الآيتان


يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّـبِرِينَ__ وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَـكِن لاَّ تَشْعُرُونَ__

سبب النّزول


روي عن ابن عباس بشأن نزول الآية الثانية إنها نزلت في قتلى بدر، وعددهم أربعة عشر، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وبعد انتهاء الغزوة قال بعض المسلمين عن هؤلاء الشهداء إنّهم «أموات» فنهت الآية عن ذلك.

التّفسير


الشّهداء أحياء
الآيات السابقة عرضت مفاهيم التعليم والتربية والذكر والشكر، وهي مفاهيم ذات معنى واسع جداً، وتتضمن أغلب التعاليم الدينية، وفي الآية الاُولى من آيتي بحثنا دار الحديث حول الصبر الذي لا تتحقق المفاهيم السابقة بدونه.
يتقول الآية أوّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة).
واجهوا المشاكل والصعاب بهاتين القوتين، فالنصر حليفكم: (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابرِينَ).
خلافاً لما يتصور بعض النّاس «الصَّبْر» لا يعني تحمل الشقاء وقبول الذلة والإستسلام للعوامل الخارجية، بل الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والحوادث.
لذلك قال علماء الأخلاق إن الصبر على ثلاث شعب:
الصبر على الطّاعة: أي المقاومة أمام المشاكل التي تعتري طريق الطاعة.
الصبر على المعصية: أي الثبات أمام دوافع الشهوات العادية وارتكاب المعصية.
الصبر على المصيبة: أي الصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الإنهيار وترك الجزع والفزع.
قلّما كرر القرآن موضوعاً وأكد عليه كموضوع «الصبر»، ففي سبعين موضعاً قرآنياً تقريباً دار الحديث عن الصبر. بينها عشرة تختص بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
تاريخ العظماء يؤكد أن أحد عوامل انتصارهم ـ بل أهمها ـ صبرهم واستقامتهم. والأفراد الفاقدون لهذه الصفة سرعان ما ينهزمون وينهارون. ويمكن القول أن دور هذا العامل في تقدم الأفراد والمجتمعات يفوق دور الإمكانات والكفاءات والذكاء ونظائرها.
من هنا طرح القرآن هذا الموضوع بعبارات مؤكدة كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب)(441)
وفي موضع آخر يقول سبحانه بعد أن ذكر الصبر أمام الحوادث: (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْم الأُمُورِ)(442)
من خصائص الصبر أن بقية الفضائل لا يكون لها قيمة بدونه، لأن السند والرصيد في جميعها هو الصبر، لذلك يقول أميرالمؤمنين علي(عليه السلام): «وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإِيْمَانِ كَالرَّأسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلاَ خَيْرَ في جَسَد لاَ رَأْسَ مَعَهُ وَلاَ فِي إِيمَان لاَ صَبْرَ مَعَهُ»(443).
الروايات الإسلامية ذكرت أن أسمى مراحل الصبر ضبط النفس تتجلّى في مقاومة الانسان عند توفّر وسائل المعاصي والذنوب.
الآية التي يدور حولها بحثنا تؤكد للجماعة المسلمة الثائرة في صدر الإسلام خاصة أن الأعداء يحيطونهم من كل حدب وصوب، وتأمرهم أن يستعينوا بالصبر أمام الحوادث، فنتيجة ذلك استقلال الشخصية والإِعتماد على النفس والثّقة بالذات في كنف الإيمان بالله. وتاريخ الإسلام يشهد بوضوح أن هذا الأصل كان أساس كل الإنتصارات.
الموضوع الآخر الذي أكدت عليه الآية أعلاه باعتباره السند الهام إلى جانب الصبر هو «الصلاة». وروي أن عليّاً(عليه السلام): «كَانَ إِذَا أَهالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ قَامَ إِلى الصَّلاَةِ ثُمَّ تَلاَ هذِهِ الآية: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ...)(444).
ولا عجب في ذلك، فالإِنسان حين يرى نفسه أمام عواصف المشاكل المضنية، ويحسّ بضعفه في مواجهتها، يحتاج إلى سند قوي لا متناه يعتمد عليه. والصلاة تحقق الإرتباط بهذا السند، وتخلق الطمأنينة الروحية اللازمة لمواجهة التحديات.
فالآية أعلاه تطرح مبدأين هامّين: الأوّل ـ الإعتماد على الله، ومظهره الصلاة، والآخر ـ الإعتماد على النفس، وهو الذي عبرت عنه الآية بالصبر.
وبعد ذكر الصبر والإستقامة تتحدث الآية التالية عن خلود الشهداء، الذين يجسّدون أروع نماذج الصابرين على طريق الله.
تقول الآية: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ) ثم تؤكد هذا المفهوم ثانية بالإستدراك (بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ).
في كل حركة ـ أساساً ـ تنزوي مجموعة محبّة للعافية، وتبتعد عن الاُمّة الثائرة، ولا تكتفي هي بالتقاعس والتكاسل، بل تسعى إلى تثبيط عزائم الآخرين وبثّ الرخوة والتماهل في المجتمع. وما أن تظهر حادثة مؤلمة حتى يعربون عن أسفهم وينقمون على الحركة التي أدت إلى هذه الحادثة، غافلين أن كل هدف مقدس يحتاج إلى تضحيات، وتلك سنة كونية.
القرآن الكريم يتحدث عن مثل هذه الفئة كراراً ويؤنّبهم بشدّة.
ثمة أفراد من هؤلاء كانوا يتظاهرون بالتأسف والتألم على (موت) شهيد من شهداء الإسلام في المعركة، ويبعثون بذلك القلق والاضطراب في النفوس.
والله سبحانه يرد على هذه الأقاويل السامة بالكشف عن حقيقة كبرى هي إن الذين يضحون بأنفسهم في سبيل الله ليسوا بأموات ... هؤلآء أحياء ... ويتمتعون بنعم الله ورضوانه، لكن البشر المحدودين في عالم الحسّ لا يدركون هذه الحقائق.

* * *


بحوث


1 ـ خلود الشّهداء
للمفسرين آراء مختلفة في معنى حياة الشّهداء وخلودهم. ظاهر الآية يشيردون شك إلى أنّهم يتمتعون بنوع من الحياة البرزخية الروحية، لأن أجسامهم قد تلاشت، فهم يعيشون تلك الحياة بجسم مثالي(445) كما يقول الإمام الصادق(عليه السلام)(446).
من المفسرين من قال إنها «حياة غيبية» خاصة بالشّهداء لا تتوفر لدينا تفاصيلها وخصائصها.
وقيل إن الحياة المذكورة في الآية تعني الهداية، والموت يعني الضلال، فتكون الآية قد نهت عن وصف الشهداء بالضلالة، بل هم مهتدون. وقيل إن الشهداء أحياء لأن هدفهم حي ورسالتهم حية.
ولكن مع الاخذ بنظر الاعتبار التّفسير الأول للحياة يتضح أن المعاني في الاُخرى غير مقبوله. فلا حاجة لأن نتكلف التّفسيرين التاليين، ولا أن الحياة البرزخية مختصة بالشهداء فهم يحيون حياة برزخية روحانية، ويتنعمون كذلك بالقرب من رحمة الله وبأنواع نِعَمه.

2 ـ الشّهادة سعادة في الإسلام

قرر الإسلام مسألة الشهادة وبيّن منزلتها العظيمة في الآية أعلاه وآيات يياُخرى لتكون عام فعّا هامّاً على ساحة المواجهة بين الحق والباطل. وهذا العامل أمضى من أي سلاح وأقوى من كل المؤثرات، وهو قادر على أن يجابه أخطر الأسلحة وأفتكها في عصرنا الراهن، وتجربة الثورة الإسلامية في إيران أثبتت ذلك بوضوح. وقد شاهدنا بأم أعيننا إنتصار المندفعين نحو الشهادة ـ بالرغم من ضعف إمكاناتهم المادية ـ على أعتى القوى المتجبّرة.
ولو ألقينا نظرة على تاريخ الإسلام، والملاحم التي سطرها المسلمون في جهادهم الدّامي، والتضحيات التي قدمها المجاهدون على طريق الرسالة، لألفينا أن الدافع الأساس لكل هذه التضيحات هو درس الشهادة الذي لقنه الإسلام لأبنائه، وبموجبه آمنوا أن الشهادة على طريق الله وطريق الحق والعدالة لا تعني الفناء، بل السعادة والحياة الخالدة.
المقاتلون الذين تلقوا مثل هذا الدرس في مثل هذه المدرسة الكبرى، لا يقاسون بالمقاتلين العاديين الذين يفكّرون في صيانة أرواحهم. أولئك يحاربون من أجل الرسالة ويندفعون بشوق عظيم نحو كسب وسام الشهادة.

3 ـ الحياة البرزخية وبقاء الروح

هذه الآية تثبت بوضوح بقاء الروح والحياة البرزخية للبشر (الحياة بعد الموت وقبل البعث)، وتردّ بصراحة على أولئك الذين ينكرون تعرض القرآن للحياة البرزخية وبقاء الروح.
سنفصّل الحديث في هذا الموضوع، وفي موضوع خلود الشّهداء ومنزلتهم العظيمة، في المجلد الثاني من هذا التّفسير عند تناولنا الآية 169 من سورة آل عمران.

* * *


الآيات


وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيء مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْص مِّنَ الاَْمْوَلِ وَالاَْنفُسِ وَالَّثمَرَتِ وَبَشِّرِ الصَّـبِرِينَ__ الَّذِينَ إِذَآ أَصَـبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّاللهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَجِعُونَ__ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ__

التّفسير


الدّنيا دار اختبار إلهي
بعد ذكر مسألة الشهادة في سبيل الله، والحياة الخالدة للشّهداء، ومسألة الصبر والشكر ... وكلّها من مظاهر الإختبار الإلهي، تعرضت هذه الآية للإختبار الإلهي العام، ولمظاهره المختلفة، باعتباره سنة كونية لا تقبل التغيير (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْء مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْض مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالَّثمَرَاتِ).
ولما كان الإنتصار في هذه الإختبارات، لا يتحقق إلاّ في ظل الثبات والمقاومة، قالت الآية بعد ذلك (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).
فالصابرون هم الذين يستطيعون أن يخرجوا منتصرين من هذه الإمتحانات، لا غيرهم.
الآية التالية تعرّف الصابرين وتقول: (أَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالوا: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيُهِ رَاجِعُونَ).
الإقرار التام بالعبودية المطلقة لله، يعلمنا أن لا نحزن على ما فاتنا، لأنه سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب، إن شاء منحنا إيّاها، وإن استوجبت المصلحة أخذها منا، وفي المنحة والمحنة مصلحة لنا.
والإلتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى الله سبحانه، يشعرنا بزوال هذه الحياة، وبأن نقص المواهب المادية ووفورها غرض زائل، ووسيلة لإرتقاء الإنسان على سلم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة (إنَا للهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والإستقامة والصبر في النفس.
واضح أن المقصود من قول هذه العبارة ليس ترديدها باللسان فقط، بل استشعار هذه الحقيقة، والإلتفات إلى ما تنطوي عليه من توحيد وإيمان.
وآخر آية في بحثنا هذا، تتحدث عن الألطاف الإلهية الكبرى، التّي تشمل الصابرين الصامدين المتخرجين بنجاح من هذه الإمتحانات الإلهية: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(447).
هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم، في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار، لذلك تقول الآية: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
وبهذه العبارات المختصرة المقتضبة، يطرح القرآن مسألة الإمتحان الكبير بأبعاده المختلفة، وعوامل النجاح فيه ونتائجه.

* * *

بحوث


1 ـ لماذا الإختبار الإلهي؟
في مجال الإختبار الإلهي تطرح بحوث كثيرة، وأوّل ما يتبادر للذهن في هذا المجال هو سبب هذا الإختبار. فنحن نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم. فهل أن الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا الإختبار لعباده، وهو العالم بكل الخفايا والأسرار؟! وهل هناك شيء خفي عنه حتى يظهر له بهذا الإمتحان؟!
والجواب أن مفهوم الإخبتار الإلهي يختلف عن الإختبار البشري.
إختباراتنا البشرية ـ هي كما ذكرت آنفاً ـ تستهدف رفع الإبهام والجهل، والإختبار الإلهي قصده «التربية».
في أكثر من عشرين موضعاً تحدث القرآن عن الإختبار الإلهي، باعتباره سنّة كونية لا تنقض من أجل تفجير الطاقات الكامنة، ونقلها من القوّة إلى الفعل، وبالتالي فالإختبار الإلهي من أجل تربية العباد، فكما أن الفولاذ يتخلص من شوائبه عند صهره في الفرن، كذلك الإنسان يخلص وينقى في خضمّ الحوادث، ويصبح أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والتحديات.
الإختبار الإلهي يشبه عمل زارع خبير، ينثر البذور الصالحة في الأرض الصالحة، كي تستفيد هذه البذور من مواهب الطبيعة وتبدأ بالنمو، ثمّ تصارع هذه البذرة كل المشاكل والصعاب بالتدريج، وتقاوم الحوادث المختلفة كالرّياح العاتية والبرد الشديد والحر اللافح، لتخرج بعد ذلك نبتة مزهرة أو شجرة مثمرة، تستطيع أن تواصل حياتها أمام الصعاب.
ومن أجل تصعيد معنويات القوات المسلحة، يؤخذ الجنود إلى مناورات وحرب إصطناعية، يعانون فيها من مشاكل العطش والجوع والحر والبرد والظروف الصعبة والحواجز المنيعة.
وهذا هو سرُّ الإختبارات الإِلهية.
يقول سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز: (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(448).
ويقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في بيان سبب الإختبارات الإلهية: «... وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ لِتَظْهَرَ الأَفْعَالُ الَّتي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوابُ وَالْعِقَابُ»(449).
أي أن الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معياراً للثواب والعقاب، فلابدّ أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، والله يختبر عباده ليتجلّى ما يضمرونه في أعمالهم، ولكي تنتقل قابليّاتهم من القوّة إلى الفعل، وبذلك يستحقون الثواب أو العقاب.
لو لم يكن الإختبار الإلهي لما تفجرت هذه القابليات، ولما أثمرت الكفاءات، وهذه هي فلسفة الإختبار الإلهي في منطق الإسلام.

2 ـ الإختبار الإلهي عام

نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية، وكل الموجودات الحيّة تطوي مسيرة تكاملها، حتى الأشجار تعبّر عن قابلياتها الكامنة بالأثمار، من هنا فإن كل البشر، حتى الأنبياء، مشمولون بقانون الإختبار الإلهي كي تنجلي قدراتهم.
الإمتحانات تشمل الجميع وإن اختلفت شدّتها وبالتالي تختلف نتائجها أيضاً، يقول سبحانه: (أَحَسِبُ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ)(450).
القرآن يعرض نماذج لإختبارات الأنبياء إذ يقول: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ)(451).
ويقول في موضع آخر بشأن إختبار سليمان: (فَلَمّا رَءَاهُ مُسْتَقِراً عِنْدَهُ قَالَ: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُونِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ...)(452).

 

3 ـ طرق الإختبار

ذكرت الآية أعلاه نماذج ممّا يختبر به الإنسان، كالخوف والجوع والأضرار المالية والموت ... لكن سبل الإختبار الإلهي لا تنحصر بما تقدم فذكر القرآن منها في مواضع اُخرى: البنين، والأنبياء، وأحكام الله، بل حتى بعض الوان الرؤيا: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ)(453).
نعلم أن النّاس إزاء الإختبارات الإلهية على نوعين: متفوّق في الإمتحان، وخاسر.
يفحيثما تسود حالة «الخوف» مث، ترى جماعة يتراجعون كي لا يصيبهم سوء، فينفضون أيديهم من المسؤولية، أو يلجأون إلى المداهنة أو التماس الأعذار، كقولهم الذين يحكيه القرآن: (نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائرَةٌ)(454).
يوثمة جماعة تقف كالطود الأشمّ أمام كل المخاوف، تزداد توك وإيماناً، وهؤلاء الذي يقول عنهم القرآن: (أَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(455).
وهكذا موقف النّاس من ألوان الإمتحانات الاُخرى، يعرض القرآن نماذج لموقف النّاجحين والفاشلين في الإختبار الإلهي، سنتناولها في مواضعها.

4 ـ عوامل النجاح في الإمتحان

هنا يتعرض الإنسان لاستفهام آخر، وهو أنه اذا كان القرار أن يتعرض جميع أفراد البشر للإمتحان الإلهي، فما هو السبيل لاحراز النجاح والتوفيق في هذا الامتحان؟ القرآن يعرض هذه السبل في القسم الأخير من آية بحثنا وفي آيات اُخرى:
1 ـ أهمّ عامل للإنتصار أشارت إليه الآية بعبارة: (وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ)، فالآية تبشّر بالنجاح أُولئك الصابرين المقاومين، ومؤكدة أن الصبر رمز الإنتصار.
2 ـ الإلتفات إلى أن نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقّتة وعابرة وهذا الادراك يجعل كل المشاكل والصعاب عرضاً عابراً وسحابة صيف، وهذا المعنى تضمنته عبارة: (إِنّا للهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
«كلمة الاسترجاع» هذه خلاصة كل دروس التوحيد، والإنقطاع إلى الله، والإعتماد على ذاته المقدسة في كل شيء وفي كل زمان. وأولياء الله ينطلقون من هذا التعليم القرآني، فيسترجعون لدى المصائب كي لا تهزمهم الشدائد، وكي يجتازوا مرحلة الإختبار بسلام في ظل الإيمان بمالكية الله والرجوع إليه.
قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في تفسير الإِسترجاع: «إِنَّ قَوْلَنَا: إِنّا للهِ إِقْرَارٌ عَلى أَنْفُسِنَا بِالْمُلْكِ، وَقَوْلَنَا: إِنَا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِقْرَارٌ عَلى أَنْفُسِنَا بِالْهُلْكِ».(456)
3 ـ الإستمداد من قوّة الإيمان والألطاف الإلهية عامل مهم آخر في اجتياز الإختبار دون اضطراب وقلق وفقدان للتوازن. فالسائرون على طريق الله يتقدّمون بخطوات ثابتة وقلوب مطمئنة لوضوح النهج والهدف لديهم. وترافقهم الهداية الإلهية في اختيار الطريق الصحيح، يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(457).
4 ـ التدقيق في تأريخ الأسلاف، وإمعان النظر في مواقفهم من الإختبارات الإلهية، عامل مؤثر في إعداد الإنسان لاجتياز الإمتحان الإلهي بنجاح.
لو عرف الإنسان بأن ما أُصيب به ليس حالة شاذّة، وإنما هو قانون عام شامل لكل الأفراد والجماعات، لهان الخطب عليه، ولتفهم الحالة بوعي، ولاجتاز المرحلة بمقاومة وثبات. ولذلك يثبّت الله سبحانه على قلب نبيّه والمؤمنين باستعراض تأريخ الماضين، وما واجهه الأنبياء، والفئات المؤمنة من محن ومصائب خلال مراحل دعوتهم، يقول سبحانه: (وَلَقَدِ اُستُهزِىءَ بِرُسُل مِنْ قَبْلِكَ).(458).
ويقول تعالى: ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)(459).
5 ـ الإلتفات الى حقيقة علم الله سبحانه بكل مجريات الأُمور، عامل آخر في التثبيت وزيادة المقاومة.
المتسابقون في ساحة اللعب يشعرون بالإرتياح حينما يعلمون أنهم في معرض أنظار أصدقائهم من المتفرجين، ويندفعون بقوّة أكثر في تحمل الصعاب.
إذا كان تأثير وجود الأصدقاء كذلك، فما بالك بتأثير استشعار رؤية الله لما يجري على الانسان وهو على ساحة الجهاد والمحنة؟! ما أعظم القوّة التي يمنحها هذا الإستشعار لمواصلة طريق الجهاد وتحمل مشاقّ المحنة!
حين واجه نوح(عليه السلام) أعظم المصائب والضغوط من قومه وهو يصنع الفلك، جاءه نداء التثبيت الإلهي ليقول له: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا)(460).
وعبارة «بِأَعْيُنِنَا» كان لها ـ دون شك ـ وقع عظيم في نفس هذا النّبي الكريم، فاستقام وواصل عمله حتى المرحلة النهائية دون الالتفات إلى تقريع الاعداء واستهزائهم.
وَرَدَ عن سيّد الشهداء الحسين بن علي(عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ بعد أن تفاقم الخطب أمامه في كربلاء، واستشهد أصحابه وأهل بيته: «هَوَّنَ عَلَيَّ مَا نَزَلَ بِي أَنَّهُ بِعَيْنِ اللهِ»(461).

5 ـ الإختبار بالخير والشرّ

الإمتحان الإلهي لا يجري عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب، بل قد يمتحن الله عبده بالخير وبوفور النعمة، كما يقول سبحانه: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)(462).
ويقول سبحانه على لسان نبيّه سليمان: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)(463).
وهنا ينبغي أن نشير إلى عدة مسائل:
أحدها: أنه ليس من الضروري أن يُخْتَبر جميع النّاس بجميع وسائل الإختبار، بل من الممكن أن يكون إختبار كل فئة بلون من الإمتحان يتناسب مع الوضع الفردي والإجتماعي لتلك الفئة.
والاُخرى: أنه من الممكن أن يجتاز الإنسان بعض الإمتحانات، بينما يفشل في إمتحانات اُخرى.
وقد يكون امتحان فرد من الأفراد موضع امتحان فرد آخر، كأن يكون موت ولد لإنسان موضع امتحان أصدقائه وأقاربه، ليُرى مدى اتخاذهم موقف المواساة من صاحبهم.
وأخيراً، فالإختبار الإلهي ـ كما ذكرنا ـ شامل عام يدخل في نطاقه حتى الأنبياء(عليهم السلام)، بل إن اختبارهم بسبب ثقل مسؤوليتهم أشدّ بكثير من اختبار الآخرين.
القرآن الكريم يعرض صوراً لاختبارات شديدة مرّ بها الأنبياء(عليهم السلام) وبعضهم مرّ بمراحل طويلة شاقة قبل وصوله إلى مقام الرسالة، كي يكون على أتمّ الإستعداد لتحمل أعباء قيادة أُمّته.
وبين أتباع مدرسة الأنبياء نماذج رائعة للصابرين المحتسبين، كل واحد منهم قدوة على ساحة الإمتحان الإِلهي.
فقد روي «أَنَّ أُمَّ عَقِيل كَانَتْ امْرَأةً فِي الْبَادِيَةِ فَنَزَلَ عَلَيْهَا ضَيْفَانِ وَكَانَ وَلَدُهَا عَقِيلٌ مَعَ الاِْبِل فَأُخْبِرَتْ بِأَنَّهُ ازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ الاِْبِلُ فَرَمَتْ بِهِ فِي الْبِئْرِ فَهَلَكَ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلنّاعي انْزِلْ وَاقْضِ ذِمَامَ الْقَوْمِ وَدَفَعَتْ إِلَيْهِ كَبْشاً فَذَبَحَهُ وَأَصْلَحَهُ وَقَرَّبَ إِلَى الْقَوْمِ الطَّعَامَ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ صَبْرِهَا (قَال الرّاوي) فَلَمّا فَرِغْنَا خَرَجَتْ إِلَيْنَا وَقَالَتْ يَا قَوْمِ هَلْ فِيكُمْ مَنْ يَحْسُنَ مِنْ كِتَابِ اللهِ شَيْئَاً؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَاقْرَأ عَلَيَّ آيات أَتَعَزَّى بِهَا عَنْ وَلَدِي فَقَرَأْتُ: «وَبَشِّرِ الصّابِرينَ الَّذِينَ إِذا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا للهِ وَإِنّا إِلَيّهِ رَاجِعُونَ إِلى قَوْلِهِ الْمُهْتَدُونَ».
«فَقَالَتْ الْسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ صَفَّتْ قَدَمَيْهَا وَصَلَّتْ رَكَعَات ثُمَّ قَالَتْ: اللّهُمَّ إِنّي فَعَلْتُ مَا أَمَرْتَني فَانْجزْ لي مَا وَعَدْتِنِي. وَلَوْ بَقِيَ أَحَدُ لاَِحَد ـ قَالَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَبَقِيَ ابْنِي لِحَاجَتِي إِلَيْهِ ـ فَقَالَتْ لَبَقِيَ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لأُمَّتِهِ، فَخَرَجْتُ»(464)

* * *


الآية


إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ__

النّزول


كان المشركون في الجاهلية يأتون مكة لأداء مناسك الحج، وكانت هذه المناسك ذات أصل إبراهيمي مع كثير من التحريف والخرافات والشرك. فكانت المناسك عبارة عن الوقوف بعرفات والاضحية والطّواف والسّعي بين الصفا والمروة. ولكن بشكل خاص بالجاهليين.
وجاء الإسلام وأصلح هذه المناسك، وطهّرها مما علق بها من تحريف، وأقرّ ما كان صحيحاً منها ومن جملتها السعي بين الصفا و المروة.
واستناداً إلى روايات المؤرخين من الشّيعة وأهل السّنة أن المشركين كانوا يسعون بين الصفا والمروة، وقد وضعوا على الصفا صنماًاسمه «أساف»، وعلى المروة صنماً آخر سموه «نائلة» وكانوا يتمسحون بهما لدى السعي، من هنا خال المسلمون أن السعي بين الصفا والمروة عمل غير صحيح، وكرهوا أن يفعلوا ذلك. الآية المذكورة نزلت لتعلن أن الصفا والمروة من شعائر الله، وتلويثها بالشرك على يد الجاهليين لا يبرر إعراض المسلمين عن السعي بينهما.
واختلف المفسرون في وقت نزول الآية، منهم من قال إنها نزلت في (عمرة القضاء) في السنة السابعة للهجرة، وكان من شروط النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع المشركين في هذه السفرة رفع الصنمين من الصفا والمروة، وقد عملوا بهذا الشرط، لكنهم أعادوهما إلى محلهما. وهذا أدّى إلى كراهة المسلمين والسعي بين الصفا والمروة، فنزلت الآية لتنهاهم عن هذه الكراهة.
وقيل إنّها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة. ومن المؤكد أن مكة كانت في هذه السنة خالية من الأصنام. ومن هنا يلزمنا أن نعتبر كراهة المسلمين السعي بين الصفا والمروة بسبب السوابق التاريخية لهذين المكانين حيث انتصب فيهما «أساف ونائلة».

* * *


التّفسير


أعمال الجهلة لا توجب تعطيل الشعائر
هذه الآية الكريمة تستهدف إزالة ما علق في ذهن المسلمين ونفوسهم من رواسب بشأن الصفا والمروة كما مرّ في سبب النّزول، وتقول للمسلمين: (إِنَّ الصَّفا وَالْمُرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ).
ومن هذه المقدمة تخرج الآية بنتيجة هي: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
يلا ينبغي أن تكون أعمال المشركين الجاهليين عام على إيقاف العمل بهذه الشعيرة، وعلى تقليل شأن وقدسية هذين المكانين.
ثم تقول الآية أخيراً: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ).
فالله يشكر عباده المتطوعين للخير بأن يجازيهم خيراً، وهو سبحانه عالم بسرائرهم، يعلم من تعلّق قلبه بهذه الأصنام ومن تبرّأ منها.

* * *