بينات من الآيات [43] يخلط أعداء الرسالة أمرها عادة و أمر صاحبها ، فاذا بهم يتركون الحديث عنهــــا وعن الآيات الواضحة التي تتلى عليهم و يحاولون النيل من رسولهم ( مبلغها اليهم ) .
[ وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أنيصدكم عما كان يعبد ءاباؤكم ]
فهم يريدون أولا اسقاط شخصية الرسول (ص) في المجتمع ، حتى يتسنى لهم رفض أفكاره ، وذلك عن طريق إثارة العصبيات الجاهلية ، و أنهم لو أفلحوا في ذلك لأوجدوا هدفهم وهو العداء بين المجتمع و بين الرسول ، بحيث يتخذ المجتمع موقفا مسبقا تجاه كل ما يصدر عنه من الأفكار ، و كان هذا وراء كفرهم ، الا أنهم برروا كفرهم بأن اتهموا الرسول (ص) .
[ قالوا ما هذا إلا إفك مفترى ]
حتى لا يسلم الناس مباشرة للرسالة ، ثم يقوموا بإعطاء المقاييس الخاطئة التي تنتهي الـــى نتيجة من جنسها ، و لهذا أسموا الرسالة بالإفك المفترى و هو الكذب المحبوك ، و لما اكتشفوا ان الكذب هو ما يخالف الحقيقة ، و ان الذي يقوله الرسول (ص) عين الحقيقة ،فكروا في تغيير موقفهم بالبحث عن تسمية أكثر مناسبة من الكذب ، فيها شباهة بالواقع ولو ظاهرا ، حتى يقنعوا المجتمع بأن ما يراه ليس هو الحق ، فلم يجدوا في نظرهم أفضل من تهمة السحر .
[ وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ][44] و يبين الله الدافع الحقيقي لهؤلاء نحو تكذيب الرسالة و معارضتها الا وهو الجهل ، وفي الحديث قال أمير المؤمنين (ع) :
" الناس اعداء ما جهلوا " (1)
و جهل المجتمع الذي جاءه الرسول (ص) يتجسد في انعدام الخلفية الفكرية(1) بح / ج 78 - ص 14
الصحيحة .
[ وما ءاتيناهم من كتاب يدرسونها ]
اي لم تصلهم أصداء الرسالات الأخرى فيستنيروا بها .
[ وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير ]
فتكون ثمة بقايا لحركته الرسالية فيهم ، ليقيسوا بينك و بينه فيعرفون الحقيقة ، فانكار هؤلاء نابع من غرور الجهل لا من اسس علميه ، ولعل في الآية اشارة الى ان هؤلاء الذين يتغنون بامجاد أجدادهم ، و يخشون عليها من الرسالة ، لا يوجد في ماضيهم نور المعرفةأو ضياء الرسالة ، فلا ينبغي لهم ان يقلدوا آباءهم البعيدين عن العلم و الرسالة .
[45] ثم ينسف الله قاعدة أخرى لكفرهم وهي غرروهم بقوتهم ، و ينذرهم بان القوة الظاهرية لا تمنع عنهم جزاء كفرهم و ظلمهم ، و ان الذين كفروا بالرسالات من قبلهم كانوا أشد منهم قوة ، و أكثر جمعا ، و لكن الله دمرهم فهل يقدرون على تجنب هذا المصير .
[ و كذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما ءاتيناهم ]من القوة .
[ فكذبوا رسلي ]
غرورا بما يملكون من طاقات و امكانات و جهلا بهما ، و لكن هل منعت قوتهم عنهم العذاب ؟! كلا .. انما تعرضوا لنقمات الله الجبار ، و القرآن يوجهنا لدراسةتاريخ تلك الأمم و مصائرهم للاعتبار بها فيقول :
[ فكيف كان نكير ]
و النكير : : السوء الذي ينكره الانسان و لا يريده ، اشارة الى فظاعة الخطب و الدمار اللاحق بهم .
وبعــد ان نسف القرآن قواعد الكفر ، و أبطل أعذار رفض الرسالة من اتباع الآباء ، أو الغرور بالقوة ، دعاهم الى التفكر . وهذا هو المنهج السليم في الدعوة : ان ترفع في البدء الحجب التي تمنع الرؤية ، ثم تخاطب الوجدان ، و تستثير العقل بالدعوة الى التفكر .
[ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى و فرادى ]بصورة جماعية - اثنان اثنان و أكثر - أو بصورة فردية .
و يجب ان يكون هذا القيام بهدف التفكر لمعرفة الحقيقة التي تخالف أراجيف الكبراء و المترفين حول الرسول (ص) .
[ ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ]و اول ما يذكرهم به بعد استثارة عقولهم هو ان صاحبهم الذي عرفوه طوال اربعين سنة ليس بمجنون ، و كيف يكون به جنة و الحكمة تتفجر من جوانبه ، و تشهد مواقفه على كمال عقله ، و فصل منطقه ؟!
فهو انما يتحدث لكم عن حقيقة لو تركتموها أصابتكم نقمة ، و هذا أدعى الىالتفكر ، و أقوى في اثارة العقل .
و اذا كان الله قد رفع عن أمه النبي محمد (ص) العذاب المادي كالصواعق و الريح كرامة له ، فان سنته في تعذيب الجاحدين جارية في صور أخرى كالتخلف و التبعية و الحروب ، فما تعيشه الامة الاسلامية الى اليوم انما بسبب الأفكار و العادات المتخلفة التي تعارض رسالة الله .
و لعل هذه الآية تنسحب الى كل الدعوات الاصلاحية ، و في كل عصر ، فليس من الصحيح ان يرفض المجتمع أو يقبل أية دعوة بصورة ارتجالية سريعة ، فلعل ما يرفضه يكون صحيحا ، و لعل ما يقبله يكون خطأ ، انما يجب عليه التفكر الشامل عميقا ، في ظروف مناسبة ، و عبر منهج حكيم ، و بهدف شريف هو التوصل الى الحقيقة ، و لهذا أكد القرآن أن يكون القيام لله وليس بهدف آخر ، اذ من الممكن ان يطلب العلم من أجل المصالح الشهوانية المادية كالشهرة و المال فلا يبلغ الحقيقة ، بينما إذا أخلص الإنسان نيته لله عند بحثه عن الحق هداه الله اليه ، لان من شروط التفكير السليم الهدف السليم منه ، ولعل هذا هو سبب تقديم النية المخلصة ( القيام لله ) على التفكير .
بعد ان نسف السياق قواعد الجحود و رفع عن الابصار غشاوات العناد و المعاجزة ثم أمرهم بالتفكر بنية صادقة ، ذكرهم بشواهد صدق الرسول (ص) ومن أبرزها : اخلاصه في دعوته ، حيث لا يطمع في أجر ، اللهم إلا أجرا يعود اليهم نفعه ، أوليس الكاذب أو الساحر يقترف جريمة التضليل بهدف مادي ؟! وها هو الرسول لا يبحث عن أجر مادي فهو اذا صادق .
[47] ولان التفكير السليم سوف يقود الانسان للايمان بالله ، و الالتزام بالدين ، الأمر الذي يكلف شيئا من التضحية كضريبة لتحمل الرسالة ، يؤكد القرآن أن هذهالتضحيات تخرج من يد الناس لتعود اليهم بالنفع في الدنيا و الآخرة .
[ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ]
و ليس للرسول ، لأنه يعمل لله وليس للمصلحة ، وهذا من الدلائل على صدق الانبياء في دعوتهم .
[ إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد ]
يلحظ كل جهد و حركة في سبيله ، ليضيف ذلك الى رصيد الرساليين ، و يثيبهم على عملهم بالتوفيق و النصر في الدنيا ، و بالجنة و الرضوان في الآخرة .
[48] ثم تهدينا الآيات الى احدى خصائص الأنبياء في صراعهم مع انصار الباطل وهي شهادة الله على صدق رسالاتهم ، لانها حق ، و الله يؤيد الحق ، و لمعرفة الرسل بهذه الحقيقة فانهم يتوكلون على ربهم ، و يخوضون غمار التحديات دون ان يخشوا أحدا أو يخافوا فشلا .
[ قل إن ربي يقذف بالحق ]
على كيان الباطل فيهدمه ، والله ..
[ علام الغيوب ]
ولان الرسول يوحى اليه من لدن علام الغيوب ، فهو يبصر مالا يراه الأخرون ، و يتدرج من نصر الى نصر حتى يفتح الله على يديه البلاد ، و هذا أقوى شاهد على صدقه ، و انه يدعو الى الله الذي هو على كل شيء شهيد ، و لعل خاتمة الآية السابقة كانت تمهيدا لبيان هذهالحقيقة وهي شهادة الله على صدق رسالته .
[49] و حين يأتي الحق يزهق الباطل ، و رب أمة تبقى سادرة في الغي و الضلال مئات السنين ، لكنها تهتدي للحق اذا جاءها مصلح يحمل راية الحق .
[ قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ]
فهو مسلوب الارادة أمام الحق ، و هذا يعني ان ما نراه من غلبة ظاهرية لانصار الباطل على انصار الحق ، ليس لقوة فيهم بل لضعف في الطرف المقابل ، فهؤلاء تدعمهم ارادة الله ، و سنن الحياة ، و منطق الحق ، و كان أحرى بهم ، ان يربحوا المعركة لولا انفصام العلاقة بينهم و بين عوامل النصر .
ولعل معنى " وما يبدئ الباطل " : انه لم يكن - منذ البدء - شيئا ، فهو زهوق بذاته .
و فسروا الآية تفسيرات شتى ، و ربما الأقرب ما ذكرناه آنفا ، و يحتمل أيضا ان يكون المعنى : ان الباطل لا يبتدا في كيان جديد ولا يتجدد كيانه السابق .
[50] ثم ان الضلالة نابعة من نفس الانسان ، بما تنطوي عليه من الضعف و العجز و الجهل و .. و.. ، بينما الهدى نعمة من الله له ، و اذا ضل الانسان فان المردود السلبي للضلالة سيعود عليه .
[ قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي و إن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ]وفي الآية تذكرة بالرسالة ، وانها مبعث الهدى ، وان الضلالة تعود على صاحبها بالخسار العظيم .
ولعل خاتمة الآية تشتمل على طلب بالهداية ، في أرقى صيغ الدعاء ، بما تشتملعليه العبارات من تنزيه لله ، و اعتراف بالضعف أمامه ، و الحاجة اليه ، وانه مصدر الخير الذي ذروته الهداية للحق ، و انه السميع لدعاء عبده برحمته ، و القريب في الاجابة بكرمه و جوده .
[51] وفي نهاية السورة يعود السياق للتذكير بالآخر ة ، لانها أعظم فكرة تعطي التوازن لروح الانسان و عقله ، و لهذا نجد الذكر الحكيم يؤكد على الايمان بالآخرة عند حديثه عن مختلف حقول المعرفة .
و انما يجحد البشر الحق اتباعا لشهواته ، و بحثا عن مصالحه في زعمه ، فإذا عرف ان الجحود ينتهي به الى نار جهنم فأية مصلحة له فيه ؟
[ ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت ]
فهم يرهبون يوم القيامة ، و لكنهم لا يستطيعون الفرار من العدالة الالهية حينئذ .
[ و أخذوا من مكان قريب ]
لان قدرة الله و حكومته تشمل الكون بأكمله ، فأينما كانوا فهم قريبون من أخذ الله ، و جاء في رواية ابي حمزة الثمالي قال سمعت علي بن الحسين و الحسن بن علي يقولان :
" هو جيش البيداء يؤخذون من تحت اقدامهم " (1)وهو اشارة الى يوم ظهور القائم من آل محمد - صلى الله عليه وآله - حيث يبيد الله جيش الكفر في منطقة بين مكة و المدينة تسمى بالبيداء .
(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 343
[52] وفي اللحظة التي ينزل فيها عذاب الله يرى الكفار عين الحقيقة ، وانه لا خيار سوى الايمان ، و كان ينبغي لهم ان يؤمنوا بذلك ، في يوم الحرية و الاختيار التي يكون عليها الثواب و العقاب ، لانها تلتقي و حكمة الله من خلق الدنيا .
[ و قالوا ءامنا به ]
لما رأوا العذاب أو نصر المؤمنين ، و لكن هيهات فالايمان بعيد عنهم ، لانه قمة سامية لا يصلها الانسان الا بالنية الصادقة و العمل الصالح ، بل و السعي الحثيث و الجهاد الدؤوب .
[ و أنى لهم التناوش من مكان بعيد ]
فليس الايمان كلمة يقولها الواحد في اللحظة الأخيرة من عمره ، و كيف يعيد الانسان دورة الزمن الى الوراء ، فيشتغل الى ايام حريته التي قصر فيها ، كلا .. إنه يشبه التناوش من مكان بعيد ، كمن يقف على الأرض و يريد أن يتناول بيده ما على الذرى السامقة .
وفي الحديث قال ابو حمزة الثمالي سألت أبا جعفر (ع) عن قوله عز وجل : " و أنى لهم التناوش من مكان بعيد " قال :
" انهم طلبوا الهدى من حيث لا ينال وقد كان لهم مبذولا من حيث ينال " (1)[53] لقد كفروا بالوحي في الدنيا و فاتت فرصتهم .
(1) نور الثقلين / ج 4 - ص 345
[ وقد كفروا به من قبل و يقذفون بالغيب من مكان بعيد ]فهم يتكلمون على غير بصيرة ، و بعيدا عن الواقع ، و من دون هدف ، بينما يقذف الله بالحق و هو يعلم بتفاصيــل كل شيء ، و هذا ما يجعل الوحي صادقا لا نقص فيه ، بينما كلامهم باطل في باطل .
[54] ومن الشواهد على ان الباطل سراب لا ينتهي الى شيء ، ان من اتبعه كان يبحث من ورائه عن الملذات و الشهوات ، و لكن الموت أو نصر المؤمنين ، الذي يقضي به الله عليهم يحول بينهم و بين الوصول اليها .
[ و حيل بينهم وبين ما يشتهون ]
وهذه سنة جرت على الاجيال الماضية من امثالهم ، لكنهم لم يستفيدوا ممن سبقهم فحلت بهم الندامة ، و لفهم الأسف .
[ كما فعل بأشياعهم من قبل ]
و يبين الله السبب المباشر لهذه النتيجة السيئة ، الا وهو الشك في الرسالة ، التي لو آمنوا بها لحصلوا على مصالحهم أيضا ، ذلك أنها الطريق للسعادة ، و قد حذرتهم سابقا من هذه العاقبة فلم يستجيبوا لها .
[ إنهم كانوا في شك مريب ]
|