فلسنا أهلا للكلام البذيء، ولا أهلا للجهل والفساد، ولا نبتغي ذلك، إنّما

[256]

نبتغي العلماء وأصحاب الضمائر الحيّة والعاملين المؤمنين الصادقين.

وعلى هذا فبدلا من أن يهدروا قواهم في مواجهة الجاهلين عُمي القلوب وأهل الكلام البذي، يمرون عليهم كراماً ليؤدوا أهدافهم ومناهجهم الأساسية.

الجدير بالذكر أنّ هؤلاء حين يواجهون الجاهلين، لا يسلّمون عليهم سلام تحية واستقبال، بل سلام وداع.

* * *

ملاحظة!

القلوب المهيّأة للإيمان:

رسمت الآيات المتقدمة للقلوب التي تقبّلت بذور الإيمان رسماً جميلا وبليغاً.

فهي ليست من نسيج الأشخاص الانتهازيين الذين ملئت قلوبهم من التعصب والجهل، والكلام البذيء السيء الفارغ، والبخل والحقد، وما إلى ذلك!!.

إنّ هؤلاء العظماء من الرجال والنساء حطموا قبل كلّ شيء القيود التي فرضها التقليد الأعمى، ثمّ أصغوا بكلّ دقّة إلى نداء التوحيد، وحين وجدوا الدلائل الحقة بقدر كاف استجابوا له!.

ولا شكّ أن على هؤلاء أن يدفعوا ثمناً غالياً، لأنّهم خرجوا عن طوق التقليد الأعمى وحطموا أغلاله، وتحرروا عن محيطهم المنحرف، وعليهم أن يتحملوا الكثير من المشاكل والمتاعب في هذا السبيل ولكنّهم يتمتعون بصبر واستقامة في سبيل هدفهم الكبير ما يعينهم على تحمل تلك الشدائد والمصاعب..

فهؤلاء ليسوا حاقدين، ولا يردون السوء بالسوء، ولا هم بخلاء ولا خسيسون، ليجعلوا المواهب الإلهية خاصة بهم!.

إنّهم أناس عظام بعيدون عن الكذب والإنشغال غير الصحيح، والكلام

[257]

الفارغ الركيك، والمزاح وغيره.

لهم ألسنة طيبة وقلوب أطيب، ولا يضيعون طاقاتهم في الردّ على الجهلاء.. بل في كثير من الأحيان يفضلون السكوت على الكلام والردّ على الجهّال!.

ويفكرون في أعمالهم ومسؤولياتهم، ويمضون كأنهم الظماء إلى النبع. الظماء إلى العلم والمتشوّقون لحضور مجالس العلماء والفقهاء.

أجل هؤلاء العظام هم الذين يستطيعون أن يستوعبوا رسالة الإيمان في نفوسهم، ليؤتوا أجرهم.. لا مرّة واحدة، بل يؤتيهم الله أجرهم مرّتين بما صبروا!.

هؤلاء أمثال سلمان الفارسي والنجاشي وبحيرا الراهب الذين هم في خط واحد وفي جبهة واحدة، والذين بذلوا جهداً وقاوموا أنواع الصعاب ليصلوا إلى معنى «الإيمان».

ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثاً للإمام الصادق(عليه السلام) في هذا الصدد يقول: «نحن صُبر وشيعتنا أصبر منّا وذلك أنا صبرنا على ما نعلم وصبروا على ما لا يعلمون»

تأملوا لو أن شخصين من المؤمنين توجها إلى ميدان الجهاد، أحدهما يعلم بانتهاء الأمر وأن عاقبة جهاده النصر، والآخر لا يعلم، ألا يكون صبر الثّاني أكثر من صبر الأول؟!.

أو نقول ـ مثلا ـ أنّ القرائن تدل على أن كلا منهما سيشرب من كأس الشهادة، لكن أحدهما يعلم ما في شهادته من أسرار خفية وماذا ستحرك من أمواج على مدى الأعصار والقرون المتمادية، وأنّه سيكون أسوة وقدوة للأحرار... أمّا الثّاني فلا يعرف شيئاً عن ذلك، فلا شك أن الثّاني أصبر من الأوّل في هذا الصدد.

وفي حديث آخر ورد في تفسير علي بن ابراهيم قال: «اللغو» الكذب، «اللهو» الغناء، والمعرضون عن اللغو و«المتقون» هم الأئمّة(عليهم السلام) يعرضون عن

[258]

ذلك كلّه(1).

وواضح أنّ الحديثين من قبيل المصداق البارز، وإلاّ فإنّ مفهوم «اللغو» أوسع ويشمل غير ما ذكرنا، و«المعرضون عن اللغو» أيضاً هم جميع المؤمنين الصادقين، وإن كان الأئمّة(عليهم السلام) في طليعتهم!

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ تفسير القمي، ج 2، ص 142.

[259]

الآيتان

إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بَالْمُهْتَدِينَ(56) وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرتُ كُلِّ شَىْء رِّزْقاً مِّنْ لَّدُنَّا وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُم لاَ يَعْلَمُونَ(57)

التّفسير

الهداية بيد الله وحده!..

بالرغم من أن بحوثاً كثيرة وروايات وردت في الآية الأُولى من هاتين الآيتين المتقدمتين وشأن نزولها، إلاّ أنّها ـ كما سنرى ـ روايات غير معتبرة  ولا قيمة لها، حتى كأنّها رويت لأغراض ومقاصد خاصّة، ولذلك رأينا أن نفسّر الآية من القرآن نفسه ثمّ نعالج الرّوايات المشكوكة أو المجعولة.

ومع الإلتفات إلى أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن طائفتين: طائفة من مشركي أهل مكّة المعاندين، كان رسول(صلى الله عليه وآله) شديد الإصرار على هدايتهم، لكنّهم لم يهتدوا ولم يذعنوا لنور الإيمان. وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدين عن مكّة، تلقوا هداية الله برحابة صدر وبعشق وضحوا في سبيل الإسلام، وآثروا

[260]

على أنفسهم مصلحة الإسلام، ولم يكترثوا بعناد قومهم الجاهلين الأنانيين، ولم يستوحشوا من الضغوط والعزلة وما إلى ذلك!.

فمع الإلتفات إلى كل هذه الأُمور، نلاحظ أن الآية الأُولى من هاتين الآيتين تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).

فالله يعلم من هم الجديرون بالإيمان.. وأيّة قلوب تطلب الحقّ وهو يعرف العاشقين له.

أجل، هو يعرف هؤلاء ويوفقهم بلطفه ليسيروا نحو الإيمان.

أمّا الذين أظلمت قلوبهم وساءت سيرتهم وعادوا الحق في الخفاء ونهضوا بكل ماعندهم من قوة بوجه رسل الله، وقد تلوثت قلوبهم في حياتهم إلى درجة لم يكونوا جديرين بنور الإيمان فالله سبحانه لا يضع مصباح التوفيق في طريقهم أبداً.

إذن، وبناءً على ما تقدم، ليس المقصود من الهداية«إراءة الطريق»، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النّبي(صلى الله عليه وآله)، وتشمل جميع الناس دون استثناء، بل المقصود من الهداية هنا هو «الإيصال للمطلوب والهدف»، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد الله وحده، الذي يغرس الإيمان في القلوب، وليس هذا العمل اعتباطاً ودون حساب، فهو تعالى ينظر إلى القلوب المهيأة والمستعده ليهبها نور السماء!

وعلى كل حال، فإنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النّبي ليطمئن إلى هذه الحقيقة، وهي إنّه لا إصرار المشركين وعنادهم وإن كانوا من أهل مكّة، ولا إيمان أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الراهب من دون دليل وسبب.

فعليه أن لا يكترث لعدم إيمان الطائفة الأولى، فإن الله يقذف نوره في

[261]

القلوب المهيأة للنور ويبسط عليها خيمته!.

ونظير هذا المضمون كثير في آيات القرآن!.

إذ نقرأ في الآية (272) من سورة البقرة قوله تعالى: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء).

وفي الآية (37) من سورة النمل (أن تحرص على هداهم فإنّ الله لا يهدي من يُضلّ).

وفي الآية (43) من سورة يونس (أفأنت تهدي العمي ولو كانوا  لا يبصرون).

كما نقرأ أيضاً في الآية (4) من سورة إبراهيم ما هو بمثابة القانون العام (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم).

فالآية الأخيرة تدلّ دلالة واضحة على أن المشيئة الإلهية في شأن هاتين الطائفتين «جماعة الهدى وجماعة الضلال» ليست دون حساب، بل هي طبقاً للجدارة واللياقة وسعي الأفراد أنفسهم... فالله يهب توفيقه على هذا الأساس، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويسلب الهدى ممن يشاء فيضلون السبيل.

وفي الآية الثّانية ـ من الآيتين محل البحث ـ يتحدث القرآن الكريم عن طائفة اعترفوا بالإسلام في واقعهم وأيقنت به قلوبهم، إلاّ أنّهم لم يظهروا إيمانهم بسبب منافع شخصية وملاحظات ذاتية، حيث يقول: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا)(1).

ورد في كتب التّفسير أن الذي قال: (إن نتبع الهدى معك) الخ.. هو «الحارث بن نوفل»، حيث قال للنّبي(صلى الله عليه وآله): إنّنا نعرف أن ما تقوله حق، لكن الذي يمنعنا من اتباعك والإيمان بك، خوفنا من هجوم العرب علينا ليطردونا من

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ كلمة «معك» في الآية الآنفة متعلقة بـ «نتبع»، ويحتمل أن تكون كلمة «معك»متعلقة بـ «الهدى» ويكون التفاوت في المعنى يسيراً..

[262]

أرضنا، ولا طاقة لنا على ردّهم(1).

هذا الكلام لا يقوله إلاّ من يستضعف قدرة الله ويرى أن قدرة حفنة من العرب الجاهليين عظيمة!! وهذا الكلام لا يصدر إلاّ من قلب لا يعرف عناية الله وحمايته، ولا يعرف كيف ينصر الله أولياءه ويخذل أعداءه، لذلك يقول القرآن ردّاً على مثل هذه المزاعم (أو لم نمكّن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء(2)ولكن أكثر هم لا يعلمون).

الله الذي جعل هذه الأرض المالحة والمليئة بالصخور والخالية من الأشجار والأنّهار، جعلها حرماً تهفوا إليه القلوب، ويؤتى إليه بالثمرات من مختلف نقاط العالم، كل ذلك بيد قدرته القاهرة.

فإنّ من له هذه القدرة على اقرار «الامن» وجبابة «النعم» إلى هذا المكان وهؤلاء يرون ذلك بأعينهم، كيف لا يكون قارداً على أن يحفظكم من هجوم حفنة من الجاهليين عبّاد الأوثان؟!

فقد كنتم في زمان الكفر مشمولين بنعمتي الله العظيمتين «الأمن والمواهب المعاشية» فكيف يمكن أن يحرمكم الله منهما بعد الإسلام؟!

لتكن قلوبكم قوية وآمنو بما اُنزل اليكم فإنّ ربّ الكعبة وربّ مكّة معكم.

هنا، ينقدح هذا السؤال، وهو: إن التأريخ يدل على أن حرم مكّة لم يكن آمنا للمسلمين للغاية، ألم تعذب طائفة من المسلمين في مكّة؟ ألم يرموا النّبي(صلى الله عليه وآله)بالأحجار الكثيرة؟! ألم يقتل بعض المسلمين في مكّة؟! ألم يهاجر جماعة من المسلمين من مكّة مع جعفر بن أبي طالب(رضي الله عنه) وجماعة آخرون مع النّبي(صلى الله عليه وآله) آخر الأمر لعدم الأمن في مكّة؟!

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ مجمع البيان ـ ذيل الآية محل البحث...

2 ـ «يجبى» مشتق من مادة «جباية» [«ونمكن» في الآية بمعنى نجعل] والجبابة معناها الجمع، لذلك يطلق على الحوض الذي يجمع فيه الماء جابية...ونصبُ كلمة «حرم» على أنّها مفعول لنمكن.

[263]

فنقول جواباً على ذلك:

أوّلا: مع جميع هذه الأُمور ما تزال مكّة أكثر أمناً من النقاط الأُخرى.. وكان العرب يحترمونها ويقدسونها، وبالرغم من أنّهم كانوا يقدمون على جرائم متعددة في أماكن أُخرى، إلاّ أنّهم كانوا يحجمون عن الإتيان بمثلها في مكّة.

والخلاصة: فمع عدم الأمن العام والكلي كانت مكّة تتمتع بالامن النسبي ولاسيما أن الأعراب خارجها كانوا يراعون أمنها وقداستها.

ثانياً: صحيح أن هذه الأرض التي جعلها الله حرماً آمناً أضحت لفترة وجيزة غير آمنة على أيدي جماعة... إلاّ أنّها سرعان ما تحولت إلى مركز كبير للأمن وتواتر النعم الكثيرة المتعددة، فعلى هذا لم يكن تحمل هذه الصعاب المؤقتة من أجل الوصول للنعم العظيمة، أمراً عسيراً ومعقداً.

وعلى كل حال، فإنّ كثيراً ممن يقلقون على منافعهم الشخصية، كالحارث بن نوفل، لا يسلكون سبيل الهداية والإيمان... في حين أنّ الإيمان بالله والتسليم لأمره، لايؤمن المنافع المعنوية لهم فحسب، بل يؤمن لهم المحيط الصحيح والمنافع المادية المشروعة وما إلى ذلك. وعدم الأمن والغارات والحروب التي نجدها في عصر التمدن ـ كما يصطلح عليه ـ وفي الدنيا البعيدة عن الإيمان والهداية، كل هذه الأُمور شاهد حي على هذا المدّعى!.

ومن الضروري الإلتفات إلى هذه النقطة الأساسية، وهي أنّ الله سبحانه أوّل ما يذكر من نعمه نعمة الأمن، ثمّ يذكر جلب الثمرات والأرزاق وغير ذلك من جميع الأنحاء إلى مكّة، ويمكن أن يكون هذا التعبير مبيّناً هذا الواقع، وهو: طالما كان الأمن حاكماً في بلد كان اقتصاده جيداً، وإلاّ فلا، «قد بيّنا هذا الأمر في بحثنا للأية 35 سورة إبراهيم».

كما أنّ الجدير بالذكر أنّ «يجبى» جاءت على صيغة الفعل المضارع الذي يدل على الإستمرار في الحال والإستقبال، ونحن اليوم وبعد مرور أربعة عشر

[264]

قرناً، نرى بأم أعيننا مفهوم هذا الكلام واستمرار جباية جميع أنواع المواهب إلى هذه الأرض المباركة، فالذين يحجّون مكّة ويزورون بيت الله الحرام، يرون بأعينهم هذه الأرض الجرداء الحارة التي لا تنبت شيئاً، كم فيها من النعم! فكأن مكّة غارقة بها، ولعل أية نقطة من العالم ليس فيها ما في مكّة من هذه النعم الوفيرة.

* * *

ملاحظة

إيمان أبي طالب والضجيج حوله:

هذا الموضوع يبدو عجيباً لمن كان من أهل البحث والمطالعة.. فكيف يصرّ جماعة من رواة الأخبار على أن يزعموا أنّ أبا طالب(عليه السلام) عم النّبي كان مشركاً وغير مؤمن وأنّه مات كافراً!! وهو بإجماع المسلمين كان من الذين بذلوا تضحيات منقطعة النظير، وحمى نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله) وضحّى من أجله؟!

ولم لا يكون هذا الإصرار بالنسبة للآخرين الذين لا حظّ لهم في تأريخ الإسلام؟!

هنا نعرف أنّ المسألة ليست مسألة عادية.. ثمّ بأقل ملاحظة وتدقيق نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّ وراء هذه البحوث التاريخية والروائية لعبة سياسيّة خطيرة من أعداء علي(عليه السلام) ومناوئيه! فقد كانوا يصرّون على سلب كل فضيلة له، حتى جعلوا أباه المضحّي والفادي للنبي والمؤثر له على نفسه يموت كافراً بزعمهم!!.

ومن المؤكّد أنّ بني أمية ومريديهم في عصرهم، وقبل أن يصلوا إلى دفة الحكومة، سعوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لإثبات مدعاهم بالشواهد والحجج الواهية.

[265]

ونحن بقطع النظر عن هذه الأمواج السياسية المنحرفة والملوثة، التي هي بنفسها تستحق المطالعة من جهات متعددة... نبحث المسألة على أساس أنّها مسألة بنفسها تستحق المطالعة من جهات متعددة... نبحث المسألة على أساس أنّها مسألة تأريخية وتفسيرية بحتة، بشكل موجز ومضغوط (كما يقتضيه وضع الكتاب) ليتّضح أن ليس وراء هذا الضجيج أي سند معتبر، بل هناك شواهد حيّة ضده!.

1 ـ إن الآية محل البحث (إنّك لا تهدي من أحببت) ليس لها علاقة بأبي طالب كما بيّنا، وقلنا: إن الآيات التي جاءت قبلها تدل بصورة واضحة أنّها في شأن جماعة من أهل الكتاب المؤمنين،في مقابل مشركي مكّة.

الطريف أن الرازي الذي يزعم أن الآية نزلت في أبي طالب(عليه السلام) بإجماع المسلمين!! يصرّح بأن الآية ليس فيها أقل دلالة على كفر أبي طالب(1).

ولكن مع هذه الحال فلماذا يصرون فيها على أن يكون أبو طالب(عليه السلام)مشركاً؟ فهذه مسألة غريبة ومدعاة للدهشة!..

2 ـ وأهم دليل لديهم في هذا المجال أنّهم ادعوا إجماع المسلمين على أن  أبا طالب مات مشركاً!.

في حين أن مثل هذا الإجماع كذب محض لا أساس له، وهو عار عن الصحة.

فالمفسّر المعروف «الآلوسي» ـ وهو من علماء السنة ـ صرح في تفسير روح المعاني أنّ هذه المسألة ليست إجماعية، وحكاية الإجماع من قبل المسلمين أو المفسّرين على أنّ الآية المتقدمة نزلت في أبي طالب تبدو غير صحيحة... لأنّ علماء الشيعة وجمع كثير من المفسّرين يعتقدون بإسلام أبي طالب، وادّعى أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الإجماع على ذلك، إضافة إلى أن أكثر قصائد

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج 25، ص 3.

[266]

أبي طالب تشهد على إيمانه(1).

3 ـ التدقيق والبحث يدل على أن هذا الإجماع المزعوم هو من قبل أخبار الاحاد الذين لا اعتبار لهم، وفي سند هذه الروايات أفراد مشكوك فيهم كذابون.

ومن هذه الرّوايات ما نقله ابن «مردويه» بسنده عن ابن عباس أن آية (إنّك لا تهدي من أحببت) نزلت في شأن أبي طالب، وقدأصرّ النّبي(صلى الله عليه وآله) عليه أن يؤمن فلم يؤمن(2).

في حين أنّ في سند هذه الرواية «أبو سهل السري» الذي عرف بين كبار أصحاب علم الرجال بأنّه من الكذابين الوضّاع السارقين للحديث. كما أنّ في سند هذه الرّواية «عبد القدوس أبو سعيد الدمشقي» وهو من الكذابين أيضاً(3).

وظاهر تعبير الحديث يدل على أن ابن عباس ينقل هذا الحديث من غير واسطة وكان شاهداً على ذلك، في حين أنّنا نعرف أن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات، فعلى هذا كان لا يزال رضيعاً عندما مات أبو طالب(عليه السلام)... ومن هنا نستنتج أنّ واضعي الحديث حتى في هذا العمل كانوا مبتدئين وناشئين!!.

وهناك حديث آخر في هذا المجال ينقله «أبو هريرة» إذ يقول: حين دنت وفاة أبي طالب قال له النّبي(صلى الله عليه وآله): يا عم قل: لا إله إلاّ الله، لأشهد لك يوم القيامة عند الله بالتوحيد، فقال أبو طالب: لولا أن قريشاً تقول إن أبا طالب أظهر الإيمان حال الموت خوفاً، لكنت أشهد بالتوحيد وأقرّ عينيك، فنزل قوله تعالى: (إنّك لا تهدي من أحببت)(4).

ويبدو من ظاهر هذا الحديث أن أبا هريرة كان شاهداً على هذه القضية، في حين أنّنا نعرف أن أبا هريرة أسلم سنة فتح خيبر، بعد الهجرة بسبع سنين، فأين

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ روح المعاني، ج 2، ص 84 ذيل الآية محل البحث.

2 ـ الدر المنثور، ج 5، ص 133.

3 ـ الغدير، ج 8، ص 20.

4 ـ الدر المنثور، ج 5، ص 133.

[267]

 أبو هريرة  من وفاة أبي طالب التي حدثت قبل الهجرة...؟!!

وإذا قيل أن ابن عباس وأبا هريرة لم يكونا شاهدين على هذه القضية، وسمعا هذه القصّة من شخص آخر فإننا نسأل من هو هذا الشخص؟! فالذي نقل هذا الحديث لهذين الشخصين ـ إذاً ـ مجهول، ومثل هذا الحديث يعرف عند أهل الحديث بالمرسل، والجميع يعلمون بأن لا اعتبار للمراسيل!

ومن المؤسف أنّ جماعة من رواة الأخبار والمفسّرين نقلوا هذا الحديث بعضهم عن بعض دون تدقيق في كتبهم، وشيئاً فشيئاً كوّنوا إجماعاً لهذا الحديث! ولكن أيّ إجماع هذا؟ أم أي حديث معتبر!؟!

4 ـ وبعد هذا كلّه، فإنّ متن هذه الأحاديث الموضوعة يدل على أن  أبا طالب(عليه السلام) كان مؤمناً بحقانية النّبي، غاية ما في الأمر لم يجر ذلك على لسانه لملاحظات خاصة... ونحن نعرف أن الإيمان هو بالقلب، وأمّا اللسان فهو طريق القلب، وفي بعض الأحاديث الإسلامية شبه أبو طالب بأصحاب الكهف الذين كانوا مؤمنين وإن لم يقدروا على إظهار الإيمان على ألسنتهم(1).

5 ـ ثمّ هل يمكن القناعة برواية مرسلة عن أبي هريرة أو ابن عباس في مثل هذه المسألة المهمة، فلم لا يؤخذ بإجماع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وإجماع علماء الشيعة، وهم أعرف بحال أُسرة النّبي وأهله!!

إنّنا اليوم نحتفظ بأشعار كثيرة لأبي طالب توضح إيمانه بالإسلام ورسالة النّبي (محمّد)(صلى الله عليه وآله)، وقد نقل هذه الأشعار طائفة من العلماء والأفاضل في كتبهم (وقد نقلنا طائفة منها في ذيل الآية 26 من سورة الأنعام من مصادر سنية معروفة)!.

6 ـ ومع غض النظر عن جميع ما تقدم، فإنّ تأريخ حياة أبي طالب وتضحياته العظيمة للنّبي(صلى الله عليه وآله) وعلاقة النّبي(صلى الله عليه وآله) والمسلمين الشديدة به إلى درجة

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ راجع في هذا الصددد تفسير الصافي وتفسير البرهان ذيل الآية محل البحث.

[268]

أنّ النّبي سمى عام وفاته بـ «عام الحزن» كل ذلك يدل على أنّه كان يعشق الإسلام، ولم يكن دفاعه عن النّبي على أنّه أحد أرحامه، بل دفاع رجل مؤمن مخلص وعاشق نظيف وجندي مضحٍّ عن قائده وإمامه.. فمع هذه الحالة، كم يبلغ الجهل والغفلة والظلم وعدم الشكر بطائفة أن تصرّ على أنّ هذا الرجل المخلص المؤمن الموحّد مات مشركاً(1).

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ هناك بحث مفصل أوردناه لدى تفسير الآية 36 من سورة الأنعام.

[269]

الآيات

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَـكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلاَّ قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَرِثِينَ(58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـلِمُونَ(59) وَمَآ أُوتِيتُمْ مِّنْ شَىْء فَمَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى  أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(60)

التّفسير

لا تخدعنكم علائق الدنيا:

كان الحديث في الآيات المتقدمة يدور حول مايدعيه أهل مكّة، وقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا بهجوم العرب علينا، وتتكدر حياتنا ويختل وضعنا المعاشي والإقتصادي.. وقد أجابت الآيات السابقة على هذا الكلام بردٍّ بليغ.

وفي هذه الآيات مورد البحث ردّان آخران على كلامهم:

الأوّل: يقول.. على فرض أنّكم لم تؤمنوا، وحييتم في ظل الشرك مرفهين

[270]

ماديّاً، ولكن لا تنسوا أن تعتبروا بحياة من قبلكم (فكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها).

أجل، إنّ الغرور دعاهم إلى أن يبطروا من النعم، والبطر أساس الظلم، والظلم يجرّ حياتهم إلى النّار... (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلا).

بلى... بقيت بيوتهم خالية خربة متهدمة مظلمة لم يزرها ولم يسكنها أحد إلاّ لفترة قليلة (وكنّا نحن الوارثين).

فيا مشركي مكّة... أتريدون أن تعيشوا حياة البطر والكفر كما عاشه أُولئك، وتكون عاقبتكم كعاقبتهم، فأي نفع في ذلك؟!

كلمة «بطرت» مشتقّة من «بطر» على زنة «بشر» ومعناه الطغيان والغرور على أثر وفرة النعم.

والتعبير بـ «تلك» التي هي اسم إشارة للبعيد، وتستعمل غالباً للأُمور التي يمكن مشاهدتها، ويحتمل أن يكون المقصود بها أرض «عاد وثمود وقوم لوط» التي لا تبعد كثيراً عن أهل مكّة، وهي في أرض الأحقاف بين اليمن والشام، أو في وادي القرى، أو في أرض سدوم، وجميع هذه المناطق في مسير قوافل التجار العرب الذين كانوا يمضون من مكّة إلى الشام، وكانوا يرون تلك البيوت بأُم أعينهم خالية خاوية لم تسكن إلاّ قليلا.

وجملة (إلاّ قليلا) التي جاءت بصيغة الإستثناء، فيها ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن الإستثناء عن الساكنين.

والاحتمال الثّاني: أنّه عن المساكن.

والاحتمال الثّالث: أنّه عن السكن.

ففي الصورة الأُولى يكون مفهومها أن جماعة قليلة سكنتها «أي سكنت تلك المساكن».

وفي الصورة الثّانية يكون مفهومها أن فترة قليلة كان بها السكن في هذه

[271]

«المساكن» لأنّ من يسكن في هذه المساكن المشؤومة سرعان ما تنطوي فيها صفحة حياته.

وبالطبع فإنّ إرادة المعاني الثلاثة من النصّ السابق لا يوجد لنا أي مشكلة، وإن كان المفهوم الأوّل أظهر.

كما أن بعض المفسّرين قال: إنّ المقصود من هذه الآية هو الإشارة إلى السكن المؤقت للمسافرين الذاهبين والآيبين حيث يستريحون فيها لا أكثر، وفسرها آخرون بأنّها إشارة لسكن الحيوانات الوحشية.

والقدر المسلم به أن هذه المساكن التي كانت ملوّثة بالإثمّ والشرك أصبحت غير صالحة للسكن فهي خاوية وخالية!

والتعبير بـ (وكنا نحن الوارثين) إشارة إلى خلّوها من الساكنين، كما هي إشارة إلى أنّ مالكها الحقيقي هو الله سبحانه المالك لكل شيء، وإذا ما أعطى ملكاً «اعتبارياً» لأحد، فإنّه لا يدوم له طويلا حتى يرثه الله أيضاً.

والآية الثّانية في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر، وهو: إذا كان الأمر كذلك، بأن يهلك الله الطغاة، فلم لم يهلك المشركين من أهل مكّة والحجاز، الذين بلغوا حدّاً عظيماً من الطغيان، ولم يكن إثم ولا جهل إلاّ وارتكبوه، ولم لم يعذبهم الله بعذابه الأليم؟

يقول القرآن في هذا الصدد (وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولا يتلوا عليهم آياتنا).

أجل.. لا يعذب الله قوماً حتى يتمّ عليهم حجّته ويرسل إليهم رسله، وحتى بعد إتمام الحجّة، فما لم يصدر ظلم يستوجب العذاب فإنّ الله لا يعذبهم، وهو يراقب أعمالهم، (وما كنا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون).

والتعبير بـ (ما كنّا) أو (وما كان ربك) دليل على أن سنة الله الدائمة والأبدية التي كانت ولا زالت، هي أن لا يعذب أحداً إلاّ بعد إتمام الحجة الكافية.

[272]

والتعبير بـ (حتى يبعث في أمّها رسولا) إشارة إلى عدم لزوم إرسال الرسل إلى جميع المدن، بل يكفي أن يبعث في مركز كبير من مراكزها التي تنشر العلوم والأخبار رسولا يبلغهم رسالاته! لأنّ أهل تلك المناطق في ذهاب وإياب مستمر إلى المركز الرئيسي، لحاجتهم الماسة، وما أسرع أن ينتشرالخبر الذي يقع في المركز إلى بقية الأنحاء القريبة والبعيدة، كما انتشرت أصداء بعثة النّبي(صلى الله عليه وآله)التي كانت في مكّة ـ وبلغت جميع أنحاء الجزيرة العربية في فترة قصيرة! لأنّ مكّة كانت أم القرى، وكانت مركزاً روحانياً في الحجاز، كما كانت مركزاً تجارياً أيضاً.. فانتشرت أخبار النّبي(صلى الله عليه وآله)، ووصلت جميع المراكز المهمّة في ذلك الحين وفي فترة قصيرة جدّاً.

فعلى هذا تبيّن الآية حكماً كلياً وعامّاً، وما يدّعيه بعض المفسّرين من أنّها إشارة إلى «مكّة» لا دليل عليه، والتعبير بـ (في أمّها) هو تعبير عام كلي أيضاً.. لأنّ كلمة «أم» تعني المركز الأصلي، ولا يختص هذا بمكّة فحسب(1).

وأخر آية من هذا المقطع محل البحث تحمل الردّ الثّالث على أصحاب الحجج الواهية، الذين كانوا يقولون للنّبي(صلى الله عليه وآله): (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) ويبعدنا العرب من ديارنا، وهو قوله تعالى: (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى) ممّا عندكم من النعيم الفاني.. إذ أنّ نعم الدنيا تشوبها الأكدار والمشاكل المختلفة، ولس من نعمة مادية خالية من الضرر والخطر أبداً.

إضافة إلى ذلك فإنّ النعم التي عند الله «الباقية» لا تقاس مع النعم الدنيوية الزائلة، فنعم الله ـ إذن ـ خير وأبقى!.

فبموازنة بسيطة يعرف كل إنسان عاقل أنّه لا ينبغي أن يضحي بنعم الآخرة

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ في أن الآية هل تشمل المستقلات العقلية أم لا، بحثنا في ذلك بحثاً مناسباً في ذيل الآية (15) من سورة الإسراء.

[273]

من أجل نعم الدنيا، ولذلك تختتم الآية بالقول: (أفلا تعقلون)؟.

يقول «الفخر الرازي» نقلا عن أحد الفقهاء أنّه قال: لو أوصى أحد بثلث ماله إلى أعقل الناس، فإني أفتي أن يعطى هذا المال لمن يطيع أمر الله، لإن أعقل الناس من يعطي المتاع القليل، (الفاني) ليأخذ الكثير (الباقي) ولا يصدق هذا، إلاّ في من يطيع الله.

ثمّ يضيف الفخر الرازي.. قائلا: فكأنّما استفاد هذا الحكم من الآية محل البحث(1).

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج 25، ص 6.

[274]

الآيات

أَفَمَنْ وَعَدْنَـهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَـقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَـهُ مَتَـعَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ مِنَ الْـمُحْضَرِينَ(61) وَيَومَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ(62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقوْلُ رَبَّنَا هَــؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَـهُمْ كَمَا غَوَيْنا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ(64)

التّفسير

أنّهم عبدَة الهوى:

كان الحديث في الآيات المتقدمة عن الذين فضّلوا الكفر على الإيمان بسبب منافعهم الشخصيّة ـ ورجّحوا الشرك على التوحيد، وفي الآيات التي بين أيدينا يبيّن القرآن حال هذه الجماعة يوم القيامة قبال المؤمنين الصادقين.

ففي بداية هذه الآيات يلقي القرآن سؤالا يقارن فيه بين المؤمنين