وهذا التعبير يدلُّ على أن التقرب من فرعون في ذلك المحيط كان مهمّاً إلى درجة قصوى! بحيث يذكره فرعون للسحرة ويعدّه أجراً عظيماً، وفي الحقيقة لا أجر أعظم من أن يصل الإنسان إلى مقربة من القدرة المطلوبة!...
فإذا كان الضالّون يعدّون التقرب من فرعون أعظم أجر، فإنّ عباد الله لا يرون أجراً أعظيم من التقرب الى الله تعالى حتى الجنّة بما فيها من النعيم المقيم لا تقاس بنظرة من وجهه الكريم لهم!...
ولذلك فإنّ الشهداء في سبيل الله الذين ينبغي أن ينالوا أعظم الأجر لإيثارهم الكبير، ينالون التقرب من الله بشهادة القرآن! والتعبير القرآني (عند ربّهم) شاهد بليغ على هذه الحقيقة!...
وكذلك فإنّ المؤمن السليم القلب حين يؤدي العبادة الله، يؤديها بهدف «قربة الى الله»...
* * *
قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ(43) فَأَلْقَواْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بَعَزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَـلِبُونَ(44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(45) فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـجِدِينَ (46)قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبِّ الْعَـلَمِينَ(47) رَبِّ مُوسَى وَهَـرونَ(48) قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاَُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُم وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خَلَـف وَلاَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(49) قَالوُاْ لاَضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50)إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا ربُّنَا خَطَـيَنآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ(51)
حين اتفق السحرة مع فرعون ووعدهم بالأجر والقرب منه، وشدّ من عزمهم، فإنّهم بدأوا بتهيئة المقدمات ووفروا خلال ماسخت لهم الفرصة عصيّهم وحبالهم، ويظهر أنّهم صيّروها جوفاء وطلوها بمادة كيميائية كالزئبق ـ مثلا ـ بحيث تتحرك
وتلمع عند شروق الشمس عليها!
وأخيراً كان اليوم الموعود والميقات المعلوم، وانثال الناس إلى ساحة العرض ليشهدوا المبارزة التاريخيّة، ففرعون وقومه من جانب، والسحرة من جانب آخر، وموسى وأخوه هارون من جانب ثالث، كلهم حضروا هناك!
وكعادة القرآن في حذف المقدمات المفهومة من خلال الآيات المذكورة، والشروع بذكر أصل الموضوع، فيتحدّث عن مواجهة موسى للسحرة حيث التفت إليهم و: (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون).
ويستفاد من الآية (115) من سورة الأعراف، أنّ موسى(عليه السلام) قال ذلك عندما سأله السحرة: هل تلقي أنت أوّلا أم نلقي نحن أوّلا؟
وهذا الإقتراح من قبل موسى(عليه السلام) يدلّ أنّه كان مطمئناً لانتصاره، ودليلا على هدوئه وسكينته أمام ذلك الحشد الهائل من الأعداء وأتباع فرعون... كان هذا الإقتراح يُعدّ أوّل «ضربة» يدمغ بها السحرة، ويبيّن فيها أنه يتمتع بالهدوء النفسي الخاص، وأنّه مرتبط بمكان آخر ومتصل به.
وأمّا السحرة الغارقون بغرورهم، والذين بذلوا أقصى جهودهم لانتصارهم في هذا «الميدان»، فقد كانوا مستعدين ومؤمّلين لأن يغلبوا موسى(عليه السلام) (فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون).(1)
أجل، لقد استندوا إلى عزّة فرعون كسائر المتملقين، وبدأوا باسمه وقدرته الواهية!
وهنا ـ كما يبيّن القرآن في مكان آخر من سورة وآياته ـ تحركت العصيُّ كأنّها الأفاعي والثعابين و (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى).(2)
وقد انتخب السحرة العصي كوسائل لسحرهم، لتتغلّب حسب تصوّرهم على
عصى موسى، وأضافوا عليها الحبال ليثبتوا علوّهم وفضلهم عليه...
فتهللت أسارير وجوه الناس ووجه فرعون فرحاً، وأشرق الأمل في عيني فرعون وأتباعه، وسُرّوا سروراً لم يكن ليخفى على أحد، وسرت فيهم نشوة اللّذة من هذا المشهد!
إلاّ أنّ موسى(عليه السلام) لم يمهل الحاضرين ليستمر هذا المشهد ويدوم هذا الفصل المثير، فتقدم (فألقى موسى عصاه) فتحولت الى ثعبان عظيم وبدأت بالتهام وسائل وادوات السحرة بسرعة بالغة (فإذا هي تلقفُ ما يأفكون).(1)
وهنا طاف صمت مهيب على وجوه الحاضرين وغشّاهم الوجوم وفغرت الأفواه من الدهشة والعجب، وجمدت العيون، ولكن سرعان ما انفجر المشهد بصراخ المتفرجين المذعورين ففر جماعة من مكانهم وبقي آخرون يترقبون نهاية المشهد، وأفواه السحرة فاغرة من الدهشة...
و تبدّل كل شيء، وثاب السحرة إلى رشدهم بعد أن كانوا ـ إلى تلك اللحظة ـ مع فرعون غارقين في الشيطنة، ولأنّهم كانوا عارفين بقضايا السحر ودقائقه، فإنّهم تيقنوا أن عصا موسى لم تكن سحراً، بل هي معجزة إلهية كبرى (فأُلقي السحرة ساجدين).
الطريف أنّ القرآن يعبر عن خضوع السحرة بـ «أُلقي» وهذا التعبير إشارة إلى منتهى التأثير وجاذبية معجزة موسى لهم، حتى كأنّهم سقطوا على الأرض وسجدوا دون اختيارهم...
واقترن هذا العمل العبادي ـ وهو السجود ـ بالقول بلسانهم فـ (قالوا آمنا بربّ العالمين).
ولئلا يبقى مجالُ للإبهام والغموض والتردد، ولئلا يفسر فرعون ذلك تفسيراً
آخر فإنّهم قالوا: (ربّ موسى وهارون).
وهذا التعبير يدّل على أنّه وإن كان موسى(عليه السلام) متكفلاً لأمر المبارزة وإلقاء العصا ومحاججة السحرة، إلاّ أنّ أخاه هارون كان يعاضده في الأمر، وكان مستعداً لتقديم أي عون لأخيه.
وهذا التبدل والتغيّر المفاجيء العجيب في نفوس السحرة بحيث خطوا في لحظة واحدة من الظلمة المطلقة إلى النور المبين. ولم يكتفوا بذلك حتى أقحموا انفسهم في خطر القتل، وأعرضوا عن مغريات فرعون ومصالحهم المادية... كلّ ذلك لما كان عندهم من «علم» استطاعوا من خلاله أن يتركوا الباطل ويتمسكوا بالحقّ!
إنّهم لم يجوبوا باقي الطريق بخطى العقل فحسب، بل ركبوا خيول العِشْقِ، وقد سكروا من عطر أزهاره، حتى كأنّهم لم يفيقوا من سكرتهم، وسنرى أنّهم لِهذا السبب استقاموا بشجاعة أمام تهديدات فرعون الرهيبة...
نقرأُ حديثاً عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «ما من قلب إلاّ بين إصبعين من أصابع الرحمان، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه»(1) (وبديهي أن مشيئة الله في هاتين المرحلتين تتعلق باستعداد الإنسان، وهذا التوفيق أو سلب التوفيق إنّما هو لأجل قابلية القلوب المختلفة، وليس اعتباطاً).
أمّا فرعون، فحيث وجد نفسه مهزوماً معنوياً ويرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر، وخاصّة أنه كان يعرف أيّ تأثير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر، فالتفت إلى السحرة و(قال آمنتم به قبل أن آذن لكم).(2)
لقد تربع على عرش الإستبداد سنين طوالا، ولم يكن يترقب من الناس أن لا يسجدوا أو يقوموا بعمل دون إذنه فحسب، بل كان ترقُّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونةً به وبأمره، فليس لهم أن يفكّروا دون اذنه!! وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبرين!.
هذا المغرور الطائش لم يكن مستعدّاً لأن يذكر اسم الله ولا اسم موسى، بل اكتفى بالقول (آمنتم له)! والمراد من هذا التعبير هو التحقير!!
إلاّ أن فرعون لم يقنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين أُخريين ليُثّبت موقعه كما يتصوّر أوّلا، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةً نياماً.
فإتهم السحرة أوّلا بأنّهم تواطؤوا مع موسى(عليه السلام) وتآمروا على أهل مصر جميعاً، فقال: (إنّه لكبيركم الذي علمكم السحر).
وقد اتفقتم مع موسى من قبل أن تردوا هذه الساحة، فتضلوا أهل مصر وتجرّوهم إلى الخضوع تحت سيطرة حكومتكم; وتريدون أن تطردوا أصحاب هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وتُحلّوا العبيد محلهم...
إلاّ أنني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة، وسأخنق المؤامرة في مهدها (فلسوف تعلمون لأُقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاُصلبنكم أجمعين).
أي: لا أكتفي بإعدامكم فحسب، بل أقتلكم قتلاً بالتعذيب والزجر بين الملأ العام، وعلى جذوع النخل، (لأن قطع الأيدي والأرجل من خلاف يؤدي إلى الموت البطيء، فيذوق معه الإنسان التعذيب أكثر).
وهذه هي طريقة الجبابرة والحكّام الظلمة في كل عصر وزمان، ففي البدء يتهمون الرجال المصلحين بالتآمر ضد الناس، وبعد الإستفادة من حربة التهمة يعملون السيف في رقاب ليضعف موقع المطالبين بالحق ولا يجدوا معاضداً لهم، فيزيحوهم من طريقهم.
إلاّ أن فرعون لم يحقق هدفه هنا، لأن السحرة قبل لحظة ـ والمؤمنين في هذه
اللحظة ـ قد غمر قلوبهم الإيمان، وأضرمهم عشق الله; بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون، فأجابوه بضرس قاطع واحبطوا خطته و (قالوا لا ضير إنا إلى ربّنا منقلبون).
فأنت بهذا العمل لا تنقص منّا شيئاً، بل توصلنا إلى معشوقنا الحقيقي والمعبود الواقعي، فيوم كانت هذا التهديدات تؤثر فينا لم نعرف أنفسنا ولم نعرف ربّنا، وكنّا، ضالين مضلين، إلاّ أنّنا عثرنا اليوم على ضالتنا (فاقض ما أنت قاض)!
ثمّ أضافوا بأنّهم واجهوا النّبي موسى(عليه السلام) من قبل بالتكذيب وأذنبوا كثيراً، ولكن مع ذلك فـ (إنا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا أن كنا أوّل المؤمنين)...
إنّنا لا نستوحش اليوم من أي شيء، لا من تهديداتك، ولا من تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ولا من الصلب على جذوع النخل.
وإذا كنّا نخاف من شيء، فإنّما نخاف من ذنوبنا الماضية، ونرجوا أن تمحى في ظل الإيمان وبفضل الله ولُطْفهِ!
أية طاقة وقوّة هذه التي إن وُجدت في الإنسان صغرت عندها أعظم القوى، وهانت عنده أشد الأُمور، وكرمت نفسه بسخاء في موقف التضحية والإيثار؟!
إنّها قوّة الإيمان.
إنّها شعلة العشق النيرة، التي تجعل الشهادة في سبيل الله أحلى من الشهد والعسل، وتصيّر الوصال إلى المحبوب أسمى الأهداف!
هذه هي القوّة التي استعان بها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وربّى المسلمين الأوائل عليها، وأوصل أمة جهلاءَ متأخرة إلى أوج الفخر بسرعة مذهلة، فكانت الأُمة المسلمة التي اذهلت الدنيا!
إلاّ أن هذا المشهد ـ على كل حال ـ كان غالياً وصعباً على فرعون وقومه، بالرغم من أنّه طبّق تهديداته ـ طبقاً لبعض الروايات ـ فاستشهد على يديه السحرة المؤمنون ـ إلاّ أن ذلك لم يطفىء عواطف الناس تجاه موسى فحسب، بل أثارها
أكثر فأكثر!...
ففي كل مكان كانت اصداء النّبي الجديد... وفي كل حدب وصوب حديث عن أوائل الشهداء المؤمنين، وهكذا آمن جماعة بهذا النحو، حتى أن جماعة من قوم فرعون وأصحابه المقربين حتى زوجته، آمنوا بموسى ايضاً.
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: كيف عبر السحرة التائبون المؤمنون عن أنفسهم بأنّهم أوّل المؤمنين...
هل كان مرادهم أنّهم أوّل المؤمنين في ذلك المشهد؟!
أو كان مرادهم أنّهم أوّل المؤمنين من حماة فرعون؟!
أو أنّهم أوّل المؤمنين الذين وردوا «الشهادة».
كل هذه الأُمور محتملة، ولا تتنافى في مابينها.
وهذه التفاسير إنّما تصحّ في صورة ما لو قلنا بأنّ جماعة من بني إسرائيل أو من غيرهم آمنوا بموسى قبل ذلك، أما لو قلنا بأنّهم أمروا بعد البعثة أن يتصلوا بفرعون مباشرةً وأن يوردوا الضربة الأُولى عليه، فلا يبعد أن يكونوا أول المؤمنين، ولا حاجة عندئذ إلى تفسير آخر.
* * *
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52)فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَآئِنِ حـشِرِين(53) إنَّ هَـؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ(55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـذِرُونَ (56)فَأَخْرَجْنَـهُم مِّن جَنَّـت وَعُيُون(57) وَكُنُوز وَمَقام كَريم (58)كَذَلِكَ وَأَورَثْنَـهَا بَنِى إِسْرءِيلَ(59)
في الآيات المتقدمة... رأينا كيف أنّ موسى خرج منتصراً من تلك المواجهة. رغم عدم إيمان فرعون وقومه إلاّ أن هذه القضية كان لها عدة آثار مهمّة، يعدُّ كلٌ منها انتصاراً مهمّاً:
1 ـ آمن بنو إسرائيل بنبيّهم «موسى(عليه السلام)» والتفّوا حوله بقلوب موحّدة... لأنّهم بعد سنوات طوال من القهر والتعسف والجور يرون نبيّاً سماوياً في أوساطهم يضمن هدايتهم وعلى استعداد لأنّ يقود ثورتهم نحو الحرية وتحقيق النصر على فرعون..
2 ـ لقد شقّ موسى(عليه السلام) طريقة وسط أهل مصر من الأقباط وغيرهم... ومال إليه جمع منهم، أو على الأقل خافوا من مخالفته، وطافت أصداء دعوة موسى في أرجاء مصر جمعاء!
3 ـ وأهمّ من كل ذلك أنّ فرعون لم ير في نفسه القدرة ـ لا من جهة أفكار عامّة الناس، ولا من جهة الخوف على مقامة ـ على مواجهة رجل له عَصَا كهذه العصا، ولسان مؤثر كلسان موسى.
هذه الأُمور هيأت أرضية ملائمة لأن ينشر موسى(عليه السلام) دعوته بين الناس، ويتمّ الحجة عليهم!
ومرّت سنون طوال على هذا المنوال، وموسى(عليه السلام) يظهر المعاجز تلو المعاجز ـ كما أشارت إليها سورة الأعراف وبينّاها في ذيل الآيات 130 ـ 135 منها ـ إلى جانب منطقه المتين، حتى ابتلى الله أهل مصر بالقحط والجذب لسنوات لعلهم يتّقون «لمزيد الإيضاح لا بأس بمراجعة تفسير الآيات آنفة الذكر»...
ولمّا أتمّ موسى على أهل مصر الحجة البالغة، وامتازت صفوف المؤمنين من صفوف المنكرين، نزل الوحيُ على موسى أن يخرج بقومه من مصر، والآيات التالية تجسد هذا المشهد فتقول أوّلا: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي أنّكم متبعون).
وهذه خطة إلهية على موسى(عليه السلام) أن يمتثلها ويسري بقومه ليلا، وإنّ على فرعون وقومه أن يعلموا ذلك فيتبعوهم ليحدث ما يحدث بأمر الله.
والتعبير بـ «عبادي» بضمير الإفراد، مع أن الفعل (أوحينا) في الجملة ذاتها مسند إلى ضمير الجمع، إنّما هو لبيان منتهى محبة الله لعباده المؤمنين...
وفعلا امتثل موسى(عليه السلام) هذا الأمر، وعبأ بني إسرائيل بعيداً عن أعين أعدائهم، وأمرهم بالتحرك، واختار الليل خاصّة لتنفيذ أمر الله لتكون خطته نافذة.
إلاّ أن من البديهي أن حركة جماعة بهذا الشكل ليس هيناً يسيراً يمكن
إخفاؤه لزمان طويل، فما كان أسرع أن رفع جواسيس فرعون هذا الخبر إليه، وكما يحدثنا القرآن عن ذلك أن فرعون أرسل رسله وأعوانه الى المدن لجمع القوات: (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين).
بالطبع فإنّ في تلك الظروف، وصول إبلاغ فرعون إلى المدائن، وجميع مناطق مصر، يحتاج إلى زمان معتنى به لكن من الطبيعي أن يصل هذا البلاغ المدن القريبة بسرعة وتتحرك القوى المعدّة فوراً، وتؤدي مقدمة الجيش مهمّتها، وتتبعها بقية الأفواج بالتدريج...
ولتعبئة الناس ـ ضمناً ـ وتهيئة الأرضية لإثارتهم ضد موسى وقومه، أمر فرعون أن يُعلَن (إنّ هؤلاء لشرذمة قليلون).
فبناء على ذلك فنحن منتصرون عند مواجهتنا لهذه الفئة القليلة حتماً.
و «الشرذمة» في الأصل تعني القلة من الجماعة، كما تعني ما تبقى من الشيء، ويطلق على اللبوس الممزق الخلق «شراذم»، فبناءً على هذا يكون المعنى أنّ هؤلاء «أي موسى وقومه» بالإضافة إلى أنّهم قليلون فهم متفرقون، فكأن فرعون، بهذا التعبير أراد أن يجسم عدم انسجام بني إسرائيل من حيث أعداد الجيش فيهم...
ثمّ تضيف الآية الأُخرى حاكية عن لسان فرعون (وإنّهم لنا لغائظون) فمن يسقي مزارعنا غداً، ومن يبنى لنا القصور؟ ومن يخدم في البيوت والقصور غيرهم؟!
ثمّ إنّا من مؤامرتهم يجب أن نكون على حذر سواء أقاموا أم رحلوا: (وإنا لجميع حاذرون) ومستعدون جميعاً لمواجهتهم.
وقد فسّر بعضهم «حاذرون» على أنها من الحذَر، بمعنى الخوف والخشية من التآمر، وفسّر بعضهم (حاذرون) على أنها من الحذِر، بمعنى الفطنة والتهيؤ من حيث السلاح والقوّة. إلاّ أن هذين التّفسيرين لا منافاة بينهما، فربّما كان فرعون
وقومه قلقين من موسى ومستعدين لمواجهته أيضاً.
ثمّ يذكر القرآن النتيجة الإجمالية لعاقبة فرعون وقومه وزوال حكومته، وقيام حكومة بني إسرائيل، فيقول: (فأخرجناهم من جنات وعيون... وكنوز ومقام كريم).
أجل (كذلك وأورثناها بني إسرائيل).
وهناك اختلاف بين المفسّرين في المراد من كلمة (مقام كريم)، فقال بعضهم بأنّها القصور المجللة والمساكن المظللة...
وقال بعضهم بأنّها المجالس المنعقدة بالحبور والسرور والنشاط.
وقال بعضهم: المراد مقام الحكام والأمراء، الذين يجلسون على كراسيهم ومن حولهم أتباعهم وجنودهم يمتثلون أوامرهم...
وقال بعضهم: بل يعني المنابر التي كان يصعدها الخطباء «المنابر التي كانت لصالح فرعون وحكومته وجهازه فهي بمثابة أبواق إعلام له».
وبالطبع فإن المعنى الأوّل أنسب من الجميع كما يبدو، رغم أن هذه المعاني غير متباينة ومن الممكن أن تجتمع هذه المعاني جميعاً في مفهوم الآية... فالمستكبرون (فرعون وقومه) أخرجوا من قصورهم وحكومتهم وموقعهم وقدرتهم، كما أخرجوا من مجالسهم المنعقدة بالحبور والسرور.
* * *
على أساس تعبير الآيات المتقدمة (كذلك وأورثناها بني اسرائيل)... فإنّ جمعاً من المفسّرين يعتقدون أن بني إسرائيل عادوا إلى مصر وسيطروا على
الحكم، ومكثوا في مصر حاكمين مدّة.(1)
وظاهر الآيات المتقدمة يناسب هذا التّفسير.
في حين أن بعض المفسّرين يعتقد أن بني إسرائيل تحركوا نحو بيت المقدس بعد هلاك فرعون وأتباعه، إلاّ أنّهم بعد مدّة مديدة رجعوا إلى مصر وشكلوا فيها حكومتهم.(2)
وتتطابق فصول التوراة الحالية المتعلقة بهذا القسم مع هذا التّفسير.
ويعتقد بعض آخر من المفسّرين أن بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين، فجماعة منهم بقيت في مصر وحكمت فيها، وتحركت جماعة منهم مع موسى نحو بيت المقدس.
وذكر احتمال آخر، وهو أن بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسى(عليه السلام) وفي زمان النّبي سليمان بن داود، والآية (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) ناظرة إلى هذا المعنى!
إلاّ أنّه مع ملاحظة أن موسى(عليه السلام) نبي ثائر كبير، فمن البعيد جدّاً أن يترك هذه الأرض التي تهاوت أركان حكومتها وقد اصبحت مقاليد اُمورها بيده فيذرها كلياً دون أن يخطط لها خطة ويتجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصحاري الشاسعة، ولا سيما أن بني إسرائيل قد سكنوا مصر لسنين طوال، وتعودوا على محيطها، فبناءً على هذا لا يخرج الأمر من أحد حالين... أمّا أن نقول: إن بني إسرائيل عادوا جميعاً إلى مصر وحكموا فيها، أو أن نقول: إن قسماً منهم بقوا في مصر بأمر موسى(عليه السلام) واستولوا على العرش وحكموا في مصر!... وفي غير هاتين الحالين لا يتجلّى مفهوم لاخراج الفراعنة منها ووراثة بني اسرائيل لها...
يشرح القرآن فيما يأتي من الآيات كيفية غرق فرعون واتباعه، وهذا الأمر يدعو إلى التساوءل: كيف يذكر القرآن إخراج فرعون وقومه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم وإيراثه «ذلك» بني إسرائيل! ثمّ يذكر كيفية غرق فرعون وقومه؟ مع أن الترتيب الطبيعي للآيات ليس كذلك...
هذا الأمر ربّما يكون من قبيل بيان الإجمال ثمّ التفصيل، أي أن القرآن ذكر الموضوع أوّلا بصورة مجملة، ثمّ وضحه في الآيات الاُخَر!
كما يمكن أن يكون من قبيل ذكر النتيجة، ثمّ شرح المقدمات «فتدبر».
* * *
فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ(60)فَلَمَّا تَرَءا الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـبُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ(62) فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْق كَالَّطوْدِ العَظِيمِ(63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاَْخَرِينَ(64) وَأَنجيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ(65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاَْخَرِينَ(66) إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(67) وَإِنَّ رَبِّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(68)
في هذه الآيات يبرز المشهد الأخير من قصّة موسى وفرعون، وهو كيفية هلاك فرعون وقومه، ونجاة بني إسرائيل وانتصارهم!
وكما قرأنا في الآيات المتقدمة فإنّ فرعون أرسل المدائن حاشرين، وهيأَ مقداراً كافياً من «القوّة» والجيش، قال بعض المفسّرين: كان ما أرسله فرعون على أنّه مقدمة الجيش ستمائة ألف مقاتل، وتبعهم نفسه بألف ألف مقاتل «أي
مليون».(1)
تحركوا في جوف الليل ليدركوهم بسرعة، فبلغوهم صباحاً كما تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (فاتبعوهم مشرقين(2) فلمّا تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون).
فأمامنا بحر خضم متلاطم بالأمواج، ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها الكاملة... هؤلاء الغاضبون علينا وهم الذين قتلوا أطفالنا الأبرياء سنين طوالا... وفرعون نفسه رجل دموي جبار... فعلى هذا سيحاصروننا بسرعة، ويقتلوننا جميعاً بحدّ السيوف، أو سيأسروننا ويعذبوننا، والقرائن جميعها تدل على ذلك.
وهنا مرّت لحظات عسيرة على بني إسرائيل... لحظات مُرّة لايمكن وصف مرارتها... ولعل جماعة منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم.
إلاّ أنّ موسى(عليه السلام) كان مطمئناً هادىء البال، وكان يعرف أن وعد الله في هلاك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل لايتخلف أبداً ولن يخلف الله وعده رسله!...
لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكمال الإطمئنان والثقة و (قال كلاّ إن معي ربّيْ سيهدين).
ولعلّ هذا التعبير يشير إلى وعد الله لموسى وأخيه هارون حين أمرهما بإنذار قومهما، إذ قال لهما: (إنّي معكما أسمع وأرى).(3)
إذ كان موسى يعلم أن الله معه في كل مكان، وخاصّة تعويله في كلامه على كلمة (ربّي) أي الله المالك والمربّي هذا يدل على أنّ موسى(عليه السلام) كان يدري أنّه
لا يطوي هذا الطريق بخطاه، بل بلطف الله القادر الرحيم...
وفي هذه الحال التي قد يكون البعض سمعوا كلامه دون أن يصدقوه، وكانوا ينتظرون آخر لحظات حياتهم، صدر أمر الله كما يقول القرآن: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر...).
تلك العصا التي هي في يوم آية إنذار، وفي يوم آخر آية رحمة ونجاة!
فامتثل موسى(عليه السلام) أمر ربه فضرب البحر، فإذا أمامه مشهد رائع عجيب، تهللت له أسارير وجوه بني إسرائيل، إذا انشقَّ البحر (فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)!
و «انفلق» مأخوذ من «الفَلَق» ومعناه الإنشقاق و «فَرَقَ» من مادة «فرْق» على زنة «حلق» ومعناه الإنفصال!
وبتعبير آخر، كما يقول الراغب في مفرداته: أن الفرق بين (فلق) و (فرق) هو أن الأوّل يشير إلى الإنشقاق (أو الإنشطار) والثّاني يشير إلى الإنفصال، ولذا تطلق الفرقة والفِرَق على القطعة أو الجماعة التي انفصلت عن البقيّة!...
«الطود» معناه الجبل العظيم، ووصف الطود بالعظمة في الآية تأكيد آخر على معناه.
وعلى كل حال، فإنّ الله الذي ينفذ أمره في كل شيء، وبأمره تموج البحار وتتصرف الرياح وتتحرك العواصف وكل شيء في عالم الوجود من رشحات فضله وقدرته أصدر أمره الى البحر، وأمواجه، فالتحمت الأمواج وتراكمت بعضها إلى بعض، وظهرت ما بينها طُرُق سالكة، فمرّتْ كل فرقة من بني إسرائيل في إحدى الطرق!
إلاّ أنّ فرعون وأتباعه بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة لم يذعنوا للحق، ولم ينزلوا عن مَركبِ غرورهم، فاتبعوا موسى ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم، كما يقول القرآن في هذا الشأن: (وأزلفنا ثمّ الآخرين)...
وهكذا ورد فرعون وقومه البحر أيضاً، واتبعوا عبيدهم القدماء الذين استرقّوهم بطغيانهم، وهم غافلون عن أن لحظات عمرهم تقترب من النهاية، وأن عذاب الله سينزل فيهم!
وتقول الآية التالية: (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين).
وحين خرج آخر من كان من بني إسرائيل من البحر، ودخل آخر من كان من أتباع فرعون البحر، صدر أمر الله فعادت الأمواج إلى حالتها الأُولى فانهالت عليهم فجأةً، فهلك فرعون وقومه في البحر، وصار كل منهم كالقشّة في وسط الأمواج المتلاطمة.
ويبيّن القرآن هذه الحالة بعبارة موجزة متينة فيقول: (ثمّ أغرقنا الآخرين)...
وهكذا انتهى كل شيء في لحظة واحدة... فالأرقاء أصبحوا أحراراً، وهلك الجبابرة، وانطوت صفحة من صفحات التأريخ، وانتهت تلك الحضارة المشيدة على دماء المستضعفين، وورث الحكومة والمُلكَ المستضعفون بعدهم.
أجل (إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) فكأنّ في أعينهم عمىً، وفي آذانهم وقراً، وعلى قلوب أقفالا.
فحيثُ لا يؤمن فرعون وقومه مع ما رأوا من المشاهد العجيبة، فلا تعجبُ إذاً ألاّ يؤمن بك المشركون ـ يا محمد ـ ولا تحزن عليهم لعدم إيمانهم، فالتاريخ ـ يحمل بين طياته وثناياه كثيراً من هذه المشاهد!
والتعبير بـ «أكثرهم» إشارة إلى أن جماعة من قوم فرعون آمنوا بموسى والتحقوا بأصحابه، لا آسيةُ امرأة فرعون فحسب، ولا رفيق موسى المخلص المذكور في القرآن على أنه مؤمن من آل فرعون، بل آخرون أيضاً كالسحرة التائبين مثلا.
أمّا آخر آية من هذه الآيات فتشير في عبارة موجزة وذات معنى غزير إلى قدرة الله ورحمته المطلقة واللامتناهية، فتقول: (وإن ربّك لهو العزيز الرحيم).
فمن عزته أنه متى شاء أن يهلك الأمم المسرفة الباغية أصدر أمره فأهلكها، ولا يحتاج أن يرسل جنوداً من ملائكة السماء لإهلاك أُمة جبّارة... فيكفي أن يهلكها بما هو سبب حياتها، كما أهلك فرعون وقومه بالنيل الذي كان أساس حياتهم وثروتهم وقدرتهم، فإذا هو يقبرهم فيه!!
ومن رحمته أنّه لا يعجل في الأمر أبداً، بل يمهل سنين طوالا. ويرسل معاجزه إتماماً للحجة، ومن رحمته أن يخلص هؤلاء المستعبدين من قبضة الجبابرة الظالمين.
* * *
ورد التعبير في القرآن مراراً عن موسى أنه عبر بقومه «البحر»(1) كما جاء في بعض الآيات لفظ «اليمّ» بدلا من البحر.(2)
والآن ينبغي أن نعرف ما المراد من «البحر» و «اليم» هنا، أهو إشارة إلى النهر الكبير الواسع في مصر، النيل الذي يروي جميع أراضيها؟ أم هو إشارة إلى البحر الأحمر «المعروف ببحر القلزم في بعض المصطلحات»؟
يستفاد من التوراة الحالية ـ وكذلك من كلمات بعض المفسّرين ـ أنه إشارة إلى البحر الأحمر... إلاّ أن القرائن الموجودة والمتوفرة تدل على أنّ المراد منه هو نهر النيل، لأن «البحر» كما يقول الراغب في مفرداته يعني في اللغة الماء الكثير الواسع، واليم بهذا المعنى أيضاً. فلا مانع إذاً من إطلاق الكلمتين على نهر النيل.
وأمّا القرائن المؤيدة لهذا الرأي فهي: