/ صفحة 301 /

فالمعنى: وإذا أظهرتم شدة في العمل وبأسا بالغتم في ذلك كما يبالغ الجبابرة في الشدة.

ومحصل الآيات الثلاث أنكم مسرفون في جانبي الشهوة والغضب متعدون حد الاعتدال خارجون عن طور العبودية.

قوله تعالى: " فاتقوا الله وأطيعون " تفريع على إسرافهم في جانبي الشهوة والغضب وخروجهم عن طور العبودية فليتقوا الله وليطيعوه فيما يأمرهم به من ترك الاتراف والاستكبار.

قوله تعالى: " واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون - إلى قوله - وعيون " قال الراغب: أصل المد الجر، قال: وأددت الجيش بمدود والانسان بطعام قال: وأكثر ما جاء الامداد في المحبوب والمد في المكروه، قال تعالى: " وأمددنا هم بفاكهة " " ونمد له من العذاب مدا " انتهى ملخصا.

وقوله: " واتقوا الذي أمدكم " الخ، في معنى تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلية أي اتقوا الله الذي يمدكم بنعمه لانه يمدكم بها فيجب عليكم أن تشكروه بوضع نعمه في موضعها من غير إتراف واستكبار فإن كفران النعمة يستعقب السخط والعذاب قال تعالى: " لئن شكرتم لا زيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " إبراهيم: 7.

وقد ذكر النعم إجمالا بقوله أولا: " أمدكم بما تعلمون " ثم فصلها بقوله ثانيا: " أمدكم بأموال وبنين وجنات وعيون ".

وفي قوله: " أمدكم بما تعلمون " نكتة أخرى هي أنكم تعلمون أن هذه النعم من إمداده تعالى وصنعه لا يشاركه في إيجادها والامداد بها غيره فهو الذي يجب لكم أن تتقوه بالشكر والعبادة دون الاوثان والاصنام فالكلام متضمن للحجة.

قوله تعالى: " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " تعليل للامر بالتقوى أي إني آمركم بالتقوى شكرا لاني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم إن تكفروا ولم تشكروا، والظاهر أن المراد باليوم العظيم يوم القيامة وإن جوز بعضهم أن يكون المراد به يوم عذاب الاستئصال.

 

/ صفحة 302 /

قوله تعالى: " قالوا سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين " نفي لاثر كلامه وإيآس له من إيمانهم بالكلية.

قيل: الكلام لا يخلو من مبالغة فقد كان مقتضى الترديد أن يقال: أو عظت أم لم تعظ ففي العدول عنه إلى قوله: " أم لم تكن من الواعظين " النافي لاصل كونه واعظا ما لا يخفى من المبالغة.

قوله تعالى: " إن هذا إلا خلق الاولين " الخلق بضم الخاء واللام أو سكونها قال الراغب: الخلق والخلق - أي بفتح الخاء وضمها - في الاصل واحد كالشرب والشرب والصرم والصرم لكن خص الخلق - بفتح الخاء - بالهيئات والاشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق - بضم الخاء - بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى: " إنك لعلى خلق عظيم " وقرئ " إن هذا إلا خلق الاولين " انتهى.

والاشارة بهذا إلى ما جاء به هود وقد سموه وعظا والمعنى: ليس ما تلبست به من الدعوة إلى التوحيد والموعظة إلا عادة البشر الاولين الماضين من أهل الاساطير والخرافات، وهذا كقولهم: إن هذا إلا أساطير الاولين.

ويمكن أن تكون الاشارة بهذا إلى ما هم فيه من الشرك وعبادة الآلهة من دون الله اقتداء بآبائهم الاولين كقولهم: " وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ".

 

واحتمل بعضهم أن يكون المراد ما خلقنا هذا إلا خلق الاولين نحيا كما حيوا ونموت كما ماتوا ولا بعث ولا حساب ولا عذاب.

وهو بعيد من السياق.

قوله تعالى: " وما نحن بمعذبين " إنكار للمعاد بناء على كون المراد باليوم العظيم في كلام هود (عليه السلام) يوم القيامة.

قوله تعالى: " فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية - إلى قوله - الرحيم " معناه ظاهر مما تقدم.

(بحث روائي) في كتاب كمال الدين وروضة الكافي مسندا عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمد

 

/ صفحة 303 /

بن علي الباقر (عليه السلام) في حديث: وقال نوح إن الله تبارك وتعالى باعث نبيا يقال له هود وانه يدعو قومه إلى الله عز وجل فيكذبونه وان الله عزوجل يهلكهم بالريح فمن أدركه منكم فليؤمن به وليتبعه فإن الله تبارك وتعالى ينجيه من عذاب الريح.

وأمر نوح ابنه سام ان يتعاهد هذه الوصية عند رأس كل سنة ويكون يوم عيد لهم فيتعاهدون فيه بعث هود وزمانه الذي يخرج فيه.

فلما بعث الله تبارك وتعالى هودا نظروا فيما عندهم من العلم والايمان وميراث العلم والاسم الاكبر وآثار علم النبوة فوجدوا هودا نبيا وقد بشرهم أبوهم نوح به فآمنوا به وصدقوه واتبعوه فنجوا من عذاب الريح، وهو قول الله عزوجل: " وإلى عاد أخاهم هودا " وقوله: " كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون ".

وفي المجمع في قوله تعالى: " آية تعبثون " أي ما لا تحتاجون إليه لسكناكم وإنما تريدون العبث بذلك واللعب وللهو كأنه جعل بناهم ما يستغنون عنه عبثا منهم عن ابن عباس في رواية عطاء، ويؤيده الخبر المأثور عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج فرأى قبة فقال: ما هذه؟ فقالوا له أصحابه: هذا الرجل من الانصار فمكث حتى إذا جاء صاحبها فسلم في الناس أعرض عنه صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب به والاعراض عنه.

فشكى ذلك إلى أصحابه و قال: والله إني لانكر نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أدري ما حدث في وما صنعت؟ قالوا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأى قبتك فقال: لمن هذه؟ فأخبرناه فرجع إلى قبته فسواها بالارض فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم فلم ير القبة فقال: ما فعلت القبة التي كانت ههنا؟ قالوا: شكى الينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها.

فقال: إن كل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا بد منه.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وإذا بطشتم بطشتم جبارين " قال: تقتلون بالغضب من غير استحقاق.

 

/ صفحة 304 /

 

* * *

 كذبت ثمود المرسلين - 141.

إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون - 142.

إني لكم رسول أمين - 143.

فاتقوا الله وأطيعون - 144.

وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين - 145.

أتتركون فيما ههنا آمنين - 146.

في جنات وعيون - 147.

وزروع ونخل طلعها هضيم - 148.

وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين - 149.

فاتقوا الله وأطيعون - 150.

ولا تطيعوا أمر المسرفين - 151.

الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون - 152.

قالوا إنما أنت من المسحرين - 153.

ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين - 154.

قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم - 155.

ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم - 156.

فعقروها فأصبحوا نادمين - 157.

فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 158.

وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 159.

(بيان) تشير الآيات إلى إجمال قصة صالح (عليه السلام) وقومه وهو من أنبياء العرب ويذكر في القرآن بعد هود (عليه السلام).

قوله تعالى: " كذبت ثمود المرسلين - إلى قوله - على رب العالمين " قد اتضح معناها مما تقدم.

 

/ صفحة 305 /

قوله تعالى: " أتتركون فيما ههنا آمنين " الظاهر أن الاستفهام للانكار و " ما " موصولة والمراد بها النعم التي يفصلها بعد قوله: " في جنات وعيون " الخ، و " ههنا " إشارة إلى المكان الحاضر القريب وهو أرض ثمود و " آمنين " حال من نائب فاعل " تتركون ".

والمعنى: لا تتركون في هذه النعم التي أحاطت بكم في أرضكم هذه وأنتم مطلقو العنان لا تسألون عما تفعلون آمنون من أي مؤاخذة إلهية.

قوله تعالى: " في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم " بيان تفصيلي لقوله: " فيما ههنا "، وقد خص النخل بالذكر مع دخوله في الجنات لاهتمامهم به، والطلع في النخل كالنور في سائر الاشجار والهضيم - على ما قيل - المتداخل المنضم بعضه إلى بعض.

قوله تعالى: " وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين " قال الراغب: الفره - بالفتح فالكسر صفة مشبهة - الاشر، وقوله تعالى: " وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين " أي حاذقين وقيل: معناه أشرين.

انتهى ملخصا، وعلى ما اختاره تكون الآية من بيان النعمة، وعلى المعنى الآخر تكون مسوقة لانكار أشرهم وبطرهم.

والآية على أي حال في حيز الاستفهام.

 

قوله تعالى: " فاتقوا الله وأطيعون " تفريع على ما تقدم من الانكار الذي في معنى المنفي.

قوله تعالى: " ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون " الظاهر أن المراد بالامر ما يقابل النهي بقرينة النهي عن طاعته وإن جوز بعضهم كون الامر بمعنى الشأن وعليه يكون المراد بطاعة أمرهم تقليد العامة واتباعهم لهم في أعمالهم وسلوكهم السبل التي يستحبون لهم سلوكها.

والمراد بالمسرفين على أي حال أشراف القوم وعظماؤهم المتبوعون والخطاب للعامة التابعين لهم وأما السادة الاشراف فقد كانوا مأيوسا من إيمانهم واتباعهم للحق.

 

/ صفحة 306 /

ويمكن أن يكون الخطاب للجميع من جهة أن الاشراف منهم أيضا كانوا يقلدون آباءهم ويطيعون أمرهم كما قالوا لصالح (عليه السلام): " أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا " هود: 62، فقد كانوا جميعا يطيعون أمر المسرفين فنهوا عنه.

وقد فسر المسرفين وهم المتعدون عن الحق الخارجون عن حد الاعتدال بتوصيفهم بقوله: " الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون " إشارة إلى علة الحكم الحقيقية فالمعنى اتقوا الله ولا تطيعوا أمر المسرفين لانهم مفسدون في الارض غير مصلحين والافساد لا يؤمن معه العذاب الالهي وهو عزيز ذو انتقام.

وذلك أن الكون على ما بين أجزائه من التضاد والتزاحم مؤلف تأليفا خاصا يتلاءم معه أجزاؤه بعضها مع بعض في النتائج والآثار كالامر في كفتي الميزان فإنهما على اضطرابها واختلافها الشديد بالارتفاع والانخفاض متوافقتان في تعيين وزن المتاع الموزون وهو الغاية العالم الانساني الذي هو جزء من الكون كذلك ثم الفرد من الانسان بما له من القوى والادوات المختلفة المتضادة مفطور على تعديل أفعاله وأعماله بحيث تنال كل قوة من قواه حظها المقدر لها وقد جهز بعقل يميز بين الخير والشر ويعطي كل ذي حق حقه.

فالكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة مقصودة وهو بما بين أجزائه من الارتباط التام يخط لكل من أجزائه سبيلا خاصا يسير فيها بأعمال خاصة من غير أن يميل عن حاق وسطها إلى يمين أو يسار أو ينحرف بإفراط أو تفريط فإن في الميل والانحراف إفسادا للنظام المرسوم، ويتبعه إفساد غايته وغاية الكل، ومن الضروري أن خروج بعض الاجزاء عن خطه المخطوط له وإفساد النظم المفروض له ولغيره يستعقب منازعة بقية الاجزاء له فإن استطاعت أن تقيمه وترده إلى وسط الاعتدال فهو وإلا أفنته وعفت آثاره حفظا لصلاح الكون واستبقاء لقوامه.

والانسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية فإن جرى على ما يهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له وإن تعدي حدود فطرته وأفسد في الارض أخذه الله سبحانه بالسنين والمثلات وأنواع النكال والنقمة لعله يرجع إلى الصلاح والسداد قال تعالى: " ظهر الفساد فالبر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم

 

/ صفحة 307 /

بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " الروم: 41.

وإن أقاموا مع ذلك على الفساد لرسوخه في نفوسهم أخذهم الله بعذاب الاستئصال وطهر الارض من قذارة فسادهم قال تعالى: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " الاعراف: 96.

وقال: " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " هود: 117، وقال: " إن الارض يرثها عبادي الصالحون " الانبياء: 105، وذلك أنهم إذا صلحوا صلحت أعمالهم وإذا صلحت أعمالهم وافقت النظام العام وصلحت بها الارض لحياتهم الارضية.

فقد تبين بما مر أولا: أن حقيقة دعوة النبوة هي إصلاح الحياة الانسانية الارضية قال تعالى حكاية عن شعيب: " إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت " هود: 88.

وثانيا: أن قوله: " ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون الخ " على سذاجة بيانه معتمد على حجة برهانية.

ولعل في قوله: " ولا يصلحون " بعد قوله: " الذين يفسدون في الارض " إشارة إلى أنه كان المتوقع منهم بما أنهم بشر ذوو فطرة إنسانية أن يصلحوا في الارض لكنهم انحرفوا عن الفطرة وبدلوا الاصلاح إفسادا.

قوله تعالى: " قالوا إنما أنت من المسحرين " أي ممن سحر مرة بعد مرة حتى غلب على عقله، وقيل: إن السحر أعلى البطن والمسحر من له جوف فيكون كناية عن أنك بشر مثلنا تأكل وتشرب فيكون قوله بعده: " وما أنت إلا بشر مثلنا " تأكيدا له، وقيل: المسحر من لسحر أي رئة كأن مرادهم أنك متنفس بشر مثلنا.

قوله تعالى: " وما أنت إلا بشر مثلنا - إلى قوله - عذاب يوم عظيم " الشرب بكسر الشين النصيب من الماء، والباقي ظاهر وقد تقدمت تفصيل القصة في سورة هود.

قوله تعالى: " فعقروها فأصبحوا نادمين " نسبة العقر إلى الجميع - ولم يعقرها إلا واحد منهم - لرضاهم بفعله، وفي نهج البلاغة: أيها الناس إنما يجمع الناس الرضى والسخط وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضا فقال سبحانه: " فعقروها فأصبحوا نادمين ".

 

/ صفحة 308 /

 

وقوله: " فأصبحوا نادمين " لعل ندمهم إنما كان عند مشاهدتهم ظهور آثار العذاب وإن قالوا له بعد العقر تعجيزا واستهزاء: " يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين " الاعراف: 77.

قوله تعالى: " فأخذهم العذاب - إلى قوله - العزيز الرحيم " اللام للعهد أي أخذهم العذاب الموعود فإن صالحا وعدهم نزول العذاب بعد ثلاثة أيام كما في سورة هود، والباقي ظاهر.

 

* * *

 كذبت قوم لوط المرسلين - 160.

إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون - 161.

إني لكم رسول أمين - 162.

فاتقوا الله وأطيعون - 163.

وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين - 164.

أتأتون الذكران من العالمين - 165.

وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون - 166.

قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين - 167.

قال إني لعملكم من القالين - 168.

رب نجني وأهلي مما يعملون - 169.

فنجيناه وأهله أجمعين - 170.

إلا عجوزا في الغابرين - 171.

ثم دمرنا الآخرين - 172.

وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين - 173.

إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 174.

وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 175.

 

/ صفحة 309 /

(بيان) تشير الآيات إلى قصة لوط النبي (عليه السلام) وهو بعد صالح (عليه السلام).

قوله تعالى: " كذبت قوم لوط المرسلين - إلى قوله - رب العالمين "، تقد تفسيره.

قوله تعالى: " أتأتون الذكران من العالمين " الاستفهام للانكار والتوبيخ والذكران جمع ذكر مقابل الانثى وإتيانهم كناية عن اللواط وقد كان شاع فيما بينهم، والعالمين جمع عالم وهو الجماعة من الناس.

وقوله: " من العالمين " يمكن أن يكون متصلا بضمير الفاعل في " تأتون " والمراد أتأتون أنتم من بين العالمين هذا العمل الشنيع؟ فيكون في معنى قوله في موضع آخر: " ما سبقكم بها من أحد من العالمين " الاعراف: 80، العنكبوت: 28.

ويمكن ان يكون متصلا بقوله: " الذكران " والمعنى على هذا أتنكحون من بين العالمين - على كثرتهم واشتمالهم على النساء - الرجال فقط؟.

قوله تعالى: " وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم " الخ " تذرون " بمعنى تتركون ولا ماضي له من مادته.

والمتأمل في خلق الانسان وانقسام أفراده إلى صنفي الذكر والانثى وما جهز به كل من الصنفين من الاعضاء والادوات وما يختص به من الخلقة لا يرتاب في ان غرض الصنع والايجاد من هذا التصوير المختلف وإلقاء غريزة الشهوة في القبيلين وتفريق أمرهما بالفعل والانفعال أن يجمع بينهما بالنكاح ليتوسل بذلك إلى التناسل الحافظ لبقاء النوع حتى حين.

فالرجل من الانسان بما هو رجل مخلوق للمرأة منه لا لرجل مثله والمرأة من الانسان بما هي امرأة مخلوقة للرجل منه لا لامرأة مثلها وما يختص به الرجل في خلقته للمرأة وما تختص به المرأة في خلقتها للرجل وهذه هي الزوجية الطبيعية التي عقدها الصنع والايجاد بين الرجل والمرأة من الانسان فجعلهما زوجين.

 

/ صفحة 310 /

ثم الاغراض والغايات الاجتماعية أو الدينية سنت بين الناس سنة النكاح الاجتماعي الاعتباري الذي فيه نوع من الاختصاص بين الزوجين وقسم من التحديد للزوجية الطبيعية المذكورة فالفطرة الانسانية والخلقة الخاصة تهديه إلى ازدواج الرجال بالنساء دون الرجال وازدواج النساء بالرجال دون النساء، وأن الازدواج مبني على أصل التوالد والتناسل دون الاشتراك في مطلق الحياة.

ومن هنا يظهر أن الاقرب ان يكون المراد بقوله: " ما خلق لكم ربكم " العضو المباح للرجال من النساء بالازدواج واللام لملك الطبيعي، وان من في قوله: " من أزواجكم " للتبعيض والزوجية هي الزوجية الطبيعية وإن أمكن ان يراد بها الزوجية الاجتماعية الاعتبارية بوجه.

وأما تجويز بعضهم ان يراد بلفظة " ما " النساء ويكون قوله: " من أزواجكم " بيانا له فبعيد.

وقوله: " بل أنتم قوم عادون " أي متجاوزون خارجون عن الحد الذي خطته لكم الفطرة والخلقة فهو في معنى قوله: " إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل " العنكبوت: 29.

وقد ظهر من جميع ما مر أن كلامه (عليه السلام) مبني على حجة برهانية أشير إليها.

قوله تعالى: " قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين " أي المبعدين المنفيين من قريتنا كما نقل عنهم في موضع آخر: " أخرجوا آل لوط من قريتكم ".

قوله تعالى: " قال إني لعملكم من القالين " المراد بعملهم - على ما يعطيه السياق - إتيان الذكران وترك الاناث.

ولقالي المبغض، ومقابلة تهديدهم بالنفي بمثل هذا الكلام من غير تعرض للجواب عن تهديدهم يفيد من المعنى أني لا أخاف الخروج من قريتكم ولا أكترث به بل مبغض لعملكم راغب في النجاة من وباله النازل بكم لا محالة، ولذا أتبعه بقوله: " رب نجني وأهلي مما يعملون ".

قوله تعالى: " رب نجنى وأهلي مما يعملون " أي من أصل عملهم الذي يأتون به بمرئى ومسمع منه فهو منزجر منه أو من وبال عملهم والعذاب الذي سيتبعه لا محالة.

وإنما لم يذكر إلا نفسه وأهله إذ لم يكن آمن به من أهل القرية أحد، قال تعالى

 

/ صفحة 311 /

في ذلك: " فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " الذاريات: 36.

قوله تعالى: " فنجيناه وأهله أجمعين - إلى قوله - الآخرين " الغابر كما قيل الباقي بعد ذهاب من كان معه، والتدمير الاهلاك، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: " وأمطرنا عليهم مطرا " الخ، وهو السجيل كما قال تعالى: " وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل " الحجر: 74.

قوله تعالى: " إن في ذلك لآية - إلى قوله - العزيز الرحيم " تقدم تفسيره.

 

* * *

 كذب أصحاب الايكة المرسلين - 176.

إذ قال لهم شعيب ألا تتقون - 177.

إني لكم رسول أمين - 178.

فاتقوا الله وأطيعون - 179.

وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين - 180.

أفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين - 181.

وزنوا بالقسطاس المستقيم - 182.

ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين - 183.

واتقوا الذي خلقكم والجبلة الاولين - 184.

قالوا إنما أنت من المسحرين - 185.

وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين - 186.

فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين - 187.

قال ربي أعلم بما تعملون - 188.

فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم - 189.

إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 190.

وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 191.

 

/ صفحة 312 /

(بيان) إجمال قصة شعيب (عليه السلام) وهو من أنبياء العرب، وهي آخر القصص السبع الموردة في السورة.

قوله تعالى: " كذب أصحاب الئيكة المرسلين - إلى قوله - رب العالمين " الايكة الغيضة الملتف شجرها.

قيل: إنها كانت غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة وكانوا ممن بعث إليهم شعيب (عليه السلام)، وكان أجنبيا منهم ولذلك قيل: " إذ قال لهم شعيب " ولم يقل: أخوهم شعيب بخلاف هود وصالح فقد كانا نسيبين إلى قومهما وكذا لوط فقد كان نسيبا إلى قومه بالمصاهرة ولذا عبر عنهم بقوله: " أخوهم هود " " أخوهم صالح " " أخوهم لوط ".

وقد تقدم تفسير باقي الآيات.

قوله تعالى: " أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم " الكيل ما يقدر به المتاع من جهة حجمه وإيفاؤه أن لا ينقص الحجم، والقسطاس الميزان الذي يقدر به من جهة وزنه واستقامته أن يزن بالعدل، والآيتان تأمران بالعدل في الاخذ والاعطاء بالكيل والوزن.

قوله تعالى: " ولا تبخسوا الناس أشياء هم ولا تعثوا في الارض مفسدين " البخس النقص في الوزن والتقدير كما أن الاخسار النقص في رأس المال.

وظاهر السياق أن قوله: " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " أي سلعهم وأمتعتهم قيد متمم لقوله: " وزنوا بالقسطاس المستقيم " كما أن قوله: " ولا تكونوا من المخسرين " قيد متمم لقوله " أوفوا الكيل " وقوله: " ولا تعثوا " في الارض مفسدين " تأكيد للنهيين جميعا أعني قوله: " لا تخسروا " وقوله: " لا تبخسوا " وبيان لتبعة التطفيف السيئة المشومة.

وقوله: " ولا تعثوا في الارض مفسدين " العثي والعيث الافساد، فقوله: " مفسدين " حال مؤكد وقد تقدم في قصة شعيب من سورة هود وفي قوله: " وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا " الآية 35 من سورة الاسراء كلام في كيفية

 

/ صفحة 313 /

إفساد التطفيف المجتمع الانساني، فراجع.

قوله تعالى: " واتقوا الذي خلقكم والجبلة الاولين " قال في المجمع: الجبلة الخليقة التي طبع عليها الشئ.

انتهى.

فالمراد بالجبلة ذوو الجبلة أي اتقوا الله الذي خلقكم وآبائكم الاولين الذين فطرهم وقررفي جبلتهم تقبيح الفساد والاعتراف بشؤمه.

ولعل هذا الذي أشرنا إليه من المعنى هو الموجب لتخصيص الجبلة بالذكر، وفي الآية على أي حال دعوة إلى توحيد العبادة فإنهم لم يكونوا يتقون الخالق الذي هو رب العالمين.

قوله تعالى: " قالوا إنما أنت من المسحرين - إلى قوله - وإن نظنك لمن الكاذبين " تقدم تفسير الصدر، و " إن " في قوله: " إن نظنك " مخففة من الثقيلة.

قوله تعالى: " فأسقط علينا كسفا من السماء " الخ، الكسف بالكسر فالفتح - على ما قيل - جمع كسفة وهي القطعة، والامر مبني على التعجيز والاستهزاء.

قوله تعالى: " قال ربي أعلم بما تعملون " جواب شعيب عن قولهم واقتراحهم منه إتيان العذاب، وهو كناية عن أنه ليس له من الامر شئ وإنما الامر إلى الله لانه أعلم بما يعملون وأن عملهم هل يستوجب عذابا؟ وما هو العذاب الذي يستوجبه إذا استوجب؟ فهو كقول هود لقومه: " إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به " الاحقاف: 23.

قوله تعالى: " فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة " الخ، يوم الظلة يوم عذب فيه قوم شعيب بظلة من الغمام، وقد تقدم تفصيل قصتهم في سورة هود.

 

قوله تعالى: " إن في ذلك لآية - إلى قوله - العزيز الرحيم " تقدم تفسيره.

(بحث روائي) في جوامع الجامع في قوله تعالى: " إذ قال لهم شعيب " وفي الحديث أن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الايكة.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " واتقوا الذي خلقكم والجبلة الاولين " قال:

 

/ صفحة 314 /

الخلق الاولين، وقوله: " فكذبوه " قال: قوم شعيب " فأخذهم عذاب يوم الظلة " قال: يوم حر وسمائم.

 

* * *

 وإنه لتنزيل رب العالمين - 192.

نزل به الروح الامين - 193.

على قلبك لتكون من المنذرين - 194.

بلسان عربي مبين - 195.

وإنه لفي زبر الاولين - 196.

أولم يكن لهم آية أن يعلمه علمؤا بني إسرائيل - 197.

ولو نزلناه على بعض الاعجمين - 198.

فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين - 199.

كذلك سلكناه في قلوب المجرمين - 200.

لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم - 201.

فيأتهيم بغتة وهم لا يشعرون - 202.

فيقولوا هل نحن منظرون - 203.

أفبعذابنا يستعجلون - 204.

وأفرأيت إن متعنا هم سنين - 205.

ثم جاءهم ما كانوا يوعدون - 206.

ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون - 207.

وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون - 208.

ذكرى وما كنا ظالمين - 209.

وما تنزلت به الشياطين - 210.

وما ينبغي لهم وما يستطيعون - 211.

إنهم عن السمع لمعزولون - 212.

فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين - 213.

وأنذر عشيرتك الاقربين - 214.

واخفض جناحك لمن اتبعك من

 

/ صفحة 315 /

المؤمنين - 215.

فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون - 216.

وتوكل على العزيز الرحيم - 217.

الذي يريك حين تقوم - 218.

وتقلبك في الساجدين - 219.

إنه هو السميع العليم - 220.

هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - 221.

تنزل على كل أفاك أثيم - 222.

يلقون السمع وأكثرهم كاذبون - 223.

والشعراء يتبعهم الغاون - 224.

ألم تر أنهم في كل واد يهيمون - 225.

وأنهم يقولون ما لا يفعلون - 226.

إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون - 227.

(بيان) تشير الآيات إلى ما هو كالنتيجة المستخرجة من القصص السبع السابقة ويتضمن التوبيخ والتهديد لكفار الامة.

وفيها دفاع عن نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاحتجاج عليه بذكره في زبر الاولين وعلم علماء بني إسرائيل به، ودفاع عن كتابه بالاحتجاج على أنه ليس من إلقاءات الشياطين ولا من أقاويل الشعراء.

قوله تعالى: " وإنه لتنزيل رب العالمين " الضمير للقرآن، وفيه رجوع إلى ما في صدر السورة من قوله: " تلك آيات الكتاب المبين " وتعقيب لحديث كفرهم به كما في قوله بعد ذلك: " وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين، فقد كذبوا به " الآية.

 

/ صفحة 316 /

والتنزيل الانزال بمعنى واحد، غير أن الغالب على باب الافعال الدفعة وعلى باب التفعيل التدريج، وأصل النزول في الاجسام انتقال الجسم من مكان عال إلى ما هو دونه وفي غير الاجسام بما يناسبه.

وتنزيله تعالى إخراجه الشئ من عنده إلى موطن الخلق والتقدير وقد سمى نفسه بالعلي العظيم والكبير المتعال ورفيع الدرجات والقاهر فوق عباده فيكون خروج الشئ بإيجاده من عنده إلى عالم الخلق والتقدير - وإن شئت فقل: إخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة - تنزيلا منه تعالى له.

وقد استعمل الانزال والتنزيل في كلامه تعالى في أشياء بهذه العناية كقوله تعالى: " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم " الاعراف: 26، وقوله: " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج " الزمر: 6، وقوله: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " الحديد: 25، وقوله: " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم " البقرة: 105، وقد أطلق القول في قوله: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21.

ومن الآيات الدالة على اعتبار هذا المعنى في خصوص القرآن قوله تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف: 4.

وقد أضيف التنزيل إلى رب العالمين للدلالة على توحيد الرب تعالى لما تكرر مرارا أن المشركين إنما كانوا يعترفون به تعالى بما أنه رب الارباب ولا يرون أنه رب العالمين.

قوله تعالى: " نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " المراد بالروح الامين هو جبريل ملك الوحي بدليل قوله: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " البقرة: 97، وقد سماه في موضع آخر بروح القدس: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " النحل: 102، وقد تقدم في تفسير سورتي النحل والاسراء ما يتعلق بمعنى الروح من الكلام.

وقد وصف الروح بالامين للدلالة على أنه مأمون في رسالته منه تعالى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يغير شيئا من كلامه تعالى بتبديل أو تحريف بعمد أو سهو أو نسيان كما أن

 

/ صفحة 317 /

توصيفه في آية أخرى بالقدس يشير إلى ذلك.

وقوله: " نزل به الروح " الباء للتعدية أي نزله الروح الامين، وأما قول من قال: إن الباء للمصاحبة والمعنى نزل معه الروح فلا يلتفت إليه لان العناية في المقام بنزول القرآن لا بنزول الروح مع القرآن.

والضمير في " نزل به " للقرآن بما أنه كلام مؤلف من ألفاظ لها معانيها الحقة فإن الفاظ القرآن نازلة من عنده تعالى كما أن معانيها نازلة من عنده على ما هو ظاهر قوله: " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة: 18، وقوله: " تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق " آل عمران: 108، الجاثية: 6، إلى غير ذلك.

فلا يعبؤ بقول من قال: إن الذي نزل به الروح الامين إنما هو معاني القرآن الكريم ثم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعبر عنها بما يطابقها ويحكيها من الالفاظ بلسان عربي.

وأسخف منه قول من قال: إن القرآن بلفظه ومعناه من منشآت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألقته مرتبة من نفسه الشريفة تسمى الروح الامين إلى مرتبة منها تسمى القلب.

والمراد بالقلب المنسوب إليه الادراك والشعور في كلامه تعالى هو النفس الانسانية التي لها الادراك واليها تنتهي أنواع الشعور والارادة دون اللحم الصنوبري المعلق عن يسار الصدر الذي هو أحد الاعضاء الرئيسة كما يستفاد من مواضع في كلامه تعالى، كقوله: " وبلغت القلوب الحناجر " الاحزاب: 10، أي الارواح، وقوله: " فإنه آثم قلبه " البقرة: 283، أي نفسه إذ لا معنى لنسبة الاثم إلى العضو الخاص.

ولعل الوجه في قوله: " نزل به الروح الامين على قلبك " دون أن يقول: عليك هو الاشارة إلى كيفية تلقيه (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن النازل عليه، وأن الذي كان يتلقاه من الروح هو نفسه ان شريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة التي هي الادوات المستعملة في إدراك الامور الجزئية.

فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى ويسمع حينما كان يوحي إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر والسمع كما روي أنه كان يأخذه شبه إغماء يسمي برجاء الوحي.

فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى الشخص ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره وسمعه الماديتين في ذلك كما نستخدمهما.

 

/ صفحة 318 /

ولو كان رؤيته وسمعه بالبصر والسمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه وبين غيره فكان سائر الناس يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه، والنقل القطعي يكذب ذلك فكثيرا ما كان يأخذه برجاء الوحي وهو بين الناس فيوحى إليه ومن حوله لا يشعرون بشئ ولا يشاهدون شخصا يكلمه ولا كلا ميلقى إليه.

والقول بأن من الجائز أن يصرف الله تعالى حواس غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) من الناس عن بعض ما كانت تناله حواسه وهي الامور الغيبية المستورة عنا.

هدم لبنيان التصديق العلمي إذ لو جاز مثل هذا الخطأ العظيم على الحواس وهي مفتاح العلوم الضرورية والتصديقات البديهية وغيرها لم يبق وثوق على شئ من العلوم والتصديقات.

على أن هذا الكلام مبني على أصالة الحس وأن لا وجود إلا لمحسوس وهو من أفحش الخطأ وقد تقدم في تفسير سورة مريم كلام في معنى تمثل الملك نافع في المقام.

وربما قيل في وجه تخصيص القلب بالانزال أنه لكونه هو المدرك المكلف دون الجسد وإن كان يتلقى الوحي بتوسيط الادوات البدنية من السمع والبصر، وقد عرفت ما فيه.

وربما قيل: لما كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جهتان: جهة ملكية يستفيض بها، وجهة بشرية يفيض بها، جعل الانزال على روحه لانها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الامين، وللاشارة إلى ذلك قيل: " على قلبك " ولم يقل: عليك مع كونه أخصر.

انتهى.

وهذا أيضا مبني على مشاركة الحواس والقوى البدنية في تلقي الوحي فيرد عليه ما قدمناه.

وذكر جمع من المفسرين أن المراد بالقلب هو العضو الخاص البدني وأن الادراك كيفما كان من خواصه.

فمنهم من قال: إن جعل القلب متعلق الانزال مبني على التوسع لان الله تعالى يسمع القرآن جبريل بخلق الصوت فيحفظه وينزل به على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرؤه عليه فيعيه ويحفظه بقلبه فكأنه نزل به لى قلبه.

 

/ صفحة 319 /

ومنهم من قال: إن تخصيص القلب بالانزال لان المعاني الروحانية تنزل أولا على الروح ثم تنتقل منها إلى القلب لما بينهما من التعلق ثم تنتقل منه إلى الدماغ فينتقش بها لوح المتخيلة.

ومنهم من قال: إن تخصيصه به للاشارة إلى كمال تعقله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يعتبر الوسائط من سمع وبصر وغيرهما.

ومنهم من قال: إن ذلك للاشارة إلى صلاح قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقدسه حيث كان منزلا لكلامه تعالى ليعلم به صلاح سائر أجزائه وأعضائه فإن القلب رئيس سائر الاعضاء وملكها وإذا صلح الملك صلحت رعيته.

 

ومنهم من قال: إن ذلك لان الله تعالى جعل لقلب رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) سمعا وبصرا مخصوصين يسمع ويبصر بهما تمييزا لشأنه من غيره كما يشعر به قوله تعالى: " ما كذب الفؤاد ما رأى " النجم: 11.

وهذه الوجوه مضافا على اشتمال أكثرها على المجازفة مبنية على قياس هذه الامور الغيبية على ما عندنا من الحوادث المادية وإجراء حكمها فيها وقد بلغ من تعسف بعضهم أن قال: إن معنى إنزال الملك القرآن أن الله ألهمه كلامه وهو في السماء وعلمه قراءته ثم الملك أداه في الارض وهو يهبط في المكان وفي ذلك طريقتان: إحداهما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انخلغ من صورة البشرية إلى صورة الملكية فأخذه من الملك، وثانيتهما أن الملك انخلع إلى صورة البشرية حتى يأخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاولى أصعب الحالين.

انتهى.

وليت شعري ما الذي تصوره من انخلاع الانسان من صورته إلى صورة الملكية وصيرورته ملكا ثم عوده إنسانا ومن انخلاع الملك إلى صورة الانسانية وقد فرض لكل منهما هوية مغايرة للآخر لا رابطة بين أحدهما والآخر ذاتا وأثرا وفي كلامه مواضع أخرى للنظر غير خفية على من تأمل فيه.

وللبحث تتمة لعل الله سبحانه يوفقنا لاستيفائه بإيراد كلام جامع في الملك وآخر في الوحي.

وقوله: " لتكون من المنذرين " أي من الداعين إلى الله سبحانه التخويف من عذابه وهو المراد بالانذار في عرف القرآن دون النبي أو الرسول بالخصوص، قال

 

/ صفحة 320 /

تعالى في مؤمني الجن: " وإذ صرفنا اليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين " الاحقاف: 29، وقال في المتفقهين من المؤمنين: " ليتفقهوا في الدين لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " براءة: 122.

وإنما ذكر إنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) غاية لانزال القرآن دون نبوته أو رسالته لان سياق آيات السورة سياق التخويف والتهديد.

وقوله " بلسان عربي مبين " أي ظاهر في عربيته أو مبين للمقاصد تمام البيان والجار والمجرور متعلق بنزل أي أنزله بلسان عربي مبين.

وجوز بعضهم ان يكون متعلقا بقوله: " منذرين " والمعنى أنزله على قلبك لتدخل في زمرة الانبياء من العرب وقد ذكر منهم في القرآن هود وصالح وإسماعيل وشعيب (عليهم السلام) وأول الوجهين أحسنهما.

قوله تعالى: " وإنه لفي زبر الاولين " الضمير للقرآن أو نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والزبر جمع زبور وهو الكتاب والمعنى وإن خبر القرآن أو خبر نزوله عليك في كتب الماضين من الانبياء.

وقيل: الضمير لما في القرآن من المعارف الكلية اي إن المعارف القرآنية موجودة مذكورة في كتب الانبياء الماضين.

وفيه أولا: ان المشركين ما كانوا يؤمنون بالانبياء وكتبهم حتى يحتج عليهم بما فيها من التوحيد والمعاد وغيرهما، وهذا بخلاف ذكر خبر القرآن ونزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتب الاولين فإنه حينئذ يكون ملحمة تضطر النفوس إلى قبولها.

وثانيا: أنه لا يلائم الاية التالية.

قوله تعالى: " أو لم يكن لهم آية ان يعلمه علماء بني إسرائيل " ضمير " أن يعلمه " لخبر القرآن أو خبر نزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي أو لم يكن علم علماء بني إسرائيل بخبر القرآن أو نزوله عليك على سبيل البشارة في كتب الانبياء الماضين آية للمشركين على صحة نبوتك وكانت اليهود تبشر بذلك وتستفتح على العرب به كما مر في قوله تعالى: " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا " البقرة: 89.

وقد أسلم عدة من علماء اليهود في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واعترفوا بأنه مبشر به في

 

/ صفحة 321 /

كتبهم، والسورة من أوائل السور المكية النازلة قبل الهجرة ولم تبلغ عداوة اليهود للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مبلغها بعد الهجرة وكان من المرجو أن ينطقوا ببعض ما عندهم من الحق ولو بوجه كلي.

قوله تعالى: " ولو نزلناه على بعض الاعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين " قال في المفردات: العجمة خلاف الابانة والاعجام الابهام - إلى أن قال - والعجم خلاف العرب والعجمي منسوب إليهم، والاعجم من في لسانه عجمة عربيا كان أو غير عربي اعتبارا بقلة فهمهم عن العجم، ومنه قيل للبهيمة عجماء والاعجمي منسوب إليه قوله تعالى: " ولو نزلناه على بعض الاعجمين " على حذف الياءات انتهى.

ومقتضى ما ذكره - كما ترى - ان أصل الاعجمين الاعجميين ثم حذفت ياء النسبة وبه صرح بعض آخر، وذكر بعضهم ان الوجه ان أعجم مؤنثه عجماء وأفعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة لكن الكوفيين من النحاة يجوزون ذلك وظاهر اللفظ يؤيد قولهم فلا موجب للقول بالحذف.

وكيف كان فظاهر السياق اتصال الآيتين بقوله: " بلسان عربي مبين "، فتكونان في مقام التعليل له ويكون المعنى: نزلناه عليك بلسان عربي ظاهر العربية واضح الدلالة ليؤمنوا به ولا يتعللوا بعدم فهمهم مقاصده ولو نزلناه على بعض الاعجمين بلسان أعجمي ما كانوا به مؤمنين وردوه بعدم فهم مقاصده.

فيكون المراد بنزوله على بعض الاعجمين نزوله أعجميا وبلسانه، والآيتان والتي بعدهما في معنى قوله تعالى: " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لو لا فصلت آياته ءأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى " حم السجدة: 44.

وقال بعضهم: إن المعنى ولو نزلناه قرآنا عربيا كما هو بنظمه الرائق المعجز على بعض الاعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية فقرأه عليهم قراءة صحيحة خارقة للعادات ما كانوا به مؤمنين مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة.

 

/ صفحة 322 /

قال: وأما قول بعضهم: إن المعنى ولو نزلناه على بعض الاعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين فليس بذاك فإنه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تماديهم في المكابرة والعناد.

انتهى ملخصا.

وفيه أن إتصال الآيتين بقوله: " بلسان عربي مبين " أقرب اليهما من اتصالهما بسياق تمادي الكفار في كفرهم وجحودهم وقد عرفت توضيحه.

ويمكن أن يورد على الوجه السابق أن الضمير في قوله: " ولو نزلناه على بعض الاعجمين " راجع إلى هذا القرآن الذي هو عربي فلو كان المراد تنزيله بلسان أعجمي لكان المعنى ولو نزلنا العربي غير عربي ولا محصل له.

ويرده أنه من قبيل قوله تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " الزخرف: 3، ولا معنى لقولنا: إنا جعلنا العربي عربيا فالمراد بالقرآن على أي حال الكتاب المقروء.

قوله تعالى: " كذلك سلكناه في قلوب المجرمين " الاشارة بقوله: " كذلك " إلى الحال التي عليها القرآن عند المشركين وقد ذكرت في الآيات السابقة وهي أنهم معرضون عنه لا يؤمنون به وإن كان تنزيلا من رب العالمين وكان عربيا مبينا غير أعجمي وكان مذكورا في زبر الاولين يعلمه علماء بني إسرائيل.

والسلوك الادخال في الطريق والامرار، والمراد بالمجرمين هم الكفار والمشركون وذكرهم بوصف الاجرام للاشارة إلى علة الحكم وهو سلوكه في قلوبهم على هذه الحال المبغوضة والمنفورة وأن ذلك مجازاة إلهية جازاهم بها عن إجرامهم وليعم الحكم بعموم العلة.

والمعنى على هذه الحال - وهي أن يكون بحيث يعرض عنه ولا يؤمن به - ندخل القرآن في قلوب هؤلاء المشركين ونمره في نفوسهم جزاء لاجرامهم وكذلك كل مجرم.

وقيل: الاشارة إلى ما ذكر من أوصاف القرآن الكريمة والمعنى: ندخل القرآن ونمره في قلوب المجرمين بمثل ما بينا له الاوصاف فيرون أنه كتاب سماوي ذو نظم معجز خارج عن طوق البشر وأنه مبشربه في زبر الاولين يعلمه علماء بني إسرائيل وتتم الحجة به عليهم.

وهو بعيد من السياق.

 

/ صفحة 323 /

وقيل: الضمير في " نسلكه " للتكذيب بالقرآن والكفر به المدلول عليه بقوله: " ما كانوا به مؤمنين " هذا وهو قريب من الوجه الاول لكن الوجه الاول ألطف وأدق، وقد ذكره في الكشاف.

وقد تبين بما تقدم أن المراد بالمجرمين مشركو مكة غير أن عموم وصف الاجرام يعمم الحكم، وقال بعضهم: إن المراد بالمجرمين غير مشركي مكة من معاصريهم ومن يأتي بعدهم، والمعنى: كما سلكناه في قلوب مشركي مكة نسلكه في قلوب غيرهم من المجرمين.

ولعل الذي دعاه إلى اختيار هذا الوجه إشكال اتحاد المشبه والمشبه به على الوجه الاول مع لزوم المغايرة بينهما فاعتبر المشار إليه بقوله: " كذلك " السلوك في قلوب مشركي مكة وهو المشبه به وجعل المشبه غيرهم من المجرمين وفيه أن تشبيه الكلي ببعض أفراده للدلالة على سراية حكمه في جميع الافراد طريقة شائعة.

ومن هنا يظهر أن هناك وجها آخر وهو أن يكون المراد بالمجرمين ما يعم مشركي مكة وغيرهم بجعل اللام فيه لغير العهد ولعل الوجه الاول أقرب من السياق.

قوله تعالى: " لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الاليم - إلى قوله - منظرون " تفسيرو بيان لقوله: " كذلك نسلكه " الخ هذا على الوجه الاول والثالث من الوجوه المذكورة في الآية السابقة وأما على الوجه الثاني فهو استئناف غير مرتبطبما قبله.

وقوله: " حتى يروا العذاب الاليم " أي حتى يشاهدوا العذاب الاليم فيلجئهم إلى الايمان الاضطراري الذي لا ينفعهم، والظاهر أن المراد بالعذاب الاليم ما يشاهدونه عند الموت واحتمل بعضهم ان يكون المراد به ما أصابهم يوم بدر من القتل، لكن عموم الحكم في الآية السابقة لمشركي مكة وغيرهم لا يلائم ذلك.

وقوله: " فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون " كالتفسير لقوله: " حتى يروا العذاب الاليم " إذ لو لم يأتهم بغتة وعلموا به قبل موعده لاستعدوا له وآمنوا باختيار منهم غير ملجئين إليه.

وقوله: " فيقولوا هل نحن منظرون " كلمة تحسر منهم.

قوله تعالى: " أفبعذابنا يستعجلون " توبيخ وتهديد.

 

/ صفحة 324 /

قوله تعالى: " أفرأيت إن متعناهم سنين - إلى قوله - يمتعون " متصل بقوله: " فيقولوا هل نحن منظرون " ومحصل المعنى أن تمني الامهال والانظار تمني أمر لا ينفعهم لو وقع على ما يتمنونه ولم يغن عنهم شيئا لو أجيبوا إلى ما سألوه فإن تمتيعهم أمدا محدودا طال أو قصر لا يرفع العذاب الخالد الذي قضي في حقهم.

وهو قوله: " أفرأيت إن متعناهم سنين " معدودة ستنقضي " ثم جاءهم ما كانوا يوعدون " من العذاب بعد انقضاء سني الانظار والامهال " ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " أي تمتيعهم أمدا محدودا.

قوله تعالى: " وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكري " الخ، الاقرب أن يكون قوله: " لها منذرون " حالا من " قرية " وقوله: " ذكرى " حالا من ضمير الجمع في " منذرون " أو مفعولا مطلقا عامله " منذرون " لكونه في معنى مذكرون والمعنى ظاهر، قيل غير ذلك مما لا جدوى في ذكره وإطالة البحث عنه.

وقوله: " وما كنا ظالمين " ورود النفي على الكون دون ان يقال: وما ظلمناهم ونحو ذلك يفيد نفي الشأنية أي وما كان من شأننا ولا المترقب منا ان نظلمهم.

والجملة في مقام التعليل للحصر السابق والمعنى: ما أهلكنا من قرية إلا في حال لها منذرون مذكرون تتم بهم الحجة عليهم لانا لو أهلكناهم في غير هذه الحال لكنا ظالمين لهم وليس من شأننا أن نظلم أحدا فالآية في معنى قوله تعالى: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " أسرى: 15.

(كلام في معنى نفى الظلم عنه تعالى) من لوازم معنى الظلم المتساوية له فعل الفاعل وتصرفه ما لا يملكه من الفعل والتصرف، ويقابله العدل ولازمه أنه فعل الفاعل وتصرفه ما يملكه.

ومن هنا يظهر ان أفعال الفواعل التكوينية من حيث هي مملوكة لها تكوينا لا يتحقق فيها معنى الظلم لان فرض صدور الفعل عن فاعله تكوينا مساوق لكونه مملوكا له بمعنى قيام وجوده به قياما لا يستقل دونه.

 

/ صفحة 325 /

ولله سبحانه ملك مطلق منبسط على الاشياء من جميع جهات وجودها لقيامها به تعالى من غير غنى عنه واستقلال دونه فأي تصرف تصرف به فيها مما يسرها أو يسوؤها أو ينفعها أو يضرها ليس من الظلم في شئ وإن شئت فقل: عدل بمعنى ما ليس بظلم فله ان يفعل ما يشاء وله ان يحكم ما يريد كل ذلك بحسب التكوين.

فله تعالى ملك مطلق بذاته، ولغيره من الفواعل التكوينية ملك تكويني بالنسبة إلى فعله حسب الاعطاء والموهبة الالهية وهو ملك في طول ملكه تعالى وهو المالك لما ملكها والمهيمن على ما عليه سلطها.

ومن جملة هذه الفواعل النوع الانساني بالنسبة إلى أفعاله وخاصة ما نسميها بالافعال الاختيارية والاختيار الذي يتعين به هذه الافعال، فالواحد منا يجد من نفسه عيانا أنه يملك الاختيار بمعنى إمكان الفعل والترك معا، فإن شاء فعل وإن لم يشأ ترك فهو يرى نفسه حرا يملك الفعل والترك، أي فعل وترك كانا، بمعنى إمكان صدور كل منهما عنه.

ثم إن اضطرار الانسان إلى الحياة الاجتماعية المدنية اضطر العقل أن يغمض عن بعض ما للانسان من حرية العمل ويرفع اليد عن بعض الافعال التي كان يرى أنه يملكها وهي التي يختل بإتيانها أمر المجتمع فيختل نظم حياته نفسه وهذه هي المحرمات والمعاصي التي تنهى عنها القوانين المدنية أو السنن القومية أو الاحكام الملوكية الدائرة في المجتمعات.

ومن الضروري لتحكيم هذه القوانين والسنن أن يجعل نوع من الجزاء السيئ على المتخلف عنها - بشرط العلم وتمام الحجة لانه شرط تحقق التكليف - من ذم أو عقاب، ونوع من الاجر الجميل للمطيع الذي يحترمها من مدح أو ثواب.

ومن الضرورى أن ينتصب على المجتمع والقوانين الجارية فيها من يجريها على ما هي عليه وهو مسؤل عما نصب له وخاصة بالنسبة إلى أحكام الجزاء، فلو لم يكن مسؤلا وجاز له أن يجازي وأن لا يجازي ويأخذ المحسن ويترك المسئ لغى وضع القوانين والسنن من رأس.

هذه اصول عقلائية جارية في الجملة في المجتمعات الانسانية منذ استقر هذا النوع على الارض منبعثة عن فطرتهم الانسانية.

 

/ صفحة 326 /

وقد دلت البراهين العقلية وأيدها تواتر الانبياء والرسل من قبله تعالى على أن القوانين الاجتماعية وسنن الحياة يجب أن تكون من عنده تعالى وهي أحكام ووظائف انسانية تهدي إليها الفطرة الانسانية وتضمن سعادة حياته وتحفظ مصالح مجتمعه.

وهذه الشريعة السماوية الفطرية واضعها هو الله سبحانه ومجريها من حيث الثواب والعقاب - وموطنهما موطن الرجوع إليه تعالى - هو الله سبحانه.

ومقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماوية واعتباره نفسه مجريا لها أنه أوجب على نفسه إيجابا تشريعيا - وليس بالتكويني - أن لا يناقض نفسه ولا يتخلف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمد المعاند، وأخذ المظلوم بإثم الظالم وإلا كان ظلما منه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ولعل هذا معنى ما يقال: إن الظلم مقدور له تعال لكنه ليس بواقع البته لانه نقص كمال يتنزه تعالى عنه ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال وليس بفرض محال، وهو المستفاد من ظاهر قوله تعالى: " وما كنا ظالمين " الآية 209 من السورة، وقوله: " إن الله لا يظلم الناس شيئا " يونس: 44، وقوله: " وما ربك بظلام للعبيد " فصلت: 46، وقوله: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء: 165، فظاهرها أنها ليست من قبيل السالبة بانتفاع الموضوع كما يومي إليه تفسير من فسرها بأن المعنى أن الله لا يفعل فعلا لو فعله غيره لكان ظالما.

فإن قلت: ما ذكر من وجوب إجراء الجزاء ثوابا أو عقابا يخالف ما هو المسلم عندهم أن ترك عقاب العاصي جائز لانه من حق المعاقب ومن الجائز على صاحب الحق تركه وعدم المطالبة به بخلاف ثواب المطيع لانه من حق الغير وهو المطيع فلا يجوز تركه وإبطاله.

على أنه قيل: إن الاثابة على الطاعات من الفضل دون الاستحقاق لان العبد وعمله لمولاه فلا يملك شيئا حتى يعاوضه بشئ.

قلت: ترك عقاب العاصي في الجملة مما لا كلام فيه لانه من الفضل وأما بالجملة فلا لاستلزامه لغوية التشريع والتقنين وترتيب الجزاء على العمل.

 

/ صفحة 327 /

وأما كون ثواب الاعمال من الفضل بالنظر إلى كون عمل العبد كنفسه لله فلا ينافي فضلا آخر منه تعالى على عبده باعتبار عمله ملكا له، ثم جعل ما يثيبه عليه أجرا لعمله، والقرآن ملئ بحديث الاجر على الاعمال الصالحة، وقد قال تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " براءة: 111.

قوله تعالى: " وما تنزلت به الشياطين - إلى قوله - لمعزولون " شروع في الجواب عن قول المشركين: إن لمحمد جنا يأتيه بهذا الكلام، وقولهم: إنه شاعر، وقدم الجواب عن الاول وقد وجه الكلام أولا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبين له أن القرآن ليس من تنزيل الشياطين وطيب بذلك نفسه ثم وجه القول إلى القوم فبينه لهم بما في وسعهم أن يفقهوه.

فقوله: " وما تنزلت به الشياطين " أي ما نزلته والآية متصلة بقوله: " وإنه لتنزيل رب العالمين " ووجه الكلام كما سمعت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل قوله تلوا: " فلا تدع مع الله إلها آخر " إلى آخر الخطابات المختصة به (صلى الله عليه وآله وسلم) المتفرعة على قوله: " وما تنزلت به " الخ، على ما سيجئ بيانه.

وإنما وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون القوم لانه معلل بما لا يقبلونه بكفرهم أعني قوله: " إنهم عن السمع لمعزولون " والشيطان الشرير وجمعه الياطين والمراد بهم أشرار الجن.

وقوله: " وما ينبغي لهم " أي للشياطين.

قال في مجمع البيان: ومعنى قول العرب: ينبغي لك أن تفعل كذا أنه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية التي هي الطلب.

انتهى.

والوجه في أنه لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به أنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر والفساد والاخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله، والقرآن كلام حق لا سبيل للباطل إليه فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد.

وقوله: " وما يستطيعون " أي وما يقدرون على التنزل به لانه كلام سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ وحراسة منه تعالى كما قال: " فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط

 

/ صفحة 328 /

بما لديهم " الجن: 28، وإلى ذلك يشير قوله: " إنهم عن السمع " الخ.

قوله: " إنهم عن السمع لمعزولون " أي إن الشياطين عن سمع الاخبار السماوية والاطلاع على ما يجري في المأ الاعلى معزولون حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تتسمعوا كما ذكره الله في مواضع من كلامه.

قوله تعالى: " فلا تدع مع الله ألها آخر فتكون من المعذبين " خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهاه عن الشرك بالله متفرع على قوله: " وما تنزلت به الشياطين " الخ، أي إذا كان هذا القرآن تنزيلا من رب العالمين ولم تنزل به الشياطين وهو ينهى عن الشرك ويوعد عليه العذاب فلا تشرك بالله فينالك العذاب الموعود عليه وتدخل في زمرة المعذبين.

وكونه (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوما بعصمة إلهية يستحيل معها صدور المعصية منه لا ينافي نهيه عن الشرك فإن العصمة لا توجب بطلان تعلق الامر والنهي بالمعصوم وارتفاع التكليف عنه بما أنه بشر مختار في الفعل والترك متصور في حقه الطاعة والمعصية بالنظر إلى نفسه، وقد تكاثرت الآيات في تكليف الانبياء (عليهم السلام) في القرآن الكريم كقوله في الانبياء (عليهم السلام): " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون " الانعام: 88، وقوله في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لئن أشركت ليحبطن عملك " الزمر: 65، والآيتان في معنى النهي.

وقول بعضهم: إن التكليف للتكميل فيرتفع عند حصول الكمال وتحققه لاستحالة تحصيل الحاصل خطأ فإن الاعمال الصالحة التي يتعلق بها التكاليف من آثار الكمال المطلوب والكمال النفساني كما يجب أن يكتسب بالاتيان بآثاره ومزاولة الاعمال التي تناسبه والارتياض بها كذلك يجب أن يستبقى بذلك فما دام الانسان بشرا له تعلق بالحياة الارضية لا مناص له عن تحمل أعباء التكليف، وقد تقدم كلام في هذا المعنى في بعض الابحاث.

قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الاقربين " في مجمع البيان: عشيرة الرجل قرابته سموا بذلك لانه يعاشرهم وهم يعاشرونه انتهى.

وخص عشيرته وقرابته الاقربين بالذكر بعد نهي نفسه عن الشرك وإنذاره تنبيها على أنه لا استثناء في الدعوة الدينية

 

/ صفحة 329 /

ولا مداهنة ولا مساهلة كما هو معهود في السنن الملوكية فلا فرق في تعلق الانذار بين النبي وامته " ولا بين الاقارب والاجانب، فالجميع عبيد والله مولاهم.

قوله تعالى: " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " أي اشتغل بالمؤمنين بك واجمعهم وضمهم اليك بالرأفة والرحمة كما يجمع الطير أفراخه إليه بخفض جناحه لها، وهذا من الاستعارة بالكناية تقدم نظيره في قوله: " واخفض جناحك للمؤمنين " الحجر: 88.

والمراد بالاتباع الطاعة بقرينة قوله في الآية التالية: فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون " فملخص معنى الآيتين: إن آمنوا بك واتبعوك فاجمعهم اليك بالرأفة واشتغل بهم بالتربية وإن عصوك فتبرء من عملهم.

قوله تعالى: " وتوكل على العزيز الرحيم " أي ليس لك من أمر طاعتهم ومعصيتهم شئ وراء ما كلفناك فكل ما وراء ذلك إلى الله سبحانه فإنه لعزته سيعذب العاصين وبرحمته سينجي المؤمنين المتبعين.

وفي اختصاص اسمي العزيز والرحيم لفات للذهن إلى ما تقدم من القصص ختمت واحدة بعد واحدة بالاسمين الكريمين.

فهو في معنى أن يقال: توكل في أمر المتبعين والعاصين جميعا إلى الله فهو العزيز الرحيم الذي فعل بقوم نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وقوم فرعون ما فعل مما قصصناه فسنته أخذ العاصين وإنجاء المؤمنين.

قوله تعالى: " الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين " ظاهر الآتتين - على ما يسبق إلى الذهن - أن المراد بالساجدين الساجدون في الصلاة من المؤمنين وفيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلاته بهم جماعة، والمراد بقرينة المقابلة القيام في الصلاة فيكون المعنى: الذي يراك وأنت بعينه في حالتي قيامك وسجودك متقلبا في الساجدين وأنت تصلي مع المؤمنين.

وفي معنى الآية روايات من طرق الشيعة وأهل السنة سنتعرض لها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.

قوله تعالى: " إنه هو السميع العليم " تعليل لقوله: " وتوكل على العزيز الرحيم "

 

/ صفحة 330 /

وفي الآيات - على ما تقدم من معناها - تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبشرى للمؤمنين بالنجاة وإيعاد للكفار بالعذاب.

قوله تعالى: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - إلى قوله - كاذبون "، تعريف لمن تتنزل عليه الشياطين بما يخصه من الصفة ليعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس منهم ولا أن القرآن من إلقاء الشياطين، والخطاب متوجه إلى المشركين.

فقوله: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين " في معنى هل أعرفكم الذين تتنزل عليهم شياطين الجن بالاخبار؟ وقوله: " تنزل على كل أفاك أثيم " قال في مجمع البيان: الافاك الكذاب وأصل الافك القلب والافاك الكثير القلب للخبر عن جهة الصدق إلى جهة الكذب، والاثيم الفاعل للقبيح يقال: أثم يأثم إثما إذا ارتكب القبيح وتأثم إذا ترك الاثم انتهى.

وذلك أن الشياطين لا شأن لهم إلا إظهار الباطل في صورة الحق وتزيين القبيح في زي الحسن فلا يتنزلون إلا على أفاك أثيم.

وقوله: " يلقون السمع وأكثرهم كاذبون " الظاهر أن ضميري الجمع في " يلقون " و " أكثرهم " معا للشياطين، والسمع مصدر بمعنى المسموع والمراد به ما سمعه الشياطين من أخبار السماء ولو ناقصا فإنهم ممنوعون من الاستماع مرميون بالشهب فما استرقوه لا يكون إلا ناقصا غير تام ولا كامل ولذا يتسرب إليه الكذب كثيرا.

وقوله: " وأكثرهم كاذبون " أي أكثر الشياطين كاذبون لا يخبرون بصدق أصلا وهذا هو الكثرة بحسب الافراد ويمكن أن يكون المراد الكثرة من حيث التنزل أي أكثر المتنزلين منهم كاذبون أي أكثر أخبارهم كاذبة.

ومحصل حجة الآيات الثلاث أن الشياطين لابتناء جبلتهم على الشر لا يتنزلون إلا على كل كذاب فاجر وأكثرهم كاذبون في أخبارهم والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بأفاك أثيم ولا ما يوحى إليه من الكلام كذبا مختلقا فليس ممن تتنزل عليه الشياطين ولا الذي يتنزل عليه شيطانا، ولا القرآن النازل عليه من إلقاء الشياطين.

قوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاون - إلى قوله - لا يفعلون " جواب عن رمي المشركين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه شاعر، نبه عليه بعد الجواب عن قولهم إن له شيطانا يوحي إليه القرآن.

 

/ صفحة 331 /

وهذان أعني قولهم: إن من الجن من يأتيه، وقولهم: إنه شاعر، مما كانوا يكررونه في ألسنتهم بمكة قبل الهجرة يدفعون به الدعوة الحقة، وهذا مما يؤيد نزول هذه الآيات بمكة خلافا لما قيل إنها نزلت بالمدينة.

على أن الآيات مشتملة على ختام السورة أعني قوله: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ولا معنى لبقاء سورة هي من أقدم السور المكية سنين على نعت النقص ثم تمامها بالمدينة، ولا دلالة في الاستثناء على أن المستثنين هم شعراء المؤمنين بعد الهجرة.

وكيف كان فالغي خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع فالرشيد هو الذي لا يهتم إلا بما هو حق واقع، والغوي هو السالك سبيل الباطل والمخطئ طريق الحق، والغواية مما يختص به صناعة الشعر المبنية على التخييل وتصوير غير الواقع في صورة الواقع ولذلك لا يهتم به إلا الغوي لمشعوف بالتزيينات الخيالية والتصويرات الوهمية الملهية عن الحق الصارفة عن الرشد، ولا يتبع الشعراء الذين يبتني صناعتهم على الغي والغواية إلا الغاون وذلك قوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاون ".

و قوله: " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون " يقال: هام يهيم هيمانا إذا ذهب على وجهه والمراد بهيمانهم في كل واد استرسالهم في القول من غير أن يقفوا على حد فربما مدحوا الباطل المذموم كما يمدح الحق المحمود و ربما هجوا الجميل كما يهجي القبيح الدميم وربما دعوا إلى الباطل وصرفوا عن الحق وفي ذلك انحراف عن سبيل الفطرة الانسانية المبنية على الرشد الداعية إلى الحق، وكذا قولهم ما لا يفعلون من العدول عن صراط الفطرة.

وملخص حجة الآيات الثلاث أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بشاعر لان الشعراء يتبعهم الغاون لابتناء صناعتهم على الغواية وخلاف الرشد لكن الذين يتبعونه إنما يتبعونه ابتغاء للرشد وإصابة الواقع وطلبا للحق لابتناء ما عنده من الكلام المشتمل على الدعوة على الحق والرشد دون الباطل والغي.

قوله تعالى: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا " الخ، استثناء من الشعراء المذمومين، والمستثنون هم شعراء المؤمنين فإن الايمان وصالحات الاعمال تردع الانسان بالطبع عن ترك الحق واتباع الباطل ثم الذكر الكثير لله سبحانه

 

/ صفحة 332 /

يجعل الانسان على ذكر منه تعالى مقبلا إلى الحق الذي يرتضيه مدبرا عن الباطل الذي لا يحب الاشتغال به فلا يعرض لهؤلاء ما كان يعرض لاولئك.

وبهذا البيان يظهر وجه تقييد المستثنى بالايمان وعمل الصالحات ثم عطف قوله: " وذكروا الله كثيرا " على ذلك.

وقوله: " وانتصروا من بعد ما ظلموا " الانتصار الانتقام، قيل: المراد به رد الشعراء من المؤمنين على المشركين أشعارهم التي هجوا بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو طعنوا فيها في الدين وقدحوا في الاسلام والمسلمين، وهو حسن يؤيده المقام.

وقوله: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " المنقلب اسم مكان أو مصدر ميمي، والمعنى: وسيعلم الذين ظلموا - وهم المشركون على ما يعطيه السياق - إلى أي مرجع ومنصرف يرجعون وينصرفون وهو النار أو ينقلبون أي انقلاب.

وفيه تهديد للمشركين ورجوع مختتم السورة إلى مفتتحها وقد وقع في أولها قوله: " فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن ".

(بحث روائي) في الكافي بإسناده عن الحجال عمن ذكره عن أحدهما ع قال: سألته عن قول الله عزوجل: " بلسان عربي مبين " قال: يبين الالسن ولا تبينه الالسن.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولو نزلناه على بعض الاعجمين " الخ، قال الصادق (عليه السلام): لو نزلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب وقد نزل على العرب فآمنت به العجم فهذه فضيلة العجم.

وفي الكافي بإسناده عن على بن عيسى القماط عن عمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أري رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه بني أمية يصعدون على منبره من بعده ويضلون الناس عن الصراط القهقرى فأصبح كئيبا حزينا.

قال: فهبط جبرائيل فقال: يا رسول الله ما لي أراك كئيبا حزينا؟ قال

 

/ صفحة 333 /

يا جبرائيل إني رأيت بني أمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلون الناس عن الصراط القهقرى، فقال: والذي بعثك بالحق نبيا إني ما اطلعت عليه فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها.

قال: " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " وأنزل عليه: " إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر " جعل الله ليلة القدر لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرا من ألف شهر ملك بني أمية.

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال: رؤي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنه متحير فسألوه عن ذلك فقال: ولم ورأيت عدوي يلون أمرأمتي من بعدي فنزلت " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " فطابت نفسه.

 

أقول: وقوله: ولم ورأيت الخ، فيه حذف والتقدير ولم لا أكون كذلك وقد رأيت " الخ ".

وفيه أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان وفي الدلائل عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الاقربين " دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا وعم وخص فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا.

يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فأني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا.

يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا.

يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا.

يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا.

يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا.

ألا إن لكم رحما وسأبلها ببلالها.

وفيه أخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين " جعل يدعوهم قبائل قبائل.

وفيه أخرج سعيد بن منصور والبخاري وابن مردويه وابن جرير وابن المنذر

 

/ صفحة 334 /

وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين ورهطك منهم المخلصين " خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى صعد على الصفا فنادي يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا.

قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: " تبت يدا أبي لهب وتب ".

وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أمامة قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين " جمع رسول الله بني هاشم فأجلسهم على الباب وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت ثم اطلع عليهم فقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار واسعوا في فكاك رقابكم وافتكوها بأنفسكم من الله فإني لا أملك لكم من الله شيئا.

ثم أقبل على أهل بيته فقال: يا عائشة بنت أبي بكرو يا حفصة بنت عمر ويا أم سلمة ويا فاطمة بنت محمد ويا أم الزبير عمة رسول الله اشتروا (1) أنفسكم من الله واسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئا ولا أغني، الحديث.

أقول: وفي معنى هذه الروايات بعض روايات أخر وفي بعضها أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خص بني عبد مناف بالانذار فيشمل بني أمية وبني هاشم جميعا.

والروايات الثلاث الاول لا تنطبق عليها الآية فانها تعمم الانذار قريشا عامة والآية تصرح بالعشيرة الاقربين وهم إما بنو عبد المطلب أو بنو هاشم وأبعد ما يكون من الآية لرواية الثانية حيث تقول: جعل يدعوهم قبائل قبائل.

على أن ما تقدم من معنى الآية وهو نفي أن تكون قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تغنيهم من تقوى الله وفي الروايات إشارة إلى ذلك - حيث تقول: لا اغني عنكم من الله

 

* (هامش) *

(1) كذا.

(*)

 

/ صفحة 335 /

شيئا - لا يناسب عمومه لغير الخاصة من قرابته (صلى الله عليه وآله وسلم).

وأما الرواية الرابعة فقوله تعالى: " أنذر عشيرتك الاقربين " آية مكية في سورة مكية ولم يقل أحد بنزول الآية بالمدينة وأين كانت يوم نزولها عائشة وحفصة وأم سلمة ولم يتزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهن إلا في المدينة؟ فالمعتمد من الروايات ما يدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خص بالانذار يوم نزول الآية بني هاشم أو بني عبد المطلب، ومن عجيب الكلام قول الآلوسي بعد نقل الروايات: وإذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الانذار.

وفي المجمع عن تفسير الثعلبي بإسناده عن براء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا الرجل منهم يأكل المسنة ويشرب العس فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال: ادنوا بسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا.

ثم دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعا ثم قال لهم: اشربوا بسم الله فشربوا حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل فسكت (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ ولم يتكلم.

ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا بني عبد المطلب إني أنا النذير اليكم من الله عزوجل فأسلموا وأطيعوني تهتدوا.

ثم قال: من يواخيني ويوازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا كل ذلك يسكت القوم ويقول علي أنا فقال في المرة الثالثة: أنت فقام القوم وهم يقولون لابي طالب: أطع ابنك فقد أمر عليك.

 

قال الطبرسي: وروي عن أبي رافع هذه القصة وأنه جمعهم في الشعب فصنع لهم رجل شاة فأكلوا حتى تضلعوا وسقاهم عسا فشربوا كلهم حتى رووا.

ثم قال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي ورهطي، وإن الله لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا ووزيرا ووارثا ووصيا وخليفة في أهله فأيكم يقوم فيبا يعني على أنه أخي ووارثي ووزيري ووصيي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ فقال علي: أنا فقال: ادن مني ففتح فاه ومج في فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه فقال أبو لهب: بئس ما

 

/ صفحة 336 /

حبوت به ابن عمك أن أجابك فملات فاه ووجهه بزاقا فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ملاته حكمة وعلما.

أقول: وروي السيوطي في الدر المنثور ما في معنى حديث البراء عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي في الدلائل من طرق عن علي رضي الله عنه وفيه: ثم تكلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحدا في العرب جاء قومه با فضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا؟ فقلت وأنا أحدثهم سنا: إنه أنا، فقام القوم يضحكون وفي علل الشرائع بإسناده عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين " أي رهطك المخلصين دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلا يزيدون ر جلا وينقصون رجلا فقال: أيكم يكون أخي ووارثي ووزيري ووصيي وخليفتي فيكم بعدي، فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا كلهم يأبي ذلك حتى أتى علي فقلت: أنا يا رسول الله.

فقال: يا بني عبد المطلب هذا وارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض ويقولون لابي طالب: قد أمرك أن تسمعع وتطيع لهذا الغلام.

أقول: ومن الممكن أن يستفاد من قوله (عليه السلام): أي رهطك المخلصين أن ما نسب إلى قراءة أهل البيت " وأنذر شيرتك الاقربين رهطك منهم المخلصين " ونسب أيضا إلى قرآن ابي بن كعب كان من قبيل التفسير.

وفي المجمع في قوله تعالى: " وتقلبك في الساجدين " قيل: معناه وتقلبك في الساجدين الموحدين من نبي لى نبي حتى أخرجك نبيا.

عن ابن عباس في رواية عطاء وعكرمة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: أصلاب النبيين نبي بعد نبي حتى أخرجه من صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم.

أقول: ورواه غيره من رواة الشيعة، ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم وغيرهم عن ابن عباس وغيرهم.

وفي المجمع روي جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا

 

/ صفحة 337 /

ترفعوا قبلي تضعوا قبلي فاني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ثم تلي هذه الآية.

أقول: يريد (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع الجبهة على الارض ورفعها في السجدة، ورواه في الدر المنثور عن ابن عباس وغيره.

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا.

أقول: وهو مروي من طرق الشيعة أيضا عن الصادق (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي تفسير القمي قال: يعظون الناس ولا يتعظون وينهون عن المنكرو لا ينتهون ويأمرون بالمعروف ولا يعملون وهم الذين قال الله فيهم: " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون " أي في كل مذهب يذهبون " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " وهم الذين غصبوا آل محمد حقهم.

وفي اعتقادات الصدوق سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: " والشعراء يتبعهم الغاون " قال: هم القصاص.

أقول: هم من المصاديق والمعنى الجامع ما تقدم في ذيل الآية.

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن من الشعر حكما وإن من البيان سحرا.

أقول: وروي الجملة الاولى أيضا عنه عن بريدة وابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأيضا عن ابن مردويه عن أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولفظه إن من الشعر حكمة، والممدوح من الشعر ما فيه نصرة الحق ولا تشمله الآية.

وفي المجمع عن الزهري قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن كعب ابن مالك قال: يا رسول الله ما ذا تقول في الشعراء؟ قال: إن المؤمن مجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما تنضخونهم بالنبل.

قال الطبرسي وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لحسان بن ثابت: اهجهم أوهاجهم وروح

 

/ صفحة 338 /

القدس معك رواه البخاري ومسلم في الصحيحين.

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الحسن سالم البراد قال: لما نزلت " والشعراء " الآية جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت وهم يبكون فقالوا: يا رسول الله لقد أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء أهلكنا؟ فأنزل الله " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فدعاهم رسول الله فتلاها عليهم.

أقول: هذه الرواية وما في معناها هي التي دعا بعضهم إلى القول بكون الآيات الخمس من آخر السورة مدنيات وقد عرفت الكلام في ذلك عند تفسير الآيات.

وفي الكافي بإسناده عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا.

ثم قال: لا أعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان منه ولكن ذكر الله عند ما أحل وحرم فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها.

أقول: فيه تأييد لما تقدم في تفسير الآية.

 

/ صفحة 339 /

(سورة النمل مكية، وهي ثلاث وتسعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم.

طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين - 1.

هدى وبشرى للمؤمنين - 2.

الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم بالآخرة هم يوقنون - 3.

إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون - 4.

أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الاخسرون - 5.

وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم - 6.

(بيان) غرض السورة - على ما تدل عليه آيات صدرها والآيات الخمس الخاتمة لها - التبشير والانذار وقد استشهد لذلك بطرف من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط (عليهم السلام) ثم عقبها ببيان نبذة من أصول المعارف كوحدانيته تعالى في الربوبية والمعاد وغير ذلك.

قوله تعالى: " تلك آيات الكتاب وقرآن مبين " الاشارة بتلك - كما مر في أول سورة الشعراء - إلى آيات السورة مما ستنزل بعد وما نزلت قبل، والتعبير باللفظ الخاص بالبعيد للدلالة على رفعة قدرها وبعد منالها.

والقرآن إسم للكتاب باعتبار كونه مقروا، والمبين من الابانة بمعنى الاظهار، وتنكير " قرآن " للتفخيم أي تلك الآيات الرفيعة القدر التي ننزلها آيات الكتاب وآيات كتاب مقرو عظيم الشأن مبين لمقاصده من غير إبهام ولا تعقيد.

 

/ صفحة 340 /

قال في مجمع البيان: وصفه بالصفتين يعني الكتاب والقرآن ليفيد أنه مما يظهر بالقراءة ويظهر بالكتابة وهو بمنزلة الناطق بما فيه من الامرين جميعا، ووصفه بأنه مبين تشبيه له بالناطق بكذا.

انتهى.

قوله تعالى: " هدى وبشرى للمؤمنين " المصدر ان أعني " هدى وبشرى " بمعنى اسم الفاعل أو المراد بهما المعنى المصدري للمبالغة.

قوله تعالى: " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة " الخ، المراد إتيان الاعمال الصالحة وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة لكون كل منها ركنا في بابه فالصلاة فيما يرجع إلى الله تعالى والزكاة فيما يرجع إلى الناس وبنظر آخر الصلاة في الاعمال البدنية والزكاة في الاعمال المالية.

وقوله: " وهم بالآخرة هم يوقنون " وصف آخر للمؤمنين معطوف على ما قبله جئ به للاشارة إلى أن هذه الاعمال الصالحة إنما تقع موقعها وتصيب غرضها مع الايقان بالآخرة فإن العمل يحبط مع تكذيب الآخرة، قال تعالى: " والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم " الاعراف: 147.

وتكرار الضمير في قوله: " وهم بالآخرة " الخ للدلالة على أن هذا الايقان من شأنهم وهم أهله المترقب منهم ذلك.

قوله تعالى: " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون " العمه التحير في الامر ومعنى تزيين العمل جعله بحيث ينجذب إليه الانسان والذين لا يؤمنون بالآخرة لما أنكروها وهي غاية مسيرهم يبقوا في الدنيا وهي سبيل لا غاية فتعلقوا بأعمالهم فيها وكانوا متحيرين في الطريق لا غاية لهم يقصدونها.

قوله تعالى: " أولئك لهم سوء العذاب " الخ إيعاد بمطلق العذاب من دنيوي وأخروي بدليل ما في قوله: " وهم في الآخرة هم الاخسرون " ولعل وجه كونهم أخسر الناس أن سائر العصاة لهم صحائف أعمال مثبتة فيها سيئاتهم وحسناتهم يجازون بها وأما هؤلاء فسيئاتهم محفوظة عليهم يجازون بها وحسناتهم حابطة.

قوله تعالى: " وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم " التلقية قريبة المعنى من التلقين، وتنكير " حكيم عليم " للتعظيم، والتصريع بكون هذا القرآن من عنده

 

/ صفحة 341 /

تعالى ليكون ذلك حجة على الرسالة وتأييدا لما تقدم من المعارف ولصحة ما سيذكره من قصص الانبياء (عليهم السلام).

وتخصيص الاسمين الكريمين للدلالة على نزوله من ينبوع الحكمة فلا ينقضه ناقض ولا يوهنه موهن، ومنبع العلم فلا يكذب في خبر لا يخطئ في قضائه.

 

* * *

 إذ قال موسى لاهله إني آنست نارا سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون - 7.

فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومحولها وسبحان الله رب العالمين - 8.

يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم - 9.

وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون - 10.

إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء إني غفور رحيم - 11.

وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين - 12.

فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين - 13.

وجحدوا بها واستيقنتهم أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين - 14.

(بيان) أول القصص الخمس التي أشير إليها في السورة استشهادا لما في صدرها من التبشير و الانذار والوعد والوعيد وتغلب في الثلاث الاول منها وهي قصص موسى وداود

 

/ صفحة 342 /

وسليمان جهة الوعد على الوعيد وفي الاخيرتين بالعكس.

قوله تعالى " إذ قال موسى لاهله " الخ المراد بأهله إمرأته وهي بنت شعيب على ما ذكره الله تعالى في سورة القص قال في المجمع: إن خطابها بقوله: " آتيكم " بصيغة الجمع لاقامتها مقام الجماعة في الانس بها في الامكنة الموحشة.

انتهى ومن المحتمل أنه كان معها غيرها من خادم أو مكار أو غيرهما.

وفي المجمع: الايناس الابصار، وقيل: آنست أي أحسست بالشئ من جهة يؤنس بها وما آنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه.

انتهى والشهاب على ما في المجمع نور كالعمود من النار وكل نور يمتد كالعمود يسمى شهابا والمراد الشعلة من النار، وفي المفردات: الشهاب الشعلة الساطعة من النار الموقدة ومن العارض في الجو وفي المفردات أيضا: القبس المتناول من الشعلة، والاصطلاء بالنار الاستدفاء بها.

وسياق الآية يشهد ويؤيده ما وقع من القصة في سور أخرى أنه كان حينذاك يسير بأهله وقد ضل الطريق وأصابه وأهله البرد في ليلة داجية فأبصر نارا من بعيد فأراد أن يذهب إليها فإن وجد عندها إنسانا استخبره أو يأخذ قبسا يأتي به إلى أهله فيوقدوا نارا يصطلون بها.

فقال لاهله امكثوا إني أحسست وأبصرت نارا فالزموا مكانكم سأتيكم منها أي من عندها بخبر نهتدي به أو آتيكم بشعلة متناولة من النار لعلكم توقدون بها نارا تصطلون وتستدفؤن بها.

ويظهر من السياق أيضا أن النار إنما ظهرت له (عليه السلام) ولم يشاهدها غيره وإلا عبر عنها بالاشارة دون التنكير.

ولعل اختلاف الاتيان بالخبر والاتيان بالنار نوعا هو الموجب لتكرارلفظ الاتيان حيث قال: " سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس ".

قوله تعالى: " فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين " أي فلما أتى النار وحضر عندها نودي أن بورك " الخ ".

والمراد بالمباركة إعطاء الخير الكثير يقال: باركه وبارك عليه وبارك فيه أي البسه الخير الكثير وحباه به، وقد وقع في سورة طه في هذا الموضع من القصة قوله: " فلما أتاه نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا

 

/ صفحة 343 /

اخترتك فاستمع لما يوحى " طه: 13.

ويستأنس منه أن المراد بمن حول النار موسى أو هو ممن حول النار، ومباركته اختياره بعد تقديسه.

وأما المراد بمن في النار فقد قيل: إن معناه من ظهر سلطانه وقدرته في النار فإن التكليم كان من الشجرة - على ما في سورة القصص - وقد أحاطت بها النار، وعلى هذا فالمعنى: تبارك من تجلى لك بكلامه من النار وبارك فيك، ويكون قوله: " وسبحان الله رب العالمين " تنزيها له سبحانه من أن يكون جسما أو جسمانيا يحيط به المكان أو يجاوره الحدثان لا لتعجيب موسى كما قيل.

وقيل: المراد بمن في النار الملائكة الحاضرون فيها كما أن المراد بمن حولها موسى (عليه السلام).

و قيل: المراد به موسى (عليه السلام) وبمن حولها الملائكة.

وقيل: في الكلام تقدير والاصل بورك من في المكان الذي فيه النار - وهو البقعة المباركة التي كانت فيها الشجرة كما في سورة القصص ومن فيها هو موسى وحولها هي الارض المقدسة التي هي الشامات، ومن حولها هم الانبياء القاطنون فيها من آل إبراهيم وبني إسرائيل.

وقيل: المراد بمن في النار نور الله تعالى وبمن حولها موسى.

وقيل: المراد بمن في النار الشجرة فإنها كانت محاطة بالنار بمن حولها الملائكة المسبحون.

وأكثر هذه الوجوه لا يخلو من تحكم ظاهر.

قوله تعالى: " يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم " تعرف منه تعالى لموسى (عليه السلام) ليعلم أن الذي يشافهه بالكلام ربه تعالى فهذه الآية في هذه السورة تحاذى قوله من سورة طه " نودي أن يا موسى إني أنا ربك فاخلع " الخ، فارجع إلى سورة طه وتدبر في الآيات.

قوله تعالى: " وألق عصاك فلمارآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب " الخ، الاهتزاز التحرك الشديد، والجان الحية الصغيرة السريعة الحركة، والادبار خلاف الاقبال، والتعقيب الكر بعد الفر من عقب المقاتل إذا كربعد فراره.

 

/ صفحة 344 /

وفي الآية حذف وإيجاز تفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله: " فلمارآها تهتز " والتقدير وألق عصاك فلما ألقاها إذا هي ثعبان مبين يهتز كأنه جان ولما رآها تهتز الخ.

 

ولا منافاة بين يرورة العصا ثعبانا مبينا كما وقع في قصته (عليه السلام) من سورتي الاعراف والشعراء - والثعبان الحية العظيمة الجثة وبين تشبيهها في هذه السورة بالجان فإن التشبيه إنما وقع في الاهتزاز وسرعة الحركة والاضطراب حيث شاهد العصا وقد تبدلت ثعبانا عظيم الجثة هائل المنظر يهتز ويتحرك بسرعة اهتزاز الجان وتحركه بسرعة وليس تشبيها لنفس العصا أو الثعبان بنفس الجان.

وقيل: إن آية العصا كانت مختلفة الظهور فقد ظهرت العصا لاول مرة في صورة الجان كما وقع في سورة طه: " فألقاها فإذا هي حية تسعى " آية 20 من السورة ثم ظهرت لما ألقاها عند فرعون في صورة ثعبان مبين كما في سورتي الاعراف والشعراء.

وفيه أن هذا الوجه وإن كان لا يخلو بالنظر إلى سياق الآيات عن وجاهة لكنه لا يندفع به إشكال تشبيه الشئ بنفسه أو عدم تبدلها حية فالمعول في دفع الاشكال على ما تقدم.

قوله تعالى: " يموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون " حكاية نفس الخطاب الصادر هناك وهو في معنى قال الله يا موسى لا تخف " الخ ".

وقوله: " لا تخف " نهي مطلق يؤمنه عن كل ما يسوء مما يخاف منه ما دام في حضرة القرب والمشافهة سواء كان المخوف منه عصا أو غيرها ولذا علل النهي بقوله: " إني لا يخاف لدي المرسلون فإن تقييد النفي بقوله: " لدي " يفيد أن مقام القرب والحضور يلازم الامن ولا يجامع مكروها يخاف منه، ويؤيده تبديل هذه الجملة في القصة من سورة القصص من قوله: " إنك من الآمنين " فيتحصل المعنى: لا تخف من شئ إنك مرسل والمرسلون - وهم لدي في مقام القرب - في مقام الامن ولا خوف مع الامن.

وأما فرار موسى (عليه السلام) من العصا وقد تصورت بتلك الصورة الهائله وهي تهتز كأنها جان فقد كان جريا منه على ما جبل الله الطبيعة الانسانية عليه إذا فاجأه من المخاطر ما لا سبيل له إلى دفعه عن نفسه إلا الفرار وقد كان أعزل لا سلاح معه إلا

 

/ صفحة 345 /

عصاه وهي التي يخافها على نفسه ولم يرد عليه من جانبه تعالى أمر سابق يلزم مكانه أو نهي عن الفرار مما يخافه على نفسه إلا قوله تعالى: " وألق عصاك " وقد امتثله، وليس الفرار من المخاطر العظيمة التي لا دافع لها إلا الفرار، من الجبن المذموم حتى يذم عليه.

وأما أن الانبياء والمرسلين لا يخافون شيئا وهم عند ربهم - على ما يدل عليه قوله: " إني لا يخاف لدي المرسلون " - فهم لا يملكون هذه الكرامة من عند أنفسهم بل إنما ذلك بتعليم من الله وتأديب وإذ كان موقف ليلة الطور أول موقف من موسى قربه الله إليه فيه وخصه بالتكليم وحباه بالرسالة والكرامة فقوله: " لا تخف إنك من الآمنين " وقوله: " لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون " تعليم وتأديب إلهى له (عليه السلام).

فتبين بذلك أن قوله: " لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون " تأديب وتربية إلهية لموسى (عليه السلام) وليس من التوبيخ والتأنيب في شئ قوله تعالى: " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم " الذي ينبغي أن يقال - والله أعلم - أن الآية السابقة لما أخبرت عن أن المرسلين آمنون لا يخافون فهم منه أن غيرهم من أهل الظلم غير آمنين لهم أن يخافوا استدرك في هذه الآية حال أهل التوبة من جملة أهل الظلم فبين أنهم لتوبتهم وتبديلهم ظلمهم - وهو السوء - حسنا بعد سوء مغفور لهم مرحومون فلا يخافون أيضا.

فالاستثناء من المرسلين وهو استثناء منقطع والمراد بالظلم مطلق المعصية وبالحسن بعد السوء التوبة بعد المعصية أو العمل الصالح بعد السئ، والمعنى: لكن من ظلم باقتراف المعصية ثم بدل ذلك حسنا بعد سوء وتوبة بعد معصية أو عملا صالحا بعد سئ فإني غفور رحيم اغفر ظلمه وارحمه فلا يخافن بعد ذلك شيئا.

قوله تعالى: " وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء الخ، فسر السوء بالبر ص وقد تقدم، وقوله: " في تسع آيات إلى فرعون وقومه " يمكن أن يستظهر من السياق أولا أن " في تسع " حال من الآيتين جميعا، والمعنى: آتيتك هاتين الآيتين - العصا واليد - حال كونهما في تسع آيات.

وثانيا: أن الآيتين من جملة الآيات التسع، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى:

 

/ صفحة 346 /

" ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " أسرى: 101، كلام في تفصيل الآيات التسع، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين " المبصرة بمعنى الواضحة الجلية، وفي قولهم: " هذا سحر مبين " إزراء وإهانة بالآيات حيث أهملوا الدلالة على خصوصيات الآيات حتى العدد فلم يعبؤا بها إلا بمقدار أنها أمر ما.

قوله تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " الخ، قال الراغب: الجحد نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه.

انتهى.

والاستيقان والايقان بمعنى.

 

* * *

 ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين - 15.

وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين - 16.

وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون - 17.

حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلو امساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون - 18.

فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن شكرنعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين - 19.

وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين - 20.

لا عذبنه عذابا شديدا

 

/ صفحة 347 /

أو لا ذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين - 21.

فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين - 22.

إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم - 23.

وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون - 24.

ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبأ في السموات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون - 25.

ألله لا إله إلا هو رب العرش العظيم - 26.

قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين - 27.

إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون - 28.

قالت يا أيها الملؤ إني ألقي إلي كتاب كريم - 29.

إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم - 30.

ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين - 31.

قالت يا أيها الملؤ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون - 32.

قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والامر اليك فانظري ماذا تأمرين - 33.

قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون - 34.

وإني مرسلة إليهم بهدية فناظره بم يرجع المرسلون - 35.

فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون - 36.

 

/ صفحة 348 /

إرجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ونخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون - 37.

قال يا أيها الملؤ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين - 38.

قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين - 39.

قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلونئ أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم - 40.

قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون - 41.

فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين - 42.

وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين - 43.

قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين - 44.

(بيان) نبذة من قصص داود وسليمان (عليهما السلام) وفيها شئ من عجائب أخبار سليمان بما آتاه الله من الملك.

 

/ صفحة 349 /

قوله تعالى: " ولقد آتينا داود وسليمان علما " الخ، في تنكير العلم إلى تفخيم أمره ومما أشير فيه إلى علم داود من كلامه تعالى قوله: " وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " ص: 20.

ومما أشير فيه إلى علم سليمان قوله: " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما " الانبياء: 79، وذيل الآية، يشملهما جميعا وقوله: " وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " المراد بالتفضيل إما التفضيل بالعلم على ما ربما يؤيده سياق الآية وإما التفضيل بمطلق ما خصهما الله به من المواهب كتسخير الجبال والطير لداود وتليين الحديد له وإيتائه الملك، وتسخير الجن والوحش والطير وكذا الريح لسليمان وتعليمه منطق الطير وإيتائه الملك على ما يستدعيه إطلاق التفضيل.

والآية أعني قوله: " وقالا الحمد لله " الخ، على أي حال بمنزلة حكاية اعترافهما على التفضيل الالهي فيكون كالشاهد على المدعى الذي تشير إليه بشارة صدر السورة أن الله سبحانه سيخص المؤمنين بما تقربه عيونهم ومثلها ما سيأتي من إعترافات سليمان في مواضع من كلامه.

قوله تعالى: " وورث سليمان داود " الخ، أي ورثه ماله وملكه، وأما قول بعضهم: المراد به وراثة النبوة والعلم ففيه أن النبوة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، والعلم وإن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنه إنما يصح في العلم الفكري الاكتسابي والعلم الذي يختص به الانبياء والرسل كرامة من الله لهم وهبي ليس مما يكتسب بالفكر فغير النبي يرث العلم من النبي لكن النبي لا يرث علمه من نبي آخر ولا من غير نبي.

وقوله: " وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير " ظاهر السياق أنه (عليه السلام) يباهي عن نفسه وأبيه وهو منه (عليه السلام) تحديث بنعمة الله كما قال تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " الضحى: 11، وأما إصرار بعض المفسرين على أن الضمير في قوله: " علمنا " و " أوتينا " لنفسه لا له ولابيه على ما هو عادة الملوك والعظماء في الاخبار عن أنفسهم - فإنهم يخبرون عنهم وعن خدمهم وأعوانهم رعاية لسياسة الملك - فالسياق السابق لا يساعد عليه كل المساعدة.

 

/ صفحة 350 /

والمراد بالناس ظاهر معناه وهو عامة المجتمعين من غير تميز لبعضهم من بعض وقول بعضهم إن المراد بهم عظماء أهل مملكته أو علماؤهم غير سديد.

والمنطق والنطق على ما نتعارفه هو الصوت أو الاصوات المؤلفة الدالة بالوضع على معان مقصودة للناطق المسماة كلاما ولا يكاد يقال - على ما ذكره الراغب - إلا للانسان لكن القرآن الكريم يستعمله في معنى أوسع من ذلك وهو دلالة الشئ على معنى مقصود لنفسه، قال تعالى: " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " حم السجدة: 21، وهو إما من باب تحليل المعنى كما يستعمله القرآن في أغلب المعاني والمفاهيم المقصورة في الاستعمالات على المصاديق الجسمانية المادية كالرؤية والنظر والسمع واللوح القلم والعرش والكرسي وغيرها، وإما لان للفظ معنى أعم وإختصاصه بالانسان من باب الانصراف لكثرة الاستعمال.

وكيف كان فمنطق الطير هو ما تدل به الطير بعضها على مقاصدها، والذي نجده عند التأمل في أحوالها الحيوية هو أن لكل صنف أو نوع منها أصواتا ساذجة خاصة في حالاتها الخاصة الاجتماعية حسب تنوع اجتماعاتها كحال الهياج للسفاد وحال المغالبة والغلبة وحال الوحشة والفزع وحال التضرع أو الاستغاثة إلى غير ذلك ونظير الطير في ذلك سائر الحيوان.

لكن لا ينبغي الارتياب في أن المراد بمنطق الطير في الآية معنى أدق وأوسع من ذلك.

أما أولا: فلشهادة سياق الآية على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث عن أمر اختصاصي ليس في وسع عامة الناس أن ينالوه وإنما ناله بعناية خاصة إلهية، وهذا المقدار المذكور من منطق الطير مما يسع لكل أحد أن يطلع عليه ويعرفه.

وأما ثانيا: فلان ما حكاه الله تعالى في الآيات التالية من محاورة سليمان والهدهد يتظمن معارف عالية متنوعة لا يسع لما نجده عند الهدهد من الاصوات المعدودة أن تدل عليها بتميز بعضها من بعض نفي كلام الهدهد ذكر الله سبحانه ووحدانيته وقدرته وعلمه وربوبيته وعرشه العظيم وذكر الشيطان وتزيينه الاعمال والهدى والضلال وغير ذلك، وفيه ذكر الملك والعرش والمرأة وقومها وسجدتهم للشمس، وفي كلام