الإطار العام بعد القسم بالشأن العظيم الذي هو للقرآن الحكيم ، يخاطب ربنا سيد الخلائق ( يس ) محمد (ص) بأنه من المرسلين ، و أنه على صراط مستقيم ، و أن الكتاب تنزيل من رب غفور رحيم ، و يهدف إنذار قوم جاهلين بما أنذر آباؤهم من قبل ، ثم اضحت قلوب أكثرهم كالصخر لا تقبل الإيمان . أرأيت الذي وضعت على عنقه الأغلال ، حتى أصًبح مقمحا ، مرفوع الرأٍس الى الأعلى حتى لا يرى شيئا ؟ هل يقدر على النظر ؟! أم الذي وضع سد منيع أمامه و خلفه ، و حجبت بصره غشاوة فهل يبصر ؟! كلا .. كذلك لا ينتفع هؤلاء بالإنذار ، فسواء أنذرتهم أم لمتنذرهم لا
يؤمنون .
فلمن القرآن إذا ؟
إنما هو ينذر من يتبع الذكر ، و يهتدي و يطيع آيات القرآن ، و يخشى الرحمن بالغيب ، و هذا يتجنب المهالك التي تنذر بها ، و يبشره الله بمغفرة لذنوبه السابقة و هفواته ، و بأجر فيه الرزق و الكرامة ، و ياتي كمال الجزاء في الآخرة ، حيث يحي الله الموتى ، و قد كتب من قبل ما قدموه لحياتهم هناك و ما خلفوه وراءهم من آثار ، و كل شيء قد أحصي في إمام مبين .
( و هذه الرسالة جاءت على سنة رسالات الله السابقة ) و يضرب القرآن مثلا من أًصحاب القرية حين جاءها المرسلون ، ثم يمضي في بيان شبهاتهم الواهية ، و يردها أولا : على لسان الأنبياء ، و ثانيا : على لسان واحد ممن هداهم الله للإيمان ، وأدخله جنته فقال : ياليت قومي يعلمون ، و أهلك الله قومه من بعده بصيحة ، و تحسر على العباد الذين لا يبعث إليهم رسول إلا كانوا به يستهزؤون ، دون أن يعتبروا بمصير السابقين الذين سوف يحضرهم الله وإياهم لديه .
و يذكرنا القرآن بآيات الله لعلنا نهتدي إليه و نتبع رسله : فمن الأرض الميتة التي يحيها ( بالغيث ) و يخرج منها حبا فمنه يأكلون ، إلى الجنات ذات الثمرات المختلفة ، الى الليل و النهار و الشمس التي تجري لمستقر لها ، الى القمر الذي يجري في منازله حتى يعود كالعرجون القديم ، الى التدبير اللطيف للشمس و القمر ، الى وسائل النقل من سفن و أنعام البر .
و يذكرنا بأنه يحفظهم من غضب الأمواج برحمته و حتى يقضوا آجالهم ، و ترى أن الرب الرحيم يريد لهم الخيرات أيضا حين يأمرهم بالتقوى ( ليحفظهم من عواقبالذنب ) و لكنهم يعرضون بالرغم من تواتر الآيات ، و تراهم يبررون بخلهم بأنه كيف ننفق على من لو شاء الله أطعمه ( مما عكس فكرهم و قيمهم المادية ) و يتساءلون بأستهزاء : متى هذا الوعد بالجزاء ( لماذا يتأخر ) ان كنتم صادقين ؟! ( بلى . إنه آت و ماذا ينتظرون وماذا يستعجلون ) ماينتظرون إلا صيحة واحدة تاخذهم و هم سادرون في بحر الجدل العقيم ، و هنالك لا يسمح لهم الوقت بالتوصية ، ولا هم يعودون الى اهلهم مرة ثانية ( و يبقون في عالم البرزخ حتى يوم النشور ) فإذا نفخ في الصور فإذا هم يخرجون من القبور ، و يتوجهونالى ربهم ( و بدل التساؤل المشوب بالسخرية تراهم ) يقولون : يا ويلتنا من بعثنا من مرقدنا ؟ ( إنه الله المقتدر فيعترفون و يقولون : ) هذا ما وعد الرحمن ( من النشور ) و صدق المرسلون ( حين أنذروا بذلك اليوم الرهيب ) و هنالك الحكم العدل الذي يشمل كل الحاضرين ( و يصور السياق بعض مشاهد الجزاء ) فأصحاب الجنة في شغل فاكهون ، بينما يمتاز المجرمون الى النار ، و يحاكم الرب عبيده قائلا : ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان ؟! هو عدوكم ، و صراطه منحرف عن الصراط الإلهي المستقيم ، و إنه قد أضل كثيرا منهموأوردهم النار ، أفلا اعتبرتم بمصيرهم ؟! و اليوم أدخلوا جهنم تلك التي وعدتم إياها ، ( و بعد أن يصور لنا جانبا من عذاب جهنم يقول : ) ولو كنا نريد لجزيناهم في الدنيا ، فطمسنا على أعينهم و مسخناهم ( و فعلا يفعل الله ببعضهم فلا يقدرون منعه ) فمن يطول عمرهينكسه في الخلق . أفلا تعقلون ( إنه قادر على أن يصيبهم بمثل ذلك ) .
و يعطف القرآن الحديث عن الآخرة - بعد أن خشعت النفوس الطيبة بتصوير مشاهد منها - يعطفه الى رد شبهاتهم حول الرسول فيقول : وما علمناه الشعر ( ولا يتناسب حديثه و الشعر ابدا ) إن هو إلا ذكر و قرآن مبين ، و يهدف إنذار من يملك قلبا حيا ، أما بالنسبة إلى غيرهم فلكي يتم الحجة عليهم ( و يذكرنا السياق بالتوحيدالذي هو أساس كل عقيدة صالحة ، فمن آمن بالله حقا لم يطع الشركاء الموهومين ، بل أطاع الرسول الذي أمر الله بطاعته فقط ) أو لم يروا انا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ( ثم خولناهم التصرف فيها ، و جعلناها ذلولا يسخرونها ) فهم لها مالكون ؟! ( و بعد ذكرنعم الله يوجههم إلى الشكر الذي من أبرز معانيه الإيمان بالله و طاعة رسوله و لكنهم اشركوا ) و اتخذوا من دون الله آلهة ( و هم يريدون جبر نقصهم بها ) لعلهم ينصرون ( والواقع أن العكس هو الصحيح ) والآلهة لا يستطيعون نصرهم بل إن المشركين لهم جند محضرون .
( و يخاطب السياق الرسول ليثبت فؤاده و لينذر الكفار ) و يقول : لا يحزنك ما يقولون لك . إن الله يعلم سرهم و علنهم .
( و يعود السياق الى الإيمان بالآخرة ، و كيف يكفر بها هذا الإنسان الذي أسبغ الرب عليه النعم ، و يخاصم فيها بكل صلافة ) أفلا يرى الإنسان أنه مخلوق من نطفة ( مهينة ) فإذا به يصبح خصيما لله ؟! ( يتقلب في نعم الله ويجادل في آياته ! ) و يضرب مثلا ( فيأخذعظما يفتته و يقول : ) من يحيي العظام و هي رميم ؟! قل : يحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل شيء عليم ( فيعلم أين ذهبت ذرات جسد هذا الشخص أو ذاك ) و هو الذي جعل من الشجر الاخضر نارا لكم توقدون عليها ( مع أن النار باطنة فيها ) و هو الذي خلق السموات و الأرض فهل يعجزه إرجاع البشر ؟! كلا .. ) و إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ( و تعالى عما يصفه الجاهلون بالنقص و العجز ، كلا .. هو العلي المقتدر على بعث الإنسان ) و إليه ترجعون .
و كلمة أخيرة :
لقد ذكرت النصوص : أن ( يس ) قلب القرآن ، وهي - بحق - غرة السورالمكية التي جاءت فيها حقائق الرسالة بصورة مركزة ، مما يجعلها ركيزة الحياة للإنسان المسلم ، لأنها حوت خلاصة دروس الحياة ، و حكمة المرسلين ، و متطلبات الحضارة .
|