/ صفحة 351 /

قوله تعالى: " ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئا وهو خسير " الخاسئ من خسأ البصر إذا انقبض عن مهانة كما قال الراغب، وقال أيضا: الخاسر المعيا لا نكشاف قواه، ويقال للمعيا: حاسر ومحسور: أما الحاسر فتصور أنه بنفسه قد حسر قوته، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره، وقوله عز وجل: " ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير " يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور.

انتهى.

وقوله: " كرتين " الكرة الرجعة والمراد بالتثنية التكثير والتكرير، والمعنى: ثم ارجع البصر رجعة أي رجعات كثيرة ينقلب اليك البصر منقبضة مهينة والحال أنه كليل معينا لم يجد فطورا.

فقد أشير في الآيتين إلى أن النظام الجاري في الكون نظام واحد متصل الاجزاء مرتبط الابعاض.

قوله تعالى: " ولقد زينا السماء الدينا بمصابيح " إلى آخر الآية، المصابيح جمع مصباح وهو السراج سمي الكواكب مصابيح لانارتها وإضاءتها وقد كلام في ذلك في تفسير سورة حم السجدة.

وقوله: " وجعلناها رجوما للشياطين " أي وجعلنا الكواكب التي زينا بها السماء رجوما يرجم بها من استرق السمع من الشياطين كما قال تعالى: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " الحجر: 18، وقال: " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " الصافات: 10.

قيل: إن الجملة دليل أن المراد بالكواكب المزينة بها السماء مجموع الكواكب الاصلية والشهب السماوية فإن الكواكب الاصلية لا تزول عن مستقرها والكواكب والنجم يطلقان على الشهب كما يطلقان على الاجرام الاصلية.

وقيل: تنفصل من الكواكب شهب تكون رجوما للشياطين أما الكواكب أنفسها فليست تزول إلا أن يريد الله إفناءها.

وهذا الوجة أوفق للانظار العلمية الحاضرة، وقد تقدم بعض الكلام في معنى رمي الشياطين بالشهب.

وقوله: " وأعتدنا لهم عذاب السعير " أي وهيأنا للشياطين وهم أشرار الجن عذاب النار المسعرة المشتعلة.

 

 

/ صفحة 352 /

قوله تعالى: " وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير " لما أورد بعض آيات ربوبيته تعالى عقبها بالوعيد على من كفر بربوبيته على ما هو شأن هذه السورة من تداخل الحجج والوعيد والانذار.

والمراد بالذين كفروا بربوبيته أعم من الوثنيين النافين لربوبيته لغير أربابهم القائلين بأنه تعالى رب الارباب فقط، والنافين لها مطلقا والمثبتين لربوبيته مع التفريق بينه وبين رسله كاليهود والنصارى حيث آمنوا ببعض رسله وكفروا ببعض.

والآية مع ذلك متصلة بقوله: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور " لما فيها من الاشارة إلى البعث والجزاء متصلة بما قبلها كالتعميم بعد التخصيص.

قوله تعالى: " إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ " قال الراغب: الشهيق طول الزفير وهو رد النفس والزفير مده انتهى، والفوران كما في المجمع ارتفاع الغليان، والتميز: التقطع والتفرق، والغيظ: شدة الغضب، والمعنى: إذا طرح الكفار في جهنم سمعوا لها شهيقا - أي تجذبهم إلى داخلها كما يجذب الهواء بالشهيق إلى داخل الصدر - وهي تغلي بهم فترفعهم وتخفضهم تكاد تتلاشى من شدة الغضب.

قوله تعالى: " كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير " لفوج - كما قاله الراغب - الجماعة المارة المسرعة، وفي قوله: " كلما ألقي فيها فوج " إشارة إلى أن الكفار يلقون في النار جماعة جماعة كما يشير إليه قوله: " وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا " الزمر: 71، وإنما يلقون كذلك بلحوق التابعين لمتبوعيهم في الضلال كما قال تعالى: " ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم " الانفال: 37، وقد تقدم بعض توضيحه في ذيل الآية من سورة الانفال.

والخزنة جمع خازن وهو الحافظ على الشئ المدخر والمراد بهم الملائكة الموكلون على النار المدبرون لانواع عذابها قال تعالى: " عليها ملائكة غلاظ شداد " التحريم: 6، وقال: " وما أدراك ما سقر - إلى أن قال - عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة " المدثر: 31.

والمعنى: كلما طرح في جهنم جماعة من جماعات الكفار المسوقين إليها سألهم الملائكة الموكلون على النار الحافظون لها - توبيخا - ألم يأتكم نذير؟ وهو النبي المنذر.

 

 

/ صفحة 353 /

قوله تعالى: " قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا " إلى آخر الآية حكاية جوابهم لسؤال الخزنة، وفيه تصديق أنهم قد جاءهم نذير فنسبوه إلى الكذب واعتراف.

وقوله: " ما نزل الله من شئ " بيان لتكذيبهم، وكذا قوله: " إن أنتم إلا في ضلال كبير " وقيل: قوله: " إن أنتم " الخ، كلام الملائكة يخاطبون به الكفار بعد جوابهم عن سؤالهم بما أجابوا، وهو بعيد من السياق، وكذا احتمال كونه من كلام الرسل الذين كذبوهم تحكيه الملائكة لاولئك الكفار.

قوله تعالى: " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " يطلق السمع ويراد به إدراك الصوت والقول بالجارحة وربما يراد به ما هو الغاية منه عند العقلاء وهو الالتزام بمقتضاه من الفعل والترك، ويطلق العقل على تمييز الخير من الشر والنافع من الضار، وربما يراد به ما هو الغاية منه وهو الالتزام بمقتضاه من طلب الخير والنافع واجتناب الشر والضر، قال تعالى: " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل " الاعراف: 179.

وأكثر ما ينتفع بالسمع عامة الناس لقصورهم عن تعقل دقائق الامور وإدراك حقيقتها والاهتداء إلى مصالحها ومفاسدها وإنما ينتفع بالعقل الخاصة.

فقوله: " لو كنا نسمع أو نعقل " أريد بالسمع استجابة دعوة الرسل والالتزام بمقتضى قولهم وهم النصحاء الامناء، وبالعقل الالتزام بمقتضى ما يدعون إليه من الحق بتعقله والاهتداء العقلي إلى أنه حق ومن الواجب أن يخضع الانسان للحق.

 

وإنما قدم السمع على العقل لان استعماله من شأن عامة الناس وهم الاكثرون والعقل شأن الخاصة وهم آحاد قليلون.

والمعنى: لو كنا في الدنيا نطيع الرسل في نصائحهم ومواعظهم أو عقلنا حجة الحق ما كنا اليوم في أصحاب السعير وهم مصاحبو النار المخلدون فيها.

وقيل: إنما جمع بين السمع والعقل لان مدار التكليف على أدلة السمع والعقل.

قوله تعالى: " فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير " كانوا إنما قالوا: " لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " ندامة على ما فرطوا في جنب الله وفوتوا على 

 

/ صفحة 354 /

أنفسهم من الخير فاعترفوا بأن ما أتوا به كان تبعته دخول النار وكان عليهم أن لا يأتوا به، وهذا هو الذنب فقد اعترفوا بذنبهم.

وإنما أفرد الذنب بناء على إرادة معنى المصدر منه وهو في الاصل مصدر.

وقوله: " فسحقا لاصحاب السعير " السحق تفتيت الشئ كما ذكره الراغب وهو دعاء عليهم.

قوله تعالى: " إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير " لما ذكر حال الكفار وما يجازون به على كفرهم قابله بحال المؤمنين بالغيب لتمام التقسيم وذكر من وصفهم الخشية لان المقام مقام الانذار والوعيد.

وعد خشيتهم خشية بالغيب لكون ما آمنوا به محجوبا عنهم تحت حجب الغيب.

قوله تعالى: " وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور " رفع شبهة يمكن أن تختلج في قلوبهم مبنية على الاستبعاد وذلك أنه تعالى ساق الكلام في بيان ربوبيته لكل شئ المستتبعة للبعث والجزاء وذكر ملكه وقدرته المطلقين وخلقه وتدبيره ولم يذكر علمه المحيط بهم وبأحوالهم وأعمالهم وهو مما لا يتم البعث والجزاء بدونه.

وكان من الممكن أن يتوهموا أن الاعمال على كثرتها الخارجة عن الاحصاء لا يتأتى ضبطها وخاصة ما تكنه الصدور منها فإن الانسان يقيس الاشياء بنفسه ويزنها بزنة نفسه وهو غير قادر على إحصاء جزئيات الاعمال التي هي حركات مختلفة متقضية وخاصة أعمال القلوب المستكنة في زواياها.

فدفعه بأن إظهار القول وإخفاءه سواء بالنسبة إليه تعالى فإنه عليم بذات الصدور، والسياق يشهد أن المراد استواء خفايا الاعمال وجلاياها بالنسبة إليه، وإنما ذكر إسرار القول وجهره من حيث ظهور معنى الخفاء والظهور فيه بالجهر والاسرار.

قوله تعالى: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " استفهام إنكاري مأخوذ حجة على علمه تعالى بأعمال الخلق ظاهرها وباطنها وسرها وجهرها وذلك أن أعمال الخلق - ومن جملتها أعمال الانسان الاختيارية - وإن نسبت إلى فواعلها لكن الله سبحانه هو الذي يريدها ويوجدها من طريق اختيار الانسان واقتضاء سائر الاسباب فهو الخالق لاعيان الاشياء والمقدر لها آثارها كيفما كانت والرابط بينها وبين آثارها الموصل لها إلى آثارها، قال تعالى: " الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل " الزمر: 62، وقال: 

 

/ صفحة 355 /

الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " الاعلى: 3، فهو سبحانه محيط بعين من خلقه وأثره ومن أثره أعماله الظاهرة والباطنة وما أسره وما جهر به وكيف يحيط به ولا يعلمه.

وفي الآية إشارة إلى أن أحوال الاشياء وأعمالها غير خارجة عن خلقها لانه تعالى استدل بعلمه بمن خلق على علمه بخصوصيات أحواله وأعماله ولولا كون الاحوال والاعمال غير خارجة عن وجود موضوعاتها لم يتم الاستدلال.

على أن الاحوال والاعمال من مقتضيات موضوعاتها والذي ينتسب إليه وجود الشئ ينتسب إليه آثار وجوده.

وقوله: " وهو اللطيف الخبير " أي النافذ في بواطن الاشياء المطلع على جزئيات وجودها وآثارها، والجملة حالية تعلل ما قبلها والاسمان الكريمان من الاسماء الحسنى ذيلت بهما الآية لتأكيد مضمونها.

(بحث روائي) في الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " قال: ليس يعني أكثركم عملا ولكن أصوبكم عملا، وإنما الاصابة خشية الله والنية الصادقة والخشية.

ثم قال: الابقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل.

ألا والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله، والنية أفضل من العمل ألا وإن النية هي العمل.

ثم تلا قوله: " قل كل يعمل على شاكلته " يعني على نيتة.

وفي المجمع قال أبو قتادة: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قوله تعالى: " أيكم أحسن عملا " ما عنى به؟ فقال: يقول: أيكم أحسن عقلا.

ثم قال: أتمكم عقلا وأشدكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا وإن كان أقلكم تطوعا.

وفيه عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه تلا قوله تعالى: " تبارك الذي بيده الملك - إلى قوله - أيكم أحسن عملا " ثم قال: أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " الذي خلق سبع سماوات طباقا " قال: بعضها طبق لبعض.

 

 

/ صفحة 356 /

وفيه في قوله تعالى: " من تفاوت " قال: من فساد.

 

وفيه في قوله تعالى: " ثم ارجع البصر " قال: انظر في ملكوت السماوات والارض.

وفيه في قوله تعالى: " بمصابيح " قال: بالنجوم.

وفيه في قوله تعالى: " سمعوا لها شهيقا " قال: وقعا.

وفيه في قوله تعالى: " تكاد تميز من الغيظ " قال: على أعداء الله.

وفيه في قوله تعالى: " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " قال: قد سمعوا وعقلوا ولكنهم لم يطيعوا ولم يقبلوا، والدليل على أنهم قد سمعوا وعقلوا ولم يقبلوا، قوله: " فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير ".

أقول: يعني (عليه السلام) أنه يدل على أن المراد من عدم السمع والعقل عدم الاطاعة والقبول بعد السمع والعقل أنه تعالى سمى قولهم ذلك اعترافا بالذنب، ولا يعد فعل ذنبا من فاعله إلا بعد العلم بجهة مساءته بسمع أو عقل.

هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور _ 15.

ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الارض فإذا هي تمور _ 16.

أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير _ 17.

ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير _ 18.

أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شئ بصير _ 19.

أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور _ 20.

أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل 

 

/ صفحة 357 /

لجوا في عتو ونفور _ 21.

أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم _ 22.

(بيان) في الآيات كرة بعد كرة بآيات التدبير الدالة على ربوبيته تعالى مقرونة بالانذار والتخويف أعنى قوله: " هو الذي جعل لكم الارض ذلولا " الآية، وقوله: " أولم يروا إلى الطير " الآية بعد قوله: " الذي خلق الموت والحياة " الآية، وقوله: " الذي خلق سبع سماوات " الآية، وقوله: " ولقد زينا " الآية.

قوله تعالى: " هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور " الذلول من المراكب ما يسهل ركوبه من غير أن يضطرب ويجمح والمناكب جمع منكب وهو مجتمع ما بين العضد والكتف واستعير لسطح الارض، قال الراغب: واستعارته للارض كاستعارة الظهر لها في قوله: " ما ترك على ظهرها من دابة " وتسمية الارض ذلولا وجعل ظهورها مناكب لها يستقر عليها ويمشي فيها باعتبار انقيادها لانواع التصرفات الانسانية من غير امتناع، وقد وجه كونها ذلولا ذا مناكب بوجوه مختلفة تؤل جميعها إلى ما ذكرنا.

والامر في قوله: " وكلوا من رزقه " للاباحة والنشور والنشر إحياء الميت بعد موته وأصله من نشر الصحيفة والثوب إذا بسطهما بعد طيهما.

والمعنى: هو الذي جعل الارض مطاوعة منقادة لكم يمكنكم أن تستقروا على ظهورها وتمشوا فيها تأكلون من رزقه الذي قدره لكم بأنواع الطلب والتصرف فيها.

وقوله: " وإليه النشور " أي ويرجع إليه نشر الاموات بإخراجهم من الارض وإحيائهم للحساب والجزاء، واختصاص رجوع النشر به كناية عن اختصاص الحكم بالنشور به والاحياء يوم القيامة فهو ربكم المدبر لامر حياتكم الدنيا بالاقرار على الارض والهداية إلى مآرب الحياة، وله الحكم بالنشور للحساب والجزاء.

وفي عد الارض ذلولا والبشر على مناكبها تلويح ظاهر إلى ما أدت إليه الابحاث العلمية 

 

/ صفحة 358 /

أخيرا من كون الارض كرة سيارة.

قوله تعالى: " ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الارض فإذا هي تمور " إنذار وتخويف بعد إقامة الحجة وتوبيخ على مساهلتهم في أمر الربوبية وإهمالهم أمر الشكر على نعم ربهم بالخضوع لربوبيته ورفض ما اختلقوه من الانداد.

والمراد بمن في السماء الملائكة المقيمون فيها الموكلون على حوادث الكون وإرجاع ضمير الافراد إلى " من " باعتبار لفظه وخسف الارض بقوم كذا شقها وتغييبهم في بطنها والمور على ما في المجمع التردد في الذهاب والمجئ مثل الموج.

والمعنى: ءأمنتم في كفركم بربوبيته تعالى الملائكة المقيمين في السماء الموكلين بامور العالم أن يشقوا الارض ويغيبوكم فيها بأمر الله فإذا الارض تضطرب ذهابا ومجيئا بزلزالها.

وقيل: المراد بمن في السماء هو الله سبحانه والمراد بكونه في السماء كون سلطانه وتدبيره وأمره فيها لاستحالة أن يكون تعالى في مكان أو جهة أو محاطا بعالم من العوالم، وهذا المعنى وإن كان لا بأس به لكنه خلاف الظاهر.

قوله تعالى: " أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير " الحاصب الريح التي تأتي بالحصاة والحجارة، والمعنى: ءأمنتم من في السماء أن يرسل عليكم ريحا ذات حصاة وحجارة كما أرسلها على قوم لوط قال تعالى: " إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط " القمر: 34.

وقوله: " فستعلمون كيف نذير " النذير مصدر بمعنى الانذار والجملة متفرعة على ما يفهم من سابق الكلام من كفرهم بربوبيته تعالى وأمنهم من عذابه والمعنى ظاهر.

 

وقيل: النذير صفة بمعنى المنذر والمراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو سخيف.

قوله تعالى: " ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير " المراد بالنكير العقوبة وتغيير النعمة أو الانكار، والآية كالشاهد يستشهد به على صدق ما في قوله: " فستعلمون كيف نذير " من الوعيد والتهديد.

والمعنى: ولقد كذب الذين من قبلهم من الامم الهالكة رسلي وجحدوا بربوبيتي فكيف كان عقوبتي وتغييري النعمة عليهم أو كيف كان إنكاري ذلك عليهم حيث أهلكتهم واستأصلتهم.

وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: " من قبلهم " إشعارا بسقوطهم 

 

/ صفحة 359 /

- لجهالتهم وإهمالهم في التدبر في آيات الربوبية وعدم مخافتهم من سخط ربهم - عن تشريف الخطاب فأعرض عن مخاطبتهم فيما يلقى إليهم من المعارف إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

قوله تعالى: " أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان إنه بكل شئ بصير " المراد بكون الطير فوقهم طيرانه في الهواء، وصفيف الطير بسطه جناحه حال الطيران وقبضه قبض جناحه حاله، والجمع في " صافات ويقبضن " لكون المراد بالطير استغراق الجنس.

وقوله: " ما يمسكهن إلا الرحمان " كالجواب لسؤال مقدر كأن سائلا يسأل فيقول: ما هو المراد بإلفات نظرهم إلى صفيف الطير وقبضه فوقهم؟ فاجيب بقوله: " ما يمسكهن إلا الرحمان ".

وقرار الطير حال الطيران في الهواء من غير سقوط وإن كان مستندا إلى أسباب طبيعية كقرار الانسان على بسيط الارض والسمك في الماء وسائر الامور الطبيعية المستندة إلى علل طبيعية تنتهي إليه تعالى لكن لما كان بعض الحوادث غير ظاهر السبب للانسان في بادي النظر سهل له إذا نظر إليه أن ينتقل إلى أن الله سبحانه هو السبب الاعلى الذي ينتهي إليه حدوثه ووجوده، ولذا نبههم الله سبحانه في كلامه بإرجاع نظرهم إليها ودلالتهم على وحدانيته في الربوبية.

وقد ورد في كلامه تعالى شئ كثير من هذا القبيل كامساك السماوات بغير عمد وإمساك الارض وحفظ السفن على الماء واختلاف الاثمار والالوان والالسنة وغيرها مما كان سببه الطبيعي القريب خفيا في الجملة يسهل للذهن الساذج الانتقال إلى استناده إليه تعالى ثم إذا تنبه لوجود أسبابه القريبة بنوع من المجاهدة الفكرية وجد الحاجة بعينها في أسبابه حتى تنتهي إليه تعالى وأن إلى ربك المنتهى.

قال في الكشاف: " فإن قلت: لم قيل: ويقبضن ولم يقل: وقابضات؟ قلت: لان الاصل في الطيران هو صف الاجنحة لان الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والاصل في السباحة هو مد الاطراف وبسطها وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجئ بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح.

انتهى.

وهو مبني على أن تكون الآية هي مجموع قوله: " صافات ويقبضن " وهو الطيران، 

 

/ صفحة 360 /

ويمكن أن يستفاد أن الآية عدم سقوطهن وهن صافات، وآية أخرى أنهن ربما يقبضن ولا يسقطن حينما يقبضن.

ولا يخفى ما في ذكر طيران الطير في الهواء بعد ذكر جعل الارض ذلولا والانسان على مناكبها من اللطف.

قوله تعالى: " أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان إن الكافرون إلا في غرور " توبيخ وتقريع لهم في اتخاذهم آلهة من دون الله لينصروهم ولذا التفت عن الغيبة إلى الخطاب فخاطبهم ليشتد عليهم التقريع.

وقوله: " أمن هذا الذي " الخ، معناه بل من الذي يشار إليه فيقال: هذا جند لكم ينصركم من دون الرحمان إن أرادكم بسوء أو عذاب؟ فليس دون الله من ينصركم عليه، وفيه إشارة إلى خطأهم في اتخاذ بعض خلق الله آلهة لينصروهم في النوائب وهم مملوكون لله لا يملكون لانفسهم نفعا وضرا ولا لغيرهم.

وإذ لم يكن لهم جواب أجاب تعالى بقوله: " إن الكافرون إلا في غرور " أي أحاط بهم الغرور وغشيهم فخيل إليهم ما يدعون من ألوهية آلهتهم.

قوله تعالى: " أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور " أي بل من الذي يشار إليه بأن هذا هو الذي يرزقكم إن أمسك الله رزقه فينوب مقامه فيرزقكم؟ ثم أجاب سبحانه بقوله: " بل لجوا في عتو ونفور " أي إن الحق قد تبين لهم لكنهم لا يخضعون للحق بتصديقه ثم اتباعه بل تمادوا في ابتعادهم من الحق ونفورهم منه، ولجوا في ذلك.

قوله تعالى: " أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم " إكباب الشئ على وجهه إسقاطه عليه، وقال في الكشاف: معنى أكب دخل في الكب وصار ذا كب.

استفهام إنكاري عن استواء الحالين تعريضا لهم بعد ضرب حجاب الغيبة عليهم وتحريمهم من تشريف الحضور والخطاب بعد استقرار اللجاج فيهم، والمراد أنهم بلجاجهم في عتو عجيب ونفور من الحق كمن يسلك سبيلا وهو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر فليس هذا السائر كمن يمشي سويا على صراط مستقيم فيرى موضع قدمه وما يواجهه من الطريق على استقامة، وما يقصده من الغاية 

 

/ صفحة 361 /

وهؤلاء الكفار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحق على علم به فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الامر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك.

وقد ظهر أن ما في الآية مثل عام يمثل حال الكافر الجاهل اللجوج المتمادي على جهله والمؤمن المستبصر الباحث عن الحق.

(بحث روائي) في الكافي بإسناده عن سعد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: القلب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس، وقلب مطبوع، وقلب أزهر.

فقلت: ما الازهر، قال: فيه كهيئة السراج.

فأما المطبوع فقلب المنافق، وأما الازهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر، وأما المنكوس فقلب المشرك ثم قرأ هذه الآية " أفمن يمشي مكبا على وجهه " أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم " فأما القلب الذي فيه إيمان ونفاق فقوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك وإن أدركه على إيمانه نجى.

أقول: ورواه في تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن الفضيل عن سعد الخفاف عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن القلوب أربعة، وساق الحديث إلى آخره إلا أن فيه: وقلب أزهر أنور.

وقوله: " فهم قوم كانوا بالطائف " المراد به الطائف الشيطاني الذي ربما يمس الانسان قال تعالى: " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون "، الاعراف: 201، فالمعنى أنهم يعيشون مع طائف شيطاني يمسهم حينا بعد حين فإن أدركهم الاجل والطائف معهم هلكوا وإن أدركهم وهم في حال الايمان نجوا.

واعلم أن هناك روايات تطبق قوله: " أفمن يمشي مكبا على وجهه " الآية على من حاد عن ولاية علي (عليه السلام) ومن يتبعه ويواليه، وهي من الجري والله أعلم.

 

 

/ صفحة 362 /

قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون _ 23.

قل هو الذي ذرأكم في الارض وإليه تحشرون _ 24.

ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين _ 25.

قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين _ 26.

فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون _ 27.

قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم _ 28.

قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين _ 29.

قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين _ 30.

(بيان) آيات أخر يذكرهم الله تعالى بها دالة على وحدانيته تعالى في الخلق والتدبير مقرونة بالانذار والتخويف، جارية على غرض السورة وهو التذكرة بالوحدانية مع الانذار غير أنه تعالى لما أشار إلى لجاجهم وعنادهم للحق في قوله السابق: " بل لجوا في عتو ونفور " غير السياق بالاعراض عن خطابهم والالتفات إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره أن يتصدى خطابهم ويقرع أسماعهم آياته في الخلق والتدبير الدالة على توحده في الربوبية وإنذارهم بعذاب الله، وذلك قوله: " قل هو الذي أنشأكم " الخ، " قل هو الذي ذرأكم " الخ، " قل إنما العلم " الخ، " قل أرأيتم إن أهلكني الله " الخ، " قل هو الرحمن " الخ، " قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا " الخ.

 

 

/ صفحة 363 /

قوله تعالى: " قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون " الانشاء إحداث الشئ ابتداء وتربيته.

ما في ذيل الآية من لحن العتاب في قوله: " قليلا ما تشكرون " وقد تكرر نظيره في غير موضع من كلامه كما في سورة المؤمنون (1) والم السجدة (2) يدل على أن إنشاءه تعالى الانسان وتجهيزه بجهاز الحس والفكر من أعظم نعمه تعالى التي لا يقدر قدرها.

وليس المراد بإنشائه مجرد خلقه كيفما كان بل خلقه وإحداثه من دون سابقة في مادته كما أشار إليه في قوله يصف خلقه طورا بعد طور: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة - إلى أن قال - ثم أنشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14، فصيرورة المضغة إنسانا سميعا بصيرا متفكرا بتركيب النفس الانسانية عليها خلق آخر لا يسانخ أنواع الخلقة المادية الواردة على مادة الانسان من أخذها من الارض ثم جعلها نطفة ثم علقة ثم مضغة فإنما هي أطوار مادية متعاقبة بخلاف صيرورتها إنسانا ذا شعور فلا سابقة لها تماثلها أو تشابهها فهو الانشاء.

ومثله قوله: " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون " الروم: 20 (انظر إلى موضع إذا الفجائية).

فقوله: " هو الذي أنشأكم " إشارة إلى خلق الانسان.

وقوله: " وجعل لكم السمع والابصار والافئدة " إشارة إلى تجهيزه بجهاز الحس والفكر، والجعل إنشائي كجعل نفس الانسان كما يشير إليه قوله: " وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون " المؤمنون: 78.

فالانسان بخصوصية إنشائه وكونه بحيث يسمع ويبصر يمتاز من الجماد والنبات - والاقتصار بالسمع والبصر من سائر الحواس كاللمس والذوق والشم لكونهما العمدة ولا يبعد أن يكون المراد بالسمع والبصر مطلق الحواس الظاهرة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل - وبالفؤاد وهو النفس المتفكرة يمتاز من سائر الحيوان.

 

 

* (هامش) *

(1) الآية 78.

(2) الآية 9.

 

 

/ صفحة 364 /

وقوله: قليلا ما تشكرون " أي تشكرون قليلا على هذه النعمة - أو النعم - العظمى فما زائدة وقليلا مفعول مطلق تقديره تشكرون شكرا قليلا، وقيل: ما مصدرية والمعنى: قليلا شكركم.

قوله تعالى: " قل هو الذي ذرأكم في الارض واليه تحشرون " الذرء الخلق والمراد بذرئهم في الارض خلقهم متعلقين بالارض فلا يتم لهم كمالهم إلا بأعمال متعلقة بالمادة الارضية بما زينها الله تعالى بما تنجذب إليه النفس الانسانية في حياتها المعجلة ليمتاز به الصالح من الطالح قال تعالى: " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " الكهف: 8.

وقوله: " واليه تحشرون " إشارة إلى البعث والجزاء ووعد جازم.

قوله تعالى: " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " المراد بهذا الوعد الحشر الموعود، وهو استعجال منهم استهزاء.

قوله تعالى: " قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين " جواب عن قولهم: " متى هذا الوعد " الخ، ومحصله أن العلم به عند الله لا يعلم به إلا هو كما قال: " لا يجليها لوقتها إلا هو " الاعراف: 187، وليس لي إلا أني نذير مبين أمرت أن أخبركم أنكم إليه تحشرون وأما أنه متى هو فليس لي بذلك علم.

هذا على ما يفيده وقوع الآية في سياق الجواب عن السؤال عن وقت الحشر، وعلى هذا تكون اللام في العلم للعهد، والمراد العلم بوقت الحشر، وأما لو كانت للجنس على ما تفيده جملة " إنما العلم عند الله " في نفسها فالمعنى: إنما حقيقة العلم عند الله ولا يحاط بشئ منه إلا بإذنه كما قال: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " البقرة: 255، ولم يشأ أن أعلم من ذلك إلا أنه سيقع وأنذركم به وأما أنه متى يقع فلا علم لي به.

قوله تعالى: " فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا " الخ، الزلفة القرب والمراد به القريب أو هو من باب زيد عدل، وضمير " رأوه " للوعد وقيل للعذاب والمعنى: فلما رأوا الوعد المذكور قريبا قد أشرف عليهم ساء ذلك وجوه الذين كفروا به فظهر في سيماهم أثر الخيبة والخسران.

وقوله: " وقيل هذا الذي كنتم به تدعون " قيل تدعون وتدعون بمعنى واحد 

 

/ صفحة 365 /

كتدخرون وتدخرون والمعنى: وقيل لهم: هذا هو الوعد الذي كنتم تسألونه وتستعجلون به بقولكم: متى هذا الوعد، وظاهر السياق أن القائل هم الملائكة بأمر من الله، وقيل القائل من الكفار يقوله بعضهم لبعض.

قوله تعالى: " قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم " " إن " شرطية شرطها قوله: " أهلكني الله " وجزاؤها قوله: " فمن يجير " الخ، والمعنى: قل لهم أخبروني إن أهلكني الله ومن معي من المؤمنين أو رحمنا فلم يهلكنا فمن الذي يجير ويعيد الكافرين - وهم أنتم كفرتم بالله فاستحققتم أليم العذاب - من عذاب أليم يهددهم تهديدا قاطعا أي إن هلاكي ومن معي وبقاؤنا برحمة ربي لا ينفعكم شيئا في العذاب الذي سيصيبكم قطعا بكفركم بالله.

قيل: إن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهم إن أهلكنا الله تعالى أو أبقانا فأمرنا إلى الله ونرجو الخير من رحمته وأما أنتم فما تصنعون؟ من يجيركم من أليم العذاب على كفركم بالله؟ قوله تعالى: " قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين " الضمير للذي يدعو إلى توحيده وهم يدعونه عليه، والمعنى: قل الذي أدعوكم إلى توحيده وتدعونه علي وعلى من معي هو الرحمن الذي عمت نعمته كل شئ آمنا به وعليه توكلنا من غير أن نميل ونعتمد على شئ دونه فستعلمون أيها الكفار من هو في ضلال مبين؟ نحن أم أنتم؟ قال في الكشاف: فإن قيل: لم أخر مفعول " آمنا " وقدم مفعول " توكلنا "؟ قلت: لوقوع آمنا تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم كأنه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم، ثم قال: وعليه توكلنا خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم.

قوله تعالى: " قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين " الغور ذهاب الماء ونضوبه في الارض والمراد به الغائر، والمعين الظاهر الجاري من الماء، والمعنى: أخبروني إن صار ماؤكم غائرا ناضبا في الارض فمن يأتيكم بماء ظاهر جار.

وهناك روايات تطبق الآيات على ولاية علي (عليه السلام) ومحادته، وهي من الجري وليست بمفسرة.

 

 

/ صفحة 366 /

(سورة القلم مكية، وهي اثنتان وخمسون آية) بسم الله الرحمن الرحيم.

ن والقلم وما يسطرون _ 1.

ما أنت بنعمة ربك بمجنون _ 2.

وإن لك لاجرا غير ممنون _ 3.

وإنك لعلى خلق عظيم _ 4.

فستبصر ويبصرون _ 5.

بأيكم المفتون _ 6.

إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين _ 7.

فلا تطع المكذبين _ 8.

ودوا لو تدهن فيدهنون _ 9.

ولا تطع كل حلاف مهين _ 10.

هماز مشاء بنميم _ 11.

مناع للخير معتد أثيم _ 12.

عتل بعد ذلك زنيم _ 13.

أن كان ذا مال وبنين _ 14.

إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الاولين _ 15.

سنسمه على الخرطوم _ 16.

إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين _ 17.

ولا يستثنون _ 18.

فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون _ 19.

فأصبحت كالصريم _ 20.

فتنادوا مصبحين _ 21.

أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين _ 22.

فانطلقواوهم يتخافتون _ 23.

أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين _ 24.

وغدوا على حرد قادرين _ 25.

فلما رأوها قالوا إنا لضالون _ 26.

بل نحن 

 

/ صفحة 367 /

محرومون _ 27.

قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون _ 28.

قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين _ 29.

فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون _ 30.

قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين _ 31.

عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون _ 32.

كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون _ 33.

(بيان) السورة تعزي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إثر ما رماه المشركون بالجنوب وتطيب نفسه بالوعد الجميل والشكر على خلقه العظيم وتنهاه نهيا بالغا عن طاعتهم ومداهنتهم، وتأمره أمرا أكيدا بالصبر لحكم ربه.

وسياق آياتها على الجملة سياق مكي، ونقل عن ابن عباس وقتادة أن صدرها إلى قوله: سنسمه على الخرطوم - ستة عشرة آية - مكي، وما بعده إلى قوله: " لو كانوا يعلمون - سبع عشرة آية - مدني، وما بعده إلى قوله: " يكتبون - خمس عشرة آية - مكي، وما بعده إلى آخر السورة - أربع آيات مدني.

ولا يخلو من وجه بالنسبة إلى الآيات السبع عشرة " إنا بلوناهم - إلى قوله - لو كانوا يعلمون " فإنها أشبه بالمدنية منها بالمكية.

قوله تعالى: " ن " تقدم الكلام في الحروف المقطعة التي في أوائل السور في تفسير سورة الشورى.

قوله تعالى: " والقلم وما يسطرون " القلم معروف، والسطر بالفتح فالسكون وربما يستعمل بفتحتين - كما في المفردات - الصف من الكتابة، ومن الشجر المغروس ومن القوم الوقوف وسطر فلان كذا كتب سطرا سطرا.

أقسم سبحانه بالقلم وما يسطرون به وظاهر السياق أن المراد بذلك مطلق القلم 

 

/ صفحة 368 /

ومطلق ما يسطرون به وهو المكتوب فإن القلم وما يسطر به من الكتابة من أعظم النعم الالهية التي اهتدى إليها الانسان يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الانظار والمعاني المستكنة في الضمائر، وبه يتيسر للانسان أن يستحضر كل ما ضرب مرور الزمان أو بعد المكان دونه حجابا.

وقد امتن الله سبحانه على الانسان بهدايته اليهما وتعليمهما له فقال في الكلام " خلق الانسان علمه البيان " الرحمان: 4، وقال في القلم: " علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم العلق: 5.

فإقسامه تعالى بالقلم وما يسطرون إقسام بالنعمة، وقد أقسم تعالى في كلامه بكثير من خلقه بما أنه رحمة ونعمة كالسماء والارض والشمس والقمر والليل والنهار إلى غير ذلك حتى التين والزيتون.

وقيل: " ما " في قوله: " وما يسطرون " مصدرية والمراد به الكتابة.

وقيل: المراد بالقلم القلم الاعلى الذي في الحديث أنه أول ما خلق الله وبما يسطرون ما يسطره الحفظة والكرام الكاتبون واحتمل أيضا أن يكون الجمع في " يسطرون " للتعظيم لا للتكثير وهو كما ترى، واحتمل أن يكون المراد ما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ واحتمل أن يكون المراد بالقلم وما يسطرون أصحاب القلم ومسطوراتهم وهي احتمالات واهية.

قوله تعالى: " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " مقسم عليه والخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والباء في " بنعمة " للسببية أو المصاحبة أي ما أنت بمجنون بسبب النعمة - أو مع النعمة - التي أنعمها عليك ربك.

والسياق يؤيد أن المراد بهذه النعمة النبوة فإن دليل النبوة يدفع عن النبي كل اختلال عقلي حتى تستقيم الهداية الالهية اللازمة في نظام الحياة الانسانية، والآية ترد ما رموه به من الجنون كما يحكى عنهم في آخر السورة " ويقولون إنه لمجنون ".

وقيل: المراد بالنعمة فصاحته (صلى الله عليه وآله وسلم) وعقله الكامل وسيرته المرضية وبراءته من كل عيب واتصافه بكل مكرمة فظهور هذه الصفات فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينافي حصول الجنون فيه وما قدمناه أقطع حجة والآية وما يتلوها كما ترى تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطييب لنفسه الشريفة وتأييد له كما أن فيها تكذيبا لقولهم.

 

 

/ صفحة 369 /

قوله تعالى: " وإن لك لاجر غير ممنون " الممنون من المن بمعنى القطع يقال: منه لسير منا إذا قطعه وأضعفه لا من المنة بمعنى تثقيل النعمة قولا.

والمراد بالاجر أجر الرسالة عند الله سبحانه، وفيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن له على تحمل رسالة الله أجرا غير مقطوع وليس يذهب سدى.

وربما أخذ المن بمعنى ذكر المنعم إنعامه على المنعم عليه بحيث يثقل عليه ويكدر عيشه بتقريب أن ما يعطيه الله أجر في مقابل عمله فهو يستحقه عليه تعالى فلا منة عليه وهو غير سديد فإن كل عامل مملوك لله سبحانه بحقيقة معنى الملك بذاته وصفاته وأعماله فما يعطيه العبد من ذلك فهو موهبة وعطية وما يملكه العبد من ذلك فإنما يملكه بتمليك الله وهو المالك لما ملكه من قبل ومن بعد فهو تفضل منه تعالى ولئن سمى ما يعطيه بإزاء العمل أجرا وسمى ما بينه وبين عبده من مبادلة العمل والاجر معاملة فذلك تفضل آخر فلله سبحانه المنة على جميع خلقه والرسول ومن دونه فيه سواء.

قوله تعالى: " وإنك لعلى خلق عظيم " الخلق هو الملكة النفسانية التي تصدر عنها الافعال بسهولة وينقسم إلى الفضيلة وهي الممدوحة كالعفة والشجاعة، والرذيلة وهي المذمومة كالشره والجبن لكنه إذا أطلق فهم منه الخلق الحسن.

قال الراغب: والخلق - بفتح الخاء - والخلق - بضم الخاء - في الاصل واحد كالشرب والشرب والصرم والصرم لكن خص الخلق - بالفتح - بالهيئات والاشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق - بالضم - بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة قال تعالى: " وإنك لعلى خلق عظيم " انتهى.

والآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك، وقد أوردنا في آخر الجزء السادس من الكتاب ما روي في جوامع أخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومما تقدم يظهر أن ما قيل: إن المراد بالخلق الدين وهو الاسلام غير مستقيم إلا بالرجوع إلى ما تقدم.

 

 

/ صفحة 370 /

قوله تعالى: " فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون " تقريع على محصل ما تقدم أي فإذا لم تكن مجنونا بل متلبسا بالنبوة ومتخلقا بالخلق ولك عظيم الاجر من ربك فسيظهر أمر دعوتك وينكشف على الابصار والبصائر من المفتون بالجنون أنت أو المكذبون الرامون لك بالجنون.

وقيل: المراد ظهور عاقبة أمر الدعوة له ولهم في الدنيا أو في الآخرة؟ الآية تقبل الحمل على كل منها.

ولكل قائل، ولا مانع من الجمع فإن الله تعالى أظهر نبيه عليهم ودينه على دينهم، ورفع ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) ومحا أثرهم في الدنيا وسيذوقون وبال أمرهم غدا ويعلمون (1) أن الله هو الحق المبين يوم هم (2) على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون.

وقوله: " بأيكم المفتون " الباء زائدة للصلة، والمفتون اسم مفعول من الفتنة بمعنى الابتلاء يريد به المبتلى بالجنون وفقدان العقل، والمعنى فستبصر ويبصرون أيكم المفتون المبتلى بالجنون؟ أنت أم هم؟ وقيل: المفتون مصدر على زنة مفعول كمعقول وميسور ومعسور في قولهم: ليس له معقول، وخذ ميسوره، ودع معسوره، والباء في " بأيكم " بمعنى في والمعنى: فستبصر ويبصرون في أي الفريقين الفتنة.

قوله تعالى: " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين لما أفيد بما تقدم من القول أن هناك ضلالا واهتداء، وأشير إلى أن الرامين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنون هم المفتونون الضالون وسيظهر أمرهم وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهتد وكان ذلك ببيان من الله سبحانه أكد ذلك بأن الله أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين لان السبيل سبيله وهو أعلم بمن هو في سبيله ومن ليس فيه وإليه أمر الهداية.

قوله تعالى: " فلا تطع المكذبين " تفريع على المحصل من معنى الآيات السابقة وفي المكذبين معنى العهد والمراد بالطاعة مطلق الموافقة عملا أو قولا، والمعنى: فإذا كان هؤلاء المكذبون لك مفتونين ضالين فلا تطعهم.

 

 

* (هامش) *

(1) النور: 35.

(2) الذاريات: 14.

 

 

/ صفحة 371 /

قوله تعالى: " ودوا لو تدهن فيدهنون " الادهان من الدهن يراد به التليين أي ود وأحب هؤلاء المكذبون أن تلينهم بالاقتراب منهم في دينك فيلينوك بالاقتراب منك في دينهم، ومحصله أنهم ودوا أن تصالحهم ويصالحوك على أن يتسامح كل منكم بعض المسامحة في دين الآخر كما قيل: إنهم عرضوا عليه أن يكف عن ذكر آلهتهم فيكفوا عنه وعن ربه.

وبما تقدم ظهر أن متعلق مودتهم مجموع " لو تدهن فيدهنون " وأن الفاء في " فيدهنون " للتفريع لا للسببية.

قوله تعالى: " ولا تطع كل حلاف مهين - إلى قوله - زنيم " الحلاف كثير الحلف، ولازم كثرة الحلف والاقسام في كل يسير وخطير وحق وباطل أن لا يحترم الحالف شيئا مما يقسم به، وإذا كان حلفه بالله فهو لا يستشعر عظمة الله عز اسمه وكفى به رذيلة.

والمهين من المهانة بمعنى الحقارة والمراد به حقارة الرأي، وقيل: هو المكثار في الشر، وقيل: هو الكذاب.

والهماز مبالغة من الهمز والمراد به العياب والطعان، وقيل: الطعان بالعين والاشارة وقيل: كثير الاغتياب.

والمشاء بنميم النميم: السعاية والافساد، والمشاء به هو نقال الحديث من قوم إلى قوم على وجه الافساد بينهم.

والمناع للخير كثير المنع لفعل الخير أو للخير الذي ينال أهله.

والمعتدي من الاعتداء وهو المجاوزة للحد ظلما.

والاثيم هو الذي كثر إثمه حتى استقر فيه من غير زوال والاثم هو العمل السيئ الذي يبطئ الخير.

والعتل بضمتين هو الفظ الغليظ الطبع، وفسر بالفاحش السيئ الخلق، وبالجافي الشديد الخصومة بالباطل، وبالاكول المنوع للغير، وبالذي يعتل الناس ويجرهم إلى حبس أو عذاب.

والزنيم هو الذي لا أصل له، وقيل: هو الدعي الملحق بقوم وليس منهم، وقيل: هو المعروف باللؤم، وقيل: هو الذي له علامة في الشر يعرف بها وإذا ذكر الشر سبق هو إلى الذهن، والمعاني متقاربة.

 

 

/ صفحة 372 /

فهذه صفات تسع رذيلة وصف الله بها بعض أعداء الدين ممن كان يدعو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الطاعة والمداهنة، وهي جماع الرذائل.

وقوله: " عتل بعد ذلك زنيم " معناه أنه بعدما ذكر من مثالبه ورذائله عتل زنيم قيل: وفيه دلالة على أن هاتين الرذيلتين أشد معايبه.

والظاهر أن فيه إشارة إلى أن له خبائث من الصفات لا ينبغي معها أن يطاع في أمر الحق ولو أغمض عن تلك الصفات فإنه فظ خشن الطبع لا أصل له لا ينبغي أن يعبأ بمثله في مجتمع بشري فليطرد ولا يطع في قول ولا يتبع في فعل.

قوله تعالى: " أن كان ذا مال وبنين " الظاهر أنه بتقدير لام التعليل وهو متعلق بفعل محصل من مجموع الصفات الرذيلة المذكورة أي هو يفعل كذا وكذا لان كان ذا مال وبنين فبطر بذلك وكفر بنعمة الله وتلبس بكل رذيلة خبيثة بدل أن يشكر الله على نعمته ويصلح نفسه، فالآية في إفادة الذم والتهكم تجري مجرى قوله: " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ".

وقيل: إنه متعلق بقوله السابق " لا تطع "، والمعنى: لا تطعه لكونه ذا مال وبنين أي لا يحملك كونه ذا مال وبنين على طاعته، والمعنى المتقدم أقرب وأوسع.

قيل: ولا يجوز تعلقه بقوله: " قال " في الشرطية التالية لان ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله عند النحاة.

قوله تعالى: " إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الاولين " الاساطير جمع اسطورة وهي القصة الخرافية، والآية تجري مجرى التعليل لقوله السابق: " لا تطع ".

قوله تعالى: " سنسمه على الخرطوم " الوسم والسمة وضع العلامة، والخرطوم الانف، وقيل: إن في إطلاق الخرطوم على أنفه وإنما يطلق في الفيل والخنزير تهكما، وفي الآية وعيد على عداوته الشديدة لله ورسوله وما نزله على رسوله.

والظاهر أن الوسم على الانف أريد به نهاية إذلاله بذلة ظاهرة يعرفه بها كل من رآه فإن الانف مما يظهر فيه العزة والذلة كما يقال: شمخ فلان بأنفه وحمي فلان أنفه وأرغمت أنفه وجدع أنفه.

والظاهر أن الوسم على الخرطوم مما سيقع يوم القيامة لا في الدنيا وإن تكلف بعضهم في توجيه حمله على فضاحته في الدنيا.

 

 

/ صفحة 373 /

قوله تعالى: " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة - إلى قوله - كالصريم " البلاء الاختبار وإصابة المصيبة، والصرم قطع الثمار من الاشجار، والاستثناء عزل البعض من حكم الكل وأيضا الاستثناء قول إن شاء الله عند القطع بقول وذلك أن الاصل فيه الاستثناء فالاصل في قولك: أخرج غدا إن شاء الله هو أخرج غدا إلا أن يشاء الله أن لا أخرج، والطائف العذاب الذي يأتي بالليل، والصريم الشجر المقطوع ثمره، وقيل: الليل الاسود، وقيل: الرمل المقطوع من سائر الرمل وهو لا ينبت شيئا ولا يفيد فائدة.

الآيات أعني قوله: " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة " إلى تمام سبع عشرة آية وعيد لمكذبي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الرامين له بالجنون، وفي التشبيه والتنظير دلالة على أن هؤلاء المكذبين معذبون لا محالة والعذاب الواقع عليهم قائم على ساقه، غير أنهم غافلون وسيعلمون، فهم مولعون اليوم بجمع المال وتكثير البنين مستكبرون بها معتمدون عليها وعلى سائر الاسباب الظاهرية التي توافقهم وتشايع أهواءهم من غير أن يشكروا ربهم على هذه النعم ويسلكوا سبيل الحق ويعبدوا ربهم حتى يأتيهم الاجل ويفاجئهم عذاب الآخرة أو عذاب دنيوي من عنده كما فاجأهم يوم بدر فيروا انقطاع الاسباب عنهم وأن المال والبنين سدى لا ينفعهم شيئا كما شاهد نظير ذلك أصحاب الجنة من جنتهم وسيندمون على صنيعهم ويرغبون إلى ربهم ولا يرد ذلك عذاب الله كما ندم أصحاب الجنة وتلاوموا ورغبوا إلى ربهم فلم ينفعهم ذلك شيئا كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، هذا على تقدير اتصال الآيات بما قبلها ونزولها معها.

وأما على ما رووا أن الآيات نزلت في القحط والسنة الذي أصاب أهل مكة وقريشا إثر دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم بقوله: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فالمراد بالبلاء إصابتهم بالقحط وتناظر قصتهم قصة أصحاب الجنة غير أن في انطباق ما في آخر قصتهم من قوله: " فأقبل بعضهم على بعض " الخ، على قصة أهل مكة خفاء.

وكيف كان فالمعنى: " إنا بلوناهم " أصبناهم بالبلية " كما بلونا " وأصبنا بالبلية " أصحاب الجنة " وكانوا قوما من اليمن وجنتهم فيها وسيأتي إن شاء الله قصتهم في البحث الروائي الآتي " إذ " ظرف لبلونا " أقسموا " وحلفوا " ليصرمنها " أي ليقطعن ويقطفن ثمار جنتهم " مصبحين " داخلين في الصباح وكأنهم ائتمروا وتشاوروا ليلا فعزموا على 

 

/ صفحة 374 /

الصرم صبيحة ليلتهم " ولا يستثنون " لم يقولوا إلا أن يشاء الله اعتمادا على أنفسهم واتكاء على ظاهر الاسباب.

أو المعنى: قالوا وهم لا يعزلون نصيبا من ثمارهم للفقراء والمساكين.

" فطاف عليها " على الجنة " طائف " أي بلاء يطوف عليها ويحيط بها ليلا " من " ناحية " ربك، فأصبحت " وصارت الجنة " كالصريم " وهو الشجر المقطوع ثمره أو المعنى: فصارت الجنة كالليل الاسود لما اسودت بإحراق النار التي أرسلها الله إليها أو المعنى: فصارت الجنة كالقطعة من الرمل لا نبات بها ولا فائدة.

قوله تعالى: " فتنادوا مصبحين - إلى قوله - قادرين " التنادي نداء بعض القوم بعضا، والاصباح الدخول في الصباح، وصارمين من الصرم بمعنى قطع الثمار من الشجرة، والمراد به في الآية القاصدون لقطع الثمار، والحرث الزرع والشجر، والخفت الاخفاء والكتمان، والحرد المنع وقادرين من القدر بمعنى التقدير.

والمعنى: " فتنادوا " أي فنادى بعض القوم بعضا " مصبحين " أي والحال أنهم داخلون في الصباح " أن أغدوا على حرثكم " تفسير للتنادي أي بكروا مقبلين على جنتكم - فأغدوا أمر بمعنى بكروا مضمن معنى أقبلوا ولذا عدي بعلى ولو كان غير مضمن عدي بإلى كما في الكشاف - " إن كنتم صارمين " أي قاصدين عازمين على الصرم والقطع.

" فانطلقوا " وذهبوا إلى جنتهم " وهم يتخافتون " أي والحال أنهم يأتمرون فيما بينهم بطريق المخافتة والمكاتمة " أن لا يدخلنها " أي الجنة " اليوم عليكم مسكين " أي أخفوا ورودكم الجنة للصرم من المساكين حتى لا يدخلوا عليكم فيحملكم ذلك على عزل نصيب من الثمر المصروم لهم " وغدوا " وبكروا إلى الجنة " على حرد " أي على منع للمساكين " قادرين " مقدرين في أنفسهم أنهم سيصرمونها ولا يساهمون المساكين بشئ منها.

قوله تعالى: " فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون " أي فلما رأوا الجنة وشاهدوها وقد أصبحت كالصريم بطواف طائف من عند الله قالوا: " إنا لضالون عن الصواب في غدونا إليها بقصد الصرم ومنع المساكين.

وقيل: المراد إنا لضالون طريق جنتنا وما هي بها.

وقوله: " بل نحن محرومون " إضراب عن سابقه أي ليس مجرد الضلال عن الصواب بل حرمنا الزرع.

قوله تعالى: " قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون - إلى قوله - راغبون " أي 

 

/ صفحة 375 /

" قال أوسطهم " أي أعدلهم طريقا وذلك أنه ذكرهم بالحق وإن تبعهم في العمل وقيل: المراد أوسطهم سنا وليس بشئ " ألم أقل لكم " وقد كان قال لهم ذلك وإنما لم يذكر قبل في القصة إيجازا بالتعويل على ذكره ههنا.

" لولا تسبحون " المراد بتسبيحهم له تعالى تنزيههم له من الشركاء حيث اعتمدوا على أنفسهم وعلى سائر الاسباب الظاهرية فأقسموا ليصر منها مصبحين ولم يستثنوا لله مشية فعزلوه تعالى عن السببية والتأثير ونسبوا التأثير إلى أنفسهم وسائر الاسباب الظاهرية، وهو إثبات للشريك، ولو قالوا: لنصرمنها مصبحين إلا أن يشاء الله كان معنى ذلك نفي الشركاء وأنهم إن لم يصرموا كان لمشية من الله وإن صرموا كان ذلك بإذن من الله فلله الامر وحده لا شريك له.

وقيل: المراد بتسبيحهم لله ذكر الله تعالى وتوبتهم إليه حيث نووا أن يصرموها ويحرموا المساكين منها، وله وجه على تقدير أن يراد بالاستثناء عزل نصيب من الثمار للمساكين.

قوله تعالى: " قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين " تسبيح منهم لله سبحانه إثر توبيخ أوسطهم لهم، أي ننزه الله تنزيها من الشركاء الذين أثبتناهم فيما حلفنا عليه فهو ربنا الذي يدبر بمشيته أمورنا لانا كنا ظالمين في إثباتنا الشركاء فهو تسبيح واعتراف بظلمهم على أنفسهم في إثبات الشركاء.

وعلى القول الآخر توبة واعتراف بظلمهم على أنفسهم وعلى المساكين.

قوله تعالى: " فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون " أي يلوم بعضهم بعضا على ما ارتكبوه من الظلم.

قوله تعالى: " قالوا يا ويلنا - إلى قوله - راغبون " الطغيان تجاوز الحد وضمير " منها " للجنة باعتبار ثمارها والمعنى: قالوا يا ويلنا إنا كنا متجاوزين حد العبودية إذ أثبتنا شركاء لربنا ولم نوحده، ونرجو من ربنا أن يبدلنا خيرا من هذه الجنة التي طاف عليها طائف منه لانا راغبون إليه معرضون عن غيره.

قوله تعالى: " كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون " العذاب مبتدأ مؤخر، وكذلك خبر مقدم أي إنما يكون العذاب على ما وصفناه في قصة أصحاب الجنة وهو أن الانسان يمتحن بالمال والبنين فيطغى مغترا بذلك فيستغني بنفسه وينسى ربه ويشرك بالاسباب الظاهرية وبنفسه ويجترئ على المعصية وهو غافل عما يحيط به من وبال 

 

/ صفحة 376 /

عمله ويهيؤ له من العذاب كذلك حتى إذا فاجأه العذاب وبرز له بأهول وجوهه وأمرها انتبه من نومة الغفلة وتذكر ما جاءه من النصح قبلا وندم على ما فرط بالطغيان والظلم وسأل الله أن يعيد عليه النعمة فيشكر كما انتهى إليه أمر أصحاب الجنة، ففي ذلك إعطاء الضابط بالمثال.

وقوله: " ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون " لانه ناش عن قهر إلهي لا يقوم له شئ لا رجاء للتخلص منه ولو بالموت والفناء كما في شدائد الدنيا، محيط بالانسان من جميع أقطار وجوده لا كعذاب الدنيا دائم لا انتهاء لامده كما في الابتلاءات الدنيوية.

(بحث روائي) في المعاني بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوري عن الصادق (عليه السلام) في تفسير الحروف المقطعة في القرآن قال: وأما ن فهو نهر في الجنة قال الله عز وجل: اجمد فجمد فصار مدادا ثم قال للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة فالمداد مداد من نور والقلم قلم من نور واللوح لوح من نور.

قال سفيان: فقلت له: يا بن رسول الله بين أمر اللوح والقلم والمداد فضل بيان وعلمني مما علمك الله فقال: يا ابن سعيد لولا أنك أهل للجواب ما أجبتك فنون ملك يؤدي إلى القلم وهو ملك، والقلم يؤدي إلى اللوح وهو ملك، واللوح يؤدي إلى إسرافيل وإسرافيل يؤدي إلى ميكائيل وميكائيل يؤدي إلى جبرائيل وجبرائيل يؤدي إلى الانبياء والرسل.

قال: ثم قال: قم يا سفيان فلا آمن عليك.

وفيه بإسناده عن إبراهيم الكرخي قال: سألت جعفر بن محمد (عليه السلام) عن اللوح والقلم قال: هما ملكان.

وفيه بإسناده عن الاصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " ن والقلم وما يسطرون " القلم قلم من نور وكتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقربون وكفى بالله شهيدا.

أقول: وفي المعاني المتقدمة روايات اخرى عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى: " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " الجاثية: 29، حديث القمي عن عبد الرحيم القصير عن الصادق (عليه السلام) في اللوح والقلم وفيه: ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد ذلك ولا ينطق أبدا وهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها.

 

 

/ صفحة 377 /

وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ن والقلم وما يسطرون " قال: لوح من نور وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة.

أقول: وفي معناه روايات أخر، وقوله: يجري بما هو كائن الخ، أي منطبق على متن الكائنات من دون أن يتخلف شئ منها عما كتب هناك ونظيره ما في رواية أبي هريرة: ثم ختم على في القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة.

وفي المعاني بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: " وإنك لعلى خلق عظيم " قال: هو الاسلام.

وفي تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: " وإنك لعلى خلق عظيم " قال: على دين عظيم.

أقول يريد اشتمال الدين والاسلام على كمال الخلق واستنانه (صلى الله عليه وآله وسلم) به، وفي الرواية المعروفة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): بعثت لاتمم مكارم الاخلاق.

وفي المجمع بإسناده عن الحاكم بإسناده عن الضحاك قال: لما رأت قريش تقديم النبي صلى الله عليه وسلم عليا وإعظامه له نالوا من علي وقالوا: قد افتتن به محمد فأنزل الله تعالى: " ن والقلم وما يسطرون " قسم أقسم الله به " ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لاجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم - يعني القرآن - إلى قوله - بمن ضل عن سبيله " وهم النفر الذين قالوا ما قالوا " وهو أعلم بالمهتدين " يعني علي بن أبي طالب.

أقول: ورواه في تفسير البرهان عن محمد بن العباس بإسناده إلى الضحاك: وساق نحوا مما مر وفي آخره: وسبيله علي بن أبي طالب.

وفيه في قوله تعالى: " ولا تطع كل حلاف " الخ، قيل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المال ليرجع عن دينه، وقيل: يعني الاخنس بن شريق عن عطاء، وقيل: يعني الاسود بن عبد يغوث عن مجاهد.

 

أقول: وفي ذلك روايات في الدر المنثور وغيره تركنا إيرادها من أرادها فليراجع جوامع الروايات.

وفيه عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا عتل زنيم.

قلت: فما الجواظ؟ قال: كل جماع مناع.

قلت: فما الجعظري؟ 

 

/ صفحة 378 /

قال: الفظ الغليظ.

قلت: فما العتل الزنيم؟ قال: كل رحيب الجوف سئ الخلق أكول شروب غشوم ظلوم زنيم.

وفيه في معنى الزنيم: قيل هو الذي لا أصل له وفيه في تفسير القمي في قوله: " عتل بعد ذلك زنيم " قال: العتل العظيم الكفر الزنيم الدعي.

وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة " إن أهل مكة ابتلوا بالجوع كما ابتلي أصحاب الجنة وهي كانت في الدنيا وكانت باليمن يقال له الرضوان على تسعة أميال من صنعاء.

وفيه بإسناده إلى ابن عباس أنه قيل له إن قوما من هذه الامة يزعمون أن العبد يذنب فيحرم به الرزق، فقال ابن عباس: فوالله الذي لا إله إلا هو هذا أنور في كتاب الله من الشمس الضاحية ذكره الله في سورة ن والقلم.

أنه كان شيخ وكان له جنة وكان لا يدخل إلى بيته ثمرة منها ولا إلى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه فلما قبض الشيخ ورثه بنوه وكان له خمس من البنين فحملت جنتهم في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم يكن حملته قبل ذلك فراحوا الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر فأشرفوا على ثمرة ورزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم.

فلما نظروا إلى الفضل طغوا وبغوا وقال بعضهم لبعض: إن أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله وخرف فهلموا نتعاقد فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا شيئا حتى نستغني ويكثر أموالنا ثم نستأنف الصنيعة فيما استقبل من السنين المقبلة فرضي بذلك منهم أربعة وسخط الخامس وهو الذي قال الله: " قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون ".

فقال الرجل: يا ابن عباس كان أوسطهم في السن؟ فقال: لا بل كان أصغرهم سنا وأكبرهم عقلا وأوسط القوم خير القوم، والدليل عليه في القرآن قوله: إنكم يا أمة محمد أصغر الامم وخير الامم قوله عز وجل: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا ".

قال لهم أوسطهم: إتقوا وكونوا على منهاج أبيكم تسلموا وتغنموا فبطشوا به وضربوه ضربا مبرحا فلما أيقن الاخ منهم أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لامرهم غير طائع.

 

 

/ صفحة 379 /

فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا بالله ليصرمن إذا أصبحوا ولم يقولوا إن شاء الله فابتلاهم الله بذلك الذنب وحال بينهم وبين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه فأخبر عنهم في الكتاب فقال: " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم " قال: كالمحترق.

فقال الرجل: يا ابن عباس ما الصريم؟ قال: الليل المظلم، ثم قال: لا ضوء له ولا نور.

فلما أصبح القوم " فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين " قال: " فانطلقوا وهم يتخافتون " قال الرجل: وما التخافت يا ابن عباس؟ قال: يتشاورون فيشاور بعضهم بعضا لكيلا يسمع أحد غيرهم فقالوا: " لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين " في أنفسهم أن يصرموها ولا يعلمون ما قد حل بهم من سطوات الله ونقمته.

" فلما رأوها " وما قد حل بهم " قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون " فحرمهم الله ذلك الرزق بذنب كان منهم ولم يظلمهم شيئا.

" قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون " قال: يلومون أنفسهم فيما عزموا عليه " قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون " فقال الله: " كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ".

أقول: وقد ورد ما يقرب من مضمون هذا الحديث والذي قبله في روايات أخر وفي بعض الروايات أن الجنة كانت لرجل من بني إسرائيل ثم مات وورثه بنوه فكان من أمرهم ما كان.

إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم _ 34.

أفنجعل المسلمين كالمجرمين _ 35.

ما لكم كيف تحكمون _ 36.

أم لكم 

 

/ صفحة 380 /

كتاب فيه تدرسون _ 37.

إن لكم فيه لما تخيرون _ 38.

أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون _ 39.

سلهم أيهم بذلك زعيم _ 40.

أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين _ 41.

يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون _ 42.

خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون _ 43.

فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون _ 44.

وأملي لهم إن كيدي متين _ 45.

أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون _ 46.

أم عندهم الغيب فهم يكتبون _ 47.

فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم _ 48.

لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم _ 49.

فاجتباه ربه فجعله من الصالحين _ 50.

وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون _ 51.

وما هو إلا ذكر للعالمين _ 52.

(بيان) فيها تذييل لما تقدم من الوعيد لمكذبي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسجيل العذاب عليهم في الآخرة إذ المتقون في جنات النعيم، وتثبيت أنهم والمتقون لا يستون بحجة قاطعة فليس لهم أن 

 

/ صفحة 381 /

يرجوا كرامة من الله وهم مجرمون فما يجدونه من نعم الدنيا استدراج وإملاء.

وفيها تأكيد أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر لحكم ربه.

قوله تعالى: " إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم " بشرى وبيان لحال المتقين في الآخرة قبال ما بين من حال المكذبين فيها.

وفي قوله: " عند ربهم " دون أن يقال: عند الله إشارة إلى رابطة التدبير والرحمة بينهم وبينه سبحانه وأن لهم ذلك قبال قصرهم الربوبية فيه تعالى وإخلاصهم العبودية له.

وإضافة الجنات إلى النعيم وهو النعمة للاشارة إلى أن ما فيها من شئ نعمة لا تشوبها نقمة ولذة لا يخالطها ألم، وسيجئ إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " التكاثر: 8، أن المراد بالنعيم الولاية.

قوله تعالى: " أفنجعل المسلمين كالمجرمين " تحتمل الآية في بادئ النظر أن تكون مسوقة حجة على المعاد كقوله تعالى: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " ص: 28، وقد تقدم تفسيره.

وأن تكون ردا على قول من قال منهم للمؤمنين: لو كان هناك بعث وإعادة لكنا منعمين كما في الدنيا وقد حكى سبحانه ذلك عن قائلهم: " وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي أن لي عنده للحسنى " حم السجدة: 50.

ظاهر سياق الآيات التالية التي ترد عليهم الحكم بالتساوي هو الاحتمال الثاني، وهو الذي رووه أن المشركين لما سمعوا حديث البعث والمعاد قالوا: إن صح ما يقوله محمد والذين آمنوا معه لم تكن حالنا إلا أفضل من حالهم كما في الدنيا ولا أقل من أن تتساوى حالنا وحالهم.

غير أنه يرد عليه أن الآية لو سيقت لرد قولهم، سنساويهم في الآخرة أو نزيد عليهم كما في الدنيا، كان مقتضى التطابق بين الرد والمردود أن يقال: أفنجعل المجرمين كالمسلمين وقد عكس.

والتدبر في السياق يعطي أن الآية مسوقة لرد دعواهم التساوي لكن لا من جهة نفي مساواتهم على إجرامهم للمسلمين بل تزيد على ذلك بالاشارة إلى أن كرامة المسلمين تأبى أن يساويهم المجرمون كأنه قيل: إن قولكم: سنتساوى نحن والمسلمون باطل فإن الله لا يرضى أن يجعل المسلمين بما لهم من الكرامة عنده كالمجرمين وأنتم مجرمون.

 

 

/ صفحة 382 /

فالآية تقيم الحجة على عدم تساوي الفريقين من جهة منافاته لكرامة المسلمين عليه تعالى لا من جهة منافاة مساواة المجرمين للمسلمين عدله تعالى.

والمراد بالاسلام تسليم الامر لله فلا يتبع إلا ما أراده سبحانه من فعل أو ترك يقابله الاجرام وهو اكتساب السيئة وعدم التسليم والآية وما بعدها إلى قوله: " أم عندهم الغيب فهم يكتبون " في مقام الرد لحكمهم بتساوي المجرمين والمسلمين حالا يوم القيامة تورد محتملات هذا الحكم من حيث منشئه في صور استفهامات إنكارية وتردها.

وتقرير الحجة: أن كون المجرمين كالمسلمين يوم القيامة على ما حكموا به إما أن يكون من الله تعالى موهبة ورحمة وإما أن لا يكون منه.

والاول إما أن يدل عليه دليل العقل ولا دليل عليه كذلك وذلك قوله: " ما لكم كيف تحكمون ".

وإما أن يدل عليه النقل وليس كذلك وهو قوله: " أم لكم كتاب " الخ، وإما أن يكون لا لدلالة عقل أو نقل بل عن مشافهة بينهم وبين الله سبحانه عاهدوه وواثقوه على أن يسوي بينهما وليس كذلك فهذه ثلاثة احتمالات.

وإما أن لا يكون من الله فإما أن يكون حكمهم بالتساوي حكما جديا أو لا يكون فإن كان جديا فإما أن يكون التساوي الذي يحكمون به مستندا إلى أنفسهم بأن يكون لهم قدرة على أن يصيروا يوم القيامة كالمسلمين حالا وإن لم يشإ الله ذلك وليس كذلك وهو قوله: " سلهم أيهم بذلك زعيم " أو يكون القائم بهذا الامر المتصدي له شركاؤهم ولا شركاء وهو قوله: " أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم " الخ.

وإما أن يكون ذلك لان الغيب عندهم والامور التي ستستقبل الناس قدرها وقضاؤها منوطان بمشيتهم تكون وتقع كيف يكتبون فكتبوا لانفسهم المساواة مع المسلمين، وليس كذلك ولا سبيل لهم إلى الغيب وذلك قوله: " أم عندهم الغيب فهم يكتبون " وهذه ثلاثة احتمالات.

وإن لم يكن حكمهم بالمساواة حكما جديا بل إنما تفوهوا بهذا القول تخلصا وفرارا من اتباعك على دعوتك لانك تسألهم أجرا على رسالتك وهدايتك لهم إلى الحق فهم مثقلون من غرامته، وليس كذلك، وهو قوله: " أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون " 

 

/ صفحة 383 /

وهذا سابع الاحتمالات.

 

هذا ما يعطيه التدبر في الآيات في وجه ضبط ما فيها من الترديد وقد ذكروا في وجه الضبط غير ذلك من أراد الوقوف عليه فليراجع المطولات.

فقوله: " ما لكم كيف تحكمون " مسوق للتعجب من حكمهم بكون المجرمين يوم القيامة كالمسلمين، وهو إشارة إلى تأبي العقل عن تجويز التساوي، ومحصلة نفي حكم العقل بذلك إذ معناه: أي شئ حصل لكم من اختلال الفكر وفساد الرأي حتى حكمتم بذلك؟ قوله تعالى: " أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم لما تخيرون " إشارة إلى انتفاء الحجة على حكمهم بالتساوي من جهة السمع كما أن الآية السابقة كانت إشارة إلى انتفائها من جهة العقل.

والمراد بالكتاب الكتاب السماوي النازل من عند الله وهو حجة، ودرس الكتاب قراءته، والتخير الاختيار، وقوله: " إن لكم لما تخيرون " في مقام المفعول لتدرسون والاستفهام إنكاري.

والمعنى: بل ألكم كتاب سماوي تقرؤن فيه إن لكم في الآخرة - أو مطلقا - لما تختارونه فاخترتم السعادة والجنة.

قوله تعالى: " أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون " إشارة إلى انتفاء أن يملكوا الحكم بعهد ويمين شفاهي لهم على الله سبحانه.

والايمان جمع يمين وهو القسم، والبلوغ هو الانتهاء في الكمال فالايمان البالغة هي المؤكدة نهاية التوكيد، وقوله: " إلى يوم القيامة " على هذا ظرف مستقر متعلق بمقدر والتقدير: أم لكم علينا أيمان كائنة إلى يوم القيامة مؤكدة نهاية التوكيد، الخ.

ويمكن أن يكون " إلى يوم القيامة " متعلقا ببالغة والمراد ببلوغ الايمان انطباقها على امتداد الزمان حتى ينتهى إلى يوم القيامة.

وقد فسروا الايمان بالعهود والمواثيق فيكون من باب إطلاق اللازم وإرادة الملزوم كناية، واحتمل أن يكون من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.

وقوله: " إن لكم لما تحكمون " جواب القسم وهو المعاهد عليه، والاستفهام للانكار.

والمعنى: بل ألكم علينا عهود أقسمنا فيها إقساما مؤكدا إلى يوم القيامة إنا سلمنا 

 

/ صفحة 384 /

لكم أن لكم لما تحكمون به.

قوله تعالى: " سلهم أيهم بذلك زعيم " إعراض عن خطابهم والتفات إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتوجيه الخطاب لسقوطهم عن درجة استحقاق الخطاب ولذلك أورد بقية السؤالات وهي مسائل أربع في سياق الغيبة أولها قوله: " سلهم أيهم بذلك زعيم " والزعيم القائم بالامر المتصدي له، والاستفهام إنكاري.

والمعنى: سل المشركين أيهم قائم بأمر التسوية الذي يدعونه أي إذا ثبت ان الله لا يسوي بين الفريقين لعدم دليل يدل عليه فهل الذي يقوم بهذا الامر ويتصداه هو منهم؟ فأيهم هو؟ ومن الواضح بطلانه لا يتفوه به إلا مصاب في عقله.

قوله تعالى: " أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين " رد لهم على تقدير أن يكون حكمهم بالتساوي مبنيا على دعواهم أن لهم آلهة يشاركون الله سبحانه في الربوبية سيشفعون لهم عند الله فيجعلهم كالمسلمين والاستفهام إنكاري يفيد نفي الشركاء.

وقوله: " فليأتوا بشركائهم " الخ، كناية عن انتفاء الشركاء يفيد تأكيد ما في قوله: " أم لهم شركاء " من النفي.

وقيل: المراد بالشركاء شركاؤهم في هذا القول، والمعنى: أم لهم شركاء يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.

وأنت خبير بأن هذا المعنى لا يقطع الخصام.

وقيل: المراد بالشركاء الشهداء والمعنى: أم لهم شهداء على هذا القول فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.

وهو تفسير بما لا دليل عليه من جهة اللفظ.

على أنه مستدرك لان هؤلاء الشهداء شهداء على كتاب من عند الله أو وعد بعهد ويمين وقد رد كلا الاحتمالين فيما تقدم.

وقيل: المراد بالشركاء شركاء الالوهية على ما يزعمون لكن المعني من إتيانهم بهم إتيانهم بهم يوم القيامة ليشهدوا لهم أو ليشفعوا لهم عند الله سبحانه.

وأنت خبير بأن هذا المعنى أيضا لا يقطع الخصام.

قوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون - إلى قوله - وهم سالمون " يوم ظرف متعلق بمحذوف كاذكر ونحوه، والكشف عن الساق تمثيل في اشتداد الامر اشتدادا بالغا لما أنهم كانوا يشمرون عن سوقهم إذا اشتد الامر 

 

/ صفحة 385 /

للعمل أو للفرار قال في الكشاف: فمعنى " يوم يكشف عن ساق " في معنى يوم يشتد الامر ويتفاقم، ولا كشف ثم ولا ساق كما تقول للاقطع الشحيح: يده مغلولة ولا يد ثم ولا غل وإنما هو مثل في البخل انتهى.

والآية وما بعدها إلى تمام خمس آيات اعتراض وقع في البين بمناسبة ذكر شركائهم الذين يزعمون أنهم سيسعدونهم لو كان هناك بعث وحساب فذكر سبحانه أن لا شركاء لله ولا شفاعة وإنما يحرز الانسان سعادة الآخرة بالسجود أي الخضوع لله سبحانه بتوحيد الربوبية في الدنيا حتى يحمل معه صفة الخضوع فيسعد بها يوم القيامة.

وهؤلاء المكذبون المجرمون لم يسجدوا لله في الدنيا فلا يستطيعون السجود في الآخرة فلا يسعدون ولا تتساوى حالهم وحال المسلمين فيها البتة بل الله سبحانه يعاملهم في الدنيا لاستكبارهم عن سجوده معاملة الاستدراج والاملاء حتى يتم لهم شقاؤهم فيردوا العذاب الاليم في الآخرة.

فقوله: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون " معناه اذكر يوم يشتد عليهم الامر ويدعون إلى السجود لله خضوعا فلا يستطيعون لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم واليوم تبلى السرائر (1).

وقوله: " خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة " حالان من نائب فاعل يدعون أي حال كون أبصارهم خاشعة وحال كونهم يغشاهم الذلة بقهر، ونسبة الخشوع إلى الابصار لظهور أثره فيها.

وقوله: " وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " المراد بالسلامة سلامتهم من الآفات والعاهات التي لحقت نفوسهم بسبب الاستكبار عن الحق فسلبتها التمكن من إجابة الحق أو المراد مطلق استطاعتهم منه في الدنيا.

والمعنى: وقد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود لله وهم سالمون متمكنون منه أقوى تمكن فلا يجيبون إليه.

وقيل: المراد بالسجود الصلاة وهو كما ترى

 

* (هامش) *

(1) الطارق الآية 9.

 

 

/ صفحة 386 /

قوله تعالى: " فذرني ومن يكذب بهذا الحديث " المراد بهذا الحديث القرآن الكريم وقوله: " فذرني ومن يكذب " الخ، كناية عن أنه يكفيهم وحده وهو غير تاركهم وفيه نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتهديد للمشركين.

قوله تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " استئناف فيه بيان كيفية أخذه تعالى لهم وتعذيبه إياهم المفهوم من قوله: " فذرني " الخ.

والاستدراج هو استنزالهم درجة فدرجة حتى يتم لهم الشقاء فيقعوا في ورطة الهلاك وذلك بأن يؤتيهم الله نعمة بعد نعمة وكلما أوتوا نعمة اشتغلوا بها وفرطوا في شكرها وزادوا نسيانا له وابتعدوا عن ذكره.

فالاستدراج إيتاؤهم النعمة بعد النعمة الموجب لنزولهم درجة بعد درجة واقترابهم من ورطة الهلاك، وكونه من حيث لا يعلمون إنما هو لكونه من طريق النعمة التي يحسبونها خيرا وسعادة لا شر فيها ولا شقاء.

قوله تعالى: " وأملي لهم إن كيدي متين " الاملاء الامهال، والكيد ضرب من الاحتيال، والمتين القوي.

والمعنى: وأمهلهم حتى يتوسعوا في نعمنا بالمعاصي كما يشاؤن إن كيدي قوي.

والنكتة في الالتفات الذي في " سنستدرجهم " عن التكلم وحده إلى التكلم مع الغير الدالة على العظمة وأن هناك موكلين على هذه النعم التي تصب عليهم صبا، والالتفات في قوله: " وأملي لهم " عن التكلم مع الغير إلى التكلم وحده لان الاملاء تأخير في الاجل ولم ينسب أمر الاجل في القرآن إلى غير الله سبحانه قال تعالى: " ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده " الانعام: 2.

قوله تعالى: " أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون " المغرم الغرامة، والاثقال تحميل الثقل، والجملة معطوفة على قوله: " أم لهم شركاء " الخ.

والمعنى: أم تسأل هؤلاء المجرمين - الذين يحكمون بتساوي المجرمين والمسلمين يوم القيامة - أجرا على دعوتك فهم من غرامة تحملها عليهم مثقلون فيواجهونك بمثل هذا القول تخلصا من الغرامة دون أن يكون ذلك منهم قولا جديا.

قوله تعالى: " أم عندهم الغيب فهم يكتبون " ظاهر السياق أن يكون المراد بالغيب 

 

/ صفحة 387 /

غيب الاشياء الذي منه تنزل الامور بقدر محدود فتستقر في منصة الظهور، والمراد بالكتابة على هذا هوالتقدير والقضاء، والمراد بكون الغيب عندهم تسلطهم عليه وملكهم له.

فالمعنى: أم بيدهم أمر القدر والقضاء فهم يقضون كما شاؤا فيقضون لانفسهم أن يساووا المسلمين يوم القيامة.

وقيل: المراد بكون الغيب عندهم علمهم بصحة ما حكموا به والكتابة على ظاهر معناه والمعنى: أم عندهم علم بصحة ما يدعونه اختصوا به ولا يعلمه غيرهم فهم يكتبونه ويتوارثونه وينبغي أن يبرزوه.

وهو بعيد بل مستدرك والاحتمالات الاخر المذكورة مغنية عنه.

وإنما أخر ذكر هذا الاحتمال عن غيره حتى عن قوله: " أم تسألهم أجرا " مع أن مقتضى الظاهر أن يتقدم عليه، لكونه أضعف الاحتمالات وأبعدها.

قوله تعالى: " فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم " صاحب الحوت يونس النبي (عليه السلام) والمكظوم من كظم الغيظ إذا تجرعه ولذا فسر بالمختنق بالغم حيث لا يجد لغيظه شفاء، ونهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن يكون كيونس (عليه السلام) وهو في زمن النداء مملوء بالغم نهي عن السبب المؤدي إلى نظير هذا الابتلاء وهو ضيق الصدر والاستعجال بالعذاب.

والمعنى: فاصبر لقاء ربك أن يستدرجهم ويملئ لهم ولا تستعجل لهم العذاب لكفرهم ولا تكن كيونس فتكون مثله وهو مملوء غما أو غيظا ينادي بالتسبيح والاعتراف بالظلم أي فاصبر واحذر أن تبتلي بما يشبه ابتلاءه، ونداؤه قوله في بطن الحوت: " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " كما في سورة الانبياء.

وقيل: اللام في " لحكم ربك " بمعنى إلى وفيه تهديد لقومه ووعيد لهم أن سيحكم الله بينه وبينهم، والوجه المتقدم أنسب لسياق الآيات السابقة.

قوله تعالى: " لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم " في مقام التعليل للنهي السابق: " لا تكن كصاحب الحوت " والتدارك الادراك واللحوق، وفسرت النعمة بقبول التوبة، والنبذ الطرح، والعراء الارض غير المستورة بسقف أو نبات، والذم مقابل المدح.

 

 

/ صفحة 388 /

والمعنى: لولا أن أدركته ولحقت به نعمة من ربه وهو أن الله قبل توبته لطرح بالارض العراء وهو مذموم بما فعل.

لا يقال: إن الآية تنافي قوله تعالى: " فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " الصافات: 144، فإن مدلوله أن مقتضى عمله أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة ومقتضى هذه الآية أن مقتضاه أن يطرح في الارض العراء مذموما وهما تبعتان متنافيتان لا تجتمعان.

فإن يقال: الآيتان تحكيان عن مقتضيين مختلفين لكل منهما أثر على حدة فآية الصافات تذكر أنه (عليه السلام) كان مداوما للتسبيح مستمرا عليه طول حياته قبل ابتلائه - وهو قوله: كان من المسبحين - ولولا ذلك للبث في بطنه إلى يوم القيامة، والآية التي نحن فيها تدل على أن النعمة وهو قبول توبته في بطن الحوت شملته فلم ينبذ بالعراء مذموما.

فمجموع الآيتين يدل على أن ذهابه مغاضبا كان يقتضي أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة فمنع عنه دوام تسبيحه قبل التقامه وبعده، وقدر أن ينبذ بالعراء وكان مقتضى عمله أن ينبذ مذموما فمنع من ذلك تدارك نعمة ربه له فنبذ غير مذموم بل اجتباه الله وجعله من الصالحين فلا منافاة بين الآيتين.

وقد تكرر في مباحثنا السابقة أن حقيقة النعمة الولاية وعلى ذلك يتعين لقوله: " لولا أن تداركه نعمة من ربه " معنى آخر.

قوله تعالى: " فاجتباه ربه فجعله من الصالحين " تقدم توضيح معنى الاجتباء والصلاح في مباحثنا المتقدمة.

قوله تعالى: " وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر " إن مخففة من الثقيلة، والزلق هو الزلل، والازلاق الازلال وهو الصرع كناية عن القتل والاهلاك.

والمعنى: أنه قارب الذين كفروا أن يصرعوك بأبصارهم لما سمعوا الذكر.

والمراد بإزلاقه بالابصار وصرعه بها - على ما عليه عامة المفسرين - الاصابة بالاعين، وهو نوع من التأثير النفساني لا دليل على نفيه عقلا وربما شوهد من الموارد ما يقبل الانطباق عليه، وقد وردت في الروايات فلا موجب لانكاره.

وقيل: المعنى أنهم ينظرون اليك إذا سمعوا منك الذكر الذي هو القرآن نظرا مليئا بالعداوة والبغضاء يكادون يقتلونك بحديد نظرهم.

 

 

/ صفحة 389 /

قوله تعالى: " ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين " رميهم له بالجنون عندما سمعوا الذكر دليل على أن مرادهم به رمي القرآن بأنه من إلقاء الشياطين، ولذا رد قولهم بأن القرآن ليس إلا ذكرا للعالمين.

وقد رد قولهم: " إنه لمجنون " في أول السورة بقوله: " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " وبه ينطبق خاتمة السورة على فاتحتها.

(بحث روائي) في المعاني بإسناده عن الحسين بن سعيد عن أبي الحسن (عليه السلام) في قوله عز وجل: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود " قال: حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجدا وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود.

وفيه بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن قول الله عز وجل: " يوم يكشف عن ساق " قال: كشف إزاره عن ساقه فقال: سبحان ربي الاعلى.

أقول: قال الصدوق بعد نقل الحديث: قوله: سبحان ربي الاعلى تنزيه الله سبحانه أن يكون له ساق.

انتهى.

وفي هذا المعنى رواية أخرى عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام).

وفيه بإسناده عن معلى بن خنيس قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): ما يعني بقوله: " وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " قال: وهم مستطيعون.

وفي الدر المنثور أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا.

وفيه أخرج ابن مندة في الرد على الجهمية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوم يكشف عن ساق " قال: يكشف الله عن ساقه.

وفيه أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا والطبراني والآجري في الشريعة والدارقطني في الرؤية والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجمع الله الناس يوم القيامة وينزل الله في ظلل من الغمام فينادي مناديا أيها الناس ألم ترضوا من ربكم [ الذي ] خلقكم وصوركم 

 

/ صفحة 390 /

ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ويتولى؟ أليس ذلك من ربكم عدلا قالوا: بلى.

 

قال: فينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يعبد في الدنيا ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويتثمل لمن كان يعبد عزيزا شيطان عزيز حتى يمثل لهم الشجرة والعود والحجر.

ويبقى أهل الاسلام جثوما فيتمثل لهم الرب عز وجل فيقول لهم: مالكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا ربا ما رأيناه بعد فيقول: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه؟ قال: وما هي؟ قالوا: يكشف عن ساق.

فيكشف عند ذلك عن ساق فيخر كل من كان يسجد طائعا ساجدا ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون.

الحديث.

أقول: والروايات الثلاث مبنية على التشبيه المخالف للبراهين العقلية ونص الكتاب العزيز فهي مطروحة مؤولة.

وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن السمط قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة وذكره الاستغفار، فإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها، وهو قول الله عز وجل: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " بالنعم والمعاصي.

أقول: وقد تقدم بعض روايات الاستدراج في ذيل قوله تعالى: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " الآية 182 من سورة الاعراف.

وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " إذ نادى وهو مكظوم " في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): يقول: مغموم.

وفيه في قوله تعالى: " لولا أن تداركه نعمة من ربه " قال: النعمة الرحمة.

وفيه في قوله تعالى: " لنبذ بالعراء " قال: الموضع الذي لا سقف له.

وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " وإن يكاد الذين كفروا " أخرج البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العين حق.

 

 

/ صفحة 391 /

وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر.

أقول: وهناك روايات تطبق الآيات السابقة على الولاية وهي من الجري دون التفسير ولذلك لم نوردها.

(سورة الحاقة مكية، وهي اثنتان وخمسون آية) بسم الله الرحمن الرحيم.

الحاقة _ 1.

ما الحاقة _ 2.

وما أدراك ما الحاقة _ 3.

كذبت ثمود وعاد بالقارعة _ 4.

فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية _ 5.

وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية _ 6.

سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية _ 7.

فهل ترى لهم من باقية _ 8.

وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة _ 9.

فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية _ 10.

إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية _ 11.

لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية _ 12.

(بيان) السورة تذكر الحاقة وهي القيامة وقد سمتها أيضا بالقارعة والواقعة.

وقد ساقت الكلام فيها في فصول ثلاثة: فصل تذكر فيه إجمالا الامم الذين كذبوا بها 

 

/ صفحة 392 /

فأخذهم الله أخذة رابية، وفصل تصف فيه الحاقة وانقسام الناس فيها إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال واختلاف حالهم بالسعادة والشقاء، وفصل تؤكد فيه صدق القرآن في إنبائه بها وأنه حق اليقين، والسورة مكية بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: " الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة " المراد بالحاقة القيامة الكبرى سميت بها لثبوتها ثبوتا لا مرد له ولا ريب فيه، من حق الشئ بمعنى ثبت وتقرر تقررا واقعيا.

و " ما " في " ما الحاقة " استفهامية تفيد تفخيم أمرها، ولذلك بعينه وضع الظاهر موضع الضمير ولم يقل: ما هي، والجملة الاستفهامية خبر الحاقة.

فقوله: " الحاقة ما الحاقة " مسوق لتفخيم أمر القيامة يفيد تفخيم أمرها وإعظام حقيقتها إفادة بعد إفادة.

وقوله: " وما أدراك ما الحاقة " خطاب بنفي العلم بحقيقة اليوم وهذا التعبير كناية عن كمال أهمية الشئ وبلوغه الغاية في الفخامة ولعل هذا هو المراد مما نقل عن ابن عباس: أن ما في القرآن من قوله تعالى: " ما أدراك " فقد أدراه وما فيه من قوله: " ما يدريك " فقد طوى عنه، يعني أن " ما أدراك " كناية و " ما يدريك " تصريح.

قوله تعالى: " كذبت ثمود وعاد بالقارعة " المراد بالقارعة القيامة وسميت بها لانها تقرع وتدك السماوات والارض بتبديلها والجبال بتسييرها والشمس بتكويرها والقمر بخسفها والكواكب بنثرها والاشياء كلها بقهرها على ما نطقت به الآيات، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: كذبت ثمود وعاد بها فوضع القارعة موضع الضمير لتأكيد تفخيم أمرها.

وهذه الآية وما يتلوها إلى تمام تسع آيات وإن كانت مسوقة للاشارة إلى إجمال قصص قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ومن قبله والمؤتفكات وإهلاكهم لكنها في الحقيقة بيان للحاقة ببعض أوصافها وهو أن الله أهلك أمما كثيرة بالتكذيب بها فهي في الحقيقة جواب للسؤال بما الاستفهامية كما أن قوله: " فإذا نفخ في الصور " الخ، جواب آخر.

 

ومحصل المعنى: هي القارعة التي كذبت بها ثمود وعاد وفرعون ومن قبله والمؤتفكات وقوم نوح فأخذهم الله أخذة رابية وأهلكهم بعذاب الاستئصال.

قوله تعالى: " فأما ثمود فاهلكوا بالطاغية " بيان تفصيلي لاثر تكذيبهم بالقارعة، 

 

/ صفحة 393 /

والمراد بالطاغية الصيحة أو الرجفة أو الصاعقة على اختلاف ظاهر تعبير القرآن في سبب هلاكهم في قصتهم قال تعالى: " وأخذ الذين ظلموا الصيحة " هود: 67، وقال أيضا: " فأخذتهم الرجفة " الاعراف: 87، وقال أيضا: " فأخذتهم صاعقة العذاب الهون " حم السجدة: 17.

وقيل: الطاغية مصدر كالطغيان والطغوى والمعنى: فأما ثمود فاهلكوا بسبب طغيانهم، ويؤيده قوله تعالى: " كذب ثمود بطغواها " الشمس: 11.

وأول الوجهين أنسب لسياق الآيات التالية حيث سيقت لبيان كيفية إهلاكهم من الاهلاك بالريح أو الاخذ الرابي أو طغيان الماء فليكن هلاك ثمود بالطاغية ناظرا إلى كيفية إهلاكهم.

قوله تعالى: " وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية " الصرصر الريح الباردة الشديدة الهبوب، وعاتية من العتو بمعنى الطغيان والابتعاد من الطاعة والملاءمة.

قوله تعالى: " سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام فترى القو م فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية " تسخيرها عليهم تسليطها عليهم، والحسوم جمع حاسم كشهود جمع شاهد من الحسم بمعنى تكرار الكي مرات متتالية، وهي صفة لسبع أي سبع ليال وثمانية أيام متتالية متتابعة وصرعى جمع صريع وأعجاز جمع عجز بالفتح فالضم آخر الشئ، وخاوية الخالية الجوف الملقاة والمعنى ظاهر.

قوله تعالى: " فهل ترى لهم من باقية " أي من نفس باقية، والجملة كناية عن استيعاب الهلاك لهم جميعا، وقيل: الباقية مصدر بمعنى البقاء وقد أريد به البقية وما قدمناه من المعنى أقرب.

قوله تعالى: " وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة " المراد بفرعون فرعون موسى، وبمن قبله الامم المتقدمة عليه زمانا من المكذبين، وبالمؤتفكات قرى قوم لوط والجماعة القاطنة بها، " وخاطئة " مصدر بمعنى الخطاء والمراد بالمجئ بالخاطئة إخطاء طريق العبودية، والباقي ظاهر.

قوله تعالى: " فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية " ضمير " عصوا " لفرعون 

 

/ صفحة 394 /

ومن قبله والمؤتفكات، والمراد بالرسول جنسه، والرابية الزائدة من ربا يربو ربوة إذا زاد، والمراد بالاخذة الرابية العقوبة الشديدة وقيل: العقوبة الزائدة على سائر العقوبات وقيل: الخارقة للعادة.

قوله تعالى: " إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية " إشارة إلى طوفان نوح والجارية السفينة، وعد المخاطبين محمولين في سفينة نوح والمحمول في الحقيقة أسلافهم لكون الجميع نوعا واحدا ينسب حال البعض منه إلى الكل والباقي ظاهر.

قوله تعالى: " لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية " تعليل لحملهم في السفينة فضمير " لنجعلها " للحمل باعتبار أنه فعلة أي فعلنا بكم تلك الفعلة لنجعلها لكم أمرا تتذكرون به وعبرة تعتبرون بها وموعظة تتعظون بها.

وقوله: " وتعيها أذن واعية " الوعي جعل الشئ في الوعاء، والمراد بوعي الاذن لها تقريرها في النفس وحفظهافيها لترتب عليها فائدتها وهي التذكر والاتعاظ.

وفي الآية بجملتيها إشارة إلى الهداية الربوبية بكلا قسميها أعني الهداية بمعنى إراءة الطريق والهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب.

توضيح ذلك أن من السنة الربوبية العامة الجارية في الكون هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله اللائق به بحسب وجوده الخاص بتجهيزه بما يسوقه نحو غايته كما يدل عليه قوله تعالى: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50، وقوله: " الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " الاعلى: 3، وقد تقدم توضيح ذلك في تفسير سورتي طه والاعلى وغيرهما.

والانسان يشارك سائر الانواع المادية في أن له استكمالا تكوينيا وسلوكا وجوديا نحو كماله الوجودي بالهداية الربوبية التي تسوقه نحو غايته المطلوبة ويختص من بينها بالاستكمال التشريعي فإن للنفس الانسانية استكمالا من طريق أفعالها الاختيارية بما يلحقها من الاوصاف والنعوت وتتلبس به من الملكات والاحوال في الحياة الدنيا وهي غاية وجود الانسان التي تعيش بها عيشة سعيدة مؤبدة.

وهذا هو السبب الداعي إلى تشريع السنة الدينية بإرسال الرسل وإنزال الكتب والهداية إليها " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء: 165، وقد تقدم تفصيله في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب وغيره، وهذه هداية بمعنى إراءة 

 

/ صفحة 395 /

الطريق وإعلام الصراط المستقيم الذي لا يسع الانسان إلا أن يسلكه، قال تعالى: " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " الدهر: 3، فإن لزم الصراط وسلكه حي بحياة طيبة سعيدة وإن تركه وأعرض عنه هلك بشقاء دائم وتمت عليه الحجة على أي حال، قال تعالى: " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة " الانفال: 42.

 

إذا تقرر هذا تبين أن من سنة الربوبية هداية الناس إلى سعادة حياتهم بإراءة الطريق الموصل إليها، وإليها الاشارة بقوله: " لنجعلها لكم تذكرة " فإن التذكرة لا تستوجب التذكر ممن ذكر بها بل ربما أثرت وربما تخلفت.

ومن سنة الربوبية هداية الاشياء إلى كمالاتها بمعنى إنهائها وإيصالها إليها بتحريكها وسوقها نحوه، وإليها الاشارة بقوله: " وتعيها أذن واعية " فإن الوعي المذكور من مصاديق الاهتداء بالهداية الربوبية وإنما لم ينسب تعالى الوعي إلى نفسه كما نسب التذكرة إلى نفسه لان المطلوب بالتذكرة إتمام الحجة وهو من الله وأما الوعي فإنه وإن كان منسوبا إليه كما أنه منسوب إلى الانسان لكن السياق سياق الدعوة وبيان الاجر والمثوبة على إجابة الدعوة والاجر والمثوبة من آثار الوعي بما أنه فعل للانسان منسوب إليه لا بما أنه منسوب إلى الله تعالى.

ويظهر من الآية الكريمة أن للحوادث الخارجية تأثيرا في أعمال الانسان كما يظهر من مثل قوله: " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض " الاعراف: 96 أن لاعمال الانسان تأثيرا في الحوادث الخارجية وقد تقدم بعض الكلام فيه.

(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: " لنجعلها لكم تذكرة " قال: لامة محمد صلى الله عليه وسلم، وكم من سفينة قد هلكت وأثر قد ذهب يعني ما بقي من السفينة حتى أدركته أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرأوه كانت ألواحها ترى على الجودي.

أقول: وتقدم ما يؤيد ذلك في قصة نوح في تفسير سورة هود.

وفيه أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن مكحول قال: لما نزلت " وتعيها أذن واعية " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سألت ربي أن يجعلها 

 

/ صفحة 396 /

أذن علي.

قال مكحول: فكان علي يقول: ما سمعت عن رسول الله شيئا فنسيته.

وفيه أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والواحدي وابن مردويه وابن عساكر وابن النجاري عن بردة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحق لك أن تعي فنزلت هذه الآية " وتعيها أذن واعية ".

وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي: إن الله أمرني أن أدنيك وأعلمك لتعي فانزلت هذه الآية " وتعيها أذن واعية " فأنت أذن واعية لعلمي.

أقول: وروى هذا المعنى في تفسير البرهان عن سعد بن عبد الله بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وعن الكليني بإسناده عنه (عليه السلام)، وعن ابن بابويه بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام).

ورواه أيضا عن ابن شهر آشوب عن حلية الاولياء عن عمر بن علي، وعن الواحدي في أسباب النزول عن بريدة، وعن أبي القاسم بن حبيب في تفسيره عن زر بن حبيش عن علي (عليه السلام).

وقد روى في غاية المرام من طرق الفريقين ستة عشر حديثا في ذلك وقال في البرهان إن محمد بن العباس روى فيه ثلاثين حديثا من طرق العامة والخاصة.

فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة _ 13.

وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة _ 14.

فيومئذ وقعت الواقعة _ 15.

وانشقت السماء فهي يومئذ واهية _ 16.

والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية _ 17.

يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية _ 18.

فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه _ 19.

إني ظننت أني ملاق حسابيه _ 20.

 

 

/ صفحة 397 /

فهو في عيشة راضية _ 21.

في جنة عالية _ 22.

قطوفها دانية _ 23.

كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الايام الخالية _ 24.

وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه _ 25.

ولم أدر ما حسابيه _ 26.

يا ليتها كانت القاضية _ 27.

ما أغنى عني ماليه _ 28.

هلك عني سلطانيه _ 29.

خذوه فغلوه _ 30.

ثم الجحيم صلوه _ 31.

ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه _ 32.

إنه كان لا يؤمن بالله العظيم _ 33.

ولا يحض على طعام المسكين _ 34.

فليس له اليوم ههنا حميم _ 35.

ولا طعام إلا من غسلين _ 36.

لا يأكله إلا الخاطئون _ 37.

(بيان) هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرف الحاقة ببعض أشراطها ونبذة مما يقع فيها.

قوله تعالى: " فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة " قد تقدم أن النفخ في الصور كناية عن البعث والاحضار لفصل القضاء، وفي توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضي الامر ونفوذ القدرة فلا وهن فيه حتى يحتاج إلى تكرار النفخة، والذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنها النفخة الثانية التي تحيي الموتى.

قوله تعالى: " وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة " الدك أشد الدق وهو كسر الشئ وتبديله إلى أجزاء صغار، وحمل الارض والجبال إحاطة القدرة بها، وتوصيف الدكة بالواحدة للاشارة إلى سرعة تفتتهما بحيث لا يفتقر إلى دكة ثانية.

قوله تعالى: " فيومئذ وقعت الواقعة " أي قامت القيامة.

 

 

/ صفحة 398 /

 

قوله تعالى: " وانشقت السماء فهي يومئذ واهية " انشقاق الشئ انفصال شطر منه من شطر آخر، وواهية من الوهي بمعنى الضعف، وقيل: من الوهي بمعنى شق الاديم والثوب ونحوهما.

ويمكن أن تكون الآية أعني قوله: " وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على رجائها " في معنى قوله: " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " الفرقان: 25.

قوله تعالى: " والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " قال الراغب: رجا البئر والسماء وغيرهما جانبها والجمع أرجاء قال تعالى: " والملك على أرجائها " انتهى، والملك - كما قيل - يطلق على الواحد والجمع والمراد به في الآية الجمع.

وقوله: " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " ضمير " فوقهم " على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، وقيل: الضمير للخلائق.

وظاهر كلامه أن للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى: " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا " المؤمن: 7، وقد وردت الروايات أنهم أربعة، وظاهر الآية أعني قوله: " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " أن الحملة يوم القيامة ثمانية وهل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك وإن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنهم من الملائكة.

ومن الممكن - كما تقدمت الاشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء وكون الملائكة على أرجائها وكون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة والسماء والعرش للانسان يومئذ، قال تعالى: " وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم " الزمر: 75.

قوله تعالى: " يومئذ تعرضون لا يخفى منكم خافية " الظاهر أن المراد به العرض على الله كما قال تعالى: " وعرضوا على ربك صفا " الكهف: 48، والعرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله وهو يوم القضاء إبراز ما عند الانسان من اعتقاد وعمل إبرازا لا يخفى معه عقيدة خافية ولا فعلة خافية وذلك بتبدل الغيب شهادة والسر علنا قال: " يوم تبلى السرائر " الطارق: 9، وقال: " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ " المؤمن: 16.

وقد تقدم في أبحاثنا السابقة أن ما عد في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة 

 

/ صفحة 399 /

كاختصاص الملك بالله، وكون الامر له، وأن لا عاصم منه، وبروز الخلق له وعدم خفاء شئ منهم عليه وغير ذلك، كل ذلك دائمية الثبوت له تعالى، وإنما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهورا لا ستر عليه ولا مرية فيه.

فالمعنى: يومئذ يظهر أنكم في معرض على علم الله ويظهر كل فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: " فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه " قال في المجمع: هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، وللاثنين: هاؤما يا رجلان، وللجماعة: هاؤم يا رجال، وللمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة وليس بعدها ياء، وللمرأتين: هاؤما، وللنساء: هاؤن.

هذه لغة أهل الحجاز.

وتميم وقيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، وللاثنين: هاءآ، وللجماعة: هاؤا، وللمرأة: هائي، وللنساء: هاؤن.

وبعض العرب يجعل مكان الهمزة كافا فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكن، ومعناه: خذ وتناول، ويؤمر بها ولا ينهى.

انتهى.

والآية وما بعدها إلى قوله: " الخاطؤن " بيان تفصيلي لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة والشقاء، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " فمن أوتي كتابه بيمينه " أسرى: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، والظاهر أن قوله: " هاؤم اقرؤا كتابيه " خطاب للملائكة، والهاء في " كتابيه " وكذا في أواخر الآيات التالية للوقف وتسمى هاء الاستراحة.

والمعنى: فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا واقرؤا كتابيه أي إنها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: " إني ظننت أني ملاق حسابيه " الظن بمعنى اليقين، والآية تعليل لما يتحصل من الآية السابقة ومحصل التعليل إنما كان كتابي كتاب اليمين وقاضيا بسعادتي لاني أيقنت في الدنيا أني سالاقي حسابي فآمنت بربي وأصلحت عملي.

قوله تعالى: " فهو في عيشة راضية " أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقلي.

قوله تعالى: " في جنة عالية - إلى قوله - الخالية " أي هو في جنة عالية قدرا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

 

 

/ صفحة 400 /

وقوله: " قطوفها دانية " القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون وهو ما يجتنى من الثمر والمعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

وقوله: " كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الايام الخالية " أي يقال لهم: كلوا واشربوا من جميع ما يؤكل فيها وما يشرب حال كونه هنيئا لكم بما قدمتم من الايمان والعمل الصالح في الدنيا التى تقضت أيامها.

 

قوله تعالى: " وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه " وهؤلاء هم الطائفة الثانية وهم الاشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم وقد مر الكلام في معناه في سورة الاسراء، وهؤلاء يتمنون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم ويدرون ما حسابهم يتمنون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعد لهم.

قوله تعالى: " يا ليتها كانت القاضية " ذكروا أن ضمير " ليتها " للموتة الاولى التي ذاقها الانسان في الدنيا.

والمعنى: يا ليت الموتة الاولى التي ذقتها كانت قاضية على تقضي بعدمي فكنت انعدمت ولم أبعث حيا فأقع في ورطة العذاب الخالد وأشاهد ما أشاهد.

قوله تعالى: " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه " كلمتا تحسر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنه كان يحسب أن مفتاح سعادته في الحياة هو المال والسلطان يدفعان عنه كل مكروه ويسلطانه على كل ما يحب ويرضى فبذل كل جهده في تحصيلهما وأعرض عن ربه وعن كل حق يدعى إليه وكذب داعيه فلما شاهد تقطع الاسباب وأنه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ذكر عدم نفع ما له وبطلان سلطانه تحسرا وتوجعا وماذا ينفع التحسر؟ قوله تعالى: " خذوه فغلوه - إلى قوله - فاسلكوه " حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه وإدخاله النار، والتقدير يقال للملائكة خذوه الخ، و " غلوه " أمر من الغل بالفتح وهو الشد بالغل الذي يجمع بين اليد والرجل والعنق.

وقوله: " ثم الجحيم صلوه " أي أدخلوه النار العظيمة وألزموه إياها.

وقوله: " ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه " السلسلة القيد، والذرع الطول، والذراع بعد ما بين المرفق ورأس الاصابع وهو واحد الطول وسلوكه فيه جعله فيه، والمحصل ثم اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعا.

 

 

/ صفحة 401 /

قوله تعالى: " إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين " الحض التحريض والترغيب، والآيتان في مقام التعليل للامر بالاخذ والادخال في النار أي أن الاخذ ثم التصلية في الجحيم والسلوك في السلسلة لاجل أنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحرض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين ولا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: " فليس له اليوم ههنا حميم - إلى قوله - الخاطؤن " الحميم الصديق والآية تفريع على قوله: " إنه كان لا يؤمن " الخ، والمحصل: أنه لما كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

وقوله: " ولا طعام إلا من غسلين " الغسلين الغسالة وكأن المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح ونحوه والآية عطف على قوله في الآية السابقة: " حميم " ومتفرع على قوله: " ولا يحض " الخ، والمحصل: أنه لما كان لا يحرض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلا من غسلين أهل النار.

وقوله: " لا يأكله إلا الخاطؤن " وصف لغسلين والخاطؤن المتلبسون بالخطيئة والاثم.

(بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية.

أقول: وفي تقييد الحاملين في الآية بقوله: " يومئذ " إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

وفي تفسير القمي وفي حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الاولين وأربعة من الآخرين فأما الاربعة من الاولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأما الاربعة من الآخرين فمحمد وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام).

أقول: وفي غير واحد من الروايات أن الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، وفي بعضها أن حملة العرش - والعرش العلم - أربعة منا وأربعة ممن شاء الله.

وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أنه إذا كان يوم القيامة يدعى كل أناس بإمامه الذي مات في عصره فإن أثبته أعطي كتابه بيمينه لقوله: " يوم ندعوا 

 

/ صفحة 402 /

كل أناس بإمامهم " فمن أوتي كتابه بيمينه فاولئك يقرأون كتابهم، واليمين إثبات الامام لانه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - ومن أنكر كان من أصحاب الشمال الذين قال الله: وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم " الخ.

أقول: وفي عدة من الروايات تطبيق قوله: " فأما من أوتي كتابه بيمينه " الخ، على علي (عليه السلام)، وفي بعضها عليه وعلى شيعته، وكذا تطبيق قوله: " وأما من أوتي كتابه بشماله " الخ، على أعدائه، وهي من الجري دون التفسير.

وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لانتن بأهل الدنيا.

وفيه أخرج البيهقي في شعب الايمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلا الخاطون؟ كل والله يخطو.

 

فتبسم علي وقال: يا أعرابي " لا يأكله إلا الخاطؤن " قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثم التفت علي إلى أبي الاسود فقال: إن الاعاجم قد دخلت في الدين كافة فضع للناس شيئا يستدلون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع والنصب والخفض.

وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ولو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرها.

فلا أقسم بما تبصرون _ 38.

وما لا تبصرون _ 39.

إنه لقول رسول كريم _ 40.

وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون _ 41.

ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون _ 42.

تنزيل من رب العالمين _ 43.

ولو تقول علينا بعض الاقاويل _ 44.

لاخذنا منه باليمين _ 45.

ثم لقطعنا منه الوتين _ 46.

فما 

 

/ صفحة 403 /

منكم من أحد عنه حاجزين _ 47.

وإنه لتذكرة للمتقين _ 48.

وإنا لنعلم أن منكم مكذبين _ 49.

وإنه لحسرة على الكافرين _ 50.

وإنه لحق اليقين _ 51.

فسبح باسم ربك العظيم _ 52.

(بيان) هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكد ما تقدم من أمر الحاقة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقية ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: " فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون " ظاهر الآية أنه إقسام بما هو مشهود لهم وما لا يشاهدون أي الغيب والشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة ولا يشمل ذاته المتعالية فإن من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق والخلق في صف واحد ويعظمه تعالى وما صنع تعظيما مشتركا في عرض واحد.

وفي الاقسام نوع تعظيم وتجليل للمقسم به وخلقه تعالى بما أنه خلقه جليل جميل لانه تعالى جميل لا يصدر منه إلا الجميل وقد استحسن تعالى فعل نفسه وأثنى على نفسه بخلقه في قوله: " الذي أحسن كل شئ خلقه " الم السجدة: 7، وقوله: " فتبارك الله أخسن الخالقين " المؤمنون: 14.

فليس للموجودات منه تعالى إلا الحسن وما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض.

وفي اختيار ما يبصرون وما لا يبصرون للاقسام به على حقية القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإن النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحده تعالى ومصير الكل إليه وما يترتب عليه من بعث الرسل وإنزال الكتب والقرآن خير كتاب سماوي يهدي إلى الحق في جميع ذلك وإلى طريق مستقيم.

ومما تقدم يظهر عدم استقامة ما قيل: إن المراد بما تبصرون وما لا تبصرون الخلق والخالق فإن السياق لا يساعد عليه، وكذا ما قيل: إن المراد النعم الظاهرة والباطنة، وما قيل: إن المراد الجن والانس والملائكة أو الاجسام والارواح أو الدنيا والآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة وما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعم مدلولا من جميع ذلك.

 

 

/ صفحة 404 /

قوله تعالى: " إنه لقول رسول كريم " الضمير للقرآن، والمستفاد من السياق أن المراد برسول كريم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنه شاعر أو كاهن.

ولا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنه إنما يسنب إليه بما أنه رسول والرسول بما أنه رسول لا يأتي إلا بقول مرسله، وقد بين ذلك فضل بيان بقوله بعد: " تنزيل من رب العالمين ".

وقيل: المراد برسول كريم جبريل، والسياق لا يؤيده إذ لو كان هو المراد لكان الانسب نفي كونه مما نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أن قوله بعد: " ولو تقول علينا بعض الاقاويل " وما يتلوه إنما يناسب كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: " وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون " نفي أن يكون القرآن نظما ألفه شاعر ولم يقل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شعرا ولم يكن شاعرا.

وقوله: " قليلا ما تؤمنون " توبيخ لمجتمعهم حيث إن الاكثرين منهم لم يؤمنوا وما آمن به إلا قليلا منهم.

قوله تعالى: " ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون " نفي أن يكون القرآن كهانة والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كاهنا بأخذ القرآن من الجن وهم يلقونه إليه.

وقوله: " قليلا ما تذكرون " توبيخ أيضا لمجتمعهم.

قوله تعالى: " تنزيل من رب العالمين " أي منزل من رب العالمين وليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدمت الاشارة إليه.

قوله تعالى: " ولو تقول علينا بعض الاقاويل - إلى قوله - حاجزين " يقال: تقول على فلان أي اختلق قولا من نفسه ونسبه إليه، والوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد وإذا انقطع مات صاحبه، وقيل: هو رباط القلب.

والمعنى: " ولو تقول علينا " هذا الرسول الكريم الذي حملناه رسالتنا وأرسلناه اليكم بقرآن نزلناه عليه واختلق " بعض الاقاويل " ونسبه الينا " لاخذنا منه باليمين " كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوة كما في رواية القمي " ولقطعنا منه الوتين " وقتلناه لتقوله علينا " فما منكم من أحد عنه 

 

/ صفحة 405 /

حاجزين " تحجبونه عنا وتنجونه من عقوبتنا وإهلاكنا.

وهذا تهديد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على تقدير أن يفتري على الله كذبا وينسب إليه شيئا لم يقله وهو رسول من عنده أكرمه بنبوته واختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله: " لولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا " أسرى: 75، وكذا قوله في الانبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم: " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعلمون " الانعام: 88.

فلا يرد أن مقتضى الآيات أن كل من ادعى النبوة وافترى على الله الكذب أهلكه الله وعاقبه في الدنيا أشد العقاب وهو منقوض ببعض مدعي النبوة من الكذابين.

وذلك أن التهديد في الآية متوجبة إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقول على الله ونسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدعي النبوة المفتري على الله في دعواه النبوة وإخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: " وإنه لتذكرة للمتقين " يذكرهم كرامة تقواهم ومعارف المبدأ والمعاد بحقائقها، ويعرفهم درجاتهم عند الله ومقاماتهم في الآخرة والجنة وما هذا شأنه لا يكون تقولا وافتراء فالآية مسوقة حجة على كون القرآن منزها عن التقول والفرية.

قوله تعالى: " وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين " ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: " وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم " قد تقدم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، والسورتان متحدتان في الغرض وهو وصف يوم القيامة ومتحدتان في سياق خاتمتهما وهي الاقسام على حقيقة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، وقد ختمت السورتان بكون القرآن وما أنبأ به عن وقوع الواقعة حق اليقين ثم الامر بتسبيح اسم الرب العظيم المنزه عن خلق العالم باطلا لا معاد فيه وعن أن يبطل المعارف الحقة التي يعطيها القرآن في أمر المبدأ والمعاد.

- تم والحمد لله -