/ صفحة 301 /

سواء أخذ بمعنى الموت أو بمعنى الغشية لا يختص الصعق قبل ذلك بموسى (عليه السلام).

وفي المجمع في قوله تعالى: " لها سبعة أبواب " فيه قولان أحدهما ما روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن جهنم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض ووضع إحدى يديه على الاخرى فقال: هكذا وأن الله وضع الجنان على الارض، ووضع النيران بعضها فوق بعض فأسفلها جهنم، وفوقها لظى، وفوقها الحطمة، وفوقها سقر، وفوقها الجحيم، وفوقها السعير، وفوقها الهاوية وفي رواية الكلبي أسفلها الهاوية وأعلاها جهنم.

وفي الخصال عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليهم السلام) قال: إن للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيون والصديقون، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا.

فلا أزال واقفا على الصراط أدعو وأقول: رب سلم شيعتي ومحبي وأنصاري ومن تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش قد أجيبت دعوتك وشفعت في شيعتك ويشفع كل رجل من شيعتي ومن تولاني ونصرني وحارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه وأقربائه.

وباب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله ولم يكن في قلبه مثقال من بغضنا أهل البيت.

* * *

سورة المؤمن مكية وهي خمس وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم حم - 1.

تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم - 2.

غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير - 3.

ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد - 4.

كذبت قبلهم

 

/ صفحة 302 /

قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب - 5.

وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار - 6.

(بيان) تتكلم السورة في استكبار الكافرين ومجادلتهم بالباطل ليدحضوا به الحق الذي يدعون إليه ولذلك نراها تذكر جدالهم وتعود إليه عودة بعد عودة " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد " " الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا " " ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون ".

فتكسر سورة استكبارهم وجدالهم بذكر ما عاقب الله به الماضين من الامم المكذبين وما أعد الله لهم من العذاب المهين بذكر طرف مما يجري عليهم في الاخرة.

وتدحض باطل أقاويلهم بوجوه من الحجج الناطقة بتوحده في الربوبية والالوهية وتأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر وتعده والمؤمنين به بالنصر، وتأمرهم أن يؤذنهم أنه مسلم لربه غير تارك لعبادته فلييأسوا منه.

والسورة مكية كلها لاتصال آياتها وشهادة مضامينها بذلك، وما قيل فيه من الايات أنه نزل بالمدينة لا يعبؤ به وسيجئ الاشارة إليها إن شاء الله.

قوله تعالى: " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " التنزيل مصدر بمعنى المفعول فقوله: " تنزيل الكتاب " من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها والتقدير هذا كتاب منزل من الله.

وتخصيص الوصفين: " العزيز العليم " بالذكر قيل: للاشارة إلى ما في القرآن من الاعجاز وأنواع العلوم التي يضيق عنها نطاق الافهام، وقيل: هو من باب التفنن.

والوجه أن يقال: إن السورة لما كانت تتكلم حول جحد الجاحدين ومجادلتهم في

 

/ صفحة 303 /

آيات الله بالباطل جهلا وهم يحسبونه علما ويعتزون به كما حكى ذلك عنهم في خاتمة السورة بقوله: " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم " وكما حكى عن فرعون قوله لقومه في موسى: " إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد " وقوله لهم: " ما اريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ".

افتتح الكلام في السورة بما فيه إشارة إلى أن هذا الكتاب النازل عليهم تنزيل ممن هو عزيز على الاطلاق لا يغلبه غالب حتى يخاف على ما نزله من استعلائهم و استكبارهم بحسب أوهامهم، عليم على الاطلاق لا يداخل علمه جهل وضلال فلا يقاوم جدالهم بالباطل ما نزله من الحق وبينه بحججه الباهرة.

ويؤيد هذا الوجه ما في الاية التالية من قوله: " غافر الذنب وقابل التوب " الخ على ما سنبين.

قوله تعالى: " غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير " الاتيان بصيغة اسم الفاعل في " غافر الذنب وقابل التوب " - لعله - للدلالة على الاستمرار التجددي فإن المغفرة وقبول التوب من صفاته الفعلية ولا يزال تعالى يغفر الذنب ثم يغفر ويقبل التوب ثم يقبل.

وإنما عطف قابل التوب على ما قبله دون " شديد العقاب ذي الطول " لان غافر الذنب وقابل التوب مجموعهما كصفة واحدة متعلقة بالعباد المذنبين يغفر لهم تارة بتوبة و تارة بغيرها كالشفاعة.

والعقاب والمعاقبة المؤاخذة التي تكون في عاقبة الذنب قال الراغب: والعقب والعقبى يختصان بالثواب نحو خير ثوابا وخير عقبا، وقال تعالى: وألئك لهم عقبى الدار، والعاقبة إطلاقها يختص بالثواب نحو والعاقبة للمتقين، وبالاضافة قد تستعمل في العقوبة نحو ثم كان عاقبة الذين أساؤا، وقوله: فكان عاقبتهما أنهما في النار يصح أن يكون ذلك استعارة من ضده، والعقوبة والمعاقبة والعقاب تختص بالعذاب.

انتهى.

فشديد العقاب كذي انتقام من أسماء الله الحسنى تحكي صفته تعالى في جانب العذاب كما يحكي الغفور والرحيم صفته تعالى في جانب الرحمة.

 

/ صفحة 304 /

والطول - على ما في المجمع - الانعام الذي تطول مدته على صاحبه فذو الطول من أسمائه الحسنى في معنى المنعم لكنه أخص من المنعم لعدم شموله النعم القصار.

وذكر هذه الاسماء الاربعة: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول بعد اسم العليم للاشارة إلى أن تنزيل هذا الكتاب المشتمل على دعوته الحقة المبني على العلم مبني على أساس ما تقتضيه مضامين هذه الاسماء الاربعة.

وذلك أن العالم الانساني كما يتحد قبيلا واحدا في نيل الطول الالهي والتنعم بنعمه المستمرة المتوالية مدى الحياة الدنيا ينقسم من حيث حياته الاخرة قسمين وينشعب إلى شعبتين: سعيد وشقي والله سبحانه عالم بتفاصيل خلقه وكيف لا يعلم وهو خالقها وفاعلها، ومقتضى كونه غافرا للذنب قابلا للتوب أن يغفر لمن استعد للمغفرة وأن يقبل توبة التائب إليه، ومقتضى كونه شديد العقاب أن يعاقب من استحق ذلك.

ومقتضى ذلك أن يهدي الناس إلى صراط السعادة كما قال: " إن علينا للهدى وإن لنا للاخرة والاولى " الليل: 13، وقال: " وعلى الله قصد السبيل " النحل: 9.

لينقسم الناس بذلك قسمين ويتميز عنده السعيد من الشقي والمهتدي من الضال فيرحم هذا ويعذب ذلك.

فتنزيل الكتاب من الله العزيز العليم مبني على علمه المحيط بخلقه أنهم في حاجة إلى دعوة يهتدي بها قوم ويضل بردها آخرون ليغفر لقوم ويعذب آخرين، وفي حاجة إليها لينتظم بها نظام معاشهم في الدنيا فينعموا بطوله ونعمته في الدنيا ثم في دار القرار.

فهذا شأن كتابه المنزل بعلمه الذي لا يشوبه جهل والمبني على الحق الذي لا يداخله باطل، وأين هو من تكذيب الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة وجدالهم بالباطل ليدحضوا به الحق.

وعلى هذا الذي ذكرنا من العناية بالعلم يشهد ما سيذكره تعالى من دعاء الملائكة للمؤمنين بالمغفرة: " ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك " فتدبر فيه.

وقوله: " لا إله إلا هو إليه المصير " ذكر كلمة التوحيد للاشارة إلى وجوب

 

/ صفحة 305 /

عبادته وحده فلا تلغو الدعوة الدينية بتنزيل الكتاب، وذكر كون مصير الكل ورجوعهم إليه وهو البعث للاشارة إلى أنه هو السبب العمدة الداعي إلى الايمان بالكتاب واتباعه فيما يدعو إليه لان الاعتقاد بيوم الحساب هو الذي يستتبع الخوف والرجاء خوف العقاب ورجاء الثواب الداعيين إلى عبادة الله سبحانه.

قوله تعالى: " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد " لما ذكر تنزيل الكتاب وأشار إلى الحجة الباهرة على حقيته، المستفادة من صفاته الكريمة المعدودة في الايتين، الدالة على أنه منزل بعلمه الذي لا يشوبه جهل وبالحق الذي لا يدحضه باطل تعرض لحال الذين قابلوا حججه الحقة بباطل جدالهم فلوح إلى إن هؤلاء أهل العقاب وليسوا بفائتين ولا مغفولا عنهم فإنهم كما نزل الكتاب ليغفر الذنب ويقبل التوب كذلك نزله ليعاقب أهل العقاب فلا يسوءن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جدالهم ولا يغرنه ما يشاهده من حالهم.

فقوله: " ما يجادل في آيات الله " لم يقل: ما يجادل فيه أي في القرآن ليدل على أن الجدال في الحق الذي تدل عليه الايات بما هي آيات.

على أن طرف جدالهم هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو داع إلى الحق الذي تدل عليه الايات فجدالهم لدفع الحق لا للدفاع عن الحق.

على أن الجدال في الاية التالية مقيدة بالباطل لادحاض الحق.

فالمراد بالمجادلة في آيات الله هي المجادلة لادحاضها ودفعها وهي المذمومة ولا تشمل الجدال لاثبات الحق والدفاع عنه كيف؟ وهو سبحانه يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك إذا كان جدالا بالتي هي أحسن قال تعالى: " وجادلهم بالتي هي أحسن " النحل: 125.

وقوله: " إلا الذين كفروا " ظاهر السياق أنهم الذين رسخ الكفر في قلوبهم فلا يرجى زواله، وقد قيل: " ما يجادل " ولم يقل: لا يجادل، وكذا ظاهر قوله:

" فلا يغررك تقلبهم في البلاد " أن المراد بهم الكفار المعاصرون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن لم يكونوا من أهل مكة.

وتقلبهم في البلاد انتقالهم من طور من أطوار الحياة إلى طور آخر ومن نعمة إلى

 

/ صفحة 306 /

نعمة في سلامة وصحة وعافية، وتوجيه النهي عن الغرور إلى تقلبهم في البلاد كناية عن نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الاغترار بما يشاهده منهم أن يحسب أنهم أعجزوه سبحانه.

قوله تعالى: " كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم " الخ في مقام الجواب عما يسبق إلى الوهم أنهم استكبروا وجادلوا في آيات الله فلم يكن بهم بأس وسبقوا في ذلك.

ومحصل الجواب: أن الامم الماضين كقوم نوح والاحزاب من بعدهم كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم سبقوا هؤلاء إلى مثل صنيعهم من التكذيب والجدال بالباطل وهموا برسولهم ليأخذوه فحل بهم العقاب وكذلك قضى في حق الكفار العذاب فتوهم أن هؤلاء سبقوا الله إلى ما يريد توهم باطل.

فقوله: " كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم " دفع للدخل السابق ولذا جيئ بالفصل، وقوله: " وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه " يقال: هم به أي قصده ويغلب فيه القصد بالسوء أي قصدوا رسولهم ليأخذوه بالقتل أو الاخراج أو غيرهما كما قصه الله تعالى في قصصهم.

وقوله: " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " الادحاض الازالة والابطال وقوله: " فأخذتهم " أي عذبتهم، وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم وحده والنكتة فيه الاشارة إلى أن أمرهم في هذا الطغيان والاستكبار إلى الله وحده لا يدخل بينه وبينهم أحد بنصرة أو شفاعة كما قال: " فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد " الفجر: 14.

وقوله: " فكيف كان عقاب " توجيه لذهن المخاطب إلى ما يعلمه من كيفية إهلاكهم وقطع دابرهم ليحضر شدة ما نزل بهم وقد قصه الله فيما قص من قصصهم.

قوله تعالى: " وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار " ظاهر السياق أن المشبه به هو ما في الاية السابقة من أخذهم وعقابهم، والمراد بالذين كفروا مطلق الكفار من الماضين، والمعنى كما أخذ الله المكذبين من الماضين بعذاب الدنيا كذلك حقت كلمته على مطلق الكافرين بعذاب الاخرة، والذين كفروا من قومك منهم.

 

/ صفحة 307 /

وقيل: المراد بالذين كفروا كفار مكة، ولا يساعد عليه السياق والتشبيه لا يخلو عليه من اختلال.

وفي قوله: " كلمة ربك " ولم يقل: كلمتي تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأييد له بالاشارة إلى أن الركن الذي يركن إليه هو الشديد القوي.

* * *

الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم - 7.

ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم - 8.

وقهم السيآت ومن تق السيآت يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم - 9.

إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الايمان فتكفرون - 10.

قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل - 11.

ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير - 12.

 

/ صفحة 308 /

(بيان) لما ذكر سبحانه تكذيب الذين كفروا وجدالهم في آيات الله بالباطل ولوح إلى انهم غير معجزين ولا مغفول عنهم بل معنيون في هذه الدعوة والعناية فيهم أن يتميزوا فيحق عليهم كلمة العذاب فيعاقبوا عاد إلى بدء الكلام الذي أشار فيه إلى أن تنزيل الكتاب وإقامة الدعوة لمغفرة جمع وقبول توبتهم وعقاب آخرين فذكر أن الناس قبال هذه الدعوة قبيلان: قبيل تستغفر لهم حملة العرش والحافون به من الملائكة وهم التائبون إلى الله المتبعون سبيله ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وقبيل ممقوتون معذبون وهم الكافرون بالتوحيد.

قوله تعالى: " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به " إلى آخر الاية.

لم يعرف سبحانه هؤلاء الحاملين للعرش من هم؟ ولا في كلامه تصريح بأنهم من الملائكة لكن يشعر عطف قوله: " ومن حوله " عليهم وقد قال فيهم: " وترى الملائكة حافين من حول العرش " الزمر: 75 أن حملة العرش أيضا من الملائكة.

وقد تقدم تفصيل الكلام في معنى العرش في الجزء الثامن من الكتاب.

فقوله: " الذين يحملون العرش ومن حوله " أي الملائكة الذين يحملون العرش الذي منه تظهر الاوامر وتصدر الاحكام الالهية التي بها يدبر العالم، والذين حول العرش من الملائكة وهم المقربون منهم.

وقوله: " يسبحون بحمد ربهم " أي ينزهون الله سبحانه والحال أن تنزيههم له يصاحب ثناءهم لربهم فهم ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه ومن ذلك وجود الشريك في ملكه ويثنون عليه على فعله وتدبيره.

وقوله: " ويؤمنون به " إيمانهم به - والحال هذه الحال عرش الملك والتدبير لله وهم حاملوه أو مطيفون حوله لتلقي الاوامر وينزهونه عن كل نقص ويحمدونه على أفعاله - معناه الايمان بوحدانيته في ربوبيته وألوهيته ففي ذكر العرش ونسبة التنزيه والتحميد والايمان إلى الملائكة رد للمشركين حيث يعدون الملائكة المقربين شركاء لله في ربوبيته وألوهيته ويتخذونهم أربابا الهة يعبدونهم.

 

/ صفحة 309 /

وقوله: " ويستغفرون للذين آمنوا " أي يسألون الله سبحانه أن يغفر للذين آمنوا.

وقوله: " ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما " الخ حكاية متن استغفارهم وقد بدؤا فيه بالثناء عليه تعالى بسعة الرحمة والعلم، وإنما ذكروا الرحمة وشفعوها بالعلم لانه برحمته ينعم على كل محتاج فالرحمة مبدء إفاضة كل نعمة، وبعلمه يعلم حاجة كل محتاج مستعد للرحمة.

وقوله: " فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم " تفريع على ما أثنوا به من سعة الرحمة والعلم، والمراد بالسبيل التي اتبعوها هو ما شرع لهم من الدين وهو الاسلام واتباعهم له هو تطبيق عملهم عليه فالمراد بتوبتهم رجوعهم إليه تعالى بالايمان والمعنى فاغفر للذين رجعوا إليك بالايمان بوحدانيتك وسلوك سبيلك الذي هو الاسلام وقهم عذاب الجحيم وهو غاية المغفرة وغرضها.

قوله تعالى: " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " إلى آخر الاية تكرار النداء بلفظة ربنا لمزيد الاستعطاف والمراد بالوعد وعده تعالى لهم بلسان رسله وفي كتبه.

وقوله: " ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " عطف على موضع الضمير في قوله: " وأدخلهم " والمراد بالصلوح صلاحية دخول الجنة، والمعنى وأدخل من صلح لدخول الجنة من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم جنات عدن.

ثم من المعلوم من سياق الايات أن استغفارهم لعامة المؤمنين، ومن المعلوم أيضا أنهم قسموهم قسمين اثنين قسموهم إلى الذين تابوا واتبعوا سبيل الله وقد وعدهم الله جنات عدن، وإلى من صلح وقد جعلوا الطائفة الاولى متبوعين والثانية تابعين.

ويظهر منه أن الطائفة الاولى هم الكاملون في الايمان والعمل على ما هو مقتضى حقيقة معنى قولهم: " الذين تابوا واتبعوا سبيلك " فذكروهم وسألوه أن يغفر لهم وينجز لهم ما وعدهم من جنات عدن، والطائفة الثانية دون هؤلاء في المنزلة ممن لم يستكمل الايمان والعمل من ناقص الايمان ومستضعف وسيئ العمل من منسوبي الطائفة الاولى فذكروهم وسألوه تعالى أن يلحقهم بالطائفة الاولى الكاملين في جناتهم ويقيهم السيئات.

فالاية في معنى قوله تعالى: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ " الطور: 21 غير أن الاية التي نحن فيها أوسع

 

/ صفحة 310 /

وأشمل لشمولها الاباء والازواج بخلاف آية سورة الطور، والمأخوذ فيها الصلوح وهو أعم من الايمان المأخوذ في آية الطور.

وقوله: " إنك أنت العزيز الحكيم " تعليل لقولهم: " فاغفر للذين تابوا " إلى آخر مسألتهم، وكان الذي يقتضيه الظاهر أن يقال: إنك أنت الغفور الرحيم لكنه عدل إلى ذكر الوصفين: العزيز الحكيم لانه وقع في مفتتح مسألتهم الثناء عليه تعالى بقولهم: " ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما ".

ولازم سعة الرحمة وهي عموم الاعطاء أن له أن يعطي ما يشاء لمن يشاء ويمنع ما يشاء ممن يشاء وهذا معنى العزة التي هي القدرة على الاعطاء والمنع، ولازم سعة العلم لكل شئ أن ينفذ العلم في جميع أقطار الفعل فلا يداخل الجهل شيئا منها ولازمه إتقان الفعل وهو الحكمة.

فقوله: " إنك أنت العزيز الحكيم " في معنى الاستشفاع بسعة رحمته وسعة علمه تعالى المذكورتين في مفتتح المسألة تمهيدا وتوطئة لذكر الحاجة وهي المغفرة والجنة.

قوله تعالى: " وقهم السيآت ومن تق السيآت يومئذ فقد رحمته " الخ ظاهر السياق أن الضمير في " قهم " للذين تابوا ومن صلح جميعا.

والمراد بالسيآت - على ما قيل - تبعات المعاصي وهي جزاؤها وسميت التبعات سيأت لان جزاء السيئ سيئ قال تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " الشورى: 40.

وقيل: المراد بالسيآت المعاصي والذنوب نفسها والكلام على تقدير مضاف والتقدير وقهم جزاء السيآت أو عذاب السيآت.

والظاهر أن الاية من الايات الدالة على أن الجزاء بنفس الاعمال خيرها وشرها، وقد تكرر في كلامه تعالى أمثال قوله: " إنما تجزون ما كنتم تعملون " التحريم: 7.

وكيف كان فالمراد بالسيآت التي سألوا وقايتهم عنها هي الاهوال والشدائد التي تواجههم يوم القيامة غير عذاب الجحيم فلا تكرار في قوليهم: " وقهم عذاب الجحيم " " وقهم السيآت ".

وقيل: المراد بالسيآت نفس المعاصي التي في الدنيا، وقولهم: " يومئذ " إشارة إلى الدنيا، والمعنى واحفظهم من اقتراف المعاصي وارتكابها في الدنيا بتوفيقك.

 

/ صفحة 311 /

وفيه أن السياق يؤيد كون المراد بيومئذ يوم القيامة كما يشهد به قولهم: " وقهم عذاب الجحيم " وقولهم: " وأدخلهم جنات عدن " الخ فالحق أن المراد بالسيآت ما يظهر للناس يوم القيامة من الاهوال والشدائد.

ويظهر من هذه الايات المشتملة على دعاء الملائكة ومسألتهم: أولا: أن من الادب في الدعاء أن يبدء بحمده والثناء عليه تعالى ثم يذكر الحاجة ثم يستشفع بأسمائه الحسنى المناسبة له.

وثانيا: أن سؤال المغفرة قبل سؤال الجنة وقد كثر ذكر المغفرة قبل الجنة في كلامه تعالى إذا ذكرا معا، وهو الموافق للاعتبار فإن حصول استعداد أي نعمة كانت بزوال المانع قبل حصول نفس النعمة.

وذكر بعضهم أن في قوله: " فاغفر للذين تابوا " الاية دلالة على أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل من الله تعالى إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج فيه إلى مسألتهم بل كان يفعله الله سبحانه لا محالة.

وفيه أن وجوب صدور الفعل عنه تعالى لا ينافي صحة مسألته وطلبه منه تعالى كما يشهد به قولهم بعد الاستغفار: " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " فقد سألوا لهم الجنة مع اعترافهم بأن الله وعدهم إياها ووعده تعالى واجب الانجاز فإنه لا يخلف الميعاد، وأصرح من هذه الاية قوله يحكي عن المؤمنين: " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد " آل عمران: 194.

وقبول التوبة مما أوجبه الله تعالى على نفسه وجعله حقا للتائبين عليه قال تعالى: " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم " النساء: 17 فطلب كل حق أوجبه الله تعالى على نفسه منه كسؤال المغفرة للتائب هو في الحقيقة رجوع إليه لاستنجاز ما وعده وإظهار اشتياق للفوز بكرامته.

وكذا لا يستلزم التفضل منه تعالى كون الفعل جائز الصدور غير واجبه فكل عطية من عطاياه تفضل سواء كانت واجبة الصدور أم لم تكن إذ لو كان فعل من أفعاله واجب الصدور عنه لم يكن إيجابه عليه بتأثير من غيره فيه وقهره عليه إذ هو المؤثر في كل شئ لا يؤثر فيه غيره بل كان ذلك بإيجاب منه تعالى على نفسه ويؤل معناه إلى

 

/ صفحة 312 /

قضائه تعالى فعل شئ من الافعال وإفاضة عطية من العطايا قضاء حتم فيكون سبحانه إنما يفعله بمشية من نفسه منزها عن إلزام الغير إياه عليه متفضلا به فالفعل تفضل منه وإن كان واجب الصدور، وأما لو لم يكن الفعل واجب الصدور فكونه تفضلا أوضح.

قوله تعالى: " إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الايمان فتكفرون " المقت أشد البغض.

لما ذكر المؤمنين ببعض ما لهم من جهة إيمانهم رجع إلى ذكر الكافرين ببعض ما عليهم من جهة كفرهم.

وظاهر الاية والاية التالية أن هذا النداء المذكور فيها إنما ينادون به في الاخرة بعد دخول النار حين يذوقون العذاب لكفرهم فيظهر لهم أن كفرهم في الدنيا إذ كانوا يدعون من قبل الانبياء إلى الايمان كان مقتا وشدة بغض منهم لانفسهم حيث أوردوها بذلك مورد الهلاك الدائم.

وينادون من جانب الله سبحانه فيقال لهم: أقسم لمقت الله وشدة بغضه لكم أكبر من مقتكم أنفسكم وشدة بغضكم لها إذ تدعون - حكاية حال ماضية - إلى الايمان من قبل الانبياء فتكفرون.

قوله تعالى: " قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل " سياق الاية وما قبلها يشعر بأنهم يقولون هذا القول بعد استماع النداء السابق، وإنما يقولونه وهم في النار بدليل قولهم: " فهل إلى خروج من سبيل ".

وتقديم هذا الاعتراف منهم نوع تسبيب وتوسل إلى التخلص من العذاب ولات حين مناص، وذلك أنهم كانوا - وهم في الدنيا - في ريب من البعث والرجوع إلى الله فأنكروه ونسوا يوم الحساب وكان نسيان ذلك سبب استرسالهم في الذنوب وذهابهم لوجوههم في المعاصي ونسيان يوم الحساب مفتاح كل معصية وضلال قال تعالى: " إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص: 26.

ثم لما أماتهم الله إماتة بعد إماتة وأحياهم إحياءة بعد إحياءة زال ارتيابهم في أمر البعث والرجوع إلى الله بما عاينوا من البقاء بعد الموت والحياة بعد الحياة وقد كانوا يرون أن الموت فناء، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.

وبالجملة زال عنهم الارتياب بحصول اليقين وبقيت الذنوب والمعاصي ولذلك

 

/ صفحة 313 /

توسلوا إلى التخلص من العذاب بالاعتراف فتارة اعترفوا بحصول اليقين كما حكاه الله عنهم في قوله: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " الم السجدة: 12، وتارة اعترفوا بذنوبهم كما في الاية المبحوث عنها وقد كانوا يرون أنهم أحرار مستقلون في إرادتهم وأفعالهم لهم أن يشاؤا ما شاؤا وأن يفعلوا ما فعلوا ولا حساب ولا ذنب.

ومن ذلك يظهر وجه ترتب قولهم: " فاعترفنا بذنوبنا " على قولهم: " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " فالاعتراف في الحقيقة مترتب على حصول اليقين بالمعاد الموجب لحصول العلم بكون انحرافاتهم عن سبيل الله ضلالات وذنوبا.

والمراد بقولهم: " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " - كما قيل - الاماتة عن الحياة الدنيا والاحياء للبرزخ ثم الاماتة عن البرزخ والاحياء للحساب يوم القيامة فالاية تشير إلى الاماتة بعد الحياة الدنيا والاماتة بعد الحياة البرزخية وإلى الاحياء في البرزخ والاحياء ليوم القيامة ولو لا الحياة البرزخية لم تتحقق الاماتة الثانية لان كلا من الاماتة والاحياء يتوقف تحققه على سبق خلافه.

ولم يتعرضوا للحياة الدنيا ولم يقولوا: " وأحييتنا ثلاثا وإن كانت إحياء لكونها واقعة بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح لان مرادهم ذكر الاحياء الذي هو سبب الايقان بالمعاد وهو الاحياء في البرزخ ثم في القيامة وأما الحياة الدنيوية فإنها وإن كانت إحياء لكنها لا توجب بنفسها يقينا بالمعاد فقد كانوا مرتابين في المعاد وهم أحياء في الدنيا.

وبما تقدم من البيان يظهر فساد ما اعترض عليه بأنه لو كان المراد بالاحياءتين ما كان في البرزخ وفي الاخرة لكان من الواجب أن يقال: " أمتنا اثنتين وأحييتنا ثلاثا " إذ ليس المراد إلا ذكر ما مر عليهم من الاماتة والاحياءة وذلك إماتتان اثنتان وإحياءآت ثلاث.

والجواب أنه ليس المراد هو مجرد ذكر الاماتة والاحياء اللتين مرتا عليهم كيفما كانتا بل ذكر ما كان منهما مورثا لليقين بالمعاد، وليس الاحياء الدنيوي على هذه الصفة.

وقيل: المراد بالاماتة الاولى حال النطفة قبل ولوج الروح، وبالاحياءة الاولى ما هو حال الانسان بعد ولوجها، وبالاماتة الثانية إماتته في الدنيا، وبالاحياءة الثانية

 

/ صفحة 314 /

إحياءته بالبعث للحساب يوم القيامة، والاية منطبقة على ما في قوله تعالى: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " البقرة: 28.

ولما أحسوا بعدم صدق الاماتة على حال الانسان قبل ولوج الروح في جسده لتوقفها على سبق الحياة تمحلوا في تصحيحه تمحلات عجيبة من أراد الوقوف عليها فليراجع الكشاف وشروحه.

على أنك قد عرفت أن ذكرهم ما مر عليهم من الاماتة والاحياءة إشارة إلى أسباب حصول يقينهم بالمعاد والحياة الدنيا والموت الذي قبلها لا أثر لهما في ذلك.

وقيل: إن الحياة الاولى في الدنيا والثانية في القبر، والموتة الاولى في الدنيا والثانية في القبر ولا تعرض في الاية لحياة يوم البعث، ويرد عليه ما تقدم أن الحياة الدنيا لا تعلق لها بالغرض فلا موجب للتعرض لها، والحياة يوم القيامة بالخلاف من ذلك.

وقيل: المراد بالاحياءتين إحياء البعث والاحياء الذي قبله وإحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند البعث ولم يتعرض لهذا التقسيم في الاية فتشمل الاية الاحياءات الثلاث والاماتتين جميعا.

ويرد عليه ما يرد على الوجهين السابقين عليه مضافا إلى ما أورد عليه أن ذكر الاماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ والمراد التعدد الشخصي لا النوعي.

وقيل: المراد إحياء النفوس في عالم الذر ثم الاماتة ثم الاحياء في الدنيا ثم الاماتة ثم الاحياء للبعث، ويرد عليه ما يرد على سوابقه.

وقيل: المراد بالتثنية التكرار كما في قوله تعالى: " ثم ارجع البصر كرتين " الملك: 4، والمعنى أمتنا إماتة وأحييتنا إحياءة بعد إحياءة.

وأورد عليه أنه إنما يتم لو كان القول: " أمتنا إماتتين وأحييتنا إحياءتين أو كرتين مثلا لكن المقول نفس العدد وهو لا يحتمل ذلك كما قيل في قوله: " إلهين اثنين " النحل: 51.

وقولهم: " فهل إلى خروج من سبيل " دعاء ومسألة في صورة الاستفهام، وفي تنكير الخروج والسبيل إشارة إلى رضاهم بأي نوع من الخروج كان من أي سبيل كانت

 

/ صفحة 315 /

فقد بلغ بهم الجهد واليوم يوم تقطعت بهم الاسباب فلا سبب يرجى أثره في تخلصهم من العذاب.

قوله تعالى: " ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا " الخ خطاب تشديد للكفار موطنه يوم القيامة، ويحتمل أن يكون موطنه الدنيا خوطبوا بداعي زجرهم عن الشرك.

والاشارة بقوله: " ذلكم " إلى ما هم فيه من الشدة، وفي قوله: " وإن يشرك به " دلالة على الاستمرار، والكلام مسوق لبيان معاندتهم للحق ومعاداتهم لتوحيده تعالى فهم يكفرون بكل ما يلوح فيه أثر التوحيد ويؤمنون بكل ما فيه سمة الشرك فهم لا يراعون لله حقا ولا يحترمون له جانبا فالله سبحانه يحرم عليهم رحمته ولا يراعي في حكمه لهم جانبا.

وبهذا المعنى يتصل قوله: " فالحكم لله العلي الكبير " بأول الاية ويتفرع عليه كأنه قيل: فإذا قطعتم عن الله بالمرة وكفرتم بكل ما يريده وآمنتم بكل ما يكرهه فهو يقطع عنكم ويحكم فيكم بما يحكم من غير أي رعاية لحالكم.

فالاية في معنى قوله: " نسوا الله فنسيهم " التوبة: 67، والجملة أعني قوله:

" فالحكم لله العلي الكبير " خاصة بحسب السياق وإن كانت عامة في نفسها، وفيها تهديد ويتأكد التهديد باختتامها بالاسمين العلي الكبير.

* * *

هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب - 13.

فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون - 14.

رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق - 15.

يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد

 

/ صفحة 316 /

القهار - 16.

اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب - 17.

وأنذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع - 18.

يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور - 19.

والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ إن الله هو السميع البصير - 20.

(بيان) احتجاج على التوحيد وإنذار بعد تقسيم الناس إلى راجع إلى الله متبع سبيله ومكذب بالايات مجادل بالباطل.

قوله تعالى: " هو الذي يريكم آياته " إلى آخر الاية المراد بالايات هي العلائم والحجج الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية والالوهية بدليل ما سيجيئ من تفريع قوله: " فادعوا الله مخلصين له الدين " عليه، والايات مطلقة شاملة للايات الكونية المشهودة في العالم لكل إنسان صحيح الادراك والايات التي تجري على أيدي الرسل والحجج القائمة من طريق الوحي.

والجملة مشتملة على حجة فإنه لو كان هناك إله تجب عبادته على الانسان وكانت عبادته كمالا للانسان وسعادة له كان من الواجب في تمام التدبير وكامل العناية أن يهدي الانسان إليه، والذي تدل الايات الكونية على ربوبيته وألوهيته ويؤيد دلالتها الرسل والانبياء بالدعوة والاتيان بالايات هو الله سبحانه، وأما آلهتهم الذين يدعونهم من دون الله فلا آية من قبلهم تدل على شئ فالله سبحانه هو الاله وحده لا شريك له، وإلى هذه الحجة يشير علي (عليه السلام) بقوله فيما روي عنه: " لو كان لربك شريك لاتتك رسله ".

 

/ صفحة 317 /

وقوله: " وينزل لكم من السماء رزقا " حجة أخرى على وحدانيته تعالى من جهة الرزق فإن رزق العباد من شؤن الربوبية والالوهية والرزق من الله دون شركائهم فهو الرب الاله دونهم.

وقد فسروا الرزق بالمطر، والسماء بجهة العلو، ولا يبعد أن يراد بالرزق نفس الاشياء التي يرتزق بها وبنزولها من السماء بروزها من الغيب إلى الشهادة على ما يفيده قوله: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21.

وقوله: " وما يتذكر إلا من ينيب " معترضة تبين أن حصول التذكر بهذه الحجج إنما هو شأن إحدى الطائفتين المذكورتين من قبل وهم المنيبون الراجعون إلى ربهم دون المجادلين الكافرين فإن الكفر والجحود يبطل استعداد التذكر بالحجة والاتباع للحق.

قوله تعالى: " فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " الانسب للسياق أن يكون الخطاب عاما للمؤمنين وغيرهم متفرعا على الحجة السابقة غير أنه لا يشمل الكافرين المذكورين في آخر الاية وهم المكذبون المجادلون بالباطل.

كأنه قيل: إذا كانت الايات تدل على وحدانيته تعالى وهو الرازق فعلى غير الكافرين الذين كذبوا وجادلوا أن يدعوا الله مخلصين له الدين، وأما الكافرون الكارهون للتوحيد فلا مطمع فيهم ولا آية تفيدهم ولا حجة تقنعهم فاعبدوه بالاخلاص ودعوا الكافرين يكرهون ذلك.

قوله تعالى: " رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده " الخ صفات ثلاث له تعالى وكل منها خبر بعد خبر للضمير في قوله: " هو الذي يريكم آياته " والاية وما بعدها مسوقة للانذار.

وقد أورد لقوله: " رفيع الدرجات " تفاسير شتى فقيل: معناه رافع درجات الانبياء والاولياء في الجنة، وقيل: رافع السماوات السبع التي منها تصعد الملائكة إلى عرشه، وقيل: رفيع مصاعد عرشه، وقيل: كناية عن رفعة شأنه وسلطانه.

والذي يعطيه التدبر أن الاية وما بعدها يصفان ملكه تعالى على خلقه أن له عرشا تجتمع فيه أزمة أمور الخلق ويتنزل منه الامر متعاليا بدرجات رفيعة هي

 

/ صفحة 318 /

مراتب خلقه ولعلها السماوات التي وصفها في كلامه بأنها مساكن ملائكته وأن أمره يتنزل بينهن وهي التي تحجب عرشه عن الناس.

ثم إن له يوما هو يوم التلاقي يرفع فيه الحجاب ما بينه وبين الناس بكشف الغطاء عن بصائرهم وطي السماوات بيمينه وإظهار عرشه لهم فينكشف لهم أنه هو المليك على كل شئ لا ملك إلا ملكه فيحكم بينهم.

فالمراد بالدرجات الدرجات التي يرتقى منها إلى عرشه ويعود قوله: " رفيع الدرجات ذو العرش كناية استعارية عن تعالي عرش ملكه عن مستوى الخلق وغيبته واحتجابه عنهم قبل يوم القيامة بدرجات رفيعة ومراحل بعيدة.

وقوله: " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده " إشارة إلى أمر الرسالة التي من شأنها الانذار، وتقييد الروح بقوله: " من أمره " دليل على أن المراد بها الروح التي ذكرها في قوله: " قل الروح من أمر ربي " أسرى: 85، وهي التي تصاحب ملائكة الوحي كما يشير إليه قوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا " النحل: 2.

فالمراد بالقاء الروح على من يشاء تنزيلها مع ملائكة الوحي عليه، والمراد بقوله: " من يشاء من عباده " الرسل الذين اصطفاهم الله لرسالته، وفي معنى الروح الملقاة على النبي أقوال أخر لا يعبؤ بها.

وقوله: " لينذر يوم التلاق " وهو يوم القيامة سمي به لالتقاء الخلائق فيه أو لالتقاء الخالق والمخلوق أو لالتقاء أهل السماء والارض أو لالتقاء الظالم والمظلوم أو لالتقاء المرء وعمله ولكل من هذه الوجوه قائل.

ويمكن أن يتأيد القول الثاني بما تكرر في كلامه تعالى من حديث اللقاء كقوله: " بلقاء ربهم لكافرون " الروم: 8، وقوله: " إنهم ملاقوا ربهم " هود: 29، وقوله: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الانشقاق: 6 ومعنى اللقاء تقطع الاسباب الشاغلة وظهور أن الله هو الحق المبين وبروزهم لله.

قوله تعالى: " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ " الخ تفسير ليوم التلاق، ومعنى بروزهم لله ظهور ذلك لهم وارتفاع الاسباب الوهمية التي كانت تجذبهم

 

/ صفحة 319 /

إلى نفسها وتحجبهم عن ربهم وتغفلهم عن إحاطة ملكه وتفرده في الحكم وتوحده في الربوبية والالوهية.

فقوله: " يوم هم بارزون " إشارة إلى ارتفاع كل سبب حاجب، وقوله: " لا يخفى على الله منهم شئ " تفسير لمعنى بروزهم لله وتوضيح فقلوبهم وأعمالهم بعين الله وظاهرهم وباطنهم وما ذكروه وما نسوه مكشوفة غير مستورة.

وقوله: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " سؤال وجواب من ناحيته سبحانه تبين بهما حقيقة اليوم وهي ظهور ملكه وسلطانه تعالى على الخلق على الاطلاق.

وفي توصيفه تعالى بالواحد القهار تعليل لانحصار الملك فيه لانه إذ قهر كل شئ ملكه وتسلط عليه بسلب الاستقلال عنه وهو واحد فله الملك وحده.

قوله تعالى: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب " الباء في " بما كسبت " للصلة والمراد بيان خصيصة اليوم وهي أن كل نفس تجزى عين ما كسبت فجزاؤها عملها، قال تعالى: " يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون " التحريم: 7.

وقوله: " إن الله سريع الحساب " تعليل لنفي الظلم في قوله: " لا ظلم اليوم " أي إنه تعالى سريع في المحاسبة لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى حتى يخطئ فيجزي نفسا غير جزائها فيظلمها.

وهذا التعليل ناظر إلى نفي الظلم الناشئ عن الخطاء وأما الظلم عن عمد وعلم فانتفاؤه مفروغ عنه لان الجزاء لما كان بنفس العمل لم يتصور معه ظلم.

قوله تعالى: " وأنذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين " إلى آخر الاية.

الازفة من أوصاف القيامة ومعناها القريبة الدانية قال تعالى: " إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا " المعارج: 7.

وقوله: " إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين " الحناجر جمع حنجرة وهي رأس الغلصمة من خارج وكون القلوب لدى الحناجر كناية عن غاية الخوف كأنها تزول عن مقرها وتبلغ الحناجر من شدة الخوف، وكاظمين من الكظم وهو شدة الاغتمام.

 

/ صفحة 320 /

وقوله: " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " الحميم القريب أي ليس لهم قريب يقوم بنصرهم بحمية القرابة قال تعالى: " فلا أنساب بينهم يومئذ " المؤمنون: 101، ولا شفيع يطاع في شفاعته.

قوله تعالى: " يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور " قيل: الخائنة مصدر كالخيانة نظيرة الكاذبة واللاغية بمعنى الكذب واللغو، وليس المراد بخائنة الاعين كل معصية من معاصيها بل المعاصي التي لا تظهر للغير كسارقة النظر بدليل ذكرها مع ما تخفي الصدور.

وقيل: " خائنة الاعين " من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، ولازمه كون العلم بمعنى المعرفة والمعنى يعرف الاعين الخائنة، والوجه هو الاول.

وقوله: " وما تخفي الصدور " وهو ما تسره النفس وتستره من وجوه الكفر والنفاق وهيئات المعاصي.

قوله تعالى: " والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ " الخ هذه حجة أخرى على توحده تعالى بالالوهية أقامها بعد ما ذكر حديث انحصار الملك فيه يوم القيامة وعلمه بخائنة الاعين وما تخفي الصدور تمهيدا وتوطئة.

ومحصلها أن من اللازم الضروري في الالوهية أن يقضي الاله في عباده وبينهم والله سبحانه هو يقضي بين الخلق وفيهم يوم القيامة والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ لانهم عباد مملوكون لا يملكون شيئا.

ومن قضائه تعالى تدبيره جزئيات أمور عباده بالخلق بعد الخلق فإنه مصداق القضاء والحكم قال تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " يس (؟):

82، وقال: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " آل عمران: 47، ولا نصيب لغيره تعالى في الخلق فلا نصيب له في القضاء.

ومن قضائه تعالى تشريع الدين وارتضاؤه سبيلا لنفسه قال تعالى: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " الاية أسرى: 23.

وقوله: " إن الله هو السميع البصير " أي له حقيقة العلم بالمسموعات والمبصرات لذاته، وليس لغيره من ذلك إلا ما ملكه الله وأذن فيه لا لذاته.

 

/ صفحة 321 /

(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده " قال: روح القدس وهو خاص برسول الله والائمة صلوات الله وسلامه عليهم.

وفي المعاني بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء وأهل الارض.

أقول: ورواه القمي في تفسيره مضمرا مرسلا.

وفي التوحيد بإسناده عن ابن فضال عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) في حديث قال: ويقول الله عز وجل: " لمن الملك اليوم " ثم ينطق أرواح أنبيائه ورسله وحججه فيقولون " لله الواحد القهار " ثم يقول الله جل جلاله: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت " الاية.

وفي نهج البلاغة: وإنه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شئ معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت ولا زمان ولا حين ولا مكان، عدمت عند ذلك الاجال والاوقات، وزالت السنون والساعات، فلا شئ إلا الله الواحد القهار الذي إليه مصير جميع الامور، بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فناؤها، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها.

وفي تفسير القمي بإسناده عن ثوير بن أبي فاختة عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: سئل عن النفختين كم بينهما؟ قال: ما شاء.

ثم ذكر (عليه السلام) كيفية النفخ وموت أهل الارض والسماء إلى أن قال - فيمكثون في ذلك ما شاء الله ثم يأمر السماء فتمور ويأمر الجبال فتسير وهو قوله: " يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا " يعني يبسط وتبدل الارض غير الارض يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها أول مرة، ويعيد عرشه على الماء كما كان أول مرة مستقلا بعظمته وقدرته.

 

/ صفحة 322 /

قال: فعند ذلك ينادي الجبار جل جلاله بصوت من قبله جهوري يسمع أقطار السماوات والارضين " لمن الملك اليوم " فلم يجبه مجيب فعند ذلك يقول الجبار عز وجل مجيبا لنفسه " لله الواحد القهار " الحديث.

أقول: التدبر في الروايات الثلاث الاخيرة يهدي إلى أن الذي يفنى من الخلق استقلال وجودها والنسب وروابط التأثير التي بينها كما تفيده الايات القرآنية وأن الارواح لا تموت، وأن لا وقت بين النفختين فلا تغفل، وفي الروايات لطائف من الاشارات تظهر للمتدبر، وفيها ما يخالف بظاهره ما تقدم.

وفي روضة الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث قال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا أساءه ذلك وندم عليه وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " كفى بالندم توبة " وقال: " من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن " فإن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له شفاعة وكان ظالما والله تعالى يقول: " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ".

وفي المعاني بإسناده إلى عبد الرحمان بن سلمة الحريري قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: " يعلم خائنة الاعين " فقال: " ألم تر إلى الرجل ينظر إلى الشئ وكأنه لا ينظر فذلك خائنة الاعين.

وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان ابن عفان.

فلما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إلى البيعة جاء به فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى أن يبايعه ثم بايعه ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا إلى حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك.

قال: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الاعين.

 

/ صفحة 323 /

* * *

أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق - 21.

ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب - 22.

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين - 23.

إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب - 24.

فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال - 25.

وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد - 26.

وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب - 27.

وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب - 28.

يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين

 

/ صفحة 324 /

في الارض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد - 29.

وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب - 30.

مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد - 31.

ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد - 32.

يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد - 33.

ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب - 34.

الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار - 35.

وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الاسباب - 36.

أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب - 37.

وقال

 

/ صفحة 325 /

الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد - 38.

يا قوم إنما هذه الحيوة الدنيا متاع وإن الاخرة هي دار القرار - 39.

من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب - 40.

ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار - 41.

تدعونني لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار - 42.

لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الاخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار - 43.

فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد - 44.

فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب - 45.

النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب - 46.

وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفؤا للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار - 47.

قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم

 

/ صفحة 326 /

بين العباد - 48.

وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب - 49.

قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعؤا الكافرين إلا في ضلال - 50.

إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد - 51.

يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار - 52.

ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب - 53.

هدى وذكرى لاولي الالباب - 54.

(بيان) في الايات موعظتهم بالارجاع إلى آثار الامم الماضين وقصصهم للنظر والاعتبار فلينظروا فيها وليعتبروا بها ويعلموا أن الله سبحانه لا تعجزه قوة الاقوياء واستكبار المستكبرين ومكر الماكرين وتذكر منها من باب الانموذج طرفا من قصص موسى وفرعون وفيها قصة مؤمن آل فرعون.

قوله تعالى: " أو لم يسيروا في الارض فينظروا " إلى آخر الاية الاستفهام إنكاري، والواقي اسم فاعل من الوقاية بمعنى حفظ الشئ مما يؤذيه ويضره.

والمعنى: أو لم يسيروا هؤلاء الذين أرسلناك إليهم " في الارض فينظروا " نظر تفكر واعتبار " كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم " من الامم الدارجة المكذبين لرسلهم " كانوا هم أشد منهم قوة " أي قدرة وتمكنا وسلطة " وآثارا " كالمدائن الحصينة والقلاع المنيعة والقصور العالية المشيدة " في الارض فأخذهم الله بذنوبهم " وأهلكهم بأعمالهم " وما كان لهم من الله من واق " يقيهم وحافظ يحفظهم.

 

/ صفحة 327 /

قوله تعالى: " ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات " الخ الاشارة بذلك إلى الاخذ الالهي، والمراد بالبينات الايات الواضحات، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين " لعل المراد بالايات الخوارق المعجزة التي أرسل بها كالعصا واليد وغيرهما وبالسلطان المبين السلطة الالهية القاهرة التي أيد بها فمنعت فرعون أن يقتله ويطفئ نوره، وقيل: المراد بالايات الحجج والدلالات وبالسلطان معجزاته من العصا واليد وغيرهما، وقيل: غير ذلك.

قوله تعالى: " إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب " فرعون جبار القبط ومليكهم، وهامان وزيره وقارون من طغاة بني إسرائيل ذو الخزائن المليئة؟ وإنما اختص الثلاثة من بين الامتين بالذكر لكونهم اصولا ينتهي إليهم كل فساد وفتنة فيهما.

قوله تعالى: " فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه " الخ مقايسة بين ما جاءهم به موسى ودعاهم إليه وبين ما قابلوه به من كيدهم فقد جاءهم بالحق وكان من الواجب أن يقبلوه لانه حق وكان ما جاء به من عند الله وكان من الواجب أن يقبلوه ولا يردوه فقابلوه بالكيد وقالوا ما قالوا لئلا يؤمن به أحد لكن الله أضل كيدهم فلم يصب المؤمنين معه.

ويشعر السياق أن من القائلين بهذا القول قارون وهو من بني إسرائيل ولا ضير فيه لان الحكم بقتل الابناء واستحياء النساء كان قبل الدعوة صادرا في حق بني إسرائيل عامة وهذا الحكم في حق المؤمنين منهم خاصة فلعل قارون وافقهم عليه لعداوته وبغضه موسى والمؤمنين من قومه.

وفي قوله: " الذين آمنوا معه " ولم يقل: آمنوا به إشارة إلى مظاهرتهم موسى في دعوته.

قوله تعالى: " وقال فرعون ذروني اقتل موسى وليدع ربه " الخ " ذروني " أي اتركوني، خطاب يخاطب به ملاه، وفيه دلالة على أنه كان هناك قوم يشيرون عليه أن لا يقتل موسى ويكف عنه كما يشير إليه قوله تعالى: " قالوا أرجه وأخاه " الشعراء: 36.

وقوله: " وليدع ربه " كلمة قالها كبرا وعتوا يقول: اتركوني أقتله وليدع ربه

 

/ صفحة 328 /

فلينجه من يدي وليخلصه من القتل إن قدر.

وقوله: " إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد " تعليل لما عزم عليه من القتل وقد ذكر أنه يخافه عليهم من جهة دينهم ومن جهة دنياهم، أما من جهة دينهم - وهو عبادة الاصنام - فأن يبدله ويضع موضعه عبادة الله وحده، وأما من جهة دنياهم فكأن يعظم أمره ويتقوى جانبه ويكثر متبعوه فيتظاهروا بالتمرد والمخالفة فيؤل الامر إلى المشاجرة والقتال وانسلاب الامن.

قوله تعالى: " وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب " مقابلة منه (عليه السلام) لتهديد فرعون إياه بالقتل واستعاذة منه بربه، وقوله: " عذت بربي وربكم " فيه مقابلة منه أيضا لفرعون في قوله: " وليدع ربه " حيث خص ربوبيته تعالى بموسى فأشار موسى بقوله: " عذت بربي وربكم " إلى أنه تعالى ربهم كما هو ربه نافذ حكمه فيهم كما هو نافذ فيه فله أن يقي عائذه من شرهم وقد وقى.

ومن هنا يظهر أن الخطاب في قوله: " وربكم " لفرعون ومن معه دون قومه من بني إسرائيل.

وقوله: " من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب " يشير به إلى فرعون وكل من يشاركه في صفتي التكبر وعدم الايمان بيوم الحساب ولا يؤمن ممن اجتمعت فيه الصفتان شر أصلا.

قوله تعالى: " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه " إلى آخر الاية.

ظاهر السياق أن " من آل فرعون " صفة رجل و " يكتم إيمانه " صفة اخرى فكان الرجل من القبط من خاصة فرعون وهم لا يعلمون بإيمانه لكتمانه إياهم ذلك تقية.

وقيل: قوله: " من آل فرعون " مفعول ثان لقوله: " يكتم " قدم عليه، والغالب فيه وإن كان التعدي إلى المفعول الثاني بنفسه كما في قوله: " ولا يكتمون الله حديثا " النساء.

42 لكنه قد يتعدى إليه بمن كما صرح به في المصباح.

وفيه أن السياق يأباه فلا نكتة ظاهرة تقتضي تقدم المفعول الثاني على الفعل من حصر ونحوه.

على أن الرجل يكرر نداء فرعون وقومه بلفظة " يا قومي " ولو لم يكن منهم لم يكن له ذلك.

 

/ صفحة 329 /

وقوله: " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " إنكار لعزمهم على قتله، وفي قوله: " من ربكم " دليل على أن في البينات التي جاء بها دلالة على أن الله ربهم أيضا كما اتخذه ربا فقتله قتل رجل جاء بالحق من ربهم.

وقوله: " وإن يك كاذبا فعليه كذبه " قيل: إن ذكره هذا التقدير تلطف منه لا أنه كان شاكا في صدقه.

وقوله: " وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم " فيه تنزل في المخاصمة بالاكتفاء على أيسر التقادير وأقلها كأنه يقول: " وإن يك صادقا يصبكم ما وعدكم من أنواع العذاب ولا أقل من إصابة بعض ما يعدكم مع أن لازم صدقه إصابة جميع ما وعد.

وقوله: " إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " تعليل للتقدير الثاني فقط والمعنى إن يك كاذبا كفاه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم لانكم حينئذ مسرفون متعدون طوركم كذابون في نفي ربوبية ربكم واتخاذ أرباب من دونه والله لا يهدي من هو مسرف كذاب، وأما على تقدير كذبه فلا ربوبية لمن اتخذه ربا حتى يهديه أو لا يهديه.

ومن هنا يظهر أن ما ذكره بعضهم من كون الجملة تعليلا للتقديرين جميعا متعلقة بكلتا الجملتين غير مستقيم.

قوله تعالى: " يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا " ظهورهم غلبتهم وعلوهم في الارض، والارض أرض مصر، و بأس الله أخذه وعذابه والاستفهام للانكار.

والمعنى: يا قوم لكم الملك حالكونكم غالبين عالين في أرض مصر على من دونكم من بني إسرائيل فمن ينصرنا من أخذ الله وعذابه كما يعدنا به موسى إن جاءنا؟ وقد أدخل نفسه فيهم على تقدير مجئ البأس ليكون أبلغ في النصح وأوقع في قلوبهم أنه يريد لهم من العافية ما يريده لنفسه.

قوله تعالى: " قال فرعون ما اريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " أي طريق الصواب المطابقة للواقع يريد أنه على يقين مما يهدي إليه قومه من الطريق

 

/ صفحة 330 /

وهي مع كونها معلومة له مطابقة للواقع، وهذا كان تمويها منه وتجلدا.

قوله تعالى: " وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب - إلى قوله - للعباد " المراد بالذي آمن هو مؤمن آل فرعون، ولا يعبؤ بما قيل: إنه موسى لقوة كلامه، والمراد بالاحزاب الامم المذكورون في الاية التالية قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم، وقوله: " مثل دأب قوم نوح " بيان للمثل السابق والدأب هو العادة.

والمعنى: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاقوام الماضين مثل العادة الجارية من العذاب عليهم واحدا بعد واحد لكفرهم وتكذيبهم الرسل، أو مثل جزاء عادتهم الدائمة من الكفر والتكذيب وما الله يريد ظلما للعباد.

قوله تعالى: " ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد - إلى قوله - من هاد " يوم التناد يوم القيامة، ولعل تسميته بذلك لكون الظالمين فيه ينادي بعضهم بعضا وينادون بالويل والثبور على ما اعتادوا به في الدنيا.

وقيل: المراد بالتنادي المناداة التي تقع بين أصحاب الجنة وأصحاب النار على ما ذكره الله تعالى في سورة الاعراف، وهناك وجوه آخر ذكروها لا جدوى فيها.

وقوله: " يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم " المراد به يوم القيامة ولعل المراد أنهم يفرون في النار من شدة عذابها ليتخلصوا منها فردوا إليها كما قال تعالى: " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق " الحج: 22.

وقوله: " ومن يضلل الله فما له من هاد " بمنزلة التعليل لقوله: " ما لكم من الله من عاصم " أي تفرون مدبرين ما لكم من عاصم ولو كان لكان من جانب الله وليس وذلك لان الله أضلهم ومن يضلل الله فما له من هاد.

قوله تعالى: " ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات " إلى آخر الاية.

لما ذكر أن الله أضلهم ولا هادي لهم استشهد له بما عاملوا به يوسف (عليه السلام) في رسالته إليهم حيث شكوا في نبوته ما دام حيا ثم إذا مات قالوا: لا نبي بعده.

فالمعنى: وأقسم لقد جاءكم يوسف من قبل بالايات البينات التي لا تدع ريبا في

 

/ صفحة 331 /

رسالته من الله فما زلتم في شك مما جاءكم به ما دام حيا حتى إذا هلك ومات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا فناقضتم أنفسكم ولم تبالوا.

ثم أكده - وهو في معنى التعليل - بقوله: " كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب ".

قوله تعالى: " الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم " الخ وصف لكل مسرف مرتاب فإن من تعدى طوره بالاعراض عن الحق واتباع الهوى واستقر في نفسه الارتياب فكان لا يستقر على علم ولا يطمئن إلى حجة تهديه إلى الحق جادل في آيات الله بغير برهان إذا خالفت مقتضى هواه.

وقوله: " كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار " يفيد أن قلوبهم مطبوع عليها فلا يفقهون حجة ولا يركنون إلى برهان.

قوله تعالى: " وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا - إلى قوله - في تباب " أمر منه لوزيره هامان أن يبني له بناء يتوصل به إلى الاطلاع إلى إله موسى ولعله أصدر هذا الامر أثناء محاجة الذي آمن وبعد الانصراف عن قتل موسى ولذلك وقع ذكره بين مواعظ الذي آمن واحتجاجاته.

والصرح - على ما في المجمع - البناء الظاهر الذي لا يخفى على عين الناظر وإن بعد، والاسباب جمع سبب وهو ما تتوصل به إلى ما يبتعد عنك.

وقوله: " لعلي أبلغ الاسباب " في معنى التعليل لامره ببناء الصرح، والمعنى آمرك ببنائه لاني أرجو أن أبلغ بالصعود عليه الاسباب ثم فسر الاسباب بقوله: " أسباب السماوات " وفرع عليه قوله: " فأطلع إلى إله موسى " كأنه يقول: إن الاله الذي يدعوه ويدعو إليه موسى ليس في الارض إذ لا إله فيها غيري فلعله في السماء فابن لي صرحا لعلي أبلغ بالصعود عليه الاسباب السماوية الكاشفة عن خبايا السماء فأطلع؟ من جهتها إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا.

وقيل: إن مراده أن يبني له رصدا يرصد فيه الاوضاع السماوية لعله يعثر فيها على ما يستدل به على وجود إله موسى بعد اليأس عن الظفر عليه بالوسائل الارضية

 

/ صفحة 332 /

وهو حسن، وعلى أي حال لا يستقيم ما ذكره على شئ من مذاهب الوثنية فلعله كان منه تمويها على الناس أو جهلا منه وما هو من الظالمين ببعيد.

وقوله: " وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل " مفاد السياق أنه في معنى إعطاء الضابط لما واجه به فرعون الحق الذي كان يدعوه إليه موسى فقد زين الشيطان له قبيح عمله فرآه حسنا وصده عن سبيل الرشاد فرآى انصداده عنها ركوبا عليها فجادل في آيات الله بالباطل وأتى بمثل هذه الاعمال القبيحة والمكائد السفهية لادحاض الحق.

ولذلك ختمت الاية بقوله: " وما كيد فرعون إلا في تباب " أي هلاك وانقطاع.

قوله تعالى: " وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد " يدعوهم إلى اتباعه ليهديهم، و اتباعه اتباع موسى، وسبيل الرشاد السبيل التي في سلوكها إصابة الحق والظفر بالسعادة، والهداية بمعنى إراءة الطريق، وفي قوله: " أهدكم سبيل الرشاد " تعريض لفرعون حيث قال: " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " والباقي ظاهر.

قوله تعالى: " يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الاخرة هي دار القرار " هذا هو السناد الذي يستند إليه سلوك سبيل الرشاد والتدين بدين الحق لا غنى عنه بحال وهو الاعتقاد بأن للانسان حياة خالدة مؤبدة هي الحياة الاخرة وأن هذه الحياة الدنيا متاع في الاخرة ومقدمة مقصودة لاجلها، ولذلك بدء به في بيان سبيل الرشاد ثم ذكر السيئة والعمل الصالح.

قوله تعالى: " من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها " إلى آخر الاية.

أي إن الذي يصيبه ويعيش به في الاخرة يشاكل ما أتى به في هذه الحياة الدنيا التي هي متاع فيها فإنما الدنيا دار عمل والاخرة دار جزاء.

من عمل في الدنيا سيئة ذات صفة المساءة فلا يجزى في الاخرة إلا مثلها مما يسوؤه ومن عمل صالحا من ذكر أو انثى من غير فرق بينهما في ذلك والحال أنه مؤمن فاولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب.

وفيه إشارة إلى المساواة بين الذكر والانثى في قبول العمل وتقييد العمل الصالح

 

/ صفحة 333 /

في تأثيره بالايمان لكون العمل حبطا بدون الايمان قال تعالى: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " المائدة: 5 إلى غيرها من الايات.

وقد جمع الدين الحق وهو سبيل الرشاد في أوجز بيان وهو أن للانسان دار قرار يجزى فيها بما عمل في الدنيا من عمل سيئ أو صالح فليعمل صالحا ولا يعمل سيئا، وزاد بيانا إذ أفاد أنه إن عمل صالحا يرزق بغير حساب.

قوله تعالى: " ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار - إلى قوله - العزيز الغفار " كأنه لما دعاهم إلى التوحيد قابلوه بدعوته إلى عبادة آلهتهم أو قدرها لهم لما شاهد جدالهم بالباطل وإصرارهم على الشرك فنسب إليهم الدعوة بشهادة حالهم فأظهر العجب من مقابلتهم دعوته الحقة بدعوتهم الباطلة.

فقال: ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة أي النجاة من النار وتدعونني إلى النار وقد كان يدعوهم إلى سبب النجاة ويدعونه إلى سبب دخول النار فجعل الدعوة إلى السببين دعوة إلى المسببين أو لان الجزاء هو العمل بوجه.

ثم فسر ما دعوه إليه وما دعاهم إليه فقال: تدعونني لاكفر أي إلى أن أكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم أي أشرك به شيئا لا حجة لي على كونه شريكا فأفتري على الله بغير علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الذي يغلب ولا يغلب، الغفار لمن تاب إليه وآمن به أي أدعوكم إلى الايمان به والاسلام له.

قوله تعالى: " لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الاخرة " الخ لا جرم بمعنى حقا أو بمعنى لابد، ومفاد الاية إقامة الحجة على عدم كون ما يدعون إليه إلها من طريق عدم الدعوة إليه وفي ذلك تأييد لقوله في الاية السابقة " ما ليس لي به علم ".

والمعنى: ثبت ثبوتا أن ما تدعونني إليه مما تسمونه شريكا له سبحانه ليس له دعوة في الدنيا إذ لم يعهد نبي أرسل إلى الناس من ناحيته ليدعوهم إلى عبادته، ولا في الاخرة إذ لا رجوع إليه فيها من أحد، وأما الذي أدعوكم إليه وهو الله سبحانه فإن له دعوة في الدنيا وهي التي تصداها أنبياؤه ورسله المبعوثون من عنده المؤيدون بالحجج والبينات،

 

/ صفحة 334 /

وفي الاخرة وهي التي يتبعها رجوع الخلق إليه لفصل القضاء بينهم، قال تعالى: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " أسرى: 52.

ومن المعلوم كما قررناه في ذيل قوله تعالى: " هو الذي يريكم آياته " الاية 13 من السورة أن الربوبية لا تتم بدون دعوة في الدنيا ونظيرتها الدعوة في الاخرة، وإذ كان الذي يدعوهم إليه ذا دعوة في الدنيا والاخرة دون ما يدعونه إليه فهو الاله دون ما يدعون إليه.

وقوله: " وإن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار " معطوف على قوله: " أن ما تدعونني " أي لا جرم أن مردنا إلى الله فيجب الاسلام له واتباع سبيله ورعاية حدود العبودية، ولا جرم أن المسرفون وهم المتعدون طور العبودية - وهم أنتم - أصحاب النار فالذي أدعوكم إليه فيه النجاة دون ما تدعونني إليه.

قوله تعالى: " فستذكرون ما أقول لكم وافوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد " صدر الاية موعظة وتخويف لهم وهو تفريع على قوله: " وأن مردنا إلى الله " الخ أي إذ كان لابد من الرجوع إلى الله وحلول العذاب بالمسرفين وأنتم منهم ولم تسمعوا اليوم ما أقول لكم فستذكرون ما أقول لكم حين عاينتم العذاب وتعلمون عند ذاك أني كنت ناصحا لكم.

وقوله: " وافوض أمري إلى الله " التفويض على ما فسره الراغب هو الرد فتفويض الامر إلى الله رده إليه فيقرب من معنى التوكل والتسليم والاعتبار مختلف: فالتفويض من العبد رده ما نسب إليه من الامر إلى الله سبحانه وحال العبد حينئذ حال من هو أعزل لا أمر راجعا إليه، والتوكل من العبد جعله ربه وكيلا يتصرف فيما له من الامر، والتسليم من العبد مطاوعته المحضة لما يريده الله سبحانه فيه ومنه من غير نظر إلى انتساب أمر إليه فهي مقامات ثلاث من مقامات العبودية: التوكل ثم التفويض وهو أدق من التوكل ثم التسليم وهو أدق منهما.

وقوله: " إن الله بصير بالعباد " تعليل لتفويضه أمره إلى الله، وفي وضع اسم الجلالة موضع ضميره - و كان مقتضى الظاهر الاضمار إشارة إلى علة بصيرته بالعباد كأنه قيل: إنه بصير بالعباد لانه الله عز اسمه.

 

/ صفحة 335 /

قوله تعالى: " فوقاه الله سيئات ما مكروا " تفريع على تفويضه الامر إلى الله فكفاه الله شرهم ووقاه سيئات مكرهم، وفيه إشارة إلى أنهم قصدوه بالسوء لكن الله دفعهم عنه.

قوله تعالى: " وحاق بآل فرعون سوء العذاب - إلى قوله - أشد العذاب " أي نزل بهم وأصابهم العذاب السيئ فسوء العذاب من إضافة الصفة إلى موصوفها وفي التوصيف بالمصدر مبالغة، وآل فرعون أشياعه وأتباعه، وربما يقال آل فلان ويشمل نفسه.

وقوله: " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " ظاهر السياق أنه بيان لسوء العذاب وليس من الاستئناف في شئ.

والاية صريحة أولا في أن هناك عرضا على النار ثم إدخالا فيها والادخال أشد من العرض، وثانيا: في أن العرض على النار قبل قيام الساعة التي فيها الادخال وهو عذاب البرزخ - عالم متوسط بين الموت والبعث - وثالثا: أن التعذيب في البرزخ ويوم تقوم الساعة بشئ واحد وهو نار الاخرة لكن البرزخيين يعذبون بها من بعيد وأهل الاخرة بدخولها.

وفي قوله: " غدوا وعشيا " إشارة إلى التوالي من غير انقطاع، ولعل لاهل البرزخ لعدم انقطاعهم عن الدنيا بالكلية نسبة ما إلى الغداة والعشي.

وفي قوله: " ويوم تقوم الساعة ادخلوا " إيجاز بالحذف والتقدير يقال: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.

قوله تعالى: " وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا - إلى قوله - بين العباد " يفيد السياق أن الضمير في " يتحاجون " لال فرعون ومن الدليل على ذلك تغيير السياق في قوله بعد: " وقال الذين في النار " والمعنى وحاق بآل فرعون سوء العذاب إذ يتحاجون في النار أو واذكر من سوء عذابهم إذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء منهم للذين استكبروا إنا كنا في الدنيا لكم تبعا وكان لازم ذلك أن تكفونا في الحوائج وتنصرونا في الشدائد ولا شدة أشد مما نحن فيه فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار وإن لم يكن جميع عذابها فقد قنعنا بالبعض.

 

/ صفحة 336 /

وهذا ظهور مما رسخ في نفوسهم في الدنيا من الالتجاء بكبريائهم ومتبوعيهم من دون الله يظهر منهم ذلك يوم القيامة وهم يعلمون أنهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئا والامر يومئذ لله وله نظائر محكية عنهم في كلامه تعالى من كذبهم يومئذ وخلفهم وإنكارهم أعمالهم وتكذيب بعضهم لبعض وغير ذلك.

وقوله: " قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد " جواب من مستكبريهم عن قولهم ومحصله أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فالاسباب ساقطة عن التأثير وقد طاحت منا ما كنا نتوهمه لانفسنا في الدنيا من القوة والقدرة فحالنا وحالكم - ونحن جميعا في النار - واحدة.

فقولهم: " إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد " مفاده أن ظهور الحكم الالهي قد أبطل أحكام سائر الاسباب وتأثيراتها وأثبتنا على ما نحن فيه من الحال في حد سواء فلسنا نختص دونكم بقوة حتى نغني عنكم شيئا من العذاب.

ومما قيل في الاية أن الضمير في قوله: " يتحاجون " لمطلق الكفار من أهل النار وهو بعيد كما عرفت، وقيل: الضمير لقريش وهو أبعد.

قوله تعالى: " وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب " مكالمة بين أهل النار - ومنهم آل فرعون - وبين خزنة جهنم أوردها سبحانه تلو قصة آل فرعون، وهم إنما سألوا الخزنة أن يدعوا لهم ليأسهم من أن يستجاب منهم أنفسهم.

والمراد باليوم من العذاب ما يناسب من معنى اليوم لعالمهم الذي هم فيه، ويؤل معناه إلى قطعة من العذاب.

قوله تعالى: " قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " أجابوهم بالاستخبار عن إتيان رسلهم إياهم بالبينات فاعترفوا بذلك وهو اعتراف منهم بأنهم كفروا بهم مع العلم بكونهم على الحق وهو الكفر بالنبوة فلم يجبهم الخزنة فيما سألوهم من الدعاء إثباتا ولا نفيا بل ردوهم إلى أنفسهم مشيرين إلى أنهم لا يستجاب لهم دعاء.

 

/ صفحة 337 /

وقوله: " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " أي إن دعاءهم قد أحاط به الضلال فلا يهتدي إلى هدف الاجابة وهو تتمة كلام الخزنة على ما يعطيه السياق، ويحتمل أن يكون من كلامه تعالى، على بعد.

والجملة على أي حال تفيد معنى التعليل والمحصل: ادعوا فلا يستجاب لكم فإنكم كافرون، والكافرون لا يستجاب لهم دعاء.

وتعليق حكم عدم الاستجابة بوصف الكفر مشعر بعليته وذلك أن الله سبحانه وإن وعد عباده وعدا قطعيا أن يجيب دعوة من دعاه منهم فقال: " أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة 186، والدعاء إذا كان واقعا على حقيقته لا يرد البتة لكن الذي يتضمنه متن هذا الوعد هو أن يكون هناك دعاء وطلب حقيقة وأن يتعلق ذلك بالله حقيقة أي يدعو الداعي ويطلب جدا وينقطع في ذلك إلى الله عن سائر الاسباب التي يسميها أسبابا.

والكافر بعذاب الاخرة وهو الذي ينكرها ويستر حقيقتها لا يتمشى منه طلب جدي لرفعه أما في الدنيا فظاهر، وأما في الاخرة فلانه وإن أيقن به بالمعاينة وانقطع إلى الله سبحانه لما هو فيه من الشدة وقد انقطعت عنه الاسباب لكن صفة الانكار لزمته وبالا وقد جوزي بها فلا تدعه يطلب ما كان ينكره طلبا جديا.

على أن الكلام في انقطاعه إلى الله أيضا كالكلام في طلبه الجدي للتخلص وأنى له الانقطاع إلى الله هناك ولم يتلبس به في الدنيا فافهمه.

وبذلك يظهر ضعف الاستدلال بالاية على أن دعاء الكافر لا يستجاب مطلقا فإنك عرفت أن مدلول الاية عدم استجابة دعائه فيما يكفر به وينكره لا مطلقا كيف؟ وهناك آيات كثيرة تذكر استجابة دعائه في موارد الاضطرار.

قوله تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " الاشهاد جمع شهيد بمعنى شاهد، والاية وعد نوعي لا وعد شخصي لكل واحد شخصي منهم في كل واقعة شخصية، وقد تقدم كلام في معنى النصر الالهي في تفسير قوله تعالى:

 

/ صفحة 338 /

" إنهم لهم المنصورون " الصافات: 172.

قوله تعالى: " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " تفسير ليوم يقوم الاشهاد، وظاهر إضافة المصدر إلى فاعله في قوله " معذرتهم " ولم يقل: أن يعتذروا، تحقق معذرة ما منهم يومئذ، وأما قوله: " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " المرسلات: 36 فمحمول على بعض مراحل يوم القيامة وعقباته لدلالة آيات اخرى على وقوع تكلم ما منهم يومئذ.

وقوله: " ولهم اللعنة " أي البعد من رحمة الله، وقوله: " لهم سوء الدار " أي الدار السيئة وهي جهنم.

قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب - إلى قوله - الالباب " خاتمة لما تقدم من إرسال موسى بالايات والسلطان المبين ومجادلة آل فرعون في الايات بالباطل ومحاجة مؤمن آل فرعون، يشير بها وقد صدرت بلام القسم إلى حقية ما ارسل به وظلمهم فيما قابلوه به.

والمراد بالهدى الدين الذي اوتيه موسى، و " بإيراث بني إسرائيل الكتاب " إبقاء التوراة بينهم يعملون بها ويهتدون.

وقوله: " هدى وذكرى لاولي الالباب " أي حالكون الكتاب هدى يهتدي به عامتهم وذكرى يتذكر به خاصتهم من اولي الالباب.

(بحث روائي) في العلل بإسناده عن إسماعيل بن منصور أبي زياد عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول فرعون: " ذروني أقتل موسى " ما كان يمنعه؟ قال: منعته رشدته، ولا يقتل الانبياء ولا أولاد الانبياء إلا أولاد الزنا.

وفي المجمع قال أبو عبد الله: التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية ترس الله في الارض لان مؤمن آل فرعون لو أظهر الاسلام لقتل.

اقول: والروايات من طرق الشيعة فيها كثيرة والايات تؤيدها كقوله: " إلا أن

 

/ صفحة 339 /

تتقوا منهم تقاة " آل عمران: 28 وقوله: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان " النحل: 106.

وفي المحاسن بإسناده عن أيوب بن الحر عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: " فوقاه الله سيئات ما مكروا " قال: أما لقد سطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه.

اقول: وفي معناه بعض روايات اخر وفي بعض ما ورد من طرق أهل السنة أن الله نجاه من القتل.

وفي الخصال عن الصادق (عليه السلام) قال: عجبت لمن يفزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع؟ - إلى أن قال - وعجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: " وافوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد " فإني سمعت الله تعالى يقول بعقبها: " فوقاه الله سيئات ما مكروا ".

اقول: وهو مروي في غير هذا الكتاب.

وفي تفسير القمي قال رجل لابي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في قول الله عز وجل: " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يقول الناس؟ فقال: يقولون: إنها في نار الخلد وهم لا يعذبون فيما بين ذلك فقال: فهم من السعداء.

فقيل له: جعلت فداك فكيف هذا؟ فقال: إنما هذا في الدنيا فأما في دار الخلد فهو قوله: " يوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب ".

اقول: مراده (عليه السلام) بالدنيا البرزخ وهو كثير الورود في رواياتهم.

وفي المجمع عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن الجنة، وإن كان من أهل النار فمن النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة أورده البخاري ومسلم في الصحيح.

أقول: ورواه السيوطي في الدر المنثور عنهما وعن ابن أبي شيبة وابن مردويه وهذا المعنى كثير الورود في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد مر كثير منها في البحث عن البرزخ في الجزء الاول من الكتاب وغيره من المواضع.

 

/ صفحة 340 /

* * *

فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار - 55.

إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير - 56.

لخلق السموات والارض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 57.

وما يستوي الاعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ قليلا ما تتذكرون - 58.

إن الساعة لاتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون - 59.

وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين - 60.

(بيان) لما قص قصة موسى وإرساله بالحق إلى فرعون وقومه، ومجادلتهم في آيات الله بالباطل ومكرهم فيها ونصره تعالى لنبيه وإبطاله كيدهم وما آل إليه أمرهم من خيبة السعي وسوء المنقلب فرع على ذلك أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر منبها له أن وعد الله بالنصر حق وأن كيد قومه وجدالهم بالباطل واستكبارهم عن قبول دعوته سيبطل ويعود وبالا على أنفسهم فليسوا بمعجزي الله وستقوم الساعة الموعودة ويدخلون جهنم داخرين.

قوله تعالى: " فاصبر إن وعد الله حق " إلى آخر الاية.

تفريع على ما تقدم

 

/ صفحة 341 /

من الامر بالاعتبار في قوله: " أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم " وما أورد بعده من قصة موسى ومآل أمر المستكبرين المجادلين بالباطل ونصره تعالى للحق وأهله.

والمعنى: إذا كان الامر على ذلك فاصبر على إيذاء المشركين ومجادلتهم بالباطل إن وعد الله حق وسيفي لك بما وعد، والمراد بالوعد ما في قوله قبيل هذا: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا " الاية من وعد النصر.

وقوله: " واستغفر لذنبك " أمر له بالاستغفار لما يعد بالنسبة إليه ذنبا وإن لم يكن ذنبا بمعنى المخالفة للامر المولوي لمكان عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد تقدم كلام في معنى الذنب والمغفرة في أواخر الجزء السادس من الكتاب.

وللذنب المنسوب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) معنى آخر سنشير إليه في تفسير أول سورة الفتح إن شاء الله تعالى، وقيل: المراد بذنبه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذنب امته أعطي الشفاعة فيه.

وقوله: " وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار " أي نزهه سبحانه مصاحبا لحمده على جميل آلائه مستمرا متواليا بتوالي الايام أو في كل صباح ومساء، وكونه بالعشي والابكار على المعنى الاول من قبيل الكناية.

وقيل: المراد به صلاتا الصبح والعصر، والاية مدنية.

وفيه أن المسلم من الروايات ومنها أخبار المعراج أن الصلوات الخمس فرضت جميعا بمكة قبل الهجرة فلو كان المراد به الفريضتين كان ذلك بمكة قبل فرض بقية الصلوات الخمس.

قوله تعالى: " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه " الخ تأكيد لما تقدم في الاية السابقة من أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر وتطييب نفسه بتأييد وعد النصر، ومحصله أن هؤلاء المجادلين لا ينالون بغيتهم ولن ينالوا فلا يحزنك جدالهم وطب نفسا من ناحيتهم.

فقوله: " إن في صدورهم إلا كبر " حصر للسبب الموجب لمجادلتهم في الكبر أي ليس عاملهم في ذلك طلب الحق أو الارتياب في آياتنا والشك فيها حتى يريدوا بها

 

/ صفحة 342 /

ظهور الحق ولا حجة ولا سلطان عندهم حتى يريدوا إظهارها بل الذى في صدورهم وهو الداعي لهم إلى الجدال، الكبر، يريدون به إدحاض الحق الصريح.

وقوله: " ما هم ببالغيه " الضمير لكبر باعتبار مسببه فإن الكبر سبب للجدال والجدال يراد به إبطال الحق ومحق الدعوة الحقة، والمعنى ما هم ببالغي مرادهم وبغيتهم من الجدال الذي يأتون به لكبرهم.

وقوله: " فاستعذ بالله " أي فاستعذ بالله منهم بما لهم من الكبر كما استعاذ موسى من كل متكبر مجادل كما قال: " وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ".

وقوله: " إنه هو السميع البصير " أي السميع لدعاء عباده البصير بحوائجهم والذي يبصر ما هم فيه من شدة أو رخاء.

قوله تعالى: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون " اللام للقسم، والمراد بالسماوات والارض مجموع العالم، ومعنى الاية حسب ما يعطيه المقام أنهم ليسوا ببالغي بغيتهم وليسوا بمعجزين فإن الله الذي قدر على خلق مجموع العالم ولم يعجزه ذلك على ما فيه من العظمة ليس يعجزه جزء يسير منه وهو الناس المخلوقون الذين هم أهون عليه ولكن أكثر الناس جاهلون يظنون بجهلهم أنهم يعجزون الله بجدال يجادلونه أو أي كيد يكيدونه.

قوله تعالى: " وما يستوي الاعمى والبصير " الخ لما ذكر أن أكثر الناس لا يعلمون أكده بأنهم ليسوا على وتيرة واحدة فإن منهم الاعمى والبصير ولا يستويان وعطف عليهما الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئ فالطائفة الاولى اولو بصيرة يتذكرون بها والثانية أعمى الله قلوبهم فلا يتذكرون.

وقوله: " قليلا ما تتذكرون " خطاب للناس بداعي التوبيخ وهو الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور.

قوله تعالى: " إن الساعة لاتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " ذكرهم تعالى في هذه الاية بإتيان الساعة وفي الاية التالية بدعوة ربهم إياهم إلى دعائه

 

/ صفحة 343 /

وعبادته كما نبه الذي آمن من آل فرعون في القصة السابقة بإتيان الساعة وبأن لله الدعوة وليس لالهتهم دعوة في الدنيا ولا في الاخرة.

قوله تعالى: " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " دعوة منه تعالى لعباده إلى دعائه ووعد بالاستجابة، وقد اطلق الدعوة والدعاء والاستجابة إطلاقا، وقد أشبعنا الكلام في معنى الدعاء والاجابة في ذيل قوله تعالى: " أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة: 186 في الجزء الاول من الكتاب.

وقوله: " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " الدخور الذلة، وقد بدل الدعاء عبادة فدل على أن الدعاء عبادة.

(بحث روائي) في الصحيفة السجادية: وقلت: " ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " فسميت دعاءك عبادة وتركه استكبارا وتوعدت على تركه دخول جهنم داخرين.

وفي الكافي بإسناده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ادع ولا تقل: قد فرغ من الامر فإن الدعاء هو العبادة إن الله عز وجل يقول: " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " وقال: " ادعوني أستجب لكم ".

أقول: قوله (عليه السلام): فإن الدعاء - إلى قوله - داخرين احتجاج على ما ندب إليه أولا بقوله: ادع، وقوله: وقال: " ادعوني أستجب لكم " احتجاج على ما قاله ثانيا: ولا تقل: قد فرغ من الامر ولذا قدم (عليه السلام) في بيانه ذيل الاية على صدرها.

وفي الخصال عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا معاوية من أعطي ثلاثة لم يحرم ثلاثة: من أعطي الدعاء أعطي الاجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية فإن الله عز وجل يقول في كتابه: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " وقال: " لئن شكرتم لازيدنكم "، وقال: " ادعوني أستجب لكم ".

وفي التوحيد بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: قال قوم للصادق (عليه السلام):

 

/ صفحة 344 /

ندعوه فلا يستجاب لنا.

قال: لانكم تدعون من لا تعرفونه.

اقول: وقد أوردنا جملة من روايات الدعاء في ذيل قوله: " أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقرة: 186 في الجزء الاول من الكتاب.

* * *

الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون - 61.

ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو فأنى تؤفكون - 62.

كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون - 63.

الله الذي جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين - 64.

هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين - 65.

قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين - 66.

هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون - 67.

هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون - 68.

 

/ صفحة 345 /

(بيان) رجع سبحانه ثانيا إلى الاشارة إلى آيات التوحيد توحيد الربوبية والالوهية بعد ما بدء بها في السورة أولا بقوله: " هو الذي يريكم آياته ".

قوله تعالى: " هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا " الاية.

أي جعل لاجلكم الليل مظلما لتسكنوا فيه من التعب الذي عرض لكم وجه النهار من جهة السعي في طلب الرزق، والنهار مبصرا لتبتغوا من فضل ربكم وتكسبوا الرزق، وهذا من أركان تدبير الحياة الانسانية.

وقد ظهر بذلك أن نسبة الابصار إلى النهار من المجاز العقلي لكن ليس من المبالغة في شئ كما ادعاه بعضهم.

وقوله: " إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " امتنان عليهم بالفضل وتقريع لهم بعدم شكرهم له قبال هذا الفضل العظيم ولو شكروه لعبدوه ووضع " الناس " الثاني موضع الضمير للاشارة إلى أن من طبع الناس بما هم ناس كفران النعم كما قال: " إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم: 34.

قوله تعالى: " ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو فأنى تؤفكون " أي ذلكم الذي يدبر أمر حياتكم ورزقكم بسكون الليل وسعي النهار هو الله تعالى وهو ربكم لان تدبير أمركم إليه.

وقوله: " خالق كل شئ " أي ورب كل شئ لانه خالق كل شئ والخلق لا ينفك عن التدبير ولازم ذلك أن لا يكون في الوجود رب غيره لا لكم ولا لغيركم ولذلك عقبه بقوله: " لا إله إلا هو " أي فإذن لا معبود بالحق غيره إذ لو كان هناك معبود آخر كان رب آخر فإن الالوهية من شئون الربوبية.

وقوله: " فأنى تؤفكون " أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.

قوله تعالى: " كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون " أي كمثل هذا الافك يؤفك الجاحدون لايات الله فإن الايات ظاهرة غير خفية فالانصراف عن مدلولها لا سبب له إلا الجحد.

 

/ صفحة 346 /

قوله تعالى: " الله الذي جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء " إلى آخر الاية القرار المستقر الذي يستقر عليه، والبناء - على ما قيل - القبة ومنه أبنية العرب للقباب المضروبة (؟) عليهم.

يذكر تعالى نعمة استقرار الانسان على الارض وتحت السماء.

وقوله: " وصوركم فأحسن صوركم " الفاء للتفسير والمعنى أحسن خلق صوركم وذلك أن الانسان جهز من دقائق التجهيز في صورته بما يقوى به من الاعمال المتنوعة العجيبة على مالا يقوى عليه شئ من سائر الموجودات الحية، ويلتذ من مزايا الحياة بما لا يتيسر لغيره أبدا.

وقوله: " ورزقكم من الطيبات " هي الارزاق المتنوعة التي تلائم بطبائعها طبيعة الانسان من الحبوب والفواكه واللحوم وغيرها، وليس في الحيوان متنوع في الرزق كالانسان.

وقوله: " ذلكم الله ربكم " أي المدبر لامركم، وقوله: " فتبارك الله رب العالمين " ثناء عليه عز وجل بربوبيته لجميع العالمين، وقد فرعه على ربوبيته وتدبيره للانسان إشارة إلى أن الربوبية واحدة وتدبيره لامر الانسان عين تدبيره لامر العالمين جميعا فإن النظام الجاري نظام واحد روعي في انطباقه على كل، انطباقه على الكل فهو سبحانه متبارك منشأ للخير الكثير فتبارك الله رب العالمين.

قوله تعالى: " هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين " الخ في جملة " هو الحي " إطلاق لا مقيد له لا عقلا ولا نقلا مضافا إلى إفادة الحصر فمفادها أن له تعالى وحده حياة لا يداخلها موت ولا يزيلها فناء فهو تعالى حي بذاته وغيره كائنا ما كان حي بإحياء غيره.

وإذا فرض هناك حي بذاته وحي بغيره لم يستحق العبادة بذاته إلا من كان حيا بذاته، ولذلك عقب قوله: " هو الحي " بقوله: " لا إله إلا هو ".

.

وقد سيقت الجملتان توطئة للامر بدعائه ولا مطلق دعائه بل دعائه بالتوحيد وإخلاص الدين له وحده لانه الحي بذاته دون غيره ولانه المعبود بالاستحقاق الذاتي دون غيره، ولذلك فرع على قوله: " هو الحي لا إله إلا هو " قوله: " فادعوه مخلصين له الدين ".

 

/ صفحة 347 /

وقوله: " الحمد لله رب العالمين " ثناء عليه بربوبيته للعالمين.

قوله تعالى: " قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين " معنى الاية ظاهر، وفيه إيآس للمشركين من موافقته لهم في عبادة آلهتهم " وقد تكرر هذا المعنى في سورة الزمر ويمكن أن يستأنس منه أن هذه السورة نزلت بعد سورة الزمر.

قوله تعالى: " هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة " الخ المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن خلق غيره ينتهي إليه فخلقه من تراب هو خلقهم منه أو المراد بخلقهم من تراب تكوين النطفة من البسائط الارضية.

وقوله: " ثم من نطفة " الخ أي ثم خلقناكم من نطفة حقيرة معلومة الحال " ثم من علقة " كذلك " ثم يخرجكم " من بطون امهاتكم " طفلا " أي أطفالا، والطفل - كما قيل - يطلق على الواحد والجمع قال تعالى: " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء " النور: 31.

" ثم لتبلغوا أشدكم " اللام للغاية وكأن متعلقها محذوف والتقدير ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم وهو من العمر زمان اشتداد القوى " ثم لتكونوا شيوخا " معطوف على " لتبلغوا " " ومنكم من يتوفى من قبل " فلا يبلغ أحد هذه المراحل من العمر كالشيخوخة وبلوغ الاشد و غيرهما.

" ولتبلغوا أجلا مسمى " وهو النهاية من الامد المضروب الذي لا سبيل للتغير إليه أصلا، وهو غاية عامة لجميع الناس كيفما عمروا قال تعالى: " وأجل مسمى عنده " الانعام: 2.

ولذلك لم تعطف الجملة بثم حتى تتميز من الغايتين المذكورتين سابقا.

وقوله: " ولعلكم تعقلون " أي تدركون الحق بالتعقل المغروز فيكم، وهذا غاية خلقة الانسان بحسب حياته المعنوية كما أن بلوغ الاجل المسمى غاية حياته الدنيا الصورية.

قوله تعالى: " هو الذي يحيي ويميت " الخ أي هو الذي يفعل الاحياء والاماتة وفيهما نقل الاحياء من عالم إلى عالم وكل منهما مبدء لتصرفاته بالنعم التي يتفضل بها على من يدبر أمره.

وقوله: " فإذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون " تقدم تفسيره كرارا.

 

/ صفحة 348 /

(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم بسند صحيح عن أبي العالية قال: إن اليهود أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ويكون من أمره فعظموا أمره وقالوا يصنع كذا فأنزل الله: " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه " قال: لا يبلغ الذي يقول.

" فاستعذ بالله " فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتعوذ من فتنة الدجال " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس " الدجال.

وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن كعب الاحبار في قوله: " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان " قال: هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال.

وفيه أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس " قال: زعموا أن اليهود قالوا: يكون منا ملك في آخر الزمان البحر إلى ركبتيه، والسحاب دون رأسه، يأخذ الطير بين السماء والارض، معه جبل خبز ونهر فنزلت: " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس ".

أقول: قد عرفت فيما تقدم أن غرض السورة - كما يستفاد من سياق آياتها - التكلم حول استكبارهم ومجادلتهم في آيات الله بغير الحق فمنها ابتدء الكلام وإليها يعود عودة بعد عودة كقوله: " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " وقوله: " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق "، وقوله: " الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا "، وقوله: " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر "، وقوله: " ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون ".

فسياق آيات السورة يأبى أن يكون بعضها يختص بسبب في نزولها لا يشاركها فيه غيرها كما هو مؤدى هذه الروايات الثلاث.

على أن ما في الروايات من قصة إخبار اليهود بالدجال لا ينطبق على الايتين إنطباقا ظاهرا بعد التأمل في مضمون الايتين نفسهما أعني قوله: " إن الذين يجادلون - إلى قوله - ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".

ومن هذا يظهر أن القول بكون الايتين مدنيتين استنادا إلى هذه الروايات كما ترى.

 

/ صفحة 349 /

* * *

ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون - 69.

الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون - 70.

إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون - 71.

في الحميم ثم في النار يسجرون - 72.

ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون - 73.

من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين - 74.

ذلكم بما كنتم تفرحون في الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون - 75.

أدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين - 76.

فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون - 77.

ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون - 78.

(بيان) رجوع بعد رجوع إلى حديث المجادلين في آيات الله وقد تعرض لبيان مآل أمرهم بذكر ما آل إليه أمر أشباههم من الامم الخالية ونصره تعالى لدينه في أول السورة

 

/ صفحة 350 /

إجمالا ثم بذكر الحال في دعوة موسى (عليه السلام) بالخصوص فيما قصه من قصته ونصره له بالخصوص ثم في ضمن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر ووعده بالنصر.

وهذا آخر كرة عليهم يذكر فيها مآل أمرهم وما يصرفون إليه وهو العذاب المخلد ثم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر وبعده بالنصر ويطيب نفسه بأن وعد الله حق.

قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون " " ألم تر " مفيد للتعجيب و " أنى " بمعنى كيف، والمعنى ألا تعجب أو ألم تعجب من أمر هؤلاء المجادلين في آيات الله كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل وعن الهدى إلى الضلال.

والتعرض لحال المجادلين ههنا من حيث الاشارة إلى كونهم مصروفين عن الحق والهدى ومآل ذلك، وفيما تقدم من قوله: " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه " من حيث إن الداعي لهم إلى ذلك الكبر وأنهم لا يبلغون ما يريدون فلا تكرار.

ومنه يظهر ما في قول بعضهم: إن تكرير ذكر المجادلة محمول على تعدد المجادل بأن يكون المجادلون المذكورون في الاية السابقة غير المذكورين في هذه الاية أو على اختلاف ما فيه المجادلة كأن يكون المجادلة هناك في أمر البعث وههنا في أمر التوحيد على أن فيه غفلة عن غرض السورة كما عرفت.

قوله تعالى: " الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون " الذي يعطيه سياق الايات التالية أن المراد بهؤلاء المجادلين هم المجادلون من قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعليه فالانسب أن يكون المراد بالكتاب هو القرآن الكريم، وبقوله: " بما أرسلنا به رسلنا " ما جاءت به الرسل (عليهم السلام) من عند الله من كتاب ودين فالوثنية منكرون للنبوة.

وقوله: " فسوف يعلمون " تفريع على مجادلتهم وتكذيبهم وتهديد لهم أي سوف يعلمون حقيقة مجادلتهم في آيات الله وتكذيبهم بالكتاب وبالرسل.

قوله تعالى: " إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون " في المجمع: الاغلال جمع غل وهو طوق يدخل في العنق للذل والالم وأصله الدخول، وقال: السلاسل جمع سلسلة وهى الحلق منتظمة في جهة الطول مستمرة