الا تعلوا علي وأتوني مسلمين
هدى من الآيات لقد ساعد غياب الهدهد على التقاء حضارتين عظيمتين في زمانهما ، و هما الحضارة العبرية و يمثلها سليمان (ع) وهي الحضارة الالهية التي تستمد قيمها من الوحي ، و الحضارة العربية و تمثلها بلقيس ، و هي الحضارة الارضية التي تستمد قيمها من عقل الانسان حينا ، وشهواته في الاغلب .
و كما ان جوهر رسالة الله يختلف عن واقع الثقافة الارضية - حسبما ذكرتنا به سورة الشعراء - فان سلوكيات الرسل و شخصياتهم تختلف عن شخصيات و سلوكيات أصحاب ثقافة الارض ، فمع ان سليمان (ع) كان ملكا ومن عادة الملوك الاستعلاء و الفساد استجابة لاغراءات الملك، الا انه كان ملكا صالحا مترفعا عن كل الرذائل ، و هكذا يكون الملك حين يتصل بالرسالة الالهية مثالا ساميا للسلوك الفاضل ، و ان دل هذا على شيء فانما يدل على ان قدرة الرسالة تفوق الظروف ، و ان الروح المعنوية التي تبعثها في كيان الفرد ، تجعله فوق المتغيرات و المؤثرات السلبية في
الحياة ، و ان شئت فقل فوق ما يسمى بالحتميات العلمية .
فلو نظرت الى مصادر علم الاجتماع لوجدت قائمة من الحتميات الاجتماعية ، و هكذا تجد امثالها في علم النفس و التأريخ ، و لكن قد يأتي انسان ما فيتجاوز هذه الحتميات المدعاة ، و يحدث في مجتمعه تغييرا يبدل مجرى التأريخ ، و يخلق تيارا معاكسا لواقع المجتمع دونان يخضع للمسيرة التأريخية - حسب نظرية ماركس - فبرغم انتمائه الطبقي و العائلي الا انه يصير شيئا آخر تماما ، و هذه من ميزات النور الالهي الذي ينفذ في قلوب الصادقين من عباد الله ، و يضرب لنا الله مثلا بسليمان (ع) .
لقد عامل سليمان الهدهد - و هو طائر يعمل في خدمته - معاملة كريمة ، حيث لم يعاقبه ، بل منحه فرصة كي يكتشف مدى صحة ما جاء به ، فكتب رسالة و سلمها له ، و أخذها الهدهد و ألقاها على عرش ملكة سبأ ، فلما بصرت بها امتلكها العجب .
فشهرة سليمان (ع) كانت قد سبقت رسالته اليها ، و كانت بلقيس على علم بما يجري فــي البلاد الاخرى ، و هي تدري بأن بلاد فلسطين و بلاد الشام يحكمها ملك كريم ، وعلى أثر استلامها كتاب سليمان جمعت اعضاء مجلسها الاستشاري ، و الذي كان حسب قول بعض المفسرين يضم(313) رجلا ، و أخبرتهم بانها استلمت رسالة كريمة مختومة بخاتم سليمان ، وفي داخلها أوامر حكيمة و رشيدة ، فيها دعوة للخضوع لملكه و سيطرته ، و لكنه لا يفعل ذلك من أجل فرض سيطرته و هيمنته ، و من أجل ضم ملكها الى ملكه ، و إنما لنشر راية الحق و العدالة الالهية .
ثم طلبت بلقيس من مجلسها أن يشير عليها بما يجب ان تفعله في أمر خطير كهذا ، فترك المجلس المسألة إليها ، و أبدوا استعدادا لتنفيذ كل ما تقرره و تأمر به ، فكانالقرار النهائي لبلقيس الاستسلام لسليمان ، لانها عرفت أنه اكثر نفوذا و قوة منها ، و انها ان لم تشتر استقلال بلادها بالتعاون مع سليمان ، فانه و جنوده سيدخلونها عنوة و يؤدي ذلك الى خرابها و دمارها .
و القرآن الحكيم لا يبين لنا الاحداث التأريخية لمجرد العلم أو التسلية بها ، و إنما يبينها للإعتبار و الإتعاظ ، كما أنه لا يحتوي على لغو و عبث ، إذا فعلى كل جيل ان يستفيد منه بما يتناسب و قدرته للاستيعاب .
و نستفيد من القصة ان افضل حكومة تقوم بين الناس هي الحكومة التي تجمع بين المشورة في الرأي و الحزم في القرار ، ذلك لان الذي يحرك العالم أمران : العلم و الارادة . فيجب على المرء ان يعرف الطريق ثم يقرر المضي فيه ، اذ قد يكون القرار خاطئا و مهلكا بدون علم ، و القرار الذي لا إرادة معه سيكون هشا ، و السلطة يجب ان تكون مجسدة لهذين العاملين الأساسين لحركة التأريخ .
ان الحكومات النيابية التي يضيع فيها القرار بسبب اختلاف الافراد لا تفرز قرارات حازمة ، و أما الحكومات المستبدة الحزم موجود في قراراتها الا انها ينقصها الرأي الصائب أو القرار العلمي ، لأن الفكر الواحد لا يستطيع استيعاب المزيد من المعارف و التجارب ، وأما الحكومات التي تبقى فيها القرارات لأعلى سلطة اي للفرد الذي يمسك زمام الامور بيده ، و لكنه لا يتخذ القرار الا بعد ان يستشير مجموعة من الناس ، سواء كانت هذه المجموعة من الخبراء أو المستشارين أو النواب ، فانها تكون اقرب الى الصواب ، لأن هذا النوع منالحكومات يجمع بين علم المشورة و حزم القرار ، و يتضح هذا النوع من الحكومات في الآية الكريمة التي تقول : " و شاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل على الله " (1)(1) آل عمران / 159 .
اذ يخاطب الله رسوله مرشدا إياه الى مشاورة المسلمين في أموره ، على أن يبقى القرار حقا خاصا به .
و نستوحي سلامة هذا النوع من الحكم من خلال قصة بلقيس حيث شاورت الملأ من قومها و استشارتهم بقولها : " افتوني " ففعلوا و لكنهم - بدورهم - خولوها حق القرار النهائي ، و هذه نقطة مهمة في الحكم . ان بلقيس لم تكن لتفرض عليهم سيطرتها ، بل هم الذينخولوها حق القرار ، و من طرائف الحكم الاسلامي و لطائفه ان الناس بأنفسهم ، و بملىء إرادتهم ، و كامل حريتهم يخولون شخصا حق القرار النهائي ، و ذلك عبر ولاية الفقيه ، فالفقيه الحاكم و القاضي و لي أمرهم بإذن الله ، و هو منتخب من قبل الناس بطريقة الانتخاباتالاسلامية ، و يخول حق اتخاذ القرار ، فيسلم له الناس نفسيا قبل ان يتبعوه عمليا .
و بالرغم من ان حكومة بلقيس كانت من أفضل انواع السلطة الا انها حيث كانت بعيدة عن روح الايمان و هدى الرسالة فقد كانت منحرفة فاسدة ، فسلامة القوانين ، و صحة الانظمة ، و حتى سلامة تطبيقها لا تدل على ان البشرية تصل بها الى شاطىء السعادة و السلام ، انماالقوانين بمثابة جسد يحتاج الى روح ، و روحها هدى الله ، فعلى الرغم من ان حضارة العرب في مملكة سبأ كانت جيدة ، و قوتهم كبيرة ، الا انهم فقدوا الصلة بالله ، فعبدوا الشمس من دونه ، و لانهم فقدوا روح الايمان اضطروا للخضوع الى سلطان يملك تلك الروح الايمانية .
و الفرق بين بلقيس و سليمان لم يكن سلامة الانظمة أو عدم سلامتها ، و صحة القوانين أو عدم صحتها ، انما كان في الجانب الغيبي ( الايمان بالله ) و حينما كانت بلقيس خلوا من هذا الجانب اضطرت الى الخضوع لسليمان و هذا هو قانون الحياة ، فلو كان هناك حاكم يملك الجانب الايماني للقوة وهي التوكل على الله و آخر لايملكه ، و كانا متساويين في سائر الامور فان الاول هو الذي سينتصر باذن الله .
إذا نحن بحاجة من بعد المشورة ( العلم ) و العزم ( الحزم ) إلى قوة أخرى لانشاء حكومة مثالية ، و هي قوة التوكل على الله .
|