وقد تنوّر واتضح ـ ضمناً ـ هذا الموضوع الدقيق، وهو أن التعبير بالمنافق لا يختص بمن ليس في قلبه ايمان اطلاقاً ويدعي الإيمان، بل حتى الافراد من ضعاف الإيمان الذين يتراجعون عن عقيداتهم نتيجة الضغوط والتأثير بفلان وفلان فهؤلاء أيضاً يُعدون من المنافقين.. والآية محل البحث ـ كما يظهر ـ تتحدث عن هذا النوع من المنافقين، وتصرح بأنّ الله مطلع على نيّاتهم وعليم بسرائرهم.
وفي الآية التالية ـ لمزيد التأكيد ـ يضيف القرآن قائلا: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ).
فلو تصوروا أنّهم إذا أخفوا الحقائق فإنّهم سيكونون في منأى عن علم الله فهم في خطأ كبير جدّاً.
ونكرر هنا ـ مرّة اُخرى أنّ التعبير بالمنافقين ليس دليلا على أنّ هذه الآيات نزلت في المدينة، صحيح أنّ مسألة النفاق تقع عادة بعد انتصار جماعة والإستيلاء على الحكومة.. حيث يغير المخالفون أقنعتهم ويعملون في الخفاء حينئذ، إلاّ أن للنفاق ـ كما قلنا ـ معنى واسع، ويشمل حتى الأفراد ضعاف الإيمان الذين يبدّلون عقيدتهم لأدنى مكروه يصيبهم.
والآية الأُخرى بعدها تشير إلى منطق المشركين الخاوي والملتوي، الذي لا يزال موجوداً في طبقات المجتمع الواسعة فتقول: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم )(1).
1 ـ جملة «ولنحمل» فعل دالّ على الأمر، وقد ولّد هذا التعبير إشكالا عند بعض المفسّرين، وهو: هل يمكن أن يأمر الإنسان نفسه؟! ثمّ قالوا في رد هذا الإشكال. إنّ هذا الأمر في حكم القضية الشرطية أي «إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم» ـ كما في تفسير الرّازي ـ إلاّ أنّه في اعتقادنا لا يمنع أن يأمر الإنسان نفسه، والآمر والمأمور شخص واحد، إلاّ أنّه ذو اعتبارين... «فتأمل بدقّة» .
واليوم نرى كثيراً من الخبثاء يقولون للآخرين عند دعوتهم إلى أمر: إن كان فيه ذنب فعلى رقابنا!.
في حين أنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأحد أن يتحمل وزر أحد، وأساساً فإنّ هذا العمل ليس معقولا وليس منطقياً.... فالله عادل سبحانه ولا يؤاخذ أحداً بجرم الآخر.
ثمّ بعد كل ذلك فإنّ الإنسان لا تسقط عنه المسؤولية في العمل بمثل هذه الكلمات، ولا يمكن له التنصّل منها... وخلافاً لما يتوهمه بعض الحمقى فإنّ مثل هذه التعبيرات لا تنقص من عقابهم حتى بمقدار رأس الإبرة.
ولذلك فلا يعتدّ بمثل هذا الكلام في أية محكمة كانت ولا يقبل من المذنب أن يقول: إن فلاناً تحمّل عنّي الوزر وجعله في رقبته!.
صحيح أن ذلك الإنسان حثه على الإجرام ودفعه إلى اقترافه، فهو شريكه، إلاّ أن هذا الإشتراك في الجريمة لا يخفّف عنه المسؤولية!
لذلك فإنّ القرآن يقول بصراحة في الجملة التالية (وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنّهم لكاذبون ).
هنا ينقدح السؤال التالي.. «إنّ الصدق والكذب هما في موارد الجمل الخبرية، في حين أن هذه الجملة إنشائية «ولنحمل خطاياكم» وليس في الجملة الإنشائية صدق أو كذب، فلم عبّر القرآن عنهم بأنّهم «كاذبون»؟!
والجواب على هذا السؤال يتّضح من البيان الذي ذكرناه سابقاً، وهو أن الجملة الأمرية هنا تتحول إلى جملة شرطية، ومفهومها أنّه إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم وآثامكم، ومثل هذه الجملة تقبل الصدق والكذب(1).
1 ـ لدينا طريق آخر على الجواب على هذا السؤال، لأنّنا نعتقد وجود الصدق والكذب في الجملة الإنشائية أيضاً، ويلاحظ هذا في التعبيرات العرفية أيضاً... لأنّ الشخص ـ مثلا ـ إذا أمر بشيء ما فهو دليل على تعلقه به، وحين نقول: إنّه يكذب، فمعناه أنّه لم يطلبه «فلاحظوا بدقّة» .
وبعد ذلك، ومن أجل أن لا يتصور أن هؤلاء الدعاة للكفر والشرك وعبادة الأصنام والظلم، لا شيء عليهم من العقاب لهذا العمل، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا: (وليحملن أثقالهم أثقالا مع ثقالهم ).
وثقل الذنب هذا... هو ثقل ذنب الإغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب، وهو ثقل السنّة التي عبّر عنها النّبي(صلى الله عليه وآله) فقال: «من سنّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء!» (1).
المهم أنّهم شركاء في آثام الآخرين، وإن لم ينقص من وزر الآخرين وإثمهم مقدار من رأس الإبرة.
وتختتم الآية بالقول: (وليسئلنّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون ).
وينقدح هنا سؤال آخر وهو: ما المراد من هذا الإفتراء الذي يسألون عنه؟!
ولعل ذلك إشارة إلى الإفتراءات التي نسبوها إلى الله، وكانوا يقولون: «إن الله أمرنا أن نعبد الأصنام!».
أو أنّه إشارة إلى كلامهم الذي كانوا يقولون: «ولنحمل خطاياكم».
لأنّهم كانوا يدّعون أن مثل تلك الأعمال لا يترتب عليها إثم... وإن هذا الكلام كان افتراءً، وينبغي أن يجيبوا على ما يسألون بصدده!
أو أنّه يقال لهم على نحو الحقيقة والواقع يوم القيامة: هلموا لتحملوا أثقال الآخرين، فيمتنعون من ذلك ويظهر كذبهم وافتراءهم.... أو أنّ ظاهر كلامهم كان يعني أن كلّ إنسان يمكن أن يتحمل وزر الأخر ويكون مسؤولا عنه، في حين أن هذا الكلام كذب وافتراء محض أيضاً، وكل إنسان مسؤول عن عمله!.
* * *
1 ـ التّفسير الكبير للرازي، ج 25، ص 40.
التخطيط لعمل ما ـ أو لمنهج ما ـ في المنطق الإسلامي له أثرهُ.. ويحمل صاحبه المسؤولية عنه ـ شاء أم أبى ـ ويكون مشاركاً للآخرين الذين يعملون بما خططه وسنّه، لأنّ أسباب العمل هي من مقدمات العمل، ونعرف أن كل شخص يكون دخيلا في مقدمة عمل إنسان آخر فهو شريكه أيضاً، فحتى لو كانت المقدمة بسيطة، إلاّ أن ذلك الشخص شريك مع ذي المقدمة.
والشاهد على هذا الكلام حديث منقول عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) وهو أن سائلا جاء والنّبي(صلى الله عليه وآله) في طائفة من صحابته فطلب العون فلم يجبه أحد، ثمّ قام اليه رجل وناوله شيئاً فقام: الآخرون ورغّبوا في إعانته فقال النّبي(صلى الله عليه وآله): «من سنَّ خيراً فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئاً، ومن سنّ شرّاً فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً» --(1).
وقد ورد نظير هذا الحديث بعبارات مختلفة في مصادر الحديث عند الشيعة والسنة وهو حديث مشهور.
أثار بعضهم هنا هذا السؤال، وهو أنّنا نلاحظ أحياناً في القوانين الإسلامية أن الدية تقع على شخص آخر... فمثلا في حالة قتل «الخطأ المحض» تقع الدية على العاقلة «والمراد بالعاقلة أقارب الرجل الذكور من طرف الأب... الذين تتوزع فيما بينهم دية قتل الخطأ المحض، ويدفع كلٌّ منهم قسماً حتى تتمّ الدية!».
أو ليست هنا منافاة بين هذه المسألة وبين الآيات المتقدمة؟
1 ـ تفسير الدر المنثور...
وفي الجواب على هذا السؤال نقول: إنّ «ضمان العاقلة» في الحقيقة نوع من التأمين الإلزامي المتقابل بين أعضاء العشيرة الواحدة.
فالإسلام ـ من أجل أن لا يتحمل الفرد الواحد العبء الثقيل للدية ـ ألزم أفراد العشيرة بأن يضمن بعضهم بعضاً في ديّة قتل الخطأ، وأن يقسموا المبلغ فيما بينهم فيدفع كل فرد منهم حصّة.
فقد يُخطىء اليوم أحدهم، وغداً قد يرتكب هذا الخطأ شخص آخر من العشيرة... «لمزيد الإيضاح نوكل المراجعة إلى الكتب الفقهية، بحث الديات».
وعلى كل حال، فإنّ هذا المنهج نوع من التعاون في سبيل حفظ المنافع المتقابلة، ولا يعني بأي وجه تحمل وزر الآخرين، خاصة وأنّ دية قتل الخطأ ليست أصلا جريمة ذنب، بل هي تعويض عن الخسارة! «فتأمل بدقّة» .
* * *
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَة إلاَّ خَمْسَيْنَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـلِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَـهُ وَأَصْحَـبَ السَّفِيْنَةِ وَجَعَلْنَـهَآ ءَايَةً لِّلْعَـلَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوالله وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَـناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ الْبََلَـغُ الْمُبِينُ (18) أَوَ لَمْ يَرَواْ كَيْفَ يُبْدِىءُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (19)
لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الإمتحانات العامّة في الناس، فإنّ
الكلام هنا ـ وفي ما بعد ـ يقع على الإمتحانات الشديدة للأنبياء، وكيف أنّهم كانوا تحت ضغط الأعداء وإيذائهم، وكيف صبروا وكانت عاقبة صبرهم النصر! ليكون هذا الكلام تسلية لقلوب أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله) الذين كانوا تحت وطأة التعذيب الشديد من قبل الأعداء ـ من جانب ـ وتهديداً للأعداء لينتظروا عاقبتهم الوخيمة من جانب آخر.
تبدأ الآيات أوّلا بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو «نوح»(عليه السلام)، وتتحدث عنه بعبارات موجزة، لتُجملَ قسماً من حياته التي تناسب ـ كثيراً ـ الواقع الراهن للمسلمين ـ آنئذ ـ فتقول: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ).
كان نوح مشغولا ليلَ نهارَ بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد الله ـ فرادى ومجتمعين،مستفيداً من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة (أي تسعمائة وخمسين عاماً) يدعوهم إلى الله.. ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور.
ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلاّ جماعة قليلة في حدود الثمانين شخصاً كما تنقل التواريخ (أي بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة!).
فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل الدعوة إلى الحق ومواجهة الإنحرافات، لأنّ منهجكم أمام منهج «نوح» سهل للغاية.
لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء: (فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ).
وهكذا انطوى «طومار» حياتهم الذليلة، وغرقت قصورهم وأجسادهم وآثارهم في الطوفان وأمواجه.
والتعبير بـ (ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ) مع إمكان القول «تسعمائة وخمسين سنة» من البداية، هو إشارة إلى عظمة المدة وطول الزمان، لأنّ عدد
«الألف» وأيّ ألف؟ ألف سنة! يعدّ مهماً وعدداً كبيراً بالنسبة لمدّة التبليغ.
وظاهر الآية الآنفة أنّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوح(عليه السلام) بتمامه (وإن ذُكر ذلك في التوراة الحديثة، في سفر التكوين الفصل التاسع) بل عاش بعد الطوفان فترة أُخرى، وطبقاً لما قاله بعض المفسّرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة!
طبعاً... هذا العمر الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جداً ولا يعدّ طبيعيّاً أبداً، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتاً مع عصرنا هذا... وبناءً على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح كانوا معمرين، وعمر نوح بينهم أيضاً كان أكثر من المعتاد، ويشير هذا الأمر ضمناً إلى هيئة تركيب أجسامهم كانت تمكّنهم من أن يعمّروا طويلا.
إنّ دراسات العلماء في العصر الحاضر تدلّ على أن عمر الإنسان ليس له حد ثابت، وما يقوله بعضهم بأنّه محدود بمائة وعشرين سنة، و أكثر أو أقل، فلا أساس له... بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف.
واليوم وبواسطة التجارب استطاع العلماء أن يضاعفوا عمر قسم من النباتات أو الموجودات الحيّة، إلى اثني عشر ضعفاً على العمر الطبيعي، وحتى في بعض الموارد ـ ولا تتعجبوا ـ أوصلوا هذه الفترة للنباتات أو غيرها إلى تسعمائة مرّة ضعف عمرها الطبيعي... وإذا حالفهم التوفيق فيمكنهم أن يضاعفوا عمر الإنسان، فيمكن أن يعمّر الإنسان عندئذ آلاف السنين.(1)
وينبغي الإلتفات ضمناً إلى أن كلمة «الطوفان» في الأصل معناها كل حادثة تحيط بالإنسان، وهي مشتقّة من مادة «الطواف» ، ثمّ استعمل هذا التعبير للماء الغزير أو السيل الشديد الذي يستوعب مساحة كبيرة من الأرض ويغرقها، كما يطلق على كل شيء كثير وشديد وفيه حالة الاستيعاب، سواءً كان ريحاً أو ناراً
1 ـ لمزيد التوضيح في مسألة طول العمر، بمناسبة الأبحاث المتعلقة بطول عمر المهدي(عليه السلام)، يراجع كتاب «المهدي تحول كبير».
أو ماءً، فيسمى كلٌّ منها طوفاناً... كما قد يردُ بمعنى ظلمة الليل الشديدة أيضاً.(1)
الطريف أنّ القرآن يقول: (وهم ظالمون ) أي إنّهم حين وقوع العذاب «الطوفان» كانوا لا يزالون في ظلمهم أيضاً.
وهذا إشارة إلى أنّهم لو تركوا تلك الأعمال، وندموا على ما فعلوا، وتوجّهوا إلى الله، لما ابتلوا بمثل هذه العاقبة أبداً.
ويضيف القرآن الكريم في الآية الأُخرى (فانجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين )(2).
ثمّ يعقّب على قصّة نوح وقومه التي وردت بشكل مضغوط، ويأتي بقصّة إبراهيم(عليه السلام)، ثاني الأنبياء الكبار من أولي العزم فيقول: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )(3).
هنا بيّن القرآن منهجين مهمّين من مناهج الأنبياء العملية والاعتقادية، وهما الدعوة إلى توحيد الله والتقوى ـ في مكان واحد ـ ثمّ يختتم القول: أن لو فكرتم جيداً لكان ذلك خيراً لكم عند اتباعكم لمذهب التوحيد والتقوى، إذ ينجيكم من دنياكم الملوّثة بالذنوب والشقاء، وتكون آخرتكم هي السعادة الأبديّة.
ثمّ يذكر إبراهيم(عليه السلام) أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان، ويبيّن في تعابير مختلفة يتضمّن كل منها دليلا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أوّلا: (إنّما تعبدون من دون الله أوثاناً ).
هذه الأوثان هي الأصنام الخالية من الروح.. الأصنام التي ليس لها إرادة،
1 ـ المفردات للراغب.
2 ـ القول في ما هو مرجع الضمير في «جعلناها» للمفسّرين احتمالات كثيرة، فبعضهم قال: هو إشارة إلى مجموع هذه الواقعة والحادثة، وقال بعضهم: هي نجاة نوح(عليه السلام) فحسب ـ مع أصحابه ـ وأشار بعضهم إلى أن المراد من «جعلناها» هي السفينة، وظاهر العبارة المتقدمة ـ أيضاً ـ تؤيد هذا الإحتمال الأخير، وحقاً كانت هذه السفينة آيةً من آيات الله في ذلك العصر، وفي تلك الحادثة العظيمة.
3 ـ الظّاهر أنّ «إبراهيم» معطوف على كلمة «نوح» وفعله «أرسلنا» ، وبعضهم عطفه على مفعول (أنجيناه) وبعضهم جعله مفعولا لفعل محذوف تقديره «اذكر» .
ولا عقل، وهي فاقدة لكل شيء، بحيث أن شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة «عبادة الأوثان»
(لاحظوا أن «الأوثان» هي جمع لكلمة «وثن» على زنة «صنم» ومعناها «الحجارة المنحوتة» الموضوعة للعبادة!).
ثمّ يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول: ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنّها لا تستحق العبادة فحسب، بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان: (وتخلقون إفكا ).
فأي دليل لديكم على هذا الكذب سوى حَفنة من الأوهام والخرافات الباطلة.
وحيث أن كلمة «تخلقون» مشتقّة من الخلق، وتعني أحياناً الصنع والإبداع، وأحياناً تأتي بمعنى الكذب، فإنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيراً آخر لهذه الجملة غير ما بيّناه آنفاً... وقالوا إنّ المقصود من هذا التعبير هو أنّكم تنحتون هذه الأوثان... المعبودات الباطلة المزوّرة بأيديكم، وتصنعونها (فيكون المراد من الإفك هنا هو المعبودات المزورّة) والخلق هو النحت هنا(1).
ثمّ يبيّن الدليل الثّالث وهو أن عبادتكم لهذه الأوثان إمّا لأجل المنافع المادية، أو لعاقبتكم في «الأُخرى» وكلا الهدفين باطل... وذلك: (إنّ الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً ).
وأنتم تعتقدون بأنّ هذه الأصنام لم تكن خلقتكم، بل الخالق هو الله، فالذي يتكفل بالرزق هو الله (فابتغوا عند الله الرزق ).
ولأنّه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه (واعبدوه واشكروا له ).
وبتعبير آخر، فإن واحداً من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر
1 ـ «الإفك» يطلق في الأصل على كل شيء مختلف عن حقيقته، ولذلك يطلق على الكذب ـ خاصة الكذب الكبير ـ أنّه إفك، كما تطلق هذه الكلمة على الرياح المخالفة لإتجاهها ومسيرها فيقال «رياح مؤتفكة».
للمنعم الحقيقي، وتعرفون أن المنعم الحقيقي هو الله، فالشكر والعبادة يختصان ـ أيضاً ـ بذاته المقدسة.
وإذ كنتم تبتغون الدار الأُخرى فإنّه (إليه ترجعون ).
فالأصنام لا تصنع شيئاً هنا ولا هناك!.
وبهذا الأدلّة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.
ثمّ يلتفت إبراهيم (عليه السلام) مهدّداً لهم ومبدياً عدم اكتراثه بهم قائلا: (وإن تكذبوا فقد كذب أُمم من قبلكم ) كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة (وما على الرّسول إلاّ البلاغ المبين ) سواءً استجاب له قومه، أم لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه!
والمقصود بالأُمم قبل أُمة إبراهيم(عليه السلام) ، أُمة نوح(عليه السلام) وما بعده من الأُمم وبالطبع فإنّ إرتباط هذه الآيات يوجب أن تكون هذه الجملة من كلمات إبراهيم(عليه السلام)، وهذا ما يذهب إليه كثير من المفسّرين عند تفسيرهم للنص، أو يحتملون ذلك!.
والاحتمال الآخر: إنّ الخطاب في هذه الآية للمشركين من أهل مكّة المعاصرين للنّبي(صلى الله عليه وآله) وجملة (كذب أُمم من قبلكم ) فيها تتناسب أكثر مع هذا الاحتمال.
أضف إلى ذلك، فإنّ نظير هذا التعبير الذي ورد في الآية 25 من سورة الزمر، والآية (25) من سورة فاطر، هو أيضاً في شأن نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) والمشركين العرب في مكّة. ولكن ـ وعلى أي حال ـ أيّاً من التّفسيرين كان ذلك، فليس هناك تفاوتٌ في النتيجة!.
والقرآن يترك قصّة إبراهيم هنا مؤقتاً، ويكمل البحث الذي كان لدى إبراهيم في صدد التوحيد وبيان رسالته بدليل المعاد، فيقول: (أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثمّ يعيده ).
والمراد بالرؤية هنا هي الرؤية «القلبية» والعلم، أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق الله؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أولا قادر على إعادته أيضاً، فالقدرة على شيء ما هي قدرة على أمثاله وأشباهه أيضاً.
كمايأتي هذا الإحتمال، وهو أنّ الرؤية هنا هي الرؤية «البَصَيريّة» والمشاهدة بالعين... لأنّ الإنسان يرى بعينيه كيف تحيا الأرض وتنمو النباتات، وتتولد الدجاجة من البيض، والأطفال من النطف... فمن له القدرة على هذا الأمر قادر على أن يحيي الموتى من بعدُ أيضاً.
ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد (إنّ ذلك على الله يسير ). لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يُعدّ أمراً بسيطاً.
وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم، وإلاّ فإن اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة... فهذه قدراتنا التي أوجدت مثل هذا «المفهوم»، ومع الإلتفات إلى إنجازها... ظهرت لدينا أُمور يسيرة وأُخرى عسيرة.
* * *
قُلْ سِيِرُوا فِى الاَْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِىءُ النَّشْأةَ الاَْخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَآ أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاَْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِير (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَاَيَـتِ اللهِ وَلِقآئِهِ أُولَـئِك يئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُولَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضاً، على صُورة جُمَل معترضة في قصّة إبراهيم(عليه السلام).
وليست هذه أوّل مرّة نواجه فيها مثل هذا الأسلوب... فهذه هي طريقة القرآن دائماً، فعندما يبلغ مرحلة حساسة من ذكر قصّة ما، يترك بقيّة القصّة مؤقتاً للإستنتاج أكثر، ثمّ يعطي النتائج اللازمة.
وعلى كل حال، فإنّ القرآن يدعو في الآية الأُولى من هذا المقطع الناس إلى
«السير في الآفاق» في مسألة المعاد... في حين أن الآية السابقة كانت السمة فيها «السير في الأنفس» أكثر! يقول القرآن: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) انظروا الى أنواع الموجودات الحية، والاقوام والاُمم المتنوعة والمختلفة، وكيف أنّ الله تعالى خلقها أولا، ثمّ أن الله نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر ايضاً على ايجادها في الآخرة (ثمّ الله ينشىءُ النشأة الآخرة )
ولأنّه أثبت قدرته على كل شيء حين خلق الخلق أولا، إذن فـ ـ(إنَّ الله على كل شيء قدير ).
فهذه الآية والآية التي قبلها ـ أيضاً ـ أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد.. مع فرق أن الآية الأُولى تتحدث عن الإنسان نفسه وخلقه وما حوله! والآية الثّانية تأمر بمطالعة حالات الأُمم والموجودات الأخرى، ليروا الحياة الأُولى في صور مختلفة وظروف متفاوتة تماماً، وليطّلعوا على عموميّة قدرة الله، وليستيقنوا قدرته على إعادة هذه الحياة!.
كما أن إثبات التوحيد يتمُّ ـ أحياناً ـ عن طريق مشاهدة «الآيات في الأنفس» وأحياناً عن طريق «الآيات في الآفاق» فكذلك يتمّ إثبات المعاد عن هذين الطريقين أيضاً.
وفي عصرنا هذا يمكن أن تبيّن هذه الآيات للعلماء معنىً أعمق وأدق، وهو أن يمضوا ويلاحظوا الموجودات الحيّة الأُولى التي هي في أعماق البحار على شكل فسائل ونباتات وغيرها، وفي قلب الجبال، وبين طبقات الأرض، ويطلعوا على جانب من أسرار بداية الحياة على وجه الأرض، ويدركوا عظمة الله وقدرته، وليعلموا أنّه قادر على إعادة الحياة أيضاً(1).
1 ـ سبق أن تعرضنا إلى بحث حول «السير في الأرض» وآثاره، غير أنّ البحث الفائت كانت فيه جوانب من دروس العبرة في مجال قصص الأمم الماضية وطغاتها. التّفسير الأمثل ذيل الآية (137) سورة آل عمران، فلا بأس بمراجعتها.
هذا وإن كلمة «النشأة» في الأصل، تعني إيجاد الشيء وتربيته، وقد يعبرأحياناً عن الدنيا بالنشأة الأولى، كما يعبر عن الأُخرى بالنشأة الآخرة!.
وهذه اللطيفة جديرة بالملاحظة، وهي أنّ في ذيل الآيات السابقة ورد التعبير «إن ذلك على الله يسير» وورد التعبير هنا (إن الله على كل شيء قدير ).
ولعل منشأ التفاوت والإختلاف هو أن الآية الأُولى تعالج مطالعة محدودة، أمّا الثّانية فتعالج وتبيّن مطالعة وسيعة جدّاً.
ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد، وهي مسألة الرحمة والعذاب، فيقول: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون ).
ومع أنّ رحمة الله مقدمةٌ على غضبه، إلاّ أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة، لأنّها في مقام التهديد، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأُسلوب!.
هنا ينقدح السؤال التالي:
كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه (واليه تقلبون )؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة.. وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا.
ونقول جواباً على مثل هذا السؤال: إن العذاب والرحمة ـ بقرينة الآيات السابقة واللاحقة ـ هما عذاب القيامة ورحمتها، وجملة (وإليه تقلبون ) إشارة إلى الدليل على ذلك: أي: بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه، فالعذاب والرحمة ـ أيضاً ـ بإرادته وتحت أمره!.
ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع، بحيث
يشمل العذاب والرحمة في الدارين.
كما يتّضح أنّ المراد بقول: (من يشاء ) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته، أي كل من كان جديراً ومستحقاً لذلك.. فإن مشيئة الله ليست عبثاً، بل منسجمة مع الإستحقاق والجدارة!.
وجملة «تنقلبون» من مادة«القلب» ومعناها في الأصل: تغيير الشيء من صورة إلى صورة أُخرى، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان تراباً لا روح فيه، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانيةً أيضاً.
ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ـ أيضاً ـ وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأُخرى ويتغيّر تغيراً ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (9) من سورة الطارق (يوم تبلى السرائر ).
وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه، يضيف القرآن: إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولايمسّكم عذابه، فأنتم في خطأ كبير... فليس الأمر كذلك! (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء )(1).
وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك، فهذا خطأ محضٌ أيضاً (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ).
وفي الحقيقة، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه، إمّا بأن تخرجوا من حكومته، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم، فلا الخروج ممكن، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع،
1 ـ كلمة «معجزين» مشتقّة من مادة «عجز»، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر، «المعجزة» معناه الذي يجعل الآخر عاجزاً، وحيث أن الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته، يعجزونه عن ملاحقتهم، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضاً...
ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم.
أوّلا: مع الإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين، وهم سكنة الأرض، فما معنى قوله تعالى: (ولا في السماء ) وأي مفهوم له هنا؟!
وينبغي أن يقال في الجواب، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض، ولا في السماوات، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء، فمازلتم تحت قدرته و سلطانه.
أو إنّه: لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة ـ طبعاً ـ)
ثانياً: ما الفرق بين الولي والنصير؟!
يرى العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» وقيل: إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارةً بنفسه بأن يأمره غيره به»(1).
بل يمكن القول مع ملاحظة الكلمتين هاتين، أن الولي إشارة إلى من يعيّن دون طلب [ من عليه الولاية] ، والنصير هو المستصرخ الذي يأتي لإعانة الإنسان بعد استصراخه.
وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين..
لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه أُولئك يئسوا من رحمتي )
1 ـ مجمع البيان، ج ، ص 352.
ثمّ يضيف مؤكداً: (وأُولئك لهم عذاب أليم ).