/ صفحة 51 /
" حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب " قال ذكر لنا أنها نزلت في الذين قتل اليوم بدر.
أقول: وروى مثله عن النسائي عن ابن عباس ولفظه قال: هم أهل بدر، وسياق الآيات لا نطبق على مضمون الروايتين.
وفيه أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا لعلهز يعني الوبر بالدم فأنزل الله: " ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ".
أقول: والروايات في هذا المعنى مختلفة وما أوردناه أعدلها وهي تشير إلى جدب وقع بمكة وحواليها بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وظاهر أكثرها أنه كان بعد الهجرة، ولا يوافق ذلك الاعتبار.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولو اتبع الحق أهواءهم " قال: الحق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام).
أقول: هو من البطن بالمعنى الذي تقدم في بحث المحكم والمتشابه ونظيره ما أورده في قوله: " وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم " قال: إلى ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وكذا ما أورده في قوله: " عن الصراط لناكبون " قال: عن الامام لحادون.
وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: " أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين " يقول: أم تسألهم أجرا فأجر ربك خير.
وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: " فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " فقال " الاستكانة هي الخضوع، والتضرع رفع اليدين والتضرع بهما.
وفي المجمع وروي عن مقاتل بن حيان عن الاصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السسلام قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): رفع الايدي من الاستكانة.
قلت: وما الاستكانة؟ قال: أما تقرأ هذه الآية: " فما استكانوا لربهم وما يتضرعون "؟ أورده الثعلبي والواحدي في تفسيريهما.
وفيه قال أبو عبد الله (عليه السلام): الاستكانة الدعاء، والتضرع رفع اليدين في الصلاة.
وفي الدر المنثور أخرج العسكري في المواعظ عن علي بن أبي طالب في قوله:
/ صفحة 52 /
" وما استكانوا لربهم وما يتضرعون " أي لم يتواضعوا في الدعاء ولم يخضعوا لو خضعوا لله لاستجاب لهم.
وفي المجمع في قوله تعالى: " حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد " قال أبو جعفر (عليه السلام) هو في الرجعة.
* * *
وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون - 78.
وهو الذي ذرأكم في الارض وإليه تحشرون - 79.
وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون - 80.
بل قالوا مثل ما قال الاولون - 81.
قالواء إذا متنا وكنا ترابا وعظاماء إنا لمبعوثون - 82.
لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين - 83.
قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون - 84.
سيقولون لله قل أفلا تذكرون - 85.
قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم - 86.
سيقولون لله قل أفلا تتقون - 87.
قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون - 88.
سيقولون لله قل فأني تسحرون - 89.
بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون - 90.
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون - 91.
عالم الغيب
/ صفحة 53 /
والشهادة فتعالى عما يشركون - 92.
قل رب إما تريني ما يوعدون - 93.
رب فلا تجعلني في القوم الظالمين - 94.
وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون - 95.
إدفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون - 96.
وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين - 97.
وأعوذ بك رب أن يحضرون - 98.
(بيان) لما أوعدهم بعذاب شديد لا مرد له ولا مخلص منه، ورد عليهم كل عذر يمكنهم أن يعتذروا به، وبين أن السبب الوحيد لكفرهم الله واليوم الآخر وهو اتباع الهوى وكراهة اتباع الحق، تمم البيان بإقامة الحجة على توحده في الربوبية وعلى رجوع الخلق إليه بذكر آيات بينة لا سبيل للانكار إليها.
وعقب ذلك بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعيذ به من أن يشمله العذاب الذي أو عدوا به، وأن يعوذ به من همزات الشيطان وأن يحضروه كما فعلوا بهم.
قوله تعالى: " وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون " إفتتح سبحانه من نعمه التي أنعمها عليهم بذكر إنشاء السمع والبصر وهما نعمتان خص بهما جنس الحيوان خلقتا فيه إنشاء وإبداعا لا عن مثال سابق إذ لا توجدان في الانواع البسيطة التي قبل الحيوان كالنبات والجماد والعناصر.
وبحصول هذين الحسين يقف الوجود المجهز بهما موقفا جديدا ويتسع مجال فعاليته بالنسبة إلى ما هو محروم منهما اتساعا لا يتقدر بقدر فيدرك خيره وشره ونافعه وضاره ويعطي معهما الحركة الارادية إلى ما يريده وعما يكرهه، ويستقر في عالم حديث طري فيه مجالي الجمال واللذة والعزة والغلبة والمحة مما لا خبر عنه فيما قبله.
وإنما اقتصر من الحواس بالسمع والبصر - قيل - لان الاستدلال يتوقف عليهما ويتم بهما.
/ صفحة 54 /
ثم ذكر سبحانه الفؤاد والمراد به المبدأ الذي يعقل من الانسان وهو نعمة بالانسان من بين سائر الحيوان ومرحلة حصول الفؤاد مرحلة وجودية جديدة هي أرفع درجة وأعلى منزلة وأوسع مجالا من عالم الحيوان الذي هو عالم الحواس فيتسع به أولا شعاع عمل الحواس مما كان عليه في عامة الحيوان بما لا يتقدر بقدر فإذا الانسان يدرك بهما ما غاب وما حضر وما مضى وما غبر من أخبار الاشياء وآثارها وأوصافها بعلاج وغير علاج.
ثم يرقي بفؤادة أي بتعقله إلى ما فوق المحسوسات والجزئيات فيتعقل الكليات فيحصل القوانين الكلية، ويغور متفكرا في العلوم النظرية والمعارف الحقيقية، وينفذ بسلطان التدبر في أقطار السماوات والارض.
ففي ذلك كله من عجيب التدبير الالهي بإنشاء السمع والابصار والافئدة ما لا يسع الانسان أن يستوفي شكره.
وقوله: " قليلا ما تشكرون " فيه بعض العتاب ومعناه تشكرون شكرا قليلا فقوله: " قليلا " وصف للمفعول المطلق قائم مقامه.
قوله تعالى: " وهو الذي ذرأكم في الارض واليه تحشرون " قال الراغب: الذرأ إظهار الله تعالى ما أبداه يقال: ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم.
وقال: الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.
انتهى.
فالمعني أنه لما جعلكم ذوي حس وعقل أظهر وجودكم في الارض متعلقين بها ثم يجمعكم ويرجعكم إلى لقائه.
قوله تعالى: " وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون " معنى الآية ظاهر، وقوله: " وهو الذي يحيي ويميت " مترتب بحسب المعنى على الجملة التي قبله أي لما جعلكم ذوي علم وأظهر وجودكم في الارض إلى حين حتى تحشروا إليه لزمت ذلك سنة الاحياء والاماتة إذ العلم متوقف على الحياة والحشر متوقف على الموت.
وقوله: " وله اختلاف الليل والنهار " مترتب على ما قبله فإن الحياة ثم الموت لا تتم إلا بمرور الزمان وورود الليل بعد النهار والنهار بعد الليل حتى ينقضي العمر ويحل الاجل المكتوب هذا لو أريد باختلاف الليل والنهار وورود الواحد منها بعد الواحد، ولو أريد به اختلافهما في الطول والقصر كانت فيه إشارة إلى إيجاد فصول
/ صفحة 55 /
السنة الأربعة المتفرعة على طول الليل والنهار وقصرهما وبذلك يتم أمر أرزاق الحيوان وتدبير معاشها كما قال: " وقدر فيها أقواتها في أربعة ايام سواء للسائلين "، حم السجدة: 10.
فمضامين الآيات الثلاث مترتبة مستتبعة بعضها بعضا فإنشاء السمع والبصر والفؤاد وهو الحس والعقل للانسان يستتبع حياة متعلقة بالمادة وسكونا في الارض إلى حين، ثم الرجوع إلى الله، وهو يستتبع حياة وموتا، وذلك يستتبع عمرا متقضيا بإنقضاء الزمان ورزقا يرتزق به.
فالآيات الثلاث تتضمن الاشارة إلى دور كامل من تدبير أمر الانسان من حين يخلق إلى أن يرجع إلى ربه، والله سبحانه هو مالك خلقه فهو مالك تدبير أمره لان هذا التدبير تدبير تكويني لا يفارق الخلق والايجاد ولا ينحازعنه، وهو نظام الفعل والانفعال الجاري بين الاشياء بما بينها من الروابط المختلفة المجعولة بالتكوين فالله سبحانه هو ربهم المدبر لامرهم وإليه يحشرون، وقوله: " أفلا تعقلون " توبيخ لهم وحث على التنبه فالايمان.
قوله تعالى: " بل قالوا مثل ما قال الاولون " إضراب عن نفي سابق يدل عليه الاستفهام المتقدم أي لم يعقلوا بل قالوا كذا وكذا.
وفي تشبيه قولهم بقول الاولين إشارة إلى أن تقليد الآباء منعهم عن اتباع الحق وأوقعهم فيما لا يبقى معه للدين جدوى وهو نفي المعاد، والاخلاص إلى الارض والانغمار في الماديات سنة جارية فيهم في آخريهم وأوليهم.
قوله تعالى: " قالوا ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاماء إنا لمبعوثون " بيان لقوله: " قالوا " في الآية السابقة والكلام مبني على الاستبعاد.
قوله تعالى: " لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين " الاساطير الاباطيل والاحاديث الخرافية وهي جمع أسطورة كأكاذيب جمع أكذوبة وأعاجيب جمع أعجوبة وإطلاق الاساطير وهو جمع على البعث وهو مفرد بعناية أنه مجموع عدات كل واحد منها أسطورة كالاحياء والجمع والحشر والحساب والجنة والنار وغيرها، والاشاره بهذا إلى حديث البعث وقوله: من قبل، متعلق بقوله: " وعدنا " على ما يعطيه سياق الجملة.
/ صفحة 56 /
والمعنى: أن وعد البعث وعد قديم ليس بحديث نقسم لقد وعدناه من قبل نحن وآباؤنا ليس البعث الموعود إلا أحاديث خرافية وضعها ونظمها الاناسي الاولون في صورة إحياء الاموات وحساب الاعمال والجنة والنار والثواب والعقاب.
والدليل على كونها أساطير أن الانبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا ويخوفوننا بقيام الساعة ولو كان حقا غير خرافي لوقع.
ومن هنا يظهر أولا أن قولهم: " من قبل " لتمهيد الحجة على قولهم بعده " إن هذا إلا أساطير الاولين ".
وثانيا: أن الكلام مسوق للترقي فالآية السابقة: " ءإذا كنا ترابا وعظاماء إنا لمبعوثون " مبنية على الاستبعاد وهذه الآية متضمنة للانكار مبنيا على حجة واهية.
قوله تعالى: " قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون " لما ذكر استبعادهم للبعث ثم إنكارهم له شرع في الاحتجاج على إمكانه من طريق الملك والربوبية والسلطنة، ووجه الكلام إلى الوثنيين المنكرين للبعث وهم معترفون به تعالى بمعنى أنه الموجد للعالم ورب الارباب والآلهة المعبودون دونه من خلقه، ولذا أخذ وجوده تعالى مسلما في ضمن الحجة.
فقوله: " قل لمن الارض ومن فيها " أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم عن مالك الارض ومن فيها من أولى العقل من هو؟ ومعلوم أن السؤال إنما هو عن الملك الحقيقي الذي هو قيام وجود شئ بشئ بحيث لا يستقل الشئ المملوك عن مالكه بأي وجه فرض دون الملك الاعتباري الذي وضعناه معاشر المجتمعين لمصلحة الاجتماع وهو يقبل الصحة والفساد ويقع مورد اللبيع والشرى، وذلك لان الكلام مسوق لاثبات صحة جميع التصرفات التكوينية وملاكها الملك التكويني الحقيقي دون التشريعي الاعتباري.
قوله تعالى: " سيقولون لله قل أفلا تذكرون " إخبار عن جوابهم وهو أن الارض ومن فيها مملوكة لله، ولا مناص لهم عن الاعتراف بكونها لله سبحانه فإن هذا النوع من الملك لا يقوم إلا بالعلة الموجدة لمعلولها حيث يقوم وجود المعلول بها قياما لا يستقل عنها بوجه من الوجوه، والعلة الموجدة للارض ومن فيها هو الله سبحانه وحده لا شريك له حتى بإعتراف الوثنيين.
وقوله: " قل أفلا تذكرون " أمر بعد تسجيل الجواب أن يوبخهم على عدم
/ صفحة 57 /
تذكرهم بالحجة الدالة على إمكان البعث، والمعنى قل لهم فإذا كان الله سبحانه مالك الارض ومن فيها لم لا تتذكرون أن له - لمكان مالكيته - أن يتصرف في أهلها بالاحياء بعد الاماتة.
قوله تعالى: " قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم " أمره ثانيا أن يسألهم عن رب السماوات السبع ورب العرش العظيم من هو؟ والمراد بالعرش هو المقام الذي يجتمع فيه أزمة الامور ويصدر عنه كل تدبير، وتكرار لفظ الرب في قوله: " ورب العرش العظيم " للاشارة إلى أهمية أمره ورفعة محله كما وصفه الله بالعظمة، وقد تقدم البحث عنه في تفسير سورة الاعراف في الجزء الثامن من الكتاب.
ذكروا أن قولنا: لمن السماوات السبع وقولنا: من رب السماوات السبع بمعنى واحد كما يقال: لمن الدار ومن رب الدار فقوله تعالى: " من رب السماوات السبع؟ سؤال عن مالكها، ولذا حكي الجواب عنهم بقوله: " سيقولون لله " على المعني ولو أنه أجيب عنه فقيل: " الله " كما في القراءة الاخرى كان جوابا على اللفظ.
وفيه أن الذي ثبت في اللغة أن رب الشئ هو مالكه المدبر لامره بالتصرف فيه فيكون الربوبية أخص من الملك، ولو كان الرب مرادفا للمالك لم يستقم ترتب الجواب على السؤال في الآيتين السابقتين " قل لمن الارض ومن فيها - إلى قوله - سيقولون لله " إذ كان معنى السؤال: من رب الارض ومن فيها، ومن المعلوم أنهم كانوا قائلين بربوبية آلهتهم من دون الارض ومن فيها فكان جوابهم إثبات الربوبية لآلهتهم من غير أن يكونوا ملزمين بتصديق ذلك لله سبحانه وهذا بخلاف السؤال عن مالك الارض ومن فيها فإن الجواب عنه تصديقه لله لانهم كانوا يرون الايجاد لله والملك لازم الايجاد فكانوا ملزمين بالاعتراف به.
ثم على تقدير كون الرب أخص من المالك يمكن أن يتوهم توجه الاشكال إلى ترتب الجواب على السؤال في الآية المبحوث عنها " قل من رب السماوات السبع - إلى قوله - سيقولون لله " فإن جل الوثنيين من الصابئين وغيرهم يرون للسماوات وما فيها من الشمس والقمر وغيرهما آلهة دون الله فلو أجابوا عن السؤال عن رب السماوات
/ صفحة 58 /
أجابوا بإثبات الربوبية لآلهتهم دون الله فلا يستقيم قوله: " سيقولون لله " إذ لا ملزم يلزمهم على الاعتراف به.
والذي يحسم أصل الاشكال أن البحث العميق عن معتقدات القوم يعطي أنهم لم يكونوا يبنون آرائهم في أمر الآلهة على أصل أو أصول منظمة مسلمة عند الجميع فأمثال الصابئين والبرهمائيين والبوذيين كانوا يقسمون أمور العالم إلى أنواع وأقسام كأمر السماء والارض وأنواع الحيوان والنبات والبر والبحر وغير ذلك ويثبتون لكل منها إلها دون الله يعبدونه من دون الله ويعدونه شفيعا مقربا ثم يتخذون له صنما يمثله.
وأما عامتهم من الهمجيين كأعراب الجاهلية والقاطنين في أطراف المعمورة فلم يكن معتقداتهم في ذلك مبنية قواعد مضبوطة وربما كانوا يرون للمعمورة من الارض وسكانها آلهة دون الله لها أصنام وربما رأوا نفس الاصنام المصنوعة آلهة، وأما السماوات والسماويات وكذا البحار فكانوا يرونها مربوبة لله سبحانه والله ربها كما يلوح إليه قوله تعالى حكاية عن فرعون: " يا هامان إبن لي صرحا لعلي أبلغ الاسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى " المؤمن: 37، فإن ظاهره أنه كان يرى أن الذي يدعو إليه موسى - وهو الله تعالى - إله السماء وبالجملة السماوات وما فيهن ومن فيهن من الملائكة عندهم مربوبون لله سبحانه ثم الملائكة أرباب لما دون السماوات.
وأما الصابئون ومن يحذو حذوهم فإنهم - كما سمعت - يرون للسماوات وما فيهن من النجوم والكواكب آلهة وأربابا من دون الله وهم الملائكة والجن وهم يرون الملائكة والجن موجودات مجردة عن المادة طاهرة عن لوث الطبيعة، وحينما يعدونهم، ساكنين في السماوات فإنما يريدون باطن هذا العالم وهو العالم السماوي العلوي الذي فيه تتقدر الامور ومنه ينزل القضاء وبه تستمد الاسباب الطبيعية، وهو بما فيه من الملائكة وغيرهم مربوب لله سبحانه وإن كان من فيه آلهة للعالم الحسي وأربابا لمن فيه والله رب الارباب.
إذا تمهدت هذه المقدمة فنقول: إن كان وجه الكلام في الآية الكريمة إلى مشركي العرب كما هو الظاهر، كان السؤال عن رب السماوات السبع والجواب عنه بإعترافهم أنه الله في محله كما عرفت.
/ صفحة 59 /
وإن كان وجه الكلام إلى غيرهم ممن يري للسماء إلها دون الله كان المراد بالسماء العالم السماوي بسكنته من الملائكة والجن دون السماوات المادية، ويؤيده مقارنته بالسؤال عن رب العرش العظيم فإن العرش مقام صدور الاحكام المتعلقة بمطلق الخلق الذي منهم أربابهم وآلهتهم، ومن المعلوم أن لا رب لمقام هذا شأنه إلا الله إذ لا يفوقه شئ دونه.
وهذا العالم العلوي هو عندهم عالم الارباب والآلهة لا رب له إلا الله سبحانه فالسؤال عن ربه والجواب عنه بإعترافهم أنه الله في محله كما أشير إليه.
فمعنى الآية - والله أعلم - قل: من رب السماوات السبع التي منها تنزل أقدار الامور وأقضيتها ورب العرش العظيم الذي منه يصدر الاحكام لعامة ما في العالم من الملائكة فمن دونهم؟ فإنهم وما يملكونهم باعتقادكم مملوكة لله وهو الذي ملكهم ما ملكوه.
قوله تعالى: " سيقولون لله قل أفلا تتقون " حكاية لجوابهم بالاعتراف بأن السماوات السبع والعرش العظيم لله سبحانه.
والمعني: سيجيبونك بأنها لله قل لهم تبكيتا وتوبيخا: فإذا كان السماوات السبع منها ينزل الامر والعرش العظيم منه يصدر الامر لله سبحانه فلم لا تتقون سخطه إذ تنكرون البعث وتعدونه من أساطير الاولين وتسخرون من أنبيائه الذين وعدوكم به؟ فإن له تعالى أن يصدر الامر ببعث الاموات وإنشاء النشأة الآخرة للانسان وينزل الامر به من السماء.
وملطيف تعبير الآية التعبير بقوله: " لله " فإن الحجة تتم الملك وإن لم يعترفوا بالربوبية.
قوله تعالى: " قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون " الملكوت هو الملك بمعنى السلطنة والحكم، ويفيد مبالغة في معناه والفرق بين الملك بالفتح والكسر وبين المالك أن المالك هو الذي يملك المال والملك يملك المالك و ماله، فله ملك في طول ملك وله التصرف بالحكم في المال ومالكه.
وقد فسر تعالى ملكوته بقوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن
/ صفحة 60 /
فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83، فملكوت كل شئ هو كونه عن أمره تعالى بكلمة كن وبعبارة اخرى وجوده عن إيجاده تعالى.
فكون ملكوت كل شئ بيده كناية إستعارية عن اختصاص إيجاد كل ما يصدق عليه الشئ به تعالى كما قال: " الله خالق كل شئ " الزمر: 62، فملكه تعالى محيط بكل شئ ونفوذ أمره ومضي حكمه ثابت على كل شئ.
ولما كان من الممكن أن يتوهم أن عموم الملك ونفوذ المأمر لا ينافي إخلال بعض ما أوجده من الاسباب والعلل بأمره فيفعل ببعض خلقه ما لا يريده أو يمنعه عما يريده تمم قوله: " بيده ملكوت كل شئ " بقوله: " وهو يجير ولا يجار عليه " وهو في الحقيقة توضيح لاختصاص الملك بأنه بتمام معنى الكلمة فليس لشئ شئ من الملك في عرض ملكه ولو بالمنع والاخلال والاعتراض فله الملك وله الحكم.
وقوله: " وهو يجير ولا يجار عليه " من الجوار، وهو في أصله قرب المسكن ثم جعلوا للجوار حقا وهو حماية الجار لجاره عمن يقصده بسوء لكرامة الجار على الجار بقرب الدار واشتق منه الافعال يقال: إستجاره فأجاره أي سأله الحماية فحماه أي منع عنه من يقصده بسوء.
وهذا جاري جميع أفعاله تعالى فما من شئ يخصه الله بعطية حدوثا أو بقاء إلا وهو يحفظه على ما يريد وبمقدار ما يريد من غير أن يمنعه مانع إذ منع المانع - لو فرض - إنما هو بإذن منه ومشية فليس منعا له تعالى بل منعا منه وتحديدا لفعل منه بفعل آخر، وما من سبب من الاسباب يفعل فعلا إلا وله تعالى أن يتصرف فيه بما لا يريده لانه تعالى هو الذي ملكه الفعل بمشيته فله أن يمنعه منه أو من بعضه.
فالمراد بقوله: " وهو يجير ولا يجار عليه " أنه يمنع السوء عمن قصد به ولا يمنعه شئ إذا أراد شيئا بسوء عما أراد.
ومعنى الآية قل لهؤلاء المنكرين للبعث: من الذي يختص به إيجاد كل شئ بما له من الخواص والآثار وهو يحمي من استجار به ولا يحمي عنه شئ إذا أراد شيئا بسوء؟ إن كنتم تعلمون.
قوله تعالى: " سيقولون لله قل فأني تسحرون " قيل: إن المراد بالسحر أن يخيل الشئ للانسان على خلاف ما هو عليه فهو من الاستعارة أو الكناية.
/ صفحة 61 /
والمعنى: سيجيبونك أن الملكوت لله قل لهم تبكيتا وتوبيخا: فإلى متى يخيل لكم الحق باطلا فإذا كان الملك المطلق لله سبحانه فله أن يوجد النشأة الآخرة ويعيد الاموات للحساب والجزاء بأمر يأمره وهو قوله: " كن ".
وأعلم أن الاحتجاجات الثلاثة كما تثبت إمكان البعث كذلك تثبت توحده تعالى في الربوبية فإن الملك الحقيقي لا يتخلف عن جواز التصرفات، والمالك المتصرف هو الرب.
قوله تعالى: " بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون " إضراب عن النفي المفهوم من الحجج التي أقيمت في الآيات السابقة، والمعنى فإذا كانت الحجج المبنية تدل على البعث وهم معترفون بصحتها فليس ما وعدهم رسلنا باطلا بل جئناهم بلسا ن الرسل بالحق وإنهم لكاذبون في دعواهم كذبهم ونفيهم للبعث.
قوله تعالى: " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " الخ، القول بالولد كان شائعا بين الوثنيين يعدون الملائكة أو بعضهم وبعض الجن وبعض القديسين من البشر أولاد الله سبحانه وتبعهم النصاري في قولهم المسيح ابن الله، وهذا النوع من الولادة والبنوة مبني على إشتمال الابن على شئ من حقيقة اللاهوت وجوهره وإنفصاله منه بنوع من الاشتقاق فيكون المسمى بالابن إلها مولودا من إله.
وأما البنوة الادعائية بالتبني وهو أخذ ولد الغير ابنا لتشريف أو لغرض آخر فلا يوجب اشتمال الابن على شئ من حقيقة الاب كقول اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه، وليس الولد بهذا المعنى مرادا لان الكلام مسوق لنفي تعدد الآلهة، ولا يستلزم هذا النوع من البنوة ألوهية وإن كان التسمي والتسمية بها ممنوعا.
فالمراد باتخاذ الولد إيجاد شئ بنحو التبعض والاشتقاق يكون مشتملا بنحو على شئ من حقيقة الموجد لا تسمية شئ موجودا بنا وولدا لغرض من الاغراض كما ذكره بعضهم.
والولد - كما عرفت - اخص مصداقا عندهم من الاله فإن بعض آلهتهم ليس بولد عندهم فقوله: " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله " ترق من نفي الاخص إلى نفي الاعم ولفظة " من " في الجملتين زائدة للتأكيد.
/ صفحة 62 /
وقوله: " إذا لذهب كل إله بما خلق " حجة على نفي التعدد ببيان محذوره إذ لا يتصور تعدد الآلهة إلا ببينونتها بوجه من الوجوه بحيث لا تتحد في معنى ألوهيتها وربوبيتها، ومعنى ربوبية الآله في شطر من الكون ونوع من أنواعه تفويض التدبير فيه إليه بحيث يستقل في أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شئ غير نفسه حتى إلى من فوض إليه الامر، ومن البين أيضا أن المتباينين لا يترشح منهما إلا أمر أن متباينان.
ولازم ذلك أن يستقل كل من الآلهة بما يرجع إليه من نوع التدبير وتنقطع رابطة الاتحاد والاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم كالنظام الجاري في العالم الانساني عن الانظمة الجارية في أنواع الحيوان والنبات والبر والبحر والسهل والجبل والارض والسماء وغيرها وكل منها عن كل منها، وفيه فساد السماوات والارض وما فيهن، ووحدة النظام الكوني والتئام أجزائه وإتصال التدبير الجاري فيه يكذبه.
وهذا هو المراد بقوله: " إذا لذهب كل إله بما خلق " أي انفصل بعض الآلهة عن بعض بما يترشح منه من التدبير.
وقوله: " ولعلا بعضهم على بعض " محذور آخر لازم لتعدد الآلهة تتألف منه حجة اخرى على النفي، بيانه أن التدابير الجارية في الكون مختلفة منها التدابير العرضية كالتدبيرين الجاريين في البر والبحر والتدبيرين الجاريين في الماء والنار، ومنها التدابير الطولية التي تنقسم إلى تدبير عام كلي حاكم وتدبير خاص جزئي محكوم كتدبير العالم الارضي وتدبير النبات الذي فيه، وكتدبير العالم السماوي وتدبير كوكب من الكواكب التي في السماء، وكتدبير العالم المادي برمته وتدبير نوع من الانواع المادية.
فبعض التدبير وهو التدبير العام الكلي يعلو بعضا بمعنى أنه بحيث لو أنقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقومه بما فوقه، كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنساني ولا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص.
ولازم ذلك أن يكون الاله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير عاليا بالنسبة إلى الاله الذي فوض إليه من التدبير ما هو دونه وأخص منه وأخس واستعلاء الاله على الاله محال.
لا لان الاستعلاء المذكور يستلزم كون الاله مغلوبا لغيره أو ناقصا في قدرته
/ صفحة 63 /
محتاجا في تمامه إلى غيره أو محدودا والمحدودية تفضي إلى التركيب، وكل ذلك من لوازم الامكان المنافي لوجوب وجود الاله فيلزم الخلف - كما قرره المفسرون - فإن الوثنيين لا يرون لآلهتهم من دون الله وجوب الوجود بل هي عندهم موجودات ممكنة عالية فوض إليهم تدبير أمر ما دونها، وهي مربوبة لله سبحانه وأرباب لما دونها والله سبحانه رب الارباب وإله الآلهة وهو الواجب الوجود بالذات وحده.
بل استحالة الاستعلاء إنما هو لاستلزامه بلن استقلال المستعلى عليه في تدبيره وتأثيره إذ لا يجامع توقف التدبير على الغير والحاجة إليه الاستقلال فيكون السافل منها مستمدا في تأثيره محتاجا فيه إلى العالي فيكون سببا من الاسباب التي يتوسل بها إلى تدبير ما دونه لا إلها مستقلا بالتأثير دونه فيكون ما فرض إلها غير إله بل سببا يدبر به الامر هذا خلف.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية، وللمفسرين في تقرير حجة الآية مسالك مختلفة يبتني جميعها على استلزام تعدد الآلهة أمورا تستلزم إمكانها وتنافي كونها واجبة الوجود فيلزم الخلف، والقوم لا يقولون في شئ من آلهتهم من دون الله بوجوب الوجود، وقد أفرط بعضهم فقرر الآية بوجوده مؤلفة من مقدمات لا إشارة في الآية إلى جلها ولا إيهام، وفرط آخرون فصرحوا بأن الملازمة المذكورة في الآية عادية لا عقلية، والدليل إقناعي لا قطعي.
ثم لا يشتبهن عليك أمر قوله: " لذهب كل إله بما خلق " حيث نسب الخلقة إليها وقد تقدم أنهم قائلون بإله التدبير دون الايجاد وذلك لان بعض الخلق من التدبير فإن خلق جزئي من الجزئيات مما يتم بوجوده النظام الكلي من التدبير بالنسبة إلى النظام الجاري فالخلق بمعنى الفعل والتدبير مختلطان وقد نسب الخلق إلى أعمالنا كما في قوله: " والله خلقكم وما تعملون " الصافات: 96، وقوله: " وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون " الزخرف: 12.
فالقوم يرون أن كلا من الالهة خالق لما دونه أي فاعل له كما يفعل الواحد منا أفعاله، وأما إعطاء الوجود للاشياء فمما يختص بالله سبحانه وحده لا يرتاب فيه موحد ولا وثني إلا بعض من لم يفرق بين الفعل والايجاد من المتكلمين.
وقد ختم الآية بالتنزيه بقوله: " سبحان الله عما يصفون ".
/ صفحة 64 /
قوله تعالى: " عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون " صفة لاسم الجلالة في قوله: " سبحان الله عما يصفون " وتأخيرها للدلالة على علمه بتنزهه عن وصفهم إياه بالشركة - على ما يعليه السياق - فيكون في معنى قوله: " قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الارض سبحانه وتعالى عما يشركون " يونس: 18.
ويرجع في الحقيقة إلى الاحتجاج على نفي الشركاء بشهادته تعالى أنه لا يعلم لنفسه شريكا كما أن قوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو " آل عمران: 18 إحتجاج بالشهادة على نفي أصل الوجود.
وقيل إنه برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص وضد العلو لان المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة وهو نوع جهل وقصورة.
انتهى.
و فيه أن ذلك كسائر ما قرروه من البراهين ينفي تعدد الاله الواجب الوجود بالذات، واوثنيون لا يلتزمون في آلهتهم من دون الله بذلك.
على أن بعض مقدمات ما قرر من الدليل ممنوع.
وقوله: " فتعالى عما يشركون " تفريع على جميع ما تقدم من الحجج على نفي الشركاء.
قوله تعالى: " قل رب إما تريني ما توعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين " لما فرغ من نقل ما تفوهوا به من الشرك بالله وإنكار البعث والاستهزاء بالرسل وأقام الحجج على إثبات حقيتها رجع إلى ما تقدم من تهديدهم بالعذاب فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأله أن ينجيه من العذاب الذي أوعدهم به إن أراه ذلك العذاب.
فقوله: " قل رب إما تريني ما يوعدون " أمر بالدعاء والاستغاثة، وتكرار " رب " لتأكيد التضرع وما في قوله: " إما تريني " زائدة وهي المصححة لدخول نون التأكيد على الشرط وأصله: أن ترني.
وفي قوله: " ما يوعدون " دلالة على أن بعض ما تقدم في السورة من الايعاد بالعذاب إيعاد بعذاب دنيوي.
وما في قوله: " رب فلا تجعلني في القوم الظالمين " من الكون فيهم كناية عن شمول عذابهم له.
قوله تعالى: " وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون " تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
/ صفحة 65 /
بقدرة ربه على أن يكشف عنه بإراءته ما يعدهم من العذاب، ولعل المراد به ما عذبهم الله به يوم بدر وقد أراه الله ذلك وأراه المؤمنين وشفي به غليل صدورهم.
قوله تعالى: " إدفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون " أي إدفع السيئة التي تتوجه اليك منهم بالحسنة واختر للدفع من الحسنات أحسنها، وهو دفع السيئة بالحسنة التي هي أحسن مثل أنه لو أساؤا إليك بالايذاء أحسن إليهم بغاية ما استطعت من الاحسان ثم ببعض الاحسان في الجملة ولو لم يسعك ذلك فبالصفح عنهم.
وقوله: " نحن أعلم بما يصفون " نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يسوءنه ما يلقاه ولا يحزنه ما يشاهد من تجريهم على ربهم فإنه أعلم بما يصفون.
قوله تعالى: " وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون "، قال في مجمع البيان: الهمزة شدة الدفع، ومنه الهمزة للحرف الذي يخرج من أقصى الحلق بإعتماد شديد ودفع، وهمزة الشيطان دفعه بالاغواء إلى المعاصي انتهى.
وفي تفسير القمي عنه (عليه السلام): أنه ما يقع في قلبك من وسوسه الشياطين.
وفي الآيتين أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعيذ بربه من إغواء الشياطين ومن أن يحضروه، وفيه إيهام إلى أن ما ابتلي به المشركون من الشرك والتكذيب من همزات الشياطين وإحاطتهم بهم بالحضور.
* * *
حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون - 99.
لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنهاكلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون - 100.
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون - 101.
فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون - 102.
ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا
/ صفحة 66 /
أنفسهم في جهنم خالدون - 103.
تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون - 104.
ألم تكن آياتي تتلي عليكم فكنتم بها تكذبون - 105.
قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين - 106.
ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون - 107.
قال اخسؤا فيها ولا تكلمون - 108.
إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وأرحمنا وأنت خير الراحمين - 109.
فأتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون - 110.
إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون - 111.
قال كم لبثتم في الارض عدد سنين - 112.
قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فأسئل العادين - 113.
قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون - 114.
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون - 115.
فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم - 116.
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون - 117.
وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين - 118.
(بيان) الآيات تفصل القول في عذاب الآخرة التي أوعدهم الله بها في طي الآيات السابقة وهو من يوم الموت إلى يوم البعث ثم إلى الابد، وتذكر أن الحياة الدنيا التي غرتهم
/ صفحة 67 /
وصرفتهم عن الآخرة قليلة لو كانوا يعلمون.
ثم تختم السورة بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تسأله ما حكاه عن عباده المؤمنين الفائزين في الآخرة " رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " وقد افتتحت السورة بأنهم مفلحون وارثون للجنة.
قوله تعالى: " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب رجعون " " حتى " متعلق بما تقدم من وصفهم له تعالى بما هو منزه منه وشركهم به، والآيات المتخللة إعتراض في الكلام أي لا يزالون يشركون به ويصفونه بما هو منزه منه وهم مغترون بما نمدهم به من مال وبنين حتى إذا جاء أحدهم الموت.
وقوله: " قال رب ارجعون " الظاهر أن الخطاب للملائكة المتصدين لقبض روحه و " رب " استغاثة معترضة بحذف حرف النداء والمعنى قال - وهو يستغيث بربه - ارجعون.
وقيل: إن الخطاب للرب تعالى والجمع للتعظيم كقول إمرأة فرعون له على ما حكاه الله: " قرة عين لي ولك لا تقتلوه ".
وقيل: هو من جمع الفعل ويفيد تعدد الخطاب، والمعنى رب ارجعني ارجعني ارجعني كما قيل في قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوي بين الدخول فحومل أي قف قف نبك.
وفي الوجهين أن الجمع للتعظيم إن صح ثبوته في اللغة العربية فهو شاذ لا يحمل عليه كلامه تعالى، وأشد منه جمع الفعل بالمعني الذي ذكر.
قوله تعالى: " لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها " " لعل " للترجي وهو رجاء تعلقوا به بمعاينة العذاب المشرف عليهم كما ربما ذكروا الرجوع بوعد العمل الصالح كقولهم: " فأرجعنا نعمل صالحا " السجدة: 12، وربما ذكروه بلفظ التمني كقولهم: " يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا " الانعام: 27.
وقوله: " أعمل صالحا فيما تركت " أي أعمل عملا صالحا فيما تركت من المال بإنفاقه في البر والاحسان وكل ما فيه رضي الله سبحانه.
وقيل: المراد بما تركت الدنيا التي تركها بالموت والعمل الصالح أعم من العبادات المالية وغيرها من صلاة وصوم وحج ونحوها، وهو حسن غير أن الاول هو الاظهر.
/ صفحة 68 /
وقوله: " كلا إنها كلمة هو قائلها " أي لا يرجع إلى الدنيا إن هذه الكمة " إرجعوني لعلي أعمل صالحا فيما تركت " كلمة هو قائلها أي لا أثر لها إلا أنها كلمة هو قائلها، فهو كناية عن عدم إجابة مسألته.
قوله تعالى: " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " البرزخ هو الحاجز بين الشيئين كما في قوله: " بينهما برزخ لا يبغيان " الرحمان: 20، والمراد بكونه وراءهم كونه أمامهم محيطا بهم وسمي وراءهم بعناية أنه يطلبهم كما أن مستقبل الزمان أمام الانسان ويقال: وراءك يوم كذا بعناية أن الزمان يطلب الانسان ليمر عليه وهذا معنى قول بعضهم: إن في " وراء " معنى الاحاطة، قال تعالى: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا " الكهف: 79.
والمراد بهذا البرزخ عالم القبر وهو عالم المثال الذي يعيش فيه الانسان بعد موته إلى قيام الساعة على ما يعطيه السياق وتدل عليه آيات أخر وتكاثرت فيه الروايات من طرق الشيعة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) وكذا من طرق أهل السنة، وقد تقدم البحث عنه في الجزء الاول من الكتاب.
وقيل: المراد بالآية أن بينهم وبين الدنيا حاجزا يمنعهم من الرجوع إليها إلى يوم القيامة ومعلوم أن لا رجوع بعد القيامة ففيه تأكيد لعدم رجوعهم وأيآس لهم من الرجوع إليها من أصله.
وفيه أن ظاهر السياق الدلالة على استقرار الحاجز بين الدنيا وبين يوم يبعثون لا بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا، ولو كان المراد أن الموت حاجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا لغى التقييد بقوله: " إلى يوم يبعثون " لا لدلالته من طريق المفهوم على رجوعهم بعد البعث إلى الدنيا ولا رجوع بعد البعث بل للغوية أصل التقييد وإن فرض أنهم كانوا يعلمون من الخارج أو من آيات سابقة أن لا رجوع بعد القيامة.
على أن قولهم: إنه تأكيد لعدم الرجوع بإيآسهم من الرجوع مطلقا مع قولهم بأن عدم الرجوع بعد القيامة معلوم من خارج كالمتهافتين بل يرجع المعنى إلى تأكيد نفي الرجوع مطلقا المفهوم من " كلا " بنفي الرجوع الموقت المحدود بقوله: " إلى يوم يبعثون " فافهمه.
قوله تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " المراد به
/ صفحة 69 /
النفخة الثانية التي تحيا فيها الاموات دون النفخة الاولى التي تموت فيها الاحياء كما قاله بعضهم لكون ما يترتب عليها من انتفاء الانساب والتساؤل وثقل الميزان وخفته إلى غير ذلك من آثار النفخة الثانية.
وقوله: " فلا أنساب بينهم " نفي لآثار الانساب بنفي أصلها فإن الذي يستوجب حفظ الانساب واعتبارها هي الحوائج الدنيوية التي تدعو الانسان إلى الحياة الاجتماعية التي تبتني على تكون البيت، والمجتمع المنزلي يستعقب التعارف والتعاطف وأقسام التعاون والتعاضد وسائر الاسباب التي تدوم بها العيشة الدنيوية ويوم القيامة ظرف جزاء الاعمال وسقوط الاسباب التي منها الاعمال فلا موطن فيه للاسباب الدنيوية التي منها الانساب بلوازمها وخواصها وآثارها.
وقوله: " ولا يتساءلون " ذكر لاظهر آثار الانساب، وهو التساؤل بين المنتسبين بسؤال بعضهم عن حال بعض، للاعانة والاستعانة في الحوائج لجلب المنافع ودفع المضار.
ولا ينافي الآية ما وقع في مواضع أخر من قوله تعالى: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " الصافات: 27، فإنه حكاية تساؤل أهل الجنة بعد دخولها وتساؤل أهل النار بعد دخولها وهذه الآية تنفي التساؤل في ظرف الحساب والقضاء.
قوله تعالى: " فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون " إى آخر الآيتين.
الموازين جمع الميزان أو جمع الموزون وهو العمل الذي يوزن يومئذ، وقد تقدم الكلام في معنى الميزان وثقله وخفته في تفسير سورة الاعراف.
قوله تعالى: " تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون " قال في المجمع: اللفح والنفح بمعنى إلا أن اللفح أشد تأثيرا وأعظم من النفح، وهو ضرب من السموم للوجه والنفح ضرب الريح الوجه، والكلوح تقلص الشفتين عن الاسنان حتى تبدو الاسنان.
انتهى.
والمعنى: يصيب وجوههم لهب النار حتى تتقلص شفاههم وتنكشف عن أسنانهم كالرؤس المشوية.
قوله تعالى: " ألم تكن آياتي تتلى عليكم " الخ أي يقال لهم: ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون.
/ صفحة 70 /
قوله تعالى: " قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين " الشقوة والشقاوة والشقاء خلاف السعادة، وعادة الشئ ما يختص به من الخير، وشقاوته فقد ذلك وإن شئت فقل: ما يختص به من الشر.
وقوله: " غلبت علينا شقوتنا " أي قهرنا واستولت علينا شقوتنا، وفي إضافة الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أن لهم صنعا في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم، والدليل عليه قولهم بعد: " ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " إذ هو وعد منهم بالحسنات ولو لم يكن لها ارتباط باكتسابهم الاختياري لم يكن الوعد معنى لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبل الخروج.
وقد عدوا أنفسهم مغلوبة للشقوة فقد أخذوها ساذجة في ذواتها صالحة للحقوق السعادة والشقاوة غير أن الشقوة غلبت فأشغلت المحل وكانت الشقوة شقوة أنفسهم أي شقوة لازمة لسوء اختيارهم وسيآت أعمالهم لانهم فرضوا أنفسهم خالية عن السعادة والشقوة لذاتها فانتساب الشقوة إلى أنفسهم وارتباطها بها إنما هي من جهة سوء اختيارهم وسيئات أعمالهم.
وبالجملة هو اعتراف منهم بتمام الحجة ولحوق الشقوة على ما يشهد به وقوع الآية بعد قوله: " ألم تكن آياتي تتلى عليكم " الخ.
ثم عقبوا قولهم: " غلبت علينا شقوتنا " بقولهم: " وكنا قوما ضالين " تأكيدا لاعترافهم، وإنما اعترفوا بالذنب ليتوسلوا به إلى التخلص من العذاب والرجوع إلى الدنيا لكسب السعادة فقد شاهدوا في الدنيا أن اعتراف العاصي المتمرد بذنبه وظلمه توبة منه مطهرة له تنجيه من تبعة الذنب وهم يعلمون أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل والتوبة والاعتراف بالذنب من الاعمال لكن ذلك من قبيل ظهور الملكات كما أنهم يكذبون يومئذ وينكرون أشياء مع ظهور الحق ومعاينته لاستقرار ملكة الكذب والانكار في نفوسهم، قال تعالى: " يوم يبعثهم الله جميعا يحلفون له كما يحلفون لكم " المجادلة: 18.
وقال: " ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا " المؤمن: 74.
قوله تعالى: " ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " سؤال منهم للرجوع إلى الدنيا على ما تدل عليه آيات أخر فهو من قبيل طلب المسبب بطلب سببه،
/ صفحة 71 /
ومرادهم أن يعملوا صالحا بعد ما تابوا بالاعتراف المذكور فيكونوا بذلك ممن تاب وعمل صالحا.
قوله تعالى: " قالوا اخسئوا فيها ولا تكلمون " قال الراغب: خسات الكلب فخسأ أي زجرته مستهينا به فانزجر وذلك إذا قلت له: اخسأ انتهى.
ففي الكلام استعارة بالكناية، المراد زجرهم بالتباعد وقطع الكلام.
قوله تعالى: " إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الراحمين " هؤلاء هم المؤمنون في الدنيا وكان إيمانهم توبة ورجوعا إلى الله كما سماه الله في كلامه توبة، وكان سؤالهم شمول الرحمة - وهي الرحمة الخاصة بالمؤمنين البتة سؤالا منهم أن يوفقهم للسعادة فيعملوا صالحا فيدخلوا الجنة، وقد توسلوا إليه بإسمه خير الراحمين.
فكان ما قاله المؤمنون في الدنيا معناه التوبة وسؤال الفوز بالسعادة وذلك عين ما قاله هؤلاء مما معناه التوبة وسؤال الفوز بالسعادة وإنما الفرق بينهما من حيث الموقف.
قوله تعالى: " فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ضمائر الخطاب للكفار وضمائر الغيبة للمؤمنين، والسياق يشهد أن المراد من " ذكرى " قول المؤمنين: " ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا " الخ، وهو معنى قول الكفار في النار.
وقوله: " حتى أنسوكم ذكري " أي أنسى اشتغالكم بسخرية المؤمنين والضحك منهم ذكري، ففي نسبة الانساء إلى المؤمنين دون سخريتهم إشارة إلى أنه لم يكن للمؤمنين عندهم شأن من الشؤون إلا أن يتخذوهم سخريا.
قوله تعالى: " إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون " المراد باليوم يوم الجزاء، ومتعلق الصبر معلوم من السياق محذوف للايجاز أي صبروا على ذكري مع سخريتكم منهم لاجله، وقوله: " أنهم هم الفائزون " مسوق للحصر أي هم الفائزون دونكم.
وهذه الآيات الاربع " قال اخسئوا - إلى قوله - هم الفائزون " إيآس قطعي للكفار من الفوز بسبب ما تعلقوا به من الاعتراف بالذنب وسؤال الرجوع إلى الدنيا ومحصلها أن اقنطوا مما تطلبونه بهذا القول وهو الاعتراف والسؤال فإنه عمل إنما كان ينفع في دار العمل وهي الدنيا، وقد كان المؤمنون من عبادي يتخذونه وسيلة إلى
/ صفحة 72 /
الفوز وكنتم تسخرون وتضحكون منهم حتى تركتموه وبدلتموه من سخريتهم حتى إذا كان اليوم وهو يوم جزاء لا يوم عمل فازوا بجزاء ما عملوا يوم العمل وبقيتم صفر الاكف تريدون أن تتوسلوا بالعمل اليوم وهو يوم الجزاء دون العمل.
قوله تعالى: " قال كم لبثتم في الارض عدد سنين " مما يسأل الله الناس عنه يوم القيامة مدة لبثهم في الارض وقد ذكر في مواضع من كلامه والمراد به السؤال عن مدة لبثهم في القبور كما يدل عليه قوله تعالى: " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة " الروم: 55، وقوله: " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " الاحقاف: 35 وغيرهما من الآيات، فلا محل لقول بعضهم: إن المراد به المكث في الدنيا، واحتمال بعضهم أنه مجموع اللبث في الدنيا والبرزخ.
قوله تعالى: " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فأسال العادين " ظاهر السياق أن المراد باليوم هو الواحد من أيام الدنيا وقد استقلوا اللبث في الارض حينما قايسوه بالبقاء إلابدي الذي يلوح لهم يوم القيامة ويعاينونه.
ويؤيده ما وقع في موضع آخر من تقديرهم ذلك بالساعة، وفي موضع آخر بعشية أو ضحاها.
وقوله: " فاسأل العادين " أي نحن لا نحسن إحصاءها فاسأل الذين يعدونه وفسر بالملائكة العادين للايام وليس ببعيد.
قوله تعالى: " قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون " القائل هو الله سبحانه، وفي الكلام تصديق لهم في استقلالهم المكث في القبور وفيه توطئة لما يلحق به من قوله: " لو أنكم كنتم تعلمون " بما فيه من التمني.
والمعنى: قال الله: الامر كما قلتم فما مكثتم إلا قليلا فليتكم كنتم تعلمون في الدنيا أنكم لا تلبثون في قبوركم إلا قليلا ثم تبعثون حتى لا تنكروا البعث ولم تبتلوا بهذا العذاب الخالد، والتمني في كلامه تعالى كالترجي راجع إلى المخاطب أو المقام.
وجعل بعضهم " لو " في الآية شرطية والجملة شرطا محذوف الجزاء وتكلف في تصحيح الكلام بما لا يرتضيه الذوق السليم وهو بعيد عن السياق كما هو ظاهر وأبعد منه جعل " لو " وصلية مع أن " لو " الوصلية لا تجئ بغير وأو العطف.
قوله تعالى: " أفحسبتم انما خلقناكم عبثا - إلى قوله - رب العرش الكريم -
/ صفحة 73 /
بعد ما بين ما سيستقبلهم من أحوال الموت ثم اللبث في البرزخ ثم البعث بما فيه من الحساب والجزاء وبخهم على حسبانهم أنهم لا يبعثون فإن فيه جرأة على الله بنسبة العبث إليه ثم أشار إلى برهان العبث.
فقوله: " أفحسبتم " الخ، معناه فإذا كان الامر على ما أخبرناكم من تحسركم عند معاينة الموت ثم اللبث في القبور ثم البعث فالحساب والجزاء فهل تظنون إنما خلقناكم عبثا تحيون وتموتون من غير غاية باقية في خلقكم وأنكم إلينا لا ترجعون؟ وقوله: " فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم " إشارة إلى برهان يثبت البعث ويدفع قولهم بالنفي، في صورة التنزيه، فإنه تعالى وصف نفسه في كلمة التنزيه بالاوصاف الاربعة: أنه ملك وأنه حق وأنه لا إله إلا هو وأنه رب العرش الكريم.
فله أن يحكم بما شاء من بدء وعود وحياة وموت ورزق نافذا حكمه ماضيا أمره لملكه، وما يصدر عنه من حكم فإنه لا يكون إلا حقا فإنه حق ولا يصدر عن الحق بما هو حق إلا حق دون أن يكون عبثا باطلا ثم لما أمكن أن يتصور أن معه مصدر حكم آخر يحكم بما يبطل به حكمه وصفه بأنه لا إله - أي لا معبود - إلا هو، والاله معبود لربوبيتة فإذا لا إله غيره فهو رب العرش الكريم - عرش العالم - الذي هو مجتمع أزمة الامور ومنه يصدر الاحكام والاوامر الجارية فيه.
فتلخص أنه هو الذي يصدر عنه كل حكم ويوجد منه كل شئ ولا يحكم إلا بحق ولا يفعل إلا حقا فللاشياء رجوع إليه وبقاء به وإلا لكانت عبثا باطلة ولا عبث في الخلق ولا باطل في الصنع.
والدليل على اتصافه بالاوصاف الاربعة كونه تعالى هو الله الموجود لذاته الموجد لغيره.
قوله تعالى: " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون "، المراد من دعاء إله آخر مع الله دعاؤه مع وجوده تعالى لا دعاؤه تعالى ودعاء إله آخر معا فإن المشركين جلهم أو كلهم لا يدعون الله تعالى وإنما يدعون ما أثبتوه من الشركاء، ويمكن أن يكون المراد بالدعاء الاثبات فإن إثبات إله آخر لا ينفك عن دعائه.
/ صفحة 74 /
وقوله: " لا برهان له به " قيد توضيحي لا له آخر إذ لا إله آخر يكون به برهان بل البرهان قائم على نفي الاله الآخر مطلقا.
وقوله: " فإنما حسابه عند ربه " كلمة تهديد وفيه قصر حسابه بكونه عند ربه لا يداخله أحد فيما اقتضاه حسابه من جزاء - وهو النار كما صرحت به الآيات السابقة - فإنه يصيبه لا محالة، ومرجعه إلى نفي الشفعاء والايآس من أسباب النجاة وتممه بقوله: " إنه لا يفلح الكافرون ".
قوله تعالى: " وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " خاتمة السورة وقد أمر فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول ما حكاه عن عباده المؤمنين أنهم يقولونه في الدنيا وأن جزاء ذلك هو الفوز يوم القيامة: " إنه كان فريق من عبادي يقولون " الخ، الآيتان 109 و 111 من السورة.
وبذلك يختتم الكلام بما افتتح به في أول السورة: " قد أفلح المؤمنون " وقد تقدم الكلام في معنى الآية.
(بحث روائي) في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): من منع قيراطا من الزكاة فليس بمؤمن ولا مسلم، وهو قوله تعالى: " رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ".
أقول: وروي هذا المعني بطرق أخر غيرها عنه (عليه السلام) وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد به انطباق الآية على مانع الزكاة لا نزولها فيه.
وفي تفسير القمي: قوله عزوجل: " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " قال: البرزخ هو أمر بين أمرين وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة، وهو قول الصادق (عليه السلام): والله ما أخاف عليكم إلا البرزخ وأما إذا صار الامر إلينا فنحن أولى بكم.
أقول: وروي الذيل في الكافي بإسناده عن عمر بن يزيد عنه (عليه السلام).
وفيه قال على بن الحسين (عليه السلام): إن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
/ صفحة 75 /
وفي الكافي بإسناده عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش.
فقال: لا.
المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كابدانهم.
وفيه بإسناده عن أبي بصير قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها ويقولون: ربنا أقم الساعة لنا، وأنجز لنا ما وعدتنا، وألحق آخرنا بأولنا.
وفيه بإسناده أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الارواح في صفة الاجساد في شجرة في الجنة تتعارف وتتسأل فإذا قدمت الروح على الارواح تقول: دعوها فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان؟ وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، وإن قالت لهم قد هلك، قالوا: قد هوى قد هوى.
أقول: أخبار البرزخ وتفاصيل ما يجري على المؤمنين وغيرهم فيه كثيرة متواترة، وقد مر شطر منها في أبحاث متفرقة مما تقدم.
في مجمع البيان وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كل حسب ونسب منقطع يوم القيامة إلا حسبي ونسبي.
أقول: كأن الرواية من طريق الجماعة، وقد رواها في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن المسور بن مخرمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولفظها: أن الانساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري، وعن عدة منهم عن عمر بن الخطاب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولفظها: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وعن ابن عساكر عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولفظها: كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري.
وفي المناقب في حديث طاووس عن زين العابدين (عليه السلام): خلق الله الجنة لمن أطاع وأحسن ولو كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولدا قرشيا أما سمعت قول الله تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون " والله لا ينفعك غدا إلا تقديمة تقدمها من عمل صالح.
/ صفحة 76 /
أقول: سياق الآية كالابي عن التخصيص ولعل من آثار نسبه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوفق ذريته من صالح العمل بما ينتفع به يوم القيامة.
وفي تفسير القمي وقوله عزوجل: " تلفح وجوههم النار قال: تلهب عليهم فتحرقهم وهم فيها كالحون " أي مفتوحي الفم متربدي الوجوه وفي التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: " ربنا غلبت علينا شقوتنا " قال: بأعمالهم شقوا.
وفي العلل بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمد (عليه السلام): يا أبا عبد الله إنا خلقنا للعجب.
قال: وما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء.
قال: مه يا إبن أخ خلقنا للبقاء وكيف تفني جنة لا تبيد ونار لا تخمد؟ ولكن إنما نتحول من دار إلى دار.
وفي تفسير القمي قوله تعالى: " قال كم لبثتم - إلى قوله - فاسأل العادين " قال: سل الملائكة الذين يعدون علينا الايام، ويكتبون ساعاتنا وأعمالنا التي اكتسبنا فيها.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن عبد الكلاعي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال لاهل الجنة كم لبثتم في الارض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم.
قال: لنعم ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي اسكنوا فيها خالدين مخلدين.
ثم يقول: يا أهل النار كم لبثتم في الارض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول: بئس ما أتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين.
أقول: وفي انطباق معنى الحديث على الآية بما لها من السياق وبما يشهد به الآيات النظائر خفاء، وقد تقدم البحث عن مدلول الآية مستمدا من الشواهد.
/ صفحة 77 /
(سورة النور مدنية، وهي أربع وستون آية) بسم الله الرحمن الرحيم.
سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون - 1.
الزأنية والزأني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين - 2.
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين - 3.
- والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون - 4.
- إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم - 5.
والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين - 6.
والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين - 7.
ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين - 8.
- والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين - 9.
ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم - 10.
/ صفحة 78 /
(بيان) غرض السورة ما ينبئ عنه مفتتحها " سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " فهي تذكرة نبذة من الاحكام المفروضة المشرعة ثم جملة من المعارف الالهية تناسبها ويتذكر بها المؤمنون.
وهي سورة مدنية بلا خلاف وسياق آياتها يشهد بذلك ومن غرر الآيات فيها آية النور.
قوله تعالى: " سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " السورة طائفة من الكلام يجمعها غرض واحد سيقت لاجله ولذا اعتبرت تارة نفس الآيات بما لها من المعاني فقيل: " فرضناها "، وتارة ظرفا لبعض الآيات ظرفية المجموع للبعض فقيل أنزلنا فيها آيات بينات " وهي مما وضعه القرآن وسمي به طائفة خاصة من آياته وتكرر استعمالها في كلامه تعالى، وكأنه مأخوذ من سور البلد وهو الحائط الذي يحيط به سميت به سورة القرآن لاحاطتها بما فيها من الايات أو بالغرض الذي سيقت له.
وقال الراغب: الفرض قطع الشئ الصلب والتأثير فيه كفرض الحديد وفرض الزند والقوس.
قال: والفرض كالايجاب لكن الايجاب يقال اعتبارا بوقوعه وثباته، والفرض بقطع الحكم فيه، قال تعالى: " سورة أنزلناها وفرضناها " أي أوجبنا العمل بها عليك.
قال: وكل موضع ورد " فرض الله عليه " ففي الايجاب الذي أدخله الله فيه، وما ورد " فرض الله له " فهو في أن لا يحظره على نفسه نحو " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له ".
انتهى.
فقوله: " سورة أنزلناها وفرضناها " أي هذه سورة أنزلناها وأوجبنا العمل بما فيها من الاحكام فالعمل بالحكم الايجابي هو الاتيان به وبالحكم التحريمي الانتهاء عنه.
وقوله: " وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون " المراد بها - بشهادة السياق - آية النور وما يتلوها من الآيات المبينة لحقيقة الايمان والكفر والتوحيد والشرك المذكر لهذه المعارف الالهية.
قوله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة الآية، الزنا
/ صفحة 79 /
المواقعة من غير عقد أو شبهة عقد أو ملك يمين، والجلد هو الضرب بالسوط والرأفة التحنن والتعطف وقيل: هي رحمة في توجع، والطائفة في الاصل هي الجماعة كانوا يطوفون بالارتحال من مكان إلى مكان قيل: وربما تطلق على الاثنين وعلى الواحد.
وقوله: " الزانية والزاني " الخ، أي المرأة والرجل اللذان تحقق منهما الزنا فاضربوا كل واحد منهما مائة سوط، وهو حد الزنا بنص الآية غير أنها مخصصة بصور: منها أن يكونا محصنين ذوي زوج أو يكون أحدهما محصنا فالرجم ومنها أن يكونا غير حرين أو أحدهما رقا فنصف الحد.
قيل: وقدمت الزانية في الذكر على الزاني لان الزنا منهن أشنع ولكون الشهوة فيهن أقوى وأكثر والخطاب في الامر بالجلد متوجه إلى عامة المسلمين فيقوم بمن قام بأمرهم من ذوي الولاية من النبي والامام ومن ينوب منا به.
وقوله: " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " الخ، النهي عن الرأفة من قبيل النهي عن المسبب بالنهي عن سببه إذ الرأفة بمن يستحق نوعا من العذاب توجب التساهل في إذاقته ما يستحقه من العذاب بالتخفيف فيه وربما أدى إلى تركه، ولذا قيده بقوله: " في دين الله " أي حال كون الرأفة أي المساهلة من جهتها في دين الله وشريعته.
وقيل: المراد بدين الله حكم الله كما في قوله تعالى: " ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك " يوسف: 76 أي في حكمه أي لا تأخذكم هما رأفة في إنفاذ حكم الله وإقامة حده.
وقوله: " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " أي إن كنتم كذا وكذا فلا تأخذكم بهما رأفة ولا تساهلوا في أمرهما وفيه تأكيد للنهي.
وقوله: " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " أي وليحضر ولينظر إلى ذلك جماعة منهم ليعتبروا بذلك فلا يقتربوا الفاحشة.
قوله تعالى: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " ظاهر الآية وخاصة بالنظر إلى سياق ذيلها المرتبط بصدرها أن الذي تشمل عليه حكم تشريعي تحريمي وإن كان صدرها واردا في صورة الخبر فإن المراد النهي تأكيدا للطلب وهو شائع.
والمحصل من معناها بتفسير من السنة من طرق ائمة أهل البيت (عليهم السلام) أن
/ صفحة 80 /
الزاني إذا اشتهر منه الزنا وأقيم عليه الحد ولم تتبين منه التوبة يحرم عليه نكاح غير الزانية والمشركة، والزانية إذا اشتهر منها الزنا وأقيم عليه الحد ولم تتبين منه التوبة يحرم أن ينكحها إلا زان أو مشرك.
فالآية محكمة باقية على إحكامها من غير نسخ ولا تأويل، وتقييدها بإقامة الحد وتبين التوبة مما يمكن أن يستفاد من والسياق فإن وقوع الحكم بتحريم النكاح بعد الامر بإقامة الحد يلوح إلى أن المراد به الزاني والزانية المجلودان، وكذا إطلاق الزاني والزانية على من ابتلي بذلك ثم تاب توبة نصوحا وتبين منه ذلك، بعيد من دأب القرآن وأدبه.
وللمفسرين في معنى الآية تشاجرات طويلة وأقوال شتى: منها: أن الكلام مسوق للاخبار عما من شأن مرتكبي هذه الفاحشة أن يقصدوه وذلك أن من خبثت فطرته لا يميل إلا إلى من يشابهه في الخباثة ويجانسه في الفساد والزاني لا يميل إلا إلى الزانية المشاركة لها في الفحشاء ومن هو أفسد منها وهي المشركة، والزانية كذلك لا تميل إلا إلى مثلها وهو الزاني ومن هو أفسد منه وهو المشرك فالحكم وارد مورد الاعم الاغلب كما قيل في قوله تعالى: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات " الآية 26 من السورة.
ومنها: أن المراد بالآية التقبيح، والمعنى: أن اللائق بحال الزاني أن لا ينكح إلا زانية أو من هي دونها وهي المشركة واللائق بحال الزانية أن لا ينكحها إلا زان أو من هو دونه وهو المشرك، والمراد بالنكاح العقد، وقوله: " وحرم ذلك على المؤمنين " معطوف على أول الآية، والمراد وحرم الزنا على المؤمنين.
وفيه وفي سابقه مخالفتهما لسياق الآية وخاصة اتصال ذيلها بصدرها كما تقدمت الاشارة إليه.
ومنها: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: " وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ".
وفيه أن النسبة بين الآيتين نسبة العموم والخصوص والعام الوارد بعد الخاص لا ينسخه خلافا لمن قال به نعم ربما أمكن أن يستفاد النسخ من قوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك
/ صفحة 81 /
يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه " البقرة: 221، بدعوي أن الآية وإن كانت من العموم بعد الخصوص لكن لسانها آب عن التخصيص فتكون ناسخة بالنسبة إلى جواز النكاح بين المؤمن والمؤمنة والمشرك والمشركة، وقد إدعى بعضهم أن نكاح الكافر للمسلمة كان جائزا إلى سنة ست من الهجرة ثم نزل التحريم فلعل الآية التي نحن فيها نزلت قبل ذلك، ونزلت آية التحريم بعدها وفي الآية أقوال أخر تركنا إيرادها لظهور فسادها.
قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " الخ الرمي معروف ثم استعير لنسبة أمر غير مرضي إلى الانسان كالزنا والسرقة وهو القذف، والسياق يشهد أن المراد به نسبة الزنا إلى المرأة المحصنة لعفيفة، والمراد بالاتيان بأربعة شهداء وهم شهود الزنا إقامة الشهادة لاثبات ما قذف به، وقد أمر الله تعالى بإقامة الحد عليهم إن لم يقيموا الشهادة، وحكم بفسقهم وعدم قبول شهادتهم أبدا.
والمعنى: والذين يقذفون المحصنات من النساء بالزنا ثم لم يقيموا أربعة من الشهود على صدقهم في قذفهم فاجلدوهم ثمانين جلدة على قذفهم وهم فاسقون لا تقبلوا شهادتهم على شئ أبدا.
والآية كما ترى مطلقة تشمل من القاذف الذكر والانثى والحر والعبد، وبذلك تفسرها روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
قوله تعالى: " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " الاستثناء راجع إلى الجملة الاخيرة وهي قوله: " واولئك هم الفاسقون " لكنها لما كانت تفيد معنى التعليل بالنسبة إلى قوله: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " - على ما يعطيه السياق - كان لازم ما تفيده من ارتفاع الحكم بالفسق ارتفاع الحكم بعدم قبول الشهادة أبدا، ولازم ذلك رجوع الاستثناء بحسب المعنى إلى الجملتين معا.
والمعنى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا أعمالهم فإن الله غفور رحيم يغفر ذنبهم ويرحمهم فيرتفع عنهم الحكم بالفسق والحكم بعدم قبول شهادتهم أبدا.
وذكر بعضهم: أن الاستثناء راجع إلى الجملة الاخيرة فحسب فلو تاب القاذف
/ صفحة 82 /
وأصلح بعد أقامة الحد عليه غفر له ذنبه لكن لا تقبل شهادته أبدا خلافا لمن قال برجوع الاستثناء إلى الجملتين معا.
والظاهر أن خلافهم هذا مبني على المسألة الاصولية المعنونة بأن الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعددة هل يتعلق بالجميع أو بالجملة الاخيرة والحق في المسألة أن الاستثنا في نفسه صالح للامرين جميعا وتعين أحدهما منوطبما تقتضيه قرائن الكلام، والذي يعطيه السياق في الآية التي نحن فيها تعلق الاستثناء بالجملة الاخيرة غير أن إفأدتها للتعليل تستلزم تقيد الجملة السابقة أيضا بمعناه كالاخيرة على ما تقدم.
قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم - إلى قوله - من الكاذبين " أي لم يكن لهم شهداء يشهدون ما شهدوا فيتحملوا الشهادة ثم يؤدوها إلا أنفسهم، وقوله: " فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله " أي شهادة أحدهم يعني القاذف وهو واحد أربع شهادات متعلقة بالله إنه لمن الصادقين فيما يخبر به من القذف.
ومعنى الآيتين: والذين يقذفون أزواجهم ولم يكن لهم أربعة من الشهداء يشهدون ما شهدوا - ومن طبع الامر ذلك على تقدير صدقهم إذ لو ذهبوا يطلبون الشهداء ليحضروهم على الواقعة فيشهدوهم عليها فأت الغرض بتفرقهما - فالشهادة التي: يجب على أحدهم أن يقيمها هي أن يشهد أربع شهادات أي يقول مرة بعد مرة: " أشهد الله على صدقي فيما أقذفه به " أربع مرات وخامستها أن يشهد ويقول: لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين.
قوله تعالى: " ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد " إلى آخر الآيتين، الدرء الدفع والمراد بالعذاب حد الزنا، والمعنى أن المرأة إن شهدت خمس شهادات بازاء شهادات الرجل دفع ذلك عنه حد الزنا، وشهاداتها أن تشهد أربع مرات تقول فيها: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ثم تشهد خامسة فتقول: لعنة الله علي إن كان من الصادقين، وهذا هو اللعان الذي ينفصل به الزوجان.
قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب رحيم " جواب لو لا محذوف يدل عليه ما أخذ في شرطه من القيود إذ معناه لو لا فضل الله ورحمته وتوبته
/ صفحة 83 /
وحكمته لحل بكم ما دفعته عنكم هذه الصفات والافعال فالتقدير على ما يعطيه ما في الشرط من القيود لو لا ما أنعم الله عليكم من نعمة الدين وتوبته لمذنبيكم وتشريعه الشرائع لنظم أمور حياتكم لزمتكم الشقوة، وأهلكتكم المعصية والخطيئة، واختل نظام ياتكم بالجهالة.
والله أعلم.
(بحث روائي) في الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: وسورة النور أنزلت بعد سورة النور أنزلت بعد النساء، وتصديق ذلك أن الله عزوجل أنزل عليه في سورة النساء " واللآتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " والسبيل الذي قال الله عزوجل " سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم آمنتم بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ".
وفي تفسير القمي وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: " وليشهد عذابهما " يقول: ضربهما " طائفة من المؤمنين " يجمع لهما الناس إذا جلدوا.
وفي التهذيب بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) في قول الله عزوجل: " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " قال: في إقامة الحدود، وفي قوله تعالى: " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " قال: الطائفة واحد.
وفي الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: وأنزل بالمدينة " الزاني لا ينكح إلا ثانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " فلم يسم الله الزاني مؤمنا ولا ألزانية مؤمنة، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس يمتري فيه أهل العلم أنه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الايمان كخلع القميص.
وفيه بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل:
/ صفحة 84 /
" الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة " قال: هن نساء مشهورات ورجال مشهورون الزنا شهروا به وعرفوا به، والناس اليوم بذلك المنزل فمن أقيم عليه حد الزنا أو متهم بالزنا لم ينبغ لاحد أن يناكحه حتى يعرف منه التوبة.
أقول وروأه أيضا بإسناده عن أبي الصباح عنه (عليه السلام) مثله، وبإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) ولفظه: هم رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مشهورين بالزنا فنهي الله عن اولئك الرجال والنساء، والناس اليوم على تلك المنزلة من شهر شيئا من ذلك أقيم عليه الحد فلا تزوجوه حتى تعرفوا توبته.
وفيه بإسناده عن حكم بن حكيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال: إنما ذلك في الجهر ثم قال: لو أن انسانا زنى ثم تاب تزوج حيث شاء.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والنسائي والحاكم وصححة وإبن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه وأبو داود في ناسخه عن عبد الله بن عمر قال: كانت إمرأة يقال: لها أم مهزول، وكانت تسافح الرجل وتشرط أن تنفق عليه فأراد رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يزوجها فأنزل الله: " الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ".
أقول: وروي ما يقرب منه عن عدة من أصحاب الجوامع عن مجاهد.
وفيه أخرج إبن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم، والمدينة غالية السعر شديدة الجهد، وفي السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب، وأما الانصار منهن أمية وليدة عبد الله بن أبي ونسيكة بنت أمية لرجل من الانصار في بغايا من ولائد الانصار قد رفعت كل إمرأة منهن علامة على بابها ليعرف أنها زانية وكن من أخصب أهل المدينة وأكثره خيرا.
فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي هم فيه من الجهد فأشار بعضهم على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من بعض اطعماتهن فقال بعضهم: نستأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتوه فقالوا: يا رسول الله قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل، وفي السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهن وولائد الانصار يكتسبن لانفسهن فيصلح لنا أن نتزوج منهن فنصيب من فضول ما يكتسبن؟ فإذا وجدنا عنهن
/ صفحة 85 /
غني تركناهن فأنزل الله: " الزاني لا ينكح " الآية " فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا الزواني المسافحات العالنات زناهن ".
أقول: والروايتان إنما تذكران سبب نزول قوله: " الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك " دون قوله: " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ".
وفي المجمع في قوله تعالى: " إلا الذين تابوا " اختلف في هذا الاستثناء إلى ما ذا يرجع على قولين: أحدهما أنه يرجع إلى الفسق خاصة دون قوله: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " - إلى أن قال - والآخر أن الاستثناء يرجع إلى الامرين فإذا تاب قبلت شهادته حد أم لم يحد عن ابن عباس - إلى أن قال - وقول أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام).
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا ونكل زياد فحد عمر الثلاثة، وقال لهم: توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان ولم يتب أبو بكرة فكان لا تقبل شهادته، وكان أبو بكرة أخا زياد لامه فلما كان من أمر زياد ما كان حلف أبو بكرة أن لا يكلمه أبدا فلم يكلمه حتى مات.
وفي التهذيب بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قذف العبد الحر جلد ثمانين.
وقال: هذا من حقوق الناس.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم - إلى قوله - إن كان من الصادقين " - فإنها نزلت في اللعان فكان سبب ذلك أنه لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوة تبوك جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني وكان من الانصار وقال: يا رسول الله أن إمرأتي زنى بها شريك بن السمحاء وهي منه حامل فأعرض عنه رسول الله ص فأعاد عليه القول فأعرض عنه حتى فعل ذلك أربع مرات.
فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منزله فنزلت عليه آية اللعان فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصلى بالناس العصر، وقال لعويمر: أئتني بأهلك فقد أنزل الله عز وجل فيكما قرآنا جاء إليها وقال لها: رسول الله يدعوك وكانت في شرف من قومها فجاء معها جماعة فلما دخلت المسجد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعويمر: تقدم إلى المنبر والتعنا فقال: كيف
/ صفحة 86 /
أصنع؟ فقال: تقدم وقل: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتها به فتقدم وقالها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعدها فأعادها حتى فعل ذلك أربع مرات فقال له في الخامسة عليك لعنة الله أن كنت من الكاذبين فيما رميتها به فقال في الخامسة إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن اللعنة موجبة إن كنت كاذبا ثم قال له: تنح فتنحى ثم قال لزوجته: تشهدين كما شهد، وإلا أقمت عليك حد الله فنظرت في وجوه قومها فقالت: لا أسود هذه الوجوه في هذه العشية فتقدمت إلى المنبر وقالت: أشهد بالله إن عويمر بن ساعدة من الكاذبين فيما رماني، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعيديها فأعادتها حتى أعادتها أربع مرات، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العني نفسك في الخامسة إن كان من الصادقين فيما رماك به، فقالت في الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ويلك إنها موجبة إن كنت كاذبة.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لزوجها: إذهب فلا تحل لك أبدا.
قال: يا رسول الله فما لي الذي أعطيتها.
قال: إن كنت كاذبا فهو أبعد لك منه، وإن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها.
الحديث.
وفي المجمع في رواية عكرمة عن ابن عباس: قال سعد بن عبادة لو أتيت لكاع وقد يفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا معشر الانصار ما تسمعون إلى ما قال سيدكم؟ فقالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج إمرأة قط إلا بكرا، ولا طلق امرأة له فاجتري رجل منا أن يتزوجها، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لا عرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك، فقال: فإن الله يأبي إلا ذلك، فقال: صدق الله ورسوله.
فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له: هلال بن أمية من حديقة له قد رأى رجلا مع إمرأته فلما أصبح غدا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني جئت أهلي
/ صفحة 87 /
عشاء فوجدت معها رجلا رأيته بعيني وسمعته بإذني، فكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى رئي الكراهة في وجهه فقال هلال: إني لا راى الكراهة في وجهك والله يعلم إني لصادق، وإني لارجو أن يجعل الله فرجا فهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بضربه.
قال: واجتمعت الانصار وقالوا: ابتلينا بما قال سعد ايجلد هلال ويبطل شهادته؟ فنزل الوحي وامسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل فأنزل الله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم " الآيات.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أبشر يا هلال فإن الله تعالى قد جعل فرجا فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أرسلوا إليها فجاءت فلا عن بينهما فلما إنقضى اللعان فرق بينهما وقضي أن الولد لها ولا يدعي لاب ولا يرمي ولدها ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس.
* * *
إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم - 11.
لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين - 12.
لو لا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون - 13.
ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم - 14.
إذ تلقونه
/ صفحة 88 /
بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم - 15.
ولو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم - 16.
يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين - 17.
ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم - 18.
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون - 19.
ولو لا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤف رحيم - 20.
يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكى من يشاء والله سميع عليم - 21.
ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم - 22.
إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم - 23.
يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون - 24.
يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين - 25.
الخبيثات
/ صفحة 89 /
للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤن مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم - 26.
(بيان) الآيات تشير إلى حديث الافك، وقد روي أهل السنة أن المقذوفة في قصة الافك هي أم المؤمنين عائشة، وروت الشيعة أنها مارية القبطية أم إبراهيم التي أهداها مقوقس ملك مصر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكل من الحديثين لا يخلو عن شئ على ما سيجئ في البحث الروائي الآتي.
فالاحرى أن نبحث عن متن الآيات في عزل من الروايتين جميعا غير أن من المسلم أن الافك المذكور فيها كان راجعا إلى بعض أهل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إما زوجه وإما أم ولده وربما لوح إليه قوله تعالى: " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " وكذا ما يستفاد من الآيات أن الحديث كان قد شاع بينهم وأفاضوا فيه وسائر ما يومي إليه من الآيات.
والمستفاد من الآيات أنهم رموا بعض أهل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالفحشاء، وكان الرامون عصبة من القوم فشاع الحديث بين الناس يتلقاه هذا من ذاك، وكان بعض المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض يساعدون على إذاعة الحديث حبا منهم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فأنزل الله الآيات ودافع عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: " إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم " الخ، الافك على ما ذكره الراغب الكذب مطلقا والاصل في معناه أنه كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه كالاعتقاد المصروف عن الحق إلى الباطل - والفعل المصروف عن الجميل إلى القبيح، والقول المصروف عن الصدق إلى الكذب، وقد استعمل في كلامه تعالى في جميع هذه المعاني.
وذكر أيضا أن العصبة جماعة متعصبة متعاضدة، وقيل: إنها عشرة إلى أربعين.
والخطاب في الآية وما يتلوها من الآيات لعامة المؤمنين ممن ظاهره الايمان أعم من المؤمن بحقيقة الايمان والمنافق ومن في قلبه مرض، وأما قول بعضهم: إن المخاطب
/ صفحة 90 /
بالخطابات الاربعة الاول أو الثاني والثالث والرابع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمقذوفة والمقذوف ففيه تفكيك بين الخطابات الواقعة في الآيات العشر الاول وهي نيف وعشرون خطابا أكثرها لعامة المؤمنين بلا ريب.
وأسوأ حالا منه قول بعض آخر إن الخطابات الاربعة أو الثلاثة المذكورة لمن ساءه ذلك من المؤمنين فإنه مضافا إلى استلزامه التفكيك بين الخطابات المتوالية مجازفة ظاهرة.
والمعنى: إن الذين أتوا بهذا الكذب - واللام في الافك لعهد - جماعة معدودة منكم مرتبط بعضهم ببعض، وفي ذلك إشارة إلى أن هناك تواطؤا منهم على إذاعة هذا الخبر ليطعنوا به في نزاهة بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويفضحوه بين الناس.
وهذا هو فائدة الخبر في قوله: " إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم " لا تسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تسليته وتسلية من ساءه هذا الافك كما كره بعضهم فإن السياق لا يساعد عليه.
وقوله: " لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم " مقتضى كون الخطاب لعامة المؤمنين أن يكون المراد بنفي كونه شرا لهم وإثبات كونه خيرا أن المجتمع الصالح من سعادته أن يتميز فيه أهل الزيغ والفساد ليكونوا على بصيرة من أمرهم وينهضوا لا صلاح ما فسد من أعضائهم وخاصة في مجتمع ديني متصل بالوحي ينزل عليهم الوحي عند وقوع أمثال هذه الوقائع فيعظهم ويذكرهم بما هم في غفلة منه أو مساهلة حتى يحتاطوا لدينهم ويتفطنوا لما يهمهم.
والدليل على ما ذكرنا قوله بعد: " لكل أمرئ منهم ما اكتسب من الاثم " فإن الاثم هو الاثر السيئ الذي يبقي للانسان عن اقتراف المعصية فظاهر الجملة أن أهل الافك الجائين به يعرفون بإثمه ويتميزون به عندكم فيفتضحون به بدل ما ارادوا أن يفضحوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأما قول من قال: إن المراد بكونه خيرا لهم أنهم يثابون بما اتهموهم بالافك كما أن أهل الافك يتأثمون به فمبني على كون الخطاب للمتهمين خاصة وقد عرفت فساده.
وقوله: " والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " فسروا كبره بمعنى معظمه
/ صفحة 91 /
والضمير للافك، والمعنى: والذي تولى معظم الافك وأصر على إذاعته بين الناس من هؤلاء الآفكين له عذاب عظيم.
قوله تعالى: " لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين " توبيخ لهم إذ لم يردوا الحديث حينما سمعوه ولم يظنوا بمن رمي به خيرا.
وقوله: " ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم " من وضع الظاهر موضع المضمر، والاصل " ظننتم بأنفسكم " والوجه في تبديل الضمير وصفا الدلالة على علة الحكم فإن صفة الايمان رادعة بالطبع تردع المتلبس بها عن الفحشاء والمنكر في القول والفعل فعلي المتلبس بها أن يظن على المتلبسين بها خيرا، وأن يجتنب القول فيهم بغير علم فإنهم جميعا كنفس واحدة في التلبس بالايمان ولوازمه وآثاره.
فالمعنى: ولولا إذ سمعتم الافك ظننتم بمن رمي به خيرا فإنكم جميعا مؤمنون بعضكم من بعض والمرمي به من أنفسكم وعلى المؤمن أن يظن بالمؤمن خيرا ولا يصفه بما لا علم له به.
وقوله: " قالوا هذا إفك مبين " أي قال المؤمنون والمؤمنات وهم السامعون - أي قلتم - هذا إفك مبين لان الخبر الذي لا علم لمخبره به والدعوي التي لا بينة لمدعيها عليها محكوم شرعا بالكذب سواء كان بحسب الواقع صدقا أو كذبا، والدليل عليه قوله في الآية التالية: " فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون ".
قوله تعالى: " لو لا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون " أي لو كانوا صادقين فيما يقولون ويرمون لا قاموا عليه الشهادة وهي في الزنا بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فهم محكومون شرعا بالكذب لان الدعوي غير بينة كذب وفك.
قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم " إفاضة القوم في الحديث خوضهم فيه.
وقوله: " ولو لا فضل الله " الخ، عطف على قوله: " لو لا إذ سمعتموه " الخ، وفيه كرة ثانية على المؤمنين، وفي تقييد الفضل الرحمة بقوله: " في الدنيا والآخرة " دلالة على كون العذاب المذكور ذيلا هو عذاب الدنيا والآخرة.
/ صفحة 92 /
والمعنى: ولو لا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لوصل إليكم بسبب ما خضتم فيه من الافك عذاب عظيم في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: " إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " الخ، الظرف متعلق بقوله: " أفضتم " وتلقي الانسان القول أخذه القول الذي ألقه إليه غيره، وتقييد التلقي بألالسنة للدلالة على أنه كان مجرد إنتقال القول من لسان إلى لسان من غير تثبت وتدبر فيه.
وعلى هذا فقوله: " وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " من قبيل عطف التفسير، وتقييده أيضا بقوله: " بأفواهكم " للاشارة إلى أن القول لم يكن عن تثبت وتبين قلبي ولم يكن له موطن إلا الافواه لا يتعداها.
والمعنى: أفضتم وخضتم فيه إذ تأخذونه وتنقلونه لسانا عن لسان وتتلفظون بما لا علم لكم به.
قوله: " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " أي تظنون التلقي بألسنتكم والقول بأفواهكم من غير علم سهلا وهو عند الله عظيم لانه بهتان وافتراء، على أن الامر مرتبط بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشيوع إفك هذا شأنه بين الناس يفضحه عندهم ويفسد أمر الدعوة الدينية.
قوله تعالى: " ولو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " عطف بعد عطف على قوله: " لو لا إذ سمعتموه " الخ، وفيه كرة ثالثة على المؤمنين بالتوبيخ، وقوله: " سبحانك " اعتراض بالتنزيه لله سبحانه وهو من أدب القرآن أن ينزه الله بالتسبيح عند تنزيه كل منزه.
والبهتان الافتراء سمي به لانه يبهت الانسان المفتري عليه وكونه بهتانا عظيما لانه افتراء في عرض وخاصة إذ كان متعلقة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما كان بهتانا لكونه إخبارا من غير علم ودعوي من غير بينة كما تقدم في قوله: " فإذ لم يأتوا بالشهداء فاولئك عند الله هم الكاذبون " ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا " إلى آخر الآيتين موعظة بالنهي عن العود لمثله، ومعنى الآيتين ظاهر.
/ صفحة 93 /
قوله تعالى: " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا " إلى آخر الآية إن كانت الآية نازلة في جملة آيات الافك ومتصله بما تقدمها وموردها الرمي بالزنا بغير بينه كان مضمونها تهديد الرامين المفيضين في الافك لكونه فاحشة وشاعته في المؤمنين حبا منهم لشيوع الفاحشة.
فالمراد بالفاحشة مطلق الفحشاء كالزنا والقذف وغير ذلك، وحب شيوعها ومنها القذف في المؤمنين مستوجب عذابا أليما لمحبيه في الدنيا والآخرة.
وعلى هذا فلا موجب لحمل العذاب في الدنيا على الحد إذ حب شيوع الفحشاء ليس مما يوجب الحد، نعم لو كان اللام في " الفاحشة " للعهد والمراد بها القذف وكان حب الشيوع كناية عن قصه الشيوع بالافاضة والتلقي بالالسن والنقل أمكن حمل العذاب على الحد لكن السياق لا يساعد عليه.
على أن الرمي بمجرد تحققه مرة موجب للحد ولا موجب لتقييده بقصد الشيوع ولا نكتة تستدعي ذلك.
وقوله: " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " تأكيد وإعظام لما فيه من سخط الله وغضبه وإن جهله الناس.
قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته " تكرارا للامتنان ومعناه ظاهر.
قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر " تقدم تفسير الآية في الآية 208 من سورة البقرة في الجزء الثاني من الكتاب.
قوله تعالى: " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " إلى آخر الآية.
رجوع بعد رجوع إلى الامتنان بالفضل والرحمة، لا يخلو هذا الاهتمام من تأييد لكون الافك متعلقا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس إلا لكرامته على الله سبحانه.
وقد صرح في هذه المرة الثالثة بجواب لو لا وهو قوله: " ما زكى منكم من أحد أبدا " وهذا مما يدل عليه العقل فإن مفيض الخير والسعادة هو الله سبحانه، والتعليم القرآني أيضا يعطيه كما قال تعالى: " بيدك الخير " آل عمران: 26، وقال: " ما أصابك من حسنة فمن الله " النساء: 79.
وقوله: " ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم " إضراب عما تسمه فهو تعالى يزكى من يشاء فالامر إلى مشيته، ولا يشاء إلا تزكية من استعد لها وسأله بلسان استعداده
/ صفحة 94 /
ذلك، واليه يشير قوله: " والله سميع عليم " أي سميع لسؤال من سأله التزكية عليم بحال من إستعد لها.
قوله تعالى: " ولا يأتل اولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله " الخ، الايتلاء التقصير والترك والحلف، وكل من المعاني الثلاثة لا يخلو من مناسبة، والمعنى لا يقصر أولوا الفضل منكم والسعة يعني الاغنياء في إيتاء اولى القرابة والمساكين والمهاجرين في سبيل الله من مالهم أو لا يترك إيتاءهم أو لا يحلف أن لا يؤتيهم - وليعفوا عنهم وليصفحوا - ثم حرضهم بقوله: " ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ".
وفي الآية - على تقدير نزولها في جملة الآيات واتصالها بها - دلالة على أن بعض المؤمنين عزم على أن يقطع ما كان يؤتيه بعض أهل الافك فنهاه الله عن ذلك وحثه على إدامة الايتاء كما سيجئ.
قوله تعالى: " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة و لهم عذاب عظيم " أخذ الصفات الثلاث الاحصان والغفلة والايمان للدلالة على عظم المعصية فإن كلا من لاحصان بمعنى العفة والغفلة والايمان سبب تام في كون الرمي ظلما والرامي ظالما والمرمية مظلومة فإذا جتمعت كان الظلم أعظم ثم أعظم، وجزاؤه اللعن في الدنيا والآخرة والعذاب العظيم، والآية عامة وإن كان سبب نزولها لو نزلت في جملة آيات الافك خاصا.
قوله تعالى: " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: " ولهم عذاب عظيم ".
والمراد بقوله: " بما كانوا يعملون " كما يقتضيه إطلاقه مطلق الاعمال السيئة - كما قيل - لا خصوص الرمي بأن تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم على رميهم فالمراد بالشهادة شهادة الاعضاء على السيئآت والمعاصي بحسب ما يناسبها فما كان منها من قبيل الاقوال كالقذف والكذب والغيبة ونحوها شهدت عليه الالسنة، وما كان منها من قبيل الافعال كالسرقة والمشي للنميمة والسعاية وغيرهما شهدت عليه بقيه الاعضاء، وإذ كان معظم المعاصي من الافعال للايدي والا رجل اختصتا بالذكر.
وبالحقيقة الشاهد على كل فعل هو العضو الذي صدر منه كما يشير إليه قوله تعالى: "
/ صفحة 95 /
شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون " حم السجدة: 20، وقوله: " إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا " أسرى: 36، وقوله: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " يس: 65، وسيأتي الكلام على شهادة الاعضاء يوم القيامة في بحث مستقل في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون إن الله هو الحق المبين " المراد بالدين الجزاء كما في قوله: " مالك يوم الدين " الحمد: 4، وتوفية الشئ بذله تاما كاملا، والمعنى: يوم القيامة يؤتيهم الله جزاءهم الحق إيتاء تاما كاملا ويعلمون أن الله هو الحق المبين.
هذا بالنظر إلى اتصال الآية بما قبلها ووقوعها في سياق ما تقدمها، وأما بالنظر إلى استقلالها في نفسها فمن الممكن أن يراد بالدين ما يرادف الملة وهو سنة الحياة، وهو معنى عال يرجع إلى ظهور الحقائق يوم القيامة للانسان، ويكون أكثر مناسبة لقوله: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين ".
والآية من غرر الآيات القرآنية تفسر معنى معرفة الله فإن قوله: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين " ينبئ أنه تعالى هو الحق لا سترة عليه بوجه من الوجوه ولا على تقدير من التقادير فهو من أبده البديهيات التي لا يتعلق بها جهل لكن البديهي ربما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الذي ربما يعبر عنه بالعلم، وهذا هو الذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أن الله هو الحق المبين.
وإلى مثله يشير قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22.
قوله تعالى: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " الخ ذيل الآية " اولئك مبرؤن مما يقولون " دليل على أن المراد بالخبيثات والخبيثين والطيبات والطيبين نساء ورجال متلبسون بالخباثة والطيب فالآية من تمام آيات الافك متصلة بها مشاركة لها في سياقها وهي عامة لا مخصص لها من جهة اللفظ البتة.
فالمراد بالطيب الذي يوجب كونهم مبرئين مما يقولون على ما تدل عليه الآيات
/ صفحة 96 /
السابقة هو المعني الذي يقتضيه تلبسهم بالايمان والاحصان فالمؤمنون والمؤمنات مع الاحصان طيبون وطيبات يختص كل من الفريقين بصاحبه، وهم بحكم الايمان والاحصان مصونون مبرؤن شرعا من الرمي بغير بينة محكومون من جهة إيمانهم بأن لهم مغفرة كما قال تعالى: " وآمنوا بيغفر لكم من ذنوبكم " الاحقاف: 31 ولهم رزق كريم، وهو الحياة الطيبة في الدنيا والاجر الحسن في الآخرة كما قال: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " النحل: 97.
والمراد بالخبث في الخبيثين والخبثات وهم غير المؤمنين هو الحال المستقذرة التي يوجبها لهم تلبسهم بالكفر وقد خصت خبيثاتهم بخبيثهم وخبيثوهم بخبيثاتهم بمقتضي المجانسة والمسانخة وليسوا بمبرئين عن التلبس بالفحشاء - نعم هذا ليس حكما بالتلبس -.
فظهر بما تقدم: أولا: أن الآية عامة بحسب اللفظ تصف المؤمنين والمؤمنات بالطيب ولا ينافي ذلك إختصاص سبب نزولها وانطباقها عليه.
وثانيا إنها تدل على كونهم جميعا محكومين شرعا بالبراءة عما يرمون به ما لم تقم عليه بينة.
وثالثا: أنهم محكومون بالمغفرة والرزق الكريم كل ذلك حكم ظاهري لكرامتهم على الله بإيمانهم، والكفار على خلاف ذلك.
(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وأحمد والبخاري وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير وابن المنذر وبن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معه.
قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما نزل الحجاب وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله ععليه وآله وسلم من غزوته تلك وقفل.
/ صفحة 97 /
فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار (1) قد إنقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه علي بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل المرأة العلقة (2) من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلى فبينانا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت.
وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكراني من وراء الجيش فأدلج (3) فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي - والله ما كلمني كلمة واحدة ولا سمعت منه كلمة غير إسترجاعه حتى أناخ راحلته فوطى على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك.
وكان الذي تولى الافك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الافك لا أشعر بشئ من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله ص اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني
* (هامش) *
(1) ظفار كقطام بلد باليمين قرب صنعاء، وجزع ظفاري منسوب إليها والجزع الخرز وهو الذي فيه سواد وبياض.
(2) العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق.
(3) أدلج القوم: سارو الليل كله أو في آخره.
(*)
/ صفحة 98 /
ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع (1) هي متبرزنا وكنا لا نخرج إ لا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الاول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذي بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.
فانطلقت أنا وأم مسطح فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا (2) من ثيابنا فعثرت أم مسطح في مرطها (3) فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: إي هنتاه (4) أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال: فأخبرتني بقول أهل الافك فازددت مرضا على مرضي.
فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآلله وسلم فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ - قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما - قالت: فأذن لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجئت لابوي فقلت لامي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هو عليك فو الله لقلما كانت أمرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي.
ودعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثيرة وإن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئا يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمضه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.
* (هامش) *
(1) المناصع: المواضع ينخلي فيها لبول أو حاجة.
(2) أي رفعنا ثيابنا.
(3) المرط - بالكسر - كساء واسع يؤتزر به وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفع به.
(4) خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه.
(*)
/ صفحة 99 /
فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلى إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي.
فقام سعد بن معاذ الانصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الاوس ضربت عنقه وإن من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله ما تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاورا الحيان: الاوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم على المنبر فلم يزل رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
فبكيت يومي ذلك فلا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبو اي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع وأبو اي يظنان أن البكاء فالق كبدي.
فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكى فاستأذنت علي إمرأة من الانصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل قبلها وقد لبث شهر الا يوحي إليه في شأني بشئ، فتشهد حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت الممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه.
فلما قضي رسول الله صلى اللله عليه وآله وسلم مقالته قلص (1) دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لابي: أجب عني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت لامي: أجيبي عني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
* (هامش) *
(1) قلص: اجتمع وانقبض.
(*)
/ صفحة 100 /
فقلت وأنا جارية حديثة لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى إستقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببرأتي ولكن والله ماكنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا يبرئني الله بها.
قالت: فو الله ما رام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوشات من ثقل القول الذي أنزل عليه فلما سري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سري عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي، وأنزل الله: " إن الذين جاؤا بالافك عصبة منكم " العشر الآيات كلها.
فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربي والمساكين - إلى قوله - رحيم " قال أبو بكر: والله إني احب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة: فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعصمها الله بالورع، وطفقت اختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الافك.