فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها، ودخل حبّه في قلوب الجميع، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية».. وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(1).

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و«مجمع البيان».

[185]

في هذا الصدد: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً ).

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضاً..

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدواً لدوداً، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة..كان ما كان وحدث ما حدث.. وكما يقول علماء الأدب: إنّ اللام في الآية هنا (فالتقطه آل فرعون ليكون.. ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ ابنائهم.

والتعبير ـ ضمناً ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحداً، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول: (إنّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ).

كانوا خاطئين في كل شيء، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسى(عليه السلام)، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم: خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(1)

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ يقول الراغب في مفرداته: إن الفرق بين «الخاطىء» «والمخطىء» هو أنّ الخاطىء هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه..

أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته، إلاّ أنّه يخطيء في الاثناء صدفة، فيتلف العمل.

[186]

ويستفاد من الآية التالية أن شجاراً حدث ما بين فرعون وامرأته، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد: (وقالت امرأة فرعون قرّة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً.. ).

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأُخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل، وأن زوال ملكه على يده، فجثم كابوسٌ ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة، وقالوا: ينبغي أن يذبح هذا الطفل، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولداً ذكراً، ولم يكن قلبها منسوجاً من قماش عمال قصر فرعون، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا: (وهم  لا  يشعرون! ).

أجل، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطراً... ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة،  ولا يمكن مخالفتها أبداً..

* * *

[187]

ملاحظة

تخطيط الله العجيب..

إظهار القدرة.. ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوماً جبارين، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض، فيهلكهم ويدمرهم تدميراً.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم، وأن يصنعوا لأنفسهم سجناً يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!..

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّاً.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيراً فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

[188]

الآيات

وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسَى فـرِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لاُِخْتِهِ قُصِّيْهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُب وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْت يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَـصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَـهُ إِلى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (13)

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أُمّه:

في هذه الآيات تتجسدُ مشاهد جديدة.. فأمُّ موسى التي قلنا عنها: إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل، بحسب ما فصّلنا آنفاً.. اقتحم قلبها طوفان شديدٌ من الهمّ على فراق ولدها، فقد اصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خالياً وفارغاً منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها و تذيع جميع أسرارها، لكن لطف الله تداركها، وكما يعبّر القرآن الكريم (وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ).

[189]

«الفارغ» معناه الخالي، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خالياً من كل شيء إلاّ من ذكر موسى.. وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها  أُم موسى من قبل، ولكن مع الإلتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماماً أنّ أُمّاً تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلاّ ولدها الرضيع، ويبلغ بها الذهول درجةً لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أُم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله، ولتعلم أنّه بعين الله، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّاً.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظاً في مكانه، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط: الحفظ والتقوية والإستحكام، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته.. أي تثبيت قلب أم موسى، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالإطمئنان، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره (وقالت لأخته قصّيه ).

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصَّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء، وإنّما سميّت القصّة قصّةً لأنّها تحمل في طياتها أخباراً مختلفة يتبع بعضها بعضاً.

فاستجابت «أُخت موسى» لأمر أمّها، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة، حتى بصرت به من مكان بعيد، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

[190]

آل فرعون.. ويقول القرآن في هذا الصدد: (فبصرت به عن جنب ).

ولكن أُولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه (وهم لا يشعرون ).

قال البعض: إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثاً عن مرضعة له، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه، فرأت - من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه  آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أُخرى لجملة (وهم لا يشعرون ) أيضاً.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن فرعون جاهل بالاُمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تُقهر!؟.

وعلى كل حال، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أُمّه عاجلا ليطمئن قلبها، لذلك يقول القرآن الكريم: (وحرمنا عليه المراضع من قبل )(1).

وطبيعيٌ أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي  ولا يطيق تحمل الجوع، فيجب البحث عن مرضع له، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثاً عن مرضع له، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات، أو أنّه لم يكن يتذوق

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ «المراضع» جمع «مُرضِع» على زنة «مُخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها، وقال البعض: (المراضع) جمع (مَرضَع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع، أي، «الأثداء» وقال البعض: يحتمل أن تكون الكلمة جمعاً للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو..

[191]

ألبانهن، إذ يبدو لبن كلٍّ منهن مرّاً في فمه، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعاً.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أُخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثاً عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاءً وضجيجاً، ومازال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتاً أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل، فقالت: (هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ).

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبناً، وقلب طافح بالمحبّة، وقد فقدت وليدها، وهي مستعدةً أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسرّ بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون، فلمّا شمّ الطفل رائحة أُمّه التقم ثديها بشغف كبير، وأشرقت عيناه سروراً، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم، وامرأة فرعون هي الأُخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضاً.

ولعلهم قالوا للمرضع: أين كنت حتى الآن، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّةً.. فليتك جئت قبل الآن، فمرحباً بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات: حين استقبل موسى ثدي أُمّه، قال هامان وزير فرعون لأم موسى: لعلك أُمّه الحقيقية، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك، فقالت: أيّها الملك، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب، لم يأتي طفل رضيع إلاّ قبل بي، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(1).

ونقرأ في هذا الصدد حديثاً قال الراوي: فقلت للإمام الباقر(عليه السلام) ; فكم مكث موسى غائباً من أُمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 24، ص 231.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 116.

[192]

وقال بعضهم: هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام.. الملوّثة بأموال السرقة، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أُمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله (فرددناه إلى أُمّه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (1)).

هنا ينقدح سؤال مهم وهو: هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أُمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليلٌ قوي لأيٍّ من الإحتمالين، إلاّ أن الإحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضاً، وهو: هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة، أم أنّه حافظ على علاقته بأُمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم: أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته، وتربى موسى عندهما، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسى(عليه السلام) بعد بعثته (ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين؟! )(2)، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسى(عليه السلام) بقي مع كمال الإحترام في

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «74» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

2 ـ الشعراء، الآية 18.

[193]

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ، إلاّ أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(1).

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لما ورد في نور الثقلين، ج 4، ص 117.

[194]

الآيات

وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءَاتَيْنَـهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِى الْـمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَة مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِن شِيعَتِهِ وَهَذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَـثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضى عَلَيْهِ قَالَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطـنِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ (15)قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِر لَى فَغَفَرَ لَهُ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ (17)

التّفسير

موسى (عليه السلام) وحماية المظلومين:

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسى(عليه السلام) وما جرى له مع فرعون، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية (ولمّا بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً

[195]

وكذلك نجزي المحسنين ).

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين:

فقال بعض المفسّرين: المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية، وغالباً ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر.. أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة، وغالباً ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم: إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) في كتاب معاني الأخبار قال: فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال: «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى، التحى» (1).

وليس بين هذه التعابير فرق كبير، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير (كذلك نجزي المحسنين ) فيدل بصورة جليّة على أن موسى(عليه السلام)كان جديراً بهذه المنزلة، نظراً لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما.. لأنّ موسى(عليه السلام) يومئذ لم يبعث بعد، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّاً.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 117.

[196]

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك، وقد منح الله هذه الأُمور لموسى(عليه السلام) لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفاً.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسى(عليه السلام) لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. رغم أنّ جزئيات تلك الاعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى (دخل المدينة على حين غفلة من أهلها ).

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق.. لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر.. وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسى(عليه السلام) على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوماً بعد يوم حتى بلغت أوجها، حُكم عليه بالتبعيد عن العاصمة.. لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضاً، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون.. لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة (على حين غفلة من أهلها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم، ولا تُراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم: هو أوّل الليل، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم، وجماعة يذهبون للتنزه، وآخرون لأماكن أُخرى.. هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبي(صلى الله عليه وآله) في هذا الشأن يقول: «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

[197]

وقدورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء» (1).

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيراً ما تحدث الجنايات والفساد والإنحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل.. فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل، ولا هم نائمون، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادةً، وتنشط مراكز الفساد أيضاً في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال، موسى دخل المدينة، وهنالك واجه مشادّة ونزاعاً، فاقترب من منطقة النزاع (فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه ).

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه ).

فجاءه موسى(عليه السلام) لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم.. الذي يقال عنه أنّه كان طباخاً في قصر فرعون، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره، فهوى إلى الأرض ميتاً في الحال تقول الآية: (فوكزه موسى فقضى عليه )(2).

وممّا لا شك فيه، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضاً.. ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل،

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ وسائل الشيعة، ج 5، ص 249 [ باب 20 من أبواب الصلوات المندوبة] .

2 ـ «وكز» مآخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد، وهناك معان اُخرى لا تناسب المقام..

[198]

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسى(عليه السلام) أسف على هذا الأمر (قال هذا من عمل الشيطان إنّه عدوّ مبين ).

وبتعيبر آخر: فإنّ موسى(عليه السلام) كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسى(عليه السلام) إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسى(عليه السلام) فيقول: (قال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم ).

ومن المسلم به أنّ موسى(عليه السلام) لم يصدر منه ذنب هنا، بل ترك الأولى، فكان بنبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسى(عليه السلام) حين نجا بلطف الله من هذا المأزق (قال ربّ بما أنعمت على ) من عفوك عني وانقاذي من يد الاعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن (فلن أكون ظهيراً للمجرمين ). ومعيناً للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين، ويريد موسى(عليه السلام) أن يقول: إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبداً.. بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى، إلاّ أن هذا الإحتمال بعيد جدّاً، حسب الظاهر.

* * *

[199]

مسألتان

1 ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفاً للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مُذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة.. لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسى(عليه السلام) التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول: (هذا من عمل الشيطان ).

وفي مكان آخر يقول: (ربّي إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي ).

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة، وهو أن ما صدر من موسى(عليه السلام) هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي، فلم يحتط، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمراً هيناً حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأُولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتاً، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدم(عليه السلام) التي تقدم شرحه في ذيل الآية (19) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في تفسير الآيات

[200]

المتقدمة:

«قال هذا من عمل الشيطان» يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله «إنّه» يعنى الشيطان «عدوّ مضل مبين» ـ وأمّا المراد من جملة ـ «ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفرلي» يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فاغفرلي» أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني...». (1)

2 ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام:

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و«معاونة الظلمة» وتدل على أن واحداً من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين، وتكون سبباً لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساساً فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّاً كان هم أفراد معدودون، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة، فهؤلاء القلّة المتفرعنون.. إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعاً، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى: (وتعاونوا على البرّ والتقوى  ولا  تعاونوا على الإثم والعدوان ).

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ عيون أخبار الرضا طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج4، ص119.

[201]

فتمسكم النّار ).(1)

وسواء كان «الرّكون» هنا بمعنى الميل القلبي، أو بمعنى الإعانة الظاهرية، أو إظهار الرضا والمحبّة، أو طلب الخير لهم.. هذه المعاني التي ذكرها المفسّرين «للركون» يجمعها مفهوم جامع لها، وهو الإتكاء والاعتماد والتعلق وما إلى ذلك، وهذا المفهوم شاهد حي على مقصودنا.

ونقرأ في هذا الصدد حديثاً للإمام على بن الحسين(عليه السلام) مع «محمّد بن مسلم الزهري» الذي كان رجلا عالماً، إلاّ أنّه كان يتعاطف ويتعاون مع الجهاز الأموي ولا سيما مع هشام بن عبد الملك، يحذّره الإمام في حديثه هذا من إعانة الظالمين والركون إليهم، وهو حديث مثير جدّاً.. وقد جاء فيه: «أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، سلّماً إلى ظلالتهم، داعياً إلى عينهم سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذو منك، وما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك! فانظر لنفسك فإنّه لا ينظر إليها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول» (2).

والحقّ أنّ هذا المنطق البليغ المؤثر للإمام(عليه السلام) لكل عالم من وعّاظ السلاطين مرتبط بالظالمين راكن إليهم، يمكن أن يبصّره بمصيره المشؤوم عاقبته المخزية.

ويذكر ابن عباس أن آية (ربّ بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين )من جملة الآيات التي تؤكّد على أن الركون للمجرمين ذنب عظيم، وإعانة المؤمنين إطاعة لأمر الله سبحانه.

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ سورة هود، الآية 114.

2 ـ تحف العقول، ص 66.

[202]

قالوا لبعض العلماء: إنّ فلاناً أصبح كاتباً للظالم الفلاني، ولا يكتب له إلاّ الدخل والخرج. وحياته وحياة عائلته مرهونة بما يحصل عليه من مال لقاء هذا العمل، وإلاّ فسيقع هو وأُسرته في فقر مدقع.

فكان جواب هذا العالم: أمّا سمع قول العبد الصالح «موسى» (ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين )(1).

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ كان لنا بحثان مستوفيان في مجال إعانة الظالمين في ذيل الآية (2) من سورة المائدة وذيل الآية (112) من سورة هود، فلا بأس بمراجعتهما.