/ صفحة 51 /
قوله تعالى: " هذا نذير من النذر الاولى " قيل: النذير يأتي مصدرا بمعنى الانذار ووصفا بمعنى المنذر ويجمع على النذر بضمتين على كلا المعنيين والاشارة بهذا إلى القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: " أزفت الآزفة " أي قربت القيامة والآزفة من أسماء القيامة قال تعالى: " وأنذرهم يوم الآزفة " المؤمن: 18.
قوله تعالى: " ليس لها من دون الله كاشفة " أي نفس كاشفة والمراد بالكشف إزالة ما فيها من الشدائد والاهوال، والمعنى: ليس نفس تقدر على إزالة ما فيها من الشدائد والاهوال إلا أن يكشفها الله سبحانه.
قوله تعالى: " أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون " الاشارة بهذا الحديث إلى ما تقدم من البيان، والسمود اللهو، والآية متفرعة على ما تقدم من البيان، والاستفهام للتوبيخ.
والمعنى: إذا كان الله هو ربكم الذي ينتهي إليه كل أمر وعليه النشأة الاخرى وكانت القيامة قريبة وليس لها من دون الله كاشفة كان عليكم أن تبكوا لما فرطتم في جنب الله، وتعرضتم للشقاء الدائم أفمن هذا البيان الذي يدعوكم إلى النجاة تعجبون إنكارا وتضحكون استهزاء ولا تبكون؟ قوله تعالى: " فاسجدوا لله واعبدوا " تفريع آخر على ما تقدم من البيان والمعنى: إذا كان كذلك فعليكم أن تسجدوا لله وتعبدوه ليكشف عنكم ما ليس له من دونه كاشفة.
(بحث روائي) في الكشاف في قوله تعالى: " أفرأيت الذي تولى " الخ، روي أن عثمان كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شئ فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فنزلت، ومعنى: " تولى " ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل.
/ صفحة 52 /
أقول: وأورد القصة في مجمع البيان ونسبها إلى ابن عباس والسدي والكلبي وجماعة من المفسرين، وفي انطباق " تولى " على تركه المركز يوم أحد نظر والآيات مكية.
وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: " أفرأيت الذى تولى " قال: الوليد بن المغيرة كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فسمع ما يقولان وذلك ما أعطى من نفسه، أعطى الاستماع " وأكدى " قال: انقطع عطاؤه نزل في ذلك " أعنده علم الغيب " قال: الغيب القرآن أرأى فيه باطلا أنفذه ببصره إذ كان يختلف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر.
أقول: وأنت خبير بأن الآيات بظاهرها لا تنطبق على ما ذكره.
وروي أنها نزلت في العاص بن وائل، وروي أنها نزلت في رجل لم يذكر اسمه.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وإبراهيم الذي وفى " قال: وفى بما أمره الله به من الامر والنهي وذبح ابنه.
وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبى إبراهيم (عليه السلام) قال:: سألته عن الرجل يحج فيجعل حجته وعمرته أو بعض طوافه لبعض أهله وهو عنه غائب في بلد آخر؟ قال: قلت: فينتقص ذلك من أجره؟ قال: هي له ولصاحبه وله أجر سوى ذلك بما وصل.
قلت: وهو ميت أيدخل ذلك عليه؟ قال: نعم حتى يكون مسخوطا عليه فيغفر له أو يكون مضيقا عليه فيوسع له.
قلت: فيعلم هو في مكانه أنه عمل ذلك لحقه؟ قال: نعم.
قلت: وإن كان ناصبا ينفعه ذلك؟ قال: نعم يخفف عنه.
أقول: مورد الرواية إهداء ثواب العمل دون العمل نيابة عن الميت.
وفيه بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يقول الله عز وجل للملك الموكل بالمؤمن إذا مرض: اكتب له ما كنت تكتب له في صحته فإني أنا الذي صيرته في حبالي (1).
وفي الخصال عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس يتبع الرجل بعد موته من الاجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته إلى يوم القيامة صدقة
* (هامش) *
(1) الحبالة: الوثاق.
/ صفحة 53 /
موقوفة لا تورث، وسنة هدى سنها وكان يعمل بها وعمل بها من بعده غيره، وولد صالح يستغفر له.
أقول: وهذه الروايات الثلاث - وفي معناها روايات كثيرة جدا عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) - توسع معنى السعي في قوله تعالى: " وأن ليس للانسان إلا ما سعى " وقد تقدمت إشارة إليها.
وفي اصول الكافي بإسناده إلى سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله يقول: " وإن إلى ربك المنتهى " فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا.
أقول: وهو من التوسعة في معنى الانتهاء.
وفيه بإسناده إلى أبى عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا زياد إياك والخصومات فإنها تورث الشك، وتحبط العمل، وتردي صاحبها، وعسى أن يتكلم بالشئ فلا يغفر له.
إنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به، وطلبوا علم ما كفوه حتى انتهى كلامهم إلى الله فتحيروا حتى كان الرجل يدعى من بين يديه فيجيب من خلفه، ويدعى من خلفه فيجيب من بين يديه.
قال: وفي رواية اخرى: حتى تاهوا في الارض.
وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا.
أقول: وفي النهي عن التفكر في الله سبحانه روايات كثيرة أخر مودعة في جوامع الفريقين، والنهي إرشادي متعلق بمن لا يحسن الورود في المسائل العقلية العميقة فيكون خوضه فيها تعرضا للهلاك الدائم.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وأنه أضحك وأبكى " قال: أبكى السماء بالمطر، وأضحك الارض بالنبات.
أقول: هو من التوسعة في معنى الا بكاء والاضحاك.
وفي المعاني بإسناده إلى السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائهم (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في قول الله عز وجل: " وأنه هو أغنى وأقنى " قال: أغنى كل إنسان بمعيشته، وأرضاه بكسب يده.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وأنه هو رب الشعرى " قال: النجم في السماء يسمى الشعرى كانت قريش وقوم من العرب يعبدونه، وهو نجم يطلع في آخر الليل.
/ صفحة 54 /
أقول: الظاهر أن قوله: وهو نجم يطلع في آخر الليل تعريف له بحسب زمان صدور الحديث وكان في الصيف وإلا فهو يستوفي في مجموع السنة جميع ساعات الليل والنهار.
وفيه في قوله تعالى: " أزفت الآزفة " قال: قربت القيامة.
وفي المجمع في قوله تعالى: " أفمن هذا الحديث تعجبون " يعني بالحديث ما تقدم من الاخبار.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم " أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون " فما رؤي النبي بعدها ضاحكا حتى ذهب من الدنيا.
(سورة القمر مكية، وهي خمس وخمسون آية) بسم الله الرحمن الرحيم.
إقتربت الساعة وانشق القمر - 1.
وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر _ 2.
وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر _ 3.
ولقد جاءهم من الانباء ما فيه مزدجر _ 4.
حكمة بالغة فما تغن النذر _ 5.
فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شئ نكر _ 6.
خشعا أبصارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر _ 7.
مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر _ 8.
/ صفحة 55 /
(بيان) سورة ممحضة في الانذار والتخويف إلا آيتين من آخرها تبشران المتقين بالجنة والحضور عند ربهم.
تبدأ السورة بالاشارة إلى آية شق القمر التي أتى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اقتراح من قومه، وتذكر رميهم له بالسحر وتكذيبهم به واتباعهم الاهواء مع ما جاءهم أنباء زاجرة من أنباء يوم القيامة وأنباء الامم الماضين الهالكين ثم يعيد تعالى عليهم نبذة من تلك الانباء إعادة ساخط معاتب فيذكر سيئ حالهم يوم القيامة عند خروجهم من الاجداث وحضورهم للحساب.
ثم تشير إلى قصص قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون وما نزل بهم من أليم العذاب إثر تكذيبهم بالنذر وليس قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأعز عند الله منهم وما هم بمعجزين، وتختتم السورة ببشرى للمتقين.
والسورة مكية بشهادة سياق آياتها، ولا يعبأ بما قيل: إنها نزلت ببدر وكذا بما قيل: إن بعض آياتها مدنية، ومن غرر آياتها ما في آخرها من آيات القدر.
قوله تعالى: " اقتربت الساعة وانشق القمر " الاقتراب زيادة في القرب فقوله: " اقتربت الساعة " أي قربت جدا، والساعة هي الظرف الذي تقوم فيه القيامة.
وقوله: " وانشق القمر " أي انفصل بعضه عن بعض فصار فرقتين شقتين تشير الآية إلى آية شق القمر التي أجراها الله تعالى على يد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة إثر سؤال المشركين من أهل مكة، وقد استفاضت الروايات على ذلك، واتفق أهل الحديث والمفسرون على قبولها كما قيل.
ولم يخالف فيه منهم إلا الحسن وعطاء والبلخي حيث قالوا: معنى قوله: " انشق القمر " سينشق القمر عند قيام الساعة وإنما عبر بلفظ الماضي لتحقق الوقوع.
وهو مزيف مدفوع بدلالة الآية التالية " وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر " فإن سياقها أوضح شاهد على أن قوله " آية " مطلق شامل لانشقاق القمر فعند وقوعه إعراضهم وقولهم: سحر مستمر ومن المعلوم أن يوم القيامة يوم يظهر فيه الحقائق ويلجؤن فيه إلى المعرفة، ولا معنى حينئذ لقولهم في آية ظاهرة: إنها سحر مستمر فليس إلا أنها
/ صفحة 56 /
آية قد وقعت للدلالة على الحق والصدق وتأتي لهم أن يرموها عنادا بأنها سحر.
ومثله في السقوط ما قيل: إن الآية إشارة إلى ما ذهب إليه الرياضيون أخيرا أن القمر قطعة من الارض كما أن الارض جزء منفصل من الشمس فقوله: " وانشق القمر " اشارة إلى حقيقة علمية لم ينكشف يوم النزول بعد.
وذلك أن هذه النظرية على تقدير صحتها لا يلائمها قوله: " وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر " إذ لم ينقل عن أحد أنه قال: للقمر هو سحر مستمر.
على أن انفصال القمر عن الارض اشتقاق والذي في الآية الكريمة انشقاق، ولا يطلق الانشقاق إلا على تقطع الشئ في نفسه قطعتين دون انفصاله من شئ بعدما كان جزء منه.
ومثله في السقوط ما قيل: إن معنى انشقاق القمر انكشاف الظلمة عند طلوعه وكذا ما قيل: إن انشقاق القمر كناية عن ظهور الامر ووضوح الحق.
والآية لا تخلو من إشعار بأن انشقاق القمر من لوازم اقتراب الساعة.
قوله تعالى: " وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر " الاستمرار من الشئ مرور منه بعد مرور مرة بعد مرة، ولذا يطلق على الدوام والاطراد فقولهم: سحر مستمر أي سحر بعد سحر مداوما.
وقوله: " آية " نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، والمعنى وكل آية يشاهدونها يقولون فيها إنها سحر بعد سحر، وفسر بعضهم المستمر بالمحكم الموثق، وبعضهم بالذاهب الزائل، وبعضهم بالمستبشع المنفور، وهي معان بعيدة.
قوله تعالى: " وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر " متعلق التكذيب بقرينة ذيل الآية هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أتى به من الآيات أي وكذبوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أتى به من الآيات والحال أن كل أمر مستقر سيستقر في مستقره فيعلم أنه حق أو باطل وصدق أو كذب فسيعلمون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صادق أو كاذب، على الحق أو لا فقوله: " وكل أمر مستقر " في معنى قوله: " ولتعلمن نبأه بعد حين " ص: 88.
وقيل متعلق التكذيب انشقاق القمر والمعنى: وكذبوا بانشقاق القمر واتبعوا أهواءهم، وجملة " وكل أمر مستقر " لا تلائمه تلك الملاءمة.
قوله تعالى: " ولقذ جاءهم من الانباء ما فيه مزدجر " المزدجر مصدر ميمي وهو الاتعاظ، وقوله: " من الانباء " بيان لما فيه مزدجر، والمراد بالانباء أخبار الامم
/ صفحة 57 /
الدارجة الهالكة أو أخبار يوم القيامة وقد احتمل كل منهما، والظاهر من تعقيب الآية بأنباء يوم القيامة ثم بأنباء عدة من الامم الهالكة أن المراد بالانباء التي فيها مزدجر جميع ذلك.
قوله تعالى: " حكمة بالغة فما تغن النذر " الحكمة كلمة الحق التي ينتفع بها، والبلوغ وصول الشئ إلى ما تنتهي إليه المسافة ويكنى به عن تمام الشئ وكماله فالحكمة البالغة هي الحكمة التامة الكاملة التي لا نقص فيها من حيث نفسها ومن حيث أثرها.
وقوله: " فما تغن النذر " الفاء فيه فصيحة تفصح عن جملة مقدرة تترتب عليها الكلام، والنذر جمع نذير بمعنى المنذر أو بمعنى الانذار والكل صحيح وإن كلن الاول أقرب إلى الفهم.
والمعنى: هذا القرآن أو الذي يدعون إليه حكمة بالغة كذبوا بها واتبعوا أهواءهم فما تغني المنذرون أو الانذارات؟ قوله تعالى: " فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شئ نكر " التولي الاعراض والفاء في " فتول " لتفريع الامر بالتولي على ما تقدمه من وصف حالهم أي إذا كانوا مكذبين بك متبعين أهواءهم لا يغني فيهم النذر ولا تؤثر فيهم الزواجر فتول عنهم ولا تلح عليهم بالدعوة.
وقوله: " يوم يدع الداع إلى شئ نكر " قال الراغب: الانكار ضد العرفان يقال: أنكرت كذا ونكرت، وأصله أن يرد على القلب ما لا يتصوره، وذلك ضرب من الجهل قال تعالى: " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم ".
قال: والنكر الدهاء والامر الصعب الذي لا يعرف.
انتهى.
وقد تم الكلام في قوله: " فتول عنهم " ببيان حالهم تجاه الحكمة البالغة التي ألقيت إليهم والزواجر التي ذكروا بها على سبيل الانذار، ثم أعاد سبحانه نبذة من تلك الزواجر التي هي أنباء من حالهم يوم القيامة ومن عاقبة حال الامم المكذبين من الماضين في لحن العتاب والتوبيخ الشديد الذي تهز قلوبهم للانتباه وتقطع منابت أعذارهم في الاعراض.
فقوله: " يوم يدع الداع " الخ، كلام مفصول عما قبله لذكر الزواجر التي أشير إليها سابقا في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قال: " فتول عنهم " سئل فقيل: فإلى م يؤل أمرهم؟ فقيل: " يوم يدع " الخ، أي هذه حال آخرتهم وتلك عاقبة دنيا أشياعهم وأمثالهم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، وليسوا خيرا منهم.
وعلى هذا فالظرف في " يوم يدع " متعلق بما سيأتي من قوله: " يخرجون " والمعنى:
/ صفحة 58 /
يخرجون من الاجداث يوم يدعو الداعي إلى شئ نكر الخ، وإما متعلق بمحذوف، والتقدير اذكر يوم يدعو الداعي، والمحصل اذكر ذاك اليوم وحالهم فيه، والآية في معنى قوله: " هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم " الزخرف: 66، وقوله: " فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم " يونس: 102.
ولم يسم سبحانه هذا الداعي من هو؟ وقد نسب الدعوة في موضع من كلامه إلى نفسه فقال: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " أسرى: 52.
وإنما أورد من أنباء القيامة نبأ دعوتهم للخروج من الاجداث والحضور لفصل القضاء وخروجهم منها خشعا أبصارهم مهطعين إلى الداعي ليحاذي به دعوتهم في الدنيا إلى الايمان بالآيات وإعراضهم وقولهم: سحر مستمر.
ومعنى الآية: اذكر يوم يدعو الداعي إلى أمر صعب عليهم وهو القضاء والجزاء.
قوله تعالى: " خشعا أبصارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر " الخشع جمع خاشع والخشوع نوع من الذلة ونسب إلى الابصار لان ظهوره فيها أتم.
والاجداث جمع جدث وهو القبر، والجراد حيوان معروف، وتشبيههم في الخروج من القبور بالجراد المنتشر من حيث أن الجراد في انتشاره يدخل البعض منه في البعض ويختلط البعض بالبعض في جهات مختلفة فكذلك هؤلاء في خروجهم من القبور، قال تعالى: " يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم " المعارج: 44.
قوله تعالى: " مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر " أي حال كونهم مسرعين إلى الداعي مطيعين مستجيبين دعوته يقول الكافرون: هذا يوم عسر أي صعب شديد.
(بحث روائي) في تفسير القمي " اقتربت الساعة " قال: اقتربت القيامة فلا يكون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا القيامة وقد انقضت النبوة والرسالة.
وقوله: " وانشق القمر " فإن قريشا سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يريهم آية فدعا الله فانشق القمر نصفين حتى نظروا إليه ثم التأم فقالوا: هذا سحر مستمر أي صحيح.
/ صفحة 59 /
وفي أمالي الشيخ بإسناده عن عبيد الله بن علي عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: انشق القمر بمكة فلقتين فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشهدوا اشهدوا.
أقول: ورد انشقاق القمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في روايات الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كثيرا وقد تسلمه محدثوهم والعلماء من غير توقف.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير وابن المنذر والترمذي وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة فرقتين فنزلت " اقتربت الساعة وانشق القمر " إلى قوله: " سحر مستمر " أي ذاهب.
وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم وآلبيهقي وكلاهما في الدلائل من طريق مسروق عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقالوا: انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه فأنزل الله " اقتربت الساعة وانشق القمر ".
وفيه أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم والبيهقي وأبو نعيم في الدلائل من طريق مجاهد عن ابن عمر في قوله: " اقتربت الساعة وانشق القمر " قال: كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فرقتين: فرقة من دون الجبل وفرقة خلفه فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد.
وفيه أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير والحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم في قوله: " وانشق القمر " قال: انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار فرقتين: فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل فقال الناس: سحرنا محمد فقال رجل: إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
وفيه أخرج ابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله: " اقتربت الساعة وانشق القمر " قال: قد مضى ذلك قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه.
وفيه أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي عبد الرحمان السلمي قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن
/ صفحة 60 /
فحمد الله وأثنى عليه.
ثم قال: اقتربت الساعة وانشق القمر ألا وإن الساعة قد اقتربت.
ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق.
ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق.
أقول: وقد روي انشقاق القمر بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق مختلفة كثيرة عن هؤلاء النفر من الصحابة وهم أنس، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وجبير بن مطعم، وابن عباس، وحذيفة بن اليمان، وعد في روح المعاني ممن روي عنه الحديث من الصحابة عليا (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم نقل عن السيد الشريف في شرح المواقف وعن ابن السبكي في شرح المختصر أن الحديث متواتر لا يمتري في تواتره.
هذه حال الحديث عند أهل السنة وقد عرفت حاله عند الشيعة.
(كلام فيه إجمال القول في شق القمر) آية شق القمر بيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة باقتراح من المشركين مما تسلمها المسلمون بلا ارتياب منهم.
ويدل عليها من القرآن الكريم دلالة ظاهرة قوله تعالى: " اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر " القمر: 2، فالآية الثانية تأبى إلا أن يكون مدلول قوله: " وانشق القمر " آية واقعة قريبة من زمان النزول أعرض عنها المشركون كسائر الآيات التي أعرضوا عنها وقالوا: سحر مستمر.
ويدل عليها من الحديث روايات مستفيضة متكاثرة رواها الفريقان وتسلمها المحدثون، وقد تقدمت نماذج منها في البحث الروائي.
فالكتاب والسنة يدلان عليها وانشقاق كرة من الكرات الجوية ممكن في نفسه لا دليل على استحالته العقلية، ووقوع الحوادث الخارقة للعادة - ومنها الآيات المعجزات - جائز وقد قدمنا في الجزء الاول من الكتاب تفصيل الكلام فيها إمكانا ووقوعا ومن أوضح الشواهد عليه القرآن الكريم فمن الواجب قبول هذه الآية وإن لم يكن من ضروريات الدين.
واعترض عليها بأن صدور الآية المعجزة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) باقتراح من الناس ينافي قوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما
/ صفحة 61 /
نرسل بالآيات إلا تخويفا " أسرى: 59 فإن مفاد الآية إما أنا لا نرسل بالآيات إلى هذه الامة لان الامم السابقة كذبوا بها وهؤلاء يماثلونهم في طباعهم فيكذبون بها، ولا فائدة في الارسال مع عدم ترتب أثر عليه أو المفاد أنا لا نرسل بها لانا أرسلنا إلى أوليهم فكذبوا بها فعذبوا وأهلكوا ولو أرسلنا إلى هؤلاء لكذبوا بها وعذبوا عذاب الاستئصال لكنا لا نريد أن نعاجلهم بالعذاب، وعلى أي حال لا يرسل بالآيات إلى هذه الامة كما كانت ترسل إلى الامم الدارجة.
نعم هذا في الآيات المرسلة باقتراح من الناس دون الآيات التي تؤيد بها الرسالة كالقرآن المؤيد لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكآيتي العصا واليد لموسى (عليه السلام) وآية إحياء الموتى وغيرها لعيسى (عليه السلام)، وكذا الآيات النازلة لطفا منه سبحانه كالخوارق الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا عن اقتراح منهم.
ومثل الآية السابقة قوله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا - إلى أن قال - قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " أسرى: 93 وغير ذلك من الآيات.
والجواب عن هذا الاعتراض يحتاج إلى تقديم مقدمة هي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث رسولا إلى أهل الدنيا كافة بنبوة خاتمة كما يدل عليه قوله تعالى: " قل يا أيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا " الاعراف: 158، وقوله و: " وأوحي إلي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ " الانعام: 19، وقوله: " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " الاحزاب: 40 إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بدأ (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بمكة بدعوة قومه من أهل مكة وحواليها فقابلوه بما استطاعوا من الشقاق والايذاء والاستهزاء وهموا بإخراجه أو إثباته أو قتله حتى أمره ربه بالهجرة غير أنه آمن به وهو بمكة جمع كثير منهم وإن كانت عامتهم على الكفر والمؤمنون وإن كانوا قليلين بالنسبة إلى المشركين مضطهدين مفتنين لكنهم كانوا في أنفسهم جمعا ذا عدد كما يدل عليه قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة " النساء: 177.
فقد استجازوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقاتلوا المشركين فلم يأذن الله لهم في ذلك على ما روي في سبب نزول الآية، وهذا يدل على أنهم كانوا ذوي عدة وعدة في الجملة ولم يزالوا يزيدون جمعا.
/ صفحة 62 /
ثم هاجر (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة وبسط هنالك الدعوة ونشر الاسلام فيها وفي حواليها وفي القبائل وفي اليمن وسائر أقطار الجزيرة ما عدا مكة وحواليها ثم بسط الدعوة على غير الجزيرة فكاتب الملوك والعظماء من فارس والروم ومصر سنة ست من الهجرة ثم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة وقد أسلم ما بين الهجرة والفتح جمع من أهلها وحواليها.
ثم ارتحل (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان من انتشار الاسلام ما كان، ولم يزل الاسلام يزيد جمعا وينتشر صيتا إلى يومنا هذا وقد بلغوا خمس أهل الارض عددا.
إذا تمهد هذا فنقول: كانت آية انشقاق القمر آية اقتراحية تستعقب العذاب لو كذبوا بها وقد كذبوا وقالوا: سحر مستمر وما كان الله ليهلك بها جميع من أرسل إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم أهل الارض جميعا لعدم تمام الحجة عليهم يومئذ وقد كان الانشقاق سنة خمس قبل الهجرة، وقد قال تعالى: " ليهلك من هلك عن بينة " الانفال: 42.
وما كان الله ليهلك جميع أهل مكة وحواليها خاصة وبينهم جمع من المسلمين كما قال تعالى: " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " الفتح: 25.
وما كان الله سبحانه لينجي المؤمنين ويهلك كفارهم وقد آمن جمع كثير منهم فيما بين سنة خمس قبل الهجرة وسنة ثمان بعد الهجرة عام فتح مكة ثم آمنت عامتهم يوم الفتح والاسلام كان يكتفي منهم بظاهر الشهادتين.
ولم تكن عامة أهل مكة وحواليها أهل عناد وجحود وإنما كان أهل الجحود والعناد عظماؤهم وصناديدهم المستهزئين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المعذبين للمؤمنين، المقترحين عليه بالآيات وهم الذين يقول تعالى فيهم: " إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " البقرة: 6، وقد أوعد الله هؤلاء الجاحدين المقترحين بتحريم الايمان والهلاك في مواضع من كلامه فلم يؤمنوا وأهلكهم الله يوم بدر وتمت كلمة الرب صدقا وعدلا.
وأما التمسك لنفي إرسال الآيات مطلقا بقوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون " فالآية لا تشمل قطعا الآيات المؤيدة للرسالة كالقرآن المؤيد لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذا الآيات النازلة لطفا كالخوارق الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الاخبار بالمغيبات وشفاء المرضى بدعائه وغير ذلك.
فلو كانت مطلقة فإنما تشمل الآيات الاقتراحية وتفيد أن الله سبحانه لم يرسل الآيات
/ صفحة 63 /
التي اقترحتها قريش - أولم (1) يرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالآيات التي اقترحوها - لان الامم السابقة كذبوا بها وطباع هؤلاء المقترحين طباعهم يكذبون بها ولازمها نزول العذاب والله لا يريد أن يعذبهم عاجلا.
وقد أوضح سبحانه سبب عدم معاجلتهم بالعذاب بقوله: " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " الانفال: 33، واستبان بذلك أن المانع من عذابهم وجود الرسول فيهم كما يفيده أيضا قوله تعالى: " وإن كادوا ليستفزونك من الارض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا " أسرى 76.
ثم قال تعالى: " وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " الانفال: 35 والآيات نزلت عقيب غزوة بدر.
والآيات تبين أنه لم يكن من قبلهم مانع من نزول العذاب غير وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم فإذا زال المانع بخروجه من بينهم فليذوقوا العذاب وهو ما أصابهم في وقعة بدر من القتل الذريع.
وبالجملة كان المانع من إرسال الآيات تكذيب الاولين ومماثلتهم لهم في خصيصة التكذيب ووجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم المانع من معاجلة العذاب فإذا وجد مقتض للعذاب كالصد والمكاء والتصدية وزال أحد ركني المانع وهو كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم فلا مانع من العذاب ولا مانع من نزول الآية وإرسالها ليحق عليهم القول فيعذبوا بسبب تكذيبهم لها وبسبب مقتضيات أخر كالصد ونحوه.
فتحصل أن قوله تعالى: " وما منعنا أن نرسل بالآيات " الخ، إنما يفيد الامساك عن إرسال الآيات ما دام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم وأما إرسالها وتأخير العذاب إلى خروجه من بينهم فلا دلالة فيه عليه وقد صرح سبحانه بأن وقعة بدر كانت آية وما أصابهم فيها كان عذابا، وكذا لو كان مفاد الآية هو الامتناع عن الارسال لكونه لغوا بسبب كونهم مجبولين على التكذيب فإن إرسالها مع تأخير العذاب والنكال إلى خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من
* (هامش) *
(1) اول شقى الترديد مبني على كون الباء في قوله: " نرسل بالآيات " زائدة والآيات مفعول نرسل، والثاني مبني على كونها بمعنى المصاحبة والمفعول مخذوفا.
/ صفحة 64 /
بينهم من الفائدة ليحق الله الحق ويبطل الباطل فلتكن آية انشقاق القمر من الآيات النازلة التي من فائدتها نزول العذاب عليهم بعد خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم.
وأما قوله تعالى: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " فليس مدلوله نفي تأييد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالآيات المعجزة وإنكار نزولها من أصلها كيف؟ وهو ينفيها عن نفسه بما أنه بشر رسول، ولو كان المراد ذلك لافاد إنكار معجزات الانبياء جميعا لكون كل منهم بشرا رسولا، وصريح القرآن فيما حدث من قصص الانبياء وأخبر عن آياتهم يناقض ذلك، وأوضح من الجميع في مناقضة ذلك نفس الآية التي هي من القرآن المتحدي بالاعجاز.
بل مدلوله أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر رسول غير قادر من حيث نفسه على شئ من الآيات التي يقترحون عليه، وإنما الامر إلى الله سبحانه إن شاء أنزلها وان لم يشأ لم يفعل قال تعالى: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " الانعام: 109، وقال حاكيا عن قوم نوح: " قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء " هود: 33، وقال: " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله " المؤمن: 87، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومن الاعتراض على آية الانشقاق ما قيل: إن القمر لو انشق كما يقال لرآه جميع الناس ولضبطه أهل الارصاد في الشرق والغرب لكونه من أعجب الآيات السماوية ولم يعهد فيما بلغ الينا من التاريخ والكتب الباحثة عن الاوضاح السماوية له نظير والدواعي متوفرة على استماعه ونقله.
وأجيب بما حاصله أن من الممكن أولا: أن يغفل عنه فلا دليل على كون كل حادث أرضي أو سماوي معلوما للناس محفوظا عندهم يرثه خلف عن سلف.
وثانيا: أن الحجاز وما حولها من البلاد العربية وغيرها لم يكن بها مرصد للاوضاع السماوية، وإنما كان ما كان من المراصد بالهند والمغرب من الروم واليونان وغيرهما ولم يثبت وجود مرصد في هذا الوقت - وهو على ما في بعض الروايات أول الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة سنة خمس قبل الهجرة -.
على أن بلاد الغرب التي كانوا معتنين بهذا الشأن بينها وبين مكة من اختلاف الافق ما
/ صفحة 65 /
يوجب فصلا زمانيا معتدا به وقد كان القمر - على ما في بعض الروايات - بدرا وانشق في حوالي غروب الشمس حين طلوعه ولم يبق على الانشقاق إلا زمانا يسيرا ثم التأم فيقع طلوعه على بلاد الغرب وهو ملتئم ثانيا.
على أنا نتهم غير المسلمين من أتباع الكنيسة والوثنية في الامور الدينية التي لها مساس نفع بالاسلام.
ومن الاعتراض عليها ما قيل: إن الانشقاق لا يقع إلا ببطلان التجاذب بين الشقتين وحينئذ يستحيل الالتيام فلو كان منشقا لم يلتئم أبدا.
والجواب عنه أن الاستحالة العقلية ممنوعة، والاستحالة العادية بمعنى اختراق العادة لو منعت عن الالتيام بعد الانشقاق لمنعت أولا عن الانشقاق بعد الالتيام ولم تمنع وأصل الكلام مبني على جواز خرق العادة.
كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر - 9.
فدعا ربه أني مغلوب فانتصر _ 10.
ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر _ 11.
وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر _ 12.
وحملناه على ذات ألواح ودسر _ 13.
تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر _ 14.
ولقد تركناها آية فهل من مدكر _ 15.
فكيف كان عذابي ونذر _ 16.
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر _ 17.
كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر _ 18.
إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر _ 19.
تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر _ 20.
/ صفحة 66 /
فكيف كان عذابي ونذر _ 21.
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر _ 22.
كذبت ثمود بالنذر _ 23.
فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر _ 24.
ءألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر _ 25.
سيعلمون غدا من الكذاب الاشر _ 26.
إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر _ 27.
ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر _ 28.
فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر _ 29.
فكيف كان عذابي ونذر _ 30.
إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر _ 31.
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر _ 32.
كذبت قوم لوط بالنذر _ 33.
إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر _ 34.
نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر _ 35.
ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر _ 36.
ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر _ 37.
ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر _ 38.
فذوقوا عذابي ونذر _ 39.
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر _ 40.
ولقد جاء آل فرعون النذر _ 41.
كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر _ 42.
/ صفحة 67 /
(بيان) إشارة إلى بعض ما فيه مزدجر من أنباء الامم الدارجة خص بالذكر من بينهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون فذكرهم بأنبائهم وأعاد عليهم إجمال ما قص عليهم سابقا من قصصهم وما آل إليه تكذيبهم بآيات الله ورسله من أليم العذاب وهائل العقاب تقريرا لقوله: " ولقد جاءهم من الانباء ما فيه مزدجر ".
ولتوكيد التقرير وتمثيل ما في هذه القصص الزاجرة من الزجر القارع للقلوب عقب كل واحدة من القصص بقوله خطابا لهم: " فكيف كان عذابي ونذر " ثم ثناه بذكر الغرض من الانذار والتخويف فقال: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ".
قوله تعالى: " كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر " التكذيب الاول منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب، وقوله: " فكذبوا عبدنا " الخ، تفسيره كما في قوله: " ونادى نوح ربه فقال " الخ، هود: 45.
وقيل: المراد بالتكذيب الاول التكذيب المطلق وهو تكذيبهم بالرسل، وبالثاني التكذيب بنوح خاصة كقوله في سورة الشعراء: " كذبت قوم نوح المرسلين " الشعراء: 105، والمعنى: كذبت قوم نوح المرسلين فترتب عليه تكذيبهم لنوح، وهو وجه حسن.
وقيل: المراد بتفريع التكذب على التكذيب الاشارة إلى كونه تكذيبا إثر تكذيب بطول زمان دعوته فكلما انقرض قرن منهم مكذب جاء بعدهم قرن آخر مكذب، وهو معنى بعيد.
ومثله قول بعضهم: إن المراد بالتكذيب الاول قصده وبالثاني فعله.
وقوله: " فكذبوا عبدنا " في التعبير عن نوح (عليه السلام) بقوله: " عبدنا " في مثل المقام تجليل لمقامه وتعظيم لامره وإشارة إلى أن تكذيبهم له يرجع إليه تعالى لانه عبد لا يملك شيئا وما له فهو لله.
وقوله: " وقالوا مجنون وازدجر " المراد بالازدجار زجر الجن له إثر الجنون، والمعنى: ولم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون وازدجره الجن فلا يتكلم إلا عن زجر وليس كلامه من الوحي السماوي في شئ.
/ صفحة 68 /
وقيل: الفاعل المحذوف للازدجار هو القوم، والمعنى: وازدجره القوم عن الدعوة والتبليغ بأنواع الايذاء والتخويف، ولعل المعنى الاول أظهر.
قوله تعالى: " فدعا ربه أني مغلوب فانتصر " الانتصار الانتقام، وقوله: " إني مغلوب " أي بالقهر والتحكم دون الحجة، وهذا الدعاء تلخيص لتفصيل دعائه، وتفصيل دعائه مذكور في سورة نوح وتفصيل حججه في سورة هود وغيرها.
قوله تعالى: " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر " قال في المجمع: الهمر صب الدمع والماء بشدة، والانهمار الانصباب، انتهى.
وفتح أبواب السماء وهي الجو بماء منصب استعارة تمثيلية عن شدة انصباب الماء وجريان المطر متواليا كأنه مدخر وراء باب مسدود يمنع عن انصبابه ففتح الباب فانصب أشد ما يكون.
قوله تعالى: " وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر " قال في المجمع: التفجير تشقيق الارض عن الماء، والعيون جمع عين الماء وهو ما يفور من الارض مستديرا كاستدارة عين الحيوان.
انتهى.
والمعنى: جعلنا الارض عيونا منفجرة عن الماء تجري جريانا متوافقا متتابعا.
وقوله: " فالتقى الماء على أمر قد قدر " أي فالتقى الماء ان ماء السماء وماء الارض مستقرا على أمر قدره الله تعالى أي حسب ما قدر من غير نقيصة ولا زيادة ولا عجل ولا مهل.
فالماء اسم جنس أريد به ماء السماء وماء الارض ولذلك لم يثن، والمراد بأمر قد قدر الصفة التي قدرها الله لهذا الطوفان.
قوله تعالى: " وحملناه على ذات ألواح ودسر " المراد بذات الالواح والدسر السفينة، والالواح جمع لوح وهو الخشبة التي يركب بعضها على بعض في السفينة، والدسر جمع دسار ودسر وهو المسمار الذي تشد بها الالواح في السفينة، وقيل فيه معان أخر لا تلائم الآية تلك الملاءمة.
قوله تعالى: " تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر " أي تجري السفينة على الماء المحيط بالارض بأنواع من مراقبتنا وحفظنا وحراستنا، وقيل: المراد تجري بأعين أوليائنا ومن وكلناه بها من الملائكة.
وقوله: " جزاء لمن كان كفر " أي جريان السفينة كذلك وفيه نجاة من فيها من الهلاك ليكون جزاء لمن كان كفر به وهو نوح (عليه السلام) كفر به وبدعوته قومه، فالآية في معنى
/ صفحة 69 /
قوله: " و نجيناه وأهله من الكرب العظيم - إلى أن قال - إنا كذلك نجزي المحسنين " الصافات: 80.
قوله تعالى: " ولقد تركناها آية فهل من مدكر " ضمير " تركناها " للسفينة على ما يفيده السياق واللام للقسم، والمعنى: أقسم لقد أبقينا تلك السفينة التي نجينا بها نوحا والذين معه، وجعلناها آية يعتبر بها من اعتبر فهل من متذكر يتذكر بها وحدانيته تعالى وأن دعوة أنبيائه حق، وأن أخذه أليم شديد؟ ولازم هذا المعنى بقاء السفينة إلى حين نزول هذه الآيات علامة دالة على واقعة الطوفان مذكرة لها، وقد قال بعضهم في تفسير الآية على ما نقل: أبقى الله سفينة نوح على الجودي حتى أدركها أوائل هذه الامة (1)، انتهى.
وقد أوردنا في تفسير سورة هود في آخر الابحاث حول قصة نوح خبر أنهم عثروا في بعض قلل جبل آراراط وهو الجودي قطعات أخشاب من سفينة متلاشية وقعت هناك، فراجع.
وقيل: ضمير " تركناها " لما مر من القصة بما أنها فعله.
قوله تعالى: " فكيف كان عذابي ونذر " النذر جمع نذير بمعنى الانذار، وقيل: مصدر بمعنى الانذار.
والظاهر أن " كان " ناقصة واسمها " عذابي " وخبرها " فكيف "، ويمكن أن تكون تامة فاعلها قوله: " عذابي " وقوله: " فكيف " حالا منه.
وكيف كان فالاستفهام للتهويل يسجل به شدة العذاب وصدق الانذار.
قوله تعالى: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " التيسير التسهيل وتيسير القرآن للذكر هو إلقاؤه على نحو يسهل فهم مقاصده للعامي والخاصي والافهام البسيطة والمتعمقة كل على مقدار فهمه.
ويمكن أن يراد به تنزيل حقائقه العالية ومقاصده المرتفعة عن افق الافهام العادية إلى مرحلة التكليم العربي تناله عامة الافهام كما يستفاد من قوله تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " الزخرف: 4.
والمراد بالذكر ذكره تعالى بأسمائه أو صفاته أو أفعاله " قال في المفردات: الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للانسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ
* (هامش) *
(1) رواه في الدر المنثور عن عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.
/ صفحة 70 /
إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه، والذكر يقال اعتبارا باستحضاره وتارة يقال لحضور الشئ القلب أو القول، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له ذكر.
انتهى.
ومعنى الآية: وأقسم لقد سهلنا القرآن لان يتذكر به، فيذكر الله تعالى وشؤونه، فهل من متذكر يتذكر به فيؤمن بالله ويدين بما يدعو إليه من الدين الحق؟ فالآية دعوة عامة إلى التذكر بالقرآن بعد تسجيل صدق الانذار وشدة العذاب الذي أنذر به.
قوله تعالى: " كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر " شروع في قصة اخرى من القصص التي فيها الازدجار ولم يعطف على ما قبلها - ومثلها القصص الآتية - لان كل واحدة من هذه القصص مستقلة كافية في الزجر والردع والعظة لو اتعظوا بها.
وقوله: " فكيف كان عذابي ونذر " مسوق لتوجيه قلوب السامعين إلى ما يلقى إليهم من كيفية العذاب الهائل بقوله: " إنا أرسلنا " الخ، وليس مسوقا للتهويل وتسجيل شدة العذاب وصدق الانذار كسابقه وإلا لتكرر قوله بعد: " فكيف كان " الخ، كذا قيل وهو وجه حسن.
قوله تعالى: " إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر " بيان لما استفهم عنه في قوله: " فكيف كان عذابي ونذر " والصرصر - على ما في المجمع - الريح الشديدة الهبوب، والنحس بالفتح فالسكون مصدر كالنحوسة بمعنى الشؤم، و " مستمر " صفة لنحس، ومعنى إرسال الريح في يوم نحس مستمر إرسالها في يوم متلبس بالنحوسة والشأمة بالنسبة إليهم المستمرة عليهم لا يرجى فيه خير لهم ولا نجاة.
والمراد باليوم قطعة من الزمان لا اليوم الذي يساوي سبع الاسبوع لقوله تعالى في موضع آخر من كلامه: " فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات " حم السجدة 16، وفي موضع آخر: " سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما " الحاقة: 7.
وفسر بعضهم النحس بالبرد.
قوله تعالى: " تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر " فاعل " تنزع " ضمير راجع إلى
/ صفحة 71 /
الريح أي تنزع الريح الناس من الارض، وأعجاز النخل أسافله، والمنقعر المقلوع من أصله، والمعنى ظاهر، وفي الآية إشعار ببسطة القوم أجساما.
قوله تعالى: " فكيف كان عذابي - إلى قوله - مدكر " تقدم تفسير الآيتين.
(كلام في سعادة الايام ونحوستها والطيرة والفأل، في فصول) 1 - في سعادة الايام ونحوستها: نحوسة اليوم أو أي مقدار من الزمان أن لا يعقب الحوادث الواقعة فيه إلا الشر ولا يكون الاعمال أو نوع خاص من الاعمال فيه مباركة لعاملها، وسعادته خلافه.
ولا سبيل لنا إلى إقامة البرهان على سعادة يوم من الايام أو زمان من الازمنة ولا نحوسته وطبيعة الزمان المقدارية متشابهة الاجزاء والابعاض، ولا إحاطة لنا بالعلل والاسباب الفاعلة المؤثرة في حدوث الحوادث وكينونة الاعمال حتى يظهر لنا دوران اليوم أو القطعة من الزمان من علل وأسباب تقتضي سعادته أو نحوسته، ولذلك كانت التجربة الكافية غير متأتية لتوقفها على تجرد الموضوع لاثره حتى يعلم أن الاثر أثره وهو غير معلوم في المقام.
ولما مر بعينه لم يكن لنا سبيل إلى إقامة البرهان على نفي السعادة والنحوسة كما لم يكن سبيل إلى الاثبات وإن كان الثبوت بعيدا فالبعد غير الاستحالة.
هذا بحسب النظر العقلي.
وأما بحسب النظر الشرعي ففى الكتاب ذكر من النحوسة وما يقابلها، قال تعالى: " إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر " القمر: 19، وقال: " فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات " حم السجدة: 16، لكن لا يظهر من سياق القصة ودلالة الآيتين أزيد من كون النحوسة والشؤم خاصة بنفس الزمان الذي كانت تهب عليهم فيه الريح عذابا وهو سبع ليال وثمانية أيام متوالية يستمر عليهم فيها العذاب من غير أن تدور بدوران الاسابيع وهو ظاهر وإلا كان جميع الزمان نحسا، ولا بدوران الشهور والسنين.
وقال تعالى: " والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة " الدخان: 3، والمراد بها ليلة القدر التي يصفها الله تعالى بقوله: " ليلة القدر خير من ألف شهر " القدر: 3، وظاهر
/ صفحة 72 /
أن مباركة هذه الليلة وسعادتها إنما هي بمقارنتها نوعا من المقارنة لامور عظام من الافاضات الباطنية الالهية وأفاعيل معنوية كإبرام القضاء ونزول الملائكة والروح وكونها سلاما، قال تعالى: " فيها يفرق كل أمر حكيم " الدخان: 4، وقال: " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر " القدر: 5.
ويؤل معنى مباركتها وسعادتها إلى فضل العبادة والنسك فيها وغزارة ثوابها وقرب العناية الالهية فيها من المتوجهين إلى ساحة العزة والكبرياء.
وأما السنة فهناك روايات كثيرة جدا في السعد والنحس من أيام الاسبوع ومن أيام الشهور العربية ومن أيام شهور الفرس ومن أيام الشهور الرومية، وهي روايات بالغة في الكثرة مودعة في جوامع الحديث (1) أكثرها ضعاف من مراسيل ومرفوعات وإن كان فيها ما لا يخلو من اعتبار من حيث أسنادها.
أما الروايات العادة للايام النحسة كيوم الاربعاء والاربعاء لا تدور (2) وسبعة أيام من كل شهر عربي ويومين من كل شهر رومي ونحو ذلك، ففي كثير منها وخاصة فيما يتعرض لنحوسة أيام الاسبوع وأيام الشهور العربية تعليل نحوسة اليوم بوقوع حوادث مرة غير مطلوبة بحسب المذاق الديني كرحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهادة الحسين (عليه السلام) وإلقاء إبراهيم (عليه السلام) في النار ونزول العذاب بامة كذا وخلق النار وغير ذلك.
ومعلوم أن في عدها نحسة مشومة وتجنب اقتراب الامور المطلوبة وطلب الحوائج التي يلتذ الانسان بالحصول عليها فيها تحكيما للتقوى وتقوية للروح الدينية وفي عدم الاعتناء والاهتمام بها والاسترسال في الاشتغال بالسعي في كل ما تهواه النفس في أي وقت كان إضرابا عن الحق وهتكا لحرمة الدين وإزراء لاوليائه، فتؤل نحوسة هذه الايام إلى جهات من الشقاء المعنوي منبعثة عن علل وأسباب اعتبارية مرتبطة نوعا من الارتباط بهذه الايام تفيد نوعا من الشقاء الديني على من لا يعتنى بأمرها.
وأيضا قد ورد في عدة من هذه الروايات الاعتصام بالله بصدقة أو صوم أو دعاء أو قراءة شئ من القرآن أو غير ذلك لدفع نحوسة هذه الايام كما عن مجالس ابن الشيخ بإسناده
* (هامش) *
(1) أوردت منها في الجزء الرابع عشر من كتاب البحار أحاديث جمة.
(2) اربعاء لا تدور هي آخر اربعاء في الشهر.
/ صفحة 73 /
عن سهل بن يعقوب الملقب بأبي نواس عن العسكري (عليه السلام) في حديث قلت: يا سيدي في أكثر هذه الايام قواطع عن المقاصد لما ذكر فيها من النحس والمخاوف فتدلني على الاحتراز من المخاوف فيها فإنما تدعوني الضرورة إلى التوجه في الحوائج فيها؟ فقال لي: يا سهل إن لشيعتنا بولايتنا لعصمة لو سلكوا بها في لجة البحار الغامرة وسباسب (1) البيداء الغائرة بين سباع وذئاب وأعادي الجن والانس لامنوا من مخاوفهم بولايتهم لنا، فثق بالله عز وجل وأخلص في الولاء لائمتك الطاهرين وتوجه حيث شئت واقصد ما شئت - الحديث.
ثم أمره (عليه السلام) بشئ من القرآن والدعاء أن يقرأه ويدفع به النحوسة والشأمة ويقصد ما شاء.
وفي الخصال بإسناده عن محمد بن رياح الفلاح قال: رأيت أبا إبراهيم (عليه السلام) يحتجم يوم الجمعة فقلت: جعلت فداك تحتجم يوم الجمعة؟ قال: أقرأ آية الكرسي فإذا هاج بك الدم ليلا كان أو نهارا فاقرأ آية الكرسي واحتجم.
وفي الخصال أيضا بإسناده عن محمد بن أحمد الدقاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثاني (عليه السلام) أسأله عن الخروج يوم الاربعاء لا تدور، فكتب (عليه السلام): من خرج يوم الاربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة وقي من كل آفة وعوفي من كل عاهة وقضى الله له حاجته.
وكتب إليه مرة اخرى يسأله عن الحجامة يوم الاربعاء لا تدور، فكتب (عليه السلام): من احتجم في يوم الاربعاء لا تدور خلافا على أهل الطيرة عوفي من كل آفة، ووقى من كل عاهة، ولم (2) تخضر محاجمه.
وفي معناها ما في تحف العقول: قال الحسين بن مسعود: دخلت على أبي الحسن علي ابن محمد (عليه السلام) وقد نكبت إصبعي وتلقاني راكب وصدم كتفي، ودخلت في زحمة فخرقوا علي بعض ثيابي فقلت: كفاني الله شرك من يوم فما أيشمك.
فقال (عليه السلام) لي: يا حسن هذا وأنت تغشانا ترمي بذنبك من لا ذنب له؟ قال الحسن: فأثاب إلي عقلي وتبيثت خطاي فقلت: يا مولاي أستغفر الله.
فقال:
* (هامش) *
(1) السباسب جمع سبسب: المفازة.
(2) هذه الجملة إشارة إلى نفي ما في عدة من الروايات أن من احتجم في يوم الاربعاء أو يوم الاربعاء لا تدور خضرت محاجمه، وفي بعضها خيف عليه أن تحضر محاجمه.
/ صفحة 74 /
يا حسن ما ذنب الايام حتى صرتم تتشاءمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها؟ قال الحسن: أنا أستغفر الله أبدا، وهي توبتي يا ابن رسول الله.
قال: ما ينفعكم ولكن الله يعاقبكم بذمها على ما لا ذم عليها فيه.
أما علمت يا حسن أن الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالاعمال عاجلا وآجلا؟ قلت: بلى يا مولاي.
قال: لا تعد ولا تجعل للايام صنعا في حكم الله.
قال الحسن: بلى يا مولاي.
والروايات السابقة - ولها نظائر في معناها - يستفاد منها أن الملاك في نحوسة هذه الايام النحسات هو تطير عامة الناس بها وللتطير تأثير نفساني كما سيأتي، وهذه الروايات تعالج نحوستها التي تأتيها من قبل الطيرة بصرف النفس عن الطيرة إن قوي الانسان على ذلك، وبالالتجاء إلى الله سبحانه والاعتصام به بقرآن يتلوه أو دعاء يدعو به إن لم يقو عليه بنفسه.
وحمل بعضهم هذه الروايات المسلمة لنحوسة بعض الايام على التقية، وليس بذاك البعيد فإن التشاؤم والتفاؤل بالازمنة والامكنة والاوضاع والاحوال من خصائص العامة يوجد منه عندهم شئ كثير عند الامم والطوائف المختلفة على تشتتهم وتفرقهم منذ القديم إلى يومنا وكان بين الناس حتى خواصهم في الصدر الاول في ذلك روايات دائرة يسندونها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يسع لاحد أن يردها كما في كتاب المسلسلات بإسناده عن الفضل بن الربيع قال: كنت يوما مع مولاي المأمون فأردنا الخروج يوم الاربعاء فقال المأمون: يوم مكروه سمعت أبي الرشيد يقول: سمعت المهدي يقول: سمعت المنصور يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي عليا يقول: سمعت أبي عبد الله بن عباس يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن آخر الاربعاء في الشهر يوم نحس مستمر.
وأما الروايات الدالة على الايام السعيدة من الاسبوع وغيرها فالوجه فيها نظير ما تقدمت إليه الاشارة في الاخبار الدالة على نحوستها من الوجه الاول فإن في هذه الاخبار تعليل بركة ما عده من الايام السعيدة بوقوع حوادث متبركة عظيمة في نظر الدين كولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعثته وكما ورد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا فقال: اللهم بارك لامتي في بكورها يوم سبتها وخميسها، وما ورد أن الله ألان الحديد لداود (عليه السلام) يوم الثلاثاء، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخرج للسفر يوم الجمعة، وأن الاحد من أسماء الله تعالى.
فتبين مما تقدم على طوله أن الاخبار الواردة في سعادة الايام ونحوستها لاتدل على أزيد
/ صفحة 75 /
من ابتنائهما على حوادث مرتبطة بالدين توجب حسنا وقبحا بحسب الذوق الديني أو بحسب تأثير النفوس، وأما اتصاف اليوم أو أي قطعة من الزمان بصفة الميمنة أو المشأمة واختصاصه بخواص تكوينية عن علل وأسباب طبيعية تكوينية فلا، وما كان من الاخبار ظاهرا في خلاف ذلك فإما محمول على التقية أو لا اعتماد عليه.
2 - في سعادة الكواكب ونحوستها وتأثير الاوضاع السماوية في الحوادث الارضية سعادة ونحوسة.
الكلام في ذلك من حيث النظر العقلي كالكلام في سعادة الايام ونحوستها فلا سبيل إلى إقامة البرهان على شئ من ذلك كسعادة الشمس والمشتري وقران السعدين ونحوسة المريخ وقران النحسين والقمر في العقرب.
نعم كان القدماء من منجمي الهند يرون للحوادث الارضية ارتباطا بالاوضاع السماوية مطلقا أعم من أوضاع الثوابت والسيارات، وغيرهم يرى ذلك بين الحوادث وبين أوضاع السيارات السبع دون الثوابت وأوردوا لاوضاعها المختلفة خواص وآثارا تسمى بأحكام النجوم يرون عند تحقق كل وضع أنه يعقب وقوع آثاره.
والقوم بين قائل بأن الاجرام الكوكبية موجودات ذوات نفوس حية مريدة تفعل أفاعيلها بالعلية الفاعلية، وقائل بأنها أجرام غير ذات نفس تؤثر أثرها بالعلية الفاعلية، أو هي معدات لفعله تعالى وهو الفاعل للحوادث أو أن الكواكب وأوضاعها علامات للحوادث من غير فاعلية ولا إعداد، أو أنه لا شئ من هذه الارتباطات بينها وبين الحوادث حتى على نحو العلامية وإنما جرت عادة الله على أن يحدث حادثة كذا عند وضع سماوي، كذا.
وشئ من هذه الاحكام ليس بدائمي مطرد بحيث يلزم حكم كذا وضعا كذا فربما تصدق وربما تكذب لكن الذي بلغنا من عجائب القصص والحكايات في استخراجاتهم يعطي أن بين الاوضاع السماوية والحوادث الارضية ارتباطا ما إلا أنه في الجملة لا بالجملة كما أن بعض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يصدق ذلك كذلك.
وعلى هذا لا يمكن الحكم البتي بكون كوكب كذا أو وضع كذا سعدا أو نحسا وأما أصل ارتباط الحوادث والاوضاع السماوية والارضية بعضها ببعض فليس في وسع الباحث الناقد إنكار ذلك.
وأما القول بكون الكواكب أو الاوضاع السماوية ذوات تأثير فيما دونها سواء قيل
/ صفحة 76 /
بكونها ذوات نفوس ناطقة أو لم يقل فليس مما يخالف شيئا من ضروريات الدين إلا أن يقال بكونها خالقة موجدة لما دونها من غير أن ينتهي ذلك إليه تعالى فيكون شركا لكنه لا قائل به حتى من وثنية الصابئة التي تعبد الكواكب، أو أن يقال بكونها مدبرة للنظام الكوني مستقلة في التدبير فيكون ربوبية تستعقب المعبودية فيكون شركا كما عليه الصابئة عبدة الكواكب.
وأما الروايات الواردة في تأثير النجوم سعدا ونحسا وتصديقا وتكذيبا فهي كثيرة جدا على أقسام: منها: ما يدل بظاهره على تسليم السعادة والنحوسة فيها كما في الرسالة الذهبية عن الرضا (عليه السلام): اعلم أن جماعهن والقمر في برج الحمل أو الدلو من البروج أفضل وخير من ذلك أن يكون في برج الثور لكونه شرف القمر.
وفي البحار عن النوادر بإسناده عن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سافر أو تزوج والقمر في العقرب لم ير الحسنى الخبر، وفي كتاب النجوم لابن طاووس عن على (عليه السلام): يكره أن يسافر الرجل في محاق الشهر وإذا كان القمر في العقرب.
ويمكن حمل أمثال هذه الروايات على التقية على ما قيل، أو على مقارنة الطيرة العامة كما ربما يشعر به ما في عدة من الروايات من الامر بالصدقة لدفع النحوسة كما في نوادر الراوندي بإسناده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن جده في حديث: إذا أصبحت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس ذلك اليوم، وإذا أمسيت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس تلك الليلة الخبر، ويمكن أن يكون ذلك لارتباط خاص بين الوضع السماوي والحادثة الارضية بنحو الاقتضاء.
ومنها: ما يدل على تكذيب تأثيرات النجوم في الحوادث والنهي الشديد عن الاعتقاد بها والاشتغال بعلمها كما في نهج البلاغة: المنجم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر والكافر في النار.
ويظهر من أخبار أخر تصدقها وتجوز النظر فيها أن النهي عن الاشتغال بها والبناء عليها إنما هو فيما اعتقد لها استقلال في التأثير لتأديته إلى الشرك كما تقدم.
ومنها: ما يدل على كونه حقا في نفسه غير أن قليله لا ينفع وكثيره لا يدرك كما في الكافي بإسناده عن عبد الرحمان بن سيابة قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك
/ صفحة 77 /
إن الناس يقولون: إن النجوم لا يحل النظر فيها وهو يعجبني فإن كانت تضر بديني فلا حاجة لي في شئ يضر بديني، وإن كانت لا تضر بديني فو الله إني لاشتهيها وأشتهي النظر فيها.
فقال: ليس كما يقولون لا يضر بدينك ثم قال: إنكم تنظرون في شئ منها كثيره لا يدرك وقليله لا ينتفع به.
الخبر.
وفي البحار عن كتاب النجوم لابن طاوس عن معاوية بن حكيم عن محمد بن زياد عن محمد بن يحيى الخثعمي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن النجوم حق هي؟ قال لي: نعم فقلت له: وفي الارض من يعلمها؟ قال: نعم وفي الارض من يعلمها، وفي عدة من الروايات: ما يعلمها إلا أهل بيت من الهند وأهل بيت من العرب وفي بعضها: من قريش.
وهذه الروايات تؤيد ما قدمناه من أن بين الاوضاع والاحكام ارتباطا ما في الجملة.
نعم ورد في بعض هذه الروايات أن الله أنزل المشتري على الارض في صورة رجل فلقي رجلا من العجم فعلمه النجوم حتى ظن أنه بلغ ثم قال له: انظر أين المشتري؟ فقال: ما أراه في الفلك وما أدري أين هو؟ فنحاه وأخذ بيد رجل من الهند فعلمه حتى ظن أنه قد بلغ وقال: انظر إلى المشتري أين هو؟ فقال: إن حسابي ليدل على أنك أنت المشتري قال: فشهق شهقة فمات وورث علمه أهله فالعلم هناك.
الخبر، وهو أشبه بالموضوع.
3 - في التفاؤل والتطير وهما الاستدلال بحادث من الحوادث على الخير وترقبه وهو التفاؤل أو على الشر وهو التطير وكثيرا ما يؤثران ويقع ما يترقب منهما من خير أو شر وخاصة في الشر وذلك تأثير نفساني.
وقد فرق الاسلام بين التفاؤل والتطير فأمر بالتفاؤل ونهى عن التطير، وفي ذلك تصديق لكون ما فيهما من التأثير تأثيرا نفسانيا.
أما التفاؤل ففيما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تفاءلوا بالخير تجدوه، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) كثير التفاؤل نقل عنه ذلك في كثير من مواقفه (1).
وأما التطير فقد ورد في مواضع من الكتاب نقله عن أمم الانبياء في دعواتهم لهم حيث كانوا يظهرون لانبيائهم أنهم اطيروا بهم فلا يؤمنون، وأجاب عن ذلك انبياؤهم
* (هامش) *
(1) كما ورد في قصة الحديبية: جاء سهيل بن عمرو فقال صلى الله عليه وآله: قد سهل عليكم أمركم.
وكما في قصة كتابه إلى خسرو برويز يدعوه إلى الاسلام فمزق كتابه وأرسل إليه قبضة من تراب فتفاءل صلى الله عليه وآله منه أن المؤمنين سيملكون أرضهم.
/ صفحة 78 /
بما حاصله أن التطير لا يقلب الحق باطلا ولا الباطل حقا، وأن الامر إلى الله سبحانه لا إلى الطائر الذي لا يملك لنفسه شيئا فضلا عن أن يملك لغيره الخير والشر والسعادة والشقاء قال تعالى: " قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم " يس: 19، أي ما يجر اليكم الشر هو معكم لا معنا، وقال: " قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله " النمل: 47، أي الذي يأتيكم به الخير أو الشر عند الله فهو الذي يقدر فيكم ما يقدر لا أنا ومن معي فليس لنا من الامر شئ.
وقد وردت أخبار كثيرة في النهي عن الطيرة وفي دفع شؤمها بعدم الاعتناء أو بالتوكل والدعاء، وهي تؤيد ما قدمناه من أن تأثيرها من التأثيرات النفسانية ففي الكافي بإسناده عن عمرو بن حريث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): الطيرة على ما تجعلها إن هونتها تهونت، وإن شددتها تشددت، وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا.
ودلالة الحديث على كون تأثيرها من التأثيرات النفسانية ظاهرة، ومثله الحديث المروي من طرق أهل السنة: ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة والحسد والظن.
قيل: فما نصنع؟ قال: إذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق.
وفي معناه ما في الكافي عن القمي عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كفارة الطيرة التوكل.
الخبر وذلك أن في التوكل إرجاع أمر التأثير إلى الله تعالى، فلا يبقى للشئ أثر حتى يتضرر به، وفي معناه ما ورد من طرق أهل السنة على ما في نهاية ابن الاثير: الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل.
وفي المعنى السابق ما روي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال: الشؤم للمسافر في طريقه سبعة أشياء: الغراب الناعق عن يمينه، والكلب الناشر لذنبه، والذئب العاوي الذي يعوي في وجه الرجل وهو مقع على ذنبه ثم يرتفع ثم ينخفض ثلاثا، والظبي السانح عن يمين إلى شمال، والبومة الصارخة، والمرأة الشمطاء تلقى فرجها، والاتان العضبان يعني الجدعاء، فمن أوجس في نفسه منهن شيئا فليقل: اعتصمت بك يا رب من شر ما أجد في نفسي فيعصم من ذلك (1).
* (هامش) *
(1) الخبر على ما في البحار مذكور في الكافي والخصال والمحاسن والفقيه وما في المتن مطابق لبعض نسخ الفقبه.
/ صفحة 79 /
ويلحق بهذا البحث الكلامي في نحوسة سائر الامور المعدودة عند العامة مشؤمة نحسة كالعطاس مرة واحدة عند العزم على أمر وغير ذلك وقد وردت في النهي عن التطير بها والتوكل عند ذلك روايات في أبواب متفرقة، وفي النبوي المروي من طرق الفريقين: لا عدوى (1)، ولا طيرة، ولا هامة، ولا شؤم، ولا صفر، ولا رضاع بعد فصال، ولا تعرب بعد هجرة، ولا صمت يوما إلى الليل، ولا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك، ولا يتم بعد إدراك.
قوله تعالى: " كذبت ثمود بالنذر " النذر إما مصدر كما قيل والمعنى: كذبت ثمود بإنذار نبيهم صالح (عليه السلام)، وإما جمع نذير بمعنى المنذر، والمعنى: كذبت ثمود بالانبياء لان تكذيبهم بالواحد منهم تكذيب منهم بالجميع لان رسالتهم واحدة لا اختلاف فيها فيكون في معنى قوله: " كذبت ثمود المرسلين " الشعراء: 141، وإما جمع نذير بمعنى الانذار ومرجعه إلى أحد المعنيين السابقين.
قوله تعالى: " فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر " تفريع على التكذيب والسعر جمع سعير بمعنى النار المشتعلة، واحتمل أن يكون بمعنى الجنون وهو أنسب للسياق، والظاهر أن المراد بالواحد الواحد العددي، والمعنى: كذبوا به فقالوا: أبشرا من نوعنا وهو شخص واحد لا عدة له ولا جموع معه نتبعه إنا إذا مستقرون في ضلال عجيب وجنون.
فيكون هذا القول توجيها منهم لعدم اتباعهم لصالح لفقده العدة والقوة وهم قد اعتادوا على اتباع من عنده ذلك كالملوك والعظماء وقد كان صالح (عليه السلام) يدعوهم إلى طاعة نفسه ورفض طاعة عظمائهم كما يحكيه الله سبحانه عنه بقوله: " فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين " الشعراء: 151.
* (هامش) *
(1) العدوى مصدر كالاعداء بمعنى تجاوز مرض المريض منه إلى غيره كما يقال في الجرب والوباء والجدري وغيرها، والمراد بنفي العدوى كما يفيده مورد الرواية أن يكون العدوى مقتضى المرض من غير انتساب إلى مشية الله تعالى، والهامة ما كان أهل الجاهلية يزعمون أن روح القتيل تصير طائرا يأوى إلى قبره وسصبح ويشتكي العطش حتى يؤخذ بثأره، والصفر هو التصفير عند سقاية الحيوان وغيره.
/ صفحة 80 /
ولو أخذ الواحد واحدا نوعيا كان المعنى: أبشرا هو واحد منا أي هو مثلنا ومن نوعنا نتبعه؟ وكانت الآية التالية مفسرة لها.
قوله تعالى: " ءألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر " الاستفهام كسابقه للانكار والمعنى: ءأنزل الوحي عليه واختص به من بيننا ولا فضل له علينا؟ لا يكون ذلك أبدا، والتعبير بالالقاء دون الانزال ونحوه للاشعار بالعجلة كما قيل.
ومن المحتمل أن يكون المراد نفي أن يختص بإلقاء الذكر من بينهم وهو بشر مثلهم فلو كان الوحي حقا وجاز أن ينزل على البشر لنزل على البشر كلهم فما باله اختص بما من شأنه أن يرزقه الجميع؟ فتكون الآية في معنى قولهم له كما في سورة الشعراء: " ما أنت إلا بشر مثلنا " الشعراء: 154.
وقوله: " بل هو كذاب أشر " أي شديد البطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بهذا الطريق.
قوله تعالى: " سيعلمون غدا من الكذاب الاشر " حكاية قوله سبحانه لصالح (عليه السلام) كالآيتين بعدها.
والمراد بالغد العاقبة من قولهم: إن مع اليوم غدا، يشير سبحانه به إلى ما سينزل عليهم من العذاب فيعلمون عند ذلك علم عيان من هو الكذاب الاشر صالح أو هم؟ قوله تعالى: " إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر " في مقام التعليل لما أخبر من أنهم سينزل عليهم العذاب والمفاد أنهم سينزل عليهم العذاب لانا فاعلون كذا وكذا، والفتنة الامتحان والابتلاء، والمعنى: إنا مرسلون - على طريق الاعجاز - الناقة التي يسألونها امتحانا لهم فانتظرهم واصبر على أذاهم.
قوله تعالى: " ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر " ضمير الجمع الاول للقوم والثاني للقوم والناقة على سبيل التغليب، والقسمة بمعنى المقسوم، والشرب النصيب من شرب الماء، والمعنى: وخبرهم بعد إرسال الناقة أن الماء مقسوم بين القوم وبين الناقة كل نصيب من الشرب يحضر عنده صاحبه فيحضر القوم عند شربهم والناقة عند شربها قال تعالى: " قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم " الشعراء: 155.
قوله تعالى: " فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر " المراد بصاحبهم عاقر الناقة، والتعاطي التناول والمعنى: فنادى القوم عاقر الناقة لعقرها فتناول عقرها فعقرها وقتلها.
/ صفحة 81 /
قوله تعالى: " فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر " المحتظر صاحب الحظيرة وهي كالحائط يعمل ليجعل فيه الماشية، وهشيم المحتظر الشجر اليابس ونحوه يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " ولقد يسرنا " الخ تقدم تفسيره.
قوله تعالى: " كذبت قوم لوط بالنذر " تقدم تفسيره في نظيره.
قوله تعالى: " إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر " الحاصب الريح التي تأتي بالحجارة والحصباء، والمراد بها الريح التي أرسلت فرمتهم بسجيل منضود.
وقال في مجمع البيان سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الاسحار يقال: رأيت زيدا سحرا من الاسحار فإذا أردت سحر يومك قلت: أتيته بسحر - بالفتح - وأتيته سحر - من غير تنوين - انتهى، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر " " نعمة " مفعول له من " نجيناهم " أي نجيناهم ليكون نعمة من عندنا نخصهم بها لانهم كانوا شاكرين لنا وجزاء الشكر لنا النجاة.
قوله تعالى: " ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر " ضمير الفاعل في " أنذرهم " للوط (عليه السلام)، والبطشة الاخذة الشديدة بالعذاب، والتماري الاصرار على الجدال وإلقاء الشك، والنذر الانذار، والمعنى: أقسم لقد خوفهم لوط أخذنا الشديد فجادلوا في إنذاره وتخويفه.
قوله تعالى: " ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر " مراودته عن ضيفه طلبهم منه أن يسلم إليهم أضيافه وهم الملائكة، وطمس أعينهم محوها، وقوله: " فذوقوا عذابي ونذر " التفات إلى خطابهم تشديدا وتقريعا، والنذر مصدر أريد به ما يتعلق به الانذار وهو العذاب، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر " قال في مجمع البيان: وقوله: " بكرة " ظرف زمان فإذا كان معرفة بأن تريد بكرة يومك تقول: أتيته بكرة وغدوة لم تصرفهما فبكرة هنا - وقد نون - نكرة، والمراد باستقرار العذاب حلوله بهم وعدم تخلفه عنهم.
/ صفحة 82 /
قوله تعالى: " فكيف كان عذابي - إلى قوله - من مدكر " تقدم تفسيره.
قوله تعالى: " ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر " المراد بالنذر الانذار، وقوله: " كذبوا بآياتنا " مفصول من غير عطف لكونه جوابا لسؤال مقدر كأنه لما قيل: " ولقد جاء آل فرعون النذر " قيل: فما فعلوا؟ فاجيب بقوله: " كذبوا بآياتنا "، وفرع عليه قوله: " فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ".
(بحث روائي) في روح المعاني في قوله تعالى: " ولقد يسرنا القرآن للذكر " أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: " لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى.
قال: وأخرج الديلمي مرفوعا عن أنس مثله.
ثم قال: ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرا للآية.
أقول: وليس من البعيد أن يكون المراد المعنى الثاني الذي قدمناه في تفسير الآية.
وفي تفسير القمي في قوله: " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر " قال: صب بلا قطر " وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء " قال: ماء السماء وماء الارض " على أمر قد قدر وحملناه " يعني نوحا " على ذات ألواح ودسر " قال: الالواح السفينة والدسر المسامير.
وفيه في قوله تعالى: " فنادوا صاحبهم " قال: قدار الذي عقر الناقة، وقوله: " كهشيم " قال: الحشيش والنبات.
وفي الكافي بإسناده عن أبي يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث يذكر فيه قصة قوم لوط قال: فكابروه يعني لوطا حتى دخلوا البيت فصاح به جبرئيل فقال: يا لوط دعهم فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم وهو قول الله عز وجل: " فطمسنا على أعينهم ".
أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر _ 43.
أم
/ صفحة 83 /
يقولون نحن جميع منتصر _ 44.
سيهزم الجمع ويولون الدبر _ 45.
بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر _ 46.
إن المجرمين في ضلال وسعر _ 47.
يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر _ 48.
إنا كل شئ خلقناه بقدر _ 49.
وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر _ 50.
ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر _ 51.
وكل شئ فعلوه في الزبر _ 52.
وكل صغير وكبير مستطر _ 53.
إن المتقين في جنات ونهر _ 54.
في مقعد صدق عند مليك مقتدر _ 55.
(بيان) الآيات في معنى أخذ النتيجة مما أعيد ذكره من الانباء التي فيها مزدجر وهي نبأ الساعة المذكور أولا ثم أنباء الامم الهالكة المذكورة ثانيا فهي تنعطف أولا على أنباء الامم الهالكة فتخاطب قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن كفاركم ليسوا خيرا من اولئك الامم الطاغية الجبارة وقد أهلكهم الله على أذل وجه وأهونه ولا لكم براءة مكتوبة من عذاب الله، ولا أن جمعكم ينفعكم في الذب عن العقاب.
ثم تنعطف إلى ما مر من نبإ الساعة بأنها موعدهم الصعب إن أجرموا وكذبوا والساعة أدهى وأمر، ثم تشير إلى موطن المتقين يومئذ وعند ذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: " أكفاركم خير من اولئكم أم لكم براءة في الزبر " الظاهر أنه خطاب لقوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مسلم وكافر على ما تشعر به الاضافة في " كفاركم " والخيرية هي الخيرية في زينة الدنيا وزخارف حياتها كالمال والبنين أو من جهة الاخلاق العامة في مجتمعهم كالسخاء
/ صفحة 84 /
والشجاعة والشفقة على الضعفاء، والاشارة باولئكم إلى الاقوام المذكورة أنباؤهم: قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون، والاستفهام للانكار.
والمعنى: ليس الذين كفروا منكم خيرا من اولئكم الامم المهلكين المعذبين حتى يشملهم العذاب دونكم.
ويمكن أن يكون خطاب " أكفاركم " لخصوص الكفار بعناية أنهم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيهم كفار وهم هم.
وقوله: " أم لكم براءة في الزبر " ظاهره أيضا عموم الخطاب، والزبر جمع زبور وهو الكتاب، وقد ذكروا أن المراد بالزبر الكتب السماوية المنزلة على الانبياء والمعنى: بل ألكم براءة في الكتب السماوية التي نزلت من عند الله أنكم في أمن من العذاب والمؤاخذة وإن كفرتم وأجرمتم واقترفتم ما شئتم من الذنوب.
قوله تعالى: " أم يقولون نحن جميع منتصر " الجميع المجموع والمراد به وحدة مجتمعهم من حيث الارادة والعمل، والانتصار الانتقام أو التناصر كما في خطابات يوم القيامة: " ما لكم لا تناصرون " الصافات: 25، والمعنى: بل أيقولون أي الكفار نحن قوم مجتمعون متحدون ننتقم ممن أرادنا بسوء أو ينصر بعضنا بعضا فلا ننهزم.
قوله تعالى: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " اللام في " الجمع " للعهد الذكري وفي " الدبر " للجنس، وتولى الدبر الادبار، والمعنى: سيهزم الجمع الذي يتبجحون به ويولون الادبار ويفرون.
وفي الآية إخبار عن مغلوبية وانهزام لجمعهم، ودلالة على أن هذه المغلوبية انهزام منهم في حرب سيقدمون عليها، وقد وقع ذلك في غزاة بدر، وهذا من ملاحم القرآن الكريم.
قوله تعالى: " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " " أدهى " اسم تفضيل من الدهاء وهو عظم البلية المنكرة التي ليس إلى التخلص منها سبيل، و " أمر " اسم تفضيل من المرارة ضد الحلاوة، وفي الآية إضراب عن إيعادهم بالانهزام والعذاب الدنيوي إلى إيعادهم بما سيجري عليهم في الساعة وقد أشير إلى نبإها في أول الانباء الزاجرة، والكلام يفيد الترقي.
والمعنى: وليس الانهزام والعذاب الدنيوي تمام عقوبتهم بل الساعة التي أشرنا إلى نبإها هي موعدهم والساعة أدهى من كل داهية وأمر من كل مر.
/ صفحة 85 /
قوله تعالى: " إن المجرمين في ضلال وسعر " جمع سعير وهي النار المسعرة وفي الآية تعليل لما قبلها من قوله: " والساعة أدهى وأمر " والمعنى: إنما كانت الساعة أدهى وأمر لهم لانهم مجرمون والمجرمون في.
ضلال عن موطن السعادة وهو الجنة ونيران مسعرة.
قوله تعالى: " يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر " السحب جر الانسان على وجهه، و " يوم " ظرف لقوله: " في ضلال وسعر "، و " سقر " من أسماء جهنم ومسها هو إصابتها لهم بحرها وعذابها.
والمعنى: كونهم في ضلال وسعر في يوم يجرون في النار على وجوههم يقال لهم: ذوقوا ما تصيبكم جهنم بحرها وعذابها.
قوله تعالى: " إنا كل شئ خلقناه بقدر " " كل شئ " منصوب بفعل مقدر يدل عليه " خلقناه " والتقدير خلقنا كل شئ خلقناه، و " بقدر " متعلق بقوله: " خلقناه " والباء للمصاحبة، والمعنى: إنا خلقنا كل شئ مصاحبا لقدر.
وقدر الشئ هو المقدار الذي لا يتعداه والحد والهندسة التي لا يتجاوزه في شئ من جانبي الزيادة والنقيصة، قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21، فلكل شئ حد محدود في خلقه لا يتعداه وصراط ممدود في وجوده يسلكه ولا يتخطاه.
والآية في مقام التعليل لما في الآيتين السابقتين من عذاب المجرمين يوم القيامة كأنه قيل: لماذا جوزي المجرمون بالضلال والسعر يوم القيامة وأذيقوا مس سقر؟ فاجيب بقوله: " إنا كل شئ خلقناه بقدر " ومحصله أن لكل شئ قدرا ومن القدر في الانسان أن الله سبحانه خلقه نوعا متكاثر الافراد بالتناسل اجتماعيا في حياته الدنيا يتزود من حياته الدنيا الداثرة لحياته الآخرة الباقية، وقدر أن يرسل إليهم رسولا يدعوهم إلى سعادة الدنيا والآخرة فمن استجاب الدعوة فاز بالسعادة ودخل الجنة وجاور ربه، ومن ردها وأجرم فهو في ضلال وسعر.
ومن الخطأ أن يقال: إن الجواب عن السؤال بهذا النحو من المصادرة الممنوعة في الاحتجاج فإن السؤال عن مجازاته تعالى إياهم بالنار لاجرامهم في معنى السؤال عن تقديره ذلك، فمعنى السؤال: لم قدر الله للمجرمين المجازاة بالنار؟ ومعنى الجواب: أن الله قدر للمجرمين المجازاة بالنار، أو معنى السؤال: لم يدخلهم الله النار؟ ومعنى الجواب: أن
/ صفحة 86 /
الله يدخلهم النار وذلك مصادرة بينة.
وذلك لان بين فعلنا وبين فعله تعالى فرقا فإنا نتبع في أفعالنا القوانين والاصول الكلية المأخوذة من الكون الخارجي والوجود العيني، وهي الحاكمة علينا في إرادتنا وأفعالنا، فإذا أكلنا لجوع أو شربنا لعطش فإنما نريد بذلك الشبع والري لما حصلنا من الكون الخارجي أن الاكل يفيد الشبع والشرب يفيد الري وهو الجواب لو سئلنا عن الفعل.
وبالجملة أفعالنا تابعة للقواعد الكلية والضوابط العامة المنتزعة عن الوجود العيني المتفرعة عليه، وأما فعله تعالى فهو نفس الوجود العيني، والاصول العقلية الكلية مأخوذة منه متأخرة عنه محكومة له فلا تكون حاكمة فيه متقدمة عليه، قال تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الانبياء: 23، وقال: " إن الله يفعل ما يشاء " الحج: 18، وقال: " الحق من ربك " آل عمران: 60.
فلا سؤال عن فعله تعالى بلم بمعنى السؤال عن السبب الخارجي إذ لا سبب دونه يعينه في فعله، ولا بمعنى السؤال عن الاصل الكلي العقلي الذي يصحح فعله إذ الاصول العقلية منتزعة عن فعله متأخرة عنه.
نعم وقع في كلامه سبحانه تعليل الفعل بأحد ثلاثة أوجه: أحدها: تعليل الفعل بما يترتب عليه من الغايات والفوائد العائدة إلى الخلق لا إليه، لكنه تعليل للفعل لا لكونه فعلا له سبحانه بل لكونه أمرا واقعا في صف الاسباب والمسببات كما في قوله تعالى: " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون " المائدة: 82، وقال: " وضربت عليهم الذلة والمسكنة - إلى أن قال - ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " البقرة: 61.
الثاني: تعليل فعله تعالى بشئ من أسمائه وصفاته المناسبة له كتعليله تعالى مضامين كثير من الآيات في كلامه بمثل قوله: " إن الله غفور رحيم " " وهو العزيز الحكيم " " وهو اللطيف الخبير " إلى غير ذلك وهو شائع في القرآن الكريم، وإذا أجدت التأمل في موارده وجدتها من تعليل الفعل بما له من صفة خاصة بصفة عامة لفعله تعالى فإن أسماءه تعالى الفعلية منتزعة عن فعله العام فتعليل فعل خاص بصفة من صفاته واسم من أسمائه تعليل الوجه الخاص في الفعل بالوجه العام فيه كقوله تعالى: " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " العنكبوت: 60، يعلل قضاء حاجة الدواب
/ صفحة 87 /
والانسان إلى الرزق المسؤل بلسان حاجتها بأنه سميع عليم أي إنه خلق كل شئ والحال أن مسائلهم مسموعة له وأحوالهم معلومة عنده وهما صفتا فعله العام، وقوله: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم " البقرة: 37، يعلل توبته على آدم بأنه تواب رحيم أي صفة فعله هي التوبة والرحمة.
الثالث: تعليل فعله الخاص بفعله العام ومرجعه في الحقيقة إلى الوجه الثاني كقوله: " إن المجرمين في ضلال وسعر - إلى أن قال - إنا كل شئ خلقناه بقدر " فإن القدر وهو كون الشئ محدودا لا يتخطى حده في مسير وجوده فعل عام له تعالى لا يخلو عنه شئ من الخلق فتعليل العذاب بالقدر من تعليل فعله الخاص بفعله العام وبيان أنه مصداق من مصاديق القدر إذ كان من المقدر في الانسان أن لو أجرم برد دعوة النبوة عذب ودخل النار يوم القيامة، وكقوله: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " مريم: 71، يعلل الورود بالقضاء وهو فعل له عام والورود خاص بالنسبة إليه.
فتبين أن ما في كلامه من تعليل فعل من أفعاله إنما هو من تعليل الفعل الخاص بصفته العامة والعلة علة للاثبات لا للثبوت، وليس من المصادرة في شئ.
قوله تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " قال في المجمع: اللمح النظر بالعجلة وهو خطف البصر.
انتهى.
والمراد بالامر ما يقابل النهي لكنه الامر التكويني بإرادة وجود الشئ، قال تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون: يس: 82 فهو كلمة كن ولعله لكونه كلمة اعتبر الخبر مؤنثا فقيل: " إلا واحدة ".
والذي يفيده السياق أن المراد بكون الامر واحدة أنه لا يحتاج في مضيه وتحقق متعلقه إلى تعدد وتكرار بل أمر واحد بإلقاء كلمة كن يتحقق به المتعلق المراد كلمح بالبصر من غير تأن ومهل حتى يحتاج إلى الامر ثانيا وثالثا.
وتشبيه الامر من حيث تحقق متعلقه بلمح بالبصر لا لافادة أن زمان تأثيره قصير كزمان تحقق اللمح بالبصر بل لافادة أنه لا يحتاج في تأثيره إلى مضي زمان ولو كان قصيرا فإن التشبيه باللمح بالبصر في الكلام يكنى به عن ذلك، فأمره تعالى وهو إيجاده وإرادة وجوده لا يحتاج في تحققه إلى زمان ولا مكان ولا حركة كيف لا؟ ونفس الزمان والمكان والحركة إنما تحققت بأمره تعالى.
/ صفحة 88 /
والآية وإن كانت بحسب مؤداها في نفسها تعطي حقيقة عامة في خلق الاشياء وأن وجودها من حيث إنه فعل الله سبحانه كلمح بالبصر وإن كان من حيث إنه وجود لشئ كذا تدريجيا حاصلا شيئا فشيئا.
إلا أنها بحسب وقوعها في سياق إيعاد الكفار بعذاب يوم القيامة ناظرة إلى إتيان الساعة وأن أمرا واحدا منه تعالى يكفي في قيام الساعة وتجديد الخلق بالبعث والنشور فتكون متممة لما أقيم من الحجة بقوله: " إنا كل شئ خلقناه بقدر ".
فيكون مفاد الآية الاولى أن عذابهم بالنار على وفق الحكمة ولا محيص عنه بحسب الارادة الالهية لانه من القدر، ومفاد هذه الآية أن تحقق الساعة التي يعذبون فيها بمضي هذه الارادة وتحقق متعلقها لا مؤنة فيه عليه سبحانه لانه يكفي فيه أمر واحد منه تعالى كلمح بالبصر.
قوله تعالى: " ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر " الاشياع جمع شيعة والمراد - كما قيل - الاشباه والامثال في الكفر وتكذيب الانبياء من الامم الماضية.
والمراد بالآية والآيتين بعدها تأكيد الحجة السابقة التي أقيمت على شمول العذاب لهم لا محالة.
ومحصل المعنى: أن ليس ما أنذرناكم به من عذاب الدنيا وعذاب الساعة مجرد خبر اخبرناكم به ولا قول ألقيناه اليكم فهذه أشياعكم من الامم الماضية شرع فيهم بذلك فقد أهلكناهم وهو عذابهم في الدنيا وسيلقون عذاب الآخرة فإن أعمالهم مكتوبة مضبوطة في كتب محفوظة عندنا سنحاسبهم بها ونجازيهم بما عملوا.
قوله تعالى: " وكل شئ فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر " الزبر كتب الاعمال وتفسيره باللوح المحفوظ سخيف، والمراد بالصغير والكبير صغير الاعمال وكبيرها على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: " إلمتقين في جنات ونهر " أي في جنات عظيمة الشأن بالغة الوصف ونهر كذلك، قيل: المراد بالنهر الجنس، وقيل: النهر بمعنى السعة.
قوله تعالى: " في مقعد صدق عند مليك مقتدر " المقعد المجلس، المليك صيغة مبالغة للملك على ما قيل، وليس من إشباع كسر لام الملك، والمقتدر القادر العظيم القدرة وهو الله سبحانه.
/ صفحة 89 /
والمراد بالصدق صدق المتقين في إيمانهم وعملهم أضيف إليه المقعد لملابسة ما ويمكن أن يراد به كون مقامهم ومالهم فيه صدقا لا يشوبه كذب فلهم حضور لا غيبة معه، وقرب لا بعد معه، ونعمة لا نقمة معها، وسرور لا غم معه، وبقاء لا فناء معه.
ويمكن أن يراد به صدق هذا الخبر من حيث إنه تبشير ووعد جميل للمتقين، وعلى هذا ففيه نوع مقابلة بين وصف عاقبة المتقين والمجرمين حيث أوعد المجرمون بالعذاب والضلال وقرر ذلك بأنه من القدر ولن يتخلف، ووعد المتقون بالثواب والحضور عند ربهم المليك المقتدر وقرر ذلك بأنه صدق لا كذب فيه.
(بحث روائي) في كمال الدين بإسناده إلى علي بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرقى أتدفع من القدر شيئا؟ فقال: هي من القدر.
وقال: إن القدرية مجوس هذه الامة وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه وفيهم نزلت هذه الآية: " يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شئ خلقناه بقدر ".
أقول: المراد بالقدرية النافون للقدر وهم المعتزلة القائلون بالتفويض، وقوله: إنهم مجوس هذه الامة ذلك لقولهم: إن خالق الافعال الاختيارية هو الانسان والله خالق لما وراء ذلك فأثبتوا إلهين اثنين كما أثبتت المجوس إلهين اثنين: خالق الخير وخالق الشر.
وقوله: أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه، وذلك أنهم قالوا بخلق الانسان لافعاله فرارا عن القول بالجبر المنافي للعدل فأخرجوا الله من سلطانه على أعمال عباده بقطع نسبتها عنه تعالى.
وقوله: وفيهم نزلت هذه الآية، الخ، المراد به جري الآيات فيهم دون كونهم سببا للنزول وموردا له لما عرفت في تفسير الآيات من كونها عامة بحسب السياق، وفي نزول الآيات فيهم روايات اخرى مروية عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)، ومن طرق أهل السنة أيضا روايات في هذا المعنى عن ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وغيرهم.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد عن حذيفة بن اليمان قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل أمة مجوسا وإن مجوس هذه الامة الذين يقولون: لا قدر.
الخبر.
/ صفحة 90 /
أقول: ورواه في ثواب الاعمال بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي (عليه السلام) ولفظه: لكل أمة مجوس ومجوس هذه الامة الذين يقولون: لا قدر.
وفيه أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النهر الفضاء والسعة ليس بنهر جار.
وفيه أخرج أبو نعيم عن جابر قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما في مسجد المدينة فذكر بعض أصحابه الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا دجانة أما علمت أن من أحبنا وابتلي بمحبتنا أسكنه الله تعالى معنا؟ ثم تلا " في مقعد صدق عند مليك مقتدر ".
وفي روح المعاني في قوله: " في مقعد صدق " الآية، وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الدق (كلام في القدر) القدر وهو هندسة الشئ وحد وجوده مما تكرر ذكره في كلامه تعالى فيما تكلم فيه في أمر الخلقة، قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " الحجر: 21، وظاهره أن القدر ملازم للانزال من الخزائن الموجودة عنده تعالى، وأما نفس الخزائن وهي من إبداعه تعالى لا محالة فهي غير مقدرة بهذا القدر الذي يلازم الانزال، والانزال إصداره إلى هذا العالم المشهود كما يفيده قوله: " وأنزلنا الحديد " الحديد: 25، وقوله: " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج " الزمر: 6.
ويؤيد ذلك ما ورد من تفسير القدر بمثل العرض والطول وسائر الحدود والخصوصيات الطبيعية الجسمانية كما في المحاسن عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقد ر وقضى.
قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتدأ الفعل.
قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه.
قلت: فما معنى قدر؟ قال: تقدير الشئ من طوله وعرضه.
قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له.
وروى هذا المعنى عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق عن الرضا (عليه السلام) في خبر مفصل وفيه: فقال: أو تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء.
الخبر.
/ صفحة 91 /
ومن هنا يظهر أن المراد بكل شئ في قوله: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " الفرقان: 3، وقوله: " إنا كل شئ خلقناه بقدر " القمر: 49، وقوله: " وكل شئ عنده بمقدار " الرعد: 8، وقوله: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50، الاشياء الواقعة في عالمنا المشهود، من الطبيعيات الواقعة تحت الخلق والتركيب، أو أن للتقدير مرتبتين: مرتبة تعم جميع ما سوى الله وهي تحديد أصل الوجود بالامكان والحاجة وهذا يعم جميع الموجودات ما خلا الله سبحانه، قال تعالى: " وكان الله بكل شئ محيطا " النساء: 126.
ومرتبة تخص عالمنا المشهود وهي تحديد وجود الاشياء الموجودة فيه من حيث وجودها وآثار وجودها وخصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود والآثار بامور خارجة من العلل والشرائط فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها فهي مقلوبة بقوالب من داخل وخارج تعين لها من العرض والطول والشكل والهيئة وسائر الاحوال والافعال ما يناسبها.
فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدر لها في مسير وجودها، قال تعالى: " الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " الاعلى: 3، أي هدى ما خلقه إلى ما قدر له، ثم أتم ذلك بإمضاء القضاء، وفي معناه قوله في الانسان: " من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره " عبس: 20، ويشير بقوله: " ثم السبيل يسره " إلى أن التقدير لا ينافي اختيارية افعاله الاختيارية.
وهذا النوع من القدر في نفسه غير القضاء الذي هو الحكم البتي منه تعالى بوجوده " والله يحكم لا معقب لحكمه " الرعد: 41، فربما قدر ولم يعقبه القضاء كالقدر الذي يقتضيه بعض العلل والشرائط الخارجة ثم يبطل لمانع أو باستخلاف سبب آخر، قال تعالى: " يمحو الله ما يشاء ويثبت " الرعد: 39، وقال: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " البقرة: 106، وربما قدر وتبعه القضاء كما إذا قدر من جميع الجهات باجتماع جميع علله وشرائطه وارتفاع موانعه.
وإلى ذلك يشير قوله (عليه السلام) في خبر المحاسن السابق: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له، وقريب منه ما في عدة من أخبار القضاء والقدر ما معناه أن القدر يمكن أن يتخلف وأما القضاء فلا يرد.
/ صفحة 92 /
وعن علي (عليه السلام) بطرق مختلفة كما في التوحيد بإسناده عن ابن نباتة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل.
وأما النوع الاول من الموجودات الذي قدره حد وجوده من إمكانه وحاجته فحسب فالقدر والقضاء فيه واحد ولا يتخلف القدر فيه عن التحقق البتة.
والبحث العقلي يؤيد ما تقدم فإن الامور التي لها علل مركبة من فاعل ومادة وشرائط ومعدات وموانع فإن لكل منها تأثيرا في الشئ بما يسانخه فهو كالقالب الذي يقلب به الشئ فيأخذ لنفسه هيئة قالبه وخصوصيته وهذا هو قدره ثم العلة التامة إذا اجتمعت اجزاؤه أعطته ضرورة الوجود، وهذه هي القضاء الذي لا مرد له، وقد تقدم في تفسير أول سورة الاسراء كلام في القضاء لا يخلو من نفع في هذا البحث، فليرجع إليه.
(سورة الرحمن مكية أو مدنية، وهي ثمان و سبعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم.
الرحمن _ 1.
علم القرآن _ 2.
خلق الانسان _ 3.
علمه البيان _ 4.
الشمس والقمر بحسبان _ 5.
والنجم والشجر يسجدان _ 6.
والسماء رفعها ووضع الميزان _ 7.
ألا تطغوا في الميزان _ 8.
وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان _ 9.
والارض وضعها للانام _ 10.
فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام _ 11.
والحب ذو العصف والريحان _ 12.
فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 13.
خلق الانسان من صلصال كالفخار _ 14.
وخلق الجان من مارج من نار _ 15.
فبأي آلاء ربكما
/ صفحة 93 /
تكذبان _ 16.
رب المشرقين ورب المغربين _ 17.
فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 18.
مرج البحرين يلتقيان _ 19.
بينهما برزخ لا يبغيان _ 20.
فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 21.
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان _ 22.
فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 23.
وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام _ 24.
فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 25.
كل من عليها فان _ 26.
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام _ 27.
فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 28.
يسئله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن _ 29.
فبأي آلاء ربكما تكذبان _ 30.
: (بيان) تتضمن السورة الاشارة إلى خلقه تعالى العالم بأجزائه من سماء وأرض وبر وبحر وإنس وجن ونظم أجزائه نظما ينتفع به الثقلان الانس والجن في حياتهما وينقسم بذلك العالم إلى نشأتين: نشأة دنيا ستفنى بفناء أهلها، ونشأة أخرى باقية تتميز فيها السعادة من الشقاء والنعمة من النقمة.
وبذلك يظهر أن دار الوجود من دنياها وآخرتها ذات نظام واحد مؤتلف الاجزاء مرتبط الابعاض قويم الاركان يصلح بعضه ببعض ويتم شطر منه بشطر.
فما فيه من عين وأثر، من نعمه تعالى وآلائه، ولذا يستفهمهم مرة بعد مرة استفهاما مشوبا بعتاب بقوله: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " فقد كررت الآية في السورة إحدى وثلاثين مرة.
/ صفحة 94 /
ولذلك افتتحت السورة بذكره تعالى بصفة رحمته العامة الشاملة للمؤمن والكافر والدنيا والآخرة واختتمت بالثناء عليه بقوله: " تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام ".
والسورة يحتمل كونها مكية أو مدنية وإن كان سياقها بالسياق المكي أشبه وهي السورة الوحيدة في القرآن افتتحت بعد البسملة باسم من أسماء الله عز اسمه، وفي المجمع عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لكل شئ عروس وعروس القرآن سورة الرحمن جل ذكره، ورواه في الدر المنثور عن البيهقي عن علي (عليه السلام) عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: " الرحمن علم القرآن " الرحمان كما تقدم في تفسير سورة الفاتحة صيغة مبالغة تدل على كثرة الرحمة ببذل النعم ولذلك ناسب أن يعم ما يناله المؤمن والكافر من نعم الدنيا وما يناله المؤمن من نعم الآخرة، ولعمومه ناسب أن يصدر به الكلام لاشتمال الكلام في السورة على أنواع النعم الدنيوية والاخروية التي ينتظم بها عالم الثقلين الانس والجن.
ذكروا أن الرحمان من الاسماء الخاصة به تعالى لا يسمى به غيره بخلاف مثل الرحيم والراحم.
وقوله: " علم القرآن " شروع في عد النعم الالهية، ولما كان القرآن أعظم النعم قدرا وشأنا وأرفعها مكانا - لانه كلام الله الذي يخط صراطه المستقيم ويتضمن بيان نهج السعادة التي هي غاية ما يأمله آمل ونهاية ما يسأله سائل - قدم ذكر تعليمه على سائر النعم حتى على خلق الانس والجن اللذين نزل القرآن لاجل تعليمهما.
وحذف مفعول " علم " الاول وهو الانسان أو الانس والجن والتقدير علم الانسان القرآن إو علم الانس والجن القرآن، وهذا الاحتمال الثاني وإن لم يتعرضوا له لكنه أقرب الاحتمالين لان السورة تخاطب في تضاعيف آياتها الجن كالانس ولولا شمول التعليم في قوله: " علم القرآن " لهم لم يتم ذلك.
وقيل: المفعول المحذوف محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو جبرئيل والانسب للسياق ما تقدم.
قوله تعالى: " خلق الانسان علمه البيان " ذكر خلق الانسان وسيذكر خصوصية خلقه بقوله: " خلق الانسان من صلصال كالفخار "، والانسان من أعجب مخلوقات الله تعالى أو هو أعجبها يظهر ذلك بقياس وجوده إلى وجود غيره من المخلوقات والتأمل فيما
/ صفحة 95 /
خط له من طريق الكمال في ظاهره وباطنه ودنياه وآخرته، قال تعالى: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " التين: 6.
وقوله: " علمه البيان " البيان الكشف عن الشئ والمراد به الكلام الكاشف عما في الضمير، وهو من أعجب النعم وتعليمه للانسان من عظيم العناية الالهية المتعلقة به فليس الكلام مجرد إيجاد صوت ما باستخدام الرئة وقصبتها والحلقوم ولا ما يحصل من التنوع في الصوت الخارج من الحلقوم باعتماده على مخارج الحروف المختلفة في الفم.
بل يجعل الانسان بإلهام باطني من الله سبحانه الواحد من هذه الاصوات المعتمدة على مخرج من مخارج الفم المسمى حرفا أو المركب من عدة من الحروف علامة مشيرة إلى مفهوم من المفاهيم يمثل به ما يغيب عن حس السامع وإدراكه فيقدر به على إحضار أي وضع من أوضاع العالم المشهود وإن جل ما جل أو دق ما دق من موجود أو معدوم ماض أو مستقبل، ثم على إحضار أي وضع من أوضاع المعاني غير المحسوسة التي ينالها الانسان بفكره ولا سبيل للحس إليها يحضرها جميعا لسامعه ويمثلها لحسه كأنه يشخصها له بأعيانها.
ولا يتم للانسان اجتماعه المدني ولا تقدم في حياته هذا التقدم الباهر إلا بتنبهه لوضع الكلام وفتحه بذلك باب التفهيم والتفهم، ولولا ذلك لكان هو والحيوان العجم سواء في جمود الحياة وركودها.
ومن أقوى الدليل على أن أهتداء الانسان إلى البيان بإلهام إلهي له أصل في التكوين اختلاف اللغات باختلاف الامم والطوائف في الخصائص الروحية والاخلاق النفسانية وبحسب اختلاف المناطق الطبيعية التي يعيشون فيها، قال تعالى: " ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم " الروم: 22.
وليس المراد بقوله: " علمه البيان " أن الله سبحانه وضع اللغات ثم علمها الانسان بالوحي إلى نبي من الانبياء أو بالالهام فإن الانسان بوقوعه في ظرف الاجتماع مندفع بالطبع إلى اعتبار التفهيم والتفهم بالاشارات والاصوات وهو التكلم والنطق لا يتم له الاجتماع المدني دون ذلك.
على أن فعله تعالى هو التكوين والايجاد والرابطة بين اللفظ ومعناه اللغوي وضعية اعتبارية لا حقيقية خارجية بل الله سبحانه خلق الانسان وفطره فطرة تؤديه إلى الاجتماع المدني ثم إلى وضع اللغة بجعل اللفظ علامة للمعنى بحيث إذا ألقى اللفظ إلى سامعه فكأنما
/ صفحة 96 /
يلقي إليه المعنى ثم إلى وضع الخط بجعل الاشكال المخصوصة علائم للالفاظ فالخط مكمل لغرض الكلام، وهو يمثل الكلام كما أن الكلام يمثل المعنى.
وبالجملة البيان من أعظم النعم والآلاء الربانية التي تحفظ لنوع الانسان موقفه الانساني وتهديه إلى كل خير.
هذا ما هو الظاهر المتبادر من الآيتين، ولهم في معناهما أقوال: فقيل: الانسان هو آدم (عليه السلام) والبيان الاسماء التي علمه الله إياها، وقيل: الانسان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والبيان القرآن أو تعليمه المؤمنين القرآن، وقيل: البيان الخير والشر علمهما الانسان، وقيل: سبيل الهدى وسبيل الضلال إلى غير ذلك وهي أقوال بعيدة عن الفهم.
قوله تعالى: " الشمس والقمر بحسبان " الحسبان مصدر بمعنى الحساب، والشمس مبتدأ والقمر معطوف عليه، وبحسبان خبره، والجملة خبر بعد خبر لقوله: " الرحمن " والتقدير الشمس والقمر يجريان بحساب منه على ما قدر لهما من نوع الجري.
قوله تعالى: " والنجم والشجر يسجدان " قالوا: المراد بالنجم ما ينجم من النبات ويطلع من الارض ولا ساق له، والشجر ما له ساق من النبات، وهو معنى حسن يؤيده الجمع والقرن بين النجم والشجر وإن كان ربما أوهم سبق ذكر الشمس والقمر كون المراد بالنجم هو الكواكب.
وسجود النجم والشجر انقيادهما للامر الالهي بالنشوء والنمو على حسب ما قدر لهما كما قيل، وأدق منه أنهما يضربان في التراب باصولهما وأعراقهما لجذب ما يحتاجان إليه من المواد العنصرية التي يغتذيان بها وهذا السقوط على الارض إظهارا للحاجة إلى المبدأ الذي يقضي حاجتهما - وهو في الحقيقة الله الذي يربيهما كذلك - سجود منهما له تعالى.
والكلام في إعراب قوله: " والنجم والشجر يسجدآن " وهو معطوف على الآية السابقة كالكلام في قوله: " الشمس والقمر بحسبان " والتقدير والنجم والشجر يسجدآن له.
قال في الكشاف: فإن قلت: كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمان يعني قوله: " الشمس والقمر - إلى قوله - يسجدان "؟ قلت: استغني فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره.
وقال في وجه إخلاء الآيات السابقة - خلق الانسان علمه البيان الشمس والقمر بحسبان - عن العاطف ما محصله أن هذه الجمل الاول واردة على سنن التعديد ليكون كل
/ صفحة 97 /
واحدة من الجمل مستقلة في تفريع الذين أنكروا الرحمان وآلاءه كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه فيقال: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه؟ ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف فقيل: " والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها " الخ، انتهى.
قوله تعالى: " والسماء رفعها ووضع الميزان " المراد بالسماء إن كان جهة العلو فرفعها خلقها مرفوعة لا رفعها بعد خلقها وإن كان ما في جهة العلو من الاجرام فرفعها تقدير محالها بحيث تكون مرفوعة بالنسبة إلى الارض بالفتق بعد الرتق كما قال تعالى: " أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما " الانبياء: 30، والرفع على أي حال رفع حسي.
وإن كان المراد ما يشمل منازل الملائكة الكرام ومصادر الامر الالهي والوحي فالرفع معنوي أو ما يشمل الحسي والمعنوي.
وقوله: " ووضع الميزان المراد بالميزان كل ما يوزن أي يقدر به الشئ أعم من أن يكون عقيدة أو قولا أو فعلا ومن مصاديقه الميزان الذي يوزن به الاثقال، قال تعالى: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " الحديد: 25.
فظاهره مطلق ما يميز به الحق من الباطل والصدق من الكذب والعدل من الظلم والفضيلة من الرذيلة على ما هو شأن الرسول أن يأتي به من عند ربه.
وقيل: المراد بالميزان العدل أي وضع الله العدل بينكم لتسووا به بين الاشياء بإعطاء كل ذي حق حقه.
وقيل: المراد الميزان الذي يوزن به الاثقال والمعنى الاول أوسع وأشمل.
قوله تعالى: " ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان " الظاهر أن المراد بالميزان الميزان المعروف وهو ميزان الاثقال، فقوله: " ألا تطغوا " الخ على تقدير أن يراد بالميزان في الآية السابقة أيضا ميزان الاثقال، وهو بيان وضع الميزان، والمعنى أن معنى وضعنا الميزان بينكم هو أن اعدلوا في وزن الاثقال ولا تطغوا فيه.
/ صفحة 98 /
وعلى تقدير أن يراد به مطلق التقدير الحق أو العدل هو استخراج حكم جزئي من حكم كلي، والمعنى أن لازم ما وضعناه من التقدير الحق أو العدل بينكم هو أن تزنوا الاثقال بالقسط ولا تطغوا فيه.
وعلى أي حال الظاهر أن " أن " في قوله: " أن لا تطغوا " تفسيرية، و " لا تطغوا " نهي عن الطغيان في الميزان و " أقيموا الوزن بالقسط " أمر معطوف عليه، والقسط العدل و " لا تخسروا الميزان " نهي آخر مبين لقوله: " لا تطغوا " الخ، ومؤكد له.
والاخسار في الميزان التطفيف به بزيادة أو نقيصة بحيث يخسر البائع أو المشتري.
وأما جعل " أن " ناصبة و " لا تطغوا " نفيا، والتقدير: " لئلا تطغوا، فيحتاج إلى تكلف توجيه في عطف الانشاء على الاخبار في قوله: " وأقيموا الوزن " الخ.
قوله تعالى: " والارض وضعها للانام " الانام الناس، وقيل: الانس والجن، وقيل: كل ما يدب على الارض، وفي التعبير في الارض بالوضع قبال التعبير في السماء بالرفع لطف ظاهر.
قوله تعالى: " فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام " المراد بالفاكهة الثمرة غير التمر، والاكمام جمع كم بضم الكاف وكسرها وعاء التمر وهو الطلع، وأما كم القميص فهو مضموم الكاف لا غير كما قيل.
قوله تعالى: " والحب ذو العصف والريحان " معطوف على قوله: " فاكهة " أي وفيها الحب والريحان، والحب ما يقتات به كالحنطة والشعير والارز، والعصف ما هو كالغلاف للحب وهو قشره، وفسر بورق الزرع مطلقا وبورق الزرع اليابس، والريحان النبات الطيب الرائحة.
قوله تعالى: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة.
والخطاب في الآية لعامة الثقلين: الجن والانس ويدل على ذلك توجيه الخطاب اليهما صريحا فيما سيأتي من قوله: " سنفرغ لكم أيها الثقلان " وقوله: " يا معشر الجن والانس " الخ، وقوله: " يرسل عليكما شواظ " الخ، فلا يصغى إلى قول من قال: إن الخطاب في الآية للذكر والانثى من بني آدم، ولا إلى قول من قال: إنه من خطاب الواحد بخطاب الاثنين ويفيد تكرر الخطاب نحو يا شرطي اضربا عنقه أي اضرب عنقه اضرب عنقه.
وتوجيه الخطاب إلى عالمي الجن والانس هو المصحح لعد ما سنذكره من شدائد يوم
/ صفحة 99 /
القيامة وعقوبات المجرمين من أهل النار من آلائه ونعمه تعالى، فإن سوق المسيئين وأهل الشقوة في نظام الكون إلى ما تقتضيه شقوتهم ومجازاتهم بتبعات أعمالهم من لوازم صلاح النظام العام الجاري في الكل الحاكم على الجميع فذلك نعمة بالقياس إلى الكل وإن كان نقمة بالنسبة إلى طائفة خاصة منهم وهم المجرمون وهذا نظير ما نجده في السنن والقوانين الجارية في المجتمعات فإن التشديد على أهل البغي والفساد مما يتوقف عليه حياة المجتمع وبقاؤه وليس يتنعم به أهل الصلاح خاصة كما أن إثابة أهل الصلاح بالثناء الجميل والاجر الحسن كذلك.
فما في النار من عذاب وعقاب لاهلها وما في الجنة من كرامة وثواب آلاء ونعم على معشر الجن والانس كما أن الشمس والقمر والسماء المرفوعة والارض الموضوعة والنجم والشجر وغيرها آلاء ونعم على أهل الدنيا.
ويظهر من الآية أن للجن تنعما في الجملة بهذه النعم المعدودة في خلال الآيات كما للانس وإلا لم يصح إشراكهم مع الانس في التوبيخ.
قوله تعالى: " خلق الانسان من صلصال كالفخار " الصلصال الطين اليابس الذي يتردد منه الصوت إذا وطئ، والفخار الخزف.
والمراد بالانسان نوعه والمراد بخلقه من صلصال كالفخار انتهاء خلقه إليه، وقيل: المراد بالانسان آدم (عليه السلام).
قوله تعالى: " وخلق الجان من مارج من نار " المارج هو اللهب الخالص من النار، وقيل: اللهب المختلط بسواد، والكلام في الجان كالكلام في الانسان فالمراد به نوع الجن، وعدهم مخلوقين من النار باعتبار انتهاء خلقتهم إليها، وقيل: المراد بالجان أبو الجن.
قوله تعالى: " رب المشرقين ورب المغربين " المراد بالمشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء، وبذلك تحصل الفصول الاربعة و تنتظم الارزاق، وقيل: المراد بالمشرقين مشرق الشمس والقمر وبالمغربين مغرباهما.
قوله تعالى: " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان " المرج الخلط والمرج الارسال، يقال: مرجه أي خلطه ومرجه أي أرسله والمعنى الاول أظهر، والظاهر أن المراد بالبحرين العذب الفرات والملح الاجاج، قال تعالى: " وما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية
/ صفحة 100 /
تلبسونها " فاطر: 12.
وأمثل ما قيل في الآيتين أن المراد بالبحرين جنس البحر المالح الذي يغمر قريبا من ثلاثة أرباع الكرة الارضية من البحار المحيطة وغير المحيطة، والبحر العذب المدخر في مخازن الارض التي تنفجر الارض عنها فتجري العيون والانهار الكبيرة فتصب في البحر المالح، ولا يزالان يلتقيان، وبينهما حاجز وهو نفس المخازن الارضية والمجاري يحجز البحر المالح أن يبغي على البحر العذب فيغشيه ويبدله بحرا مالحا وتبطل بذلك الحياة، ويحجز البحر العذب أن يزيد في الانصباب على البحر المالح فيبدله ماء عذبا فتبطل بذلك مصلحة ملوحته من تطهير الهواء وغيره.
ولا يزال البحر المالح يمد البحر العذب بالامطار التي تأخذها منه السحب فتمطر على الارض وتدخرها المخازن الارضية والبحر العذب يمد البحر المالح بالانصباب عليه.
فمعنى الآيتين - والله أعلم - خلط البحرين العذب الفرات والملح الاجاج حال كونهما مستمرين في تلاقيهما بينهما حاجز لا يطغيان بأن يغمر أحدهما الآخر فيذهب بصفته من العذوبة والملوحة فيختل نظام الحياة والبقاء.
قوله تعالى: " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " أي من البحرين العذب والمالح جميعا وذلك من فوائدهما التي ينتفع بها الانسان، وقد تقدم فيه الكلام في تفسير قوله تعالى: " وما يستوي البحران " الآية، فاطر: 12.
قوله تعالى: " وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام " الجواري جمع جارية وهي السفينة، والمنشآت اسم مفعول من الانشاء وهو إحداث الشئ وتربيته، والاعلام جمع علم بفتحتين وهو الجبل.
وعد الجواري مملوكة له تعالى مع كونها من صنع الانسان لان الاسباب العاملة في إنشائها من خشب وحديد وسائر أجزائها التي تتركب منها والانسان الذي يركبها وشعوره وفكره وإرادته كل ذلك مخلوق له ومملوك فما ينتجه عملها من ملكه.
فهو تعالى المنعم بها للانسان ألهمه طريق صنعها والمنافع المترتبة عليها وسبيل الانتفاع بمنافعها الجمة.
قوله تعالى: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام " ضمير " عليها " للارض أي كل ذي شعور وعقل على الارض سيفنى وفيه تسجيل الزوال والدثور على الثقلين.