[435]

«العاجلة» تعني النعم الزائلة; أو الدنيا الزائلة.

والظريف في الآية، أنّها لا تقول: إِنَّ مَن يسعى وراء الدنيا، ويجعلها كلَّ همه، يحصل على كلِّ ما يريد، بل هي قيدَّت ذلك بشرطين هما:

أوّلاً: سيحصل على جزء ممّا يريده; وأنَّ هذا الجزء هو المقدار الذي نريده نحن، أي (ما نشاء).

والشرط الثّاني الذي يقيِّد رغبة الساعي إِلى الدنيا، فهو: إِنَّ جميع الأشخاص ـ رغم سعيهم الدنيوي ـ لا يحصلون على هذا المقدار، وإِنما قسمٌ مِنهم سيحصل على جزء مِن متاع الدنيا. وهذا معنى قوله: (لمن نريد).

وبناءاً على ذلك، فلا كلَّ طُلاّب الدنيا يحصلون عليها، ولا أُولئك الذين يحصلون على شيء مِنها، يحصلون على ما يريدون. ومسير الحياة اليومية يوضح لنا هـذين الشرطين، إِذ ما أكثر الذين يكدون ليلا ونهاراً ولكنّهم لا يحصلون على شيء.

وما أكثر الذين لهم أُمنيات كبيرة وطموحات متعددة ومشاريع بعيدة، ولكن لا يحصلون إلاّ على القليل منها.

وفي هذا تحذيرٌ الدنيا إنّكم إِذا تصورتم بأنّكم ستصلون إِلى أهدافكم عن طريق بيع الآخرة بالدنيا، فهذا خطاء وأشتباه كبير، حيث أنّكم في بعض الأحيان قد لا تُحققون أي هدف، وفي أحيان أُخرى قد تُحققون بعض أهدافكم.

وعادةً ما تكون للإِنسان آمال كبيرة ومُتعدِّدة، لا يمكن إِشباعها في هذه الدُنيا المادية المحدودة، فلو أعطيت الدنيا كُلّها إِلى شخص واحد، فقد لا يقتنع بها!

أمّا الأشخاص الذين يكدّونَ ولا يصلون إِلى شيء، فلذلك أسباب مُختلفة، إِذ قد يكون هُناك أمل في إِنقاذهم، واللّه بذلك يحبهم وييسر سُبل الهداية لهم. أو يكون السبب أنّهم إِذا وصلوا إِلى مرحلة ما من أهدافهم ورغباتهم، فسيطغون ويؤذون خلق اللّه، ويضيقون عليهم الخناق.

[436]

«يصلى» مُشتقة مِن «صَلى» وهي تعني إِشعال النّار، وأيضاً تعني الحرق بالنّار، والمقصود مِنها هُنا هو المعنى الثاني.

والجدير بالإِنتباه هنا، أنَّ عاقبة هذه المجموعة مِن الناس، والتي هي نار جهنَّم، قد تمَّ تأكيدها في الآية، بكلمتي (مذموماً) و (مدحوراً) إِذ التعبير الأوّل يأتي بمعنى اللوم، بينما الثّاني يعني الإِبتعاد عن رحمة الخالق، وفي الحقيقة إِنَّ نار جهنَّم تمثل العقاب الجسدي لهم، أمّا «مذموم» و «مدحور» فهما عقاب الروح، لأنَّ المعاد هوَ للروح وللجسد، والجزاء والعقاب يكون للإِثنين معاً.

بعد ذلك تنتقل الآيات إِلى توضيح وضع المجموعة الثّانية ومصيرها، وبقرينة المقابلة وهي أسلوب قرآني مميِّز ـ يتوضح الموضوع أكثر إِذ يقول تعالى: (ومَن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن، فأولئك كان سعيهم مشكوراً).

بناءاً على ذلك هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إِلى السعادة الأبدية، هي:

أوّلاً: إِرادة الإِنسان: وهي الإِرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية، ولا تكون مرتبطة باللذات الزائلة والنعم غير الثابتة، والأهداف المادية; فالإِرادة القوية والروحية العالية تجعلان من الإِنسان حرّاً طليقاً غير مرتبط بالدنيا.

ثانياً: هذه الإِرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي للإِنسان، بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإِنساني، وتدفعهُ للحركة، وببذل كل ما يستطيع مِن السعي في هذا المجال (يجب الملاحظة، بأنَّ كلمة «سعيها» قد جاءت في الآية الكريمة للتأكيد. وهي تعني أنَّ على الإِنسان أن يبذل أقصى ما يستطيع مِن السعي في سبيل الآخرة).

ثالثاً: إِنَّ كل ما سبق مِن حديث عن الإِرادة في النقطتين السابقتين، ينبغي أن يقترن بالإِيمان; الإِيمان الثابت القوي. لأنَّ أي تصميم وجهد، إِذا أريد لهُ أن يُثمر يجب أن تكون أهدافه صحيحة، ومصدر هذه الأهداف هو الإِيمان باللّه لا غير.

صحيح أنَّ السعي وبذل الجهد للآخرة لا يمكن أن يكون بدون إِيمان، حيث

[437]

أنَّ مفهوم الإِيمان داخل ضمنهُ، ولكن يجب عدم الإِكتفاء بهذا المقدار مِن الدلالة الإِلتزامية للإِيمان، بل وينبغي التوسع في شرطِ الإِيمان، بحكم أنَّ (الإِيمان) يعتبر أمراً أساسياً، وركناً مهمّاً في هذا الطريق.

والملاحظ هنا، أنَّ الآية تخاطب عبيد الدنيا بالقول: (جعلنا لهُ جهنَّم) بينما عندما تنتقل إِلى طُلاّب الآخرة وعشّاقها ومريدها، فهي تخاطبهم بالقول: (فأُولئكَ كانَ سعيهم مشكوراً). إِنَّ استخدام هذا التعبير أشمل وأجمل مِن استخدام أي تعبير آخر، مثل (جزاءهم الجنّة) لأنَّ الشكر من أي شخص هو بمقدار شخصيته ومكانته لا بمقدار العمل الذي تمَّ، لذا فإِنَّ شكر اللّه لسعي عباده يتناسب مع ذاته اللامتناهية، ونعمه المادية والمعنوية وما نتصوره وما نعجز عن تصوّره.

وبالرغم من أنَّ بعض المفسّرين قد فسّروا كلمة «مشكوراً» في هذه الآية بمعنى «الأجر المضاعف»(1). أو بمعنى «قبول العمل»(2)، إِلاّ أنَّهُ مِن الواضح أن كلمة «مشكوراً» لها معنى أوسع مِن هذه المعاني جميعاً.

وقد يتوهم البعض ويلتبس عليه الأمر، ظاناً أنّ نعم الدنيا هي من نصيب عبيدها وطلابها فقط، وأنَّ طلاّب الآخرة وأهلها محرومون مِنها، لذلك فإِنَّ الآية التي بعدها تقف أمام هذا اللبس، وتمنع هذا الظن، عندما تقول: (كلا نمدّ هؤلاء مِن عطاء ربّك) لتضيف بعدها بقليل: (وما كان عطاء ربك محظوراً).

نمدُّ هنا مِن «الإِمداد» بمعنى الزيادة.

الآية التي بعدها تشير إِلى أصل مهم في هذا الخصوص و تقول: كما أن السعي في هذه الدنيا متفاوت، وتتفاوت معه الأجور; فكذلك الأمر في الآخرة: ولكن التفاوت الدنيوي محدود، لأنَّ الدنيا هي نفسها محدودة، وأمّا الآخرة ـ ولكونها

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ يُراجع في هذا الشأن تفسير القرطبي، ج 6، ص 3852.

2 ـ راجع تفسير الصافي عند الحديث عن هذه الآية.

[438]

غير محدودة ـ فإن تفاوتها غير محدود، إِذ يقول تعالى: (أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا).

قد يقول قائل هنا; إِننا نرى في هذه الدنيا أفراداً يحصلون على أرباح كثيرة بدون أي سعي أو جهد.

الجواب: إِنّ وجود هؤلاء يعبِّر عن حالات إِستثنائية لا يمكن إِعتبارها قاعدة في مقابل الأصل الكلي، المتمثل في الجهد والسعي ودورهما في نجاح الإِنسان وتوفيقه. وبذلك فإِنَّ هذه الإِستثناءات الثانوية لا تنافي الأصل الأساسي.

وأخيراً، وقبل أن ننتقل إِلى الملاحظات، ينبغي أن نُنَّبه إِلى أنَّ السعي وبذل الجهد لا يتعلقان بالكمية والمقدار فقط، ففي بعض الأحيان يكون السعي القليل ذو الكيفية العالية أكثر أثراً من السعي الكثير والكيفية الدانية.

* * *

بحوث

أوّلاً: هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟

في الواقع إِنّنا نرى في كثير مِن الآيات القرآنية مدحاً وتمجيداً للدنيا وبإِمكاناتها المادية، ففي بعض الآيات اعتبر المال خيراً (سورة البقرة آية 180). وفي آيات كثيرة وصفت العطايا والمواهب المادية بأنّها فضل اللّه (وابتغوا مِن فضل اللّه)(1). وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً)(2). وفي آيات كثيرة أُخرى وصفت نعم الدنيا بأنها مسخّرة لنا (سخر لكم).

وإِذا أردنا أن نجمع كل الآيات التي تهتم بالإِمكانات المادية وتؤكد عليها،

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الجمعة، 10.

2 ـ البقرة، 29.

[439]

وتجعلها في سياق واحد، فستكون أمامنا مجموعة كبيرة مِنها.

ولكن، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية، فإِنَّ القرآن الكريم استخدم تعابير أُخرى تحقّرها وتحطّ مِنها بقوة، إِذ نقرأ في سورة النساء، آية (94)، قوله تعالى: (تبتغون عرض الحياة الدنيا) وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إِلاّ متاع الغرور)(1). وفي سورة العنكبوت آية (64)، نقرأ (وما هذه الحياة الدنيا إِلاّ لهو ولعب) أمّا في الآية (37) مِن سورة النّور، فإِنا نلتقي مع قوله تعالى: (رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر اللّه).

هذه المعاني المزدوجة إِزاء النعم والمواهب المادية، يمكن ملاحظتها أيضاً في الأحاديث والرّوايات الإِسلامية، فالدنيا في وصف لأمير المؤمنين علي(عليه السلام)هي «مسجدُ أحباء اللّه، ومصلى ملائكة اللّه، ومهبط وحي اللّه، ومتجر أولياء اللّه»(2).

وفي جانب آخر، نرى أنَّ الأحاديث والرّوايات الإِسلامية تعتبر الدنيا دار الغفلة والغرور، وما شابه ذلك.

والسؤال هنا: هل تتعارض هذه المجاميع من الآيات والرّوايات فيما بينها؟

في الواقع، عندما تلام الدنيا، فإِنَّ اللوم ينصب على أُولئك الناس الذين لا هدف لهم ولاهمّ سواها. مِن هنا نقرأ في الآية (29) مِن سورة النجم قوله تعالى: (ولم يرد إِلاّ الحيوة الدنيا). وبعبارة أُخرى، فإِنَّ الذم الذي يَرد للدنيا يقصد به الأشخاص الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. ولا يتناهون عن أي منكر وجريمة في سبيل الوصول إِلى أهدافهم المادية، وفي هذا السياق نقرأ في الآية (38) مِن سورة التوبة: (أرضيتم بالحياة الدنيا مِن الآخرة).

ثمّ إِنَّ الآيات التي نبحثها تشهد على ما نقول، إِذ أنَّ قوله تعالى: (مَن كان

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الحديد، 20.

2 ـ نهج البلاغة، باب الكلمات القصار، جملة رقم 131.

[440]

يريد العاجلة ...) هو خطاب لأُولئك الذين يستهدفون هذه الحياة العادية الزائلة، ويقفون عندها.

وعادةً فإِن استخدام تعابير «المزرعة» أو «المتجر» وما شاكلهما في تشبيه الحياة الدنيا ووصفها، يعتبر دليلا حياً على هذا الموضوع.

وخلاصة القول: إِنَّهُ إِذا تمت الإِستفادة مِن مواهب الدنيا وعطاياها التي تُعتبر مِن النعم الإِلهية; ويعتبر وجودها ضرورياً في نظام الخلق والوجود، وتمت الإِستفادة في سعادة الإِنسان الأخروية وتكامله المعنوي، فإِنَّ ذلك يعتبر أمراً جيداً، وتمتدح معه الدنيا. أمَّا إِذا اعتبرناها هدفاً لا وسيلة، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإِنسانية، عندها سَيُصاب الإِنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي والظلم.

وما أجمل وصف الإِمام علي(عليه السلام) للدنيا حينما يقول: «مَن أَبصر بها بصرته، ومَن أَبصر إِليها أعمته»(1). وفي أنَّ الفرق بين الدنيا المذمومة والدنيا الممدوحة، هو نفس الفرق الذي نستفيده، بين «إِليها» و«بها»، إِذ تعني الأُولى أنَّ الدنيا هدف، بينما تعني الثّاني أنّها مجرد وسيلة!

ثانياً: دور السعي في تحقيق المكاسب:

هذه ليست المرّة الأُولى التي يشيد فيها القرآن بالسعي والجهد ودورهما في تحقيق المكاسب، وبعكسه يُحذَّر الأشخاص العاطلين والكُسالى بأنَّ السعادة الأخروية لا يمكن ضمانها بالكلام المجرد، والتظاهر بالإِيمان، بل الطريق يتمثل بالسعي وبذل الجهود.

وهذه الحقيقة واضحٌ مفادها في الكثير مِن الآيات القرآنية. ففي سورة

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ يراجع نهج البلاغة، الخطبة رقم (82).

[441]

المدثر. آية (38) نقرأ (كلّ نفس بما كسبت رهينة) وآيةٌ أُخرى تقول: (وأن ليس للإِنسان إِلاّ ما سعى) . وفي آيات كثيرة أُخرى، يأتي العمل الصالح بعد ذكر الإِيمان حتى لا يتوهم أحدٌ ويظن بأنَّهُ يستطيع الوصول إِلى مرحلة ما بدون سعي وجهد، فمواهب الدنيا المادية لا يمكن استحصالها بدون سعي وجهد; فكيف إِذن بالسعادة الأخروية الخالدة!!؟

ثالثاً: الإِمدادات الإِلهية:

«نمدّ» مشتقّة مِن كلمة «إِمداد» وهي تعني إِيصال المعونة، يقول الراغب الأصفهاني في كتاب «المفردات» أن: كلمة «إِمداد» غالباً ما تُستعمل في المساعدات المفيدة والمؤثِّرة. أما كلمة «مدَّ» فإِنها تستعمل في الأشياء المكروهة وغير المقبولة.

على أيةِ حال، نقرأ في الآيات التي نبحثها، أنَّ اللّه سبحانه وتعالى يضع جزءاً من نعمه في خدمة الجميع، إِذ يستفيد مِنها المحسنون والمسيئون، وهذه النعم غالباً ما تكون من النوع الذي يتوقف استمرار الحياة عليه.

بتعبير آخر: هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإِلهية التي تشمل فيوضاتها جميع الناس، المؤمن والكافر. ولكن ما وراء ذلك هناك نعم لا تحصى تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم.

* * *

[442]

الآيات :22-25

لاَّ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلـهاً ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولا22 وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسـناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَّهُمَا قَولا كَرِيماً23 وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَما رَبَّيانِى صَغِيراً24 رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صـلِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَْوّبِينَ غَفُوراً25

التّفسير

أحكام إِسلامية مهمّة:

الآيات التي نحنُ بصدد بحثها هي بداية لسلسلة مِن الأحكام الإِسلامية الأساسية، والتي تبدأ بالدعوة إِلى التوحيد والإِيمان; التوحيد الذي يعتبر الأساس والأصل لكل النشاطات الإِيمانية، والأعمال الحسنة والبنّاءة. والآيات عندما تنحو هذا المنحى فهي بذلك تتصل مع مضمون البحث في الآيات السابقة، التي كانت تتحدث عن الناس السُعداء الذين أقاموا حياتهم على دعائم ثلاث هي:

[443]

الإِيمان، السعي والعمل ووضع الآخرة ومنازلها نصب أعينهم.

وتعتبر هذه الآيات ـ أيضاً ـ تأكيداً ثانياً لدعوة القرآن إِلى أفضل السبل وأكثرها إِستقامة. في البداية تبدأ هذه الآيات بالتوحيد وتقول: (لا تجعل مع اللّه إِلهاً آخر) إنّها لم تقل: لا تعبد مع اللّه إِلهاً آخر، بل تقول: (لا تجعل) هذا اللفظ أشمل وأوسع، إِذ هو يعني: لا تجعل معبوداً آخر مع اللّه لا في العقيدة، ولا في العمل، ولا في الدعاء، ولا في العبودية. بعد ذلك توضح الآية النتيجة القاتلة للشرك: (فتقعد مذموماً مخذولا).

إِنَّ استعمال كلمة «القعود» تدل على الضعف والعجز، فمثلا يقال: قَعَدَ به الضعف عن القتال. وَمِن هذا التعبير يُمكن أن نستفيد أنَّ للشرك ثلاثة آثار سيئة جدّاً في وجود الإِنسان، هي:

1 ـ الشرك يؤدي إِلى الضعف والعجز والذّلة، في حين أنَّ التوحيد هو أساس الحركة والنهوض والرفعة.

2 ـ الشرك موجب للذم واللوم، لأنَّهُ خط انحرافي واضح في قبال منطق العقل، ويعتبر كفراً واضحاً بالنعم الإِلهية، لذا فالشخص الذي يسمح لنفسه بهذا الإِنحراف يستحق الذم.

3 ـ الشرك يكون سبباً في أن يترك اللّه سبحانه وتعالى الإِنسان إِلى الأشياء التي يعبدها، ويمنع عنهُ حمايته، وبما أنَّ هذه المعبودات المختلفة والمصطنعة لا تملك حماية أي إِنسان أو دفع الضرر عنه، ولأنَّ اللّه لا يحمي مثل هؤلاء، لذا فإِنهم يصبحون «مخذولين» أي بدون ناصر ومعين.

إِنَّ هذا المعنى يتّضح بشكل آخر في آيات قرآنية أُخرى، إِذ نقرأ مثلا في الآية (41) من سورة العنكبوت: (مثل الذين اتّخذوا مِن دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً، وإِنَّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).

بعد تبيان هذا الأصل التوحيدي، تشير الآيات إِلى واحدة مِن أهم توجيهات

[444]

الأنبياء(عليهم السلام) للإِنسان، فالآية ـ بعد أن تؤكد مرّة أُخرى على التوحيد ـ تقول: (وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إِلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً).

كلمة «قضاء» لهم مفهوم توكيدي أكثر مِن كلمة «أمر» وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه. وهذا أوّل تأكيد في هذه القضية. أما التأكيد الثّاني الذي يدل على أهمية هذا القانون الإِسلامي، فهو ربط التوحيد الذي يعتبر أهم أصل إِسلامي، مع الإِحسان إِلى الوالدين.

أمّا التأكيدان الثّالث والرّابع فهما يتمثلان في معنى الإِطلاق الذي تفيده كلمة «إِحسان» والتي تشمل كل أنواع الإِحسان. وكذلك معنى الإِطلاق الذي تفيده كلمة «والدين» إِذ هي تشمل الأم والأب، سواء كانا مُسلِمَينْ أو كافِرَيْن.

أمّا التأكيد الخامس فهو يتمثل بمجيء كلمة «إِحساناً» نكرة لتأكيد أهميتها وعظمتها(1).

ومِن الضروري الإِنتباه إِلى هذه الملاحظة; وهي أنَّ الأمر عادةً ما ينصبّ على الأُمور الإِيجابية، بينما جاءَ هنا في مفاد السلب والنفي (وقضى ... ألا تعبدوا...) فما هو يا ترى سبب ذلك؟

من الممكن أن نقول: إِنَّ جملة (وقضى ...) تتضمن تقديراً جملة إِيجابية، يمكن أن نقدرها بالقول: وقضى ربّك أن تعبده، ولا تعبد أي شيء سواه. أو من الممكن أن تكون جملة (ألا تعبد إِلاّ إِياه) التي تتضمن «النفي والإِثبات» جملة إِيجابية واحدة، إِذ هي تحصر العبادة باللّه دون غيره ثمّ تنتقل إِلى أحد مصاديق هذه العبادة متمثلا بالإِحسان إِلى الوالدين فتقول: (إِمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) بحيث يحتاجان الى الرعاية والإِهتمام الدائم. فلا تبخل عليها بأي

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ يعتقد البعض أنَّ كلمة «إِحسان» تتعدى غالباً بـ «إِلى» مثل قولنا «أحسن إِليه». وفي بعض الأحيان قد تتعدى بالباء. وقد يكون هذا التعبير لإِظهار المباشرة، أي إِظهار المحبّة والإِحترام مباشرة وبدون أي واسطة. وهذا في الواقع تأكيد سادس في هذه القضية.

[445]

شكل من إِشكال المحبّة واللطف ولا تؤذيهما أو تجرح عواطفهما بأقل إِهانة حتى بكلمة «اُف»: (فلا تقل لهما أف ولا تنهر هما)(1) بل: (وقل لهما قولا كريماً) وكن أمامهما في غاية التواضع (وأخفض لهما جناح الذل مِن الرحمة، وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً).

الأهمية الإِستثنائية لاحترام الوالدين:

إِنَّ الآيتين السابقتين توضحان جانباً من التعامل الأخلاقي الدقيق، والإِحترام الذي ينبغي أن يؤدّيه الأبناء للوالدين:

1 ـ من جانب أشارت الآية إِلى فترة الشيخوخة، وحاجة الوالدين في هذه الفترة إِلى المحبّة والإِحترام أكثر مِن أي فترة سابقة، إِذ الآية تقول: (إِمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف). مِن الممكن أن يصل الوالدان إِلى مرحلة يكونان فيها غير قادرين على الحركة دون مساعدة الآخرين، وقد لا يستطيعون بسبب الكهولة رفع الخبائث عنهم، وهنا يبدأ الإِختبار العظيم للأبناء، فهل يعتبرون وجود مِثل هذين الوالدين دليل الرحمة، أو أنّهم يحسبون ذلك بلاءاً ومصيبةً وعذاباً .. هل عندهم الصبر الكافي لاحترام مثل هؤلاء الآباء والأمهات; أم أنّهم يوجهون الإِهانات ويسيئون الأدب لهم; ويتمنون موتهم؟!

2 ـ مِن جانب آخر .. تقول الآية: (فلا تقل لهما أف) بمعنى لا تظهر عدم ارتياحك أو تنفرك مِنهم (ولا تنهرهما) ثمّ تؤكّد مرّة أُخرى على ضرورة التحدّث معهم بالقول الكريم، إِذ اللسان مفتاح إِلى القلب (وقل لهما قولا كريماً).

3 ـ مِن جانب ثالث تأمر الآية بالتواضع لهم، هذا التواضع الذي يكون علامة

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ هناك قولان حول «إِما» في جملة «إِما يبلغنّ» فالفخر الرازي في تفسيره يذهب إِلى أنّها مركّبة من «إِن» الشرطية و«ما» الشرطية، وهي بذلك تفيد التأكيد. أما البعض الآخر كصاحب «الميزان» مثلا، فيرى أنّها مركبة من «إِن» الشرطية و«ما» الزائدة، التي جاءت هنا لتسمع لـ «إن» الشرطية بالدخول على الفعل المؤكد بنون التوكيد.

[446]

المحبة، ودليل الود لهم: (واخفض لهما جناح الذل مِن الرحمة).

4 ـ أخيراً تنتهي الآيات، إِلى توجيه الإِنسان نحو الدعاء لوالدَيْه وذكرهم بالخير سواء كانا أمواتاً أم أحياء، وطلب الرحمة الرّبانية لهما جزاء لما قاما به مِن تربية (وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً).

إِضافة إِلى ما ذكرناه، فثمّة ملاحظة لطيفة أُخرى يطويها التعبير القرآني، هذه الملاحظة خطاب للإِنسان يقول: إِذ أصبح والداك مُسِنَيّن وضعيفين وكهلين لا يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما، فلا تنس أنّك عندما كُنت صغيراً كُنت على هذه الشاكلة أيضاً، ولكن والديك لم يقصرا في مداراتك والعناية بك، لذا فلا تقصَّر أنت في مداراتهم ومحبتهم.

وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين واحترامهم والتواضع لهم، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان، وعن قصد وعلم في أحيان أُخرى، لذا فإِنَّ الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إِلى هذا المعنى بالقول: (ربّكم أعلم بما في نفوسكم). وهذه إِشارة إِلى أنَّ علم اللّه ثابت وَأزلي وأبدي وبعيد عن الإِشتباهات، بينما علمكم أيّها الناس لا يحمل هذه الصفات! لذلك فإِذا طغى الإِنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام الوالدين والإِحسان إِليهم، ولكن بدون قصد وعن جهل، ثمّ تابَ بعد ذلك وأناب، وندم على ما فعل وأصلح، فإِنَّهُ سيكون مشمولا لعفو اللّه تعالى: (إِن تكونوا صالحين فإِنَّهُ كانَ للأوابين غفوراً) .

«أوّاب» مُشتقة مِن «أوب» على وزن «قوم» وهي تعني الرجوع مع الإِرادة، في حين أن كلمة «رجع» تقال للرجوع مع الإِرادة أو بدونها، لهذا السبب يقال للتوبة «أوبة» لأنَّ حقيقة التوبة تنطوي على الرجوع عن الأمر (المنكر)، إِلى اللّه، مع الإِرادة.

وبما أنَّ كلمة «أوّاب» هي صيغة مِبالغة، لذا فإِنّها تقال للأشخاص الذين كلما

[447]

أذنبوا رجعوا إِلى خالقهم. وقد تكون صيغة المبالغة في «أوّاب» هي إِشارة إِلى تعدُّد عوامل العودة والرجوع إِلى اللّه. فالإِيمان بالله أوّلاً; والتفكير بحكمة يوم الجزاء والقيامة ثانياً; والضمير الحي ثالثاً; والتفكير بعواقب ونتائج الذنوب رابعاً، كل هذه العوامل تعمل سويةً لأجل عودة الإِنسان مِن طريق الإِنحراف، نحو اللّه.

* * *

بحوث

أوّلاً: إِحترام الوالدين في المنطق الإِسلامي

بالرغم مِن أنَّ العاطفة الإِنسانية ومعرفة الحقائق، يكفيان لوحدهما لاحترام ورعاية حقوق الوالدين، إِلاّ أنَّ الإِسلام لا يلتزم الصمت في القضايا التي يمكن للعقل أن يتوصل فيها بشكل مستقل، أو أن تدلُّ عليها العاطفة الإِنسانية المحضة، لذلك تراه يُعطي التعليمات اللازمة إِزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما، بحيث لا يمكن لنا أن نلمس مثل هذه التأكيدات في الإِسلام إِلاّ في قضايا نادرة أُخرى.

وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إِلى هذا المعنى:

ألف: في أربع سور قرآنية ذكر الإِحسان إِلى الوالدين بعد التوحيد مُباشرة، وهذا الإِقتران يدل على مدى الأهمية يوليها الإِسلام للوالدين.

ففي سورة البقرة آية (83) نقرأ: (لا تعبدون إِلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً).

وفي سورة النساء آية (36) نقرأ قوله تعالى: (واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إِحسانا). أما الآية (151) مِن سورة الأنعام فإِنّها تقول: (ألا تشركوا بهِ شيئاً وبالوالدين إِحساناً). وفي الآية التي نبحثها نقرأ قوله تعالى: (وقضى ربّك أن لا تعبدوا إِلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً).

ب ـ إِنَّ مسألة إِحترام الوالدين ورعاية حقّهما مِن المنزلة بمكان، حتى أنَّ

[448]

القرآن والأحاديث والرّوايات الإِسلامية، تؤكدان معاً على الإِحسان للوالدين حتى ولو كانا مُشركين، إِذ نقرأ في الآية (15) مِن سورة لقمان: (وإِن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم، فلا تُطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً).

ج ـ رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إِلى منزلة شكر اللّه تعالى، إِذ تقول الآية (14) مِن سورة لقمان: (أن أشكر لي ولوالديك).

وهذا دليل على عمق وأهمية حقوق الوالدين في منطق الإِسلام وشريعته، بالرغم من أن نعم اللّه التي يشكرها الإِنسان لا تعدّ ولا تحصى.

د ـ القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إِهانة للوالدين، ولا يجيز ذلك، ففي حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قال: «لو علم اللّه شيئاً هو أدنى من أف لنهى عنه، وهو مِن أدنى العقوق، ومِن العقوق أن ينظر الرجل إِلى والديه فيحدّ النظر إِليهما»(1).