بينات من الآيات [ 123] [ كذبت عاد المرسلين ]
كما أسلفنا أن التكذيب برسول يعني التكذيب بسائر الأنبياء ، فخط هود هو خط كل الأنبياء من قبله ، مع الإختلاف في المحتوى الإجتماعي لكل رسالة بسبب اختلاف الظروف ، و ليس اختلاف رسالات الله .
[ 124] [ إذ قال لهم أخوهم هود الأ تتقون ]
كان هود من وسط قومه ، فلذلك سمى الله هودا أخا لقومه .
[ 125] [ إني لكم رسول أمين ]
أحمل رسالته إليكم بأمانة و صدق .
و الأمين كلمة تتميز عن كلمة حفيظ ، فالحفيظ هو الحافظ للشيء ، بينما الأمين هو الذي يؤتمن و يحفظ و يؤدي .
[ 126] [ فاتقوا الله و أطيعون ]
أو صاهم بتقوى الله ، و تطبيق مناهجه ، و التسليم لولايته و قيادته .
[ 127] [ و ما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ]أي لا أطمع في التسلط عليكم ، ولا أريد منكم أجر تبليغ رسالة الله .
[ 128] [ أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون ]
الريع هو المرتفع من الأرض ، و جمعه رياع ، و كانوا يتخذون لهم بيوتا عالية للهوهم و عبثهم على المرتفعات من الأرض .
[ 129] [ و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون ]
كانوا يشيدون المصانع ( القصور ) كما في اللغة ، و بمراجعة مشتقات الكلمة ( صنع - يصنع - صنعا - مصنوع - صانع ) يتبين ان قوم عاد قد بلغوا نوعا من التقدم ، و قد بين الله سبحانه ذلك في سورة الأحقاف حينما قال سبحانه : " ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه" . (1)
و يبدو ان الآلة كان لها أثر كبير على حضارة قوم عاد ، و استخدام الآلة في خدمة الإنسان أو في تسخير الطبيعة شيء حميد ، إلا أن الإستخدام السيء للآلة هو استخدامها بغرض الخلود .
[ 130] و تمني الخلود أو مجرد تصوره يدعو الإنسان الى الطغيان ، فلذلك بنى قوم عاد مساكنهم على الأرياع ، و شيدوا لهم القصور ، فاغتروا بما صنعوا ، و عندما اغتروا تجبروا و تكبروا ، فوجهوا قولهم و بطشهم لمن حولهم ، قال تعالى :
[ وإذ بطشتم بطشتم جبارين ]
ان بطشكم ليس على المخطئين ، و لكن بطشكم من أجل نشر تسلطكم ، و نشر الرعب في قلوب الآمنين .
[ 131] [ فاتقوا الله و أطيعون ]
(1) الاحقاف / 26 .
كرر الله عن لسان هود (ع) كلمة التقوى أربع مرات ، و هذه الآية هي المرة الثالثة ، و ربما يتساءل البعض : لماذا كرر الله التقوى أربعا ؟
و الجواب : ان التقوى كلمة ليست ذات بعد واحد ، فأمام كل ذنب تقوى ، فالتقوى في الكذب ترك الكذب ، و في الكفر الايمان ، وفي الاجرام الترك ، وفي الاعتداء التورع .
و علــى هذا فالتــقوى في هذه الآية تتمثل في ترك العبثية ، و إبعاد فكرة الخلود ، و اجتناب البطش بالناس نكاية بهم ، و هكذا قوم هود كلما ذكر انحراف عندهم أمرهم بالتقوى في الله لأن الإنحراف يؤدي الى العذاب الإلهي الذي لابد من اجتنابه ، أما التقوى في الآية التالية فلعل المراد منها الشكر ، و ترك الكفر بنعم الله بعدم أداء حقوقها .
و قد أرفق هود بكلمة التقوى كلمة " واطيعون " للدلالة على أن الإٌصلاح يمر عبره ، لأنه يمثل خلافة الله في الأرض .
[ 132 - 133] [ واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام و بنين ]ربما تشير هاتين الآيتين الى مرحلة البداوة التي مر بها قوم عاد ، و يشير الله اليها بقوله : " بأنعام و بنين " و هذه النعم عادة ما تكون لأهل الصحراء .
[ 134] أما المرحلة الثانية التي مر بها قوم عاد فهي مرحلة التحضر ، وذلك في قوله سبحانه :
[ و جنات و عيون ]
حيث ان الزراعة نوع من التقدم في مسيرة البشرية .
[ 135] [ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ]
أشفق هود على قومه أن يحل عليهم عذاب يوم عظيم ، و لعل الفرق بين العذاب العظيم و عذاب يوم عظيم الذي ذكره القرآن هو : ان العذاب اذا نسب الى اليوم فكأنه يستوعبه ، و يسنمر بامتداده ، و لعله يكون أكثر من نوع واحد من العذاب . فحذرهم ذلك اليوم .
[ 136] [ قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين ]كلاهما سواء ، و عظت أم لم تعظ ، لن تؤمن لك .
[ 137] [ إن هذا الأخلق الأولين ]
و سم قوم عاد نبيهم هودا (ع) بالرجعية ، و الأفكار المتخلفة عندما قالوا : " ان هذا إلا خلق الأولين " و ذلك لأن نبي الله نوح (ع) أوصى بنيه بأن سيكون بعده نبي من ذريته ، و أعلمهم صفاته ، و أوصاهم بطاعته ، فكانت هذه الوصية تراثا يتوارثها الأجيال ، و كان عندهم عيد يقيمونه كل عام ، يذكرون أنفسهم بوصية جدهم نوح (ع) و عندما جاءهم هود كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين .
جاء في الحديث عن الامام الصادق (ع) انه قال :
" ان نوحا (ع) لما انقضت نبوته ، و استكمل أيامه أوحى الله اليه : يا نوح ! قد قضيت نبوتك ، و استكملت أيامك ، فاجعل العلم الذي عندك ، و الإيمان ، و الإسم الأكبر ، و ميراث العلم ، و آثار علم النبوة في العقب من ذريتك ، فاني لن اقطعها كما لم اقطعهامن بيوتات الأنبياء ، الذين كانوا بينك و بين آدم (ع) و لنأدع الأرض إلا و فيها عالم يعرف به ديني ، و تعرف به طاعتي ، و يكون نجاة لمن يولد فيها بين قبض النبي الى خروج النبي الآخر "قال (ع) :
" و بشر نوح ساما ( إبنه ) بهود عليه السلام " (1)[ 138] [ و ما نحن بمعذبين ]
أي لسنا بمعذبين لكرامتنا عند الله ، و ربما تصورا أنهم ليسوا بمعذبين لاستحالة العذاب .
[ 139] [ فكذبوه فأهلكناهم ]
يختصر الله المسافة بين التكذيب و الإهلاك بقوله : " فكذبوه فأهلكناهم " لأن هذه الفترة ينساها من يحل عليه العذاب ، فتكون عنده الحياة يوما أو بعض يوم ، و لحقارتهم أيضا عند الله عمهم بالجملة ، مختصرا كل حياتهم و ما بنوا و ما بطشوا وما كفروا في هاتين الكلمتين :
[ إن في ذلك لأية و ما كان أكثرهم مؤمنين ]
أي في اهلاكهم آية ، و لكن أكثر الناس عندما تمر عليهم مثل هذه العبر لا يؤمنون بها ، فيجري عليهم الله سنته بأن يهلكهم بعد الإنذار .
ولكن الذي يستفيد من العبر هو من آمن ، و خاف وعيد الله ، و صدق بأن لله عقابا .
(1) نور الثقلين / ج 2 / ص 62 .
[ 140] [ وإن ربك لهو العزيز الرحيم ]
تتجلى عزة الله بأن أخذ قوم عاد أخذ عزيز مقتدر ، و تتجلى رحمته أنه نجى هودا ومن آمن معه .
|