبه اتباع الهوى والانكباب على الدنيا من أمر ينتزع النفس انتزاعا ويدفعها إلى الاقبال إلى الحق دفعا وهو الخشية والخوف من عاقبة الغفلة ووبال الاسترسال حتى تقع التذكرة موقعها وتنفع في اتباع الحق صاحبها.
وبما تقدم من البيان يظهر وجه تقييد التذكرة بقوله: " لمن يخشى " وأن المراد بمن يخشى من كان في طبعه ذلك، بأن كان مستعدا لظهور الخشية في قلبه لو سمع كلمة الحق حتى إذا بلغت إليه التذكرة ظهرت في باطنة الخشية فآمن واتقى.
والاستثناء في قوله: " إلا تذكرة " استثناء منقطع - على ما قالوا - والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك ولكن ليكون مذكرا يتذكر به من من شأنه أن يخشى فيخشى فيؤمن بالله ويتقى.
فالسياق على رسله يستدعي كون: " تذكرة " مصدرا بمعنى الفاعل ومفعولا له لقوله: " ما أنزلنا " كما يستدعي كون قوله: " تنزيلا بمعنى اسم المفعول حالا من ضمير " تذكرة " الراجع إلى القرآن، والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك ولكن لتذكر الخاشعين بكلام إلهي منزل من عنده.
وقوله: " تنزيلا ممن خلق الارض والسماوات العلى " العلى جمع عليا مؤنث أعلى كفضلي وفضل، وأختيار خلق الارض والسماوات صلة للموصول وبيانا لابهام المنزل لمناسبته معنى التنزيل الذي لا يتم إلا بعلو وسفل يكونان مبدأ ومنتهى لهذا التسيير، وقد خصصا بالذكر دون ما بينهما إذ لا غرض يتعلق بما بينهما وإنما الغرض بيان مبدأ التنزيل ومنتهاه بخلاف قوله: له ما في السماوات والارض وما بينهما " إذ الغرض بيان شمول الملك للجميع.
قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى " استئناف يذكر فيه مسأله توحيد الربوبية التي هي مخ الغرض من الدعوة والتذكرة وذلك في أربع آيات " الرحمن - إلى قوله - له الاسماء الحسنى ".
/ صفحة 121 /
وقد تقدم في قوله تعالى: ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار " الاعراف: 54، أن الاستواء على العرش كناية عن الاحتواء على الملك والاخذ بزمام تدبير الامور وهو فيه تعالى - على ما يناسب ساحة كبريائه وقدسه - ظهور سلطنته على الكون واستقرار ملكه على الاشياء بتدبير أمورها وإصلاح شؤنها.
فاستواؤه على العرش يستلزم إحاطة ملكه بكل شئ وانبساط تدبيره على الاشياء سماويها وأرضيها جليلها ودقيقها خطيرها ويسيرها، فهو تعالى رب كل شئ المتوحد بالربوبية إذ لا نعني بالرب إلا المالك للشئ المدبر لامره، ولذلك عقب حديث الاستواء على العرش بحديث ملكه لكل شي وعلمه بكل شي وذلك في معنى التعليل والاحتجاج على الاستواء المذكور.
ومعلوم أن " الرحمن " وهو مبالغة من الرحمة التي هي الافاضة بالايجاد والتدبير وهو يفيد الكثرة أنسب بالنسبة إلى الاستواء من سائر الاسماء والصفات ولذلك اختص من بينها بالذكر.
وقد ظهر بما تقدم أن " الرحمن " مبتدأ خبره " استوى " و " على العرش " متعلق بقوله " استوى " والمراد بيان الاستواء على العرش وهذا هو المستفاد أيضا من سائر الايات فقد تكرر فيها حديث الاستواء على العرش كقوله: " ثم أستوى على العرش يغشي الليل النهار " الاعراف: 54، وقوله: " ثم استوى على العرش يدبر الامر " يونس: 3، وقوله: ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي " ألم السجدة: 4، وقوله: " ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الارض " الحديد: 4، إلى غير ذلك.
وبذلك يتبين فساد ما نسب إلى بعضهم أن قوله " الرحمن على العرش " مبتدأ وخبر ثم قوله " استوى " فعل فاعله " ما في السماوات " وقوله: " له " متعلق بقوله " استوى " والمراد باستواء كل شئ له تعالى جريها على ما يوافق إرادته وانقيادها لامره.
وقد أشبعنا الكلام في معنى العرش في ذيل الاية 54 من سورة الاعراف في الجزء الثامن من الكتاب، وسيأتي بعض ما يختص بالمقام في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " له ما في السماوات وما في الارض وما بينهما وما تحت الثرى "
/ صفحة 122 /
الثرى على ما قيل: هو التراب الرطب أو مطلق التراب، فالمراد بما تحت الثرى ما في جوف الارض دون التراب ويبقى حينئذ لما في الارض ما على بسيطها من أجزائها وما يعيش فيها مما نعلمه ونحس به كالانسان وأصناف الحيوان والنبات وما لا نعلمه ولا نحس به.
وإذا عم الملك ما في السماوات والارض ومن ذلك أجزاؤهما عم نفس السماوات والارض فليس الشئ إلا نفس أجزائه.
وقد بين في هذه الاية أحد ركني الربوبية وهو الملك، فإن معنى الربوبية كما تقدم آنفا هو الملك والتدبير.
قوله تعالى: " وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " الجهر بالقول: رفع الصوت به، والاسرار خلافه، قال تعالى: " وأسروا قولكم أو اجهروا به " الملك: 13، والسر هو الحديث المكتوم في النفس، وقوله: " وأخفى " أفعل التفضيل من الخفاء على ما يعطيه سياق الترقي في الاية ولا يصغى إلى قول من قال: إن " أخفى " فعل ماض فاعله ضمير راجع إليه تعالى، والمعنى: إنه يعلم السر وأخفى علمه.
هذا.
وفي تنكير " أخفى " تأكيد للخفاء.
وذكر الجهر بالقول في الاية أولا ثم إثبات العلم بما هو أدق منه وهو السر والترقي إلى أخفى يدل على أن المراد إثبات العلم بالجميع والمعنى: وإن تجهر بقولك وأعلنت ما تريده - وكأن المراد بالقول ما في الضمير من حيث إن ظهوره إنما هو بالقول غالبا - أو أسررته في نفسك وكتمته أو كان أخفى من ذلك بأن كان خفيا حتى عليك نفسك فإن الله يعلمه.
فالاصل ترديد القول بين المجهور به والسر وأخفى وإثبات العلم بالجميع ثم وضع إثبات العلم بالسر وأخفى موضع الترديد الثاني والجواب إيجازا.
فدل على الجواب في شقي الترديد معا وعلى معنى الاولوية بأوجز بيان كأنه قيل: وأن تسأل عن علمه بما تجهر به من قولك فهو يعلمه وكيف لا يعلمه؟ وهو يعلم السر وأخفى منه فهو في الكلام من لطيف الصنعة.
وذكر بعضهم أن المراد بالسر ما أسررته من القول إلى غيرك ولم ترفع صوتك
/ صفحة 123 /
به، والمراد بأخفى منه ما أخطرته ببالك هذا والذي ذكره حق في الاسرار لكن القول لا يسمى سرا إلا من جهة كتمانه في النفس فالمعول على ما قدمناه من المعنى.
وكيف كان فالاية تثبت علمه تعالى بكل شئ ظاهر أو خفى فهي في ذكر العلم عقيب الاستواء على العرش نظيرة قوله تعالى: " ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها " الاية الحديد: 4، ومعلوم أن علمه تعالى بما يجري في ملكه ويحدث في مستقر سلطانه من الحوادث يستلزم رضاه بذلك وإذنه وبنظر آخر مشيئته لهذا النظام الجاري وهذا هو التدبير.
فالاية تثبت عموم التدبير كما أن الاية السابقة كانت تثبت عموم الملك ومجموع مدلوليهما هو الملك والتدبير وذلك معنى الربوبية المطلقة فالايتان في مقام التعليل تثبت بهما ربوبيته تعالى المطلقة.
قوله تعالى: الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى " بمنزلة النتيجة لما تقدم من الايات ولذلك كان الانسب أن يكون اسم الجلالة خبرا لمبتدء محذوف والتقدير هذا المذكور في الايات السابقة هو الله لا إله إلا هو.
.
.
الخ، وإن كان الاقرب بالنظر إلى استقلال الاية وجامعيتها في مضمونها أن يكون اسم الجلالة مبتدء وقوله: " لا إله إلا هو " خبره، وقوله: " له الاسماء الحسنى " خبرا بعد خبر.
وكيف كان فقوله: " الله لا إله إلا هو " يمكن أن يعلل بما ثبت في الايات السابقة من توحده تعالى بالربوبية المطلقة ويمكن أن يعلل بقوله بعده: " له الاسماء الحسنى ".
أما الاول فلان معنى الاله في كلمة التهليل إما المعبود وإما المعبود بالحق فمعنى الكلام الله لا معبود حق غيره أو لا معبود بالحق موجود غيره والمعبودية من شؤن الربوبية ولواحقها فإن العبادة نوع تمثيل وترسيم للعبودية والمملوكية وإظهار للحاجة إليه فمن الواجب أن يكون المعبود مالكا لعابده مدبرا أمره أي ربا له وإذ كان تعالى رب كل شئ لا رب سواه فهو المعبود لا معبود سواه.
وأما الثاني فلان العبادة لاحد ثلاث خصال إما رجاء لما عند المعبود من الخير فيعبد طمعا في الخير الذي عنده لينال بذلك، وإما خوفا مما في الاعراض عنه وعدم الاعتناء بأمره من الشر وإما لانه أهل للعبادة والخضوع.
/ صفحة 124 /
والله سبحانه هو المالك لكل خير لا يملك شئ شيئا من الخير إلا ما ملكه هو إياه وهو المالك مع ذلك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره وهو المنعم المفضل المحيي الشافي الرازق الغفور الرحيم ألغني العزيز وله كل اسم فيه معنى الخير فهو سبحانه المستحق للعبادة رجاء لما عنده من الخير دون غيره.
والله سبحانه هو العزيز القاهر الذي لا يقوم لقهره شئ وهو المنتقم ذو البطش شديد العقاب لا شر لاحد عند أحد إلا بإذنه فهو المستحق لان يعبد خوفا من غضبه لو لم يخضع لعظمته وكبريائه.
والله سبحانه هو الاهل للعبادة وحده لان أهلية الشئ لان يخضع له لنفسه ليس إلا لكمال فالكمال وحده هو الذى يخضع عنده النقص الملازم للخضوع وهو إما جمال تنجذب إليه النفس انجذابا أو جلال يخر عنده اللب ويذهل دونه القلب وله سبحانه كل الجمال وما من جمال إلا وهو آية لجماله، وله سبحانه كل الجلال وكل ما دونه آيته.
فالله سبحانه لا إله إلا هو ولا معبود سواه لانه له الاسماء الحسنى.
ومعنى ذلك أن كل اسم هو أحسن الاسماء التى هي نظائره له تعالى، توضيح ذلك أن توصيف الاسم بالحسن يدل على أن المراد به ما يسمى في أصطلاح الصرف صفة كاسم الفاعل والصفة المشبهة دون الاسم بمعنى علم الذات لان الا علم إنما شأنها الاشارة إلى الذوات والاتصاف بالحسن أو القبح من شأن الصفات باشتمالها على المعاني كالعادل والظالم والعالم والجاهل، فالمراد بالاسماء الحسنى الالفاظ الدالة على المعاني الوصفية الجميلة البالغة في الجمال كالحي والعليم والقدير، وكثيرا ما يطلق التسمية على التوصيف، قال تعالى: " قل سموهم " أي صفوهم.
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه " الاعراف: 180، أي يميلون من الحق إلى الباطل فيطلقون عليه من الاسماء ما لا يليق بساحة قدسه.
فالمراد بالاسماء الحسنى ما دل على معان وصفية كالاله والحي والعليم والقدير دون اسم الجلالة الذي هو علم الذات، ثم الاسماء تنقسم إلى قبيحة كالظالم والجائر والجاهل، وإلى حسنة كالعادل والعالم، والاسماء الحسنة تنقسم إلى ما فيه كمال ما وإن
/ صفحة 125 /
كان غير خال عن شوب النقص والامكان نحو صبيح المنظر ومعتدل القامة وجعد الشعر وما فيه الكمال من غير شوب كالحى والعليم والقدير بتجريد معانيها عن شوب المادة والتركيب وهي أحسن الاسماء لبراءتها عن النقص والعيب وهي التى تليق أن تجري عليه تعالى ويتصف بها.
ولا يختص ذلك منها باسم دون اسم بل كل اسم احسن فله تعالى لمكان الجمع المحلى باللام المفيد للاستغراق في قوله تعالى: " له الاسماء الحسنى وتقديم الخبر يفيد الحصر فجميعها له وحده.
ومعنى كونها له تعالى أنه تعالى يملكها لذاته والذي يوجد منها في غيره فهو بتمليك منه تعالى على حسب ما يريد كما يدل عليه سوق الايات الاتية سوق الحصر كقوله: " هو الحي لا إله إلا هو " المؤمن: 65، وقوله: " وهو العليم القدير " الروم: 54، وقوله: " هو السميع البصير " المؤمن: 56، وقوله: " أن القوة لله جميعا " البقرة: 165، وقوله: " فإن العزة لله جميعا " النساء: 139، وقوله: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " البقره: 255، إلى غير ذلك.
ولا محذور في تعميم ملكه بالنسبة إلى جميع أسمائه وصفاته حتى ما كان منها عين ذاته كالحي والعليم والقدير وكالحياة والعلم والقدرة فإن الشئ ربما ينسب إلى نفسه بالملك كما في قوله تعالى: " رب إنى لا أملك إلا نفسي المائدة: 25.
(بحث روائي) في المجمع في قوله: " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " وروى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه فأنزل الله تعالى: " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " وروي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: ورواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس وأيضا عن ابن مردويه عن ابن عباس.
وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)
/ صفحة 126 /
قالا: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا صلى قام على أصابع رجليه حتى تورم فأنزل الله تبارك وتعالى: " طه - بلغة طي يا محمد - ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ".
أقول: وروى ما في معناه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) وفي الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي (عليهم السلام)، وروى هذا المعنى أيضا في الدر المنثور عن ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا " قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع رجلا فهبط عليه جبريل فقال: " طه " يعني الارض بقدميك يا محمد " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " وأنزل " فاقرأوا ما تيسر من القرآن ".
أقول: والمظنون المطابق للاعتبار أن تكون هذه الرواية هي الاصل في القصة بأن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قام على قدميه في الصلاة حتى تورمت قدماه ثم جعل يرفع قدما ويضع أخرى أو قام على صدور قدميه أو أطراف أصابعه فذكر في كل من الروايات بعض القصة سببا للنزول وإن كان لفظ بعض الروايات لا يساعد على ذلك كل المساعدة.
نعم يبقى على الرواية أمران: أحدهما: أن في انطباق الايات بما لها من السياق على القصة خفاء.
وثانيهما: ما في الرواية من قوله: " فقال طه يعني الارض بقدميك يا محمد " ونظيره ما مر في رواية القمي " فأنزل الله: طه بلغة طي يا محمد ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " ومعناه أن طه جملة كلامية مركبة من فعل أمر من وطأ يطأ ومفعوله ضمير تأنيث راجع إلى الارض، أي طإ الارض وضع قدميك عليها ولا ترفع إحداهما وتضع الاخرى.
فيرد عليه حينئذ أن هذا الذيل لا ينطبق على صدر الرواية فإن مفاد الصدر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرفع رجلا ويضع أخرى في الصلاة إثر تورم قدميه يتوخى به أن يسكن وجع قدمه التي كان يرفعها فيستريح هنيئة ويشتغل بربه من غير شاغل يشغله وعلى
/ صفحة 127 /
هذا فرفع الكلفة والتعب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يناسب الحال إنما هو بأن يؤمر بتقليل الصلاة أو بتخفيف القيام لا بوضع القدمين على الارض حتى يزيد ذلك في تعبه ويشدد وجعه فلا يلائم قوله: " طه " قوله: " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " ولعل قوله: " يعنى الارض بقدميك " من كلام الراوي والنقل بالمعنى.
على أنه مغاير للقراءات المأثورة البانية على كون " طه " حرفين مقطعتين لا معنى وضعي لهما كسائر الحروف المقطعة التي صدرت بها عدة من السور القرآنية.
وذكر قوم منهم أن معنى " طه " يا رجل ثم قال بعضهم: أنه لغة نبطية وقيل: حبشية وقيل: عبرانية، وقيل: سريانية، وقيل: لغة عكل، وقيل: لغة عك، وقيل: هو لغة قريش، واحتمل الزمخشري أن يكون لغة عك وأصله يا هذا قلبت الياء طاءا وحذفت ذا تخفيفا فصارت طاها، وقيل: معناه يا فلان، وقرأ قوم طه بفتح الطاء وسكون الهاء كأنه أمر من وطأ يطأ والهاء للسكت وقيل: إنه من أسماء الله ولا عبرة بشئ من هذه الاقوال ولا جدوى في إمعان البحث عنها.
نعم ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) كما في روح المعاني وعن أبي عبد الله (عليه السلام) كما عن معاني الاخبار بإسناده عن الثوري أن طه اسم من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ورد في روايات أخرى أن يس من أسمائه وروي الاسمين معا في الدر المنثور عن ابن مردويه عن سيف عن أبي جعفر.
وإذ كانت تسمية سماوية ما كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعى ولا يعرف به قبل نزول القرآن ولا أن لطه معنى وصفيا في اللغة ولا معنى لتسميته بعلم ارتجالي لا معنى له إلا الذات مع وجود اسمه واشتهاره به وكان الحق في الحروف المقطعة في فواتح السور أنها تحمل معاني رمزية ألقاها الله إلى رسوله، وكانت سورة طه مبتدئة بخطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " طه ما أنزلنا عليك " الخ كما أن سورة يس كذلك " يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين " بخلاف سائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة وظاهر ذلك أن يكون المعنى المرموز إليه بمقطعات فاتحتي هاتين السورتين أمرا راجعا إلى شخصه (صلى الله عليه وآله وسلم) متحققا به بعينه فكان وصفا لشخصيته الباطنة مختصا به فكان اسما من أسمائه (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا أطلق عليه وقيل: طه أو يس كان المعنى من خوطب بطه أو يس ثم صار علما بكثرة الاستعمال.
/ صفحة 128 /
هذا ما تيسر لنا من توجيه الرواية فيكون بابه باب التسمي بمثل تأبط شرا ومن قبيل قوله: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا * * إذا أضع العمامة تعرفوني يريد أنا ابن من كثر فيه قول الناس: جلا جلا حتى سمي جلا.
وفي احتجاج الطبرسي عن الحسن بن راشد قال: سئل أبو الحسن موسى (عليه السلام) عن قول الله: " الرحمن على العرش استوى " فقال: استولى على ما دق وجل.
وفي التوحيد بإسناده إلى محمد بن مازن أن أبا عبد الله (عليه السلام) سئل عن قول الله عزوجل: " الرحمن على العرش استوى " فقال: استوى من كل شئ فليس شئ أقرب إليه من شئ.
أقول: ورواه القمي أيضا في تفسيره عنه (عليه السلام) ورواه أيضا في التوحيد بإسناده عن مقاتل بن سليمان عنه (عليه السلام) ورواه أيضا في الكافي والتوحيد بالاسناد عن عبد الرحمن بن الحجاج عنه (عليه السلام) وزادا " لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب أستوى من كل شئ ".
وفي الاحتجاج عن علي (عليه السلام) في حديث " الرحمن على العرش استوى " يعني أستوى تدبيره وعلا أمره.
أقول: ما ورد من التفسير في هذه الروايات الثلاث تفسير لمجموع الاية لا لقوله " استوى " وإلا عاد قوله: الرحمن على العرش " جملة تامة مركبة من مبتدء وخبر ولا يساعد عليه سياق سائر آيات الاستواء كما تقدمت الاشارة إليه.
ويؤيد ذلك ما في الرواية الاخيرة من قوله: وعلا أمره " بعد قوله: " استوى تدبيره " فإنه ظاهر في أن الكون على العرش مقصود في التفسير فالروايات مبنية على كون الاية كناية عن الاستيلاء وانبساط السلطان.
وفي التوحيد بإسناده عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من زعم أن الله من شئ أو في شئ أو على شئ فقد أشرك.
ثم قال: من زعم أن الله من شئ فقد جعله محدثا، ومن زعم أنه في شئ فقد زعم أنه محصور، ومن زعم أنه على شئ فقد جعله محمولا.
/ صفحة 129 /
وفيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل وفيه: قال السائل: فقوله: " الرحمن على العرش استوى؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): بذلك وصف نفسه، وكذلك هو مستول على العرش باين من خلقه من غير أن يكون العرش حاملا له، ولا أن يكون العرش حاويا له ولا أن يكون العرش ممتازا له ولكنا نقول: هو حامل العرش وممسك العرش، ونقول من ذلك ما قال: " وسع كرسيه السماوات والارض ".
فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته ونفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاويا وأن يكون عزوجل محتاجا إلى مكان أو إلى شئ مما خلق بل خلقه محتاجون إليه.
أقول: وقوله (عليه السلام): فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته الخ، إشارة إلى طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير الايات المتشابهة من القرآن مما يرجع إلى أسمائه وصفاته وأفعاله وآياته الخارجة عن الحس وذلك بإرجاعها إلى المحكمات ونفي ما تنفيه المحكمات عن ساحتة تعالى وإثبات ما ثبت بالاية وهو أصل المعنى المجرد عن شائبه النقص والامكان التي نفاها المحكمات.
فالعرش هو المقام الذي يبتدي منه وينتهي إليه أزمة الاوامر والاحكام الصادرة من الملك وهو سرير مقبب مرتفع ذو قوائم معمول من خشب أو فلز يجلس عليه الملك ثم إن المحكمات من الايات كقوله تعالى: ليس كمثله شئ " الشورى: 11، وقوله: " سبحان الله عما يصفون " الصافات 159، تدل على انتفاء الجسم وخواصه عنه تعالى فينفي من العرش الذي وصفه لنفسه في قوله: " الرحمن على العرش استوى " طه: 5، وقوله: " ورب العرش العظيم " المؤمنون: 86، كونه سريرا من مادة كذا على هيئة خاصة ويبقى أصل المعنى وهو أنه المقام الذي يصدر عنه الاحكام الجارية في النظام الكوني وهو من مراتب العلم الخارج من الذات.
والمقياس في معرفة ما عبرنا عنه بأصل المعنى أنه المعنى الذي يبقي ببقائه الاسم وبعبارة أخرى يدور مداره صدق الاسم وإن تغيرت المصاديق واختلفت الخصوصيات.
مثال ذلك أن السراج ظهر أول يوم وهو آلة الاستضاءة في ظلمة الليل ومصداقه يومئذ إناء يجعل فيه فتيلة على مادة دسمة ويشتعل رأسها فتشعل بما تجذب من الدسومة
/ صفحة 130 /
وتضئ ما حولها مثلا، ثم انتقل الاسم إلى مثل الشموع والمصابيح النفطية ولم يزل ينتقل من مصداق إلى مصداق حتى استقر اليوم في السراج الكهربائي الذي ليس معه من مادة المصداق الاولى ولا هيئتة شئ أصلا غير أنه آلة الاستضاءة في الظلمة وبذلك يسمى سراجا حقيقة.
ونظيره السلاح الذي كان أول ما ظهر اسما لمثل الفأس من النحاس أو المجن مثلا وهو اليوم يطلق حقيقة على مثل المدفع والقنبلة الذرية وقد سرى هذا النوع من التحول والتطور إلى كثير من وسائل الحياة والاعمال التي يعتورها الانسان في عيشته.
وبالجملة كانت الصحابة لا يتكلمون في غير الاحكام من معارف الدين مما يرجع إلى أسمائه وصفاته وأفعاله وغيرها غير أنهم ينفون عنه لوازم التشبيه بما ورد من آيات التنزيه ويسكتون عن المعنى الاثباتي الذي يبقى بعد النفي فيقولون مثلا في مثل قوله: " الرحمن على العرش استوى " أن الاستواء بمعنى استقرار الجسم في مكان بالاعتماد عليه منفي عنه تعالى وأما أن المراد بالاستواء ما هو؟ فالله أعلم بمراده، والامر مفوض إليه وقد ادعي إجماعهم على ذلك، بل قال بعضهم: إن أهل القرون الثلاثة الاول من الهجرة مجمعون على التفويض، وهو نفي لوازم التشبيه والسكوت عن البحث في أصل المراد.
لكنه مدفوع بأن طريقة أئمه أهل البيت (عليه السلام) المأثورة منهم هي الاثبات والنفي معا والامعان في البحث عن حقائق الدين دون النفي المجرد عن الاثبات والدليل على ذلك ما حفظ عنهم من الاحاديث الجمة التى لا يسع إنكارها إلا لمكابر.
بل الذى روي (1) عن أم سلمة رضي الله عنها في معنى الاستواء أنها قالت: " الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والاقرار به إيمان والجحود به كفر " يدل على أنها كانت ترى هذا الرأي ولو كانت ترى ما نسب إلى الصحابة لقالت: الاستواء مجهول والكيف غير معقول، الخ نعم الاكثرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم من السلف على هذه الطريقة وقد
* (هامش) *
(1) روح المعاني عن اللالكاني في كتاب السنة عن الحسن عن امه عنها رض (*).
/ صفحة 131 /
نسبه الغزالي إلى الائمة الاربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وإلى البخاري والترمذي وأبى داود السجستاني من أرباب الصحاح وإلى عدة من أعيان السلف.
وكان الذي دعاهم إلى السكوت عن الاثبات - كما ذكره جمع - هو أن الثابت بعد المنفي خلاف ظاهر اللفظ فيكون من التأويل الذي حرم الله ابتغاءه في قوله: " وأبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله " آل عمران: 7، بناء على الوقف على " إلا الله " بل تعدى بعضهم إلى مطلق التفسير فمنعه قائلا - كما نقله الالوسي - إن كل من فسر فقد أول ومن لم يفسر لم يؤول لان التأويل هو التفسير.
وقد تقدم في ذيل آية المحكم والمتشابه من سورة آل عمران بيان أن التأويل الذي يذكره ويذمه غير المعنى المخالف لظاهر اللفظ وأن رد المتشابه إلى المحكم وبيانه به ليس من التأويل في شئ وكذا أن التأويل غير التفسير.
ثم إن هؤلاء القوم على احتياطهم في البيانات الدينية الراجعة إلى أسمائه وصفاته تعالى واقتصارهم على النفي من غير إثبات لم يسلكوا هذا المسلك فيما ورد في الكتاب والسنة من وصف أفعاله تعالى كالعرش والكرسي والحجب والقلم واللوح وكتب الاعمال وأبواب السماء وغيرها بل حملوها على ما هو المعهود عندنا من مصاديق العرش والكرسي والقلم واللوح وغير ذلك مع أن الجميع ذو ملاك واحد وهو استلزام ما يجب تنزيهه تعالى عنه من الحاجة والامكان.
وذلك أن الذي أوجد أمثال العرش والكرسي واللوح والقلم عندنا معاشر البشر هو الحاجة فإنما اتخذنا الكرسي لنستريح عليه أو نتعزز به واتخذنا العرش لنستريح عليه ونتعزز به ونظهر التفرد بالعزة والعظمة ونمثل به التعيين بالملك والسلطان واتخذنا اللوح والقلم والكتابة لمسيس الحاجة إلى حفظ ما غاب عن الحس والتحرز عن النسيان ونحو ذلك وعلى هذا النمط.
فأي فرق بين الايات المتشابهة التي تثبت له تعالى السمع والبصر واليد والساق والرضا والاسف التي توهم التجسم المنتهي إلى الحاجة والامكان وبين الايات التي تثبت له عرشا وكرسيا وملاء وحملة لعرشه ولوحا وقلما وهي توهم الحاجة والامكان؟ ثم أي فرق بين المحكم الذى يرفع التشابه في الطائفة الاولى وهو قوله: " ليس كمثله شئ "
/ صفحة 132 /
وبين المحكم الذي يرفع تشابه الطائفة الثانية وهو قوله: والله هو الغنى " مثلا.
نعم ذكر الامام الرازي اعتذارا عن ذلك أن لو فتحنا باب التأويل في هذه الامور أدى ذلك إلى جواز تأويل جميع معارف الدين وأحكام الشرع وهو قول الباطنية.
وأنت خبير بأن تأويل الجميع حتى الاحكام التي تضمنتها الدعوة الدينية وأجراها بين الناس تعليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتربيته دفع للضرورة ومكابرة مع البداهة وليس من هذا القبيل ما قام الدليل على تشابهه وكانت هناك آية محكمة يمكن أن يرد إليها ويرتفع بها تشابهه فإبقاؤه على ظاهره سدا لباب التأويل في سائر المعارف المحكمة غير المتشابهة من قبيل إماتة حق لاماتة باطل وإن شئت فقل إماتة باطل بإحياء باطل آخر على أنك عرفت أن رد المتشابه إلى المحكم ليس من التأويل في شئ.
وألجأ الاضطرار بعض هؤلاء أن قالوا إن خلق هذا الجسم النوراني العظيم الذي يدهش العقول بعظمته على هيئه سرير ذي قوائم وحملة ووضعه فوق السماوات السبع من غير جالس يجلس عليه أو حاجة تدعو إليه وحفظه كذلك في أزمنة لا نهاية لها إنما هو من باب اللطف خلقه الله ليخبر به المؤمنين فيؤمنوا به بالغيب فيؤجروا ويثابوا في الاخرة، ونظيره اللوح والقلم وسائر الايات العظام الغائبة عن الحس.
وسقوط هذا القول غني عن البيان.
وبعد هذه الطائفة المسماة بالمفوضة الطبقة المسماة بالمؤولة وهم الذين يجمعون في تفسير المتشابهات من آيات الاسماء والصفات بين الاثبات والنفي فينزهونه عن لوازم الحاجة والامكان بتأويلها - بمعنى الحمل على خلاف الظاهر - إلى معان توافق الاصول المسلمة من الدين أو المذهب، وهؤلاء منشعبون على شعب: منهم من اكتفى في الاثبات بعين ما نفاه بالدليل وهم الذين يفسرون الاسماء والصفات بنفي النقائص، فمعنى العلم عندهم عدم الجهل ومعنى العالم من ليس بجاهل وعلى هذا السبيل.
ولازمه تعطيل الذات المتعالية عن صفات الكمال والبراهين العقلية وظواهر الكتاب والسنة ونصوصهما تدفعه، وهو من أقوال الصابئة المتسربة في الاسلام.
ومنهم من فسرها بمعان مخالفة لظواهرها من كل ما احتمله عقل أو نقل لا يخالف الاصول المسلمة وهو المسمى عندهم بالتأويل.
/ صفحة 133 /
ومنهم من اكتفى بالمحتملات النقلية ولم يعتبر العقل.
وقد عرفت مما تقدم من أبحاثنا في المحكم والمتشابه أن تفسير الكتاب العزيز بغير الكتاب والسنة القطعية من التفسير بالرأي الممنوع في الكتاب والسنة.
وجل هؤلاء الطوائف الثلاث المسمين بالمؤولة يسلكون في أفعاله تعالى، مما لا يرجع إلى الصفة مسلك السلف المسمين بالمفوضة في إبقائها على ظواهرها من المصاديق المعهودة عندنا، وأما ما يرجع منها بنحو إلى الصفة فيؤولونه، ففى قوله: " الرحمن على العرش استوى " يؤولون الاستواء إلى مثل الاستيلاء والاستعلاء ويبقون العرش، وهو فعل له تعالى غير راجع إلى الصفة على ظاهره المعهود وهو الجسم المخلوق على هيئة سرير مقبب ذي قوائم، وفيما ورد من طرق الجماعة أن الله ينزل كل ليلة جمعة إلى السماء الدنيا يؤولون نزوله بنزول رحمته ويفسرون السماء الدنيا بفلك القمر، وهكذا.
وقد عرفت فيما مر أن حمل الاية على خلاف ظاهرها لا مسوغ له ولا دليل يدل عليه فلم ينزل الكتاب ألغازا وتعمية ثم الحديث فيه المحكم والمتشابه كالقرآن وإبقاء المتشابه من القرآن على ظاهره بالاستناد إلى ظاهر مثله الوارد في الحديث هو في الحقيقة رد لمتشابه القرآن إلى متشابه الحديث وقد أمرنا برد متشابه القرآن إلى محكمه.
ثم إن في عملهم بهذه الروايات وتحكيمها على ظاهر الكتاب مغمضا آخر وذلك أنها أخبار آحاد ليست بمتواترة ولا قطعية الصدور، وما هذا شأنه يحتاج في العمل بها حتى في صحاحها إلى حجية شرعية بالجعل أو الامضاء، وقد أتضح في علم الاصول اتضاحا يتلو البداهة أن لا معنى لحجية أخبار الاحاد في غير الاحكام كالمعارف الاعتقادية والموضوعات الخارجية.
نعم الخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية كالمسموع من المعصوم مشافهة حجة وإن كان في غير الاحكام لان الدليل على العصمة بعينه دليل على صدقه وهذه كلها مسائل مفروغ عنها في محلها من شاء الوقوف فليراجع.
وفي سنن أبي داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الانفس ونهكت الاموال أو هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك.
فقال
/ صفحة 134 /
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه.
ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك.
ويحك أتدري ما الله؟ أن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب.
أقول: ومتنه لا يخلو من اختلال، وإنما أوردناه لكونه من أصرح الاخبار في جسمية العرش، وهنا روايات تدل على أن له قوائم، وأخرى تدل على أن له حملة أربع، وأخرى تدل على أنه فوق السماوات بحذاء الكعبة وأخرى تدل على أن الكرسي عنده كحلقة ملقاة في ظهري فلاة السماوات والارض بالنسبة إلى الكرسي كذلك، وقد تقدم طريقة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير أمثال هذه الاخبار وقد أوردنا في تفسير سورة الاعراف في الجزء الثامن من الكتاب ما يستفاد منه محصل نظرهم (عليهم السلام).
وفي معاني الاخبار بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: " يعلم السر وأخفى " قال: السر ما أكننته في نفسك وأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته.
وفي المجمع روي عن السيدين الباقر والصادق (عليهما السلام): " السر " ما أخفيته في نفسك و " أخفى " ما خطر ببالك - ثم أنسيته.
وهل أتاك حديث موسى (9) - إذ را نارا فقال لاهله أمكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى (10) - فلما أتاها نودي يا موسى (11) - إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى (12) - وأنا اخترتك
/ صفحة 135 /
فاستمع لما يوحى (13) - إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلوة لذكر ى (14) - إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى (15) - فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى (16) - وما تلك بيمينك يا موسى (17) - قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى (18) - قال ألقها يا موسى (19) - فألقاها فإذا هي حية تسعى (20) - قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى (21) - واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (22) - لنريك من آياتنا الكبرى (23) - إذهب إلى فرعون إنه طغى (24) - قال رب اشرح لي صدري (25) - ويسر لي أمرى (26) - واحلل عقدة من لساني (27) - يفقهوا قولي (28) - واجعل لي وزيرا من أهلي (29) - هرون أخي (30) - أشدد به أزرى (31) - وأشركه في أمري (32) - كي نسبحك كثيرا (33) - ونذكرك كثيرا (34) - إنك كنت بنا بصيرا (35) - قال قد أوتيت سؤلك يا موسى (36) - ولقد مننا عليك مرة أخرى (37) - إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى (38) - أن أقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع
/ صفحة 136 /
على عينى (39) - إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى (40) - واصطنعتك لنفسي (41) - إذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري (42) - إذهبا إلى فرعون إنه طغى (43) - فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44) - قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى (45) - قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى (46) - فاتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى (47) - إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى (48).
(بيان) شروع في قصة موسى (عليه السلام) وقد ذكرت في السورة فصول أربعة منها وهي أختيار موسى للرسالة في جبل طور في وادي طوى وأمره بدعوة فرعون.
ثم دعوته بشركة من أخيه فرعون إلى التوحيد وإرسال بني إسرائيل معه وإقامته الحجة وايتاؤه المعجزة.
ثم خروجه مع بنى إسرائيل من مصر وتعقيب فرعون وغرقه ونجاة بني إسرائيل.
ثم عبادة بنى إسرائيل العجل وما انتهى إليه أمرهم وأمر السامري وعجله، وقد تعرضت الايات التي نقلناها للفصل الاول منها.
/ صفحة 137 /
ووجه اتصال القصة بما قبلها أنها تذكره بالتوحيد ووعيد بالعذاب فالقصة تبتدئ بوحي التوحيد وتنتهي بقول موسى: " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو " الاية وتذكر هلاك فرعون وطرد السامري وقد ابتدأت الايات السابقة بأن القرآن المشتمل على الدعوة الحقة تذكرة لمن يخشى وانتهت إلى مثل قوله: " الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى ".
قوله تعالى: " وهل أتاك حديث موسى " الاستفهام للتقرير والحديث، القصة.
قوله تعالى: إذ رأى نارا فقال لاهله امكثوا إني آنست نارا " إلى آخر الاية المكث اللبث، والايناس إبصار الشئ أو وجدانه وهو من الانس خلاف النفور ولذا قيل: إنه إبصار شئ يونس به فيكون أبصارا قويا، والقبس بفتحتين هو الشعلة المقتبسة على رأس عود ونحوه والهدى مصدر بمعنى اسم الفاعل أو مضاف إليه لمضاف مقدر أي ذا هداية، والمراد - على أي حال - من قام به الهداية.
وسياق الاية وما يتلوها يشهد أنه كان في منصرفه من مدين إلى مصر ومعه أهله وهم بالقرب من وادي طوى في طور سيناء في ليلة شاتية مظلمة وقد ضلوا الطريق إذ رأى نارا فرأى أن يذهب إليها فإن وجد عندها أحدا سأله الطريق وإلا أخذ قبسا من النار ليضرموا به نارا فيصطلوا بها.
وفي قوله: " قال لاهله امكثوا " إشعار بل دلالة على أنه كان مع أهله غيره كما أن في قوله: " إني آنست نارا " مع ما يشتمل عليه من التأكيد والتعبير بالايناس دلالة على أنه إنما رآها هو وحده وما كان يراها غيره من أهله ويؤيد ذلك قوله أيضا أولا: " إذ رأى نارا "، وكذا قوله: " لعلي آتيكم " الخ يدل على أن في الكلام حذفا والتقدير امكثوا لاذهب إليها لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هاديا نهتدي بهداه.
قوله تعالى: " فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك - إلى قوله - طوى " طوى اسم لواد بطور وهو الذي سماه الله سبحانه بالوادي المقدس، وهذه التسمية والتوصيف هي الدليل على أن أمره بخلع النعلين إنما هو لاحترام الوادي أن لا يداس بالنعل ثم تفريع خلع النعلين مع ذلك على قوله: " إني أنا ربك " يدل على أن تقديس الوادي إنما هو لكونه حظيرة لقرب وموطن الحضور والمناجاة فيؤول معنى الاية إلى مثل
/ صفحة 138 /
قولنا نودي يا موسى ها أنا ذا ربك وأنت بمحضر منى وقد تقدس الوادي بذلك فالتزم شرط الادب وأخلع نعليك.
وعلى هذا النحو يقدس ما يقدس من الامكنة والازمنة كالكعبة المشرفة والمسجد الحرام وسائر المساجد والمشاهد المحترمة في الاسلام والاعياد والايام المتبركة فإنما ذلك قدس وشرف اكتسبته بالانتساب إلى واقعة شريفة وقعت فيها أو نسك وعبادة مقدسة شرعت فيها وإلا فلا تفاضل بين أجزاء المكان ولا بين أجزاء الزمان.
ولما سمع موسى (عليه السلام) قوله تعالى: " يا موسى إني أنا ربك فهم من ذلك فهم يقين أن الذي يكلمه هو ربه والكلام كلامه وذلك أنه كان وحيا منه تعالى وقد صرح تعالى بقوله: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " الشورى: 51، أن لا واسطة بينه تعالى وبين من يكلمه من حجاب أو رسول إذا كان تكليم وحي وإذ لم يكن هناك أي واسطة مفروضة لم يجد الموحى إليه مكلما لنفسه ولا توهمه إلا الله ولم يجد الكلام إلا كلامه ولو احتمل أن يكون المتكلم غيره أو الكلام كلام غيره لم يكن تكليما ليس بين الانسان وبين ربه غيره.
وهذا حال النبي والرسول في أول ما يوحى إليه بالنبوة والرسالة لم يختلجه شك ولا اعترضه ريب في أن الذي يوحي إليه هو الله سبحانه من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجة ولو افتقر إلى شئ من ذلك كان اكتسابا بواسطة القوة النظرية لا تلقيا من الغيب من غير توسط واسطة.
فإن قلت: قوله تعالى في القصة في موضع آخر من كلامه: " وناديناه من جانب الطور الايمن وقربناه نجيا ".
وقوله في موضع آخر: " من جانب الطور الايمن من الشجرة " يثبت الحجاب في تكليمه (عليه السلام).
قلت: نعم لكن ثبوت الحجاب أو الرسول في مقام التكليم لا ينافى تحقق التكليم بالوحي فإن الوحي كسائر أفعاله تعالى لا يخلو من واسطة وإنما يدور الامر مدار التفات المخاطب الذي يتلقى الكلام فإن التفت إلى الواسطة التي تحمل الكلام
/ صفحة 139 /
واحتجب بها عنه تعالى كان الكلام رسالة أرسل إليه بملك مثلا ووحيا من الملك، وإن التفت إليه تعالى كان وحيا منه وإن كان هناك واسطة لا يلتفت إليها، ومن الشاهد على ما ذكرنا قوله في الاية التالية خطابا لموسى: " فاستمع لما يوحى " فسماه وحيا، وقد أثبت في سائر كلامه فيه الحجاب.
وبالجملة قوله: " إني أنا ربك فاخلع نعليك " الخ، تنبيه لموسى على أن الموقف موقف الحضور ومقام المشافهة وقد خلى به وخصه من نفسه بمزيد العناية، ولذا قيل: إني أنا ربك، ولم يقل أنا الله أو أنا رب العالمين، ولذا أيضا لم يلزم من قوله ثانيا: " إني أنا الله " تكرار، لان الاول تخلية للمقام من الاغيار لالقاء الوحي، والثاني من الوحى.
وفي قوله: " نودي " حيث طوي ذكر الفاعل ولم يقل: ناديناه أو ناداه الله من اللطف ما لا يقدر بقدر، وفيه تلويح أن ظهور هذه الاية لموسى كان على سبيل المفاجأة.
قوله تعالى: " وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى " الاختيار مأخوذ من الخير، وحقيقته أن يتردد أمر الفاعل مثلا بين أفعال يجب أن يرجح واحدا منها ليفعله فيميز ما هو خيرها ثم يبني على كونه خيرا من غيره فيفعله، فبناؤه على كونه خيرا من غيره هو اختيار فالاختيار دائما لغاية هو غرض الفاعل من فعله.
فاختياره تعالى لموسى إنما هو لغاية الهية وهي إعطاء النبوة والرسالة ويشهد بذلك قوله على سبيل التفريع على الاختيار " فاستمع لما يوحى " فقد تعلقت المشية الالهية ببعث إنسان يتحمل النبوة والرسالة وكان موسى في علمه تعالى خيرا من غيره وأصلح لهذا الغرض فاختاره (عليه السلام).
وقوله: " وأنا اخترتك " على ما يعطيه السياق من قبيل إصدار الامر بنبوته ورسالته فهو إنشاء لا إخبار، ولو كان إخبارا لقيل: وقد أخترتك لكنه إنشاء الاختيار للنبوة والرسالة بنفس هذه الكلمة ثم لما تحقق الاختيار بإنشائه فرع عليه الامر بالاستماع للوحي المتضمن لنبوته ورسالته فقال: " فاستمع لما يوحى " والاستماع لما يوحى الاصغاء إليه.
/ صفحة 140 /
قوله تعالى: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكري " هذا هو الوحي الذي أمر (عليه السلام) بالاستماع له في إحدى عشرة آية تشتمل على النبوة والرسالة معا أما النبوة ففي هذه الاية والايتين بعدها، وأما الرسالة فتأخذ من قوله " وما تلك بيمينك يا موسى " وتنتهي في قوله: " إذهب إلى فرعون إنه طغى " وقد نص تعالى أنه كان رسولا نبيا معا في قوله: " واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا " مريم: 51.
وقد ذكر في الايات الثلاث المشتملة على النبوة الركنان معا وهما ركن الاعتقاد وركن العمل، وأصول الاعتقاد ثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد وقد ذكر منها التوحيد والمعاد وطوي عن النبوة لان الكلام مع النبي نفسه وأما ركن العمل فقد لخص على ما فيه من التفصيل في كلمة واحدة هي قوله: " فاعبدني " فتمت بذلك أصول الدين وفروعه في ثلاث آيات.
فقوله: " إنني أنا الله لا إله إلا أنا " عرف المسمى بالاسم بنفسه حيث قال: إنني أنا الله ولم يقل: إن الله هو أنا لان مقتضى الحضور أن يعرف وصف الشئ بذاته لا ذاته بوصفه كما قال إخوة يوسف لما عرفوه: " إنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي " واسم الجلالة وإن كان علما للذات المتعالية لكنه يفيد معنى المسمى بالله إذ لا سبيل إلى الذات المقدسة فكأنه قيل: أنا الذي يسمى " الله " فالمتكلم حاضر مشهود والمسمى باسم " الله " كأنه مبهم أنه من هو؟ فقيل أنا ذاك على أن اسم الجلالة علم بالغلبة لا يخلو من أصل وصفي.
وقوله: " لا إله إلا أنا فاعبدني " كلمة التوحيد مرتبة على قوله: " إنني أنا الله " لفظا لترتبها عليه حقيقه فإنه إذا كان هو الذي منه يبدأ كل شئ وبه يقوم واليه يرجع فلا ينبغى أن يخضع خضوع العبادة إلا له فهو الاله المعبود بالحق لا إله غيره ولذا فرع على ذلك الامر بعبادته حيث قال: " فاعبدنى ".
وقوله: وأقم الصلاة لذكري " خص الصلاة بالذكر - وهو من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأنه - لان الصلاة أفضل عمل يمثل به الخضوع العبودي ويتحقق بها ذكر الله سبحانه تحقق الروح بقالبه.
/ صفحة 141 /
وعلى هذا المعنى فقوله: لذكري " من إضافة المصدر إلى مفعوله واللام للتعليل وهو متعلق بأقم محصله أن: حقق ذكرك لي بالصلاة، كما يقال: كل لتشبع واشرب لتروى وهذا هو المعنى السابق إلى الذهن من مثل هذا السياق.
وقد تكاثرت الاقوال في قوله: " لذكري " فقيل: إنه متعلق بأقم كما تقدم وقيل: بالصلاة، وقيل: بقوله: " فاعبدني ثم اللام قيل للتعليل، وقيل للتوقيت والمعنى أقم الصلاة عند ذكري أو عند ذكرها إذا نسيتها أو فاتت منك فهي كاللام في قوله: " أقم الصلاة لدلوك الشمس " أسرى - 78.
ثم الذكر قيل: المراد به الذكر اللفظي الذي تشتمل عليه الصلاة وقيل الذكر القلبي الذي يقارنها ويتحقق بها أو يترتب عليها ويحصل بها حصول المسبب عن سببه أو الذكر الذي قبلها، وقيل: المراد الاعم من القلبي والقالبي.
ثم الاضافة قيل: إنها من إضافه المصدر إلى مفعوله، وقيل: من إضافة المصدر إلى فاعله والمراد صل لان أذكرك بالثناء والاثابة أو المراد صل لذكري إياها في الكتب السماوية وأمري بها.
وقيل: إنه يفيد قصر الاقامة في الذكر، والمعنى: أقم الصلاة لغرض ذكري لا لغرض آخر غير ذكري كثواب ترجوه أو عقاب تخافه، وقيل: لا قصر.
وقيل: إنه يفيد قصر المضاف في المضاف إليه، والمراد: أقم الصلاة لذكري خاصة من غير أن ترائي بها أو تشوبها بذكر غيري، وقيل: لا دلالة على ذلك من جهة اللفظ وإن كان حقا في نفسه.
وقيل: المراد بالذكر ذكر الصلاة أي أقم الصلاة عند تذكرها أو لاجل ذكرها والكلام على تقدير مضاف والاصل لذكر صلاتي أو على أن ذكر الصلاة سبب لذكر الله فاطلق المسبب وأريد به السبب إلى غير ذلك والوجوه الحاصلة بين غث وسمين.
والذى يسبق إلى الفهم هو ما قدمناه.
قوله تعالى: " إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى " تعليل لقوله في الاية السابقة: " فاعبدنى " ولا يناقض ذلك كون " فاعبدني " متفرعا على
/ صفحة 142 /
كلمة التوحيد المذكورة قبله لان وجوب عبادته تعالى وإن كان بحسب نفسه متفرعا على توحده لكنه لا يؤثر أثرا لو لا ثبوت يوم يجزى فيه الانسان بما عمله ويتميز فيه المحسن من المسئ والمطيع من العاصي فيكون التشريع لغوا والامر والنهي سدى لا أثر لهما، ولذلك كانت مقضية قضاء حتما وتكرر في كلامه تعالى نفي الريب عنها.
وقوله: " أكاد أخفيها " ظاهر إطلاق الاخفاء أن المراد يقرب أن أخفيها وأكتمها فلا أخبر عنها أصلا حتى يكون وقوعها أبلغ في المباغتة وأشد في المفاجأة ولا تأتي إلا فجأة كما قال تعالى: " لا تأتيكم إلا بغتة " الاعراف: 187، أو يقرب أن لا أخبر بها حتى يتميز المخلصون من غيرهم فإن أكثر الناس إنما يعبدونه تعالى رجاء في ثوابه أو خوفا من عقابه جزاء للطاعة والمعصية، وأصدق العمل ما كان لوجه الله لا طمعا في جنة أو خوفا من نار ولو أخفى وكتم يوم الجزاء تميز عند ذلك من يأتي بحقيقة العبادة من غيره.
وقيل: معنى أكاد أخفيها أقرب من أن أكتمها من نفسي وهو مبالغة في الكتمان إذا أراد أحدهم المبالغة في كتمان شئ قال: كدت أخفيه من نفسي أي فكيف أظهره لغيري؟ وعزي إلى الرواية.
وقوله: " لتجزى كل نفس بما تسعى " متعلق بقوله: " آتية " والمعنى واضح.
قوله تعالى: " فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى " الصد الصرف، والردى الهلاك، والضميران في " عنها " و " بها " للساعة، ومعنى الصد عن الساعة الصرف عن ذكرها بما لها من الشأن وهو أنها يوم تجزى فيه كل نفس بما تسعى، وكذا معنى عدم الايمان بها هو الكفر بها بما لها من الشأن.
وقوله: " واتبع هواه " كعطف التفسير بالنسبة إلى قوله: " من لا يؤمن بها " أي إن عدم الايمان بها مصداق اتباع الهوى وإذ كان مع ذلك صالحا للتعليل أفاد الكلام عليه الهوى لعدم الايمان بها، واستفيد من ذلك بالالتزام أن الايمان بالساعة هو الحق المخالف للهوى والمنجي من الردى.
فمحصل معنى الاية أنه إذا كانت الساعة آتية والجزاء واقعا فلا يصرفنك عن الايمان بها وذكرها بما لها من الشأن الذين اتبعوا أهواءهم فصاروا يكفرون بها
/ صفحة 143 /
ويعرضون عن عبادة ربهم فلا يصرفنك عنها حتى تنصرف فتهلك.
ولعل الاتيان في قوله: " واتبع هواه " بصيغة الماضي مع كون المعطوف عليه بصيغة المضارع للتلويح إلى علية اتباع الهوى لعدم الايمان.
قوله تعالى: " وما تلك بيمينك يا موسى شروع في وحى الرسالة وقد تم وحي النبوة في الايات الثلاث الماضية والاستفهام للتقرير، سئل (عليه السلام) عما في يده اليمنى وكانت عصاه، ليسميها ويذكر أوصافها فيتبين أنها جماد لا حياة له حتى يأخذ تبديلها حية تسعى مكانه في نفسه (عليه السلام).
والظاهر أن المشار إليه بقوله: " تلك " العودة أو الخشبة، ولو لا ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: وما ذلك بجعل المشار إليه هو الشئ لمكان التجاهل بكونها عصا وإلا لم يستقم الاستفهام كما في قوله: " فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر " الانعام: 78.
ويمكن أن تكون الاشارة بتلك إلى العصا لكن لا بداعي الاطلاع على اسمها وحقيقتها حتى يلغو الاستفهام بل بداعي أن يذكر ما لها من الاوصاف والخواص ويؤيده ما في كلام موسى (عليه السلام) من الاطناب بذكر نعوت العصا وخواصها فإنه لما سمع السؤال عما في يمينه وهي عصا لا يرتاب فيها فهم أن المطلوب ذكر أوصافها فأخذ يذكر اسمها ثم أوصافها وخواصها، وهذه طريق معمولة فيما إذا سئل عن أمر واضح لا يتوقع الجهل به ومن هذا الباب بوجه قوله تعالى: " القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث " القارعة: 4، وقوله: " الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة " الحاقة: 3.
قوله تعالى: " قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى " العصا معروفة وهي من المؤنثات السماعية والتوكي والاتكاء على العصا الاعتماد عليها والهش هو خبط ورق الشجرة وضربه بالعصا لتساقط على الغنم فيأكله والمآرب جمع مأربة مثلثة الراء وهي الحاجة والمراد بكون مآربه فيها تعلق حوائجه بها من حيث إنها وسيلة رفعها.
ومعنى الاية ظاهر.
وإطنابه (عليه السلام) بالاطالة في ذكر أوصاف العصا وخواصها قيل: لان المقام وهو
/ صفحة 144 /
مقام المناجاة والمسارة مع المحبوب يقتضي ذلك لان مكالمة المحبوب لذيذة ولذا ذكر أولا أنه عصاه ليرتب عليه منافعها العامة وهذه هي النكتة في ذكر أنها عصاه.
وقد قدمنا في ذيل الاية السابقة وجها آخر لهذا الاستفهام وجوابه وليس الكلام عليه من باب الاطناب وخاصه بالنظر إلى جمعه سائر منافعها في قوله: " ولي فيها مآرب أخرى ".
قوله تعالى: " قال ألقها يا موسى - إلى قوله: سيرتها الاولى " السيرة الحالة والطريقة وهي في الاصل بناء نوع من السير كجلسة لنوع من الجلوس.
أمر سبحانه موسى أن يلقى عصاه عن يمينه وهو قوله: " قال ألقها يا موسى " فلما ألقى العصا صارت حية تتحرك بجد وجلادة وذلك أمر غير مترقب من جماد لا حياة له وهو قوله: " فألقاها فإذا هي حية تسعى " وقد عبر تعالى عن سعيها في موضع آخر من كلامه بقوله رآها تهتز كأنها جان " القصص: 31، وعبر عن الحية أيضا في موضع آخر بقوله: فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين " الاعراف: 107، الشعراء: 32 والثعبان: الحية العظيمة.
وقوله: " قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها " أي حالتها " الاولى " وهي أنها عصا فيه دلالة على خوفه (عليه السلام) مما شاهده من حية ساعية وقد قصه تعالى في موضع آخر إذ قال: " فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف " القصص: 31، والخوف وهو الاخذ بمقدمات التحرز عن الشر غير الخشية التي هي تأثر القلب واضطرابه فإن الخشية رذيلة تنافى فضيلة الشجاعة بخلاف الخوف والانبياء (عليهم السلام) يجوز عليهم الخوف دون الخشية كما قال الله تعالى: " الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله " الاحزاب: 39.
قوله تعالى: " واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية اخرى " الضم الجمع، والجناح جناح الطائر واليد والعضد والابط ولعل المراد به المعنى الاخير ليؤول إلى قوله في موضع آخر: ادخل يدك في جيبك والسوء كل رداءه وقبح قيل: كني به في الاية عن البرص والمعنى أجمع يدك تحت أبطك أي أدخلها في جيبك تخرج بيضاء من غير برص أو حالة سيئة أخرى.
/ صفحة 145 /
وقوله: " آية أخرى " حال من ضمير تخرج وفيه اشارة إلى أن صيرورة العصا حية آية أولى واليد البيضاء آية أخرى وقال تعالى في ذلك: " فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه " القصص: 32.
قوله تعالى: " لنريك من آياتنا الكبرى " اللام للتعليل والجملة متعلقة بمقدر كأنه قيل: أجرينا ما أجرينا على يدك لنريك بعض آياتنا الكبرى.
قوله تعالى: " أذهب إلى فرعون إنه طغى " هذا هو أمر الرسالة وكانت الايات السابقة: " وما تلك بيمينك " الخ مقدمة له.
قوله تعالى: " قال رب اشرح لي صدري - إلى قوله - إنك كنت بنا بصيرا " الايات - وهي إحدى عشرة آية - متن ما سأله موسى (عليه السلام) ربه حين سجل عليه حكم الرسالة وهي بظاهرها مربوطة بأمر رسالته لانه أحوج ما يكون إليها في تبليغ الرسالة إلى فرعون وملائه وإنجاء بني إسرائيل وإدارة أمورهم لا في أمر النبوة.
ويؤيد ذلك أنه لم يسأل بعد إتمام أمر النبوة في الايات الثلاث السابقة بل إنما بادر إلى ذلك بعد ما ألقى إليه قوله: " أذهب إلى فرعون إنه طغى " وهو أمر الرسالة.
نعم الايات الاربع الاول: " رب اشرح لي صدري " الخ، لا يخلو من ارتباط في الجملة بأمر النبوة وهي تلقي عقائد الدين وأحكامه العملية عن ساحة الربوبية.
فقوله: " رب اشرح لي صدري " والشرح البسط والجملة من الاستعاره التخييلية والاستعارة بالكناية كأن صدر الانسان وقد استكن فيه القلب وعاء يعي ما يرد عليه من طريق المشاهدة والادراك ثم يختزن فيه السر وإذا كان أمرا عظيما يشق على الانسان أو هو فوق طاقته ضاق عنه الصدر فلم يسعه واحتاج إلى انشراح حتى يسعه.
وقد استعظم موسى ما سجل عليه ربه من أمر الرسالة وقد كان على علم بما عليه أمة القبط من الشوكة والقوة وعلى رأس هذه الامة المتجبرة فرعون الطاغي الذي كان ينازع الله في ربوبيته وينادي أنا ربكم الاعلى، وكان يذكر ما عليه بنو إسرائيل من الضعف والاسارة بين آل فرعون ثم الجهل وانحطاط الفكر، وكان كأنه يرى ما ستجره إليه هذه الدعوة من الشدائد والمصائب ويشاهد ما سيعقبه تبليغ هذه الرسالة
/ صفحة 146 /
من الفظائع والفجائع وهو رجل قليل التحمل سريع الانقلاب في ذات الله ينكر الظلم ويأبى الضيم كما يشهد به قصة قتله القبطى واستقائه في ماء مدين وفي لسانه - وهو السلاح الوحيد لمن أراد الدعوة والتبليغ - عقدة ربما منعته بيان ما يريد بيانه.
فلذلك سأل ربه حل هذه المشكلات فسأل أولا أن يوسع صدره لما يحمله ربه من أعباء الرسالة ولما ستستقبله من العظائم والشدائد في مسيره في الدعوة فقال: " رب اشرح لي صدري.
ثم قال: " ويسر لي أمري " وهو الامر الذي قلده من الرسالة ولم يسأله تعالى أن يخفف في رسالته ويتنزل بعض التنزل عما أمره به أولا فيقنع بما هو دونه فتصير رسالة يسيرة في نفسها بعد ما كانت خطيرة وإنما سأل أن يجعلها على ما بها من العسر والخطر يسيرة بالنسبه إليه هينة عنده والدليل على ذلك قوله: " ويسر لي ".
ووجه الدلالة أن قوله: " لي " والمقام هذا المقام يفيد الاختصاص فيؤدي ما هو معنى قولنا: ويسر لي، وأنا الذي أو قفتني هذا الموقف وقلدتني ما قلدتني أمري الذى قلدتنيه ومن المعلوم أن مقتضى هذا السؤال تيسير الامر بالنسبة إليه لا تيسيره في نفسه، ونظير الكلام يجري في قوله: " اشرح لي فمعناه اشرح لي وأنا الذي أمرتني بالرسالة وقبالها شدائد ومكاره " صدري " حتى لا يضيق إذا ازدحمت علي ودهمتني، ولو قيل: رب اشرح صدري ويسر أمري فاتت هذه النكتة.
وقوله: " وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي سؤال له آخر يرجع إلى عقدة في لسانه والتنكير في " عقدة " للدلالة على النوعية فله وصف مقدر وهو الذى يلوح من قوله: " يفقهوا قولي " أي عقدة تمنع من فقه قولي.
وقوله: " واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي سؤال له آخر وهو رابع الاسئلة وآخرها، والوزير فعيل من الوزر بالكسر فالسكون بمعنى الحمل الثقيل سمي الوزير وزيرا لانه يحمل ثقل حمل الملك، وقيل: من الوزر بفتحتين بمعنى الجبل الذي يلتجأ إليه سمي به لان الملك يلتجئ إليه في آرائه وأحكامه.
وبالجملة هو يسأل ربه أن يجعل له وزيرا من أهله ويبينه أنه هارون أخي وإنما يسأل ذلك لان الامر كثير الجوانب متباعدة الاطراف لا يسع موسى أن يقوم به وحده
/ صفحة 147 /
بل يحتاج إلى وزير يشاركه في ذلك فيقوم ببعض الامر فيخفف عنه فيما يقوم به هذا الوزير ويكون مؤيدا لموسى فيما يقوم به موسى وهذا معنى قوله - وهو بمنزلة التفسير لجعله وزيرا - " أشدد به أزرى وأشركه في أمري ".
فمعنى قوله: " وأشركه في أمري " سؤال الاشراك في أمر كان يخصه وهو تبليغ ما بلغه من ربه بأدي مرة فهو الذي يخصه ولا يشاركه فيه أحد سواه ولا له أن يستنيب فيه غيره وأما تبليغ الدين أو شئ من أجزائه بعد بلوغه بتوسط النبي فليس مما يختص بالنبي بل هو وظيفة كل من آمن به ممن يعلم شيئا من الدين وعلى العالم أن يبلغ الجاهل وعلى الشاهد أن يبلغ الغائب ولا معنى لسؤال إشراك أخيه معه في أمر لا يخصه بل يعمه وأخاه وكل من آمن به من الارشاد والتعليم والبيان والتبليغ فتبين أن معنى إشراكه في أمره أن يقوم بتبليغ بعض ما يوحى إليه من ربه عنه وسائر ما يختص به من عند الله كافتراض الطاعة وحجية الكلمة.
وأما الاشراك في النبوة خاصة بمعنى تلقي الوحي من الله سبحانه فلم يكن موسى يخاف على نفسه التفرد في ذلك حتى يسأل الشريك وإنما كان يخاف التفرد في التبليغ وإدارة الامور في إنجاء بني إسرائيل وما يلحق بذلك، وقد نقل ذلك عن موسى نفسه في قوله: " وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني " القصص: 34.
على أنه صح من طرق الفريقين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا بهذا الدعاء بألفاظه في حق علي (عليه السلام) ولم يكن نبيا.
وقوله: " كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا " ظاهر السياق وقد ذكر في الغاية تسبيحهما معا وذكرهما معا أن الجملة غاية لجعل هارون وزيرا له إذ لا تعلق لتسبيحهما معا وذكرهما معا بمضامين الادعية السابقة وهي شرح صدره وتيسير أمره وحل عقدة من لسانه ويترتب على ذلك أن المراد بالتسبيح والذكر تنزيههما معا لله سبحانه وذكرهما له بين الناس علنا لا في حال خلوتهما أو في قلبيهما سرا إذ لا تعلق لذلك أيضا بجعله وزيرا بل المراد أن يسبحاه ويذكراه معا بين الناس في مجامعهم ونواديهم وأي مجلس منهم حلا فيه وحضرا فتكثر الدعوة إلى الايمان بالله ورفض الشركاء.
/ صفحة 148 /
وبذلك يرجع ذيل السياق إلى صدره كأنه يقول: إن الامر خطير وقد غر هذا الطاغية وملاة وامته عزهم وسلطانهم ونشب الشرك والوثنية بأعراقه في قلوبهم وأنساهم ذكر الله من أصله وقد امتلئت أعين بنى إسرائيل بما يشاهدونه من عزه فرعون وشوكة ملاه واندهشت قلوبهم من سطوة آل فرعون وارتاعت نفوسهم من سلطتهم فنسوا الله ولا يذكرون إلا الطاغية، فهذا الامر أمر الرسالة والدعوة في نجاحه ومضيه في حاجة شديدة إلى تنزيهك بنفي الشريك كثيرا وإلى ذكرك بالربوبية والالوهية بينهم كثيرا ليتبصروا فيؤمنوا وهذا أمر لا أقوى عليه وحدي فاجعل هارون وزيرا لي وأيدني به وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا لعل السعي ينجع والدعوة تنفع.
وبهذا البيان يظهر وجه تعلق هذه الغاية أعني قوله: " كي نسبحك " الخ، بما تقدمه.
وثانيا: " وجه ورود قوله: " كثيرا " مرتين وأنه ليس من التكرار في شئ إذ كل من التسبيح والذكر يجب أن يكون في نفسه كثيرا، ولو قيل: كي نسبحك ونذكرك كثيرا أفاد كثرتهما مجتمعين وهو غير مراد.
وثالثا: وجه تقديم التسبيح على الذكر فإن المراد بالتسبيح تنزيهه تعالى عن الشريك بدفع ألوهية الالهة من دون الله وإبطال ربوبيتها لتقع الدعوة إلى الايمان بالله وحده، وهو المراد بالذكر، موقعها.
فالتسبيح من قبيل دفع المانع المتقدم على تأثير المقتضي، وقد ذكر لهذه الخصوصيات وجوه أخر مذكورة في المطولات لا جدوى فيها ولا في نقلها.
وقوله: " إنك كنت بنا بصيرا " هو بظاهره تعليل كالحجة على قوله: " كي نسبحك كثيرا " الخ، أي إنك كنت بصيرا بي وبأخي منذ خلقتنا وعرفتنا نفسك وتعلم أنا لم نزل نعبدك بالتسبيح والذكر ساعيين مجدين في ذلك فإن جعلته وزيرا لي وأيدتنى به وأشركته في أمري تم أمر الدعوة وسبحناك كثيرا وذكرناك كثيرا، والمراد بقوله " بنا " على هذا هو وأخوه.
ويمكن أن يكون المراد بالضمير في " بنا " أهله، والمعنى: إنك كنت بصيرا بنا أهل البيت أنا أهل تسبيح وذكر فإن جعلت هارون
/ صفحة 149 /
أخي، وهو من أهلي، وزيرا لي سبحناك كثيرا وذكرناك كثيرا، وهذا الوجه أحسن من سابقه لانه يفي ببيان النكتة في ذكر الاهل في قوله السابق: " واجعل لي وزيرا.
من أهلي هارون أخي " أيضا فافهم ذلك.
قوله تعالى: " قال قد أوتيت سؤلك يا موسى " إجابة لادعيته جميعا وهو إنشاء نظير ما مر من قوله: " وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ".
قوله تعالى: " ولقد مننا عليك مرة أخرى - إلى قوله - كي تقر عينها ولا تحزن " يذكره تعالى بمن آخر له عليه قبل أن يختاره للنبوة والرسالة ويؤتي سؤله وهو منه عليه حينما تولد فقد كان بعض الكهنة أخبر فرعون أن سيولد في بني إسرائيل مولود يكون بيده زوال ملكه فأمر فرعون بقتل كل مولود يولد فيهم فكانوا يقتلون المواليد الذكور حتى إذا ولد موسى أوحى الله إلى أمه أن لا تخاف وترضعه فإذا خافت عليه من عمال فرعون وجلاوزته تقذفه في تابوت فنقذفه في النيل فيلقيه اليم إلى الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتخذه ابنا له وكان لا عقب له ولا يقتله ثم إن الله سيرده إليها.
ففعلت كما أوحي إليها فلما جرى التابوت بجريان النيل أرسلت بنتا لها وهي أخت موسى أن تجس أخباره فكانت تطوف حول قصر فرعون حتى وجدت نفرا يطلبون بأمر فرعون مرضعا ترضع موسى فدلتهم أخت موسى على أمها فاسترضعوها له فأخذت ولدها وقرت به عينها وصدق الله وعده وقد عظم منه على موسى.
فقوله: " ولقد مننا عليك مرة أخرى " امتنان بما صنعه به أول عمره وقد تغير السياق من التكلم وحده إلى التكلم بالغير لان المقام مقام إظهار العظمة وهو ينبئ عن ظهور قدرته التامة بتخييب سعى فرعون الطاغية وإبطال كيده لاخماد نور الله ورد مكره إليه وتربية عدوه في حجره، وأما موقف نداء موسى وتكليمه إذ قال: " يا موسى إني أنا ربك " الخ فسياق التكلم وحده أنسب له.
وقوله: " إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى " المراد به الالهام وهو نوع من القذف في القلب في يقظة أو نوم، والوحي في كلامه تعالى لا ينحصر في وحي النبوة كما قال تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل " النحل: 68، وأما وحي النبوة فالنساء لا يتنبأن
/ صفحة 150 /
ولا يوحى اليهن بذلك قال تعالى: " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى " يوسف: 109 وقوله: " أن اقذفيه في التابوت " إلى آخر الاية هو مضمون ما أوحى إلى أم موسى و " أن " للتفسير، وقيل: مصدرية متعلق باوحي والتقدير أوحي بأن اقذفيه، وقيل: مصدرية والجملة بدل من " ما يوحى ".
والتابوت الصندوق وما يشبهه والقذف الوضع والالقاء وكأن القذف الاول في الاية بالمعنى الاول والقذف الثاني بالمعنى الثاني ويمكن أن يكونا معا بالمعنى الثاني بعناية أن وضع الطفل في التابوت وإلقاءه في اليم إلقاء وطرح له من غير أن يعبأ بحاله، واليم البحر: وقيل: البحر العذب، والساحل شاطئ البحر وجانبه من البر، والصنع والصنيعة الاحسان.
وقوله: " فليلقه اليم " أمر عبر به إشارة إلى تحقق وقوعه ومفاده أنا أمرنا اليم بذلك أمرا تكوينيا فهو واقع حتما مقضيا، وكذا قوله: " يأخذه عدو لي " الخ وهو جزاء مترتب على هذا الامر.
ومعنى الايتين إذ أوحينا وألهمنا امك بما يوحى ويلهم وهو أن ضعيه - أو ألقيه - في التابوت وهو الصندوق فألقيه في اليم والبحر وهو النيل فمن المقضي من عندنا أن يلقيه البحر بالساحل والشاطئ يأخذه عدو لي وعدو له وهو فرعون لانه كان يعادي الله بدعوى الالوهية ويعادي موسى بقتله الاطفال وكان طفلا هذا ما أوحيناه إلى أمك.
وقوله: " وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني " ظاهر السياق أن هذا الفصل إلى قوله: " ولا تحزن " فصل ثان تال للفصل السابق متمم له والمجموع بيان للمن المشار إليه بقوله: " ولقد مننا عليك مرة اخرى ".
فالفصل الاول يقص الوحي إلى أمه بقذفه في التابوت ثم في البحر لينتهى إلى فرعون فيأخذه عدو الله وعدوه والفصل الثاني يقص إلقاء المحبة عليه لينصرف فرعون عن قتله ويحسن إليه حتى ينتهى الامر إلى رجوعه إلى امه واستقراره في حجرها لتقر عينها ولا تحزن وقد وعدها الله ذلك كما قال في سورة القصص: " فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق " القصص: 13، ولازم هذا المعنى
/ صفحة 151 /
كون الجملة أعني قوله: " وألقيت عليك " الخ، معطوفا على قوله: " أوحينا إلى أمك ".
ومعنى إلقاء محبة منه عليه كونه بحيث يحبه كل من يراه كأن المحبة الالهية استقرت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلا تعلقت المحبة بقلبه وجذبته إلى موسى، ففي الكلام استعارة تخييلية وفي تنكير المحبة إشارة إلى فخامتها وغرابة أمرها.
واللام في قوله: " ولتصنع على عيني " للغرض، والجملة معطوفة على مقدر والتقدير ألقيت عليك محبة منى لامور كذا وكذا وليحسن اليك على عينى أي بمرأى مني فإني معك أراقب حالك ولا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك وشفقتي عليك.
وربما قيل: إن المراد بقوله: " ولتصنع على عيني " الاحسان إليه بإرجاعه إلى أمه وجعل تربيته في حجرها.
وكيف كان فهذا اللسان وهو لسان كمال العناية والشفقة يناسب سياق التكلم وحده ولذا عدل إليه من لسان التكلم بالغير.
وقوله: " إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن " الظرف - على ما يعطيه السياق - متعلق بقوله: " ولتصنع " والمعنى: وألقيت عليك محبة مني يحبك كل من يراك لكذا وكذا وليحسن اليك بمرأى مني وتحت مراقبتي في وقت تمشى اختك لتجوس خبرك وترى ما يصنع بك فتجد عمال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم - والاستقبال في الفعل لحكاية الحال الماضية - عارضة عليهم: هل أدلكم على من يكفله بالحضانة والارضاع فرددناك إلى امك كي تسر ولا تحزن.
وقوله: " فرجعناك " بصيغة المتكلم مع الغير رجوع إلى السياق السابق وهو التكلم بالغير وليس بالتفات.
قوله تعالى: " وقتلت نفسا فنجيناك من الغم " إلى آخر الاية إشارة إلى من أو منن اخرى ملحقة بالمنين السابقين وهو قصة قتله (عليه السلام) القبطي وائتمار الملا أن يقتلوه وفراره من مصر وتزوجه هناك ببنت شعيب النبي وبقائه عنده بين أهل مدين عشر سنين أجيرا يرعى غنم شعيب، والقصة مفصله مذكورة في سورة القصص.
/ صفحة 152 /
فقوله: " وقتلت نفسا " هو قتله القبطي بمصر، وقوله: " فنجيناك من الغم " وهو ما كان يخافه أن يقتله الملا من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلما أحضره شعيب وورد عليه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.
وقوله: " وفتناك فتونا " أي ابتليناك واختبرناك ابتلاء واختبارا، قال الراغب في المفردات: أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الانسان النار، قال: يوم هم على النار يفتنون " " ذوقوا فتنكم " أي عذابكم، قال: وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله: " ألا في الفتنة سقطوا " وتارة في الاختبار، نحو: " وفتناك فتونا وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما تستعملان فيما يدفع إليه الانسان من شدة ورخاء وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا وقد قال فيهما: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " انتهى موضع الحاجة من كلامه.
وقوله: " فلبث سنين في أهل مدين " متفرع على الفتنة.
وقوله: " ثم جئت على قدر يا موسى " لا يبعد أن يستفاد من السياق أن المراد بالقدر هو المقدر وهو ما حصله من العلم والعمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغم بالخروج من مصر ولبثه في أهل مدين.
وعلى هذا فمجموع قوله: وقتلت نفسا فنجيناك - إلى قوله - يا موسى " من واحد وهو أنه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتى جاء على قدر وهو ما اكتسبه من فعلية الكمال.
وربما أجيب عن الاستشكال في عد الفتن من المن بأن الفتن ههنا بمعنى التخليص كتخليص الذهب بالنار، وربما أجيب بأن كونه منا باعتبار الثواب المترتب على ذلك، والوجهان مبنيان على فصل قوله: " فلبثت " إلى آخر الاية عما قبله ولذا قال بعضهم: إن المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدة بعد خروجه من مصر إلى أن استقر في مدين لمكان فاء التفريع في قوله: " فلبثت سنين في أهل مدين " الدال على تأخر اللبث عن الفتنة زمانا، وفيه أن الفاء إنما تدل على التفرع فحسب وليس من الواجب أن يكون تفرعا زمانيا دائما.
وقال بعضهم: إن القدر بمعنى التقدير والمراد ثم جئت إلى أرض مصر على ما
/ صفحة 153 /
قدرنا ثم اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأن المعروف من القدر بهذا المعنى هو ما كان بسكون الدال لا بفتحها وفيه أن القدر والقدر بسكون الدال وفتحها - كما صرحوا به كالنعل والنعل بمعنى واحد.
على أن القدر بمعنى المقدار كما قدمناه - أكثر ملاءمة للسياق أو متعين.
وذكر لمجيئة على مقدار بعض معان اخر وهي سخيفة لا جدوى فيها.
وختم ذكر المن بنداء موسى (عليه السلام) زيادة تشريف له.
قوله تعالى: " واصطنعتك لنفسي " الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الاحسان - على ما ذكروا - يقال: صنعه أي أحسن إليه واصطنعه أي حقق إحسانه إليه وثبته فيه، ونقل عن القفال أن معنى الاصطناع أنه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان وخريجه.
انتهى.
وعلى هذا يؤول معنى اصطناعه إياه إلى اخلاصه تعالى إياه لنفسه ويظهر موقع قوله: " لنفسي " أتم ظهور وأما على المعنى الاول فالانسب بالنظر إلى السياق أن يكون الاصطناع مضمنا معنى الاخلاص، والمعنى على أي حال وجعلتك خالصا لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع مني وإحساني ولا يشاركني فيك غيري فأنت لي مخلصا وينطبق ذلك على قوله: " واذكر في الكتاب موسى انه كان مخلصا " مريم: 51.
ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، ومعنى اختياره لنفسه جعله حجة بينه وبين خلقه كلامه كلامه ودعوته دعوته وكذا قول بعضهم إن المراد بقوله: " لنفسي لوحيي ورسالتي، وقول آخرين: لمحبتي، كل ذلك من قبيل التقييد من غير مقيد.
ويظهر أيضا أن اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم النعم ومن الممكن أن يكون معطوفا على قوله: " جئت على قدر " عطف تفسير.
والاعتراض على هذا المعنى بأن توسيط النداء بينه وبين المنن المذكورة لا يلائم كونه منظوما في سلكها - على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره - فالاولى جعله تمهيدا لارساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره.
فيه أن توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعل الوجه فيه تشريفه بمزيد
/ صفحة 154 /
اللطف وتقريبه من موقف الانس ليكون ذلك تمهيدا للالتفات ثانيا من التكلم بالغير إلى التكلم وحده بقوله: " واصطنعتك لنفسي ".
قوله تعالى: " اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري " تجديد للامر السابق خطابا لموسى وحده في قوله: " إذهب إلى فرعون إنه طغى " بتغيير ما فيه بإلحاق أخي موسى به لتغير ما في المقام بإيتاء سؤال موسى أن يشرك هارون في أمره فوجه الخطاب ثانيا اليهما معا.
وأمرهما أن يذهبا بآياته ولم يؤت وقتئذ إلا آيتين وعد جميل بأنه مؤيد بغيرهما وسيؤتاه حين لزومه، وأما القول بأن المراد هما الايتان والجمع ربما يطلق على الاثنين، أو أن كلا من الايتين ينحل إلى آيات كثيره مما لا ينبغي الركون إليه.
وقوله: " ولا تنيا في ذكرى " نهي عن الوني وهو الفتور، والانسب للسياق السابق أن يكون المراد بالذكر الدعوة إلى الايمان به تعالى وحده لا ذكره بمعنى التوجه إليه قلبا أو لسانا كما قيل.
قوله تعالى: " اذهبا إلى فرعون إنه طغى وقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " جمعهما في الامر ثانيا فخاطب موسى وهارون معا وكذلك في النهي الذي قبله في قوله: " ولا تنيا " وقد مهد لذلك بإلحاق هارون بموسى في قوله: " إذهب أنت وأخوك " وليس ببعيد أن يكون نقلا لمشافهة أخرى وتخاطب وقع بينه تعالى وبين رسوليه مجتمعين أو متفرقين بعد ذاك الموقف ويؤيده سياق قوله بعد: " قالا ربنا إنا نخاف أن يفرط علينا " الخ.
والمراد بقوله: " وقولا له قولا لينا " المنع من أن يكلماه بخشونة وعنف وهو من أوجب آداب الدعوة.
وقوله: " لعله يتذكر أو يخشى " رجاء لتذكره أو خشيته وهو قائم بمقام المحاورة لابه تعالى العالم بما سيكون، والتذكر مطاوعة التذكير فيكون قبولا والتزاما لما تقتضيه حجة المذكر وإيمانه به والخشية من مقدمات القبول والايمان فمآل المعنى لعله يؤمن أو يقرب من ذلك فيجيبكم إلى بعض ما تسألانه.
واستدل بعض من يرى قبول إيمان فرعون حين الغرق على إيمانه بالاية استنادا
/ صفحة 155 /
إلى أن " لعل " من الله واجب الوقوع كما نسب إلى ابن عباس وقدماء المفسرين فالاية تدل على تحتم وقوع أحد الامرين التذكر أو الخشيه وهو مدار النجاة.
وفيه أنه ممنوع ولا تدل عسى ولعل في كلامه تعالى إلا على ما يدل عليه في كلام غيره وهو الترجي غير أن معنى الترجي في كلامه لا يقوم به، تعالى عن الجهل وتقدس وإنما يقوم بالمقام بمعنى أن من وقف هذا الموقف واطلع على أطراف الكلام فهم أن من المرجو أن يقع كذا وكذا وأما في كلام غيره فربما قام الترجي بنفس المتكلم وربما قام بمقام التخاطب.
وقال الامام الرازي في تفسيره أنه لا يعلم سر إرساله تعالى إلى فرعون مع علمه بأنه لا يؤمن إلا الله، ولا سبيل في المقام وأمثاله إلى غير التسليم وترك الاعتراض.
وهو عجيب فإنه إن كان المراد بسر الارسال وجه صحة الامر بالشئ مع العلم باستحالة وقوعه في الخارج فاستحالة وقوع الشئ أو وجوب وقوعه إنما ذلك حال الفعل بالقياس إلى علته التامة التي هي الفاعل وسائر العوامل الخارجة عنه في وجوده والامر لا يتعلق بالفعل من حيث حاله بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة وإنما يتعلق به من جهة حاله بالقياس إلى الفاعل الذي هو أحد أجزاء علته التامه ونسبة الفعل وعدمه إليه بالامكان دائما لكونه علة ناقصة لا تستوجب وجود الفعل ولا عدمه فالارسال والدعوة وكذا الامر صحيح بالنسبة إلى فرعون لكون الاجابة والائتمار بالنسبة إليه نفسه اختيارية ممكنة وإن كانت بالنسبة إليه مع انضمام سائر العوامل المانعة مستحيلة ممتنعة هذا جواب القائلين بالاختيار، وأما المجبرة - وهو منهم - فالشبهة تسري عندهم إلى جميع موارد التكاليف لعموم الجبر وقد أجابوا عنها على زعمهم بأن التكليف صوري يترتب عليه تمام الحجة وقطع المعذرة.
وإن كان المراد بسر الارسال مع العلم بأنه لا يؤمن الفائدة المترتبة عليه بحيث يخرج بها عن اللغوية فالدعوة الحقة كما تؤثر أثرها في قوم بتكميلهم في جانب السعادة كذلك تؤثر أثرها في آخرين بتكميل شقائهم، قال تعالى: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " أسرى: 82، ولو الغي التكميل في جانب الشقاء لغى الامتحان فيه، فلم تتم الحجة فيه ولا انقطع العذر، ولو لم تتم
/ صفحة 156 /
الحجة في جانب وانتقضت لم تنجع في الجانب الاخر وهو ظاهر.
قوله تعالى: " قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " الفرط التقدم والمراد به بقرينة مقابلته الطغيان أن يعجل بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار الاية المعجزة، والمراد بأن يطغى أن يتجاوز حده في ظلمه فيقابل الدعوة بتشديد عذاب بني إسرائيل والاجتراء على ساحة القدس بما كان لا يجترئ عليه قبل الدعوة ونسبة الخوف اليهما لا بأس بها كما تقدم الكلام فيها في تفسير قوله تعالى: " قال خذها ولا تخف ".
واستشكل على الاية بأن قوله تعالى في موضع آخر لموسى في جواب سؤاله إشراك أخيه في أمره قال: " سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما " القصص: 35، يدل على إعطاء الامن لهما في موقف قبل هذا الموقف لقوله " سنشد عضدك بأخيك " فلا معنى لاظهارهما الخوف بعد ذلك.
وأجيب بأن خوفهما قبل كان على أنفسهما بدليل قول موسى هناك.
" ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون " الشعراء 14، والذي في هذه الاية خوف منهما على الدعوة كما تقدم.
على أن من الجائز أن يكون هذا الخوف المحكي في الاية هو خوف موسى قبل في موقف المناجاة وخوف هارون بعد بلوغ الامر إليه فالتقطا وجمعا معا في هذا المورد، وقد تقدم احتمال أن يكون قوله: " إذهبا إلى فرعون " إلى آخر الايات، حكاية كلامهما في غير موقف واحد.
قوله تعالى: " قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " أي لا تخافا من فرطه وطغيانه إنني حاضر معكما أسمع ما يقال وأرى ما يفعل فأنصركما ولا أخذلكما فهو تأمين بوعد النصرة، فقوله: " لا تخافا " تأمين، وقوله: " إنني معكما أسمع وأرى " تعليل للتأمين بالحضور والسمع والرؤية، وهو الدليل على أن الجملة كناية عن المراقبة والنصرة وإلا فنفس الحضور والعلم يعم جميع الاشياء والاحوال.
وقد استدل بعضهم بالاية على أن السمع والبصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله: " إنني معكما " دال على العلم ولو دل " أسمع وأرى " عليه أيضا لزم
/ صفحة 157 /
التكرار وهو خلاف الاصل.
وهو من أو هن الاستدلال، أما أولا فلما عرفت أن مفاد: " إننى معكما " هو الحضور والشهادة وهو غير العلم.
وأما ثانيا: فلقيام البراهين اليقينية على عينية الصفات الذاتية وهي الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر بعضها لبعض والمجموع للذات، ولا ينعقد مع اليقين ظهور لفظي ظني مخالف البتة.
وأما ثالثا: فلان المسألة من اصول المعارف لا يركن فيها إلى غير العلم، فتتميم الدليل بمثل أصالة عدم التكرار كما ترى.
قوله تعالى: " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك " إلى آخر الاية، جدد أمرهما بالذهاب إلى فرعون بعد تأمينهما ووعدهما بالحفظ والنصر وبين تمام ما يكلفان به من الرسالة وهو أن يدعوا فرعون إلى الايمان وإلى رفع اليد عن تعذيب بني إسرائيل وإرسالهم معهما فكلما تحول حال في المحاورة جدد الامر حسب ما يناسبه وهو قوله أولا لموسى: " إذهب إلى فرعون إنه طغى " ثم قوله ثانيا لما ذكر أسئلته وأجيب إليها: " إذهب أنت وأخوك " " إذهبا إلى فرعون إنه طغى "، ثم قوله لما ذكرا خوفهما وأجيبا بالامن: " فأتياه فقولا " الخ، وفيه تفصيل ما عليهما أن يقولا له.
فقوله: " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك " تبليغ أنهما رسولا الله، وفي قوله بعد: " والسلام على من اتبع الهدى " الخ، دعوته إلى بقية أجزاء الايمان.
وقوله: " فأرسل معنا بنى إسرائيل ولا تعذبهم " تكليف فرعي متوجه إلى فرعون.
وقوله: " قد جئناك بآية من ربك " استناد إلى حجة تثبت رسالتهما وفي تنكير الاية سكوت عن العدد وإشارة إلى فخامة أمرها وكبر شأنها ووضوح دلالتها.
وقوله: " والسلام على من اتبع الهدى " كالتحية للوداع يشار به إلى تمام الرسالة ويبين به خلاصة ما تتضمنه الدعوة الدينية وهو أن السلامة منبسط على من اتبع الهدى والسعادة لمن اهتدى فلا يصادف في مسير حياته مكروها يكرهه لا في دنيا ولا في عقبى.
وقوله: " إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى " في مقام التعليل
/ صفحة 158 /
لسابقه أي إنما نسلم على المهتدين فحسب لان الله سبحانه أوحى الينا أن العذاب وهو خلاف السلام على من كذب بآيات الله - أو بالدعوة الحقة التي هي الهدى - وتولى وأعرض عنها.
وفي سياق الايتين من الاستهانة بأمر فرعون وبما تزين به من زخارف الدنيا وتظاهر به من الكبر والخيلاء ما لا يخفى، فقد قيل: " فأتياه " ولم يقل: إذهبا إليه وإتيان الشئ أقرب مساسا به من الذهاب إليه ولم يكن إتيان فرعون وهو ملك مصر وإله القبط بذاك السهل الميسور، وقيل: " فقولا " ولم يقل: فقولا له كأنه لا يعتني به، وقيل: " إنا رسولا ربك " و " بآية من ربك " فقرع سمعه مرتين بأن له ربا وهو الذي كان ينادي بقوله: " أنا ربكم الاعلى "، وقيل: " والسلام على من اتبع الهدى " ولم يورد بالخطاب إليه، ونظيره قوله: " أن العذاب على من كذب وتولى " من غير خطاب.
وهذا كله هو الانسب تجاه ما يلوح من لحن قوله تعالى: " لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " من كمال الاحاطة والعزة والقدرة التي لا يقوم لها شئ.
وليس مع ذلك فيما أمرا أن يخاطباه به من قولهما: " إنا رسولا ربك " إلى آخر الايتين خشونة في الكلام وخروج عن لين القول الذي أمرا به أولا فإن ذلك حق القول الذي لا مناص من قرعه سمع فرعون من غير تملق ولا احتشام وتأثر من ظاهر سلطانه الباطل وعزته الكاذبة.
(بحث روائي) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: " آتيكم منها بقبس " يقول: آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد " أو أجد على النار هدى " كان قد أخطأ الطريق يقول: أو أجد على النار طريقا.
وفي الفقيه سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: " فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى " قال: كانتا من جلد حمار ميت.
/ صفحة 159 /
أقول: ورواه أيضا في تفسير القمي مرسلا ومضمرا، وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن عبد الرزاق والفاريابى وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن علي وقد ورد ذلك في بعض الروايات، وسياق الاية يعطي أن الخلع لاحترام الموقف.
وفي المجمع في قوله تعالى: " أقم الصلاة لذكري " قيل: معناه أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن.
عن أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام)، ويعضده ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك، رواه مسلم في الصحيح.
أقول: والحديث مروي بطرق أخرى مسندة وغير مسندة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق أهل السنة وعن الصادقين (عليهما السلام) من طرق الشيعة.
وفي المجمع في قوله تعالى: " أكاد أخفيها " روى عن ابن عباس " أكاد أخفيها عن نفسي: وهي كذلك في قراءة أبي، وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام).
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء ثبير وهو يقول: أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري وأن تحل عقدة من لساني يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا.
أقول: وروي قريبا من هذا المعنى عن السلفي عن الباقر (عليه السلام) وروي أيضا في المجمع عن ابن عباس عن أبي ذر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قريبا منه.
وقال في روح المعاني بعد إيراد الحديث المذكور ما لفظه: ولا يخفى أنه يتعين هنا حمل الامر على أمر الارشاد والدعوة إلى الحق ولا يجوز حمله على النبوة ولا يصح الاستدلال به على خلافة علي كرم الله وجهه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل.
ومثله فيما ذكر ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام له حين استخلفه في عزوة تبوك على أهل بيته " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " انتهى.
قلت: أما الاستدلال بالحديث أو بحديث المنزلة على خلافته (عليه السلام) بلا فصل
/ صفحة 160 /
فالبحث فيه خارج عن غرض الكتاب وإنما نبحث عن المراد بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعائه لعلي (عليه السلام): " وأشركه في أمري " طبقا لدعاء موسى (عليه السلام) المحكي في الكتاب العزيز فإن له مساسا بما فهمه (صلى الله عليه وآله وسلم) من لفظ الاية والحديث صحيح مؤيد بحديث المنزلة المتواتر (1).
فمراده (صلى الله عليه وآله وسلم) بالامر في قوله: " وأشركه في أمري " ليس هو النبوة قطعا لنص حديث المنزلة باستثناء النبوة، وهو الدليل القاطع على أن مراد موسى بالامر في قوله: " وأشركه في أمري " ليس هو النبوة وإلا بقي قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أمري " بلا معنى يفيده.
وليس المراد بالامر هو مطلق الارشاد والدعوة إلى الحق - كما ذكره – قطعا لانه تكليف يقوم به جميع الامة ويشاركه فيه غيره وحجة الكتاب والسنة قائمة فيه كامثال قوله تعالى: " قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " يوسف: 108، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) - وقد رواه العامة والخاصة -: فليبلغ الشاهد الغائب، وإذا كان أمرا مشتركا بين الجميع فلا معنى لسؤال إشراك علي فيه.
على أن الاضافة في قوله: " أمري " تفيد الاختصاص فلا يصدق على ما هو مشترك بين الجميع، ونظير الكلام يجري في قول موسى المحكي في الاية.
نعم التبليغ الابتدائي وهو تبليغ الوحي لاول مرة أمر يختص بالنبي فليس له أن يستنيب لتبليغ أصل الوحي رجلا آخر، فالاشراك فيه إشراك في أمره وفي قول موسى ما يشهد بذلك إذ يقول: " وأخى هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني " إذ ليس المراد بتصديقه إياه أن يقول: صدق أخى بل أن يوضح ما أبهم من كلامه ويفصل ما أجمل ويبلغ عنه بعض الوحي الذي كان عليه أن يبلغه.
فهذا النوع من التبليغ وما معه من آثار النبوة كافتراض الطاعة مما يختص بالنبي والاشراك فيها إشراك في أمره، فهذا المعنى هو المراد بالامر في دعائه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المراد
* (هامش) *
(1) نقل البحراني الحديث في غاية المرام بمائة طريق من طرق أهل السنة وسبعين طريقا من طرق الشيعة (*).
/ صفحة 161 /
أيضا مضافة إليه النبوة في دعاء موسى.
وقد تقدم ما يتعلق بهذا البحث في تفسير أول سورة براءة في حديث بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا بآيات أول براءة إلى مكة بعد عزل أبي بكر عنها استنادا إلى ما أوحي إليه أنه لا يبلغها عنك إلا أنت أو رجل منك، في الجزء التاسع من الكتاب.
وفي تفسير القمي حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد ابن مسلم عن أبى جعفر (عليه السلام) قال: لما حملت به امه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له، وكان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن وذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لاقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون، وفرق بين الرجال والنساء وحبس الرجال في المحابس.
فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه وحزنت عليه - واغتمت وبكت وقالت يذبح الساعة فعطف الله الموكلة بها عليه فقالت لام موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافى وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه وهو قول الله: " وألقيت عليك محبة مني " فأحبته القبطية الموكلة بها.
وفي العلل بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر (عليه السلام): أخبرني عن قول الله عزوجل لموسى " إذهبا إلى فرعون إنه طغى وقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " فقال: أما قوله: " فقولا له قولا لينا أي كنياه وقولا له: يا أبا مصعب وكان كنية فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب، أما قوله: " لعله يتذكر أو يخشى " فإنما قال ليكون أحرص لموسى على الذهاب وقد علم الله عزوجل أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى إلا عند رؤية البأس ألا تسمع الله عزوجل يقول: " حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين "؟ فلم يقبل الله إيمانه وقال: " الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ".
أقول: وروى صدر الحديث في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن علي، وتفسير القول اللين بالتكنية من قبيل ذكر بعض المصاديق لضرورة أنه لا ينحصر فيه.
/ صفحة 162 /
وروى ذيل الحديث أيضا في الكافي بإسناده عن عدي بن حاتم عن علي (عليه السلام) وفيه تأييد ما قدمنا أن " لعل " مستعملة في الايه للترجي.
* * *
قال فمن ربكما يا موسى (49) - قال ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى (50) - قال فما بال القرون الاولى (51) - قال علمها عند ربى في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى (52) - الذى جعل لكم الارض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى (53) - كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لايات لاولى النهى (54) - منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تاره أخرى (55) - ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى (56) - قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى (57) - فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى (58) - قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى (59) - فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى (60) - قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى (61) - فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى (62) - قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم
/ صفحة 163 /
من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63) - فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى (64) - قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65) - قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66) - فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) - قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى (68) - وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69) - فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هرون وموسى (70) - قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلا قطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (71) - قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحيوة الدنيا (72) - إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73) - إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى (74) - ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى (75) - جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى (76) - ولقد
/ صفحة 164 /
أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى (77) - فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم (78) - وأضل فرعون قومه وما هدى (79).
(بيان) فصل آخر من قصة موسى (عليه السلام) يذكر فيه خبر ذهاب موسى وهارون (عليهما السلام) إلى فرعون وتبليغهما رسالة ربهما في نجاة بنى إسرائيل.
وقد فصل في الايات خبر ذهابهما إليه وإظهارهما آيات الله ومقابلة السحرة وظهور الحق وإيمان السحرة واشير إجمالا إلى إسراء بنى إسرائيل وشق البحر وإتباع فرعون لهم بجنوده وغرقهم.
قوله تعالى: " قال فمن ربكما يا موسى " حكاية لمحاورة موسى وفرعون وقد علم مما نقله تعالى من أمره تعالى لهما أن يذهبا إلى فرعون يدعواه إلى التوحيد ويكلماه في إرسال بني إسرائيل معهما ما قالا له فهو محذوف وما نقل من كلام فرعون جوابا دال عليه.
ويظهر مما نقل من كلام فرعون أنه علم بتعريفهما أنهما معا داعيان شريكان في الدعوة غير أن موسى هو الاصل في القيام بها وهارون وزيره ولذا خاطب موسى وحده وسأل عن ربهما معا.
وقد وقع في كلمة الدعوة التى أمرا بأن يكلماه بها " إنا " رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك الخ، لفظ " ربك " خطابا لفرعون مرتين وهو لا يرى لنفسه ربا بل يرى نفسه ربا لهما ولغيرهما كما قال في بعض كلامه المنقول منه: " أنا ربكم الاعلى: النازعات: 24، وقال: " لئن اتخذت إلها غيري لاجعلنك من المسجونين " الشعراء: 29، فقوله: " فمن ربكما " - وكان الحري بالمقام أن يقول: فمن ربي الذى تدعيانه ربا لي؟ أو ما يقرب من ذلك - يلوح إلى أنه يتغافل عن كونه سبحانه ربا له كأنه لم يسمع قولهما " ربك " ويسأل عن ربهما الذي هما رسولان من عنده.
/ صفحة 165 /
وكان من المسلم المقطوع عند الامم الوثنيين أن خالق الكل حقيقة هي أعلى من أن يقدر بقدر وأعظم من أن يحيط به عقل أو وهم فمن المستحيل أن يتوجه إليه بعبادة أو يتقرب إليه بقربان فلا يؤخذ إلها وربا بل الواجب التوجه إلى بعض مقربى خلقه بالعبادة والقربان ليقرب الانسان من الله زلفى ويشفع له عنده فهؤلاء هم الالهة والارباب وليس الله سبحانه بإله ولا رب وإنما هو إله الالهة ورب الارباب فقول القائل إن لي ربا إنما يعنى به أحد الالهة من دون الله وليس يعني به الله سبحانه ولا يفهم ذلك من كلامه في محاوراتهم.
فقول فرعون: " فمن ربكما " ليس إنكارا لوجود خالق الكل ولا إنكار أن يكون له إله كما يظهر من قوله " ويذرك وآلهتك " الاعراف 127، وإنما هو طلب منه للمعرفة بحال من اتخذاه إلها وربا من هو غيره؟ وهذا معنى ما تقدم أن فرعون يتغافل في قوله هذا عن دعوتهما إلى الله سبحانه وهما في أول الدعوه فهو يقدر ولو كتقدير المتجاهل أن موسى وأخاه يدعوانه إلى بعض الالهه التى يتخذ فيما بينهم ربا من دون الله فيسأل عنه، وقد كان من دأب الوثنيين التفنن في اتخاذ الالهة يتخذ كل منهم من يهواه إلها وربما بدل إلها من إله فتلك طريقتهم وسيأتى قول الملاء: " ويذهبا بطريقتكم المثلى " نعم، ربما تفوه عامتهم ببعض ما لا يوافق اصولهم كنسبة الخلق والتدبير إلى نفس الاصنام دون أربابها.
فمحصل مذهبهم أنهم ينزهون الله تعالى عن العبادة والتقرب وإنما يتقربون استشفاعا إليه ببعض خلقه كالملائكه والجن والقديسين من البشر، وكان منهم الملوك العظام عند كثير منهم يرونهم مظاهر لعظمة اللاهوت فيعبدونهم في عرض سائر الالهة والارباب وكان لا يمنع ذلك الملك الرب أن يتخذ إلها من الالهة فيعبده فيكون عابدا لربه معبودا لغيره من الرعيه كما كان رب البيت يعبد في بيته عند الروم القديم وكان أكثرهم من الوثنية الصابئة فقد كان فرعون موسى ملكا متألها وهو يعبد الاصنام وهو الظاهر من خلال الايات الكريمة.
ومن هنا يظهر ما في أقوال كثير من المفسرين في أمره قال في روح المعاني ذهب بعضهم إلى أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا واستدلوا عليه بعدة من الايات.
وبأن ملكه لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ألا ترى أن موسى (عليه السلام)
/ صفحة 166 /
لما هرب إلى مدين قال: له شعيب (عليه السلام): لا تخف نجوت من القوم الظالمين فكيف يعتقد أنه إله العالم؟ وبأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا وكل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم ومن كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر.
ومن الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات والارض وما بينهما واختلفوا في كيفية جهله.
فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا، ولعله كان يقول بعدم احتياج الممكن إلى مؤثر وأن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ذي مقراطيس وأتباعه.
ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ويحتمل أنه كان من عبدة الاصنام، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة، وأما دعاؤه لنفسه بالربوبية فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره.
انتهى بنحو من التلخيص.
وأنت بالرجوع إلى حاق مذهب القوم تعرف أن شيئا من هذه الاقوال والمحتملات ولا ما استدلوا عليه لا يوافق واقع الامر.
قوله تعالى: " قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " سياق الاية - وهي واقعة في جواب سؤال فرعون: " فمن ربكما يا موسى " - يعطي أن " خلقه " بمعنى اسم المصدر والضمير للشئ فالمراد الوجود الخاص بالشئ.
والهداية إراءة الشئ الطريق الموصل إلى مطلوبة أو إيصاله إلى مطلوبه ويعود المعنيان في الحقيقة إلى معنى واحد وهو نوع من إيصال الشئ إلى مطلوبه إما بإيصاله إليه نفسه أو إلى طريقه الموصل إليه.
وقد اطلق الهداية من حيث المهدي والمهدي إليه ولم يسبق في الكلام إلا الشئ الذي اعطي خلقه فالظاهر أن المراد هداية كل شئ - المذكور قبلا - إلى مطلوبه ومطلوبه هو الغاية التي يرتبط بها وجوده وينتهي إليها والمطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الذي اعطيه ومعنى هدايته له إليها تسييره نحوها كل ذلك بمناسبة البعض للبعض.
فيؤول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كل شئ بما جهز به في وجوده من القوى والا لات وبين آثاره التي تنتهي به إلى غايه وجوده فالجنين من الانسان مثلا وهو
/ صفحة 167 /
نطفة مصورة بصورته مجهز في نفسه بقوى وأعضاء تناسب من الافعال والاثار ما ينتهى به إلى الانسان الكامل في نفسه وبدنه فقد اعطيت النطفة الانسانية بما لها من الاستعداد خلقها الذى يخصها وهو الوجود الخاص بالانسان ثم هديت وسيرت بما جهزت به من القوى والاعضاء نحو مطلوبها وهو غاية الوجود الانساني والكمال الاخير الذي يختص به هذا النوع.
ومن هنا يظهر معنى عطف قوله: " هدى على قوله: " أعطى كل شئ خلقه " بثم وأن المراد التأخر الرتبي فإن سير الشئ وحركته بعد وجوده رتبة وهذا التأخر في الموجودات الجسمانية تدريجي زماني بنحو.
وظهر أيضا أن المراد بالهداية الهداية العامة الشاملة لكل شئ دون الهداية الخاصة بالانسان، وذلك بتحليل الهداية الخاصة وتعميمها بإلقاء الخصوصيات فإن حقيقة هدايه الانسان بإراءته الطريق الموصل إلى المطلوب والطريق رابطة القاصد بمطلوبه فكل شئ جهز بما يربطه بشئ ويحركه نحوه فقد هدي إلى ذلك الشئ فكل شئ مهدي نحو كماله بما جهز به من تجهيز والله سبحانه هو الهادي.
فنظام الفعل والانفعال في الاشياء وإن شئت فقل: النظام الجزئي الخاص بكل شئ والنظام العام الجامع لجميع الانظمة الجزئية من حيث ارتباط أجزائها وانتقال الاشياء من جزء منها إلى جزء مصداق هدايته تعالى وذلك بعناية اخرى مصداق لتدبيره، ومعلوم أن التدبير ينتهي إلى الخلق بمعنى أن الذى ينتهى وينتسب إليه تدبير الاشياء هو الذي أوجد نفس الاشياء فكل وجود أو صفة وجود ينتهى إليه ويقوم به.
فقد تبين أن الكلام أعني قوله: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " مشتمل على البرهان على كونه تعالى رب كل شئ لا رب غيره فإن خلقه الاشياء وإيجاده لها يستلزم ملكه لوجوداتها - لقيامها به - وملك تدبير أمرها.
وعند هذا يظهر أن الكلام على نظمه الطبيعي والسياق جار على مقتضى المقام فإن المقام مقام الدعوة إلى التوحيد وطاعة الرسول وقد أتى فرعون بعد استماع كلمة الدعوة بما حاصله التغافل عن كونه تعالى ربا له، وحمل كلامهما على دعوتهما له إلى
/ صفحة 168 /
ربهما فسأل من ربكما؟ فكان من الحري أن يجاب بأن ربنا هو رب العالمين ليشملهما وإياه وغيرهم جميعا فاجيب بما هو أبلغ من ذلك فقيل: " ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " فاجيب بأنه رب كل شئ وأفيد مع ذلك البرهان على هذا المدعى، ولو قيل: ربنا رب العالمين أفاد المدعى فحسب دون البرهان، فافهم ذلك.
وإنما أثبت في الكلام الهداية دون التدبير مع كون موردهما متحدا كما تقدمت الاشارة إليه لان المقام مقام الدعوة والهداية، والهداية العامة أشد مناسبة له.
هذا هو الذي يرشد إليه التدبر في الاية الكريمة، وبذلك يعلم حال سائر التفاسير التي أوردت للاية: كقول بعضهم: إن المراد بقوله: " خلقه " مثل خلقه وهو الزوج الذي يماثل الشئ، والمعنى: الذي خلق لكل شئ زوجا، فيكون في معنى قوله: " ومن كل شئ خلقنا زوجين ".
وقول بعضهم إن المراد بكل شئ أنواع النعم وهو مفعول ثان لاعطى وبالخلق المخلوق وهو مفعول أول لاعطى، والمعنى: الذي أعطى مخلوقاته كل شئ من النعم.
وقول بعضهم: إن المراد بالهداية الارشاد والدلالة على وجوده تعالى ووحدته بلا شريك، والمعنى: الذي أعطى كل شئ من الوجود ما يطلبه بلسان استعداده ثم أرشد ودل بذلك على وجود نفسه ووحدته.
والتأمل فيما مر يكفيك للتنبه على فساد هذه الوجوه فإنما هي معان بعيدة عن السياق وتقييدات للفظ الاية من غير مقيد.
قوله تعالى: " قال فما بال القرون الاولى " قيل: البال في الاصل بمعنى الفكر ومنه قولهم: خطر ببالى كذا، ثم استعمل بمعنى الحال، ولا يثنى ولا يجمع وقولهم: بالات، شاذ.
لما كان جواب موسى (عليه السلام) مشتملا على معنى الهداية العامة التي لا تتم في الانسان إلا بنبوة ومعاد إذ لا يستقيم دين التوحيد إلا بحساب وجزاء يتميز به المحسن من المسئ ولا يتم ذلك إلا بتمييز ما يأمر تعالى به مما ينهى عنه وما يرتضيه مما يسخطه، على أن كلمة الدعوة التي أمرا أن يؤدياها إلى فرعون مشتملة على الجزاء صريحا ففى آخرها
/ صفحة 169 /
" إنا قد أوحى الينا أن العذاب على من كذب وتولى " والوثنيون منكرون لذلك عدل فرعون عن الكلام في الربوبية - وقد انقطع بما أجاب به موسى - إلى أمر المعاد والسؤال عنه بانيا على الاستبعاد.
فقوله: " فما بال القرون الاولى " أي ما حال الامم والاجيال الانسانية الماضية التي ماتوا وفنوا لاخبر عنهم ولا أثر كيف يجزون بأعمالهم ولا عامل في الوجود ولا عمل وليسوا اليوم إلا أحاديث وأساطير؟ فالاية نظيرة ما نقل عن المشركين في قوله: " وقالوا ءاذا ضللنا في الارض ءإنا لفي خلق جديد: الم السجدة: 10، وظاهر الكلام أنه مبنى على الاستبعاد من جهة انتفاء العلم بهم وبأعمالهم للموت والفوت كما يشهد به جواب موسى (عليه السلام).
قوله تعالى: " قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " أجاب (عليه السلام) عن سؤاله بإثبات علمه تعالى المطلق بتفاصيل تلك القرون الخالية فقال: " علمها عند ربي " فأطلق العلم بها فلا يفوته شئ من أشخاصهم وأعمالهم وجعلها عند الله فلا تغيب عنه ولا تفوته، وقد قال تعالى: وما عند الله باق " ثم قيد ذلك بقوله: " في كتاب " - وكأنه حال من العلم - ليؤكد به أنه مثبت محفوظ من غير أن يتغير عن حاله وقد نكر الكتاب ليدل به على فخامة أمره من جهة سعة إحاطته ودقتها فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فيؤول معنى الكلام إلى أن جزاء القرون الاولى إنما يشكل لو جهل ولم يعلم بها لكنها معلومة لربى محفوظة عنده في كتاب لا يتطرق إليه خطأ ولا تغيير ولا غيبة وزوال.
وقوله: " لا يضل ربى ولا ينسى " نفى للجهل الابتدائي والجهل بعد العلم على ما نقل عن بعضهم ولكن الظاهر أن الجملة مسوقة لنفي الجهل بعد العلم بقسميه فإن الضلال هو قصد الغاية بسلوك سبيل لا يؤدي إليها بل إلى غيرها فيكون الضلال في العلم هو أخذ الشئ مكان غيره وإنما يتحقق ذلك بتغير المعلوم من حيث هو معلوم عما كان عليه في العلم أولا، والنسيان خروج الشئ من العلم بعد دخوله فيه فهما معا من الجهل بعد العلم، ونفيه هو المناسب لاثبات العلم أولا فيفيد مجموع الاية أنه عالم بالقرون الاولى ولا سبيل إليه للجهل بعد العلم فيجازيهم على ما علم.
/ صفحة 170 /
ومن هنا يظهر أن قوله: " لا يضل ربي ولا ينسى " من تمام بيان الاية كأنه دفع دخل مقدر كأنما قيل: إنها وإن علم بها يوما فهي اليوم باطلة الذوات معفوة الاثار لا يتميز شئ منها من شئ فاجيب بأن شيئا منها ومن آثارها وأعمالها لا يختلط عليه تعالى بتغير ضلال ولا يغيب عنه بنسيان، ولذا أوردت الجملة مفصولة غير معطوفة.
وقد أثبت العلم ونفى الجهل عنه تعالى بعنوان أنه رب لتكون فيه إشارة إلى برهان المدعى وذلك أن فرض الربوبية لا يجامع فرض الجهل بالمربوب إذ فرض ربوبيته المطلقة لكل شئ - والرب هو المالك للشئ المدبر لامره - يستلزم كون الاشياء مملوكة له قائمة الوجود به من كل جهة وكونها مدبرة له كيفما فرضت فهى معلومة له، ولو فرض شئ منها مجهولا له عن ضلال أو نسيان أو جهل ابتدائي فذلك الشئ أيا ما كان وأينما تحقق مملوك له قائم الوجود به مدبر بتدبيره لا حاجب بينهما ولا فاصل وهو الحضور الذي نسميه علما وقد فرضناه مجهولا أي غائبا عنه هذا خلف.
وقد أضاف الرب إلى نفسه في الاية في موضعين ثانيهما من وضع الظاهر موضع المضمر على ما قيل ولم يقل: " ربنا " كما في الاية السابقة لان السؤال السابق إنما كان عن ربهما الذي يدعوان إليه فاجيب بما يطابقه فكان معناه بحسب المقام: الرب الذي أدعو أنا وأخي إليه هو كذا وكذا، وأما في هذه الاية فقد سئل عن أمر يرجع إلى القرون الاولى والذي يصفه هو موسى فكان المعنى الرب الذي أصفه عليم بها، والذي يفيد هذا المعنى هو " ربي " لا غير فتأمل فيه فهو لطيف.
والنكتة في " ربى " الثاني هي نظيره ما في " ربى " الاول وفي كونه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر تأمل لفصل الجملة.
وقد اختلفت أقوال المفسرين في تفسير الايتين بالوجوه والاحتمالات اختلافا كثيرا أضربنا عن ذكرها لعدم جدوى فيها ومن اعجبها قول كثير منهم أن قول فرعون لموسى: " فما بال القرون الاولى " سؤال عن تاريخ الامم الاولى المنقرضة سأل موسى عن ذلك ليصرفه عن ما هو فيه من التكلم في أصول معارف الالهية وإقامة البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ والمعاد مما ينكره الوثنية ويشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الاولين وأخبار الماضين وجواب موسى: " علمها عند ربي " الخ،
/ صفحة 171 /
محصله إرجاع العلم بها إلى الله وأنه من الغيب الذى لا يعلمه الاعلام الغيوب.
قوله تعالى: " الذي جعل لكم الارض مهدا - إلى قوله - لايات لاولي النهى " قد عرفت أن لسؤاله " فما بال القرون الاولى؟ " ارتباطا بما وصف الله به من الهداية العامة التي منها هداية الانسان إلى سعادته في الحياة وهو الحياة الخالدة الاخروية وكذا الجواب عنه بقوله: " علمها عند ربى " الخ مرتبط فقوله: " الذي جعل لكم الارض مهدا " مضي في الحديث عن الهداية العامة وذكر شواهد بارزة من ذلك.
فالله سبحانه أقر الانسان في الارض يحيى فيها حياة أرضية ليتخذ منها زادا لحياته العلوية السماوية كالصبي يقر في المهد ويربى لحياة هي أشرف منه وأرقى، وجعل للانسان فيها سبلا ليتنبه بذلك أن بينه وبين غايته وهو التقرب منه تعالى والدخول في حظيرة الكرامة سبيلا يجب أن يسلكها كما يسلك السبل الارضية لمأربه الحيوية وأنزل من السماء ماء وهو ماء الامطار ومنه مياه عيون الارض وأنهارها وبحارها فأنبت منه أزواجا أي أنواعا وأصنافا متقاربة شتى من نبات يهديكم إلى أكلها ففي ذلك آيات تدل أرباب العقول إلى هدايته وربوبيته تعالى.
فقوله: " الذي جعل لكم الارض مهدا " إشارة إلى قرار الانسان في الارض لا دامة الحياة وهو من الهداية، وقوله: " وجعل لكم فيها سبلا " إشارة إلى مسالك الانسان التي يسلكها في الارض لادراك مآربه وهو أيضا من الهداية، وقوله: " وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم " إشارة إلى هداية الانسان والانعام إلى أكل النبات لابقاء الحياة، وفيه هداية السماء إلى الامطار وماء الامطار إلى النزول والنبات إلى الخروج.
والباء في " به " للسببية وفيه تصديق السببية والمسببية بين الامور الكونية، والمراد بكون النبات أزواجا كونها أنواعا وأصنافا متقاربة كما فسره القوم أو حقيقة الازدواج بين الذكور والاناث من النبات وهي من الحقائق التي نبه عليها الكتاب العزيز.
وقوله: " فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى " فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير، قيل: والوجه فيه ما في هذا الصنع العجيب وإبداع الصور المتشتتة والازواج المختلفة على ما فيها من تنوع الحياة من ماء واحد، من العظمة والصنع العظيم لا يصدر
/ صفحة 172 /
إلا من العظيم والعظماء يتكلمون عنهم وعن غيرهم من أعوانهم وقد ورد الالتفات في معنى إخراج النبات بالماء في مواضع من كلامه تعالى كقوله: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها " فاطر: 27، وقوله: " وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة " النمل: 60 وقوله: " وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ " الانعام: 99.
وقوله: " إن في ذلك لايات لاولي النهى " النهى جمع نهية بالضم فالسكون: وهو العقل سمي به لنهيه عن اتباع الهوى.
قوله تعالى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تاره اخرى " الضمير للارض والاية تصف ابتداء خلق الانسان من الارض ثم إعادته فيها وصيرورته جزء منها ثم إخراجه منها للرجوع إلى الله ففيها الدورة الكاملة من هداية الانسان.
قوله تعالى: " ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى " الظاهر أن المراد بالايات العصا واليد وسائر الايات التي أراها موسى فرعون أيام دعوته قبل الغرق كما مر في قوله: " إذهب أنت وأخوك بآياتي " فالمراد جميع الايات التي أريها وإن لم يؤت بها جميعا في أول الدعوة كما أن المراد بقوله: " فكذب وأبى " مطلق تكذيبه وإبائه لا ما أتى به منهما في أول الدعوة.
قوله تعالى: " قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى " الضمير أفرعون وقد أتهم موسى أولا بالسحر لئلا يلزمه الاعتراف بصدق ما جاء به من الايات المعجزة وحقية دعوته، وثانيا بأنه يريد إخراج القبط من أرضهم وهي أرض مصر، وهي تهمة سياسية يريد بها صرف الناس عنه وإثارة أفكارهم عليه بأنه عدو يريد أن يطردهم من بيئتهم ووطنهم بمكيدته ولا حياة لمن لابيئة له.
قوله تعالى: " فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى " الظاهر كما يشهد به الاية التالية أن الموعد اسم زمان وإخلاف الوعد عدم العمل بمقتضاه، ومكان سوى بضم السين أي واقع في المنتصف من المسافة أو مستوى الاطراف من غير ارتفاع وانخفاض، قال في المفردات: ومكان سوى وسواء وسط، ويقال: سواء وسوى وسوى - بضم السين وكسرها - أي يستوي طرفاه،
/ صفحة 173 /
ويستعمل ذلك وصفا وظرفا، وأصل ذلك مصدر.
انتهى.
والمعني: فاقسم لنأتينك بسحر يماثل سحرك لقطع حجتك وإبطال إرادتك فاجعل بيننا وبينك زمان وعد لا نخلفه في مكان بيننا أو في مكان مستوى الاطراف أو اجعل بيننا وبينك مكانا كذلك.
قوله تعالى: " قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى " الضمير لموسى وقد جعل الموعد يوم الزينة، ويظهر من السياق أنه كان يوما لهم يجرى بينهم مجرى العيد، ويظهر من لفظه أنهم كانوا يتزينون فيه ويزينون الاسواق، وحشر الناس - على ما ذكره الراغب - إخراجهم عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها، والضحى وقت انبساط الشمس من النهار.
وقوله: " وأن يحشر الناس ضحى " معطوف على الزينة أو على يوم بتقدير اليوم أو الوقت ونحوه والمعنى قال موسى موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس في الضحى، وليس من البعيد أن يكون مفعولا معه والمعنى موعدكم يوم الزينة مع حشر الناس في الضحى ويرجع إلى الاشتراط.
وإنما اشترط ذلك ليكون ما يأتي به ويأتون به على أعين الناس في ساعة مبصرة.
قوله تعالى: " فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتي " ظاهر السياق أن المراد بتولي فرعون انصرافه عن مجلس المواعدة للتهيؤ لما واعد، والمراد بجمع كيده جمع ما يكاد به من السحرة وسائر ما يتوسل به إلى تعمية الناس والتلبيس عليهم ويمكن ان يكون المراد بجمع كيده جمع ذوى كيده بحذف المضاف والمراد بهم السحرة وسائر عماله وأعوانه وقوله: " ثم أتى " أي ثم أتى الموعد وحضره.
قوله تعالى: " قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى " الويل كلمة عذاب وتهديد، والاصل فيه معنى العذاب ومعنى ويلكم عذبكم الله عذابا، والسحت بفتح السين استيصال لشعر بالحلق والاسحات الاستئصال والاهلاك.
وقوله: " قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا ضمائر الجمع غيبة وخطابا لفرعون وكيده وهم السحرة وسائر أعوانه على موسى (عليه السلام) وقد مر ذكرهم
/ صفحة 174 /
في الاية السابقة، وأما رجوعها إلى السحرة فقط فلم يسبق لهم ذكر ولا دل عليهم دليل من جهة اللفظ.
وهذا القول من موسى (عليه السلام) موعظة لهم وإنذار أن يفتروا على الله الكذب، وقد ذكر من افترائهم فيما مر تسمية فرعون الايات الالهية سحرا، ورمي الدعوة الحقة بأنها للتوسل إلى إخراجهم من أرضهم ومن الافتراء أيضا السحر لكن افتراء الكذب على الله وهو اختلاق الكذب عليه إنما يكون بنسبة ما ليس من الله إليه، وعد الاية المعجزة سحرا والدعوة الحقة كيدا سياسيا قطع نسبتهما إلى الله وكذا إتيانهم بالسحر قبال المعجزة مع الاعتراف بكونه سحرا لا واقع له فلا يعد شئ منها افتراء على الله.
فالظاهر أن المراد بافتراء الكذب على الله الاعتقاد باصول الوثنية كالوهية الالهة وشفاعتها ورجوع تدبير العالم إليها كما فسروا الاية بذلك، وقد عد ذلك افتراء على الله في مواضع من القرآن كقوله: " قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم " الاعراف: 89.
وقوله: " فيسحتكم بعذاب " تفريع على النهي أي لا تشركوا بالله حتى يستأصلكم ويهلككم بعذاب بسبب شرككم، وتنكير العذاب للدلالة على شدته وعظمته.
قوله وقد خاب من افترى " الخيبة اليأس من بلوغ النتيجة المأمولة وقد وضعت الجملة في الكلام وضع الاصل الكلي الذي يتمسك به وهو كذلك فإن الافتراء من الكذب وسببيته سببيه كاذبة والاسباب الكاذبة لا تهتدى إلى مسببات حقة وآثار صادقة فنتائجها غير صالحة للبقاء ولا هي تسوق إلى سعادة فليس في عاقبتها إلا الشؤم والخسران فالاية أشمل معنى من قوله تعالى: " إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " يونس: 69.
لاثباتها الخيبة في مطلق الافتراء بخلاف الاية الثانية وقد تقدم كلام في أن الكذب لا يفلح في ذيل قوله وجاؤا على قميصه بدم كذب " يوسف: 18 في الجزء الحادي عشر من الكتاب.
قوله تعالى: " فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى - إلى قوله - من استعلى " التنازع قريب المعنى من الاختلاف، من النزع بمعنى جذب الشئ من مقره لينقلع
/ صفحة 175 /
منه والتنازع يتعدى بنفسه كما في الاية وبفي كقوله: " فإن تنازعتم في شئ " النساء: 59.
والنجوى الكلام الذي يسار به، وأصله مصدر بمعنى المناجاة وهي المسارة في الكلام، والمثلى مؤنث أمثل كفضلي وأفضل وهو الاقرب الاشبه والطريقة المثلى السنة التي هي أقرب من الحق أو من امنيتهم وهي سنة الوثنية التي كانت مصر اليوم تدار بها وهي عبادة الالهة وفي مقدمتها فرعون إله القبط، والاجماع - على ما ذكره الراغب - جمع الشئ عن فكر وترو، والصف جعل الاشياء على خط مستو كالانسان والاشجار ونحو ذلك ويستعمل مصدرا واسم مصدر وقوله: " ثم ائتوا صفا " يحتمل أن يكون مصدرا، وأن يكون بمعنى صافين أي ائتوه باتحاد واتفاق من دون أن تختلفوا وتتفرقوا فتضعفوا وكونوا كيد واحدة عليه.
ويظهر من تفريع قوله: " فتنازعوا أمرهم " على ما في الاية السابقة من قوله: " قال موسى " الخ أن التنازع والاختلاف إنما ظهر بينهم عن موعظة وعظهم بها موسى فأثرت فيهم بعض أثرها ومن شأنها ذلك إذ ليست إلا كلمة حق ما فيها مغمض وكان محصلها أن لا علم لكم بما تدعونه من الوهية الالهة وشفاعتها فنسبتكم الشركاء والشفعاء إلى الله افتراء عليه وقد خاب من افترى وهذا برهان واضح لا ستر عليه ولا غبار.
ويظهر من قوله الاتي الحاكي لقول السحرة: " إنا آمنا بربنا؟؟ ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر " أن الاختلاف إنما ظهر أول ما ظهر بين السحرة ومنهم وربما أشعر قوله الاتي: " ثم ائتوا صفا " أن المترددين في مقابلة موسى منهم أو العازمين على ترك مقابلته أصلا كانوا بعض السحرة إن كان الخطاب متوجها إليهم ولعل السياق يساعد على ذلك.
وكيف كان لما رأي فرعون وأياديه تنازع القوم - وفيه خزيهم وخذلانهم - أسروهم النجوى ولم يكلموهم فيما ألقاه إليهم موسى من الحكمة والموعظة بل عدلوا عن ذلك إلى ما اتهمه فرعون بالسحر وطرح خطة سياسية لاخراج امة القبط من أرضهم ولا ترضى الامة بذلك ففيه خروج من ديارهم وأموالهم وسقوط من أوج سعادتهم إلى حضيض الشقاء وهم يرون ما يقاسيه بنو إسرائيل بينهم.
/ صفحة 176 /
وأضافوا إلى ذلك أمرا آخر أمر من الجلاء والخروج من الديار والاموال وهو ذهاب طريقتهم المثلى وسنتهم القومية التي هي ملة الوثنية لحاكمة فيهم قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل وقد اشتد بها عظمهم ونبت عليها لحمهم والعامة تقدس السنن القومية وخاصة ما اعتادت عليها وأذعنت بأنها سنن ظاهرة سماوية.
وهذا بالحقيقة إغراء لهم على التثبت والاستقامه على ملة الوثنية لكن لا لانها دين حق لا شبهة فيه فإن حجة موسى أوضحت فسادها وكشفت عن بطلانها بل بعنوان أنها سنة ملية مقدسة تعتمد عليها مليتهم وتستند إليها شوكتهم وعظمتهم وتعتصم بها حياتهم فلو اختلفوا وتركوا مقابلة موسى واستعلى هو عليهم كان في ذلك فناؤهم بالمرة.
فالرأي هو أن يجمعوا كل كيد لهم ثم يدعوا الاختلاف ويأتوا صفا حتى يستعلوا وقد أفلح اليوم من استعلى.
فأكدوا عليهم القول بالتسويل أن يتحدوا ويتفقوا ولا يهنوا في حفظ ملتهم ومدنيتهم ويكروا على عدوهم كرة رجل واحد، وشفع ذلك فرعون بمواعد جميلة وعدهم إياها كما يظهر من قوله تعالى في موضع آخر: قالوا لفرعون أئن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين " الشعراء: 42.
وبأي وجه كان من ترغيب وترهيب حملوهم على أن يثبتوا ويواجهوا موسى بمغالبته.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الايات بالاستمداد من السياق والقرائن المتصلة والشواهد المنفصلة، وعلى ذلك فقوله: " فتنازعوا أمرهم بينهم " إشاره إلى اختلافهم إثر موعظة موسى وما أومأ إليه من الحجة.
وقوله: " وأسروا النجوى " إشارة إلى مسارتهم في أمر موسى واجتهادهم في رفع الاختلاف الناشئ من استماعهم وعظ موسى (عليه السلام)، وقوله: " قالوا إن هذان لساحران يريدان " الخ، بيان نجوى الذي أسروه فيما بينهم وقد مر توضيح معناه.
وقوله: " إن هذان لساحران " القراءة المعروفة " إن " بكسر الهمزة وسكون النون وهي " إن " المشبهة بالفعل خففت فالغيت عن العمل بنصب الاسم ورفع الخبر.
قوله تعالى: " قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى "
/ صفحة 177 /
إلى آخر الاية التالية، الحبال جمع حبل والعصي جمع عصا، وقد كان السحرة استعملوها ليصوروا بها في أعين الناس حيات وثعابين أمثال ما كا يظهر من عصا موسى (عليه السلام).
وهنا حذف وإيجاز كأنه قيل: فأتوا الموعد وقد حضره موسى فقيل: فما فعلوا؟ فقيل: " قالوا يا موسى إما أن تلقي - أي عصاك - وإما أن نكون أول من ألقى " وهذا تخيير منهم لموسى بين أن يبدأ بالالقاء أو يصبر حتى يلقوا ثم يأتي بما يأتي، " قال موسى: بل ألقوا " فأخلى لهم الظرف كى يأتوا بما يأتون به وهو معتمد على ربه واثق بوعده من غير قلق واضطراب وقد قال له ربه فيما قال: " إنني معكما أسمع وأرى ".
وقوله: " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " فيه حذف، والتقدير: فألقوا وإذا حبالهم وعصيهم الخ.
وإنما حذف لتأكيد المفاجأة كأنه (عليه السلام) لما قال لهم: بل ألقوا، لم يلبث دون أن شاهد ما شاهد من غير أن يتوسط هناك إلقاؤهم الحبال والعصي.
والذي خيل إلى موسى خيل إلى غيره من الناظرين من الناس كما ذكره في موضع آخر: " سحروا أعين الناس واسترهبوهم " الاعراف: 116، غير أنه ذكر ههنا موسى من بينهم وكأن ذلك ليكون تمهيدا لما في الاية التالية.
قوله تعالى: فأوجس في نفسه خيفة موسى " قال الراغب في المفردات: الوجس الصوت الخفي، والتوجس التسمع والايجاس وجود ذلك في النفس، قال " فأوجس منهم خيفة " فالوجس هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لان الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر.
انتهى.
فإيجاس الخيفة في النفس إحساسها فيها ولا يكون إلا خفيفا خفيا لا يظهر أثره في ظاهر البشرة ويتبع وجوده في النفس ظهور خاطر سوء فيها من غير إذعان بما يوجبه من تحذر وتحرز وإلا لظهر أثره في ظاهر البشرة وعمل الانسان قطعا، وإلى ذلك يومئ تنكير الخيفة كأنه قيل: أحس في نفسه نوعا من الخوف لا يعبؤ به ومن العجيب قول بعضهم: أن التنكير للتفخيم وكان الخوف عظيما وهو خطأ ولو كان
/ صفحة 178 /
كذلك لظهر أثره في ظاهر بشرته ولم يكن لتقييد الخيفة بكونها في نفسه وجه.
فظهر أن الخيفة التي أوجسها في نفسه كانت إحساسا آنيا لها نظيرة الخاطر الذي عقبها فقد خطرت بقلبه عظمة سحرهم وأنه بحسب التخيل مماثل أو قريب من آيته فأوجس الخيفة من هذا الخطور وهو كنفس الخطور لا أثر له.
وقيل: " إنه خاف أن يلتبس الامر على الناس فلا يميزوا بين آيته وسحرهم للتشابه فيشكوا ولا يؤمنوا ولا يتبعوه ولم يكن يعلم بعد أن عصاه ستلقف ما يأفكون.
وفيه أن ذلك ينافي اطمئنانه بالله ووثوقه بأمره وقد قال له ربه قبل ذلك:: " بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون " القصص: 35.
وقيل: " إنه خاف أن يتفرق الناس بعد رؤية سحرهم ولا يصبروا إلى أن يلقي عصاه فيدعى التساوي ويخيب السعي.
وفيه: أنه خلاف ظاهر الاية فإن ظاهر تفريع قوله: " فأوجس في نفسه خيفة " الخ، على قوله: " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه " الخ، أنه إنما خاف ما خيل إليه من سحرهم لا أنه خاف تفرق الناس قبل أن يتبين الامر بإلقاء العصا، ولو خاف ذلك لم يسمح له بأن يلقوا حبالهم وعصيهم أولا، على أن هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى في تقوية نفسه (عليه السلام): " قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى " ولقيل: لا تخف لا ندعهم يتفرقون حتى تلقي العصا.
وكيفما كان يظهر من إيجاسه (عليه السلام) خيفة في نفسه أنهم أظهروا للناس من السحر ما يشابه آيته المعجزة أو يقرب منه وإن كان ما اتوا به سحرا لا حقيقه له وما أتى به آية معجزه ذات حقيقة وقد استعظم الله سحرهم إذ قال: " فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم " الاعراف: 116.
ولذا أيده الله ههنا بما لا يبقى معه لبس لناظر البتة وهو تلقف العصا جميع ما سحروا به.
قوله تعالى: " قلنا لا تخف إنك أنت الاعلي - إلى قوله حيث أتي نهي بداعي التقوية والتأييد وقد علله بقوله: " انك أنت الاعلى: فالمعنى انك فوقهم من كل جهة: " وإذا كان كذلك لم يضرك شئ من كيدهم وسحرهم فلا موجب لان تخاف.
وقوله: " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إلخ أمر بالقاء العصا لتكون
/ صفحة 179 /
حية وتلقف ما صنعوا بالسحر والتعبير عن العصا بما في يمينك من ألطف التعبير وأعمقه فإن فيه إشارة إلى أن ليس للشئ من الحقيقة إلا ما أراد الله فإن أراد لما في اليمين أن يكون عصا كان عصا وإن أراد أن يكون حية كان حية فما له من نفسه شئ ثم التعبير عن حياتهم وثعابينهم بقوله: " ما صنعوا " يشير إلى أن المغالبة واقعة بين تلك القدرة المطلقة التي تتبعها الاشياء في أساميها وحقائقها وبين هذا الصنع البشري الذي لا يعدو أن يكون كيدا باطلا وكلمة الله هي العليا والله غالب على أمره فلا ينبغي له أن يخاف.
وفي هذه الجملة أعني قوله: " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا " بيان لكونه (عليه السلام) أعلى بحسب ظاهر الحس كما أن في ذيله بيانا لكونه أعلى بحسب الحقيقة إذ لا حقيقة للباطل فمن كان على الحق فلا ينبغي له أن يخاف الباطل على حقه.
وقوله: " إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " تعليل بحسب اللفظ لقوله: " تلقف ما صنعوا " و " ما " مصدرية أو موصولة وبيان بحسب الحقيقة لكونه (عليه السلام) أعلى لان ما معهم كيد ساحر لا حقيقة له وما معه آية معجزة ذات حقيقة والحق يعلو ولا يعلى عليه.
وقوله: " ولا يفلح الساحر حيث أتي " بمنزلة الكبرى لقوله: " ما صنعوا كيد ساحر " فإن الذي يناله الساحر بسحره خيال من الناظرين باطل لا حقيقة له ولا فلاح ولا سعادة حقيقية يظفر بها في أمر موهوم لا واقع له.
فقوله: " ولا يفلح الساحر حيث أتي " نظير قوله: " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " الانعام: 144، " والله لا يهدي القوم الفاسقين " المائدة: 108، وغيرهما والجميع من فروع " إن الباطل كان زهوقا " أسري: 81، " ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته " الشورى: 24، فلا يزال الباطل يزين أمورا ويشبهها بالحق ولا يزال الحق يمحوه ويلقف ما أظهره لوهم الناظرين سريعا أو بطيئا فمثل عصا موسى وسحر السحرة يجري في كل باطل يبدو وحق يلقفه ويزهقه، وقد تقدم في تفسير قوله: " أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها " الرعد: 17، كلام نافع في المقام.
قوله تعالى: " فالقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى " في الكلام حذف وإيجاز والتقدير فألقى ما في يمينه فتلقف ما صنعوا فالقي السحرة وفي التعبير
/ صفحة 180 /
بقوله: " فالقي السحرة بالبناء للمفعول دون أن يقال: فسجد السحرة إشاره إلى إذلال القدرة الالهية لهم وغشيان الحق بظهوره إياهم بحيث لم يجدوا بدا دون أن يخروا على الارض سجدا كأنهم لا إرادة لهم في ذلك وإنما ألقاهم ملق غيرهم دون أن يعرفوه من هو؟ وقولهم: " آمنا برب هارون وموسى شهادة منهم بالايمان وإنما أضافوه تعالى إلى موسى وهارون ليكون فيه الشهادة على ربوبيته تعالى ورسالة موسى وهارون معا وفصل قوله: " قالوا " الخ من غير عطف لكونه كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما قالوا فقيل: قالوا الخ.
قوله تعالى: قال آمنتم له قبل أن آذن لكم " إلى آخر الاية الكبير الرئيس وقطع الايدي والارجل من خلاف أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والتصليب تكثير الصلب وتشديده كالتقطيع الذي هو تكثير القطع وتشديده والجذوع جمع جذع وهو ساقة النخل.
وقوله: " آمنتم له قبل آذن لكم " تهديد من فرعون للسحرة حيث آمنوا والجملة استفهامية محذوفة الاداة والاستفهام للانكار أو خبرية مسوقة لتقرير الجرم، وقوله: " إنه لكبيركم الذى علمكم السحر " رمي لهم بتوطئة سياسية على المجتمع القبطي في أرض مصر كأنهم تواطؤوا مع رئيسهم أن يتنبأ موسى فيدعو أهل مصر إلى الله ويأتي في ذلك بسحر فيستنصروا بالسحرة حتى إذا حضروه واجتمعوا على مغالبته تخاذلوا وانهزموا عنه وآمنوا واتبعتهم العامة فذهبت طريقتهم المثلى من بينهم وأخرج من لم يؤمن منهم قال تعالى في موضع آخر: إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها " الاعراف: 123، وإنما رماهم بهذا القول تهييجأ للعامة عليهم كما رمى موسى (عليه السلام) بمثله في أول يوم.
وقوله: " فلا قطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " إلى آخر الاية، إيعاد لهم وتهديد بالعذاب الشديد ولم يذكر تعالى في كلامه أنجز فيهم ذلك أم لا؟ قوله تعالى: " قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا " كلام بليغ في منطوقه بالغ في مفهومه بعيد في
/ صفحة 181 /
معناه رفيع في منزلته يغلي ويفور علما وحكمة فهؤلاء قوم كانوا قبل ساعة وقد ملات هيبة فرعون وأبهته قلوبهم وأذلت زينات الدنيا وزخارفها التي عنده - وليست إلا أكاذيب خيال وأباطيل وهم نفوسهم يسمونه ربا أعلى ويقولون حينما ألقوا حبالهم وعصيهم: " بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فما لبثوا دون أن ظهرت لهم آيات الحق فبهرت أبصارهم فطاحت عند ذلك ما كانوا يرون لفرعون من عزة وسلطان ولما عنده من زينة الدنيا وزخرفها من قدر ومنزلة وغشيت قلوبهم فأزالت منها رذيلة الجبن والملق واتباع الهوى والتوله إلى سراب زينة الحياة الدنيا ومكنت فيها التعلق بالحق والدخول تحت ولاية الله والاعتزاز بعزته فلا يريدون إلا ما أراده الله ولا يرجون إلا الله ولا يخافون إلا الله عز اسمه.
يظهر ذلك كله بالتدبر في المحاورة الجارية بين فرعون وبينهم إذا قيس بين القولين ففرعون في غفلة من مقام ربه لا يري إلا نفسه ويضيف إليه أنه رب القبط وله ملك مصر وله جنود مجندة، وله ما يريد وله ما يقضي وليست في نظر الحق والحقيقة إلا دعاوي وقد غره جهله إلى حيث يرى أن الحق تبع باطله والحقيقة خاضعة مطيعة لدعواه فيتوقع أن لا تمس نفوس الناس - وفي جبلتها الفهم والقضاء - بشعورها وإدراكها الجبلي شيئا إلا بعد إذنه، ولا يذعن قلوبهم ولا توقن بحق إلا عن إجازته وهو قوله للسحرة: " آمنتم له قبل أن آذن لكم ".
ويرى أن لا حقيقة للانسان إلا هذه البنية الجسمانية التى تعيش ثم تفسد وتفنى وأن لا سعادة له إلا نيل هذه اللذائذ المادية الفانية، وذلك قوله: " فلاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولا صلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى " وليتدبر في آخر كلامه.
وأما هؤلاء المؤمنون وقد أدركهم الحق وغشيهم فأصفاهم وأخلصهم لنفسه فهم يرون ما يعده فرعون حقيقة من أمتعة الحياة الدنيا من مالها ومنزلتها سرابا خياليا وزينة غارة باطلة، وأنهم إذا خيروا بينه وبين ما آمنوا به فقد خيروا بين الحق، والباطل والحقيقة والسراب، وحاشا أهل اليقين أن يشكوا في يقينهم أو يقدموا الباطل على الحق والسراب على الحقيقة وهم يشهدون ذلك شهادة عيان وذلك قولهم: " لن نؤثرك - أي لن نختارك - على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا " فليس مرادهم
/ صفحة 182 /
به إيثار شخص بما هو جسد إنساني ذو روح بل ما معه مما كان يدعيه أنه يملكه من الدنيا العريضه بمالها ومنالها.
وما كان يهددهم به فرعون من القتل الفجيع والعذاب الشديد وقطع دابر الحياة الدنيا وهو يرى أن ليس للانسان إلا الحياة التى فيها وفيها سعادته وشقاؤه فإنهم يرون الامر بالعكس من ذلك وأن للانسان حياة خالدة أبدية لا قدر عندها لهذه الحياة المعجلة الفانية إن سعد فيها فلا عليه أن يشقى في حياته الدنيا وإن شقي فيها فلا ينفعه شئ.
وعلى ذلك فلا يهابون أن يخسروا في حياتهم الدنيا الداثرة إذا ربحوا في الحياة الاخرى الخالدة، وذلك قولهم لفرعون - وهو جواب تهديده إياهم بالقتل - " فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " ثم الايات التالية الحاكية لتتمة كلامهم مع فرعون تعليل وتوضيح لقولهم: " لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ".
وفي قولهم: " ما جاءنا من البينات " تلويح إلى أنهم عدوا ما شاهدوه من أمر العصا آيات عديدة كصيرورتها ثعبانا وتلقفها الحبال والعصي ورجوعها ثانيا إلى حالتها الاولى، ويمكن أن يكون " من " للتبعيض فيفيد أنهم شاهدوا آية واحده وآمنوا بأن لله آيات اخرى كثيرة ولا يخلو من بعد.
قوله تعالى: إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى " الخطايا جمع خطيئة وهي قريبة معنى من السيئة، وقوله: " وما أكرهتنا عليه " معطوف على " خطايانا " و " من السحر " بيان له والمعنى وليغفر لنا السحر الذي أكرهتنا عليه وفيه دلالة على أنهم أكرهوا عليه إما حين حشروا إلى فرعون من خلال ديارهم وإما حين تنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى فحملوا على المقابلة والمغالبة.
وأول الاية تعليل لقولهم: " لن نؤثرك " الخ أي إنما اخترنا الله الذي فطرنا عليك وآمنا به ليغفر لنا خطايانا والسحر الذي أكرهتنا عليه، وذيل الاية: " والله خير وأبقى " من تمام البيان وبمنزلة التعليل لصدرها كأنه قيل: " وإنما آثرنا غفرانه على إحسانك لانه خير وأبقى، أي خير من كل خير وأبقى من كل باق - لمكان الاطلاق - فلا يؤثر عليه شئ وفي هذا الذيل نوع مقابلة لما في ذيل كلام فرعون: " ولتعلمن أينا أشد عذابا وابقى ".
/ صفحة 183 /
وقد عبروا عنه تعالى أولا بالذي فطرنا، وثانيا بربنا، وثالثا بالله، أما الاول كونه تعالى فاطرا لنا أچ مخرجا لنا عن كتم العدم إلى الوجود ويتبعه انتهاء كل خير حقيقي إليه وان ليس عند غيره إذا قوبل به إلا سراب البطلان، منشأ كل ترجيح والمقام مقام الترجيح بينه تعالى وبين فرعون.
واما الثاني فلان فيه إخبارا عن الايمان به وأمس صفاته تعالى بالايمان والعبودية صفة ربوبيته المتضمنة لمعنى الملك والتدبير.
وأما الثالث فلان ملاك خيرية الشئ الكمال وعنده تعالى جميع صفات الكمال القاضية بخيريته المطلقة فناسب التعبير بالعلم الدال على الذات المستجمعه لجميع صفات الكمال وعلى هذا فالكلام في المقامات الثلاثة على بساطته ظاهرا مشتمل على الحجة على المدعى والمعنى بالحقيقة: لن نؤثرك على الذى فطرنا لانه فطرنا، وإنا آمنا بربنا لانه ربنا، والله خير لانه الله عز اسمه.
قوله تعالى: " إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى " تعليل لجعل غفران الخطايا غاية للايمان بالله أي لان من لم يغفر خطاياه كان مجرما ومن يأت ربه مجرما " الخ ".
قوله تعالى: " ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فاولئك لهم الدرجات العلى " إلى آخر الاية التالية: الدرجة - على ما ذكره الراغب - هي المنزلة لكن يعتبر فيها الصعود كدرجات السلم وتقابلها الدركة فهي المنزله حدورا ولذا يقال درجات الجنة ودركات النار والتزكي هو التنمى بالنماء الصالح والمراد به أن يعيش الانسان باعتقاد حق وعمل صالح.
والايتان تصفان ما يستتبعه الايمان والعمل الصالح كما كانت الاية السابقة تصف ما يستتبعه الاجرام الحاصل بكفر أو معصية والايات الثلاث الواصفة لتبعة الاجرام والايمان ناظرة إلى وعيد فرعون ووعده لهم فقد أوعدهم فرعون على إيمانهم لموسى بالقطع والصلب وادعى أنه أشد العذاب وأبقاه فقابلوه بأن للمجرم عند ربه جهنم لا يموت فيها ولا يحيى لا يموت فيها حتى ينجو من مقاسا ألم عذابها لكن منتهى عذاب الدنيا الموت وفيه نجاة المجرم المعذب، ولا يحيى فيها إذ ليس فيها شئ مما تطيب به الحياة ولا خير مرجوا فيها حتى يقاسى العذاب في انتظاره.
/ صفحة 184 /
ووعدهم قبل ذلك المنزلة بجعلهم من مقربيه والاجر كما حكى الله تعالى: " قالوا ءإن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين " الاعراف: 114 فقابلوا ذلك بأن من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فاولئك - وفي الاشارة البعيدة تفخيم شأنهم - لهم الدرجات العلى - وهذا يقابل وعد فرعون لهم بالتقريب - جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها، ذلك جزاء من تزكى - بالايمان والعمل الصالح وهذا يقابل وعده لهم بالاجر.
قوله تعالى ولقد أوحينا إلى موسى أن اسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا - إلى قوله - وما هدى ".
الاسراء السير بالليل والمراد بعبادي بنو إسرائيل وقوله: " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا " قيل المراد الضرب بالعصا " كما يدل عليه كلامه تعالى في غير هذا الموضع وإن " طريقا " مفعول به لاضرب على الاتساع وهو مجاز عقلي والاصل أضرب البحر ليكون لهم طريقا.
انتهى.
ويمكن أن يكون المراد بالضرب البناء والاقامة من باب ضربت الخيمة وضربت القاعدة.
واليبس - على ما ذكره الراغب - المكان الذي كان فيه ماء ثم ذهب، والدرك بفتحتين تبعة الشئ، وفي نسبة الغشيان إلى ما الموصولة المبهمة وجعله صلة لها أيضا من تمثيل هول الموقف ما لا يخفى، قيل: وفي قوله: " وأضل فرعون قومه وما هدى " تكذيب لقول فرعون لقومه فيما خاطبهم: " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " المؤمن: 29، وعلى هذا فقوله: " وما هدى " ليس تأكيدا وتكرارا لمعنى قوله: وأضل فرعون قومه ".
(بحث روائي) في نهج البلاغه قال (عليه السلام): لم يوجس موسى خيفة على نفسه أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال.
أقول: معناه ما قدمناه في تفسير الاية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي
/ صفحة 185 /
قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا أخذتم الساحر فاقتلوه.
ثم قرأ " ولا يفلح الساحر حيث أتى " قال: لا يأمن حيث وجد.
أقول وفي انطباق المعنى المذكور في الحديث على الاية بما لها من السياق خفاء.
* * *
يا بنى إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الايمن ونزلنا عليكم المن والسلوى (80) - كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى (81).
وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (82) - وما أعجلك عن قومك يا موسى (83) - قال هم اولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى (84) - قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري (85) - فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليك غضب من ربكم فأخلفتم موعدي (86) - قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري (87) - فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى (88) - أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا
/ صفحة 186 /
ولا نفعا (89) - ولقد قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمرى (90) - قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (91) - قال يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) - ألا تتبعن أفعصيت أمرى (93) - قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي أني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولى (94) - قال فما خطبك يا سامرى (95) - قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي (96) - قال فاذهب فإن لك في الحيوة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا (97) - إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما (98): (بيان) الفصل الاخير من قصة موسى (عليه السلام) الموردة في السورة يعد سبحانه فيه جملا من مننه على بني إسرائيل كإنجائهم من عدوهم ومواعدتهم جانب الطور الايمن وإنزال المن والسلوى عليهم، ويختمه بذكر قصة السامري وإضلاله القوم بعبادة العجل وللقصة اتصال بمواعدة الطور.
وهذا الجزء من الفصل - وفيه بيان تعرض بنى إسرائيل لغضبه تعالى - هو
/ صفحة 187 /
المقصود بالاصالة من هذا الفصل ولذا فصل فيه القول ولم يبين غيره إلا بإشارة وإجمال.
قوله تعالى: " يا بنى اسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم " إلى آخر الاية كأن الكلام بتقدير القول أي قلنا يا بني إسرائيل وقوله: " قد أنجيناكم من عدوكم " المراد به فرعون أغرقه الله وأنجى بني إسرائيل منه بعد طول المحنة.
وقوله: " وواعدناكم جانب الطور الايمن بنصب أيمن على انه صفة جانب ولعل المراد بهذه المواعدة مواعدة موسى أربعين ليلة لانزال التوراة وقد مرت القصة في سورة البقرة وغيرها وكذا قصة إنزال المن والسلوى.
وقوله: " كلوا من طيبات ما رزقناكم " إباحة في صورة الامر وإضافه الطيبات إلى " ما رزقناكم " من إضافة الصفه إلى الموصوف إذ لا معنى لان ينسب الرزق إلى نفسه ثم يقسمه إلى طيب وغيره كما يؤيده قوله في موضع آخر: " ورزقناهم من الطيبات " الجاثية: 16.
قوله: " ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى " ضمير فيه راجع إلى الاكل المتعلق بالطيبات وذلك بكفران النعمة وعدم أداء شكره كما قالوا: يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها " البقرة 61.
وقوله: " فيحل عليكم غضبي " أي يجب غضبى ويلزم من حل الدين يحل من باب ضرب إذا وجب أداؤه والغضب من صفاته تعالى الفعلية مصداقه إرادته تعالى إصابة المكروه للعبد بتهيئة الاسباب لذلك عن معصية عصاها.
وقوله: " ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى " أي سقط من الهوي بمعنى السقوط وفسر بالهلاك.
قوله تعالى: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " وعد بالرحمة المؤكدة عقيب الوعيد الشديد ولذا وصف نفسه بكثرة المغفرة فقال: " وإني لغفار " ولم يقل: وأنا غافر أو سأغفر.
والتوبة وهي الرجوع كما تكون عن المعصية إلى الطاعة كذلك تكون من الشرك إلى التوحيد، والايمان أيضا كما يكون بالله كذلك يكون بآيات الله من
/ صفحة 188 /
أنبيائه ورسله وكل حكم جاؤوا به من عند الله تعالى، وقد كثر استعمال الايمان في القرآن في كل من المعنيين كما كثر استعمال التوبة في كل من المعنيين المذكورين وبنو إسرائيل كما تلبسوا بمعاصي فسقوا بها كذلك تلبسوا بالشرك كعبادة العجل وعلى هذا فلا موجب لصرف الكلام عن ظاهر إطلاقه في التوبة عن الشرك والمعصية جميعا والايمان بالله وآياته وكذلك إطلاقه بالنسبة إلى التائبين والمؤمنين من بنى إسرائيل وغيرهم وإن كان بنو إسرائيل مورد الخطاب فإن الصفات الالهية كالمغفره لا تختص بقوم دون قوم.
فمعنى الاية - والله أعلم - وإني لكثير المغفرة لكل انسان تاب وآمن سواء تاب عن شرك أو عن معصية وسواء آمن بى أو بآياتى من رسلي، أو ما جاؤوا به من أحكامي بأن يندم على ما فعل ويعمل عملا صالحا بتبديل المخالفة والتمرد فيما عصى فيه بالطاعة فيه وهو المحقق لاصل معنى الرجوع من شئ وقد مر تفصيل القول فيه في تفسير قوله تعالى: " إنما التوبة على الله " النساء: 17 في الجزء الرابع من الكتاب.
وأما قوله: " ثم اهتدى " فالاهتداء يقابل الضلال كما يشهد به قوله تعالى: من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها " أسري: 15، وقوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " المائدة: 105، فهل المراد أن لا يضل في نفس ما تاب فيه بأن يعود إلى المعصية ثانيا فيفيد أن التوبه عن ذنب إنما تنفع بالنسبة إلى ما اقترفه قبل التوبة ولا تكفى عنه لو عاد إليه ثانيا أو المراد أن لا يضل في غيره فيفيد أن المغفرة إنما تنفعه بالنسبة إلى لمعصية التي تاب عنها وبعبارة أخرى إنما تنفعه نفعا تاما إذا لم يضل في غيره من الاعمال، أو المراد ما يعم المعنيين؟ ظاهر العطف بثم أن يكون المراد هو المعنى الاول فيفيد معنى الثبات والاستقامة على التوبة فيعود إلى اشتراط الاصلاح الذي هو مذكور في عدة من الايات كقوله: " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " آل عمران: 89 النور 5.
لكن يبقى على الاية بهذا المعنى أمران: أحدهما نكتة التعبير بالغفار بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة فما معنى كثرة مغفرته تعالى لمن اقترف ذنبا واحدا ثم تاب؟ وثانيهما أن لازمها أن يكون من خالف حكما من أحكامه كافرا به وإن اعترف بأنه
/ صفحة 189 /
من عند الله وإنما يعصيه اتباعا للهوى لاردا للحكم اللهم إلا أن يقال: إن الاية لاشتمالها على قوله: " تاب وآمن " إنما تشمل المشرك أو الراد لحكم من أحكام الله وهو كما ترى.
فيمكن أن يقال: إن المراد بالتوبة والايمان التوبة من الشرك والايمان بالله كما أن المعنيين هما المراد ان في أغلب المواضع من كلامه التي ذكر التوبة والايمان فيها معا، وعلى هذا كان المراد من قوله: " وعمل صالحا " الطاعة لاحكامه تعالى بالائتمار لاوامره والانتهاء عن نواهيه، ويكون معنى الاية أن من تاب من الشرك وآمن بالله وأتى بما كلف به من أحكامه فاني كثير المغفرة لسيآته أغفر له زلة بعد زله فتكثر المغفرة لكثرة مواردها.
وقد ذكر تعالى نظير المعنى وهو مغفرة السيآت في قوله: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيأتكم " النساء: 31.
فقوله: " وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ينطبق على آية النساء ويبقى فيه شرط زائد يقيد حكم المغفرة وهو مدلول قوله: " ثم اهتدى " وهو الاهتداء إلى الطريق ويظهر أن المغفرة إنما يسمح بها للمؤمن العامل بالصالحات إذا قصد ذلك من طريقه ودخل عليه من بابه.
ولا نجد في كلامه تعالى ما يقيد الايمان بالله والعمل الصالح في تأثيره وقبوله عند الله إلا الايمان بالرسول بمعنى التسليم له وطاعته في خطير الامور ويسيرها وأخذ الدين عنه وسلوك الطريق التي يخطها واتباعه من غير استبداد وابتداع يؤل إلى اتباع خطوات الشيطان وبالجملة ولايته على المؤمنين في دينهم ودنياهم فقد شرع الله تعالى ولايته وفرض طاعته وأوجب الاخذ عنه والتأسى به في آيات كثيره جدا لا حاجة إلى إيرادها ولا مجال لاستقصائها فالنبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وكان جل بنى إسرائيل على إيمانهم بالله سبحانه وتصديقهم رسالة موسى وهارون متوقفين في ولايتهما أو كالمتوقف كما هو صريح عامة قصصهم في كتاب الله ولعل هذا هو الوجه في وقوع الاية - وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى بعد نهيهم عن الطغيان وتخويفهم من غضب الله.
فقد تبين أن المراد بالاهتداء في الاية على ما يهدي إليه سائر الايات هو الايمان
/ صفحة 190 /
بالرسول باتباعه في أمر الدين والدنيا وبعبارة اخرى هو الاهتداء إلى ولايته.
وبذلك يظهر حال ما قيل في تفسير قوله: " ثم اهتدى " فقد قيل: الاهتداء لزوم الايمان والاستمرار عليه ما دامت الحياة، وقيل: أن لا يشك ثانيا في إيمانه، وقيل: " الاخذ بسنة النبي وعدم سلوك سبيل البدعة، وقيل: الاهتداء هو أن يعلم أن لعمله ثوابا يجزى عليه، وقيل: هو تطهير القلب من الاخلاق الذميمة، وقيل: هو حفظ العقيدة من أن تخالف الحق في شئ فإن الاهتداء بهذا الوجه غير الايمان وغير العمل، والمطلوب على جميع هذه الاقوال تفسير الاهتداء بمعنى لا يرجع إلى الايمان والعمل الصالح غير أن الذي ذكروه لا دليل على شئ من ذلك.
قوله تعالى: " وما أعجلك عن قومك يا موسى - إلى قوله - لترضى " حكاية مكالمة وقعت بينه تعالى وبين موسى (عليه السلام) في ميعاد الطور الذي نزلت عليه فيه التوراة كما قص في سورة الاعراف تفصيلا.
وظاهر السياق أنه سؤال عن السبب الذي أوجب لموسى أن يستعجل عن قومه فيحضر ميعاد الطور قبلهم كأنه كان المترقب أن يحضروا الطور جميعا فتقدم عليهم موسى في الحضور وخلفهم فقيل له: " وما أعجلك عن قومك يا موسى " فقال: " هم أولاء على أثري " أي إنهم لسائرون على أثري وسيلحقون بي عن قريب " وعجلت اليك رب لترضى " أي و السبب في عجلى هو أن احصل رضاك يا رب.
والظاهر أن المراد بالقوم وقد ذكر أنهم على أثره هم السبعون رجلا الذين اختارهم لميقات ربه، فإن ظاهر تخليفه هارون على قومه بعده وسائر جهات القصة وقوله بعد: " أفطال عليكم العهد " أنه لم يكن من القصد أن يحضر بنو إسرائيل كلهم الطور.
وهذا الخطاب يمكن أن يخاطب به موسى (عليه السلام) في بدء حضوره في ميعاد الطور كما يمكن أن يخاطب في أواخر عهده به فإن السؤال عن العجل غير نفس العجل الذي يقارن المسير واللقاء وإذا لم يكن السؤال في بدء الورود والحضور استقام قوله بعد: " فإنا قد فتنا قومك من بعدك " الخ، بناء على أن الفتنة كانت بعد استبطائهم غيبة موسى على ما في الاثار ولا حاجة إلى تمحلاتهم في توجيه الايات.
/ صفحة 191 /
قوله تعالى: " قال فإنا قدفتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري " الفتنة الامتحان والاختبار ونسبة الاضلال إلى السامري - وهو الذي سبك العجل وأخرجه لهم فعبدوه وضلوا - لانه أحد أسبابه العاملة فيه.
والفاء في قوله: " فإنا قد فتنا قومك " للتعليل يعلل به ما يفهم من سابق الكلام فإن المفهوم من قول موسى هم أولاء على أثري " أن قومه على حسن حال لم يحدث فيهم ما يوجب قلقا فكأنه قيل: لا تكن واثقا على ما خلفتهم فيه فإنا قد فتناهم فضلوا.
وقوله: " قومك " من وضع الظاهر موضع المضمر ولعل المراد غير المراد به في الاية السابقة بأن يكون ما ههنا عامة القوم وما هناك السبعون رجلا الذين اختارهم موسى للميقات.
قوله تعالى: " فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا - إلى قوله - فأخلفتم موعدي " الغضبان صفة مشبهة من الغضب، وكذا الاسف من الاسف بفتحتين وهو الحزن وشدة الغضب، والموعد الوعد، وإخلافهم موعده هو تركهم ما وعدوه من حسن الخلافة بعده حتى يرجع إليهم، ويؤيده قوله في موضع آخر: " بئسما خلفتموني من بعدى ".
والمعنى فرجع موسى إلى قومه والحال أنه غضبان شديد الغضب - أو حزين - وأخذ يلومهم على ما فعلوا - قال يا قوم ألم يعدكم ربك وعدا حسنا - وهو أن ينزل عليهم التوراة فيها حكم الله وفي الاخذ بها سعادة دنياهم وأخراهم - أو وعده تعالى أن ينجيهم من عدوهم ويمكنهم في الارض ويخصهم بنعمه العظام " أفطال عليكم العهد " وهو مدة مفارقة موسى إياهم حتى يكونوا آيسين من رجوعه فيختل النظم بينهم " أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم " فطغوتم بالكفر به بعد الايمان وعبدتم العجل " فأخلفتم موعدى " وتركتم ما وعدتمونى من حسن الخلافة بعدي.
وربما قيل في معنى قوله: " فأخلفتم موعدي " بعض معان أخر: كقول بعضهم إن إخلافهم موعده أنه أمرهم أن يلحقوا به فتركوا المسير على أثره، وقول بعضهم هو أنه أمرهم بطاعة هارون بعده إلى أن يرجع إليهم فخالفوه
/ صفحة 192 /
إلى غير ذلك.
قوله تعالى: " قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا " إلى آخر الاية الملك بالفتح فالسكون مصدر ملك يملك وكأن المراد بقولهم: " ما أخلفنا موعدك بملكنا " ما خالفناك ونحن نملك من أمرنا شيئا - كما قيل - ومن الممكن أن يكون المراد أنا لم نصرف في صوغ العجل شيئا من أموالنا حتى نكون قاصدين لهذا الامر متعمدين فيه ولكن كنا حاملين لاثقال من خلي القوم فطرحناها فأخذها السامري وألقاها في النار فأخرج العجل.
والاوزار جمع وزر وهو الثقل، والزينة الحلي كالعقد والقرط والسوار والقذف والالقاء والنبذ متقاربة معناها الطرح والرمي.
ومعنى قوله: " ولكنا حملنا أوزارا " الخ لكن كانت معنا أثقال من زينة القوم ولعل المراد به قوم فرعون - فطرحناها فكذلك ألقى السامري - ألقى ما طرحناها في النار أو ألقى ما عنده كما القينا ما عندنا مما حملنا - فأخرج العجل.
قوله تعالى: " فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى، في لفظ الاخراج دلالة على أن كيفيه صنع العجل كانت خفية على الناس في غير مرأى منهم حتى فاجأهم بإظهاره وإراءته والجسد هو الجثة التى لا روح فيه فلا يطلق الجسد على ذي الروح البتة، وفيه دليل على أن العجل لم يكن له روح ولا فيه شئ من الحياة والخوار بضم الخاء صوت العجل.
وربما أخذ قوله: " فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم " الخ كلاما مستقلا إما من كلام الله سبحانه باختتام كلام القوم في قولهم: " فقذفناها " وإما من كلام القوم وعلى هذا فضمير " قالوا " لبعض القوم وضمير " فأخرج لهم " لبعض آخر كما هو ظاهر.
وضمير " نسي " قيل: لموسى والمعنى قالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى موسى إلهه هذا وهو هنا وذهب يطلبه في الطور وقيل: الضمير للسامري والمراد به نسيانه تعالى بعد ذكره والايمان به أي نسي السامري ربه فأتى بما أتى وأضل القوم.
وظاهر قوله: " فقالوا هذا إلهكم وإله موسى " حيث نسب القول إلى الجمع أنه كان مع السامري في هذا الامر من يساعده.
/ صفحة 193 /
قوله تعالى: " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا " توبيخ لهم حيث عبدوه وهم يرون أنه لا يرجع قولا بأن يستجيب لمن يدعوه ولا يملك لهم ضرا فيدفعه عنهم ولا نفعا بأن يجلبه ويوصله إليهم، ومن ضروريات عقولهم أن الرب يجب أن يستجيب لمن دعاه لدفع ضر أو لجلب نفع وأن يملك الضر والنفع لمربوبه.
قوله تعالى: " ولقد قال لهم هارون يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعوني وأطيعوا أمري " تأكيد لتوبيخهم وزيادة تقرير لجرمهم، والمعنى أنهم مضافا إلى عدم تذكرهم بما تذكرهم به ضرورة عقولهم وعدم انتهائهم عن عبادة العجل إلى البصر والعقل لم يعتنوا بما قرعهم من طريق السمع أيضا، فلقد قال لهم نبيهم هارون إنه فتنة فتنوا به وإن ربهم الرحمان عز اسمه وإن من الواجب عليهم أن يتبعوه ويطيعوا أمره.
فردوا على هارون قائلين: لن نبرح ولن نزال عليه عاكفين أي ملازمين لعبادته حتى يرجع الينا موسى فنرى ماذا يقول فيه وماذا يأمرنا به.
قوله تعالى: " قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا إلا تتبعن أفعصيت أمري " رجع (عليه السلام) بعد تكليم القوم في أمر العجل إلى تكليم أخيه هارون إذ هو أحد المسؤولين الثلاثة في هذه المحنة استخلفه عليهم وأوصاه حين كان يوادعه قائلا: " اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ".
وكأن قوله: " منعك مضمن معنى دعاك، أي ما دعاك إلى أن لا تتبعن مانعا لك عن الاتباع أو ما منعك داعيا لك إلى عدم اتباعي فهو نظير قوله: " قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " الاعراف: 12.
والمعنى: قال موسى معاتبا لهارون: ما منعك عن اتباع طريقتي وهو منعهم عن الضلال والشدة في جنب الله أفعصيت أمري أن تتبعني ولا تتبع سبيل المفسدين؟ قوله تعالى: " قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " الخ، " يابن أم " أصله يا بن أمي وهى كلمة استرحام واسترآف قالها لاسكات غضب موسى، ويظهر من قوله:
/ صفحة 194 /
" لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي أنه أخذ بلحيته ورأسه غضبا ليضربه كما أخبر به في موضع آخر: " وأخذ برأس أخيه يجره إليه " الاعراف: 150.
وقوله: " إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي " تعليل لمحذوف يدل عليه اللفظ ومحصله لو كنت مانعتهم عن عبادة العجل وقاومتهم بالغة ما بلغت لم يطعني إلا بعض القوم وأدى ذلك إلى تفرقهم فرقتين: مؤمن مطيع، ومشرك عاص، وكان في ذلك إفساد حال القوم بتبديل اتحادهم واتفاقهم الظاهر تفرقا واختلافا وربما انجر إلى قتال وقد كنت أمرتني بالاصلاح إذ قلت لي: " أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " فخشيت أن تقول حين رجعت وشاهدت ما فيه القوم من التفرق والتحزب: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي.
هذا ما اعتذر به هارون وقد عذره موسى ودعا له ولنفسه كما في سورة الاعراف بقوله: " رب اغفر لي ولاخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين " الاعراف: 151.
قوله تعالى: " قال فما خطبك يا سامري " رجوع منه (عليه السلام) بعد الفراغ من تكليم أخيه إلى تكليم السامري وهو أحد المسؤولين الثلاثة وهو الذي أضل القوم.
والخطب: الامر الخطير الذي يهمك، يقول: ما هذا الامر العظيم الذي جئت به؟ قوله تعالى: " قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي " قال الراغب في المفردات: البصر يقال للجارحة الناظرة نحو قوله: " كلمح البصر " " وإذ زاغت الابصار " وللقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر نحو قوله: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " وقال: " ما زاغ البصر وما طغى " وجمع البصر أبصار وجمع البصيرة بصائر، قال تعالى: " فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم " ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، ويقال من الاول: أبصرت، ومن الثاني: أبصرته وبصرت به، وقلما يقال في الحاسة بصرت إذا لم تضامه رؤية القلب.
انتهى.
وقوله: " فقبضت قبضة " قيل: إن القبضة مصدر بمعنى اسم المفعول وأورد عليه أن المصدر إذا استعمل كذلك لم تلحق به التاء، يقال: هذه حلة نسج اليمن،
/ صفحة 195 /
ولا يقال نسجة اليمن، فالمتعين حمله في الايه على أنه مفعول مطلق.
ورد بأن الممنوع لحوق التاء الدالة على التحديد والمرة لا على مجرد التأنيث كما هنا، وفيه أن كون التاء هنا للتأنيث لا دليل عليه فهو مصادرة.
وقوله: " من أثر الرسول " الاثر شكل قدم المارة على الطريق بعد المرور، والاصل في معناه ما بقي من الشئ بعده بوجه بحيث يدل عليه كالبناء أثر الباني والمصنوع أثر الصانع والعلم أثر العالم وهكذا، ومن هذا القبيل أثر الاقدام على الارض من المارة.
والرسول هو الذي يحمل رسالة وقد أطلق في القرآن على الرسول البشري الذي يحمل رسالة الله تعالى إلى الناس وأطلق بهذه اللفظة على جبريل ملك الوحي، قال تعالى: " إنه لقول رسول كريم " التكوير: 19، وكذا أطلق لجمع من الملائكة الرسل كقوله: " بلى ورسلنا لديهم يكتبون " الزخرف: 80، وقال أيضا في الملائكة: " جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة " فاطر 1.
والاية تتضمن جواب السامري عما سأله موسى (عليه السلام) بقوله: " فما خطبك يا سامري " وهو سؤال عن حقيقة ذاك الامر العظيم الذي أتى به وما حمله على ذلك، والسياق يشهد على أن قوله: " وكذلك سولت لي نفسي " جوابه عن السبب الذي دعاه إليه وحمله عليه وأن تسويل نفسه هو الباعث له إلى فعل ما فعل وأما بيان حقيقة ما صنع فهو الذي يشير إليه بقوله: " بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول " ولا نجد في كلامه تعالى في هذه القصة ولا فيما يرتبط بها في الجملة ما يوضح المراد منه ولذا اختلفوا في تفسيره.
ففسره الجمهور وفاقا لبعض الروايات الواردة في القصة أن السامري رأى جبريل وقد نزل على موسى للوحي أو رآه وقد نزل راكبا على فرس من الجنة قدام فرعون وجنوده حين دخلوا البحر فاغرقوا فأخذ قبضة من تراب أثر قدمه أو أثر حافر فرسه ومن خاصة هذا التراب أنه لا يلقى على شئ إلا حلت فيه الحياة ودخلت فيه الروح فحفظ التراب حتى إذا صنع العجل ألقى فيه من التراب فحي وتحرك وخار.
فالمراد بقوله: " بصرت بما لم يبصروا به " إبصاره جبريل حين نزل راجلا أو
/ صفحة 196 /
راكبا رآه وعرفه ولم يره غيره من بني إسرائيل، وبقوله: " فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها؟؟ " فقبضت قبضة من تراب أثر جبريل أو من تراب أثر فرس جبريل - والمراد بالرسول جبريل - فنبذتها أي ألقيت القبضة على الحلي المذاب فحي العجل فكان له خوار ! وأعظم ما يرد عليه مخالفة هذه الروايات - وستوافيك في البحث الروائي التالي - للكتاب فإن كلامه تعالى ينص على أن العجل كان جسدا له خوار والجسد هو الجثة التي لا روح لها ولا حياة فيها، ولا يطلق على الجسم ذي الروح والحياة البتة.
مضافا إلى ما أوردوه من وجوه الاشكال على الروايات مما سيجئ نقله في البحث الروائي الاتي.
ونقل عن أبي مسلم في تفسير الاية أنه قال ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى (عليه السلام) وأثره سنته ورسمه الذي أمر به ودرج عليه فقد يقول الرجل فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه.
وتقرير الاية على ذلك أن موسى (عليه السلام) لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الامر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال: بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئا من دينك فنبذتها أي طرحتها ولم أتمسك بها وتعبيره عن موسى بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الامير: ما قول الامير في كذا؟ ويكون إطلاق الرسول منه عليه نوعا من التهكم حيث كان كافرا مكذبا به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة: " يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " انتهى ومن المعلوم أن خوار العجل على هذا الوجه كان لسبب صناعي بخلاف الوجه السابق.
وفيه أن سياق الاية يشهد على تفرع النبذ على القبض والقبض على البصر ولازم ما ذكره تفرع النبذ على البصر والبصر على القبض فلو كان ما ذكره حقا كان من الواجب أن يقال: بصرت بما لم يبصروا به فنبذت ما قبضته من أثر الرسول أو يقال: قبضت قبضة من أثر الرسول فبصرت بما لم يبصروا به فنبذتها.
/ صفحة 197 /
وثانيا: أن لازم توجيهه أن يكون قوله تعالى: وكذلك سولت لي نفسي " إشارة إلى سبب عمل العجل وجوابا عن مسألة موسى " ما خطبك "؟ ومحصله أنه إنما سواه لتسويل من نفسه أن يضل الناس فيكون مدلول صدر الاية أنه لم يكن موحدا ومدلول ذيلها أنه لم يكن وثنيا فلا موحد ولا وثني مع أن المحكي من قول موسى بعد: " وأنظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه " الخ أنه كان وثنيا.
وثالثا: أن التعبير عن موسى وهو مخاطب بلفظ الغائب بعيد.
ويمكن أن يتصور للاية معنى آخر بناء على ما ذكره بعضهم أن أوزار الزينة التى حملوها كانت حلي ذهب من القبط أمرهم موسى أن يحملوها وكانت لموسى أو منسوبة إليه وهو المراد بأثر الرسول فالسامري يصف ما صنعه بأنه كان ذا بصيرة في أمر الصباغة والتقليب يحسن من صنعة التماثيل ما لا علم للقوم به فسولت له نفسه أن يعمل لهم تمثال عجل من ذهب فأخذ وقبض قبضة من أثر الرسول وهو الحلي من الذهب فنبذها وطرحها في النار وأخرج لهم عجلا جسدا له خوار، وكان خواره لدخول الهواء في فراغ جوفه وخروجه من فيه على ضغطة بتعبئة صناعية هذا.
ويبقى الكلام على التعبير عن موسى وهو يخاطبه بالرسول، وعلى تسمية حلي القوم أثر الرسول، وعلى تسمية عمل العجل وكان يعبده تسويلا نفسانيا.
قوله تعالى: " قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه " هذه مجازاة له من موسى (عليه السلام) بعد ثبوت الجرم.
فقوله: " قال فاذهب " قضاء بطرده عن المجتمع بحيث لا يخالط القوم ولا يمس أحدا ولا يمسه أحد بأخذ أو عطاء أو إيواء أو صحبة أو تكليم وغير ذلك من مظاهر الاجتماع الانساني وهو من أشق أنواع العذاب، وقوله: " فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس " - ومحصله أنه تقرر وحق عليك أن تعيش فردا ما دمت حيا - كناية عن تحسره المداوم من الوحدة والوحشة.
وقيل: إنه دعاء من موسى عليه وأنه ابتلي إثر دعائه بمرض عقام لا يقترب منه أحد إلا حمي حمي شديدة فكان يقول لمن اقترب منه: لا مساس، لا مساس، وقيل: ابتلي بوسواس فكان يتوحش ويفر من كل من يلقاه وينادي لا مساس، وهو وجه حسن لو صح الخبر.
/ صفحة 198 /
وقوله: " وإن لك موعدا لن تخلفه " ظاهره أنه إخبار عن هلاكه في وقت عينه الله وقضاه قضاء محتوما ويحتمل الدعاء عليه، وقيل: المراد به عذاب الاخرة.
قوله تعالى: " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا " قال في المجمع: يقال: نسف فلان الطعام إذا ذراه بالمنسف ليطير عنه قشوره.
انتهى.
وقوله: " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا " أي ظللت ودمت عليه عاكفا لازما، وفيه دلالة على أنه كان اتخذه إلها له يعبده.
وقوله: " لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا " أي أقسم لنحرقنه بالنار ثم لنذرينه في البحر ذروا، وقد استدل بحديث إحراقه على أنه كان حيوانا ذا لحم ودم ولو كان ذهبا لم يكن لاحراقه معنى، وهذا يؤيد تفسير الجمهور السابق أنه صار حيوانا ذا روح بإلقاء التراب المأخوذ من أثر جبريل.
عليه لكن الحق أنه إنما يدل على أنه لم يكن ذهبا خالصا لا غير.
وقد احتمل بعضهم أن يكون لنحرقنه من حرق الحديد إذا برده بالمبرد، والمعنى: لنبردنه بالمبرد ثم لنذرين برادته في البحر وهذا أنسب.
قوله تعالى: " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما " الظاهر أنه من تمام كلام موسى (عليه السلام) يخاطب به السامري وبني إسرائيل وقد قرر بكلامه هذا توحده تعالى في ألوهيته فلا يشاركه فيها غيره من عجل أو أي شريك مفروض، وهو بسياقه من لطيف الاستدلال فقد استدل فيه بأنه تعالى هو الله على أنه لا إله إلا هو وبذلك على أنه لا غير إلههم.
قيل: وفي قوله: " وسع كل شئ علما " دلالة على أن المعدوم يسمى شيئا لكونه معلوما وفيه مغالطة فإن مدلول الاية أن كل ما يسمى شيئا فقد وسعه علمه لا أن كل ما وسعه علمه فهو يسمى شيئا والذي ينفع المستدل هو الثاني دون الاول.
(بحث روائي) في التوحيد بإسناده إلى حمزة بن الربيع عمن ذكره قال: كنت في مجلس أبي جعفر (عليه السلام) إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تبارك وتعالى:
/ صفحة 199 /
" ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى " ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): هو العقاب يا عمرو إنه من زعم أن الله عزوجل زال من شئ إلى شئ فقد وصفه صفة مخلوق، إن الله عزوجل لا يستفزه شئ ولا يغيره.
أقول وروى ما في معناه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا.
وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إن الله تبارك وتعالى لا يقبل إلا العمل الصالح ولا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود فمن وفى لله بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل وعده إن الله تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى، وشرع لهم فيها المنار، وأخبرهم كيف يسلكون؟ فقال: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " وقال: " إنما يتقبل الله من المتقين " فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله مؤمنا بما جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي المجمع: قال أبو جعفر (عليه السلام) " ثم اهتدى " إلى ولايتنا أهل البيت فو الله لو أن رجلا عبد الله عمره ما بين الركن والمقام ثم مات ولم يجئ بولايتنا لاكبه الله في النار على وجهه " رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده وأورده العياشي في تفسيره بعدة طرق.
أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن سدير عنه (عليه السلام) وفي تفسير القمي بإسناده عن الحارث بن عمر عنه (عليه السلام) وفي مناقب ابن شهر آشوب عن أبي الجارود وأبي الصباح الكناسى عن الصادق (عليه السلام) وعن أبي حمزة عن السجاد (عليه السلام): مثله ولفظه: الينا أهل البيت.
والمراد بالولاية في الحديث ولاية أمر الناس في دينهم ودنياهم وهي المرجعية في أخذ معارف الدين وشرائعه وفي إدارة أمور المجتمع وقد كانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ينص عليه الكتاب في أمثال قوله: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ثم جعلت لعترته أهل بيته بعده في الكتاب بمثل آية الولاية وبما تواتر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من حديث الثقلين وحديث المنزله ونظائرهما.
والاية وإن وقعت بين آيات خوطب بها بنو إسرائيل وظاهرها ذلك لكنها غير مقيدة بشئ يخصها بهم ويمنع جريانها في غيرهم فهي جارية في غيرهم كما تجري فيهم
/ صفحة 200 /
أما جريانها فيهم فلان لموسى بما كان إماما في أمته كان له من سنخ هذه الولاية ما لغيره من الانبياء فعلى أمته أن يهتدوا به ويدخلوا تحت ولايته، وأما جريانها في غيرهم فلان الاية عامة غير خاصة بقوم دون قوم فهى تهدي الناس في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ولايته وبعده إلى ولاية الائمة من أهل بيته (عليهم السلام) فالولاية سنخ واحد لها معناها إلى أي من نسبت.
إذ عرفت ما تقدم ظهر لك سقوط ما ذكره الالوسي في تفسير روح المعاني فإنه بعد ما نقل رواية مجمع البيان السابقة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وأنت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الاية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى (عليه السلام) مما يستدعى القول بأنه عزوجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولايتهم إذ ذاك ولم يثبت ذلك في صحيح الاخبار انتهى موضع الحاجة من كلامه.
والذي أوقعه فيما وقع فيه تفسيره الولاية بمعنى المحبة ثم أخذه الاية خاصة ببني إسرائيل حتى استنتج المعنى الذي ذكره وليست الولاية في آياتها وأخبارها بمعنى المحبة وإنما هي ملك التدبير والتصرف في الامور الذي من شؤنه لزوم الاتباع وافتراض الطاعة وهو الذي يدعيه أئمة أهل البيت لانفسهم وأما المحبة فهي معنى توسعي للولاية بمعناها الحقيقي ومن لوازمها العادية وهي التي تدل عليه بالمطابقة أدلة مودة ذي القربى من آية أو رواية.
ولولاية أهل البيت (عليهم السلام) معنى آخر ثالث وهو أن يلي الله أمر عبده فيكون هو المدبر لاموره والمتصرف في شؤنه لاخلاصه في العبودية وهذه الولاية هي لله بالاصالة فهو الولي لا ولي غيره وإنما تنسب إلى أهل البيت (عليهم السلام) لانهم السابقون الاولون من الامة في فتح هذا الباب وهي أيضا من التوسع في النسبة كما ينسب الصراط المستقيم في كلامه تعالى إليه بالاصالة وإلى الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بنوع من التوسع.
فتلخص أن الولاية في حديث المجمع بمعنى ملك التدبير وأن الاية الكريمة عامة جارية في غير بني إسرائيل كما فيهم وانه (عليه السلام) إنما فسر الاهتداء إلى الولاية من جهة