فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
كتاب موسى

[ 43] [ و لقد ءاتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ]

في هذا الشطر يلخص القرآن الدورة الحضارية ، فهي تبدأ برسالة إلهية و شخص أو جيل رسالي ، ثم تنتهي بثقافة جاهلية ، و جيل منحرف ينذره الرب ، فإن لم ينتفع بالنذر أهلكه ، ولا ريب ان هذه الدورة ليست حتمية ، فلو قدر ان تمسك الناس برسالات الله لما أهلكهم الله ، كما قدر لقوم يونس ذلك .

ثم يقول ربنا عن الكتاب الذي أنزل مع موسى :

[ بصائر للناس و هدى و رحمة ]

في الوقت الذي تكون رسالات الله منهج للرؤية ( البصيرة ) فانها بذاتها علم و معرفة توصل البشر الى الحقائق ، فمن جهة تعطي الإنسان بصيرة في الحياة تجاه الأشياء و الاحداث ، لأنها تحتوي على سنن الله في الحياة ، و تحمل في طياتها مقاييس و معايير تحدد له الرؤية النظرية السليمة ، و من جهة أخرى تحتوي على العلم و الهدى اللذين يرسمان له الموقف العملي الحق لو اتبعها .

و قد يكون الفرق بين العلم و الهدى : ان العلم هو مجرد اتصال الانسان بالحقائق ، اما الهدى فهو تفاعله معها ، وانتفاعه منها ، وجاء في الدعاء :


" واعوذ بك من علم لا ينفع " (1)

يقصد به العلم الذي لا يعمل به .

و عندما لا يعمل الانسان بالعلم فإنه يضل و يجهل ، بل و ينسى العلم نفسه ، أما حين يعمل به فسوف تكون النتيجة هي السعادة و اللطف الإلهي ( الرحمة ) ماديا و معنويا .

و السؤال ماهو هدف هذه الرسالة التي تشتمل على البصائر ، و الهدى ، و الرحمة ؟

[ لعلهم يتذكرون ]

وماذا يتذكر الناس ؟

يتذكرون ميثاقهم مع الله ، فيعودون الى فطرتهم ، لأن من خصائص الرسالة انها ترفع الحجب عن قلب البشر ، و نستوحي من هذه الآية : أن العامل الأخير في الهدى حركة الانسان نفسه ، فالبصائر و الهدى و الرحمة من عند الله ، أما التذكر فهو مسؤولية الانسان نفسه .


[ 44] ثم يذكرنا السياق بان النبي لم يكن حاضرا الجهة الغربية التي كان النبي موسى (ع) يسير اليها من مدين الى مصر ، حين استقبل لأول مرة الوحي الإلهي ، و لم يكن هناك من الشاهدين ليصف تلك الحوادث هذا الوصف الدقيق الرائع ، و لكن الله سبحانه أوحى بالقرآنيقص على بني إٍسرائيل أكثر الذي كانوا فيه يختلفون ، و هذا دليل صدق هذه الرسالة .


(1) مفاتيح الجنان / تعقيب صلاة العصر .


[ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ]

كلمتان في القرآن احداهما تبين الوضع الطبيعي وهي القدر ، و الأخرى تبين الوضع الغيبي و هي القضاء ، و الفرق أن القدر هو السنن التي أجراها الله تعالى في الخلق ، بلا تبديل ولا تحويل ، أما القضاء فهو الأوامر الغيبية التي تصدر من عنده الى الخليقة فتتجاوزالأقدار جميعا ، فربما يكون قدر الانسان ان يموت اليوم ، فيدفع صدقة لفقير ، أو يدعو الله ، أو يصل رحمه ، أو .. أو .. فيقضي الله ان يتأخر أجله ثلاثين سنة ، و قد يكون قدره العيش ثلاثين سنة فيظلم من لا يجد ناصرا غير الله ، فيقضي الله بوفاته اليوم ، و الرسالة الإلهية نوع من القضاء . اذ ليست ثمة سنة إلهية لو عمل بها البشر لصار رسولا ، فتحول موسى بن عمران (ع) الى رسول ، أو محمد بن عبد الله (ص) الى رسول ما جاء بدراسة في الجامعة ، او قراءة في الكتب ، انما الرسالة - و كما تقدم في الهدى - هي قضاء إلهي ، يحصل بموجبه الإتصال بين الخلق و الخالق ، عبر رسالة و رسول يجعله الله خليفته في الأرض جعلا ، ولا ينفي هذا القول أن الله يختار رسله و أنبياءه على اٍساس صفات و مميزات فيهم .

و في لحظة القضاء قد يتحقق مالا يمكن تحقيقه عبر قرون ، فالرسول (ًص) دخل الى غار حراء أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة ، ولكنه خرج منه يحمل رسالة تقصر البشر عن بلوغ ذراها أبدا .

[ وما كنت من الشاهدين ]

و لعل هذه الآية تشير الى ان الحقائق التي رويت في هذه القصة لم تكن واضحة عند أهل الكتاب أيضا ، أو كانت مثار جدل عظيم سواء في تفاصيل ما حدث أو في تفسيرها .


[ 45] ثم تبين الآية ما يبدو أنه إشارة الى الدورات الحضارية ، حيث أن من عادة البشر نسيان رسالات ربه بعد تطاول القرون ، مما يجعله محتاجا إلى بعث جديد برسالة الهية .

[ و لكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ]

لقد بقيت البشرية تلفها الظلمات قرونا بعد قرون قبل ميلاد الرسالة ، حيث بدأت الهوة بين الناس و رسالة موسى (ع) تتسع شيئا فشيئا ، حتى نبذوه وراء ظهورهم ، و عشعش الجهل في اوساطهم ، لذا كانوا بحاجة الى رسالة جديدة ، تبعث فيهم الوعي و توقظ الضمير .

[ و ماكنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم ءاياتنا ]إلا أن عدم وجودك لا يعني أنهم لم تصل اليهم الحجة ، فالحياة قائمة على هذه السنة الإلهية .

[ ولكنا كنا مرسلين ]

لقد أرسلنا اليهم شعيبا ، كما أرسلنا رسولا الى العرب .

[ 46] [ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك ]لعل هذه الآية تؤكد على وحدة الرسالات الإلهية من خلال وحدة أهدافها ، و بالتالي فإن الإيمان برسالة موسى يستلزم الإيمان برسالة الإسلام ، واذ يربط السياق القرآني بين هاتين الرساليتين فذلك لأسباب منها :

1 - أنهما تشكلان خطأ واحدا في الرسالات الاخيرة للحياة ، و رسالةعيسى (ع) إنما كانت امتدادا لرسالة موسى ، و كان هدفــه تصحيــح مسيرة الناس بعده ، و ليست هي جديدة بحد ذاتها .

2 - لتشابه تفاصيل الرسالتين ، و ان تلك الرسالة كونت أمة في حياة نبيها ، كما صنعت رسالة الاسلام أمة أيضا .

و للرسالة هدفان أساسيان :

أحدهما هداية الناس ، عن طريق التذكرة قال تعالى :

[ لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ]فكما بعث الله موسى رحمة ، كذلك يبعث محمد (ص) رحمة ، وفي الآية حجة على أولئك الذين آمنوا برسالات الله السابقة ، و كفروا بالرسالة الخاتمة مع وحدة الملاك ، فكما ان تلك جاءت رحمة من الله كذلك هذه ، فلماذا يؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض ؟!

[ 47] أما الهدف الآخر فهو اقامة الحجة على الناس .

[ و لولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك و نكون من المؤمنين ]و في الآية اشارة الى ان الناس يعلمون بأهمية الرسالة الإلهية حينما تتيه بهم المذاهب ، و يجر عليهم ضلالهم الويلات و الإرهاق .

و لعل السياق يشير هنا إلى سنة إلهية هي : ان الله يصيب هؤلاء الجهلة بمصائب دنيوية يحسون بها .. من نقص في الأنفس و الثمرات ، و حروب داخلية تطبخهم ،فيجأرون الى الله طالبين الخلاص ، فلما يبعث الله فيهم الرسول ليخلصهم اذا هم به يكفرون ، و لعلهم كانوا يريدون الخلاص بلا عمل يقومون به ، أو تحمل لصعوبة الجهاد من أجله ، و يذكرنا السياق - على هذا التفسير - بقصة بني اسرائيل حين طلبوا من نبيهم ملكا ، فلمااختار الله لهم طالوت ملكا ، كفروا به لأنه لم يكن على هداهم ، و لم يؤت سعة من المال .

[ 48] ثم يبين القرآن كيف أنهم يكفرون بالحق ، لأنه يريدونه وفق أهوائهم و مقترحاتهم .

[ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ]من المعاجز كالثعبان ، و اليد البيضاء ، و السبب أنهم لم يكونوا ينظرون إلى جوهر الرسالة وإلا لوجدوها كرسالة موسى (ع) في أهدافها وخطها العام ، بل إن ما جاء به الرسول (ص) هو أعظم من عصا موسى . أوليست عصا موسى آية الهية ؟ فكذا القرآن كله آيات .

ومع ذلك يؤكد القرآن ان المشكلة ليست في عدم وضوح الآيات القرآنية بل في نفسياتهم السلبية ، المعاندة للحق ، و المصرة على الكفر . لهذا يتساءل القرآن :

[ أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا و قالوا إنا بكل كافرون ]ولا ريب ان الذين يخاطبهم القرآن في هذه الآية ليسوا هم الذين كانوا مع موسى ثم كفروا به ، و لكن السياق يقول أنهم كفروا بموسى (ع) و ربما ذلك ليبين لنا وحدة المنهج و التفكير الذي يوصل الى نفس النتيجة .


[ 49] [ قل فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ]من مميزات منطق الرسل انه موضوعي و عقلاني للغاية ، فالرسول على عظمته ، وقد هداه الله الى الصراط المستقيم تراه لا يعاند ، ولا يصر مستكبرا في مقابل الدعوات الآخرى ، إنما يقول : اذا كان لديكم كتاب هو أهدى من رسالتي فاني أتبعه ، و هو يعلم يقينا ان لا كتاب أهدى من كتاب الله ، الذي أنزل على موسى و الذي أنزل عليه مكملا و مهيمنا .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس