(40) قال رب أنى يكون لي غلام استبعاد عادي واستفهام وقد بلغني الكبر اثر في السن واضعفني وامرأتي عاقر لا تلد من العقر بمعنى القطع قال كذلك مثل خلق الولد من الشيخ الفاني والعجوز العاقر الله يفعل ما يشاء من العجائب الخارقة للعادة .
(41) قال رب اجعل لي آية علامة اعرف بها الحمل لاستقبله بالشكر قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام ان لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا قيل وإنما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصة ليخلص المدة لذكر الله وشكره قضاء لحق النعمة وكأنه قال آيتك أن تحبس لسانك الا عن الشكر .
العياشي عن الصادق عليه السلام قال ان زكريا لما دعا ربه ان يهب له ولدا فنادته الملائكة بما نادته به احب أن يعلم ان ذلك الصوت من الله فأوحى إليه ان آية ذلك ان يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة ايام فلما امسك لسانه ولم يتكلم علم انه لا يقدر على ذلك الا الله وذلك قول الله رب اجعل لي آية .
إلا رمزا اشارة ، العياشي عن احدهما عليهما السلام فكان يؤمي برأسه واذكر ربك كثيرا قيل يعني في أيام العجز عن تكلم الناس وهو مؤكد لما قبله مبين للغرض منه وسبح بالعشي من الزوال أو العصر إلى الغروب والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى .
(42) وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين كلموها شفاها لأنها كانت محدثة تحدثهم ويحدثونها قيل الاصطفاء الأول تقبلها من امها ولم تقبل قبلها انثى وتفريغها للعبادة واغناؤها برزق الجنة عن الكسب وتطهيرها عما يستقذر من النساء والثاني هدايتها وارسال الملائكة إليها وتخصيصها بالكرامات السنية كالولد من غير أب وتبرأتها عما قذفته اليهود بانطاق الطفل وجعلها وابنها آية للعالمين .
وفي المجمع عن الباقر عليه السلام معنى الآية اصطفاك من ذرية الأنبياء وطهرك من السفاح واصطفاك لولادة عيسى من غير فحل .
( 336 )
(43) يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين في جماعتهم أو كوني في عدادهم امرت بالصلاة بذكر أركانها .
القمي إنما هو اركعي واسجدي وعده مما وقع فيه التقديم والتأخير من القرآن .
وفي العلل عن الصادق عليه السلام قال سميت فاطمة محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول يا فاطمة ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين فتحدثهم ويحدثونها فقالت لهم ذات ليلة أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران فقالوا ان مريم كانت سيدة نساء عالمها وان الله عز جلاله جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين .
(44) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم العياشي عن الباقر عليه السلام يقرعون بها حين ايتمت من ابيها وما كنت لديهم إذ يختصمون تنافسا في كفالتها .
(45) إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح قيل أصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك عيسى بن مريم قيل هو معرب ايشوع وجيها القمي ذو وجه وجاه في الدنيا بالنبوة والرسالة وفي الآخرة بالشفاعة وعلو الرتبة ومن المقربين من الله برفعه إلى السماء وصحبة الملائكة وعلو درجته في الجنة .
(46) ويكلم الناس كلام الانبياء في المهد حال كونه طفلا وكهلا من غير تفاوت قيل فيه دليل على نزوله لأنه رفع قبل أن يكتهل ومن الصالحين قيل ذكر أحواله المختلفة المتنافية ارشاد إلى أنه بمعزل عن الألوهية .
(47) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله
( 337 )
يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .
كما يقدر ان يخلق الأشياء مدرجا بأسباب ومواد يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك .
(48) ويعلمه الكتاب وقرئ بالنون الكتبة أو جنس الكتب المنزلة والحكمة والتوراة والإنجيل خص الكتابان لفضلهما .
(49) ورسولا ويرسله رسولا إلى بني إسرائيل ، في الاكمال عن الباقر عليه السلام انه ارسل إلى بني اسرائيل خاصة وكانت نبوته ببيت المقدس أني قد جئتكم بآية من ربكم حجة شاهدة على صحة نبوتي أني أخلق لكم اقدر واصور شيئا وقرئ إني بالكسر من الطين كهيئة الطير مثل صورته فأنفخ فيه فيكون طيرا حياً طيارا بإذن الله بأمره نبه على أن إحياءه من الله لا منه ، وقرئ طائرا وأبرئ الأكمه الأعمى والأبرص وأحي الموتى بإذن الله كرر باذن الله دفعا لوهم الألوهية فان الأحياء ليس من جنس الأفعال البشرية وأنبئكم بما تأكلون ما تدخرون في بيوتكم بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين مصدقين غير معاندين .
القمي عن الباقر عليه السلام ان عيسى عليه السلام كان يقول لبني اسرائيل اني رسول الله اليكم واني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا باذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص والأكمه هو الأعمى قالوا ما نرى الذي تصنع الا سحرا فأرنا آية نعلم انك صادق قال أرأيتكم ان اخبرتكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم قبل أن تخرجوا وما ادخرتم بالليل تعلمون اني صادق قالوا نعم وكان يقول انت اكلت كذا وكذا وشربت كذا وكذا ورفعت كذا وكذا فمنهم من يقبل منه فيؤمن ومنهم من يكفر وكان لهم في ذلك آية ان كانوا مؤمنين .
والعياشي مقطوعا قال فمكث عيسى حتى بلغ سبع سنين أو ثمان سنين فجعل يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم فأقام بين أظهرهم يحيي
( 338 )
الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويعلمهم التوراة وانزل الله عليه الانجيل لما أراد الله عليهم حجة ومرفوعا قال ان اصحاب عيسى سألوه أن يحيي لهم ميتا فأتى بهم إلى قبر سام بن نوح فقال له قم باذن الله يا سام بن نوح قال فانشق القبر ثم اعاد الكلام فتحرك ثم اعاد الكلام فخرج سام بن نوح فقال له عيسى ايهما احب اليك تبقى أو تعود قال فقال يا روح الله بل أعود اني لأجد حرقة الموت أو قال لذعة الموت في جوفي إلى يومي هذا .
وفي الكافي والعياشي عن الصادق عليه السلام انه سئل هل كان عيسى بن مريم احيى احدا بعد موته حتى كان له أكل ورزق ومدة وولد فقال نعم انه كان له صديق مواخ له في الله تعالى وكان عيسى عليه السلام يمر به وينزل عليه وان عيسى غاب عنه حينا ثم مر به ليسلم عليه فخرجت إليه امه فسألها عنه فقالت مات يا رسول الله قال افتحبين ان تريه قالت نعم فقال لها فإذا كان غدا فآتيك حتى أحييه لك بإذن الله تعالى فلما كان من الغد أتاها فقال لها انطلقي معي إلى قبره فانطلقا حتى اتيا قبره فوقف عيسى ثم دعا الله تعالى فانفرج القبر وخرج ابنها حيا فلما رأته امه وراءها بكيا فرحمهما عيسى فقال اتحب ان تبقى مع امك في الدنيا فقال يا نبي الله بأكل ورزق ومدة ام بغير اكل ولا رزق ولا مدة فقال له عيسى بأكل ورزق ومدة تعمر عشرين سنة وتزوج ويولد لك قال نعم إذا فدفعه عيسى إلى امه فعاش عشرين سنة وولد له .
أقول : وقد صدر عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم امثال ما صدر عن
عيسى وأكثر منها واعجب كما رواه في الاحتجاج عن الحسين بن علي عليهما السلام .
وفي التوحيد عن الرضا عليه السلام في حديث له طويل لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه أن يحيي لهم موتاهم فوجه معهم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك يا فلان ويا فلان ويا فلان
( 339 )
يقول لكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوموا بإذن الله تعالى فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم واقبلت قريش تسألهم عن أمورهم ثم أخبروهم ان محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث نبيا وقالوا وددنا ان كنا ادركناه فنؤمن به قال عليه السلام ولقد ابرأ الأكمه والأبرص والمجانين وكلمه البهائم والطير والجن والشياطين .
(50) ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم في شريعة موسى عليه السلام كالشحوم والثروب (1) والسمك ولحوم الابل والعمل بالسبت كذا قيل .
والعياشي عن الصادق عليه السلام قال كان بين داود وعيسى بن مريم عليهم السلام اربعماءة سنة وكانت شريعة عيسى عليه السلام انه بعث بالتوحيد والأخلاص وبما أوصى به نوح وابراهيم وموسى عليهم السلام وانزل عليه الانجيل وأخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيين وشرع له في الكتاب اقام الصلاة مع الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال وانزل عليه في الانجيل مواعظ وامثال وليس فيها قصاص ولا أحكام حدود ولا فرض مواريث وانزل عليه تخفيف ما كان على موسى عليه السلام في التوراة وهو قول الله عز وجل في الذي قال عيسى بن مريم لبني اسرائيل ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ، وامر عيسى عليه السلام من معه ممن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة والانجيل .
أقول : نسخ بعض احكام التوراة لا ينافي تصديقه كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بتناقض وذلك لأن النسخ في الحقيقة بيان لانتهاء مدة الحكم وتخصيص في الأزمان .
وجئتكم بآية من ربكم لعله كرر هذا القول لأن الأول كان تمهيدا للحجة والثاني تقريبا للحكم ولهذا رتب عليه ما بعده بالفاء . وقيل بل المراد قد جئتكم
____________
(1) الثرب شحم رقيق يغشى الكرش والامعاء « منه » .
( 340 )
بحجة أخرى شاهدة على صحة نبوتي وهي قوله ان الله ربي وربكم فانه دعوة الحق المجمع عليها بين الرسل الفارق بين النبي والساحر وما بينهما اعتراض فاتقوا الله وأطيعون فاتقوا الله في المخالفة واطيعوني فيما ادعوكم إليه .
(51) إن الله ربي وربكم اشارة إلى استكمال العلم بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد فاعبدوه اشارة الى استكمال العمل بملازمة الطاعة التي هي الاتيان بالأوامر والانتهاء عن النواهي هذا صراط مستقيم إشارة إلى أن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة.
(52) فلما أحس عيسى منهم الكفر لما سمع ورأى انهم يكفرون كذا رواه القمي عن الصادق عليه السلام قال من أنصاري إلى الله من أعواني إلى سبيله قال الحواريون حواري الرجل خالصته من الحور وهو البياض الخالص .
في العيون عن الرضا عليه السلام انه سئل لم سمي الحواريون الحواريين قال اما عند الناس فانهم سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل وهواسم مشتق من الخبز الحوار واما عندنا فسمي الحواريون الحواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين غيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير .
وفي التوحيد عنه عليه السلام انهم كانوا اثني عشر رجلا وكان افضلهم واعلمهم الوقا .
نحن أنصار الله انصار دينه آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون كن شهيدا لنا عند الله يوم القيامة حين يشهد الرسل لقومهم وعليهم .
(53) ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين بوحدانيتك أو مع الشاهدين مع الناس ولهم .
(54) ومكروا اي الذين أحس عيسى منهم الكفر من اليهود بأن وكلوا عليه من يقتله غيلة ومكر الله حين رفع عيسى والقى شبهه على من قصد اغتياله حتى
( 341 )
قتل بدلا منه كما روته العامة .
ومضى عن تفسير الامام عليه السلام ايضا في سورة البقرة أو على احد من خواصه ليكون معه في درجته كما ذكره القمي ويأتي عن قريب والمكر من حيث انه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة لا يسند إلى الله تعالى الا على سبيل المقابلة والازدواج أو بمعنى المجازاة كما مر عن الرضا عليه السلام والله خير الماكرين أقواهم مكرا وانفذهم كيدا وأقدرهم على العقاب من حيث لا يحتسب المعاقب .
(55) إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك متوفي أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمى عاصما اياك من قتلهم أو قابضك من الأرض من توفيت مالي أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت ورافعك إلي إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي ومطهرك من الذين كفروا من سوء جوارهم وجاعل الذين اتبعوك من المسلمين والنصارى فوق الذين كفروا من اليهود والمكذبين إلى يوم القيامة يغلبونهم بالمحجة والسيف ثم إلي مرجعكم جميعاً فأحْكُمُ بينكم فيما كنتم فيه تختلفون من امر الدين .
(56) فأما الذين كفروا فاعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين .
(57) وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم تفسير للحكم وتفصيل له وقرئ فتوفاهم بالتاء والله لا يحب الظالمين في الاكمال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث بعث الله عيسى بن مريم واستودعه النور والعلم والحكم وجميع علوم الانبياء قبله وزاده الأنجيل وبعثه الى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه وحكمته وإلى الايمان بالله ورسوله فأبى أكثرهم الا طغيانا وكفرا فلما لم يؤمنوا دعا ربه وعزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك الا طغيانا وكفرا فأتى بيت المقدس فكان
يدعوهم ويرغبهم فيما عند الله ثلاثة وثلاثين سنة حتى طلبته اليهود وادعت انها
( 342 )
عذبته ودفنته في الأرض حيا وادعى بعضهم انهم قتلوه وصلبوه وما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه وإنما شبه لهم وما قدروا على عذابه ودفنه ولا على قتله وصلبه لأنهم لوقدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله ولكن رفعه الله بعد ان توفاه .
والقمي عن الباقر عليه السلام قال ان عيسى عليه السلام وعد اصحابه ليلة رفعه الله إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتا ثم خرج من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه من الماء فقال ان الله اوحى إلي أنه رافعي إليه الساعة ومطهري من اليهود فأيكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب فيكون فيها معي في درجتي فقال شاب منهم انا يا روح الله قال فأنت هوذا فقال لهم عيسى عليه السلام اما ان منكم من يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة فقال له رجل منهم انا هو يا نبي الله فقال عيسى اتحس بذلك في نفسك فلتكن هو ثم قال لهم عيسى اما انكم ستفترقون بعدي على ثلاث فرق فرقتين مفتريتين على الله في النار وفرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنة ثم رفع الله عيسى عليه السلام إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه ثم قال ان اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى ان منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة وأخذوا الشاب الذي القي عليه شبح عيسى عليه السلام فقتل وصلب وكفر الذي قال له عيسى عليه السلام يكفر قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة .
(58) ذلك اشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم المشتمل على الحكم أو المحكم الممنوع من تطرق الخلل إليه يريد به القرآن أو اللوح المحفوظ .
(59) إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم أي شأنه الغريب كشأن آدم خلقه من تراب جملة مفسرة للتمثيل مبينة لما له الشبه وهو انه خلق بلا أب كما خلق آدم من التراب بلا اب وام شبّه حاله بما هو أقرب افحاما للخصم وقطعا لمواد الشبه والمعنى خلق قالبه من التراب ثم قال له كن أي أنشأ بشرا كقوله ثم انشأناه خلقا آخر وقدر
( 343 )
تكوينه من التراب ثم كوّنه فيكون أي فكان في الحال .
(60) الحق هو الحق من ربك فلا تكن من الممترين .
(61) فمن حاجك من النصارى فيه في عيسى عليه السلام من بعد ما جاءك من العلم من البينات الموجبة للعلم فقل تعالوا هلموا بالرأي والعزم ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم أي يدع كل منا ومنكم نفسه واعزة اهله والصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحمل عليها وإنما قدمهم على النفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم ثم نبتهل أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا والبهلة بالضم والفتح اللعنة واصله الترك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار والصرار خيط يشد فوق الخلف لئلا يرضعها ولدها فنجعل لعنت الله على الكاذبين عطف فيه بيان ، روي انهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى ننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم وما ترى فقال والله لقد عرفتم نبوته ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا الا هلكوا فان أبيتم الا ألف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا فآتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد غدا محتضنا الحسين عليه الصلاة والسلام
آخذا بيد الحسن وفاطمة عليهم السلام تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول إذا انا دعوت فإمنوا فقال اسقفهم (2) : يا معشر النصارى اني لأرى وجوها لو سألوا الله ان يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا فاذعنوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبذلوا له الجزية الفي حلة حمراء وثلاثين درعا من حديد فقال والذي نفسي بيده لو تباهلوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله نجران واهله حتى الطير على الشجر كذا روته العامة وهو دليل على نبوته وفضل من اتى بهم من اهل بيته وشرفهم شرفا لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس علي عليه السلام كنفسه .
وفي العيون عن الكاظم عليه الصلاة والسلام لم يدع احدا انه ادخله النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحت الكساء عند المباهلة للنصارى الا علي بن ابي طالب عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فكان تأويل قوله عز وجل ابناءنا
( 344 )
الحسن والحسين ونساءنا فاطمة وانفسنا علي بن أبي طالب عليهم صلوات الله .
والقمي عن الصادق عليه السلام ان نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان سيدهم الأهتم والعاقب والسيد وحضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وصلوا فقال اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا رسول الله هذا في مسجدك فقال دعوهم فلما فرغوا دنوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له إلى ما تدعو ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وان عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث قالوا فمن ابوه فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : قل لهم ما تقولون في آدم أكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث وينكح فسألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا نعم قال فمن أبوه فبهتوا فأنزل الله ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية وقوله فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم إلى قوله فنجعل لعنة الله على الكاذبين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فباهلوني فان كنت صادقا انزلت اللعنة عليكم وان كنت كاذبا انزلت علي فقالوا أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم السيد والعاقب والأهتم ان باهلنا بقومه باهلناه فانه ليس نبيا وان باهلنا بأهل بيته خاصة فلا نباهله فانه لا يقدم إلى اهل بيته الا وهو صادق فلما أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه امير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم فقال النصارى من هؤلاء فقيل لهم ان هذا ابن عمه ووصيه وختنه علي بن ابي طالب وهذه بنته فاطمة وهذان ابناه الحسن والحسين صلوات الله عليهم ففرقوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجزية وانصرفوا .
وفي العلل عن الجواد عليه السلام ولو قال تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيبون للمباهلة وقد عرف الله ان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مؤدي عنه رسالته وما هو من الكاذبين وكذلك عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه صادق فيما يقول ولكن احب ان ينصف من نفسه .
(62) إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله .
( 345 )
أتى بمن الزائدة للاستغراق تأكيدا للرد على النصارى في تثليثهم وإن الله لهو العزيز الحكيم لا احد سواه يساويه في القدرة التامة والحكمة البالغة ليشاركه في
الألوهية .
(63) فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين وعيد لهم وضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن التولي عن الحجج والاعراض عن التوحيد افساد للدين ويؤدي إلى افساد النفس بل وإلى افساد العالم .
(64) قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ان نوحده بالعبادة ونخلص فيها ولا نشرك به شيئا ولا نجعل غيره شريكا له في العبادة ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ولا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما احدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم بشر مثلنا .
في المجمع روي انهم لما نزلت اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله قال عدي بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال هو ذاك فإن تولوا عن التوحيد فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون اي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم قيل انظر إلى ما راعى في هذه القصة من المبالغة في الارشاد وحسن التدرج في الحجاج بين اولا احوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للالهية ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم فلما رأى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الاعجاز ثم لما اعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالارشاد وسلك طريقا اسهل وألزم بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والانجيل وسائر الانبياء والكتب ثم لما لم يجد ذلك ايضا عليهم وعلم ان الآيات والنذر لا تغني عنهم اعرض عن ذلك وقال اشهدوا بأنا مسلمون .
(65) يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده قيل تنازعت اليهود والنصارى في ابراهيم وزعم كل فريق انه منهم فترافعوا
( 346 )
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت والمعنى أن اليهودية والنصرانية حدثت بنزول التوراة والانجيل على موسى وعيسى وكان ابراهيم قبل موسى بألف سنة وعيسى بألفين سنة فكيف يكون عليهما أفلا تعقلون فتدعون المحال .
(66) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم نبهوا بحرف التنبيه عن حالهم التي غفلوا عنها اي انتم هؤلاء الحمقى وبيان حماقتكم انكم جادلتم فيما لكم به علم مما وجدتموه في التوراة والانجيل عناداً او تدعون وروده فيه فلم تجادلون فيما لا علم لكم به ولا ذكر له في كتابكم من دين ابراهيم وقيل هؤلاء بمعنى الذين وقيل عطف بيان لأنتم والله يعلم ما حاججتم فيه من شأن ابراهيم ودينه وأنتم لا تعلمون فلا تتكلموا فيه .
(67) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا تصريح بمقتضى ما قرره ولكن كان حنيفا مائلا عن العقائد الزائفة مسلما منقادا لله تعالى وليس المراد انه كان على ملة الاسلام والا لاشترك الالزام .
في الكافي عن الصادق عليه السلام خالصا مخلصا ليس فيه شيء من عبادة الأوثان .
والعياشي عنه عليه السلام قال قال امير المؤمنين عليه السلام لا يهوديا يصلي إلى المغرب ولا نصرانيا يصلي إلى المشرق ولكن كان حنيفا مسلما على دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أقول : يعني كان يصلي إلى الكعبة ما بين المشرق والمغرب وكان دينه موافقا لدين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وما كان من المشركين تعريض بأنهم مشركون لاشراكهم به عزيرا والمسيح ورد لادعاء المشركين انهم على ملة ابراهيم .
(68) إن أولى الناس بإبراهيم ان اخصهم به واقربهم منه من الولي وهو القرب للذين اتبعوه من امته وهذا النبي خصوصا والذين آمنوا من امته لموافقتهم له في أكثر
( 347 )
ما شرع لهم على الاصالة .
في الكافي والعياشي عن الصادق عليه السلام هم الأئمة ومن اتبعهم .
والقمي والعياشي عن عمر بن يزيد عنه عليه السلام قال انتم والله من آل محمد فقلت جعلت من انفسهم جعلت فداك قال نعم والله من انفسهم ثلاثا ثم نظر إلي ونظرت إليه فقال يا عمر ان الله تعالى يقول في كتابه : ( ان اولى الناس ) الآية .
وفي المجمع قال قال امير المؤمنين عليه السلام ان اولى الناس بالأنبياء اعلمهم بما جاؤوا به ثم تلا هذه الآية قال ان ولي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من اطاع الله وان بعدت لحمته وان عدو محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عصى الله وان قربت قرابته والله ولي المؤمنين يتولى نصرتهم .
(69) ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم قيل نزلت في اليهود لما دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية وما يضلون إلا أنفسهم وما يتخطئهم الا ضلال ولا يعود وباله الا عليهم إذ يضاعف به عذابهم أو ما يضلون الا أمثالهم وما يشعرون وزره واختصاص ضرره بهم .
(70) يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله بما نطقت من التوراة والانجيل ودلت على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم تشهدون انها آيات الله أو بما يتلى عليكم من القرآن وانتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات انه حق أو بالمعجزات وانتم تشهدون ان ظهور المعجزات يدل على صدق الرسالة .
(71) يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل بالتحريف وابراز الباطل في صورته أو بالتقصير في المميز بينهما وتكتمون الحق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونعته وأنتم تعلمون عالمون بما تكتمونه .
(72) وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار أي اظهروا الايمان بالقرآن اول النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون يشكون في دينهم ظنا بأنكم قد رجعتم لخلل ظهر لكم .
( 348 )
والقمي عن الباقر عليه السلام ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة وهو يصلي نحو بيت المقدس أعجب ذلك القوم فلما صرفه الله عن بيت المقدس إلى بيت الله الحرام وجدت اليهود من ذلك وكان صرف القبلة صلاة الظهر ، فقالوا صلى محمد الغداة واستقبل قبلتنا فآمنوا بالذي انزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجه النهار واكفروا آخره يعنون القبلة حين استقبل رسول الله المسجد الحرام لعلهم يرجعون إلى قبلتنا .
(73) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قيل هذا من تتمة كلام اليهود أي لا تصدقوا ولا تقروا بأن يؤتى احد مثل ما أوتيتم الا لأهل دينكم قل إن الهدى هدى الله اعتراض بين المفعول وفعله من كلام الله تعالى ومعناه ان الدين دين الله أن يؤتى أحد مثل ما
أوتيتم يعني من العلم والحكمة والكتاب والحجة والمن والسلوى والفضائل والكرامات وقرئ ان يؤتى بالمد على الاستفهام (1) أو يحاجوكم عند ربكم عطف على قوله ان يؤتى احد والواو ضمير احد لأنه في معنى الجمع والمعنى ولا تؤمنوا بأن يحاجوكم عند ربكم لأنكم انصح دينا منهم فلا تكون لهم الحجة عليكم . وفي الآية وجوه أخر وهي من المتشابهات التي لم يصل الينا عن اهل البيت شيء قل إن الفضل بيد الله اي الهداية والتوفيق منه يؤتيه من يشاء والله واسع عليم .
(74) يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
(75) ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائما إلا مدة دوامك على رأسه تطالبه بالعنف ذلك يعني ترك الأداء بأنهم قالوا بسبب قولهم ليس علينا في الأمين سبيل أي ليس علينا في شأن من ليسوا من أهل الكتاب ولم يكونوا على ديننا عقاب وذم ويقولون على الله الكذب بادعائهم ذلك وهم يعلمون أنهم كاذبون وذلك لأنهم استحلوا ظلم من خالفهم وقالوا لم يجعل لهم في التوراة حرمة .
____________
(1) وقيل : أن يؤتى متعلق بمحذوف أي دبرتم ذلك وقلتم أن يوتى أحد ، والمعنى أن الحسد حملكم على ذلك وقراءة أن يؤتى على الاستفهام للتفريع يؤيد هذا التفسير وقيل أن يؤتى خبر ان على ان هدى الله بدل عن الهدى فيكون معنى أو يحاجوكم حتى يحاجوكم فيدحض حجتكم وقيل فيه أقوال والعلم عند الله ( منه قده ) .