والحقيقة أنّ هذا الإِختيار كان هو المتعيّن، لأنّ الهجرة كانت أهم والمع حدث أو برنامج حصل للإِسلام، وكانت الهجرة مبدأ فصل جديد مهم في التاريخ الإِسلامي، فالمسلمون حين وجودهم في مكّة كانوا يمارسون تعلم شؤونهم

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ تاريخ الطبري، الجزء الثاني، ص 112، ويجب التنبيه إِلى وجود رسائل من أيّام الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، مذيلة بالتاريخ الهجري. راجع كتاب (مكاتيب الرّسول) للأحمدي.

[412]


الحياتية وفق دينهم الجديد (الاسلام) ولم تكن لديهم في هذه الحالة ـ على ما يبدو ـ أي قدرة سياسية وإجتماعية، ولكنهم بعد الهجرة شكلوا مباشرة الدولة الإسلامية التي تقدمت بسرعة فائقة ـ في كل المجالات ـ ولو أنّ المسلمين لم يذعنوا لأمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)في اختيار الهجرة وفضلوا البقاء في مكّة، لما تيسر عند ذلك للإِسلام أن يمتد خارج حدود مكّة، بل حتى كان من الممكن أن يقبر الإِسلام في مكّة ويمحى أثره.
ويتّضح لنا أنّ الهجرة لم تكن حكماً خاصاً بزمن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل أنّها تجب على المسلمين متى ما تعرضوا لظروف مشابهة لتلك الظروف التي اضطرت النّبي وأصحابه(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى ترك مكّة والهجرة إِلى المدينة.
والقرآن يعتبر الهجرة في الأساس جوهراً لوجود الحرية والرفاه، وقد أشارت الآية ـ موضوع البحث ـ إِلى هذا الأمر، كما أن الآية (41) من سورة النحل تشير من جانب آخر إِلى هذه الحقيقة، إِذ تقول: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدّنيا حسنة).
وتجدر الإِشارة ـ أيضاً ـ إِلى هذه النقطة، وهي أنّ الهجرة في نظر الإِسلام لا تقتصر على الهجرة المكانية والخارجية، بل يلزم قبل ذلك أن تتحقق لدى الفرد المسلم هجرة باطنية في نفسه، يترك بها كل ما ينافي الأصالة والكرامة الإِنسانية، لكي يتيسر له بهذا السبيل إِلى الهجرة المكانية ـ إِذن فالهجرة الباطنية ضرورية قبل أن يبدأ الإِنسان المسلم هجرته الخارجية ـ وإِذا لم يكن هذا الإنسان بحاجة إِلى الهجرة الخارجية، يكون قد نال درجة المهاجرين بهجرته الباطنية.
والإساس في الهجرة هو الفرار من «الظلمات»

إِلى «النور»

ومن الكفر إِلى الإِيمان، ومن الخطأ والعصيان إِلى إطاعة حكم الله، لذلك نجد في الحديث ما يدل على أنّ المهاجرين الذين هاجروا بأجسامهم دون أن تتحقق الهجرة في بواطنهم وأرواحهم، ليسوا في درجة المهاجرين، وعلى عكس هؤلاء فإِنّ من تتحقق لديه

[413]


الهجرة الباطنية الروحية ولم يتمكن أو لم يحتج إِلى الهجرة الخارجية فهو في عداد المهاجرين حقاً.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قوله: «ويقول الرجل هاجرت، ولم يهاجر، إِنّما المهاجرون الذين يهجرون السيئات ولم يأتوا بها».

وعن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من فر بدينه من أرض إِلى أرض وإِن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنّة وكان رفيق محمّد وإِبراهيم(عليهما السلام)»(1).

لأنّ هذين النّبيين هما قادة وأئمّة مهاجري العالم.

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ نور الثقلين، الجزء الأول، ص 541.

[414]







الآية

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الْصَّلَوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَـفِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً*

التّفسير
صلاة المسافر:

بعد الآيات التي تحدثت سابقاً عن الجهاد والهجرة، تتطرق الآية (101) من سورة النساء ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ إِلى صلاة المسافر، فتبيّن أن لا مانع للمسلم من أن يقصر صلاته لدى السّفر إِذا خاف من خطر الكافرين الذين هم الأعداء البارزون للمسلمين، وقد عبّرت هذه الآية عن السّفر بالضرب في الأرض، لأنّ المسافر يضرب الأرض برجليه لدى السّفر(1).
ويرد هنا سؤال: وهو أن الآية هذه قد جعلت الخوف من العدو شرطاً لقصر الصّلاة، بينما نقرأ في البحوث الفقهية أنّ حكم صلاة القصر يعتبر حكماً عاماً يشمل جميع أنواع السّفر، سواء كان فيه الخوف من الأعداء أو كان سفراً آمناً لا خوف فيه، وقد وردت روايات عديدة عن طرق الشيعة والسنة في مجال صلاة

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مفردات الراغب، مادة «ضرب».

[415]


القصر تؤيد كلّها شمولية حكم صلاة القصر لكل أنواع السّفر المباح(1).
وفي جواب هذا السؤال يجب القول: بأنّ تقييد حكم القصر في صلاة بالخوف قد يكون سببه واحداً من الموارد التالية:
أ ـ إِنّ القيد جاء بسبب وضع المسلمين في بداية العصر الإِسلامي، ويصطلح على هذا القيد بـ «القيد الغالب»

أي أنّ أغلب أسفار المسلمين في ذلك الزمن كانت مشوبة بالخوف، وجاء في علم الأُصول أنّ القيود الغالبة لا مفهوم لها يمستد بآية (وربائبكم اللاتي في حجوركم)(2) أي بنات نسائكم اللواتي تربونهنّ وهنّ من أزواج سابقين وهنّ حرام عليكم.
حيث نواجه في هذه الآية نفس مسألة «القيد الغالب»

لأن بنات الزوجة يعتبرن محارم للزوج ـ سواء تربين في حجره أم لم يتربين لديه ـ ولكن بما أنّ أغلب النساء المطلقات اللواتي يتزوجن مرّة أُخرى هنّ نساء شابات لديهنّ أطفال صغار تتمّ تربيتهم في حجر الزوج الجديد، لذلك جاءت الآية بقيد «حجوركم»

.
ب ـ ويعتقد بعض المفسّرين أنّ صلاة القصر شرعت في البداية لزمن الخوف ـ كما جاء في الآية موضوع البحث ـ وإِنّ هذا الحكم قد توسع فيما بعد فشمل جميع الحالات.
ج ـ ويحتمل أيضاً أن يكون في هذا القيد جانب توكيدي، أي أن صلاة القصر لازمة للمسافر أينما كان، ولكن في حالة الخوف من العدو تكون هذه الصّلاة مؤكدة أكثر.
وعلى أي حال، فليس هناك من شك أنّ صلاة القصر للمسافر ـ مع الاخذ بنظر الاعتبار الرّوايات المفسّرة لهذه الآية ـ لا تقتصر على حالة الخوف، ولهذا

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ للإِطلاع أكثر راجع الجزء الخامس من كتاب وسائل الشيعة، وكتاب سنن البيهقي، الجزء الثّالث، ص 134 وغيرهما من الكتب.
2 ـ النساء، 23.

[416]


السبب فإِن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في أسفاره حتى في موسم الحج (في أرض منى) يقصر صلاته.
سؤال:

وهنا يرد سؤال آخر، وهو أنّ الآية قد أتت بعبارة (ولا جناح عليكم) وليس في هذه العبارة دلالة الحتمية في الحكم، أي لا تحتم على المسافر أن يقصر صلاته، فكيف يمكن القول أنّ صلاة القصر واجب عيني للمسافر وليس واجباً تخييرياً؟
الجواب:

لقد وجّه هذان السؤالان إِلى أئمّة الإِسلام، فأشاروا لدى الإِجابة عليهما إِلى نقطتين مهمتين:
النّقطة الأُولى:

هي أنّ عبارة «لا جناح»

، أي لا ذنب عليكم، قد استخدمت في يبعض الموارد في القرآن الكريم للدلالة على الوجوب، فمث في آية: (إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما)(1) في حين أن جميع المسلمين يعرفون أنّ السعي بين الصفا والمروة واجب سواء في الحج أو العمرة.
وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) والمسلمون يؤدون السعي بعنوان الواجب ... وقد نقل عن الإِمام الباقر(عليه السلام) حديث بهذا المضمون(2).
وبعبارة أُخرى فإِنّ عبارة «لا جناح»

ـ في الآية موضوع البحث وكذلك في آية الحج ـ جاءت لنفي التحريم، والسبب هو أنّ بعض المسلمين في بدء الإِسلام، ولوجود أصنام على جبلي الصفا والمروة، كانوا يظنون أنّ السعي بينهما من عادات وتقاليد الوثنيين، في حين أنّه لم يكن كذلك، فجاءت عبارة ـ «لا جناح» في الآية المذكورة لرفع الوهم الحاصل.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ من سورة البقرة، الآية 158.
2 ـ نور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 542.

[417]


وكذلك في حالة المسافر، من الممكن أن يتوهّم البعض أنّ قصر الصّلاة في السّفر قد يعتبر نوعاً من المعصية، فجاء القرآن الكريم في الآية بعبارة «لا جناح» لرفع هذا الوهم أيضاً.
والنّقطة الثّانية:

هي أنّ بعض الرّوايات قد أشارت إِلى أنّ قصر الصّلاة في السّفر نوع من التسهيل الإِلهي، وتقتضي الأدب أن لا يرد هذا التسهيل ولا يتجاهل.
وفي روايات أهل السنّة نقل عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في موضوع قصر الصّلاة: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»(1)

.
كما ورد مثل هذا الحديث في مصادر الشّيعة حيث ينقل الإِمام الصّادق(عليه السلام)عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله بأن: الإِفطار في السّفر وقصر الصّلاة فيه هديتان الهيتان فمن انصرف عنهما أصبح رادّاً لهدية الله(2)

.
أمّا النّقطة الثّالثة:

التي يجب الإِنتباه لها فهي أنّ بعض المسلمين قد تصوروا أن الآية (101) من سورة النساء تبيّن حكم صلاة الخائف (أثناء الحروب وأمثال ذلك) ويستدلون لذلك بعبارة (إِن خفتم) الواردة في الآية، ولكن جملة (إِذا ضربتم في الأرض) فيها مفهوم عام يشمل كل أنواع السّفر سواء كان من الأسفار الإِعتيادية أو كان سفراً من أجل الجهاد، والذي تناولته الآية التالية بصورة مستقلة.
إِذن فعبارة (إِن خفتم) ـ وكما أسلفنا ـ تعتبر نوعاً من القيود أو الشروط الغالبة، حيث أنّ أغلب أسفار المسلمين في ذلك الزمان كانت مشوبة بالخوف والخطر ـ لذلك فلا دلالة على اقتصار الآية على الصّلاة في حالة الخوف، بالإِضافة إِلى ذلك، فإِنّ الخوف من هجوم العدو موجود أثناء الحروب وليس في

ــــــــــــــــــــــــــــ
ي1 ـ جاء هذا الحديث في سنن البيهقي، الجزء الثّالث، ص 134 نق عن صحيح مسلم، كما ورد في كتب التفاسير والفقه أيضاً.
2 ـ وسائل الشيعة الجزء الخامس، ص 540.

[418]


محلّه أن يقال لمن في ساحة الحرب (إِن خفتم) من هجوم العدو، وهذا دليل آخر على أنّ الآية تشير إِلى جميع أنواع السّفر التي يحتمل أن يوجد فيها بعض الأخطار على المسافر.
كما يجب التنبيه إِلى أنّ شروط صلاة المسافر لم ترد في القرآن، كما لم ترد شروط وأوصاف بقية الأحكام الإِسلامية فيه أيضاً، بل أشارت إِلى ذلك السنّة الشريفة.
ومن هذه الشروط أنّ صلاة القصر لا تجب في الأسفار التي لا تبلغ المسافة فيها ثمانية فراسخ، لأنّ المسافر في تلك الأيّام كان يقطع في اليوم الواحد مسافة الثمانية فراسخ بصورة اعتيادية.
والشرط الآخر هو أنّ المسافر الذي يتّخذ من السّفر حرفة لنفسه أو جزءاً من برنامج حياته اليومية مستثنى من القصر في الصّلاة، لأنّ السّفر بالنسبة إِلى أمثال هؤلاء أمر اعتيادي، وليس أمراً استثنائياً.
يكما أنّ من يسافر من أجل ارتكاب معصية، لا يكون مشمو لحكم صلاة المسافر، أي لا يجوز له القصر في الصّلاة، والسبب هو أن حكم القصر يعتبر نوعاً من التسهيل الإِلهي، ولا يمكن أن يشمل هذا التسهيل من يسير في طريق معصية الله.
كما أنّ أي مسافر لم يصل إِلى حدّ الترخيص (أي إِلى النقطة التي لا يمكن سماع صوت أذان المدينة فيها، أو لا يمكن مشاهدة أسوار المدينة عندها) لا يمكنه أن يقصر صلاته، لأنّه في هذه الحالة لا يعد خارجاً عن حدود المدينة ولا يعتبر في عداد المسافرين.
وبالإِضافة إِلى ما ذكر هناك أحكام أُخرى ذكرتها كتب الفقه بالتفصيل، وقد ذكرت الأحاديث التي وردت في هذا الأمر كتب الحديث.

[419]


* * *

[420]







الآية

وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذىً مِّن مَّطَر أَوْكُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَـفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً*

سبب النّزول

نزل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع عدد من المسلمين أرض الحديبية ـ وهم في طريقهم إِلى مكّة ـ فسمعت قريش بذلك فبعثت بخالد بن الوليد على رأس زمرة من مئتي شخص لإِعتراض طريق النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين الذين معه ومنعهم من الوصول إِلى مكّة، فاستقرّ خالد والذين رافقوه في الجبال القريبة من مكة.
ولما كان موعد صلاة الظهر، أذن بلال، فصلّى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالمسلمين جماعة، فشاهد خالد بن الوليد صلاة المسلمين ففكر في خطّة للهجوم على المسلمين، وأخبر جماعته أن يغتنموا فرصة أداء المسلمين لصلاة العصر التي

[421]


يعتبرونها أعزّ عليهم من أعينهم، فيباغتونهم بهجوم خاطف وهم في الصّلاة ويقضون عليهم.
وفي هذه الأثناء نزلت الآية بحكم صلاة الخوف التي تصون المسلمين من كل هجوم خاطف.
وهذه الآية إِحدى معاجز القرآن الكريم حيث أخبرت عن وقوع هجوم قبل قيام العدو بتنفيذه وبذلك أفشلت خطة العدو، ويقال بأنّ خالداً أعلن إِسلامه حال مشاهدته لذلك المشهد بعينه.

التّفسير

بعد آيات الجهاد السابقة تبيّن هذه الآية للمسلمين طريقة صلاة الخوف التي تؤدى في ساحة الحرب، فتخاطب الآية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: (وإِذا كنت فيهم فأقمت لهم الصّلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ...) فإِذا سجدت جماعة وانقضت الركعة الأُولى من الصّلاة، على النّبي أن يقف في مكانه فتؤدي الجماعة ـ سريعاً ـ الركعة الثّانية وتعود إِلى ساحة القتال لمواجهة العدو.
وتأتي بعد ذلك الجماعة الثّانية التي لم تصل بعد، وتأخذ مكان الجماعة الأُولى فتصلّي مع النّبي: (فإِذا سجدوا فليكونوا من روائكم ولتأت طائفة أُخرى لم يصلّوا فليصلّوا معكم ...) وعلى الجماعة الثّانية أن لا تضع أرضاً لامة حربها، بل تحتفظ بها معها: (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ...).
وتشير الآية إِلى أنّ أداء الصّلاة بهذا الأُسلوب من أجل أن يبقى المسلمون في مأمن من أي هجوم مباغت قد يقوم به العدو عليهم، لأنّه يتحين الفرص دائماً لتنفيذ هذا الهجوم، ويتمنى لو تخلى المسلمون وغفلوا عن أسلحتهم وأمتعتهم ليشنّ عليهم حملته الغادرة: (ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ...).

[422]


ولما كان حمل السلاح والوسائل الدفاعية الأُخرى صعباً أثناء أداء الصّلاة في بعض الأحيان مثل أن يكون بعض المسلمين يعانون من ضعف بدني أو مرضي أو جراحات تحملوها من ساحة القتال، فيشق عليهم بذلك حمل السلاح أو وسائل الدفاع الأخرى، لذلك تأمر الآية في الختام قائلة: (ولا جناح عليكم إِن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم).
وهذا مشروط بأن يحتفظ المسلمون بما يقيهم من وسائل الدفاع كالدروع، وأمثالها حتى في حالة وجود العذر كالضعف أو المرض، وذلك لحماية أنفسهم إِذا باغتهم العدو بهجومه إِلى أن تصلهم الإِمدادات حيث تقول الآية:(وخذواحذركم...).

وهنا عدّة ملاحظات جديرة بالإِنتباه، هي:

1 ـ واضح أنّ الهدف من وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين في حال إِقامة صلاة الخوف، لا يعني أنّ هذه الصّلاة لا تقام إِلاّ بوجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل القصد والهدف هنا في الآية هو أن يكون للمقاتلين والمجاهدين إِمام أو قائد يتقدمهم ويؤمهم في صلاة الجماعة أثناء الحرب، ومن هذا المنطلق نرى الإِمام علي والإِمام الحسين(عليهما السلام) قد أقاما صلاة الخوف، كما أنّ العديد من قادة الجيوش الإِسلامية كحذيفة قد قاموا بهذه العبادة الإِسلامية في ساعات الضرورة(1).
2 ـ والآية تأمر المجموعة الأُولى بأن تحتفظ بسلاحها أثناء أداء صلاة الخوف، لكنها تقول للمجموعة الثّانية أن لا تلقي أرضاً بوسائلها الدفاعية كالدروع والأسلحة الأُخرى.
ومن المحتمل أن يكون الفرق بين هاتين المجموعتين هو أنّ العدو قد لا يكون على علم بعد بخطة المسلمين أثناء أداء المجموعة الأُولى لصلاتها، وفي

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كنز العرفان، الجزء الأوّل، ص 191.

[423]


هذه الحالة يكون احتمال هجوم العدو على المسلمين ضعيفاً، أمّا بالنسبة للمجموعة الثانية ـ حين ـ ينتبه العدو لمراسم الصّلاة فيكون هجومه على يالمسلمين أكثر احتما.
3 ـ إِنّ القصد من الإِحتفاظ بالمتاع

المطلوب من المسلمين في الآية ـ موضوع البحث ـ هو أن يراقب المسلمون وسائلهم الأُخرى الحربية والشخصية والغذائية والحيوانات التي جلبوها لتكون غذاء لهم، بالإِضافة إِلى الدفاع عن أنفسهم.
4 ـ من الواضح أنّ أداء الصّلاة جماعة ليست واجبة في الإِسلام، لكنّها من المستحبات المؤكدة كثيراً، وهذا الآية تعتبر أحد الأدلة الحية على التأكيد بالنسبة لأهمية مراسيم صلاة الجماعة في الإِسلام، بحيث إنّ هذه الصّلاةـصلاةالجماعةـتقام حتى في ساحة الحرب بالإِستفادة من أسلوب وطريقة صلاة الخوف، ويستدل من هذا الموضوع على أهمية الصّلاة نفسها بالإِضافة إِلى أهمية إِقامتها جماعة.
ومن الطبيعي أن يكون لصلاة الجماعة تأثير نفسي ومعنوي على المقاتلين من زاوية التنسيق في الهدف، كما أنّ لها تأثير على العدو ـ أيضاً ـ حين يرى أنّ المسلمين حتى وهم في ساحة القتال يهتمون بواجباتهم الدينية.

كيفية صلاة الخوف:

لا يبدو في الآية ـ موضوع البحث ـ التوضيح اللازم لكيفية أداء صلاة الخوف. وهذا هو أُسلوب القرآن إِذ يبيّن كليات الحكم، ويترك شرح الأحكام إِلى السنّة الشريفة.
وطريقة أداء صلاة الخوف ـ كما توضحها السنّة ـ هي أن تتحول الصّلاة يالرباعية إِلى صلاة ثنائية، أي تحويل صلاة الظهر أو العصر مث التي هي أربع ركعات في كل منهما إِلى صلاة بركعتين، فتصلي المجموعة الأُولى ركعة واحدة

[424]


مع الإِمام، ثمّ يتوقف الإِمام بعد أداء الركعة الأُولى فتؤدي المجموعة الأُولى الركعة الثانية فرادى، ثمّ تعود إِلى جبهة القتال، فتأتي المجموعة الثانية لتأخذ مكان المجموعة الأُولى خلف الإِمام، فتؤدي الركعة الأُولى جماعة مع الإِمام وتؤدي الركعة الثّانية فرادى (وقد رودت طرق أُخرى لأداء صلاة الخوف، ولكن أشهرها الطريقة التي تحدثنا عنها هنا).

* * *

[425]







الآية

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَـماً وَقُعُوداً(1) وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـباً مَّوْقُوتاً*

التّفسير
أهمية فريضة الصّلاة:

بعد أن ذكرت الآية السابقة صلاة الخوف، وأكدت ضرورة إِقامتها حتى في جبهات الحرب، تحث الآية (103) المسلمين على أن لا ينسوا ذكر الله بعد أداء الصّلاة، وليذكروا الله حين قيامهم وقعودهم وأثناء نومهم على جنوبهم وليسألوه العون والنصر، والقصد من ذكر الله في حالة القيام والقعود والنوم على الجنبين، يحتمل أن يكون في فترات الإِستراحة التي تسنح للمسلمين وهم في ساحة الحرب، كما يحتمل أن تكون في الحالات المختلفة للقتال، أي أثناء وقوف المقاتل أو جلوسه أو استلقائه على أحد جنبيه وهو يقاتل بأحد أنواع الأسلحة يالحربية كالقوس والسهم مث.

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ «قيام»
تارةً يأتي بمعناه المصدري، (ويعني به حالة القيام، وتارةً يأتي للجمع أي «قائمين» ـ و«قعود»
كذلك أيضاً، فيأتي بمعنى حالة القعود والجلوس، ويأتي بمعنى «قاعدين» للجمع. وفي الآية اعلاه يحتمل كلا الأمرين.

[426]


إِنّ هذه الآية تشير في الحقيقة إِلى أمر إِسلامي مهم، يدل على أنّ أداء الصّلاة في أوقات معينة ليس معناه أن ينسى الإِنسان ذكر الله في الحالات الأُخرى، فالصّلاة أمر انضباطي يحيى ويجدد روح التوجه إِلى الله لدى الفرد، فيستطيع في أوقات أُخرى غير وقت الصّلاة أن يحتفظ بذكر الله في ذهنه، سواء كان في ساحة القتال أو في مكان آخر.
وقد فسّرت هذه الآية في روايات عديدة على أنّها تبيّن كيفية أداء الصّلاة بالنسبة للمرضى، أي أنّهم إِذا استطاعوا فليؤدوا الصّلاة قياماً، وإِن لم يقدروا على ذلك فقعوداً، وإِذا عجزوا عن القعود فعلى أحد جنبيهم.
وهذا التّفسير في الحقيقة نوع من التعميم والتوسع في معنى الآية، ولو أنّها لا تخص هذا المجال(1).
وتؤكد هذه الآية أنّ حكم صلاة الخوف هم حكم استثنائي طارىء، وعلى المسلمين إِذا ارتفعت عنهم حالة الخوف أن يؤدوا صلاتهم بالطريقة المعتادة (فإِذا اطمأننتم فأقيموا الصّلاة ...).