فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 71] ظواهر كثيرة نتعامل معها يوميا ، و لكن دون أن نتبصر ما وراءها من حقائق ، و أعظمها نعم الله السابغة التي تهدينا الى حبه و شكره و معرفة أسمائه الحسنى ، و من أبرزها قدرته و حكمته ، و هما إسمان كريمان يدلان على يوم البعث .


من تلك الظواهر امتلاك ناصية الأنعام ، فلقد خلقها الله بيد قدرته خلقا ، ثم أودع فيها منافع شتى ، و سخرها للإنسان ، و لو شاء لجعلها وحشية صعبة المراس ، كما جعل في البشر حب التملك و قدرة التملك . أرأيت لو لم يكن البشر يحب السيطرة هل كان يسخر شيئا مماحوله ؟!

[ أولم يروا ]

هذه الظاهرة المتكررة التي يمرون عليها دون أن يتفكروا فيها ، و إذ هم لا يتفكرون فكأنهم لا يرون شيئا .

[ أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا ]

والله لم يخلق الأنعام خلقا مباشرا ، بأن يقول لها : كوني فكانت ، إنما خلقها عبر شبكة من الأنظمة و السنن لا تحصى عددا ، و لعل قوله تعالى : " مما عملت أيدينا " إشارة الى هذه الحقيقة التي تجعلنا أكثر امتنانا لبارئنا ، و أكثر وعيا بقدرة ربنا وحكمته ، و بالتالي بيوم الجزاء الأوفى .

[ أنعاما فهم لها مالكون ]

فهم الآن يملكون تلك الأنعام فعلا ، و يسيطرون عليها ويسخرونها لمنافعهم .

[ 72] تكاملية نعم الله دليل علمه و قدرته . إنك تجد الإبل - مثلا - يقوم بذات الحاجات المتنوعة التي يعيشها البشر ، فهو يحمله مسافات شاسعة دون كلل . أرأيته كيف يقطع الربع الخالي في الجزيرة العربية معتمدا على ما فيه من اشواك حادة و ماء قليل ؟! أرايته كيف يتحمل وعثاء السفر و العواصف الرملية الهوج ، و يجري في الرمال المتحركة كما تجري السفن بين الأمواج ؟! وفي ذات الوقت تراهيسقي الإنسان لبنا سائغا ، و إذا اشتهى لحما نحره و استفاد منه ، و فيه بعد كل ذلك جمال و عزة ، و كما الإبل سائر نعم الله .

[ و ذللناها لهم فمنها ركوبهم و منها يأكلون ]

[ 73] و تجد في أوبارها و أشعارها وجلودها متاعا و لباسا و بيوتا خفيفة .

[ و لهم فيها منافع و مشارب ]

و الهدف الأسمى من نعم الله ليس مجرد الإنتفاع بها ولكنه التسامي الروحي الى معرفة الرب وشكره .

[ أفلا يشكرون ]

[ 74] و البشر يبحث عن قوة ، و لقد أودع في ضميره الإحساس بالضعف الذي يهديه - إن أحسن التفكر - الى ربه ، و لكن الشيطان يغويه عن السبيل القويم ، و يوحي إليه أن القوة عند الآلهة التي تعبد من دون الله .

[ و اتخذوا من دون الله ءالهة لعلهم ينصرون ]

فهم يعبدون القوة السياسية و القوة الإقتصادية والوطن و العشيرة و الحزب و الشمس و القمر والنجوم و الإحجار التي ترمز إليها ، و يبتغون عندهم القدرة عند الصراع ، لعلهم ينصرونهم أمام القوى المعادية .

هكذا بينت الآية الكريمة خلفية الشرك بالله ، وهي البحث عن قوة تنصرهم في مواجهة الطبيعة أوالأعداء .

[ 75] و لكن من ينصر من ؟ هل الآلهة تنصرهم أم هم ينصرونها ؟


[ لا يستطيعون نصرهم ]

يقول ربنا بصراحة بالغة ، ولو لم يكن في القرآن إعجاز إلا هذه الآية لكانت شاهدة صدق على أنه من عند الله ، إذ يزعم الناس - إلا قليل ممن هداهم الله - أن الطاغوت أو أولي الثروة و الجاه و العشيرة ينصرون من يشرك بهم ، بينما يؤكد ربنا أن العكس هو الصحيح ،و عندما نتفكر جيدا نعرف أن الآلهة هم الذين يتبعونهم ، فمن الطاغوت لولا اتباعه الذين استسلموا له رغبا و رهبا أو ضلالة ؟ الأثرياء فظلمهم و استضعافهم إنما بسكوت الناس عنهم أو طمعهم في أموالهم و هكذا العشيرة و الوطن و الحزب .

[ و هم لهم جند محضرون ]

و لعل هذا التعبير يوحي بأن قوة الآلهة هي مجموع قوة التابعين ، فهم رمز التجمع لا أكثر ولا أقل .

وقال المفسرون : إنما عنى الله بذلك يوم القيامة حيث يصطف المشركون خلف آلهتهم المزعومة و يساقون الى النار زمرا ، ولا ريب أن الامر لكذلك ، ولكن - يبدو لي - أن الآية تشمل الدنيا أيضا ، إذ المشركون هم أنصارها هنا ، و في الآخرة تتجلى هذه الحقيقة أكثر فأكثر ، قال ربنا سبحانه : " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم و يكونون عليهم ضدا " (1)و كلمة أخيرة : إن العوامل المؤثرة في حياة البشر ليست جميعا ظاهرة بل هي عوامل غيبية ، وحتى العوامل الظاهرة كالسياسة والإقتصاد وماأشبه فهي - لو أمعنا النظر - تتصل بعوامل غيبية ، و بالتالي لا تستطيع القوى المعبودة من دون الله(1) مريم / 81 - 82 .


أن تؤثر فيها شيئا ، ثم إن قوتها الموهوبة محدودة بعالم الدنيا ، وهي وبال في العالم الثاني . إن الغباء يبلغ مداه حين يتخذ الإنسان نظيره الانسان إلها من دون رب العزة لينصره أمام سنن الله و قدره و قضائه ، و لكن هذا الغباء هو بالضبط ما يركبه الإنسان إلامن عصمه الله ، فإغلب الناس يشركون بربهم ، و يعبدون بنسبة معينة آلهة القوة و الثروة و الجاه ، فيفقدون بذات النسبة قوتهم التي وهبها الله لهم لمصلحة تلك الآلهة ، و هم يزعمون أنهم يكتسبون منها قوة و منعة وعزا .

كما أنهم بشركهم يفقدون نصر الله لهم ، ولو أنهم توكلواعلى الله ، و توجهوا تلقاء نعمه التي أسبغها عليهم ظاهرة وباطنة ، و فجروا طاقاتهم التي لا تحد ، و استخرجوا من أنفسهم كنوزها التي لا تنفد ، إذا حققوا المزيد من تطلعاتهم بتأييد ربهم و تسديده .

و لعمري هذا سر العظمة ومفتاح الفلاح لو كانوا يعقلون .

[ 76] وحين يتخلص الإنسان من حجاب الشرك يتهيأ نفسيا ومن ثم عقليا لتقبل المسؤولية ، لأن أعظم دافع للبشر نحو الشرك الهروب منها ، و التخلص من جزاء أعماله حسب زعمه ، و هكذا يذكرنا السياق بيوم الجزاء الأوفى بعد أن يرفع شبهة المجادلين فيه ، القائلة : كيفيحيي الله الموتى ؟ إن هذه الشبهة آتية من نسيان الخلق ، و عظمته التي تدل على عظمة الخالق ، أما إذا تذكرناه فإن الشبهة تتلاشى .

و يبدأ الحديث ببيان أن كلامهم الجدلي يجب أن لا يحزن أًصحاب الرسالة ، لأنه محفوظ عند الله ، يعلم الله خباياه كما يعلم ظاهره ، فلا ينبغي أن يقربه ويؤخذ مأخذ الجد .


[ فلا يحزنك قولهم ]

و يبدو ان الحزن بالكلام قد يجر الى التنازل لهم تحت ضغطه فلذلك نهي عنه .

[ إنا نعلم ما يسرون ]

من نيات مغايرة للكلام حيث أنهم يعلمون أنهم كاذبون و إنما يتكلمون جدلا .

[ وما يعلنون ]

فيسجل عليهم للجزاء .

[ 77] ثم يعرف ربنا أكبر شبهاتهم التي تشكك بقدرته - تعالى - و يقول :

[ أولم ير الانسان ]

قالوا : إن الرؤية هنا تعني العلم ، أي أولم يعرف الإنسان ، و نقول : نعم . و لكن مثل هذا العلم لا يحتاج الى أكثر من نظر ، و نحن لم نشهد خلق أنفسنا ، ولكنا شهدنا كيف خلق نظراؤنا من الناس حتى لكأننا شهدنا خلق أنفسنا .

[ أنا خلقناه من نطفة ]

هذا الماء المهين هذا ما نراه ، أٍما ما نعلم فإن الخلق تم بجزء بسيط جدا من هذه القطرة الدافقة من الماء . انها الخلية المتناهية في الصغر من ماء الرجل وماء المرأة .

و بعد أن خلق من الماء المهين رباه الله من خلق لخلق ، و من طور لطور ، ومن مرحلة لأخرى حتى سواه رجلا ناطقا .


[ فإذا هو خصيم مبين ]

و قد بلغ به الكمال مداه حتى اغتر به ، و أخذ يجادل - و بوضوح تام - خالقه و رازقه !

[ 78] و من مظاهر جدلهم الباطل أن الواحد منهم ياتي بقطعة عظم بالية ، و يسعى الى رسول الله ، و يزعم أنه سوف يخصمه به .

[ و ضرب لنا مثلا ]

يبدو أن المثل هو الواقعة التي يستشهد بها على فكرة أو حقيقة ، و إنما يقال ضربه لأنه يشبه غيره و الضرب هو الشبيه .

[ و نسي خلقه ]

ولو لم ينسه خلقه لما ضربه مثلا . أفلم ير أنه قد خلق من غير مثال يحتذى ؟! فكيف يستبعد قدرة الله على الخلق ؟!

[ قال من يحيي العظام وهي رميم ]

لقد جاء أبي بن خلف الجمحي معه عظم نخر ففركه ثم قال : يا محمد من يحيي العظام وهي رميم ؟! فأنطق الله محمدا بمحكم آياته و بهته ببرهان نبوته قال : " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " فانصرف مبهوتا .

[ 79] لقد كانت إزالة الشبهة قد بدأت مع بداية هذه المجموعة من الآيات حيث مهد الله لها بالنهي عن الحزن لما يقولونه لأنه بعلم الله ، ثم ذكر الانسان بأصل خلقه من النطفة مشيرا الى تلك البداية البسيطة التي يراها الإنسان ، ثم نوه بذلك مرة أخرى حين قال : ونسي خلقه ، ثم قال :


[ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ]

هنالك أنشأها إنشاء وابتدعها ابتداعا من غير مثال يحتذى ، ولا أدوات تستخدم ، ولا أنصار و شركاء يساهمون . إن تذكر هذه الحقيقة تذهب أي شك في قدرة البارىء في ذلك ، بلى . يبقى تساؤل قد يلقيه الشيطان في قلب الإنسان الذي يسعى بدوره للتخلص من ثقل المسؤولية و هاجس الجزاء ، و التساؤل هو : كيف يجمع الله الأجزاء المتناثرة في أقطار الأرض حول هذا البدن ؟

فيقول ربنا وهو يشير الى تنوع خلق الله ، الذي يهدينا الى علمه المحيط :

[ و هو بكل خلق عليم ]

فأنى ألقيت بصرك و ادرت بصيرتك رأيت خلقا عجبا ، حسن التقدير ، جميل الظاهر ، متين الصنع ، متناسبا مع هدفه ، متناغما مع نظائره ، ثم رأيت من أنواع الأحياء ، و ألوان النباتات و مختلف المعادن ، و صنوف الجمادات ، مالا يدع عندك شبهة في سعة قدرة بارئها ، ومحيط علمه و قديم خبره ، فكيف يشك في إمكانية إعادة الخلق ؟!

جاء رجل الى الإمام الصادق (ع) وقال منكرا للبعث : وٍأنى له بالبعث و البدن قد بلي ، و الأعضاء قد تفرقت ، فعضو ببلدة يأكله سباعها ، و عضو بأخرى تمزقه هوامها ، و عضو قد صار ترابا يبنى به مع الطين في حائط ؟!

قال الإمام مجيبا :

" إن الذي أنشأه من غير شيء ، و صوره على غير مثال كان سبق إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه .


قال : أوضح لي ذلك ؟

= قال : إن الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء و فسحة ، و روح المسيء في ضيق وظلمة ، و البدن يصير ترابا كما منه خلق ، و ما تقذف به السباع و الهوام من أجوافها ، فما أكلته و مزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ، و يعلم عدد الأشياء و وزنها ، و إن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب ، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور ، فتربوا الأرض ، ثم يمخض مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء و الزبد من اللبن إذا مخض ، فيتجمع ترابكل قالب الى قالبه فينقل بإذن الله تعالى القادر الى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها ، و تلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا " (1)و لعل إشارة القرآن الى بداية الخلقة توحي بنظرية تقول : إن الخلية الأولى التي تلاقحت في الرحم تبقى على حياتها ثم تنمو في رحم الأرض كما نمت أولا في بطن الأم ، و لكن الحديث المذكور آنفا صريح في أن ذرات البدن المتناثرة في الأرض تلتحق به أنى كانت عن طريق المخض ، و لنا أن نشبه ذلك بقطعة مغناطيس إذا حركت في تراب مخلوط بذرات الحديد . كيف تجتمع عليها تلك الذرات ؟!

[ 80] ثم يمضي السياق قبلا في أن البعث حق ، و يضرب مثلا من الشجر الأخضر الذي جعل الله للناس منه نارا و وقودا ، و يقول :

[ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فأذا أنتم منه توقدون ](1) نور الثقلين / ج 4 / ص 395 .


و يقف الإنسان حائرا : لماذا ضرب الله مثلا بالشجر الأخضر ، و ما هي صلته بواقع النشور ؟

قالوا : إن العرب كانوا يستخدمون نوعين من النباتات كالزناد لإنشاء النار كما نستخدم نحن الكبريت ، و سميا بـ ( صرخ ) و ( عفار ) و كانا رطبين ، إلا أن احتكاكهما كان يولد النار ، فضرب الله بهما مثلا على قدرته أو على انبعاث النار الخفية كما ينبعث الجسد الميت حيا يوم النشور .

و قال البعض : إن البحث العلمي أكد أن كل أنواع الوقود من أشعة الشمس ، و حتى اتقاد الخشب إنما هو يتخذن هذه الآشعة فيه ، وإلا فإن عناصره الأخرى كالماء و التراب لا نار فيها .

ذلك أن كل عملية تركيب كيماوية بحاجة الى امتصاص الطاقة أو بثها ، و عملية امتصاص الأشجار لثاني أكسيد الكربون بحاجة - حسب هذا القانون - الى الطاقة ، و هكذا فهي تستفيد من الطاقة الشمسية ، و تستمر الأشجار في اختزان الطاقة بصورة منتظمة .

و هذه العملية لا تقوم بها الأخشاب اليابسة بل الشجر الأخضر ، و لذلك ركز الحديث حوله ، بالرغم من أن الناس يعرفون أن الخشب اليابس أسرع اشتعالا إلا أنه لا يخزن الطاقة . (1)و لكن يبقى السؤال : لماذا ضرب الله بهذا مثلا ؟ الجواب :

أولا : إن ذلك يهدينا الى قدرة الله الذي ضغط النار في الماء . أوليس الشجر الأخضر ينضح بالماء ؟ فأبصر برب يخزن الوقود في الماء !


(1) بتصرف من تفسير نمونه / ج 18 / ص 464 .


ثانيا : إن السنن الإلهية الخفية أكثر من الظاهرة للإنسان منها ، وما أوتينا من العلم إلا قليلا ، و إننا نستبعد أشياء لآننا لا نعرف الأنظمة ، فلو قيل لأحد من أجدادنا : سيأتي يوم يطير جهاز بعشرات الأطنان من الحديد في الفضاء ، بسرعة فائقة لما صدق ، لأنهلم يكن يعرف قوانين فيزيائية يعرفها الإنسان اليوم ، وقديما قال الإمام علي (ع) :

" الناس أعداء ما جهلوا " (!)

و كذلك البشر ينكر البعث لأنه لا يعرف ما أودع الله في ضمير الوجود من أنظمة ، كما لم يكن يعرف الإنسان كيف يجعل الله من الشجر الأخضر نارا ، فلعل ذرات البدن التي تنفصل عنه بعد الموت تبقى ذات صلة خاصة به الى أن يبعث الله من في القبور ، أو تطبع عليها سمات تشير الى مصدرها .

ثالثا : إن ذرات الحرارة التي تنفصل عن الشمس و تخزن في الشجر الأخضر تبعث مرة اخرى إليها ، و لكن دون أن يعدم منها شيء كما يحسب الجاهل ، كذلك ذرات الجسم .

رابعا : و لعل في الآية إشارة لطيفة الى قانون الهي في الوجود أن فيه الغيب و الشهود ، فهناك الشجر الأخضر تحسبه لجة ماء ، فاذا فيه كتلة وقود مختزنة ، كذلك الدنيا شهود الآخرة ، بينما الآخرة غيب الدنيا ، فإنت ترى جسد الميت المسيء بينما هو في النار كما الزناد احتوى على نار مختزنة ، كما أن آكل مال اليتيم يحسب أنه يتناول طعاما شهيا ، و لكنه - في الواقع - إنما يأكل في بطنه نارا ، و الذي يكذب لا يعرف أن نتنا خبيثا يخرج من فيه يلعنه به الملائكة ، و هكذا .


(1) نهج البلاغة / خ 172 / ص 501 .


و هكذا ياتي رجل الى الإمام أمير المؤمنين (ع) و قد جاء بعظم كافر فيقول : أنتم تقولون أنه معذب فأين النار التي يعذب بها الآن ؟! فياتي إليه الإمام بزناد فيقدحه فيقول : أين كانت النار في هذا الزناد ؟

[81] البعث و النشور حقيقة فطرية . أوليست نفوس البشر تنزع الى الخلود ؟ و هذه الجهود الهائلة التي يبذلها البشر من أجل الخلود ، دليل عمق الإحساس بالخلود ، و ما اكره الموت في نظر الإنسان إلا ايمانه بانه جاء ليبقى ، و فقط أولياء الله الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم لا يهابون الموت ، ولو احصيت أهداف الناس من مساعيهم المختلفة لكان لهدف استمرار البقاء حصة الاسد فيها ، يقول الله تعالى لبيان هذه الحقيقة : " و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون " (1)و حيث علم البشر أنه لا محالة ميت ، فتش عن بقاء إعتباري إن فقد القدرة على البقاء الحقيقي ، فإذا به يسعى للإمتداد عبر أبنائه أو آثاره أو حتى تحنيط جسده الميت و بناء المقابر الضخمة عند رفاته .

و حين اراد إبليس إغواء أبينا آدم وزوجه حواء وإخراجهما من الجنة ، قال لهما : " هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى " (2)هكذا تراه يثير فيهما حب الخلود ، و يربطهما بالمعصية ، و كذلك يصنع بأبناء آدم ، فإنه من أعظم أسباب الذنوب حب الخلود .

ومن هنا فإن الإمام علي (ع) حين يسأله أحدهم : ما هو الحق الشبيه بالباطل ؟! يقول : الموت ، لأن نزعة الخلود لا تدعه يذعن للموت هذا الذي لا ينجو(1) الشعراء / 129

(2) طه / 120


منه حي أبدا ، و قد قال ربنا سبحانه : " كل نفس ذائقة الموت " .

إن هذا الإحساس الفطري العميق بالخلود لا يتحقق في الدنيا ، فهو إذا يتحقق بالبقاء في الآخرة ، فما الموت إلا قنطرة ، و ما الدنيا إلا مزرعة ، و إن الآخرة لهي الحيوان .

و لكن تبقى العقبة الرئيسية أمام البشر جهله بقدرة الله و احتجابه بما يراه عما لا يراه ، بالشهود عن الغيب .

لذلك نرى آيات القرآن تذكرنا بآيات قدرة الله ، فهذه السموات التي لا تحصى أقمارها و شموسها ، و هذه الأفلاك التي لا تحد اتساعا ، ولا تنحرف عن مسيرها قيد شعرة ، طوعا لربها و تسليما ، و هذه الأرض التي لا تنقضي عجائبها ، و هذه الأحياء المتنوعة التي تتجلىفي كل واحد منها عظائم قدرة ربنا الجبار . أوليست جميعا دليل قدرة الله ؟!

[ أوليس الذي خلق السموات و الأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ]بلى . هو القادر ، و كيف يخلق إن كان عاجزا سبحانه ؟!

بلى . إنه القادر ، و دليل ذلك تنوع الخلق ، فمن البعوضة المتناهية في الصغر ، الى الفيل الذي يشبه البعوضة و لكن بحجم أكبر ، الى الحوت الذي قد تكون عين واحدة منه أثقل من فيل ثم يجوب البحار بسرعة هائلة ، الى عجائب البحار و رواسي الجبال و نباتات السهول، حتى أنك لو قضيت عمرك في معرفة آيات الله في أصغر نبتة : كيف تستقي الأرض و تمتص أملاحها ، و كيف تمثل من الشمس ضوءها ، و كيف تحافظ على نفسها ضد الآفات و العواصف ، و كيف تحقق هدفها في هذاالكون الأرحب ..؟ نعم . لو فعلت ذلك و عشرات الباقين لما انقضت عجائب تلك النبتة الصغيرة ، و هكذا الحيوان الصغير كالنملة ، فإذا زرت مكتبة كبيرة فلعلك تجد عشرات الكتب في نبتة متواضعة ! و ربما فوجئت بأن النملة التي تسحقها برجلك قد حظيت باحترام العلماء فألفوا فيها عشرات الألوف من الكتب و الدراسات حتى الآن .

هذا التنوع الكبير الذي لا يحصى أفراده دليل خلاقية الرب ، و أنه لا يعجزه شيء في السموات و الأرض ، و أنه عليم كيف يصنع ما يصنع ؟

[ و هو الخلاق العليم ]

و لعل التعبير بـ " مثلهم " هنا للدلالة على أن القدرة تتعلق بجنسهم عموما ، و ليس بأشخاصهم فقط ، فالذي يستطيع على مثل الشيء يستطيع عليه ، دون العكس ، و لسنا بحاجة الى بعض التكلفات البعيدة التي ذهب اليها المفسرون لزعمهم أن " مثلهم " تدل على عودة الناس ليست بأبدانهم بل بأرواحهم فقط .

] 82] من أصغر خلية الى أعظم مجرة ، كل مخلوق يؤدي دورا و يحقق هدفا ، بينما يستوي الإنسان على عرش السلطة ، فقد أوتي ما يسخر به ما في الأرض جميعا ، و توفر فرصة العيش الرغد لهذا المليك المكرم . أولم يقل ربنا سبحانه : " و سخر لكم ما في الارض جميعا" " و لقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر و البحر " و عندما نتفكر في وجود الإنسان نرى كل شيء فيه يحقق هدفا ، من أعظم جارحة كالمخ و القلب الى اصغر نسيج .

تعالوا إذا نفكر : أليس لوجود الإنسان في الأرض بذاته هدف ؟ وهل خلقه الله عبثا ؟ فأين إذا حكمة الله ، التي تتجلى في كل شيء ؟! وأين عدالته التي نرىآياتها في السموات و الأرض ؟!

كلا .. إنما خلق الإنسان لهدف أيضا ، و هو أن يتكامل الى الله ، و قد جاء في الحديث القدسي المعروف :

" خلقت الأشياء لأجلك ، و خلقتك لأجلي "

و قال ربنا سبحانه :

" أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا و انكم الينا لا ترجعون " .

" وما خلقنا السماء و الارض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إنا كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون " .

و حين تفكر أولو الألباب في خلق السموات و الأرض عرفوا أن الخلق ليس باطلا فقالوا : " ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار " .

و لكن هناك من يعرف هذه الحكمة و لكنه ينكر المعاد ايضا ، كالفلاسفة المتأثرين بآراء اليونانيين القدماء . لماذا ؟ لأنهم جهلوا كيف خلق الله الخلق ، فقال بعضهم : الخلق صادر عن الله - سبحانه و تعالى - كما يتدفق الماء من العين . فكيف يعود الماء الى العينتارة أخرى ؟!

و قال آخرون : بلى يعود ، و لكن لا ليعذب أو يجازى على أفعاله ، بل ليلتحق بالمصدر ، كما تعود المياه الى البحار بعد تطواف كبير !

و قد أنكر هؤلاء البعث بالصورة التي جاءت بها كتب الله لجهلهم بكيفيةالخلق ، يقول ربنا وهو يوضح قدرته في أمر الخلق :

[ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ]

فليس فيضا أو صدورا ، و ليست دورة وجودية كما تقول الدهرية والذين تاثروا بهم من الفلاسفة ، إنما هو فعل محدث لرب القدرة ، فحيث أراد خلق المشيئة بعظيم قدرته فخلق الأشياء بالمشيئة ، حسب حيدث مأثور .

و التعبير بـ " يقول " لبيان حدوث الإرادة ، و إلا فربنا غني عن احداث تحول لفعل الاشياء وهكذا جاء في كلام أمير المؤمنين (ع) :

" يقول لما أراد كونه ( كن ) فيكون ، لا بصوت يقرع . ولا بنداء يسمع ، و إنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله ، لم يكن من قبل ذلك كائنا ، و لو كان قديما لكان إلها ثانيا " (1)إن الكلمات تقف دون تبيان الغيب الإلهي عاجزة كليلة ، و إنما تقرب إلينا = قدر المستطاع - حقائق الغيب بما هي قريبة منها في عالم الشهود ، فإننا - مثلا - حين نريد شيئا نأمر به و الأمر عادة يكون بالتعبير عنه قولا ، لذلك نجد القرآن يعبر أن أمر الله بالكلمة أو بالقول .

و قد وهب الله هذه القدرة لأهل الجنة ، فقال في آية مضت : " ولهم ما يدعون " وقال في قصة سليمان : " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده " .

هكذا بمجرد أن يشتهي أهل الجنة شيئا يجدونه عندهم بإذن الله ، كذلك بمجردإرادة خليفة سليمان عرش بلقيس وجده عنده .

[ 83] وفي ختام السورة و بعد أن يصف القرآن ربنا بما ينبغي من القدرة و العلم يقدسه من كل نقص أو عجز أو فقر فيقول :

[ فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ]

أولا ترى آثار الفقر و الحاجة و الضعف في كل شيء ؟ إن ذلك شاهد مملوكية لمالك غني مقتدر قوي ، هكذا ينطق كل شيء بأن ربنا سبحانه القدوس المبارك المتعالي .

وإذا عرفنا قدسية الرب وقدرته و حكمته آمنا بالنشور ، و كلما ازداد المرء معرفة بربه أزداد إيمانا باليوم الآخر .

[ وإليه ترجعون ]


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس