ولمّا رأت الملكة رغبتهم في الحرب خلافاً لميلها الباطني، ومن أجل إطفاء هذا الظمأ وأن تكون هذه القضية مدروسة، لذلك (قالت إن الملوك إذا دخلوا

[58]

قرية أفسدوها وجعلو أعزة أهلها أذلةً ).

فيقتلون جماعةً منهم ويأسرون آخرين ويطردون طائفة ثالثة ويخرجونهم من ديارهم ويخربون حيّهم و ينهبون ثرواتهم وأموالهم..

ولمزيد التأكيد أردفت قائلةً: (وكذلك يفعلون ).

وفي الحقيقة.. إن ملكة سبأ التي كانت بنفسها ملكةً، كانت تعرف نفسية الملوك بصورة جيدة، وأن سيرتهم تتلخص في شيئين:

1 ـ الإفساد والتخريب.

2 ـ وإذلال الأعزة...

لأنّهم يفكرون في مصالحهم الشخصية، ولا يكترثون بمصالح الأُمّة وعزتها... وهما على طرفي نقيض دائماً.

ثمّ أضافت الملكة قائلةً: علينا أن نختبر سليمان وأصحابه، لنعرف من هم وما يريدون؟ وهل سليمان نبيّ حقاً أو ملك؟ وهل هو مصلح أو مفسد؟ وهل يذلّ الناس أم يحترمهم ويعزّهم؟

فينبغي أن نرسل شيئاً إليه (وإنّي مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون ).

فالملوك لهم علاقة شديدة بالهدايا، ونقطة الضعف كامنة في هذا الأمر، فيمكن أن يذعنوا للهدايا الغالية... فإذا أذعن سليمان بهذه الهدية فهو ملك، وينبغي أن نواجهه بالقوّة فنحن أقوياء... وإذا ألح على كلامه ولم يكترث بنا فهو نبيّ، وفي هذه الصورة ينبغي التعامل معه بالحكمة والتعقل!

ولم يذكر القرآن أية هدية أرسلتها الملكة إلى سليمان، لكنّه بتنكيرها بيّن عظمتها، إلاّ أن المفسّرين ذكروا مسائل كثيرة لا يخلو بعضها من الإغراق:

قال بعضهم: أرسلت إليه خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ممتازة، وقد ألبست الرجال ثياب النساء والنساء ثياب الرجال، وجعلت الأقراط في آذان

[59]

الرجال والاسورة في أيديهم، وألبست الجواري تيجاناً... وكتبت في رسالتها إلى سليمان: لو كنت نبيّاً فميّز الرجال من النساء!،

وبعثت أُولئك على مراكب ثمينة، ومعهم جواهر وأحجار كريمة، وأوصت رسولها ـ في الضمن ـ أن أنظر كيف يواجهك سليمان عند وردك عليه، فإن واجهك بالغضب فاعلم بأنه سيرة الملوك، وإن واجهك بالمحبة واللطف فاعلم أنّه نبيّ.

* * *

بحوث

1 ـ آداب كتابة الرسائل

ما ورد في الآيات آنفة الذكر في شأن كتاب «سليمان» إلى أهل سبأ، هو قدوة لكتابة الرسائل و«الكتب» وقد تكون من المسائل المهمّة والمصيرية... إذ تبدأ بـ (بسم الله الرحمن الرحيم ) وتبيّن روح الكلام في جملتين مدروستين.

ويظهر من التاريخ الإسلامي والرّوايات ـ بشكل واضح ـ أن أئمتنا الكرام عليهم الصلاة والسلام، كانوا يُعنون بالإختصار والإقتضاب في إرسال الكتاب خالياً من الحشو والزوائد، وهو مدروس أيضاً.

فأمير المؤمنين(عليه السلام) يكتب إلى عماله وممثليه في بعض كتبه: «أدقّوا أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا عنّي فضولكم، واقصدوا قصد المعاني، وإيّاكم والإكثار، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار» (1).

إن بري لسان القلم يجعل الكلمات أصغر، وتقارب السطور وحذف الفضول، لايؤدي إلى الاقتصاد في الاموال العامة أو الشخصية فحسب ـ بل يقتصد في وقت الكاتب والقارىء أيضاً... وقد يضيع الفضول والتشريفات

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الخصال ـ للصدوق، طبقاً لما جاء في البحار، ج 76، ص 49.

[60]

الواردة في أثناء جمل الكتاب الهدف من كتابته، فلا يصل الكاتب و القارىء إلى الهدف المنشود!

وفي هذه الأيّام أصبح من المألوف الا كثار في كتابة العناوين البراقة والألقاب الفخمة وزيادة المقدمات والحواشي والاضافات على خلاف ما كان في صدر الاسلام ممّا يهدر الكثير من الطاقات والاوقات والثروات.

وخاصة ينبغي الإلتفات إلى أن الكتاب «الرسالة» في ذلك العصر كان يتطلب زماناً طويلاً لإيصاله وبذل المال لحامل الكتاب، ومع ذلك كانت الكتب موجزة مقتضبة، ويمكن ملاحظة أمثلة منها في كتب النّبي(صلى الله عليه وآله) إلى خسرو پرويز وقيصر الروم وأمثالهما.

وأساساً فإنّ رسالة الإنسان وكتابه دليل على شخصيته، كما أن حامل الكتاب والرّسول دليل على شخصية المرسل أيضاً.

يقول الإمام علي(عليه السلام) في نهج البلاغة: «رسولك ترجمان عقلك، وكتابك أبلغ من ينطق عنك» (1).

ويقول الإمام الصادق(عليه السلام) «يستدل بكتاب الرجل على عقله وموضع بصيرته، وبرسوله على فهمه وفطنته» (2).

والجدير بالذكر أنّه يستفاد من الرّويات الإسلامية أنّ ردّ الكتاب واجب كردّ السلام، إذ نقرأ عن الإمام الصادق أنّه قال: «ردّ جواب الكتاب واجب كوجوب ردّ السلام» (3).

وحيث أن كل رسالة أو كتاب مشفوع عادة بالتحية، فلا يبعد أن يكون مشمولا بالآية الكريمة (وإذا حييتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها )(4).

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار ـ الجملة 301.

2 ـ البحار، ج 76، ص 50.

3 ـ وسائل الشيعة، ج8، ص427 «كتاب الحج أبواب العشرة باب 32».

4 ـ النساء، الآية 86.

[61]

2 ـ هل دعا سليمان إلى التقليد؟!

بعض المفسّرين استفادوا من كتاب سليمان أنّه دعا أهل سبأ إليه دون دليل!

ثمّ أجابوا بأن مجيء الهدهد بتلك الصورة «المعجزة» بنفسه دليل على حقانية دعوته(1).

إلاّ أنّنا نعتقد أنّه لا حاجة إلى مثل هذه الردود والإجابات، فوظيفة النّبي هي الدعوة. ووظيفة الآخرين التحقيق في أمره. وبتعبير آخر: إنّ الدعوة هي الباعث على التحقيق... كما قامت بذلك ملكة سبأ، فاختبرت سليمان وتحققت عنه، أهو ملك أم نبىّ؟!

3 ـ مداليل عميقة في قصّة سليمان (عليه السلام)

نلاحظ في هذا القسم من قصّة سليمان(عليه السلام) إشارات قصيرة إلى مسائل مهمّة أيضاً:

أ ـ تتلخص «روح» دعوة الأنبياء في نفي الإستعلاء الذي يعني نفي كل نوع من أنواع الإستثمار والإستعمار، والتسليم للحق والقانون الصحيح.

ب ـ بالرغم من أنّ أصحاب ملكة سبأ أعلنوا استعدادهم لخوض المعركة، إلاّ أن الطبع النسائي الشفاف في الملكة لم يكن موافقاً على ذلك، ولذلك عطفت انظارهم الى مسائل أُخرى.

ج ـ ولو أن الملكة أذعنت لرأيهم في الحرب لكانت بعيدة عن الحقيقة والصواب، وسنرى أن إقدامها على إرسال الهدية كان مثمراً، وكانت نتيجة طيبة لها ولقومها، وكان سبباً لأن يهتدوا إلى طريق الحق والعدل، ويبتعدوا عن سفك

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ تفسير الرازي، ذيل الآية مورد البحث.

[62]

الدماء!

د ـ ويستفاد من هذه القضية ضمناً أن المناهج التشاورية لا تنتهي إلى الحق دائماً.. إذ كانت عقيدة الأكثرية هنا أن يلجأوا إلى القوّة والقتال في حين أن ملكة سبأ كانت ترى خلاف نظرتهم، وسنرى أن الحق كان معها في نهاية القصّة!

هـ ـ ويمكن أن يقال: إنّ هذا النوع من التشاور أو المشورة غير ما هو جار بيننا اليوم من التشاور.. فنحن نأخذ برأي الأكثرية على أنّه هو المعيار، ونعطيهم حق التصويت والتصويب. في حين أن التشاور محل البحث هو مجرّد إبداء النظر من قبل الأكثرية، والرأي الحاسم لقائد تلك الجماعة.. ولعل الآية (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله )(1)تشير إلى هذا القسم الثّاني من التشاور. أمّا الآية الكريمة (وأمرهم شورى بينهم )(2) فناظرة إلى القسم الأوّل(3).

و ـ قال أصحاب ملكة سبأ لها (نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد ) ولعل هذا الإختلاف بين «القوة» و«البأس» في التعبير، هو أنّ «القوة» إشارة إلى الكمية العظيمة من الجيش... و«البأس الشديد» إشارة إلى كيفية العمل وروح الشجاعة والشهامة في الجيش، أي أن مرادهم أنّهم مستعدون للقتال من الناحية «الكمية» ومن حيث «الكيفية» لمواجهة العدو أيضاً.

4 ـ علامات الملوك

يستفاد من هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن الحكومة الإستبدادية والسلطنة في كل مكان مدعاة للفساد وإذلال الأعزة... لأنّ الملوك يبعدون عنهم

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ آل عمران، الآية 159.

2 ـ الشورى، الآية 38.

3 ـ لمزيد الإيضاح في موضوع الشورى يراجع تفسير الآية (159) من سورة آل عمران.

[63]

الشخصيات الفذة، ويدنون المتملقين، ويبحثون في كل شيء عن مصالحهم ومنافعهم الذاتية، وهم أهل رشوة وذهب ومال، وبالطبع فإنّ الامراء والاعوان القادرين على هذه الاُمور أحبّ عندهم من غيرهم.

وبينما نرى تفكير الملوك ورغباتهم تتلخص في نيل الهدايا والجاه والمقام والذهب والمال... نجد أنّ الأنبياء لا يفكرون إلاّ بإصلاح أممهم!.

* * *

[64]

الآيتان

فَلَمَّا جَآءَ سُلَيمَـنَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَال فَمَآ ءَاتَـنِ اللهُ خَيْرٌ مِّمّآ ءَاتَـكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأتِيَنَّهُمْ بِجُنُود لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَـا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَـغِرُونَ (37)

التّفسير

لا تخدعوني بالمال:

خرج رسل ملكة سبأ بقافلة الهدايا وتركوا اليمن وراءهم قاصدين مقر سليمان «في الشام» ظنّاً منهم أن سليمان سيكون مسروراً بمشاهدته هذه الهدايا ويرحب بهم.

لكن ما إن حضروا عند سليمان حتى رأوا ما يدهش الإنسان... فإنّ سليمان(عليه السلام) مضافاً الى عدم استقباله واكتراثه بتلك الهدايا (قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير ممّا آتاكم )

فما قيمة المال، ازاء مقام النبوّة والعلم والهداية والتقوى (بل أنتم بهديتكم تفرحون ).

[65]

أجلْ، أنتم الذين تفرحون بمثل هذه الزخارف، فيهدي بعضكم لبعض فيشرق وجه تملع عيناه! إلاّ أن هذه الأُمور لا قيمة لها عندي ولا أكترث بها.

وهكذا فقد حقّر سليمان(عليه السلام) معيار القيم عندهم، وأوضح لهم أن هناك معياراً آخر للقيمة تضمحلّ عنده معايير عبدة الدنيا ولا تساوي شيئاً.

ومن أجل أن يريهم سليمان موقفه الحاسم من الحق والباطل، قال لرسول ملكة سبأ الخاص: (ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنّهم منها أذلَّةً وهم صاغرون ).

و (أذلة ) في الحقيقة حال أولى و(هم صاغرون ) حال ثانية، وهما إشارة إلى أن أُولئك لا يُخرجون من أرضهم فحسب، بل بالإذلال والإحقار والصغار بشكل يتركون جميع ممتلكاتهم من قصور وأموال وجاه وجلال... لأنّهم لم يذعنوا ـ ويُسلموا ـ للحق... وإنّما قصدوا الخداع والمكر!

وطبيعي أن هذا التهديد كان تهديداً جديّاً جديراً بأن يؤخذ بنظر الإعتبار بالنسة لرسل ملكة سبأ الذين كانوا عند سليمان!.

ومع ملاحظة ما قرأناه في الآيات السابقة من أنّ سليمان طلب من أُولئك شيئين: ترك الإستعلاء، والتسليم للحق (ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين )وكان عدم إجابتهم لهذين وتوسلهم بالهديّة دليلا على امتناعهم من قبول الحقّ وترك الإستعلاء، ولذلك هدّدهم باستخدام القوة العسكرية.

ولو أنّ ملكة سبأ وقومها طلبوا من سليمان الدليل والمعجزة (على أنّه نبيّ مطاع) لأعطاهم الحق أن يتحروا ويفحصوا أكثر... إلاّ أنّ إرسال الهدية ظاهره أنّهم في مقام الإنكار.

واتضح كذلك أنّ أهمّ خبر مزعج أخبر به الهدهد عن هذه الجماعة «ملكة سبأ وقومها» أنّهم كانوا يعبدون الشمس ويسجدون لها من دون الله الذي له ما في السماوات والأرض فكان سليمان(عليه السلام) قلقاً من هذا الأمر... ومن المعلوم أن عبادة

[66]

الأصنام ليست أمراً هيّناً تسكت عنه الأديان السماوية، أو أن تتحمل عبدة الأصنام على أنّهم أقليّة دينية. بل تستخدم القوّة إذا لزم الأمر وتحطم الأصنام ويطوى الشرك ومريدوه من الوجود!.

وممّا بيّناه من توضيحات آنفاً يظهر أنّه لا تنافي بين تهديدات سليمان والأصل الاساس (لا إكراه في الدين ) لأنّ عبادة الاصنام ليست ديناً، بل هي خرافة وانحراف.

* * *

ملاحظات

1 ـ ممّا ينبغي الإلتفات إليه أن الزهد في الأديان السماوية لا يعني أن  لا يتمتع الإنسان بماله وثرواته وإمكاناته الدنيوية، بل حقيقة الزهد هي أن لا يكون أسير هذه الأُمور.. بل أميراً عليها.. وقد بيّن سليمان هذا النبيّ العظيم بردّه الهدايا الثمينة على ملكة سبأ أنّه أميرَها لا أسيرها.

ونقرأ حديثاً للإمام الصادق(عليه السلام) يقول فيه: «الدنيا أصغر قدراً عند الله وعند أنبيائه وأوليائه من أن يفرحوا بشيء منها، أو يحزنوا عليه، فلا ينبغي لعالم  ولا لعاقل أن يفرح بعرض الدنيا» (1).

2 ـ ومرّة أُخرى نجد في هذا القسم من قصّة سليمان دروساً جديرة بالنظر، خافية في تعابير الآيات الكريمة:

ألف: إن الهدف من تعبئة الجيش ليس قتل الناس، بل أن يرى العدوّ نفسه ضعيفاً قبالها، ولا يرى نفسه قادراً على مواجهة الطرف الآخر: (جنود لا قبل لهم بها ).

وهذا التعبير نظير ما أُمر به المسلمون (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة...

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ تفسير روح البيان ذيل الآية محل البحث.

[67]

ترهبون به عدوّ الله ). (1)

ب ـ إنّ سليمان(عليه السلام) لا يهدد مخالفيه بالقتل، بل يهددهم بالإخراج من القصور أذلة صاغرين، وهذا الأمر جدير بالملاحظة.

ج ـ إنّ سليمان لا يستغفل مخالفيه، بل يحذرهم بصراحة قبل الهجوم.

د ـ إنّ سليمان لا يطمع في أموال الآخرين، بل يقول : «ما آتاني الله خير» فهو لا يرى مواهب الله منحصرة بالقدرة المادية والمالية، بل يفتخر بالعلم والإيمان والمواهب المعنوية!.

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الأنفال، الآية 60.

[68]

الآيات

قَالَ يَـأَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأتُونِى مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيْتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـبِ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَـالَ هَـذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنَ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ (40)

التّفسير

حضور العرش في طرفة عين:

وأخيراً عاد رُسُل ملكة سبأ بعد أن جمعوا هداياهم وأمتعتهم إلى بلدهم، وأخبروا ملكة سبأ بما شاهدوه من عظمة مُلك سليمان(عليه السلام) المعجز وجهازه الحكومي، وكل واحد من هذه الاُمور دليل على أنّه لم يكن كسائر الأفراد  ولا ملكاً كسائر الملوك، بل هو مُرسل من قبل الله حقّاً، وحكومته حكومة إلهية.

وهنا اتّضح لأُولئك جميعاً أنّهم غير قادرين على مواجهته عكسرياً، بل إذا

[69]

استطاعوا ـ فرضاً ـ فهم على احتمال قوي في مواجهة نبيّ عظيم ذي سلطة واسعة!.

لذلك قررت الملكة أن تأتي بنفسها مع أشراف قومها إلى سليمان، ويتفحصوا عن هذه المسألة ليتعرفوا على دين سليمان؟

فوصل هذا الخبر ـ عن أىّ طريق كان ـ إلى سمع سليمان(عليه السلام)، فعزم على اظهار قدرته العجيبة ـ والملكة وأصحابها في الطريق إليه ـ ليعرفهم قبل كل شىء على إعجازه، ليذعنوا له ويسلّموا لدعوته... لذلك التفت إلى من حوله و (قال يا أيّها الملأ أيّكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ).

وبالرغم من أن المفسّرين أتعبوا أنفسهم للوقوف على علّة إحضار عرش الملكة، وربّما ذكروا وجوهاً لا تنسجم مع مفاد الآيات ولا تتناسب وإيّاها!. إلاّ أن من الواضح أنّ هدف سليمان(عليه السلام) من هذه الخطة إنّه كان يريد أن يظهر أمراً مهماً للغاية خارقاً للعادة ليذعنوا له دون قيد، ويؤمنوا بقُدرة الله من دون حاجة إلى سفك الدماء والمواجهة في ساحات القتال.

كان يريد أن ينفذ الإيمان إلى أعماق قلب ملكة سبأ وأشراف قومها، ليستجيب الباقون لدعوته والتسليم لأمره!.

وهنا أظهر شخصان استعدادهما لإمتثال طلب سليمان(عليه السلام)، وكان أمر أحدهما عجيباً والآخر أعجب! إذ (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك )(1). فهذا الامر علي يسير، ولا أجد فيه مشقة، كما أنّي لا أخونك أبداً، لأنّي قادر على ذلك (وإني عليه لقوىّ أمين ).

و«العفريت» ... معناه المارد الخبيث.

وجملة (وإنّي عليه لقوي أمين )المشفوعة بالتأكيدات من عدّة جهات «إنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ كلمة «آتيك» ربّما كانت اسم فاعل مضاف إلى (الكاف) ويمكن أن تكون فعل; مضارعاً من (أتى) إلاّ أن الأحتمال الأوّل يبدو أقرب للنظر!

[70]

والجملة الإسميّة، ولام التوكيد» تشر الى احتمال خيانة هذا العفريت... لذلك فقد أظهر الدفاع عن نفسه بأنه أمين وفىّ.

وعلى كل حال فإنّ قصّة «سليمان» مملوءة بالعجائب الخارقة للعادات  فلا عجب أن يُرى عفريت بهذه الحالة مُبدياً استعداده للقيام بهذه المهمّة خلال سويعات.. وسليمان يقضي بين الناس، أو يتابع أُمور مملكته، أو يقدم نصحه وإرشاده للآخرين.

أمّا الشخص الآخر فقد كان رجلا صالحاً له علم ببعض ما في الكتاب، ويتحدث عنه القرآن فيقول: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ).

فلمّا وافق سليمان(عليه السلام) على هذا الأمر، أحضر عرش بلقيس بطرفة عين بالإستعانة بقوته المعنوية (فلمّا رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر ).

ثمّ أضاف قائلا: (ومن شكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنّ ربّي غني كريم ).

وهناك اختلاف بين المفسّرين وكلام طويل في أن هذا الشخص الذي جاء بعرش الملكة، من كان؟! ومن أين له هذه القدرة العجيبة؟! وما المراد (عنده علم من الكتاب

إلاّ أنّ الظاهر أنّ هذا الشخص هو أحد أقارب سليمان المؤمنين وأوليائه الخاصين، وقد جاء اسمه في التواريخ بأنه (آصف بن برخيا) وزير سليمان وابن أخته(1).

وأمّا «علم الكتاب» فالمراد منه معرفة ما في الكتب السماوية... المعرفة العميقة التي تمكّنه من القيام بهذا العمل الخارق للعادة!

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ وما قاله بعضهم بأنه سليمان أو جبرئيل فلا دليل عليه... وكونه سليمان نفسه (فهو) مخالف لظاهر الآيات قطعاً!

[71]

وقال بعضهم: يُحتمل أن يكون المراد من (علم الكتاب) هو اللوح المحفوظ الذي علم الله بعضه ذلك الرجل «آصف» ولذلك استطاع أن يأتي بعرش ملكة سبأ بطرفة عين، ويحضره عند سليمان!.

وقال كثير من المفسّرين: إنّ هذا الرجل المؤمن كان عارفاً بالاسم الأعظم، ذلك الاسم الذي يخضع له كل شيء، ويمنح الإنسان قدرة خارقة للعادة!.

وينبغي القول أن «الاسم الأعظم» ليس كما يتصوره الكثير بأنّ مفهومه أن يتلفظ الإنسان بكلمة فيكون وراءها الأثر العجيب، بل المراد منه التخلق بذلك الاسم والوصف، أي على الإنسان أن يستوعب «الاسم» في نفسه وروحه، وأن يتكامل علمه وخلقه وتقواه وإيمانه إلى درجة يكون بها مظهراً من مظاهر ذلك الاسم الأعظم، فهذا التكامل المعنوي والروحاني (بواسطة الاسم الأعظم) يوجد في الإنسان مثل هذه القدرة الخارقة للعادة(1).

كما أنّ للمفسّرين في جملة (قبل أن يرتد إليك طرفك ) لكن بملاحظة الآيات الاُخر من القرآن يمكن معرفة حقيقتها... ففي الآية (43) من سورة إبراهيم نقرأ: (لا يرتد إليهم طرفهم ).

ونحن نعرف أن الإنسان عندما يستوحش ويذهل، تبقى عيناه مفتوحتان على وتيرة واحدة كأنّهما عينا ميت لا تتحركان.

فبناءً على ذلك فالمراد منه أنّني سأحضر عرش ملكة بلقيس قبل أن يتحرك جفناك(2).

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ كان لنا في ذيل الآية (180) من سورة الأعراف بحث في شأن الاسم الأعظم، فلا بأس بمراجعته.

2 ـ ما يقوله بعضهم: إن المراد من (يرتد إليك طرفك) هو إلقاء النظرة على شيء ما وعودة النظرة للإنسان  لا  دليل عليه، كما أن هذا التعبير لا يكون شاهداً على النظرية القائلة بخروج الشعاع من العين الواردة في الفلسفة ـ القديمة.

[72]

مسائل مهمة:

1 ـ الجواب على بعض الاسئلة

من الأسئلة ـ التي تثار حول الآيات آنفة الذكر ـ هذا السؤال: لِمَ لَم يقدم سليمان بنفسه على هذا العمل الخارق للعادة؟ فهو نبىّ كريم من قبل الله وذو معاجز! فلم حوّل هذا الأمر إلى «آصف بن برخيا» ؟!

لعل الوجه في ذلك أن آصف كان وصيّه، وكان سليمان يريد أن يبيّن موقعه في هذه اللحظة الحساسة للجميع(1).

إضافة إلى ذلك فإن من المهم أن يختبر الأستاذ تلاميذه في الموارد اللازمة ويعرف جدارتهم، وأساساً فإنّ جدارة التلاميذ دليل كبير على جدارة الأستاذ. السؤال الآخر هو: كيف جاء سليمان بعرش ملكة سبأ وأحضره عنده دون إذنها؟.

فيقال: لعل ذلك لبيان هدف أسمى، كمسألة الهداية وبيان معجزة كبيرة. ثمّ بعد هذا كله فإننا نعرف أن الملوك ليس لهم مال من أنفسهم، بل أموالهم في الغالب مغصوبة من الآخرين!.

السؤال الآخر: كيف تكون لعفريت من الجن القدرة على أمر خارق للعادة كهذه الحادثة؟!

وقد بيّنا الجواب على هذا السؤال في الأبحاث المتعلقة بالإعجاز، فقلنا: إن من الناس حتى غير المؤمنين من تكون له قدرة على بعض الأُمور الخارقة للعادة (وذلك للرياضة المجهدة ومجاهدة النفس) إلاّ أن الفرق بين ما يقومون به ممّا يخرق العادة وبين المعجزة هو أنّه لما كانت أعمالهم مستندة إلى قدرة بشرية محدودة... فهي «أعمالهم الخارقة للعادة» محدودة دائماً، في حين أن المعاجز

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ هذا الجواب نفسه أجاب به الإمام الهادي يحيى بن أكثم كما جاء في رواية عن تفسير العياشي ذيل الآية محل البحث.

[73]

تستند إلى قدرة الله التي لا نهاية لها، وقدرته كسائر صفاته غير محدودة!.

لذلك نرى أن العفريت من الجن يحدّد قدرته ـ على فترة بقاء سليمان في مجلس القضاء والتحقيق في أُمور البلد، ليأتيه بعرش ملكة سبأ، في حين أنّ آصف بن برخيا لم يحدد قدرته، وتحديدها بارتداد الطرف هو في الحقيقة إشارة إلى أدنى فترة زمنية ممكنة... ومن المسلم به أن سليمان(عليه السلام) يشجع الاعمال التي تبيّن للناس الاشخاص الصالحين، ويباركها، لا عمل العفريت الذي قد يوقع العوام والبساط في الوهم، فيعدونه دليلا على تقواه وطهارته!.

وبديهي أن أىّ إنسان يقوم بعمل مهم في المجتمع ويكون عمله مقبولا فانّ أفكاره ومعتقداته ستتجذّر وتتحدّد في المجتمع بذلك «العمل» فلا ينبغي أن يأخذ العفاريت زمام المبادرة في حكومة سليمان الإلهية، بل ينبغي أن يقوم به من عندهم علم من الكتاب ليؤثروا على أفكار الناس وعواطفهم.

2 ـ القوة والأمانة شرطان مهمان

جاء في الآيات المتقدمة ـ والآية (26) من سورة القصص ـ أن أهم شرط للعامل أو الموظف شيئان: الأوّل القوة، والثّاني الأمانة!.

وبالطبع فإنّ المباني الفكرية والأخلاقية قد تقتضي أن يكون الإنسان حاوياً على هاتين الصفتين «كما هي الحال في شأن موسى الوارد ذكره في سورة القصص» وقد يقتضي نظام المجتمع والحكومة الصالحة أن يتصف بهاتين الصفتين حتى العفريت من الجن إلزاماً.. ولكن ـ على كل حال ـ فليس من الممكن القيام بأي عمل كبير أو صغير في المجتمع دون توفر هاتين الصفتين... سواءً كان مصدرهما «التقوى» أو «النظام القانوني».. «فتأملّوا بدقة».

3 ـ الفرق بين «علم من الكتاب» و «علم الكتاب»

[74]

جاء التعبير في الآيات ـ محل البحث ـ عن الذي أتى بعرش ملكة سبأ في أدنى مدّة «وبطرفة عين» بـ (من عنده علم من الكتاب ) بينما جاء في الآية (43) من سورة الرعد في شأن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن يشهد على حقانيته (قل كفى بالله شهيداً بين وبينكم ومن عنده علم الكتاب ).

في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: سألت رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن (الذي عنده علم من الكتاب ) الوارد في قصّة سليمان، فقال(صلى الله عليه وآله): هو وصي أخي سليمان بن داود، فقلت: والآية (ومن عنده علم الكتاب ) عمن تتحدث؟ فقال(صلى الله عليه وآله): ذاك أخي علي بن أبي طالب(عليه السلام)(1).

والإلتفات إلى الفرق بين «علم من الكتاب» الذي يعني «العلم الجزئي» و (علم الكتاب) الذي يعني «العلم الكلي»، يكشف البون الشاسع بين آصف وعلي(عليه السلام).

لذلك نقرأ في روايات كثيرة أنّ الاسم الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً إنّما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالارض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثمّ عادت الارض كما كانت أسرع من طرفة عين ـ كان «حرف» واحد منه عند «آصف بن برخيا» وقام بمثل هذا العمل الخارق للعادة ـ وعندنا نحن الائمّة من أهل البيت ـ اثنان وسبعون حرفاً، وحرف واحد عند الله تبارك وتعالى استأثر به في علم الغيب عنده(2).

4 ـ هذا من فضل ربّي

إن عبدة الدنيا وطُلاّبها المغرورين حين ينالون «القوّة» والإقتدار ينسون كل

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ نقل هذا الحديث جماعة من المفسّرين وعلماء السنة بالعبارة ذاتها أو ما يقرب منها، ولمزيد الإيضاح يراجع الجزء الثّالث من إحقاق الحق، ص 280 و 281.

2 ـ راجع اصول الكافي وتفسير نور الثقلين، ج 4، ص 90.

[75]

شيء إلاّ أنفسهم.. وكل ما يقع في أيديهم يحسبونه من عند أنفسهم لا من غيرهم، كما كان قارون يقول: (إنّما أوتيته على علم عندي ).. في حين أن عباد الله وخاصّته كلما نالوا شيئاً قالوا: (هذا من فضل ربّي )..

الطريف أن سليمان(عليه السلام) لم يقل هذا الكلام عندما شاهد عرش ملكة سبأ عنده فحسب، بل أضاف قائلا: (ليبلوني أأشكر أم أكفر ).

وقرأنا في هذه السورة ـ من قبل ـ أن سليمان(عليه السلام) كان يرى جميع النعم التي يتمتع بها من نعم الله عليه، وكان يدعو ربّه خاضعاً فيقول: (ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه )!

أجل.. هذا هو معيار معرفة الموحدين المخلصين من عبدة الدنيا المغرورين.. وهذه سيرة الرجال العظماء في قبال غيرهم من الأنانيين!.

وبالرغم من أنّه اعتيد كتابة هذه العبارة المهمة (هذا من فضل ربّي ) من قبل المتظاهرين بالشكر على أبواب قصورهم «الطاغوتية» دون أن يعتقدوا بذلك أو يكون أدنى أثر من هذه العبارة في عملهم.. إلاّ أن المهم هو أن تكتب على الباب وعلى جبين حياة الإنسان وفي قبله... أيضاً، وأن يكشف عمله أن كل ذلك من فضل الله.. وأن يشكره عليه، لا شكراً باللسان فحسب، بل شكراً مقروناً بالعمل وفي جميع وجوده(1).

5 ـ كيف أحضر «آصف» عرش الملكة؟!

لم يكن هذا (الأمر) أوّل خارق للعادة نراه في قصّة سليمان(عليه السلام)، أو في حياة الأنبياء بشكل عام.. وعلى من يحمل هذه التعبيرات على الكناية والمجاز، ولا يوخذ بظاهرها، أن يبينوا موقفهم من معاجز الأنبياء.

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ كان لنا بحث مُفصّل في أهميّة الشكر، وتأثيره على زيادة النعمة، وأقسام الشكر «التكويني والتشريعي» في ذيل الآية السابقة من سورة إبراهيم.

[76]

ترى هل يرون الأعمال الخارقة للعادة للانبياء وخلفائهم محالا، وينكرونها كليّاً؟! فهذا ما لا ينسجم مع أصل التوحيد، ولا مع قدرة الله الحاكمة على قوانين الوجود، ولا ينسجم مع صريح القرآن في آيات كثيرة.. أيضاً.

أمّا إذا قبلوا بإمكان المعاجز، فلا ينبغي أن يفرقوا بين أن يكون البحث عن إحياء الموتى وإبراء العمي من قبل «عيسى بن مريم»(عليه السلام)، أو عن إحضار عرش ملكة سبأ من قبل آصف بن برخيا.