/ صفحة 101 /
يدل من الايات على المزيد كقوله: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35 أمر وراء الجزاء والاجر خارج عن طور العمل.
وربما أجيب عنه بأن معنى الاية أن الصالح لا ينقص ثوابه والطالح لا يزاد عقابه فإن الحكمة تنافيه أما زيادة الثواب ونقص العقاب فلا مانع منه أو أن المراد بقوله: " لا تجزون إلا ما كنتم تعملون " أنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وفيه أن مدلول الاية لو كان ما ذكر اندفع الاشكال لكن الشأن في دلالتها على ذلك.
قوله تعالى: " إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " الشغل الشأن الذي يشغل الانسان ويصرفه عما عداه، والفاكه من الفكاهة وهي التحدث بما يسر أو التمتع والتلذذ ولا فعل له من الثلاثي المجرد على ما قيل.
وقيل: " فاكهون " معناه ذوو فاكهة نحو لابن وتامر ويبعده أن الفاكهة مذكورة في السياق ولا موجب لتكرارها.
والمعنى أن أصحاب الجنة في هذا اليوم في شأن يشغلهم عن كل شئ دونه وهو التنعم في الجنة متمتعون فيها.
قوله تعالى: " هم وأزواجهم في ظلال على الارائك متكؤن " الظلال جمع ظل وقيل جمع ظلة بالضم وهي السترة من الشمس من سقف أو شجر أو غير ذلك، والاريكة كل ما يتكى عليه من وسادة أو غيرها.
والمعنى: هم أي أصحاب الجنة وأزواجهم من حلائلهم المؤمنات في الدنيا أو من الحور العين في ظلال أو أستار من الشمس وغيرها متكئون على الارائك اتكاء الاعزة.
قوله تعالى: " لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون " الفاكهة ما يتفكه به من الثمرات كالتفاح والاترج ونحوهما، وقوله: " يدعون " من الادعاء بمعنى التمني أي لهم في الجنة فاكهة ولهم فيها ما يتمنونه ويطلبونه.
قوله تعالى: " سلام قولا من رب رحيم " سلام مبتدء محذوف الخبر والتنكير للتفخيم والتقدير سلام عليهم أو لهم سلام، و " قولا " مفعول مطلق لفعل محذوف و التقدير
/ صفحة 102 /
أقوله قولا من رب رحيم.
والظاهر أن السلام منه تعالى وهو غير سلام الملائكة المذكور في قوله: " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقب الدار " الرعد: 24.
قوله تعالى: " وامتازوا اليوم أيها المجرمين " أي ونقول اليوم للمجرمين امتازوا من أصحاب الجنة وهو تمييزهم منهم يوم القيامة وإنجاز لما في قوله في موضع آخر: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " ص: 28، وقوله: " أم حسب الذين اجترحوا السيآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم " الجاثية: 21.
قوله تعالى: " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين " العهد الوصية، والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس ويأمر به إذ لا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته، وقد علل النهى عن طاعته بكونه عدوا مبينا لان العدو لا يريد بعدوه خيرا.
وقيل: المراد بعبادته عبادة الالهة من دون الله وإنما نسبت إلى الشيطان لكونها بتسويله وتزيينه، وهو تكلف من غير موجب.
وإنما وجه الخطاب إلى المجرمين بعنوان أنهم بنو آدم لان عداوة الشيطان إنما نشبت أول ما نشبت بآدم حيث أمر أن يسجد له فأبى واستكبر فرجم ثم عاد ذريته بعداوته وأوعدهم كما حكاه الله تعالى إذ قال: " أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا " أسرى: 62.
وأما عهده تعالى ووصيته إلى بني آدم أن لا يطيعوه فهو الذي وصاهم به بلسان رسله وأنبيائه وحذرهم عن اتباعه كقوله تعالى: " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة " الاعراف: 27: وقوله: " ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين " الزخرف: 62.
وقيل: المراد بالعهد عهده تعالى إليهم في عالم الذر حيث قال: ألست بربكم قالوا بلى ".
وقد عرفت مما قدمناه في تفسير آية الذر أن العهد الذي هناك هو بوجه عين العهد الذي وجه إليهم في الدنيا.
/ صفحة 103 /
قوله تعالى: " وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم " عطف تفسير لما سبقه، وقد تقدم كلام في معنى الصراط المستقيم في تفسير قوله: " اهدنا الصراط المستقيم " من سورة الفاتحة.
قوله تعالى: " ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون " الجبل الجماعة وقيل: الجماعة الكثيرة والكلام مبنى على التوبيخ والعتاب.
قوله تعالى: " هذه جهنم التى كنتم توعدون " أي كان يستمر عليكم الايعاد بها مرة بعد مرة بلسان الانبياء والرسل (عليه السلام) وأول ما أوعد الله سبحانه بها حين قال لابليس: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين " الحجر: 43 وفي لفظ الاية إشارة إلى إحضار جهنم يومئذ.
قوله تعالى: " اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون " الصلا: اللزوم والاتباع، وقيل: مقاساة الحرارة ويظهر بقوله: " بما كنتم تكفرون " أن الخطاب للكفار وهم المراد بالمجرمين.
قوله تعالى: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " أي يشهد كل منها بما كانوا يكسبونه بواسطته فالايدي بالمعاصي التي كسبوها بها والارجل بالمعاصي الخاصة بها على ما يعطيه السياق.
ومن هنا يظهر أن كل عضو ينطق بما يخصه من العمل وأن ذكر الايدي والارجل من باب الانموذج ولذا ذكر في موضع آخر السمع والبصر والفؤاد كما في سورة أسرى الاية 36.
وفي موضع آخر الجلود كما في سورة حم السجدة الاية 20، وسيأتي بعض ما يتعلق به من الكلام في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله.
(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " ما ينظرون إلا صيحة واحدة " الاية قال: ذلك في آخر الزمان يصاح فيهم صيحة وهم في أسواقهم يتخاصمون فيموتون كلهم في مكانهم لا يرجع أحد منهم إلى منزله ولا يوصي بوصية، وذلك قوله عز وجل: " فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ".
/ صفحة 104 /
وفي المجمع في الحديث تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعان فما يطويانه حتى تقوم الساعة، والرجل يرفع أكلته إلى فيه حتى تقوم الساعة، والرجل يليط (1) حوضه ليسقي ما شيته فما يسقيها حتى تقوم.
أقول: وروى هذا المعنى في الدر المثور عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا عن قتادة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مرسلا.
وفي تفسير القمي وقوله عز وجل: " ونفخ في الصور فإذاهم من الاجداث إلى ربهم ينسلون " قال: من القبور.
وفي رواية أبي الجارود عن ابي جعفر (عليه السلام) في قوله: تعالى " يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا " فإن القوم كانوا في القبور فلما قاموا حسبوا أنهم كانوا نياما وقالوا: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا.
قالت الملائكة: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
وفي الكافي بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبو ذر رحمه الله يقول في خطبته: وما بين الموت والبعث إلا كنومة نمتها ثم استيقظت منها.
وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون " قال يفاكهون النساء ويلاعبونهن.
وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عز وجل: " في ظلال على الارائك متكؤن " الارائك السرر عليها الحجال.
وفيه في قوله عز وجل: " سلام قولا من رب رحيم " قال: السلام منه هو الامان.
وقوله: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " قال: إذا جمع الله الخلق يوم القيامة بقوا قياما على أقدامهم حتى يلجمهم العرق فينادون: يا رب حاسبنا ولو إلى النار قال: فيبعث الله رياحا فتضرب بينهم وينادي مناد: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " فيميز بينهم فصار المجرمون في النار، ومن كان في قلبه الايمان صار إلى الجنة.
أقول: وقد ورد في بعض الروايات أن الله سبحانه يتجلى لهم فيشتغلون به عن كل من سواه مادام التجلى والمراد به ارتفاع كل حجاب بينهم وبين ربهم دون الرؤية (1)
* (هامش) *
لاطه أي ملاه.
/ صفحة 105 /
البصرية التي لا تتحقق إلا بمقارنة الجهات والابعاد فإنها مستحيلة في حقه تعالى.
وفي اعتقادات الصدوق قال (عليه السلام): من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس.
وفي الكافي بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: وليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز وجل: " فمن أوتي كتابه بيمينه فاؤلئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا " أسرى: 71.
وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال: قال أمير المؤمنين (عليهم السلام) في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم الله على الافواه فلا تكلم وتكلمت الايدي وشهدت الارجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر يأتي بعضها في ذيل تفسير قوله تعالى: " شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم " الاية حم السجدة: 20، وتقدم بعضها في الكلام على قوله تعالى: " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " أسرى: 36.
* * *
ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فانى يبصرون - 66.
ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون - 67.
ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون - 68 وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين - 69.
لينذر من كان حيا ويحق القول على
/ صفحة 106 /
الكافرين - 70.
أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا انعاما فهم لها مالكون - 71 وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون - 72.
ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون - 73.
واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون - 74.
لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون - 75.
فلا يحزنك قولهم انا نعلم ما يسرون وما يعلنون - 76.
أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين - 77.
وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم - 78.
قل يحييها الذي انشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم - 79.
الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذا انتم منه توقدون - 80 أو ليس الذي خلق السموات والارض بقادر على ان يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم - 81.
إنما امره إذا اراد شيئا أن يقول له كن فيكون - 82.
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون - 83.
/ صفحة 107 /
(بيان) بيان تلخيصي للمعاني السابقة في سياق آخر ففيه تهديد لهم بالعذاب، والاشارة إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول وأن كتابه ذكر وقرآن وليس بشاعر ولا كتابه بشعر، والاشارة إلى خلق الانعام آية للتوحيد، والاحتجاج على الميعاد.
قوله تعالى: " ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون " قال في مجمع البيان: الطمس محو الشئ حتى يذهب أثره فالطمس على العين كالطمس على الكتاب ومثله الطمس على المال وهو إذهابه حتى لا يقع عليه إدراك، وأعمى مطموس وطميس وهو أن يذهب الشق الذي بين الجفنين، انتهى.
فقوله: " ولو نشاء لطمسنا على أعينهم " أي لو أردنا لاذهبنا أعينهم فصارت ممسوحة لا أثر منها فذهبت به أبصارهم وبطل إبصارهم.
وقوله: " فاستبقوا الصراط " أي أرادوا السبق إلى الطريق الواضح الذي لا يخطئ قاصده ولا يظل سالكه فلم يبصروه ولن يبصروه فالاستبعاد المفهوم من قوله: " فأنى يبصرون " كناية عن الامتناع.
وقول بعضهم: إن المراد باستباق الصراط مبادرتهم إلى سلوك طريق الحق وعدم اهتدائهم إليها، لا يخلو من بعد.
قوله تعالى: " ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " قال في المجمع: والمسح قلب الصورة إلى خلقة مشوهة كما مسخ قوم قردة وخنازير وقال: والمكانة والمكان واحد.
انتهى.
والمراد بمسخهم على مكانتهم تشويه خلقهم وهم قعود في مكانهم الذي هم فيه من غير أن يغيرهم عن حالهم بعلاج وتكلف بل بمجرد المشية فهو كناية عن كونه هينا سهلا عليه تعالى من غير أي صعوبة.
وقوله: " فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون " أي مضيا في العذاب ولا يرجعون إلى حالهم قبل العذاب والمسخ فالمضي والرجوع كنايتان عن الرجوع إلى حال السلامة والبقاء على حال العذاب والمسخ.
/ صفحة 108 /
وقيل: المراد مضيهم نحو مقاصدهم ورجوعهم إلى منازلهم وأهليهم ولا يخلو من بعد.
قوله تعالى: " ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون " التعمير التطويل في العمر، والتنكيس تقليب الشئ بحيث يعود أعلاه أسفله ويتبدل قوته ضعفا وزيادته نقصا والانسان في عهد الهرم منكس الخلق يتبدل قوته ضعفا وعلمه جهلا وذكره نسيانا.
والاية في مقام الاستشهاد بتنكيس الخلق على إمكان مضمون الايتين السابقتين والمراد أن الذي ينكس خلق الانسان إذا عمره قادر على أن يطمس على أعينهم وعلى أن يمسخهم على مكانتهم.
وفي قوله: " أفلا يعقلون " توبيخهم على عدم التعقل وحثهم على التدبر في هذه الامور والاعتبار بها.
قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين عطف ورجوع إلى ما تقدم في صدر السورة من تصديق رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكون كتابه تنزيلا من عنده تعالى.
فقوله: " وما علمناه الشعر " نفى أن يكون علمه الشعر ولازمه أن يكون بحيث لا يحسن قول الشعر لا أن يحسنه ويمتنع من قوله لنهي من الله متوجه إليه، ولا أن النازل من القرآن ليس بشعر وإن أمكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوله.
وبه يظهر أن قوله: " وما ينبغي له " في مقام الامتنان عليه بأنه نزهه عن أن يقول شعرا فالجملة في مقام دفع الدخل والمحصل أن عدم تعليمنا إياه الشعر ليس يوجب نقصا فيه ولا أنه تعجيز له بل لرفع درجته وتنزيه ساحته عما يتعاوره العارف بصناعة الشعر فيقع في معرض تزيين المعاني بالتخيلات الشعرية الكاذبة التي كلما أمعن فيها كان الكلام أوقع في النفس، وتنظيم الكلام بأوزان موسيقية ليكون أوقع في السمع، فلا ينبغي له (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول الشعر وهو رسول من الله وآية رسالته ومتن دعوته القرآن المعجز في بيانه الذي هو ذكر وقرآن مبين.
وقوله: " إن هو إلا ذكر وقرآن مبين " تفسير وتوضيح لقوله: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " بما أن لازم معناه أن القرآن ليس بشعر فالحصر المستفاد من
/ صفحة 109 /
قوله: " إن هو إلا ذكر " الخ من قصر القلب والمعنى ليس هو بشعر ما هو إلا ذكر وقرآن مبين.
ومعنى كونه ذكرا وقرآنا أنه ذكر مقرو من الله ظاهر ذلك.
قوله تعالى: " لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين " تعليل متعلق بقوله: " وما علمناه الشعر " والمعنى ولم نعلمه الشعر لينذر بالقرآن المنزه من أن يكون شعرا من كان حيا " الخ " أو متعلق بقوله: " إن هو إلا ذكر " الخ والمعنى ليس ما يتلوه على الناس إلا ذكرا وقرآنا مبينا نزلناه إليه لينذر من كان حيا " الخ " ومآل الوجهين واحد.
والاية - كما ترى - تعد غاية إرسال الرسول وإنزال القرآن إنذار من كان حيا - وهو كناية عن كونه يعقل الحق ويسمعه - وحقية القول ووجوبه على الكافرين فمحاذاة الاية لما في صدر السورة من الايات في هذا المعنى ظاهر.
قوله تعالى: " أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون " ذكر آية من آيات التوحيد تدل على ربوبيته تعالى وتدبيره للعالم الانساني وهي نظيرة ما تقدم في ضمن آيات التوحيد السابقة من إحياء الارض الميتة بإخراج الحب والثمرات وتفجير العيون.
والمراد بكون الانعام مما عملته أيديه تعالى عدم إشراكهم في خلقها واختصاصه به تعالى فعمل الايدي كناية عن الاختصاص.
وقوله: " فهم لها مالكون " تفريع على قوله: " خلقنا لهم " فإن المعنى خلقنا لاجلهم فهي مخلوقة لاجل الانسان ولازمه اختصاصها به وينتهى الاختصاص إلى الملك فإن الملك الاعتباري الذي في المجتمع من شعب الاختصاص.
وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن في تفرع قوله: " فهم لها مالكون " على قوله: " خلقنا لهم " خفاء، والظاهر تفرعها على مقدر والتقدير خلقناها لهم فهم لها مالكون، وأنت خبير بعدم خفاء تفرعها على " خلقنا لهم " وعدم الحاجة إلى تقدير.
وقيل: الملك بمعنى القدرة والقهر، وفيه أنه مفهوم من قوله بعد: " وذللناها لهم " والتأسيس خير من التأكيد.
/ صفحة 110 /
قوله تعالى: " وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " تذليل الانعام جعلها منقادة لهم غير عاصية وهو تسخيرها لهم، والركوب بفتح الراء الحمولة كالابل والبقر، وقوله: " ومنها يأكلون " أي من لحمها يأكلون.
قوله تعالى: " ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون " المراد بالمنافع ما ينتفعون به من شعرها ووبرها وجلودها وغير ذلك، والمشارب جمع مشرب - مصدر ميمي بمعنى المفعول - والمراد بها الالبان، والكلام في معنى الشكر كالكلام فيما تقدم في قوله: " وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ".
ومعنى الايات الثلاث: أو لم يعلموا أنا خلقنا لاجلهم ولتدبير أمر حياتهم الدنيا أنعاما من الابل والبقر والغنم فتفرع على ذلك أنهم مالكون لها ملكا يصحح لهم أنواع تصرفاتهم فيها من غير معارض، وذللناها لهم بجعلها مسخرة لهم منقادة غير عاصية فمنها ركوبهم الذي يركبونه، ومنها أي من لحومها يأكلون، ولهم فيها منافع ينتفعون بأشعارها وأوبارها وجلودها ومشروبات من ألبانها يشربونها أفلا يشكرون الله على هذا التدبير الكامل الذى يكشف عن ربوبيته لهم؟ أو لا يعبدونه شكرا لانعمه؟.
قوله تعالى: " واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون " ضمائر الجمع للمشركين، و المراد بالالهة الاصنام أو الشياطين وفراعنة البشر دون الملائكة المقربين والاولياء من الانسان لعدم ملاءمة ذيل الكلام: " وهم لهم جند محضرون " لذلك.
وإنما اتخذوهم آلهة رجاء أن ينصروا من ناحيتهم لان عامتهم تتخذ إلها زعما منهم أن تدبير أمره مفوض إلى من اتخذه إلها من خير أو شر فيعبده العابد منهم ليرضيه بعبادته فلا يسخط فيقطع النعمة أو يرسل النقمة.
قوله تعالى: " لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون " أي لا يستطيع هؤلاء الالهة الذين اتخذوهم آلهة نصر هؤلاء المشركين لانهم لا يملكون شيئا من خير أو شر.
وقوله: " وهم لهم جند محضرون " الظاهر أن أول الضميرين للمشركين وثانيهما للالهة من دون الله والمراد أن المشركين جند للالهة وذلك أن من لوازم معنى الجندية التبعية والملازمة والمشركون هم المعدودون أتباعا لالهتهم مطيعين لهم دون العكس.
/ صفحة 111 /
والمراد بالاحضار في قوله: " محضرون " الاحضار للجزاء يوم القيامة قال تعالى:
" وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون " الصافات: 158 وقال: " ولو لا نعمة ربي لكنت من المحضرين " الصافات: 57.
ومحصل المعنى لا يستطيع الالهة المتخذون نصر المشركين وهم أي المشركون لهم أي لالهتهم أتباع مطيعون محضرون معهم يوم القيامة.
وأما قول القائل: إن المعنى أن المشركين جند لالهتهم معدون للذب عنهم في الدنيا، أو أن المعنى وهم أي الالهة لهم أي للمشركين جند محضرون لعذاب المشركين يوم القيامة لانهم وقود النار التي يعذب بها المشركون، أو محضرون لعذابهم إظهارا لعجزهم عن النصر أو لاقناط المشركين عن شفاعتهم فهي معان رديئة.
قوله تعالى: " فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون " الفاء لتفريع النهي عن الحزن على حقيقة اتخاذهم الالهة من دون الله رجاء للنصر أي إذا كان هذا حقيقة حالهم أن الذين استنصروهم لا يستطيعون نصرهم أبدا وأنهم سيحضرون معهم للعذاب فلا يحزنك قولهم ما قالوا به من الشرك فإنا لسنا بغافلين عنهم حتى يعجزونا أو يفسدوا علينا بعض الامر بل نعلم ما يسرون من أقوالهم وما يعلنون، وفي تركيب الاية بعض أقوال رديئة أضربنا عنه.
قوله تعالى: " أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين " رجوع إلى ما تقدم من حديث البعث والاحتجاج عليه إثر إنكارهم، ولا يبعد أن يكون بيانا تفصيليا لقولهم المشار إليه في قوله تعالى: " فلا يحزنك قولهم " الخ والمراد بالرؤية العلم القطعي أي أو لم يعلم الانسان علما قاطعا أنا خلقناه من نطفة، وتنكير نطفة للتحقير والخصيم المصر على خصومته وجداله.
والاستفهام للتعجب والمعنى من العجيب أن الانسان يعلم أنا خلقناه من نطفة مهينة فيفاجؤه أنه خصيم مجادل مبين.
قوله تعالى: " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم " الرميم البالي من العظام، و " نسي خلقه " حال من فاعل ضرب، وقوله: " قال من يحيي العظام وهي رميم " بيان للمثل الذي ضربه الانسان، ولذلك جئ به مفصولا
/ صفحة 112 /
من غير عطف لان الكلام في معنى أن يقال: فماذا ضرب مثلا؟ فقيل: قال من يحيي العظام وهي رميم.
والمعنى وضرب الانسان لنا مثلا وقد نسي خلقه من نطفة لاول مرة، ولو كان ذاكره لم يضرب المثل الذي ضربه وهو قوله: " من يحيي العظام وهي بالية؟ " لانه كان يرد على نفسه ويجيب عن المثل الذي ضربه بخلقه الاول كما لقنه الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) جوابا عنه.
قوله تعالى: " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " تلقين الجواب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
الانشاء هو الايجاد الابتدائي وتقييده بقوله " أول مرة " للتأكيد، وقوله: " وهو بكل خلق عليم " إشارة إلى أنه تعالى لا ينسى ولا يجهل شيئا من خلقه فإذا كان هو خالق هذه العظام لاول مرة وهو لا يجهل شيئا مما كانت عليه قبل الموت وبعده فإحياؤه ثانيا بمكان من الامكان لثبوت القدرة وانتفاء الجهل والنسيان.
قوله تعالى: " الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون " بيان لقوله: " الذي أنشأها أول مرة " والايقاد إشعال النار.
والاية مسوقة لرفع استبعاد جعل الشئ الموات شيئا ذا حياة والحياة والموت متنافيان والجواب أنه لا استبعاد فيه فإنه هو الذي جعل لكم من الشجر الاخضر الذي يقطر ماء نارا فإذا أنتم منه توقدون وتشعلون النار، والمراد به على المشهور بين المفسرين شجر (1) المرخ والعفار كانوا يأخذون منهما على خضرتهما فيجعل العفار زندا أسفل ويجعل المرخ زنذا أعلى فيسحق الاعلى على الاسفل فتنقدح النار بإذن الله فحصول الحي من الميت ليس بأعجب من انقداح النار من الشجرة الخضراء وهما متضادان.
قوله تعالى: " أو ليس الذي خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم " الاستفهام للانكار والاية بيان للحجة السابقة المذكورة في قوله (1)
* (هامش) *
المرخ بالفتح فالسكون والخاء العمجمة، والعفار بعين مفتوحة ثم الفاء ثم الراء المهملة شجرتان تشتعلان بسحق أحدهما على الاخر.
/ صفحة 113 /
في قوله: " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " الخ.
ببيان أقرب إلى الذهن وذلك بتبديل إنشائهم أول مرة من خلق السماوات والارض الذي هو أكبر من خلق الانسان كما قال تعالى: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس " المؤمن: 57.
فالاية في معنى قولنا: وكيف يمكن أن يقال: إن الله الذي خلق عوالم السماوات والارض بما فيها من سعة الخلقة البديعة وعجيب النظام العام المتضمن لما لا يحصى من الانظمة الجزئية المدهشة للعقول المحيرة للالباب والعالم الانساني جزء يسير منها، لا يقدر أن يخلق مثل هؤلاء الناس، بلى وإنه خلاق عليم.
والمراد بمثلهم قيل: هم وأمثالهم وفيه أنه مغاير لمعنى مثل على ما يعرف من اللغة والعرف.
وقيل: المراد بمثلهم هم أنفسهم بنحو الكناية على حد قولهم: مثلك غني عن كذا أي أنت غني عنه، وفيه أنه لو كان كناية لصح التصريح به لكن لا وجه لقولنا: أو ليس الذي خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلقهم فإن الكلام في بعثهم لا في خلقهم والمشركون معترفون بأن خالقهم هو الله سبحانه.
وقيل: ضمير " مثلهم " للسماوات والارض فإنهما تشملان ما فيهما من العقلاء فأعيد إليهما ضمير العقلاء تغليبا فالمراد أن الله الخالق للعالم قادر على خلق مثله.
وفيه أن المقام مقام إثبات بعث الانسان لا بعث السماوات والارض.
على أن الكلام في الاعادة و خلق مثل الشئ ليس إعادة لعينه بل بالضرورة.
فالحق أن يقال: إن المراد بخلق مثلهم إعادتهم للجزاء بعد الموت كما يستفاد من كلام الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان.
بيانه أن الانسان مركب من نفس وبدن، والبدن في هذه النشأة في معرض التحلل والتبدل دائما فهو لا يزال يتغير أجزاؤه والمركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه فهو في كل آن غيره في الان السابق بشخصه وشخصية الانسان محفوظة بنفسه - روحه - المجردة المنزهة عن المادة والتغيرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت والفساد.
والمتحصل من كلامه تعالى أن النفس لا تموت بموت البدن وأنها محفوظة حتى ترجع
/ صفحة 114 /
إلى الله سبحانه كما تقدم استفادته من قوله تعالى: " و قالوا ءإذا ضللنا في الارض ءإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون " الم السجدة: 11.
فالبدن اللاحق من الانسان إذا أعتبر بالقياس إلى البدن السابق منه كان مثله لا عينه لكن الانسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الانسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله لان الشخصية بالنفس وهي واحدة بعينها.
ولما كان استبعاد المشركين في قولهم: " من يحيي العظام وهي رميم " راجعا إلى خلق البدن الجديد دون النفس أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم وأما عودهم بأعيانهم فهو إنما يتم بتعلق النفوس والارواح المحفوظة عند الله بالابدان المخلوقة جديدا، فتكون الاشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم كما قال تعالى: " أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى " الاحقاف 33 فعلق الاحياء على الموتى بأعيانهم فقال: على أن يحيي الموتى ولم يقل: على أن يحيي أمثال الموتى.
قوله تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " الاية من غرر الايات القرآنية تصف كلمة الايجاد وتبين أنه تعالى لا يحتاج في إيجاد شئ مما أراده إلى ما وراء ذاته المتعالية من سبب يوجد له ما أراده أو يعينه في إيجاده أو يدفع عنه مانعا يمنعه.
وقد اختلف تعبيره تعالى عن هذه الحقيقة في كلامه فقال: " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " النحل: 40، وقال: " وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " البقرة: 117.
فقوله: " إنما أمره " الظاهر أن المراد بالامر الشأن، وقوله في آية النحل المنقولة آنفا: " إنما قولنا لشئ إذا أردنا " إن كان يؤيد كون الامر بمعنى القول وهو الامر اللفظي بلفظة كن إلا أن التدبر في الايات يعطي أن الغرض فيها وصف الشأن الالهي عند إرادة خلق شئ من الاشياء لا بيان أن قوله تعالى عند خلق شئ من الاشياء هذا القول دون غيره، فالوجه حمل القول على الامر بمعنى الشأن بمعنى أنه جئ به لكونه
/ صفحة 115 /
مصداقا للشأن لا حمل الامر على القول بمعنى ما يقابل النهي.
وقوله: " إذا أراد شيئا " أي إذا أراد إيجاد شئ كما يعطيه سياق الاية وقد ورد في عدة من الايات القضاء مكان الارادة كقوله: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (1) " ولا ضير فالقضاء هو الحكم والقضاء و الحكم والارادة من الله شئ واحد وهو كون (2) الشئ الموجود بحيث ليس له من الله سبحانه إلا أن يوجد فمعنى إذا أردناه إذا أوقفناه موقف تعلق الارادة.
وقوله: " أن يقول له كن " خبر إنما أمره أي يخاطبه بكلمة كن ومن المعلوم أن ليس هناك لفظ يتلفظ به وإلا احتاج في وجوده إلى لفظ آخر وهلم جرا فيتسلسل ولا أن هناك مخاطبا ذا سمع يسمع الخطاب فيوجد به لادائه إلى الخلف فالكلام تمثيل لافاضته تعالى وجود الشئ من غير حاجة إلى شئ آخر وراء ذاته المتعالية ومن غير تخلف ولا مهل.
وبه يظهر فساد ما ذكره بعضهم حيث قال: الظاهر أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن وإليه ذهب معظم السلف وشؤون الله تعالى وراء ما تصل إليه الافهام فدع عنك الكلام والخصام.
انتهى.
وذلك أن ما ذكره من كون شؤنه تعالى وراء طور الافهام لو أبطل الحجة العقلية القطعية بطلت بذلك المعارف الدينية من أصلها فصحة الكتاب مثلا بما يفيده من المعارف الحقيقية إنما تثبت بالحجة العقلية فلو بطلت الحجة العقلية بكتاب أو سنة أو شئ آخر مما يثبت هو بها لكان ذلك الدليل المبطل مبطلا لنفسه أو لا فلا تزل قدم بعد ثبوتها.
ومن المعلوم أن ليس هناك إلا الله عز اسمه والشئ الذي يوجد لا ثالث بينهما وإسناد العلية والسببية إلى إرادته دونه تعالى - والارادة صفة فعلية منتزعة من مقام الفعل كما تقدم - يستلزم انقطاع حاجة الاشياء إليه تعالى من رأس لاستيجابه استغناء الاشياء بصفة منتزعة منها عنه تعالى وتقدس.
(1)
* (هامش) *
البقرة: 17، آل عمران: 47، مريم: 35، المؤمن: 68.
(2) فإن هذه الارادة صفة فعلية خارجة عن الذات منتزعة عن مقام الفعل.
/ صفحة 116 /
ومن المعلوم أن ليس هناك أمر ينفصل عنه تعالى يسمى إيجادا أو وجودا ثم يتصل بالشئ فيصير به موجودا وهو ظاهر فليس بعده تعالى إلا وجود الشئ فحسب.
ومن هنا يظهر أن كلمة الايجاد وهي كلمة كن هي وجود الشئ الذي أوجده لكن بما أنه منتسب إليه قائم به وأما من حيث انتسابه إلى نفسه فهو موجود لا إيجاد ومخلوق لا خلق.
و يظهر أيضا أن الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة ولا نظرة ولا يتحمل تبدلا ولا تغيرا، ولا يتلبس بتدريج وما يترآى في الخلق من هذه الامور إنما يتأتى في الاشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربها سبحانه وهذا باب ينفتح منه ألف باب.
وفي الايات للتلويح إلى هذه الحقائق إشارات لطيفة كقوله تعالى: " كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران: 59، وقوله تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50، وقوله تعالى: " وكان أمر الله قدرا مقدورا " الاحزاب: 38 إلى غير ذلك.
وقوله في آخر الاية: " فيكون " بيان لطاعة الشئ المراد له تعالى وامتثاله لامر " كن " ولبسه الوجود.
قوله تعالى: " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون " الملكوت مبالغة في معنى الملك كالرحموت والرهبوت في معنى الرحمة والرهبة.
وانضمام الاية إلى ما قبلها يعطي أن المراد بالملكوت الجهة التالية له تعالى من وجهي وجود الاشياء، وبالملك الجهة التالية للخلق أو الاعم الشامل للوجهين.
وعليه يحمل قوله تعالى: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام: 75.
وقوله: " أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والارض " الاعراف: 185: وقوله: " قل من بيده ملكوت كل شئ " المؤمنون: 88.
وجعل الملكوت بيده تعالى للدلالة على أنه متسلط عليها لا نصيب فيها لغيره.
ومآل المعنى في قوله: " فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " تنزيهه تعالى عما استبعدوا منكرين للمعاد لغفلتهم عن أن ملكوت كل شئ بيده وفي قبضته.
/ صفحة 117 /
و قوله: " وإليه ترجعون " خطاب لعامة الناس من مؤمن ومشرك، وبيان لنتيجة البيان السابق بعد التنزيه.
(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " الاية قال: كانت قريش تقول: إن هذا الذي يقوله محمد شعر فرد الله عليهم فقال: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين " ولم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شعرا قط.
وفي المجمع روي عن الحسن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتمثل بهذا البيت: كفى الاسلام والشيب للمرء ناهيا فقال له أبو بكر: يا رسول الله إنما قال: كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا وأشهد أنك رسول الله وما علمك الله الشعر وما ينبغي لك.
وفيه عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتمثل ببيت أخي بني قيس: ستبدي لك الايام ما كنت جاهلا * ويأتيك بالاخبار من لم تزود فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالاخبار فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله فيقول: إني لست بشاعر ولا ينبغي لي.
اقول: وروى في الدر المنثور الخبرين عن الحسن وعائشة كما رواه وروى في الدر المنثور غير ذلك مما تمثل به صلى الله عليه وسلم.
وقال في المجمع: فأما قوله: أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب فقد قال قوم: إن هذا ليس بشعر، وقال آخرون: إنما هو اتفاق منه وليس يقصد إلى شعر انتهى.
والبيت منقول عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أكثروا من البحث فيه وطرح الرواية أهون من نفي كونه شعرا أو شعرا مقصودا إليه.
وفيه في قوله تعالى: " لينذر من كان حيا " الاية ويجوز أن يكون المراد بمن كان حيا عاقلا وروى ذلك عن علي (عليه السلام).
وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى:
/ صفحة 118 /
" واتخذوا من دون الله - إلى قوله - محضرون " يقول: لا تستطيع الالهة لهم نصرا وهم للالهة جند محضرون.
وعن تفسير العياشي عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء أبي بن خلف فأخذ عظما باليا من حائط ففته ثم قال: إذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعثون خلقا؟ فأنزل الله: قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم.
أقول: وروى مثله في الدر المنثور بطرق كثيرة عن ابن عباس وعروة بن الزبير وعن قتادة والسدي وعكرمة وروى أيضا عن ابن عباس أن القائل هو العاص بن وائل وبطريق آخر عنه أن القائل هو عبد الله بن أبي.
وفي الاحتجاج: في احتجاج أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال السائل: أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور فعند ذلك تبطل الاشياء وتفنى فلا حس ولا محسوس ثم أعيدت الاشياء كما بدأها مدبرها وذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين.
قال: وأنى له بالبعث والبدن قد بلى والاعضاء قد تفرقت فعضو ببلدة تأكله سباعها وعضو باخرى تمزقه هوامها وعضو قد صار ترابا يبنى به مع الطين في حائط.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الذي أنشأه من غير شئ وصوره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأه.
قال: أوضح لي ذلك.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الروح مقيمة في مكانها روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح المسئ في ضيق وظلمة والبدن يصير ترابا كما منه خلق وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها فما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الارض ويعلم عدد الاشياء ووزنها وإن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب.
فإذا كان حين البعث مطرت الارض مطر النشور فتربو الارض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء والزبد من اللبن إذا مخض
/ صفحة 119 /
فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها ويلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا.
وفي نهج البلاغة: يقول لما أراد كونه: كن فيكون، لا بصوت يقرع ولا نداء يسمع وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ولو كان قديما لكان إلها ثانيا.
وفيه: يقول ولا يلفظ ويريد ولا يضمر.
وفي الكافي بإسناده عن صفوان بن يحيي قال.
قلت لابي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الارادة من الله ومن الخلق قال: فقال: الارادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأما من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لانه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق.
فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له: كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له.
أقول: والروايات عنهم (عليه السلام) في كون إرادته من صفات الفعل مستفيضة.
* * *
سورة الصافات مكية وهي مائة واثنان وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم والصافات صفا - 1.
فالزاجرات زجرا - 2.
فالتاليات ذكرا - 3.
إن إلهكم لواحد - 4.
رب السموات والارض وما بينهما ورب المشارق - 5.
إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب - 6 وحفظا من كل شيطان مارد - 7.
لا يسمعون إلى الملاء الاعلى ويقذفون من كل
/ صفحة 120 /
جانب - 8.
دحورا ولهم عذاب واصب - 9.
إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب - 10.
فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب - 11.
(بيان) في السورة احتجاج على التوحيد، وإنذار للمشركين و تبشير للمخلصين من المؤمنين، وبيان ما يؤل إليه حال كل من الفريقين ثم ذكر عدة من عباده المؤمنين ممن من الله عليهم وقضى أن ينصرهم على عدوهم، وفي خاتمة السورة ما هو بمنزلة محصل الغرض منها وهو تنزيهه والسلام على عباده المرسلين وتحميده تعالى فيما فعل والسورة مكية بشهادة سياقها.
قوله تعالى: " والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا " الصافات - على ما قيل - جمع صافة وهي جمع صاف، والمراد بها على أي حال الجماعة التي تصطف أفرادها والزاجرات من الزجر وهو الصرف عن الشئ بالتخويف بذم أو عقاب والتاليات من التلاوة بمعنى القراءة.
وقد أقسم الله تعالى بهذه الطوائف الثلاث: الصافات والزاجرات والتاليات وقد اختلفت كلماتهم في المراد بها: فأما الصافات فقيل: إن المراد بها الملائكة تصف أنفسها في السماء صفوفا كصفوف المؤمنين في الصلاة، وقيل: إنها الملائكة تصف أجنحتها في الهواء إذا أرادت النزول إلى الارض واقفة في انتظار أمر الله تعالى، وقيل: إنها الجماعة من المؤمنين يقومون في الصلاة أو في الجهاد مصطفين.
وأما الزاجرات فقيل: إنها الملائكة تزجر العباد عن المعاصي فيوصله الله إلى قلوب الناس في صورة الخطرات كما يوصل وساوس الشياطين، وقيل: إنها الملائكة الموكلة بالسحاب تزجرها وتسوقها إلى حيث أراد الله سبحانه، وقيل: هي زواجر
/ صفحة 121 /
القرآن وهي آياته الناهية عن القبائح، وقيل: هم المؤمنون يرفعون أصواتهم بالقرآن عند قراءته فيزجرون الناس عن المنهيات.
وأما التاليات فقيل: هم الملائكة يتلون الوحي على النبي الموحى إليه، وقيل: هي الملائكة تتلو الكتاب الذي كتبه الله وفيها ذكر الحوادث، وقيل: جماعة قراء القرآن يتلونه في الصلاة.
ويحتمل - والله العالم - أن يكون المراد بالطوائف الثلاث المذكورة في الايات طوائف الملائكة النازلين بالوحي المأمورين بتأمين الطريق ودفع الشياطين عن المداخلة فيه وإيصاله إلى النبي مطلقا أو خصوص محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يستفاد من قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم " الجن: 28.
وعليه فالمعنى أقسم بالملائكة الذين يصفون في طريق الوحي صفا فبالذين يزجرون الشياطين ويمنعونهم عن المداخلة في الوحي فبالذين يتلون على النبي الذكر وهو مطلق الوحي أو خصوص القرآن كما يؤيده التعبير عنه بتلاوة الذكر.
ويؤيد ما ذكرنا وقوع حديث رمي الشياطين بالشهب بعد هذه الايات، وكذا قوله بعد: " فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا " الاية كما سنشير إليه.
ولا ينافي ذلك إسناد النزول بالقرآن إلى جبريل وحده في قوله: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " البقرة: 97 وقوله: " نزل به الروح الامين على قلبك " الشعراء: 194 لان الملائكة المذكورين أعوان جبريل فنزولهم به نزوله به وقد قال تعالى: " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة " عبس: 16، وقال حكاية عنهم: " وما نتنزل إلا بأمر ربك " مريم: 64، وقال: " وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون " الصافات: 166 وهذا كنسبة التوفى إلى الرسل من الملائكة في قوله: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " الانعام: 61 وإلى ملك الموت وهو رئيسهم في قوله: " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " السجدة: 11.
ولا ضير في التعبير عن الملائكة بلفظ الاناث: الصافات والزاجرات والتاليات
/ صفحة 122 /
لان موصوفها الجماعة، والتأنيث لفظي.
وهذه أول سورة في القرآن صدرت بالقسم وقد اقسم الله سبحانه في كلامه بكثير من خلقه كالسماء والارض والشمس والقمر والنجم والليل والنهار والملائكة والناس والبلاد والاثمار، وليس ذلك إلا لما فيها من الشرف باستناد خلقها إليه تعالى وهو قيومها المنبع لكل شرف وبهاء.
قوله تعالى: " إن إلهكم لواحد " الخطاب لعامة الناس وهو مقسم به، وهو كلام مسوق بدليل كما سيأتي.
قوله تعالى: " رب السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق " خبر بعد خبر لان، أو خبر لمبتدء محذوف والتقدير هو رب السماوات " الخ " أو بدل من واحد.
وفي سوق الاوصاف إشعار بعلة كون الاله واحدا كما أن خصوصية القسم مشعر بعلة كونه رب السماوات والارض وما بينهما.
كأنه قيل إن إلهكم لواحد لان الملاك في الوهية الاله وهي كونه معبودا بالحق أن يكون ربا يدبر الامر على ما تعترفون وهو سبحانه رب السماوات والارض وما بينهما الذي يدبر أمرها ويتصرف في جميعها.
وكيف لا؟ وهو تعالى يوحي إلى نبيه فيتصرف في السماء وسكانها بإرسال ملائكة يصطفون بينها وبين الارض وهناك مجال الشياطين فيزجرونهم وهو تصرف منه فيما بين السماء و الارض وفي الشياطين ثم يتلون الذكر على نبيه وفيه تكميل للناس وتربية لهم سواء صدقوا أم كذبوا ففي الوحي تصرف منه في السماوات والارض وما بينهما فهو على وحدانيته رب الجميع المدبر لامرها والاله الواحد.
وقوله: " ورب المشارق " أي مشارق الشمس باختلاف الفصول أو المراد مشارق مطلق النجوم أو مطلق المشارق، وفي تخصيص المشارق بالذكر مناسبة لطلوع الوحي بملائكته من السماء وقد قال تعالى: " ولقد رآه بالافق المبين " التكوير 23، وقال: " وهو بالافق الاعلى " النجم: 7.
قوله تعالى: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب " المراد بالزينة ما يزين به،
/ صفحة 123 /
والكواكب بيان أو بدل من الزينة وقد تكرر حديث تزيين السماء الدنيا بزينة الكواكب في كلامه كقوله: " وزينا السماء الدنيا بمصابيح " حم السجدة: 12 وقوله: " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح " الملك: 5، وقوله: " أو لم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها " ق: 6.
ولا يخلو من ظهور في كون السماء الدنيا من السماوات السبع التي يذكرها القرآن هو عالم الكواكب فوق الارض وإن وجهه بعضهم بما يوافق مقتضى الهيئة القديمة أو الجديدة.
قوله تعالى: " وحفظا من كل شيطان مارد " حفظا مفعول مطلق لفعل محذوف والتقدير وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد، والمراد بالشيطان الشرير من الجن والمارد الخبيث العاري من الخير.
قوله تعالى: " لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب " أصل " لا يسمعون " لا يتسمعون والتسمع الاصغاء، وهو كناية عن كونهم ممنوعين مدحورين وبهذه العناية صار وصفا لكل شيطان ولو كان بمعنى الاصغاء صريحا أفاد لغوا من الفعل إذ لو كانوا لا يصغون لم يكن وجه لقذفهم.
والملا من الناس الاشراف منهم الذين يملؤن العيون، والملا الاعلى هم الذين يريد الشياطين التسمع إليهم وهم الملائكة الكرام الذين هم سكنة السماوات العلى - على ما يدل عليه كلامه تعالى كقوله: " لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " أسرى: 95.
وقصدهم من التسمع إلى الملا الاعلى الاطلاع على أخبار الغيب المستوردة عن هذا العالم الارضي كالحوادث المستقبلة والاسرار المكنونة كما يشير إليه قوله تعالى: " وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون " الشعراء: 212، وقوله حكاية عن الجن: " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد مقاعد للسمع فمن يستمع الان يجد له شهابا رصدا " الجن: 9.
وقوله: " ويقذقون من كل جانب " القذف الرمي والجانب الجهة.
قوله تعالى: " دحورا ولهم عذاب واصب " الدحور الطرد والدفع، وهو مصدر بمعنى المفعول منصوب حالا أي مدحورين أو مفعول له أو مفعول مطلق، والواصب الواجب اللازم.
/ صفحة 124 /
قوله تعالى: " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " الخطفة الاختلاس والاستلاب، والشهاب ما يرى في الجو كالكوكب المنقض، والثقوب الركوز وسمي الشهاب ثاقبا لانه لا يخطئ هدفه وغرضه.
والمراد بالخطفة اختلاس السمع وقد عبر عنه في موضع آخر باستراق السمع قال تعالى: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " الحجر: 18، والاستثناء من ضمير الفاعل في قوله: " لا يسمعون " وجوز بعضهم كون الاستثناء منقطعا.
ومعنى الايات الخمس: إنا زينا السماء التي هي أقرب السماوات منكم - أو السماء السفلي بزينة وهي الكواكب، وحفظناها حفظا من كل شيطان خبيث عار من الخير ممنوعين من الاصغاء إلى الملا الاعلى - للاطلاع إلى ما يلقون بين أنفسهم من أخبار الغيب - ويرمون من كل جهة حال كونهم مطرودين ولهم عذاب لازم لا يفارقهم إلا من اختلس من أخبارهم الاختلاسة فأتبعه شهاب ثاقب لا يخطئ غرضه.
(كلام في معنى الشهب) أورد المفسرون أنواعا من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب وهي مبنية على ما يسبق إلى الذهن من ظاهر الايات والاخبار ان هناك أفلاكا محيطة بالارض تسكنها جماعات الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شئ إلا منها وأن في السماء الاولى جمعا من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.
وقد اتضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الاراء ويتفرع على ذلك بطلان الوجوه التى أوردوها في تفسير الشهب وهي وجوه كثيرة أودعوها في المطولات كالتفسير الكبير للرازي وروح المعاني للالوسي وغيرهما.
ويحتمل - والله العالم أن هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الامثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس وهو القائل عز وجل: " وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " العنكبوت: 43.
/ صفحة 125 /
وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب وقد تقدمت الاشارة إليها وسيجئ بعض منها.
وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالما ملكوتيا ذا افق أعلى نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الارض، والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت، أو كرتهم على الحق لتلبيسه ورمي الملائكة إياهم بالحق الذي يبطل أباطيلهم.
وإيراده تعالى قصة استراق الشياطين للسمع ورميهم بالشهب عقيب الاقسام بملائكة الوحي وحفظهم إياه عن مداخلة الشياطين لا يخلو من تأييد لما ذكرناه والله أعلم.
قوله تعالى: " فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب " اللازب الملتزق بعضه ببعض بحيث يلزمه ما جاوره، وقال في مجمع البيان: اللازب واللازم بمعنى.
انتهى.
والمراد بقوله: " من خلقنا " إما الملائكة المشار إليهم في الايات السابقة وهم حفظة الوحي ورماة الشهب، وإما غير الناس من الخلق العظيم كالسماوات والارض والملائكة، والتعبير بلفظ أولى العقل للتغليب.
والمعنى: فإذا كان الله هو رب السماوات والارض وما بينهما والملائكة فاسألهم أن يفتوا أهم أشد خلقا أم غيرهم ممن خلقنا فهم أضعف خلقا لانا خلقناهم من طين ملتزق فليسوا بمعجزين لنا.
(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " والصافات صفا " قال: الملائكة والانبياء.
وفيه عن أبيه ويعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الارض.
الحديث.
وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " عذاب واصب "
/ صفحة 126 /
أي دائم موجع قد وصل إلى قلوبهم.
وفيه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث المعراج: قال: فصعد جبرئيل وصعدت معه إلى سماء الدنيا وعليها ملك يقال له: اسماعيل وهو صاحب الخطفة التي قال الله عز وجل: " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " وتحته سبعون ألف ملك تحت كل ملك سبعون ألف ملك.
الحديث.
أقول: والروايات في هذا الباب كثيرة أوردنا بعضا منها في تفسير قوله تعالى: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " الحجر: 18 وسيأتي بعضها في تفسير سورتي الملك والجن إن شاء الله تعالى.
وفي نهج البلاغة: ثم جمع سبحانه من حزن الارض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت.
* * *
بل عجبت ويسخرون - 12.
وإذا ذكروا لا يذكرون - 13.
وإذا رأوا آية يستسخرون - 14.
وقالوا إن هذا إلا سحر مبين - 15.
ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاماءإنا لمبعوثون - 16.
أو آباؤنا الاولون - 17.
قل نعم وأنتم داخرون - 18.
فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون - 19.
وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين - 20.
هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون - 21.
أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون - 22.
من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم - 23.
وقفوهم إنهم
/ صفحة 127 /
مسؤلون - 24.
مالكم لا تناصرون - 25.
بل هم اليوم مستسلمون - 26.
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - 27.
قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين - 28.
قالوا بل لم تكونوا مؤمنين - 29.
وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين - 30.
فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون - 31.
فأغويناكم إنا كنا غاوين - 32.
فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون - 33.
إنا كذلك نفعل بالمجرمين - 34.
إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون - 35.
ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون - 36.
بل جاء بالحق وصدق المرسلين - 37.
إنكم لذائقوا العذاب الاليم - 38.
وما تجزون إلا ما كنتم تعملون - 39.
إلا عباد الله المخلصين - 40.
أولئك لهم رزق معلوم - 41.
فواكه وهم مكرمون - 42.
في جنات النعيم - 43.
على سرر متقابلين - 44.
يطاف عليهم بكأس من معين - 45.
بيضاء لذة للشاربين - 46.
لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون - 47.
وعندهم قاصرات الطرف
/ صفحة 128 /
عين - 48.
كأنهن بيض مكنون - 49.
فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - 50.
قال قائل منهم إني كان لي قرين - 51.
يقول ءإنك لمن المصدقين - 52.
ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمدينون - 53.
قال هل أنتم مطلعون - 54.
فاطلع فرآه في سوآء الجحيم - 55.
قال تالله إن كدت لتردين - 56.
ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين - 57.
أفما نحن بميتين 58.
إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين - 59.
إن هذا لهو الفوز العظيم - 60.
لمثل هذا فليعمل العاملون - 61.
أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم - 62.
إنا جعلناها فتنة للظالمين - 63.
إنها شجرة يخرج في أصل الجحيم - 64.
طلعها كانه رءوس الشياطين - 65.
فإنهم لاكلون منها فمالؤن منها البطون - 66.
ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم - 67.
ثم إن مرجعهم لالى الجحيم - 68.
إنهم ألفوا آباءهم ضالين - 69.
فهم على آثارهم يهرعون - 70.
/ صفحة 129 /
(بيان) حكاية استهزائهم بآيات الله وبعض أقاويلهم المبنية على الكفر وإنكار المعاد والرد عليهم بتقرير أمر البعث وما يجري عليهم فيه من الشدة وألوان العذاب وما يكرم الله به عباده المخلصين من النعمة والكرامة.
وفيها ذكر تخاصم أهل النار يوم القيامة، وذكر محادثة بين أهل الجنة وأخرى بين بعضهم وبعض أهل النار.
قوله تعالى: " بل عجبت ويسخرون وإذا ذكروا لا يذكرون " أي بل عجبت يا محمد من تكذيبهم إياك مع دعوتك إياهم إلى كلمة الحق، وهم يسخرون ويهزؤن من تعجبك منهم أو من دعائك إياهم إلى الحق، وإذا ذكروا بآيات الله الدالة على التوحيد ودين الحق لا يذكرون ولا يتنبهون.
قوله تعالى: " وإذا رأوا آية يستسخرون " في مجمع البيان: سخر واستسخر بمعنى واحد.
انتهى.
والمعنى: وإذا رأوا هؤلاء المشركون اية معجزة من آيات الله المعجزة كالقرآن وشق القمر يستهزؤن بها.
قوله تعالى: " وقالوا إن هذا إلا سحر مبين " في إشارتهم إلى الاية بلفظة هذا إشعار منهم أنهم لا يفقهون منها إلا أنها شئ ما من غير زيادة وهو من أقوى الاهانة والاستسخار.
قوله تعالى: " ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمبعوثون أو آباؤنا الاولون " إنكار منهم للبعث مبني على الاستبعاد فمن المستبعد عند الوهم أن يموت الانسان فيتلاشى بدنه ويعود ترابا وعظاما ثم يعود إلى صورته الاولى.
ومن الدليل على أن الكلام مسوق لافادة الاستبعاد تكرارهم الاستفهام الانكاري
/ صفحة 130 /
بالنسبة إلى آبائهم الاولين فإن استبعاد الوهم لبعثهم وقد انمحت رسومهم ولم يبق منهم إلا أحاديث أشد وأقوى من استبعاده بعثهم أنفسهم.
ولو كان إنكارهم البعث مبنيا على أنهم ينعدمون بالموت فتستحيل إعادتهم كان الحكم فيهم وفي آبائهم على نهج واحد ولم يحتج إلى تجديد استفهام بالنسبة إلى آبائهم.
قوله تعالى: " قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذاهم ينظرون " أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بأنهم مبعوثون.
وقوله: " وأنتم داخرون " أي صاغرون مهانون أذلاء، وهذا في الحقيقة احتجاج بعموم القدرة ونفوذ الارادة من غير مهلة، فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ولذا عقبه بقوله: " فإنما هي زجرة واحدة فإذاهم ينظرون " وقد قال تعالى: " ولله غيب السماوات والارض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير " النحل: 77.
وقوله: " فإنما هي زجرة واحدة " الخ (؟) الفاء لافادة التعليل والجملة تعليل لقوله: " وأنتم داخرون " وفي التعبير بزجرة إشعار باستذلالهم.
قوله تعالى: " وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون " معطوف على قوله: " ينظرون " المشعر بأنهم مبهوتون مدهوشون متفكرون ثم يتنبهون بكونه يوم البعث فيه الدين والجزاء وهم يحذرون منه بما كفروا وكذبوا ولذا قالوا: يوم الدين، ولم يقولوا يوم البعث، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع.
وقوله: " هذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون " قيل هو كلام بعضهم لبعض وقيل: كلام الملائكة أو كلامه تعالى لهم، ويؤيده الاية التالية، والفصل هو التمييز بين الشيئين وسمي يوم الفصل لكونه يوم التمييز بين الحق والباطل بقضائه وحكمه تعالى أو التمييز بين المجرمين والمتقين قال تعالى: " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " يس: 59.
قوله تعالى: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم " من كلامه تعالى للملائكة والمعنى وقلنا للملائكة: احشروهم وقيل: هو من كلام الملائكة بعضهم لبعض.
/ صفحة 131 /
والحشر - على ما ذكره الراغب - إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها.
والمراد بالذين ظلموا على ما يؤيده آخر الاية المشركون ولا كل المشركين بل المعاندون للحق الصادون عنه منهم قال تعالى: " فأذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون " الاعراف: 45، والتعبير بالماضي في المقام يفيد فائدة الوصف فليس المراد بالذين ظلموا من تحقق منه ظلم ما ولو مرة واحدة بل تعريف لهم بحاصل ما اكتسبوا في حياتهم الدنيا كما لو قيل: ماذا فعل فلان في حياته فيقال ظلم، فالفعل يفيد فائدة الوصف، وفي كلامه تعالى من ذلك شئ كثير كقوله تعالى: " وسيق الذين اتقوا إلى الجنة زمرا " الزمر: 73 وقوله: " وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا " الزمر: 71 وقوله: " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " يونس 26.
وقوله: " وأزواجهم " الظاهر أن المراد به قرناؤهم من الشياطين قال تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين - إلى أن قال - حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " الزخرف: 38.
وقيل: المراد بالازواج الاشباه والنظائر فأصحاب الزنا يحشرون مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر وهكذا.
وفيه أن لازمه أن يراد بالذين ظلموا طائفة خاصة من أصحاب كل معصية واللفظ لا يساعد عليه على أن ذيل الاية لا يناسبه.
وقيل: المراد بالازواج نساؤهم الكافرات وهو ضعيف كسابقه.
وقوله: " وما كانوا يعبدون من دون الله " الظاهر أن المراد به الاصنام التي يعبدونها نظرا إلى ظاهر لفظة " ما " فالاية نظيرة قوله: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " الانبياء: 98.
ويمكن أن يكون المراد بلفظة " ما " ما يعم اولي العقل من المعبودين كالفراعنة والنماردة، وأما الملائكة المعبودون والمسيح (عليه السلام) فيخرجهم من العموم قوله
/ صفحة 132 /
تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون " الانبياء: 101.
وقوله: " فاهدوهم إلى صراط الجحيم " الجحيم من أسماء جهنم في القرآن وهو من الجحمة بمعنى شدة تأجج النار على ما ذكره الراغب.
والمراد بهدايتهم إلى صراطها إيصالهم إليه وإيقاعهم فيه بالسوق، وقيل: تسمية ذلك بالهداية من الاستهزاء، وقال في مجمع البيان: إنما عبر عن ذلك بالهداية من حيث كان بدلا من الهداية إلى الجنة كقوله: " فبشرهم بعذاب أليم " من حيث إن هذه البشارة وقعت لهم بدلا من البشارة بالنعيم.
انتهى.
قوله تعالى: " وقفوهم إنهم مسؤلون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون " قال في المجمع يقال: وقفت أنا ووقفت غيري - أي يعدي ولا يعدى - وبعض بني تميم يقول: أوقفت الدابة والدار.
انتهى.
فقوله: " وقفوهم إنهم مسؤلون " أي احبسوهم لانهم مسؤلون أي حتى يسأل عنهم.
والسياق يعطي أن هذا الامر بالوقوف والسؤال إنما يقع في صراط الجحيم.
واختلفت كلماتهم فيما هو السؤال عنه فقيل: يسألون عن قول لا إله إلا الله، وقيل: عن شرب الماء البارد استهزاء بهم، وقيل: عن ولاية علي (عليه السلام).
وهذه الوجوه لو صحت فإنما تشير إلى بعض مصاديق ما يسأل عنه والسياق يشهد أن السؤال هو ما يشتمل عليه قوله: " ما لكم لا تناصرون " أي لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تفعلونه في الدنيا فتستعينون به على حوائجكم ومقاصدكم، وما يتلوه من قوله: " بل هم اليوم مستسلمون " أي مسلمون لا يستكبرون يدل على أن المراد بقوله: " ما لكم لا تناصرون " السؤال عن استكبارهم عن طاعة الحق كما كانوا يستكبرون في الدنيا.
فالسؤال عن عدم تناصرهم سؤال عن سبب الاستكبار الذي كانوا عليه في الدنيا فقد تبين به أن المسؤل عنه هو كل حق أعرضوا عنه في الدنيا من اعتقاد حق أو عمل صالح استكبارا على الحق تظاهرا بالتناصر.
قوله تعالى: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - إلى قوله - إنا كنا غاوين " تخاصم واقع بين الاتباع والمتبوعين يوم القيامة، والتعبير عنه بالتساؤل لانه في معنى
/ صفحة 133 /
سؤال بعضهم بعضا تلاوما وتعاتبا يقول التابعون لمتبوعيهم: لم أضللتمونا؟ فيقول المتبوعون: لم قبلتم منا ولا سلطان لنا عليكم؟ فقوله: " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " البعض الاول هم المعترضون والبعض الثاني المعترض عليهم كما يعطيه سياق التساؤل وتساؤلهم تخاصمهم.
وقوله: " قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " أي من جهة الخير والسعادة فاستعمال اليمين فيها شائع كثير كقوله: " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين " الواقعة: 27 والمعنى أنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير والسعادة فتقطعون الطريق وتحولون بيننا وبين الخير والسعادة وتضلوننا.
وقيل: المراد باليمين الدين وهو قريب من الوجه السابق، وقيل: المراد باليمين القهر والقوة كما في قوله تعالى: " فراغ عليهم ضربا باليمين " الصافات: 93 ولا يخلو من وجه نظرا إلى جواب المتبوعين.
وقوله: " قالوا بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان - إلى قوله - غاوين " جواب المتبوعين بتبرئة أنفسهم من إشقاء التابعين وأن جرمهم مستند إلى سوء اختيار أنفسهم.
فقالوا: بل لم تكونوا مؤمنين أي لم نكن نحن السبب الموجب لاجرامكم وهلاككم بخلوكم عن الايمان بل لم تكونوا مؤمنين لا أنا جردناكم من الايمان.
ثم قالوا: " وما كان لنا عليكم من سلطان " وهو في معنى الجواب على فرض التسليم كأنه قيل: ولو فرض أنه كان لكم إيمان فما كان لنا عليكم من سلطان حتى نسلبه منكم ونجردكم منه.
على أن سلطان المتبوعين إنما هو بالتابعين فهم الذين يعطونهم السلطة والقوة فيتسلطون عليهم أنفسهم.
ثم قالوا: " بل كنتم قوما طاغين " والطغيان هو التجاوز عن الحد وهو إضراب عن قوله: " لم تكونوا مؤمنين " كأنه قيل: ولم يكن سبب هلاككم مجرد الخلو من الايمان بل كنتم قوما طاغين كما كنا مستكبرين طاغين فتعاضدنا جميعا على ترك سبيل الرشد واتخاذ سبيل الغي فحق علينا كلمة العذاب التي قضى بها الله سبحانه قال تعالى:
/ صفحة 134 /
" إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا " النبأ: 22 وقال: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى " النازعات: 39.
ولهذا المعنى عقب قوله: " بل كنتم قوما طاغين " بقوله: " فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون " أي لذائقون العذاب.
ثم قالوا: " فأغويناكم إنا كنا غاوين " وهو متفرع على ثبوت كلمة العذاب وآخر الاسباب لهلاكهم فإن الطغيان يستتبع الغواية ثم نار جهنم، قال تعالى لابليس " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين " الحجر: 43.
فكأنه قيل: فلما تلبستم بالطغيان حل بكم الغواية بأيدينا من غير سلطان لنا عليكم إلا اتباعكم لنا واتصالكم بنا فسرى إليكم ما فينا من الصفة وهي الغواية فالغاوي لا يتأتى منه إلا الغواية والاناء لا يترشح منه إلا ما فيه، وبالجملة إنكم لم تجبروا ولم تسلبوا الاختيار منذ بدأتم في سلوك سبيل الهلاك إلى أن وقعتم في ورطته وهي الغواية فحق عليكم القول.
قوله تعالى: " فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون - إلى قوله - يستكبرون " ضمير " فإنهم " للتابعين والمتبوعين فهم مشتركون في العذاب لاشتراكهم في الظلم وتعاونهم على الجرم من غير مزية لبعضهم على بعض.
واستظهر بعضهم أن المغوين أشد عذابا وذلك في مقابلة أوزارهم وأوزار أمثال أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة والحق أن الايات مسوقة لبيان اشتراكهم في الظلم والجرم والعذاب اللاحق بهم من قبله، ويمكن مع ذلك أن يلحق بكل من المتبوعين والتابعين ألوان من العذاب ناشئة عن خصوص شأنهم قال تعالى: " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم " العنكبوت: 13، وقال: " ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " الاعراف: 38.
وقوله: " إنا كذلك نفعل بالمجرمين " تأكيد لتحقيق العذاب، والمراد بالمجرمين المشركون بدليل قوله بعد: " إنهم إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون " أي إذا
/ صفحة 135 /
عرض عليهم التوحيد أن يؤمنوا به أو كلمة الاخلاص أن يقولوها استمروا على استكبارهم ولم يقبلوا.
قوله تعالى: " ويقولون ءإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين " قولهم هذا إنكار منهم للرسالة بعد استكبارهم عن التوحيد وإنكارهم له.
وقوله: " بل جاء بالحق وصدق المرسلين " رد لقولهم: " لشاعر مجنون " حيث رموه (عليه السلام) بالشعر والجنون وفيه رمي لكتاب الله بكونه شعرا ومن هفوات الجنون فرد عليهم بأن ما جاء به حق وفيه تصديق الرسل السابقين فليس بباطل من القول كالشعر وهفوة الجنون وليس ببدع غير مسبوق في معناه.
قوله تعالى: " إنكم لذائقوا العذاب الاليم " تهديد لهم بالعذاب لاستكبارهم ورميهم الحق بالباطل.
قوله تعالى: " وما تجزون إلا ما كنتم تعملون " أي لا ظلم فيه لانه نفس عملكم يرد إليكم.
قوله تعالى: " إلا عباد الله المخلصين - إلى قوله - بيض مكنون " استثناء منقطع من ضمير " لذائقوا " أو من ضمير " ما تجزون " ولكل وجه والمعنى على الاول لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وليسوا بذائقي العذاب الاليم والمعنى على الثاني لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم وراء جزاء عملهم وسيجئ الاشارة إلى معناه.
واحتمال كون الاستثناء متصلا ضعيف لا يخلو من تكلف.
وقد سماهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه والعبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئا من إرادة ولا عمل فهؤلاء لا يريدون إلا ما أراده الله ولا يعملون إلا له.
ثم أثبت لهم أنهم مخلصون بفتح اللام أي إن الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد فلا تعلق لهم بشئ غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا ولا من نعم العقبى وليس في قلوبهم إلا الله سبحانه.
/ صفحة 136 /
ومن المعلوم أن من كانت هذه صفته كان التذاذه وتنعمه غير ما يلتذ ويتنعم غيره وارتزاقه بغير ما يرتزق به سواه وإن شاركهم في ضروريات المأكل والمشرب ومن هنا يتأيد أن المراد بقوله: " أولئك لهم رزق معلوم " الاشارة إلى أن رزقهم في الجنة - وهم عباد مخلصون - رزق خاص لا يشبه رزق غيرهم ولا يختلط بما يتمتع به من دونهم وإن اشتركا في الاسم.
فقوله: " أولئك لهم رزق معلوم " أي رزق خاص متعين ممتاز من رزق غيرهم فكونه معلوما كناية عن امتيازه كما في قوله: " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات: 164 والاشارة بلفظ البعيد للدلالة على علو مقامهم.
و أما ما فسره بعضهم أن المراد بكون رزقهم معلوما كونه معلوم الخصائص مثل كونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة، وكذا ما ذكره آخرون أن المراد أنه معلوم الوقت لقوله: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " مريم: 62 وكذا قول القائل: إن المراد به الجنة فهي وجوه غير سديدة.
ومن هنا يظهر أن أخذ قوله: " إلا عباد الله المخلصين " استثناء من ضمير " وما تجزون " لا يخلو من وجه كما تقدمت الاشارة إليه.
وقوله: " فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم " الفواكه جمع فاكهة وهي ما يتفكه به من الاثمار بيان لرزقهم المعلوم غير أنه تعالى شفعه بقوله: " وهم مكرمون " للدلالة على امتياز هذا الرزق أعني الفاكهة مما عند غيرهم بأنها مقارنة لاكرام خاص يخصهم قبال اختصاصهم بالله سبحانه وكونه لهم لا يشاركهم فيه شئ.
وفي إضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى ذلك فقد تقدم في قوله: " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم " الاية النساء: 69، وقوله: " وأتممت عليكم نعمتي " المائدة: 3 وغيرهما أن حقيقة النعمة هي الولاية وهي كونه تعالى هو القائم بأمر عبده.
وقوله: " على سرر متقابلين " السرر جمع سرير وهو معروف وكونهم متقابلين معناه استئناس بعضهم ببعض و استمتاعهم بنظر بعضهم في وجه بعض من غير أن يرى بعضهم قفا بعض
/ صفحة 137 /
وقوله: " يطاف عليهم بكأس من معين " الكأس إناء الشراب ونقل عن كثير من اللغويين أن إناء الشراب لا يسمى كأسا إلا وفيه الشراب فإن خلا منه فهو قدح و المعين من الشراب الظاهر منه من عان الماء إذا ظهر وجرى على وجه الارض، و المراد بكون الكأس من معين صفاء الشراب فيها ولذا عقبه بقوله: " بيضاء ".
وقوله: " بيضاء لذة للشاربين " أي صافية في بياضها لذيذة للشاربين فاللذة مصدر أريد به الوصف مبالغة أو هي مؤنث لذ بمعنى لذيذ كما قيل.
وقوله: " لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون " الغول الاضرار والافساد، قال الراغب: الغول إهلاك الشئ من حيث لا يحس به انتهى.
فنفي الغول عن الخمر نفي مضارها و الانزاف فسر بالسكر المذهب للعقل وأصله إذهاب الشئ تدريجا.
ومحصل المعنى: أنه ليس فيها مضار الخمر التي في الدنيا ولا اسكارها بإذهاب العقل.
وقوله: " وعندهم قاصرات الطرف عين " وصف للحور التي يرزقونها وقصور طرفهن كناية عن نظرهن نظرة الغنج والدلال ويؤيده ذكر العين بعده وهو جمع عيناء مؤنث أعين وهي الواسعة العين في جمال.
وقيل: المراد بقاصرات الطرف أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن لا يردن غيرهم لحبهن لهم، وبالعين أن أعينهن شديدة في سوادها شديدة في بياضها.
وقوله: " كأنهن بيض مكنون " البيض معروف وهو اسم جنس واحدته بيضة والمكنون هو المستور بالادخار قيل: المراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الايدي ولم يصبه الغبار، وقيل: المراد تشبيههن ببطن البيض قبل أن يقشر وقبل أن تمسه الايدي.
قوله تعالى: " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون - إلى قوله - فليعمل العاملون " حكاية محادثة تقع بين أهل الجنة فيسأل بعضهم عن أحوال بعض ويحدث بعضهم بما جرى عليه في الدنيا وتنتهي المحادثة إلى تكليمهم بعض أهل النار وهو في سواء الجحيم.
فقوله: " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " ضمير الجمع لاهل الجنة من عباد الله
/ صفحة 138 /
المخلصين وتساؤلهم - كما تقدم - سؤال بعضهم عن بعض وما جرى عليه.
وقوله: " قال قائل منهم إني كان لي قرين " أي قال قائل من أهل الجنة المتسائلين إني كان لي في الدنيا مصاحب يختص بي من الناس.
كذا يعطي السياق.
وقيل: المراد بالقرين القرين من الشياطين وفيه أن القرآن إنما يثبت قرناء الشياطين في المعرضين عن ذكر الله والمخلصون في عصمة إلهية من قرين الشياطين وكذا من تأثير الشيطان فيهم كما حكى عن إبليس استثناءهم من الاغواء: " فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين " ص: 83 نعم ربما أمكن أن يتعرض لهم الشيطان من غير تأثير فيهم لكنه غير أثر القرين.
وقوله: " يقول ءإنك لمن المصدقين إذا متنا وكنا ترابا وعظاما ءإنا لمدينون " ضمير " يقول " للقرين، ومفعول " المصدقين " البعث للجزاء وقد قام مقامه قوله: " ءإذا متنا " الخ والمدينون المجزيون.
والمعنى: كان يقول لي قريني مستبعدا منكرا ءإنك لمن المصدقين للبعث للجزاء ءإذا متنا وكنا ترابا وعظاما فتلاشت أبداننا وتغيرت صورهاءإنا لمجزيون بالاحياء والاعادة؟ فهذا مما لا ينبغي أن يصدق.
وقوله: " قال هل أنتم مطلعون " ضمير " قال " للقائل المذكور قبلا، والاطلاع الاشراف والمعنى ثم قال القائل المذكور مخاطبا لمحادثيه من أهل الجنة: هل أنتم مشرفون على النار حتى تروا قريني والحال التى هو فيها؟ وقوله: " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " السواء الوسط ومنه سواء الطريق أي وسطه والمعنى فأشرف القائل المذكور على النار فرآه أي قرينه في وسط الجحيم.
وقوله: " قال تالله إن كدت لتردين " " إن " مخففة من الثقيلة، والارداء السقوط من مكان عال كالشاهق ويكنى به عن الهلاك والمعنى أقسم بالله إنك قربت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه من الجحيم.
وقوله: " ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين " المراد بالنعمة التوفيق والهداية
/ صفحة 139 /
الالهية، والاحضار الاشخاص للعذاب قال في مجمع البيان: ولا يستعمل " أحضر " مطلقا إلا في الشر.
والمعنى ولولا توفيق ربي وهدايته لكنت من المحضرين للعذاب مثلك.
وقوله: " أفما نحن بميتين إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين " الاستفهام للتقرير والتعجيب، والمراد بالموتة الاولى هي الموتة عن الحياة الدنيا وأما الموتة عن البرزخ المدلول عليها بقوله: " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " المؤمن: 11 فلم يعبأ بها لان الموت الذي يزعم الزاعم فيه الفناء والبطلان هو الموت الدنيوي.
والمعنى - على ما في الكلام من الحذف والايجاز - ثم يرجع القائل المذكور إلى نفسه وأصحابه فيقول متعجبا أنحن خالدون منعمون فما نحن بميتين إلا الموتة الاولى وما نحن بمعذبين؟ قال في مجمع البيان: ويريدون به التحقيق لا الشك وإنما قالوا هذا القول لان لهم في ذلك سرورا مجددا وفرحا مضاعفا وإن كان قد عرفوا أنهم سيخلدون في الجنة وهذا كما أن الرجل يعطى المال الكثير فيقول مستعجبا: كل هذا المال لي؟ وهو يعلم أن ذلك له وهذا كقوله: أبطحاء مكة هذا الذي * أراه عيانا وهذا أنا؟ قال: ولهذا عقبه بقوله: " إن هذا لهو الفوز العظيم " انتهى.
وقوله: " إن هذا لهو الفوز العظيم " هو من تمام قول القائل المذكور وفيه إعظام لموهبة الخلود وارتفاع العذاب وشكر للنعمة.
وقوله: " لمثل هذا فليعمل العاملون " ظاهر السياق أنه من قول القائل المذكور والاشارة بهذا إلى الفوز أو الثواب أي لمثل هذا الفوز أو الثواب فليعمل العاملون في دار التكليف، وقيل: هو من قول الله سبحانه وقيل: من قول أهل الجنة.
واعلم أن لهم أقوالا مختلفة في نسبة أكثر الجمل السابقة إلى قول الله تعالى أو قول الملائكة أو قول أهل الجنة غير القائل المذكور والذي أوردناه هو الذي يساعد عليه السياق.
/ صفحة 140 /
قوله تعالى: " أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم - إلى قوله - يهرعون " مقايسة بين ما هيأه الله نزلا لاهل الجنة مما وصفه من الرزق الكريم وبين ما أعده نزلا لاهل النار من شجرة الزقوم التي طلعها كأنه رؤس الشياطين وشراب من حميم.
فقوله: " أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم " الاشارة بذلك إلى الرزق الكريم المذكورة سابقا المعد لورود أهل الجنة والنزل بضمتين ما يهيؤ لورود الضيف فيقدم إليه إذا ورد من الفواكه ونحوها.
والزقوم - على ما قيل - اسم شجرة صغيرة الورق مرة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة والبلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت به الشجرة الموصوفة بما في الاية من الاوصاف، وقيل: إن قريشا ما كانت تعرفه وسيأتي ذلك في البحث الروائي.
ولفظة خير في الاية بمعنى الوصف دون التفضيل إذ لا خيرية في الزقوم أصلا فهو كقوله: " ما عند الله خير من اللهو " الجمعة: 11 والاية على ما يعطيه السياق من كلامه تعالى.
وقوله: " إنا جعلناها فتنة للظالمين " الضمير لشجرة الزقوم، والفتنة المحنة والعذاب.
وقوله: " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم " وصف لشجرة الزقوم، وأصل الجحيم قعرها، ولا عجب في نبات شجرة في النار وبقائها فيها فحياة الانسان وبقاؤها خالدا فيها أعجب والله يفعل ما يشاء.
وقوله: " طلعها كأنه رؤس الشياطين " الطلع حمل النخلة أو مطلق الشجرة أول ما يبدو، وتشبيه ثمرة الزقوم برؤس الشياطين بعناية أن الاوهام العامية تصور الشيطان في أقبح صورة كما تصور الملك في أحسن صورة وأجملها قال تعالى: " ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم " يوسف: 31، وبذلك يندفع ما قيل: إن الشئ إنما يشبه بما يعرف ولا معرفة لاحد برؤس الشياطين.
وقوله: " فإنهم لاكلون منها فمالؤن منها البطون " الفاء للتعليل يبين به كونها نزلا للظالمين يأكلون منها، وفي قوله: " فمالؤن منها البطون " إشارة إلى تسلط جوع
/ صفحة 141 /
شديد عليهم يحرصون به على الاكل كيفما كان.
وقوله: " ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم " الشوب المزيج والخليط، والحميم الماء الحار البالغ في حرارته، والمعنى ثم إن لاولئك الظالمين - زيادة عليها - لخليطا مزيجا من ماء حار بالغ الحرارة يشربونه فيختلط به ما ملؤا منه البطون من الزقوم.
وقوله: " ثم إن مرجعهم لالى الجحيم " أي إنهم بعد شرب الحميم يرجعون إلى الجحيم فيستقرون فيها ويعذبون، وفي الاية تلويح إلى أن الحميم خارج الجحيم.
وقوله: " إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون " ألفيت كذا أي وجدته وصادفته، والاهراع الاسراع والمعنى أن سبب أكلهم وشربهم ثم رجوعهم إلى الجحيم أنهم صادفوا آباءهم ضالين - وهم مقلدون وأتباع لهم وهم أصلهم ومرجعهم - فهم يسرعون على آثارهم فجوزوا بنزل كذلك والرجوع إلى الجحيم جزاء وفاقا.
(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله تعالى: " بل عجبت " قال النبي صلى الله عليه وسلم: عجبت بالقرآن حين أنزل ويسخر منه ضلال بني آدم.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " أحشروا الذين ظلموا " قال: الذين ظلموا آل محمد (عليهم السلام) حقهم " وأزواجهم " قال: أشباههم.
اقول: صدر الرواية من الجري.
وفي المجمع في قوله تعالى: " وقفوهم إنهم مسؤلون " قيل: عن ولاية علي (عليه السلام) عن أبي سعيد الخدري.
اقول: ورواه الشيخ في الامالي بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي العيون عن علي وعن الرضا (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي تفسير القمي عن الامام (عليه السلام).
وفي الخصال عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تزول قدم
/ صفحة 142 /
عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت.
اقول: وروى في العلل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله.
وفي نهج البلاغة: اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤلون حتى عن البقاع والبهائم.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري في تاريخه والترمذي والدارمي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من داع دعا إلى شئ إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما به لا يفارقه وإن دعا رجل رجلا ثم قرء " وقفوهم إنهم مسؤلون ".
وفي روضة الكافي بإسناده عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: وأما قوله: " أولئك لهم رزق معلوم " قال: يعلمه (1) الخدام فيأتون به إلى أولياء الله قبل أن يسألوهم إياه.
أما قوله: " فواكه وهم مكرمون " قال: فإنهم لا يشتهون شيئا في الجنة إلا أكرموا به.
وفي تفسير القمي وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " يقول: في وسط الجحيم.
وفيه في قوله تعالى: " أفما نحن بميتين " الخ بإسناده عن أبيه عن علي بن مهزيار والحسن بن محبوب عن النضر بن سويد عن درست عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جيئ بالموت ويذبح كالكبش بين الجنة والنار ثم يقال: خلود فلا موت أبدا فيقول أهل الجنة: " أفما نحن بميتين إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون ".
اقول: وحديث ذبح الموت في صورة كبش يوم القيامة من المشهورات رواه الشيعة وأهل السنة، وهو تمثل الخلود يومئذ.
وفي المجمع في قوله تعالى: " شجرة الزقوم " روي أن قريشا لما سمعت هذه (1)
* (هامش) *
يعنى: خ.
/ صفحة 143 /
الاية قالت: ما نعرف هذه الشجرة قال ابن الزبعرى: الزقوم بكلام البربر التمر والزبد وفي رواية بلغة اليمن فقال أبو جهل لجاريته: يا جارية زقمينا فأتته الجارية بتمر وزبد فقال لاصحابه: تزقموا بهذا الذي يخوفكم به محمد فيزعم أن النار تنبت الشجر والنار تحرق الشجر فأنزل الله سبحانه " إنا جعلناها فتنة للظالمين ".
اقول: وهذا المعنى مروي بطرق عديدة.
* * *
ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين - 71.
ولقد أرسلنا فيهم منذرين - 72.
فانظر كيف كان عاقبة المنذرين - 73.
إلا عباد الله المخلصين - 74.
ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون - 75.
ونجيناه وأهله من الكرب العظيم - 76.
وجعلنا ذريته هم الباقين - 77.
وتركنا عليه في الاخرين - 78.
سلام على نوح في العالمين - 79.
إنا كذلك نجزي المحسنين - 80.
إنه من عبادنا المؤمنين - 81.
ثم أغرقنا الاخرين - 82.
وإن من شيعته لابراهيم - 83.
إذ جاء ربه بقلب سليم - 84.
إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون - 85.
أئفكا آلهة دون الله تريدون - 86 - فما ظنكم برب العالمين - 87.
فنظر نظرة في النجوم - 88.
فقال إني سقيم - 89.
فتولوا عنه مدبرين - 90.
فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون - 91.
/ صفحة 144 /
ما لكم لا تنطقون - 92.
فراغ عليهم ضربا باليمين - 93.
فأقبلوا إليه يزفون - 94.
قال أتعبدون ما تنحتون - 95.
والله خلقكم وما تعملون - 96.
قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم - 97.
فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين - 98.
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين - 99.
رب هب لي من الصالحين - 100.
فبشرناه بغلام حليم - 101.
فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين - 102.
فلما أسلما وتله للجبين - 103.
وناديناه أن يا إبراهيم - 104.
قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين - 105.
إن هذا لهو البلاء المبين - 106.
وفديناه بذبح عظيم - 107.
وتركنا عليه في الاخرين - 108.
سلام على إبراهيم - 109.
كذلك نجزي المحسنين - 110.
إنه من عبادنا المؤمنين - 111.
وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين - 112.
وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين - 113.
/ صفحة 145 /
(بيان) تعقيب لغرض السياق السابق المتعرض لشركهم وتكذيبهم بآيات الله وتهديدهم بأليم العذاب يقول: إن أكثر الاولين ضلوا كضلالهم وكذبوا الرسل المنذرين كتكذيبهم ويستشهد بقصص نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس (عليهم السلام) وما في الايات المنقولة إشارة إلى قصة نوح وخلاصة قصص إبراهيم (عليه السلام).
قوله تعالى: " ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين - إلى قوله - المخلصين " كلام مسوق لانذار مشركي هذه الامة بتنظيرهم للامم الهالكين من قبلهم فقد ضل أكثرهم كما ضل هؤلاء وأرسل إليهم رسل منذرون كما أرسل منذر إلى هؤلاء فكذبوا فكان عاقبة أمرهم الهلاك إلا المخلصين منهم.
واللام في " لقد ضل " للقسم وكذا في " لقد أرسلنا " والمنذرين الاول بكسر الذال المعجمة وهم الرسل والثاني بفتح الذال المعجمة وهم الامم الاولون، و " إلا عباد الله " إن كان المراد بهم من في الامم من المخلصين كان استثناء متصلا وإن عم الانبياء كان منقطعا إلا بتغليبه غير الانبياء عليهم والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون " اللامان للقسم وهو يدل على كمال العناية بنداء نوح وإجابته تعالى، وقد مدح تعالى نفسه في إجابته فإن التقدير فلنعم المجيبون نحن، وجمع المجيب لافادة التعظيم وقد كان نداء نوح - على ما يفيده السياق - دعاءه على قومه واستغاثته بربه المنقولين في قوله تعالى: " وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا " نوح: 26، وفي قوله تعالى: " فدعا ربه أني مغلوب فانتصر " القمر: 10.
قوله تعالى: " ونجيناه وأهله من الكرب العظيم " الكرب - على ما ذكره الراغب - الغم الشديد والمراد به الطوفان أو أذى قومه، والمراد بأهله أهل بيته و المؤمنون به من قومه وقد قال تعالى في سورة هود: " قلنا احمل فيها من كل زوجين
/ صفحة 146 /
اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن " هود: 40 والاهل كما يطلق على زوج الرجل وبنيه يطلق على كل من هو من خاصته.
قوله تعالى: " وجعلنا ذريته هم الباقين " أي الباقين من الناس بعد قرنهم وقد بحثنا في هذا المعنى في قصة نوح من سورة هود.
قوله تعالى: " وتركنا عليه في الاخرين " المراد بالترك الابقاء وبالاخرين الامم الغابرة غير الاولين، وقد ذكرت هذه الجملة بعد ذكر إبراهيم (عليه السلام) أيضا في هذه السورة وقد بدلت في القصة بعينها من سورة الشعراء من قوله: " واجعل لي لسان صدق في الاخرين " الشعراء: 84 واستفدنا منه هناك أن المراد بلسان صدق كذلك أن يبعث الله بعده من يقوم بدعوته ويدعو إلى ملته وهي دين التوحيد.
فيتأيد بذلك أن المراد بالابقاء في الاخرين هو إحياؤه تعالى دعوة نوح (عليه السلام) إلى التوحيد ومجاهدته في سبيل الله عصرا بعد عصر وجيلا بعد جيل إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: " سلام على نوح في العالمين " المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعا محلى باللام مفيدا للعموم، والظاهر أن المراد به عالموا البشر واممهم وجماعاتهم إلى يوم القيامة فإنه تحية من عند الله مباركة طيبة تهدى إليه من قبل الامم الانسانية ما جرى فيها شئ من الخيرات اعتقادا أو عملا فانه (عليه السلام) أول من انتهض لدعوة التوحيد ودحض الشرك وما يتبعه من العمل وقاسى في ذلك أشد المحنة فيما يقرب من ألف سنة لا يشاركه في ذلك أحد فله نصيب من كل خير واقع بينهم إلى يوم القيامة، ولا يوجد في كلامه تعالى سلام على هذه السعة على أحد ممن دونه.
وقيل: المراد بالعالمين عوالم الملائكة والثقلين من الجن والانس.
قوله تعالى: " إنا كذلك نجزي المحسنين " تعليل لما امتن عليه من الكرامة كإجابة ندائه وتنجيته وأهله من الكرب العظيم وإبقاء ذريته وتركه عليه في الاخرين والسلام عليه في العالمين، وتشبيه جزائه بجزاء عموم المحسنين من حيث أصل الجزاء الحسن لا في خصوصياته فلا يوجب ذلك اشتراك الجميع فيما اختص به (عليه السلام) و هو ظاهر.
/ صفحة 147 /
قوله تعالى: " إنه من عبادنا المؤمنين " تعليل لاحسانه المدلول عليه بالجملة السابقة وذلك لانه (عليه السلام) لكونه عبد الله بحقيقة معنى الكلمة كان لا يريد ولا يفعل إلا ما يريده الله، ولكونه من المؤمنين حقا كان لا يرى من الاعتقاد إلا الحق وسرى ذلك إلى جميع أركان وجوده ومن كان كذلك لا يصدر منه إلا الحسن الجميل فكان من المحسنين.
قوله تعالى: " ثم أغرقنا الاخرين " ثم للتراخي الكلامي دون الزماني والمراد بالاخرين قومه المشركون.
قوله تعالى: " وإن من شيعته لابراهيم " الشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم وبالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته تقدم أو تأخر قال تعالى: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل " سبأ: 54.
وظاهر السياق أن ضمير " شيعته " لنوح أي إن إبراهيم كان ممن يوافقه في دينه وهو دين التوحيد، وقيل: الضمير لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا دليل عليه من جهة اللفظ.
قيل: ومن حسن الارداف في نظم الايات تعقيب قصة نوح (عليه السلام) وهو آدم الثاني أبو البشر بقصة إبراهيم (عليه السلام) وهو أبو الانبياء إليه تنتهى أنساب جل الانبياء بعده وعلى دينه تعتمد أديان التوحيد الحية اليوم كدين موسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأيضا نوح (عليه السلام) نجاه الله من الغرق وإبراهيم (عليه السلام) نجاه الله من الحرق.
قوله تعالى: " إذ جاء ربه بقلب سليم " مجيئه ربه كناية عن تصديقه له وإيمانه به، ويؤيد ذلك أن المراد بسلامة القلب عروه عن كل ما يضر التصديق والايمان بالله سبحانه من الشرك الجلي والخفي ومساوي الاخلاق وآثار المعاصي وأي تعلق بغيره ينجذب إليه الانسان ويختل به صفاء توجهه إليه سبحانه.
وبذلك يظهر أن المراد بالقلب السليم ما لا تعلق له بغيره تعالى كما في الحديث وسيجئ إن شاء الله في البحث الروائي الاتي.
وقيل: المراد به السالم من الشرك، ويمكن أن يوجه بما يرجع إلى الاول وقيل: المراد به القلب الحزين، وهو كما ترى.
والظرف في الاية متعلق بقوله سابقا " من شيعته " والظروف يغتفر فيها ما لا
/ صفحة 148 /
يغتفر في غيرها، وقيل متعلق بأذكر المقدر.
قوله تعالى: " إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون " أي أي شئ تعبدون؟ وانما سألهم عن معبودهم وهو يرى أنهم يعبدون الاصنام تعجبا واستغرابا.
قوله تعالى: " ءافكا آلهة دون الله تريدون " أي تقصدون آلهة دون الله افكا وافتراء، انما قدم الافك والالهة لتعلق عنايته بذلك.
قوله تعالى: " فنظر نظرة في النجوم فقال اني سقيم " لا شك أن ظاهر الايتين أن اخباره (عليه السلام) بأنه سقيم مرتبط بنظرته في النجوم ومبني عليه ونظرته في النجوم اما لتشخيص الساعة وخصوص الوقت كمن به حمى ذات نوبة يعين وقتها بطلوع كوكب أو غروبها أو وضع خاص من النجوم واما للوقوف على الحوادث المستقبلة التي كان المنجمون يرون أن الاوضاع الفلكية تدل عليها، وقد كان الصابئون مبالغين فيها وكان في عهده (عليه السلام) منهم جم غفير.
فعلى الوجه الاول لما أراد أهل المدينة أن يخرجوا كافة إلى عيد لهم نظر إلى النجوم وأخبرهم أنه سقيم ستعتريه العلة فلا يقدر على الخروج معهم.
وعلى الوجه الثاني نظر (عليه السلام) حينذاك إلى النجوم نظرة المنجمين فأخبرهم أنها تدل على أنه سيسقم فليس في وسعه الخروج معهم.
وأول الوجهين أنسب لحاله (عليه السلام) وهو في إخلاص التوحيد بحيث لا يرى لغيره تعالى تأثيرا، ولا دليل لنا قويا يدل على أنه (عليه السلام) لم يكن به في تلك الايام سقم أصلا، وقد أخبر القرآن بإخباره بأنه سقيم وذكر سبحانه قبيل ذلك أنه جاء ربه بقلب سليم فلا يجوز عليه كذب ولا لغو من القول.
ولهم في الايتين وجوه آخر أوجهها أن نظرته في النجوم وإخباره بالسقم من المعاريض في الكلام والمعاريض أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده فلعله نظر (عليه السلام) في النجوم نظر الموحد في صنعه تعالى يستدل به عليه تعالى وعلى وحدانيته وهم يحسبون أنه ينظر إليها نظر المنجم فيها ليستدل بها على الحوادث ثم قال: إني سقيم يريد أنه سيعتريه سقم فإن الانسان لا يخلو في حياته من سقم ما ومرض ما
/ صفحة 149 /
كما قال: " وإذا مرضت فهو يشفين " الشعراء: 80 وهم يحسبون أنه يخبر عن سقمه يوم يخرجون فيه لعيد لهم، والمرجح عنده لجميع ذلك ما كان يهتم به من الرواغ إلى أصنامهم وكسرها.
لكن هذا الوجه مبني على أنه كان صحيحا غير سقيم يومئذ، وقد سمعت أن لا دليل يدل عليه.
على أن المعاريض غير جائزة على الانبياء لارتفاع الوثوق بذلك عن قولهم.
قوله تعالى: " فتولوا عنه مدبرين " ضمير الجمع للقوم وضمير الافراد لابراهيم (عليه السلام) أي خرجوا من المدينة وخلفوه.
قوله تعالى: " فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون " الروغ والرواغ والروغان الحياد والميل، وقيل أصله الميل في جانب ليخدع من يريده.
وفي قوله: " ألا تأكلون "؟ تأييد لما ذكروا أن المشركين كانوا يضعون أيام أعيادهم طعاما عند آلهتهم.
وقوله: " ألا تأكلون؟ ما لكم لا تنطقون "؟ تكليم منه لالهتهم وهي جماد وهو يعلم أنها جماد لا تأكل ولا تنطق لكن الوجد وشدة الغيظ حمله على أن يمثل موقفها موقف العقلاء ثم يؤاخذها مؤاخذة العقلاء كما يفعل بالمجرمين.
فنظر إليها وهي ذوات أبدان كهيئة من يتغذى ويأكل وعندها شئ من الطعام فامتلا غيظا وجاش وجدا فقال: ألا تأكلون؟ فلم يسمع منها جوابا فقال: " ما لكم لا تنطقون "؟ وأنتم آلهة يزعم عبادكم أنكم عقلاء قادرون مدبرون لامورهم فلما لم يسمع لها حسا راغ عليها ضربا باليمين.
قوله تعالى: " فراغ عليهم ضربا باليمين " أي تفرع على ذاك الخطاب أن مال على آلهتهم يضربهم ضربا باليد اليمنى أو بقوة بناء على كون المراد باليمين القوة.
وقول بعضهم: إن المراد باليمين القسم والمعنى مال عليهم ضربا بسبب القسم الذي سبق منه وهو قوله: " تالله لاكيدن أصنامكم " الانبياء: 57 بعيد.
قوله تعالى: " فأقبلوا إليه يزفون " الزف والزفيف الاسراع في المشي أي فجائوا
/ صفحة 150 /
إلى إبراهيم والحال أنهم يسرعون اهتماما بالحادثة التي يظنون أنه الذي أحدثها.
وفي الكلام إيجاز وحذف من خبر رجوعهم إلى المدينة ووقوفهم على ما فعل بالاصنام وتحقيقهم الامر وظنهم به (عليه السلام) مذكور في سورة الانبياء.
قوله تعالى: " قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعبدون " فيه إيجاز وحذف من حديث القبض عليه والاتيان به على أعين الناس ومسألته وغيرها.
والاستفهام للتوبيخ وفيه مع ذلك احتجاج على بطلان طريقتهم فهو يقول: لا يصلح ما نحته الانسان بيده أن يكون ربا للانسان معبودا له والله سبحانه خلق الانسان وما يعمله والخلق لا ينفك عن التدبير فهو رب الانسان ومن السفه أن يترك هذا ويعبد ذاك.
وقد بان بذلك أن الاظهر كون ما في قوله: " ما تنحتون " موصولة والتقدير ما تنحتونه، وكذا في قوله: " وما تعملون " وجوز بعضهم كون " ما " فيها مصدرية وهو في أولهما بعيد جدا.
ولا ضير في نسبة الخلق إلى ما عمله الانسان أو إلى عمله لان ما يريده الانسان ويعمله من طريق اختياره مراد الله سبحانه من طريق إرادة الانسان واختياره ولا يوجب هذا النوع من تعلق الارادة بالفعل بطلان تأثير إرادة الانسان وخروج الفعل عن الاختيار وصيرورته مجبرا عليه، وهو ظاهر.
ولو كان المراد نسبة خلق أعمالهم إلى الله سبحانه بلا واسطة لا من طريق إرادتهم بل بتعلق إرادته بنفس عملهم وأفاد الجبر لكان القول أقرب إلى أن يكون عذرا لهم من أن يكون توبيخا وتقبيحا، وكانت الحجة لهم لا عليهم.
قوله تعالى: " قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم " البنيان مصدر بنى يبني والمراد به المبنى، والجحيم النار في شدة تأججها.
قوله تعالى: " فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين " الكيد الحيلة والمراد احتيالهم إلى إهلاكه وإحراقه بالنار.
وقوله: " فجعلناهم الاسفلين " كناية عن جعل إبراهيم فوقهم لا يؤثر فيه كيدهم