نعم، فأي عالم موضوعي وغير متعصّب إذا تأمّل في ما ورد في هذا الكتاب السماوي، وتدبّر في معارفه العميقة، وأحكامه المتينة، ونصائحه الحكيمة، ومواعظه المؤثّرة في الوجدان إلى قصصه التأريخية المشعّة بالعِبرة، وبحوثه العلمية الإعجازية، فسيعلم بأنّها جميعاً دليل على حقّانية هذه الآيات.

واليوم، فإنّ هناك كتباً متنوّعة كتبها مفكّرون غربيون وشرقيون حول الإسلام والقرآن، تحوي إعترافات ظاهرة على عظمة الإسلام وصدق الآية مورد البحث.

التعبير بـ «هو الحقّ» تعبير جامع ينطبق على جميع محتوى القرآن الكريم، حيث أنّ «الحقّ» هو تلك الواقعة العينية والوجود الخارجي، أي إنّ محتوى القرآن يتساوق وينسجم مع قوانين الخلق وحقائق الوجود وعالم الإنسانية.

[393]

ولكونه كذلك فهو يهدي إلى صراط الله، الله «العزيز» و «الحميد» أي أنّه تعالى الأهل لكلّ حمد وثناء وفي ذات الوقت فانّ قدرته غاية القدرة والغلبة، وليس هو كأصحاب القدرة من البشر الذي يتعامل منطلقاً من كونه على عرش القدرة بالدكتاتورية والظلم والتجاوز والتلاعب.

وقد جاء نظير هذا التعبير في الآية الاُولى من سورة «إبراهيم» حيث قال جلّ من قائل: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم إلى صراط العزيز الحميد).

وواضح أنّ من كان مقتدراً وأهلا للحمد والثناء، ومن هو عالم ومطّلع رحيم وعطوف، من المحتّم أن يكون طريقه أكثر الطرق إطمئنان وإستقامة. فمن يسلك طريقه إنّما يقترب من منبع القدرة وكلّ الأوصاف الحميدة.

ويعود تعالى إلى مسألة القيامة والبعث في الآية التي بعدها، ويكمل البحوث السابقة بطريقة اُخرى، فيقول تعالى: (وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مُزقتم كلّ ممزق إنّكم لفي خلق جديد).

يبدو أنّ إصرار ـ هؤلاء الكفّار ـ على إنكار مسألة المعاد يعتمد على أمرين: ـ

الأوّل: توهمّهم أنّ المعاد الذي تحدّث عنه رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) وهو «المعاد الجسماني»، أمر يسهل الإشكال عليه والطعن فيه، وأنّ بإمكانهم تنفير الناس منه فينكرونه بسهولة.

الثّاني: أنّ الإعتقاد بالمعاد، أو حتّى القبول بإحتماله ـ على كلّ حال ـ إنّما يفرض على الإنسان مسؤوليات وتعهّدات، ويضعه وجهاً لوجه أمام الحقّ، وهذا ما إعتبره رؤوس الكفر خطراً حقيقيّاً، لذا فقد أصرّوا على إلغاء فكرة المعاد والجزاء الاُخروي على الأعمال من أذهان الناس. فقالوا: أيمكن لهذه العظام المتفسّخة، وهذه الذرّات المبعثرة، التي تعصف بها الريح من كلّ جانب، أن تُجمع في يوم وتُلبس ثوب الحياة من جديد؟

[394]

وإستخدامهم لكلمة (رجل) بصيغة النكرة في تعبيرهم عن الرّسول (صلى الله عليه وآله) يقصد منه التحقير «وحاشاه».

ولكن فاتهم أنّنا في بدء الخليقة لم نكن إلاّ أجزاء مبعثرة، فكلّ قطرة ماء في أبداننا إنّما كانت قطرة في زاوية من بحر أو ينبوع ماء، وكلّ ذرّة من مواد أجسامنا، كانت في جانب من جوانب هذه الأرض المترامية، وسيجمعها الله تبارك وتعالى في النهاية أيضاً كما جمعها في البدء، وهو على كلّ شيء قدير.

والعجيب أنّهم اعتبروا ذلك دليلا على كذب الرّسول (صلى الله عليه وآله) أو جنونه، وحاشاه (افترى على الله كذباً أم به جنّة).

وإلاّ فكيف يمكن لرجل عاقل أو صادق أن يتفوّه بمثل هذا الحديث!!؟

ولكن القرآن يردّ عليهم بشكل حاسم قائلا: (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد).

فأي ضلال أوضح من أن يرى مُنكِرُ المعاد باُمّ عينيه مثالا لهذا المعاد في عالم الطبيعة في كلّ عام بإحياء الأرض الميتة بالزرع.

المعاد الذي لولا وجوده لما كان للحياة في هذا العالم أي معنى أو محتوى.

وأخيراً فإنكار المعاد مساو لإنكار قدرة وعدل وحكمة الله جلّ وعلا.

ولكن لماذا يؤكّد تعالى أنّهم الآن في العذاب والضلال؟

ذلك لأنّ الإنسان يواجه في حياته مشاكل وأحداثاً لا يمكنه ـ بدون الإيمان بالآخرة ـ تحمّلها، والحقيقة أنّ الحياة لو حُدَّت بهذه الأيّام القليلة من عمر الدنيا لكان تصوّر الموت بالنسبة لكلّ إنسان كابوساً مرعباً، لهذا السبب نرى أنّ منكري المعاد في قلق دائم منغّص وعذاب أليم، في حال المؤمنين بالمعاد يعتبرون الموت قنطرة إلى عالم البقاء، ووسيلة لكسر القيود والتحرّر من سجن الدنيا.

نعم، فالإيمان بالمعاد، يغمر قلب الإنسان بالطمأنينة، ويهوّن عليه المشكلات، ويجعله أكثر قدرة على الإيثار والفداء والتضحية.

[395]

أمّا الذين يرون المعاد ـ لجهلهم وكفرهم ـ دليلا على الكذب أو الجنون، إنّما يأسرون أنفسهم في عذاب العمى، والضلال البعيد.

ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبروا هذا العذاب إشارة إلى عذاب الآخرة، ولكنّ ظاهر الآية يدلّل على أنّهم أسرى هذا العذاب والضلال الآن وفي هذه الدنيا.

ثمّ ينتقل القرآن الكريم لتقديم دليل آخر عن المعاد، مقترن بتهديد الغافلين المعاندين فيقول تعالى: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض).

فإنّ هذه السماء العظيمة بكلّ عجائبها، بكواكبها الثابتة والسيّارة، وبالأنظمة التي تحكمها، وكذلك الأرض بكلّ مدهشاتها وأنواع موجوداتها الحيّة، وبركاتها ومواهبها، لأوضح دليل على قدرة الخلاّق العظيم.

فهل أنّ القدير على كلّ هذه الاُمور، عاجز عن إعادة الإنسان بعد الموت إلى الحياة؟

وهذا هو «برهان القدرة» الذي استدلّ به القرآن الكريم في آيات اُخرى في مواجهة منكري المعاد، ومن جملة هذه الآيات، الآية (82) من سورة يس. الآية (99) من سورة الإسراء والآيتين (6 و7) من سورة ق.

ونشير إلى أنّ هذه الجملة كانت مقدّمة لتهديد تلك الفئة المتعصّبة من ذوي القلوب السوداء، الذين يصّرون على عدم رؤية كلّ هذه الحقائق. لذا يضيف تعالى قائلا: (إن نشأ نخسف بهم الأرض) فنأمر الأرض فتنشقّ بزلزلة مهولة وتبتلعهم، أو نأمر السماء فترميهم بقطعات من الحجر وتدمّر بيوتهم وتهلكهم (أو نسقط عليهم كسفاً من السماء) أجل، إنّ في هذا الأمر دلائل واضحة على قدرة الله تعالى على كلّ شيء، ولكن يختّص بإدراك ذلك كلّ إنسان يتدبّر في مصيره ويسعى في الإنابة إلى الله (إنّ في ذلك لآية لكلّ عبد منيب).

لابدّ أن سمع أو شاهد كلّ منّا نماذج من الزلازل أو الخسف في الأرض، أو

[396]

سقوط النيازك من السماء، أو بتساقط وتناثر صخور الجبال بسبب صاعقة أو إنفجار بركان، وكلّ عاقل يدرك إمكانية حصول مثل هذه الاُمور في أيّة لحظة وفي أيّ مكان من العالم، فإذا كانت الأرض هادئة تحت أقدامنا، والسماء آمنة فوق رؤوسنا، فلأنّها كذلك بقدرة اُخرى وبأمر من آمر، فكيف نستطيع ـ ونحن المحكومون بقدرته في كلّ طرفة عين ـ إنكار قدرته على البعث بعد الموت، أو كيف نستطيع الفرار من سلطة حكومته!!.

* * *

هنا يجب الإلتفات إلى جملة اُمور:

1 ـ يعبّر القرآن الكريم هنا عن السماء التي فوق رؤوسنا، والأرض التي تحت أقدامنا بـ (ما بين أيديهم) و (ما خلفهم). وهو المورد الوحيد الذي يلاحظ فيه مثل هذا التعبير. وهذا التعبير لعلّه إشارة إلى أنّ قدرة وعظمة الله أظهر في السماء وقت طلوع أو غروب الشمس وظهور القمر والنجوم فيها. ونعلم أنّ من يقف غالب باتّجاه الاُفق تكون السماء بين يديه، والأرض التي تأتي بالدرجة الثّانية من الأهميّة اُطلق عليها (ما خلفهم).

كذلك هي إشارة إلى هؤلاء المغرورين أنّهم إن لم يجيزوا لأنفسهم النظر إلى ما فوق رؤوسهم، فلا أقل من أن ينظروا إلى ما بين أيديهم في جوار الاُفق.

2 ـ نعلم بأنّنا نعيش بين مصدرين عظيمين من مصادر الخطر على حياتنا:

أوّلهما: باطن الكرة الأرضية المشتعل الذي هو عبارة عن صخور مذابة ومشتعلة وفي حالة من الفوران، وفي الحقيقة فإنّ حياة جميع البشر فوق مجموعة من البراكن ـ بالقوّة ـ وبمجرّد صدور أمر إلهي صغير ينطلق أحد هذه البراكين ليهزّ منطقة عظيمة من الأرض وينثر عليها الأحجار الملتهبة والمواد المعدنية المذابة المشتعلة.

[397]

وثانيهما: مئات الآلاف من الأحجار الصغيرة والكبيرة السابحة في الفضاء الخارجي تنجذب نحو الأرض يومياً بفعل جاذبيتها، ولولا إحتراقها نتيجة إصطدامها بالغلاف الغازي، لكنّا هدفاً «لمطر حجري» بشكل متواصل ليل نهار، وأحياناً تكون أحجامها وسرعتها وقوّتها إلى درجة أنّها تتخطّى ذلك المانع وتنطلق باتّجاه الأرض لتصطدم بها. وهذا واحد من الأخطار السماوية، وعليه فإذا كنّا نعيش وسط هذين المصدرين الرهيبين للخطر، بمنتهى الأمن والأمان بأمر الله، أفلا يكفي ذلك لأن نتوجّه إلى جلال قدرته العظيمة ونسجد تعظيماً وطاعة له!!.

3 ـ من الجدير بالملاحظة أنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث أشارت إلى (أنّ في ذلك لآية) ولكنّها حدّدت (لكلّ عبد منيب). والإشارة تستبعد ذلك المتمرّس بالعصيان الذي خلع عن رقبته طوق العبودية لله سبحانه وتعالى، والغافلين الذين أداموا السير في الطريق الخاطئة الملوّثة بالخطايا واستبعدوا عن أذهانهم ـ كلياً ـ التوبة والإنابة، فهولاء أيضاً لا يمكنهم الإنتفاع من هذه الآية المشرقة، لأنّ وجود الشمس الساطعة لا يكفي وحده لتحصل الرؤية، بل يستلزم أيضاً العين المبصرة وإرتفاع الحجاب بينهما.

* * *

[398]

الآيتان

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَـجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ(10) أَنِ اعْمَلْ سَـبِغَـت وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَـلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(11)

التّفسير

المواهب الإلهية العظيمة لداود:

بناء على ما مرّ ذكره في آخر المجموعة السابقة من الآيات وما قلناه حول «العبد المنيب» والثواب. ولعلمنا بأنّ هذا الوصف قد ذكر للنبي داود (عليه السلام) (في الآية 24 من سورة ص) ـ كما سيرد شرحه بإذن الله ـ فالأفضل من أن نتعرّض لجانب من حياة هذا النّبي (عليه السلام) كمثال للإنابة والتوبة وإكمال البحث السابق. وهي أيضاً تنبيه لكل من يغمط نعم الله ويتناساها، ويتخلّى عن عبوديته لله عند جلوسه على مسند القدرة والسلطة.

في الآية الاُولى يقول تعالى: (ولقد آتينا داود منّا فضلا).

مفردة «فضل» ذات معنى وسيع، يشمل كلّ المواهب التي تفضّل الله بها على داود، وزادها التنكير سعة ودلّل على عظمة تلك المواهب.

[399]

فقد شُمل داود بالمواهب العظيمة سواء من الناحية المادية أو المعنوية، وقد تعرّض القرآن الكريم مراراً لذكرها.

ففي موضع يقول تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين).(1)

وفي موضع آخر يقول تعالى على لسان داود (ياأيّها الناس عُلِّمنا منطق الطير واُوتينا من كلّ شيء إنّ هذا لهو الفضل المبين).(2)

وسترد ضمن حديثنا حول آخر هذه الآيات، معجزات مختلفة تمثّل جزءاً من هذا الفضل العظيم، وكذلك الصوت الباهر، والقدرة العالية على القضاء العادل التي اُشير إليها في سورة (ص) تمثّل لوناً آخر من ذلك الفضل الإلهي، وأهمّ من ذلك كلّه النبوّة والرسالة التي شُرِّف بها داود.

وعلى كلّ حال، فبعد هذه الإشارة الإجمالية العامّة، تبدأ الآية بشرح وتوضيح جوانب من الفضائل المعنوية والمادية التي تمتّع بها داود، فيقول تعالى: (ياجبال أوّبي معه والطير).

كلمة «أوّبي» في الأصل من «التأويب» بمعنى الترجيع وإعادة الصوت في الحلق. وهذا الأصل يستعمل أيضاً بمعنى «التوبة» لأنّ حقيقتها الرجوع إلى الله.

ومع أنّ كلّ ذرّات الوجود تذكر الله وتسبّح بحمده، سواء أسَبَّحَ داود (عليه السلام) معها أو لم يسبّح، ولكن الميزة التي خُصّ بها داود هي أنّه ما إن يرفع صوته ويبدأ التسبيح، إلاّ ويظهر ما كان خفيّاً وكامناً في الموجودات، وتتبدل الهمهمة الباطنية إلى نغمة علنية منسجمة، كما ورد في الروايات من تسبيح الحصاة في يد الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله).

وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عند ذكره لقصّة داود «إنّه خرج يقرأ الزبور،

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ النمل، 15.

2 ـ النمل، 16.

[400]

وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلاّ أجابه»(1).

وبعد ذكر هذه الفضيلة المعنوية، تذكر الآية فضيلة مادية اُخرى فتقول: (وألنّا له الحديد).

يمكن القول، بأنّ الله تعالى علّم داود ـ إعجازاً ـ ما استطاع بواسطته تليين الحديد حتّى يمكنه من صنع أسلاك رقيقة وقوية لنسج الدروع منها، أو أنّه كان قبل داود يستفاد من صفائح الحديد لصناعة الدروع والإفادة منها في الحروب، ممّا كان يسبّب حرجاً وإزعاجاً للمحاربين نتيجة ثقل الحديد من جهة، وعدم قابلية تلك الدروع للإنحناء أو الإلتواء حين إرتدائها، ولم يكن أحدٌ قد إستطاع حتّى ذلك اليوم نسج الدروع من أسلاك الحديد الرفيعة المحكمة، ليكون لباساً يمكن إرتداؤه بسهولة والإفادة من قابليته على التلوّي والإنحناء مع حركة البدن برقّة وإنسياب(2).

ولكن ظاهر الآية يدلّل على أنّ ليونة الحديد تمّت لداود بأمر إلهي، فما يمنع الذي أعطى لفرن النار خاصية إلانة الحديد، أن يعطي هذه الخاصية لداود بشكل آخر، وقد أشارت بعض الروايات أيضاً إلى هذا المعنى.

فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنّه قال: «إنّ الله أوحى إلى داود: نعم العبد أنت إلاّ أنّك تأكل من بيت المال، فبكى داود أربعين صباحاً، فألان الله له الحديد، وكان يعمل كلّ يوم درعاً فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستّين درعاً فباعها بثلاثمائة وستّين ألفاً فاستغنى عن بيت المال»(3).

صحيح أنّ بيت المال يؤمّن مصارف الأشخاص الذين يقدّمون خدمة مجانية للاُمّة، ويتحمّلون الأعباء التي لا يتحمّلها غيرهم، ولكن ما أروع أن يستطيع

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الميزان، ج16، ص367.

2 ـ اُنظر تفسير البرهان، ج3، ص343. وتفسير نور الثقلين، ج4، ص315.

3 ـ مجمع البيان ـ ج8 ص381.

[401]

الإنسان تقديم هذه الخدمة، وتأمين معاشه ـ في حال الإستطاعة ـ من كدّ يمينه، وداود (عليه السلام) أراد أن يكون ذلك العبد الممتاز.

على كلّ حال، فإنّ داود وجّه هذه القدرة التي وهبها إيّاه الله في أفضل الطرق وهي صناعة وسائل الجهاد والدفاع ضدّ الأعداء، ولم يحاول الإستفادة منها في صناعة وسائل الحياة العادية، وعلاوة على الإستفادة من دخله منها في تصريف اُمور حياته المعاشية البسيطة، فقد هيّأ جزءاً منه للإنفاق على المحتاجين(1). وفوق كلّ هذا، فقد كان عمله بحدّ ذاته معجزة إرتبطت به.

نقل بعض المفسّرين قال «حُكي أنّ لقمان حضر داود عند أوّل درع عملها فجعل يتفكّر فيها ولا يدري ما يريد، ولم يسأله حتّى فرغ منها ثمّ قام فلبسها وقال: نعم جُنة الحرب هذه. فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله!»(2).

الآية التي بعدها تتعرّض لشرح صناعة داود للدروع والأمر الإلهي العميق المعنى بهذا الخصوص. يقول تعالى: (أن اعمل سابغات وقدّر في السرد).

«سابغات»: جمع (سابغ) وهو الدرع التامّ الواسع، و«إسباغ النعمة» أيضاً بمعنى توسيعها.

«سرد»: في الأصل بمعنى حياكة ما يخشن ويغلظ كنسج الدرع وخرز الجلد، واستعير لنظم الحديد. وجملة (وقدّر في السرد) معناها مراعاة المقاييس المتناسبة في حلقات الدرع وطريقة نسجها. وفي الواقع فإنّ الله تعالى قد أمر داود بأن يكون مثالا يحتذى لكل الحرفيين والعمّال المؤمنين في العالم، بمراعاته للإتقان والدقّة في العمل من حيث الكمّ والكيف في المصنوعات، ليستطيع بالتالي مستهلكوها إستعمالها براحة وبشكل جيّد، والإفادة من متانتها.

يقول تعالى لداود: أن اصنع الدروع واسعة ومريحة، حتّى لا تكون سجناً

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ راجع تفسير أبو الفتوح الرازي، ج9، ص192.

2 ـ مجمع البيان، ج8، ص382.

[402]

للمقاتل وقت إرتدائها .. لا تجعل حلقاتها صغيرة وضيّقة أكثر من اللازم فتفقد بذلك خاصيّة الإنثناء والتطوّي، ولا كبيرة إلى درجة يمرّ منها حدّ السيف والخنجر والسنان، فكلّ شيء يجب أن يكون ضمن مقياس معيّن وتناسب محدّد.

الخلاصة: هي أنّ الله تعالى قد قيّض لداود «المادّة» بمقتضى (وألنّا له الحديد).

وكذلك علّمه بطريقة تحويلها وصناعتها، حتّى يكون الناتج كاملا بإجتماع «المادّة» و «الصورة».

ثمّ تُختم الآية بخطاب لداود وأهل بيته (واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون بصير).

ويلاحظ أنّ المخاطب كان في صدر الآية داود وحده، بيننما تحوّل الخطاب في آخر الآية ليشمل داود وأهل بيته أو داود وقومه، ذلك لأنّ هذه الاُمور مقدّمة للعمل الصالح، فالهدف ليس صناعة الدروع وتحقيق الربح، بل إنّ ذلك كلّه وسيلة في المسير باتّجاه العمل الصالح. وليستفيد أيضاً داود وأهل بيته. وإحدى خصائص العمل الصالح هي مراعاة الدقّة الكافية في الصناعات من كلّ الجوانب وتقديم نتاج كامل ومفيد خال من أي عيب أو تقصير.

ومن المحتمل أيضاً أن يكون الخطاب لداود وكلّ من تحقّقت له الإستفادة من جهده ونسيجه، إشارة إلى أنّ هذه الوسيلة الدفاعية ينبغي أن تستخدم في طريق العمل الصالح، وليس في طريق المعاصي والجور والظلم.

* * *

[403]

الآيات

وَلِسُلَيْمَـنَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ(12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَـرِيبَ وَتَمَـثِيلَ وَجِفَان كَالْجَوَابِ وَقُدُورِ رَّاسِيَـت اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ(13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْه الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاَْرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ(14)

التّفسير

هيبة سليمان وموته العبرة!!

بعد الحديث عن المواهب التي أغدق الله بها على داود (عليه السلام) تنتقل الآيات إلى الحديث عن إبنه سليمان (عليه السلام)، وفي حين أنّ الآيات السابقة أشارت إلى موهبتين تخصّان داود، فهذه الآيات تشير إلى ثلاث مواهب عظيمة خُصّ بها إبنه

[404]

سليمان(عليه السلام) يقول تعالى: (ولسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر)(1).

الملفتُ هنا أنّ الله تبارك وتعالى حينما سخّر للأب جسماً خشناً وصلباً جدّاً وهو الحديد، نرى أنّه قد سخّر للإبن موجوداً لطيفاً للغاية، ولكنّ العملين كانا نافعين وإعجازيين، جسم صلب يلين لداود، وأمواج الهواء اللطيفة تجعل محكمة وفعّالة لسليمان!!

ولطافة الريح لا تمنع من أدائه أعمال هامّة، فمن الرياح ما يحرّك السفن الكبيرة على ظهر المحيطات، ومنها ما يدير أحجار الطاحونات الهوائية الثقيلة، ومنها ما يرفع البالونات إلى عنان السماء ويحرّكها كالطائرات.

نعم، هذا الجسم اللطيف بهذه القدرة الإيجابية سُخّر لسليمان.

أمّا كيف تحمل الريح مقعد سليمان، (سواء أكانت كرسياً أم بساطاً)؟ فليس بواضح لنا. والقدر المتيقّن هو أن لا شيء يمثّل مشكلة أو عقبة أمام قدرة الله، لقد إستطاع الإنسان بقدرته ـ الحقيرة أمام قدرة الله ـ أن يحرّك البالونات والطائرات التي تحمل مئات بل آلاف المسافرين والأحمال الاُخرى في عنان السماء، فهل أنّ تحريك بساط سليمان بواسطة الريح يشكّل أدنى مشكلة للباري جلّت قدرته!؟

ما هي العوامل التي تحفظ سليمان ووسيلة نقله من السقوط أو من ضغط الهواء والمشكلات الاُخرى الناشئة من الحركة في السماء؟ هذه أيضاً من المسائل التي خفيت عنّا تفصيلاتها. ولكن ما نعلمه أنّ تأريخ الأنبياء حافل بخوارق العادة والتي ـ مع الأسف ـ إمتزجت نتيجة جهود بعض الجهلة أو أعداء المعرفة بالخرافات حتّى أضحت الصورة الحقيقية لهذه الاُمور مشوشة وقبيحة، ونحن

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ «لسليمان» جار ومجرور متعلّق بفعل مقدّر تقديره «سخّرنا» كما يفهم بقرينة الآيات السابقة، وقد صُرّح بذلك في الآية (36) من سورة ص. التي قال فيها سبحانه وتعالى: (فسخّرنا له الريح). وبعض المفسّرين يعتقد بأنّ (اللام) في (لسليمان) للتخصيص، إشارةً إلى أنّ المعجزة إختصّ بها سليمان ولم يشاركه فيها أحد من الأنبياء.

[405]

نقتنع بهذا الخصوص بالمقدار الذي أشار إليه القرآن الكريم.

«غدو»: بمعنى وقت الصبح من النهار، يقابله «الرواح» بمعنى وقت الغروب من النهار، ويطلق على الحيوانات عند عودتها إلى مساكنها في آخر النهار للإستراحة، ويبدو من القرائن في الآية مورد البحث أنّ «الغدو» هنا بمعنى النصف الأوّل من النهار، و «الرواح» النصف الثّاني منه، لذا يحتمل في معنى الآية أنّ سليمان (عليه السلام)يقطع في وقت مقداره من الصبح إلى الظهر ـ بمركبه ـ ما يعادل المسافة التي يقطعها المسافرون في ذلك الزمان بشهر كامل، وكذا نصف النهار الثاني.

بعدئذ تنتقل الآية إلى الموهبة الثّانية التي خصّ الله بها سليمان (عليه السلام) فتقول الآية الكريمة: (وأسلنا له عين القطر).

«أسلنا» من مادّة «سيلان» بمعنى الجريان، و «القطر» بمعنى النحاس، والمقصود أنّنا أذبنا له هذا الفلز وجعلناه كعين الماء، وذهب البعض إلى أنّ «القطر» يعني أنواع الفلزات أو «الرصاص»، وعلى هذا يكون قد اُلين الحديد للأب، واُذيبت الفلزات بأجمعها للابن، ولكن المشهور هو المعنى الأوّل.

كيف يكون النحاس أو الفلزات الاُخرى كعين الماء بين يدي سليمان (عليه السلام)؟ هل أنّ الله علّم هذا النّبي كيفية إذابة هذه الفلزات بكميات كبيرة بطريقة الإعجاز؟ أو جعل عيناً من هذا الفلز المائع تحت تصرفه، تشبه عيون البراكين وقت فعاليتها، حيث تنحدر منها على أطراف الجبل بصورة إعجازية، أو بأي شكل آخر؟ ليس واضحاً لدينا وما نعلمه هو أنّ ذلك أيضاً كان من الألطاف الإلهية على هذا النّبي العظيم.

أخيراً تنتقل الآية إلى بيان الموهبة الإلهية الثالثة لسليمان (عليه السلام) وهي تسخير مجموعة كبيرة من الجنّ لخدمته فتقول الآية: (ومن الجنّ من يعمل بين يديه بإذن ربّه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير).

«الجنّ»: وكما هو معلوم من إسمه، ذلك المخلوق المستور عن الحسّ البشري،

[406]

له عقل وقدرة ومكلّف بتكاليف إلهية ـ كما يستفاد من آيات القرآن ـ .

لقد صيغت حول «الجنّ» أساطير وحكايات وقصص خرافية كثيرة، لو حذفناها لكان أصل وجودهم والصفات الخاصّة بهم التي وردت في القرآن موضوعاً لا يخالف العلم والعقل مطلقاً، وسوف نتعرّض إن شاء الله لتفصيل هذا الموضوع أكثر عند تفسير سورة «الجنّ».

وعلى كلّ حال، يستفاد من تعبير الآية أعلاه، أنّ تسخير هذه القوّة العظيمة كان ـ أيضاً ـ بأمر الله، وأنّهم كانوا يتعرّضون للعقاب لدى تقصيرهم في أداء مهامهم.

قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود من «عذاب السعير» هنا، عقوبة يوم القيامة، في حين أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّها عقوبة في الدنيا.

وكذلك يستفاد من الآيات 37 و38 من سورة «ص» بأنّ الله قد سخّر لسليمان(عليه السلام) مجموعة من الشياطين لإنجاز أعمال عمرانية هامّة له، وأنّهم كانوا يكبّلون بالسلاسل بأمر من سليمان عند ظهور أي تخلّف منهم (والشياطين كلّ بنّاء وغواص وآخرين مقرنين بالأصفاد).

والجدير بالملاحظة. هو أنّه لإدارة حكومة كبيرة، ودولة واسعة كدولة سليمان يلزم وجود عوامل عديدة، ولكن أهمّها ثلاثة عوامل ذكرتها الآية أعلاه وهي:

الأوّل: توفّر واسطة نقل سريعة مهيّأة على الدوام، لكي يستطيع رئيس الحكومة تفقّد جميع أطراف دولته بواسطتها.

الثاني: مواد أوّلية يستفاد منها لصناعة المعدّات اللازمة لحياة الناس والصناعات المختلفة.

الثالث: قوّة عاملة فعّالة، تستطيع الإفادة من تلك المواد بدرجة مناسبة، وتصنيعها بالكيفية اللازمة، وسدّ حاجة البلاد من هذه الجهة.

ونرى أنّ الله تعالى قد قيّض لسليمان هذه العناصر الثلاثة، وقد حقّق سليمان منها أحسن الفائدة في ترقية الناس وتعمير البلاد وتحقيق الأمن فيها.

[407]

وهذا الموضوع لا يختّص فقط بعصر سليمان (عليه السلام) وحكومته، فالإلتفات إليه ومراعاته من الضروريات اليوم وغداً، وفي كلّ مكان لأجل إدارة الدول بطريقة صحيحة.

الآية التالية، تشير إلى جانب من الأعمال الإنتاجية الهامّة، التي كان يقوم بها فريق الجنّ بأمر سليمان.

يقول تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات).

فكلّ ما أراده سليمان من معابد وتماثيل وأواني كبيرة للغذاء والتي كانت كالأحواض الكبيرة، وقدور واسعة ثابتة، كانت تهيّأ له، فبعضها يرتبط بالمسائل المعنوية والعبادية، وبعضها الآخر يرتبط بالمسائل الجسمانية، وكانت متناسبة مع أعداد جيشه وعمّاله الهائلة.

«محاريب» جمع محراب، ويعني «مكان العبادة» أو «القصور والمباني الكبيرة» التي بنيت كمعابد. كذلك اُطلقت أيضاً على صدر المجلس، وعندما بُنيت المساجد سمّي صدر المسجد به، قيل: سمّي محراب المسجد بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والهوى(1). وقيل: سمّي بذلك لأنّ الإنسان فيه يكون حريباً من أشغال الدنيا ومن توزّع الخواطر(2).

على كلّ حال، فإنّ هؤلاء العمّال النشطين المهرة، قاموا ببناء المعابد الضخمة والجميلة في ظلّ حكومته الإلهية والعقائدية، حتّى يستطيع الناس أداء وظائفهم العبادية بسهولة.

«تماثيل»: جمع تمثال، بمعنى الرسم والصورة والمجسمة، وقد وردت تفاسير عديدة حول ماهية هذه التماثيل ولأي الموجودات كانت؟ أو لماذا أمر سليمان

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مفردات الراغب، مادّة (حرب).

2 ـ المصدر السابق.

[408]

بصنعها؟.

يمكن أن تكون صنعت لتزيين المباني، كما نلاحظ ذلك في المباني المهمّة القديمة في عصرنا الحالي، أو حتّى في بعض المباني الجديدة.

أو لإضفاء الاُبّهة والهيبة على المباني التي بنيت، حيث أنّ رسم بعض أنواع الحيوانات كالأسد مثلا يضفي نوعاً من الاُبّهة في أفكار غالبية الناس.

ثمّ، هل كان صنع تماثيل ذوات الأرواح مباحاً في شريعة سليمان (عليه السلام) مع كونه حراماً في الشريعة الإسلامية؟ أو أنّ التماثيل التي كانت تصنع لغير ذوات الروح من الموجودات كالأشجار والجبال والشمس والقمر والنجوم؟

أو أنّها كانت مجرّد نقوش ورسوم على الجدران ـ كما تلاحظ في الآثار القديمة ـ وهي غير محرّمة كما هو الحال في حرمة التماثيل المجسّمة.

كلّ ذلك محتمل، لأنّ تحريم صناعة المجسّمات في الإسلام، كان بقصد مكافحة قضيّة عبادة الأوثان وإقتلاعها من الجذور، في حين أنّ ذلك لم يكن بتلك الدرجة من الضرورة في زمن سليمان، لذا لم تحرم في شريعته!

ولكنّنا نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنّها الشجر وشبهه»(1).

وبالإستناد إلى هذه الرّواية فإنّ صنع التماثيل من ذوات الروح في شريعة سليمان كان حراماً أيضاً.

«جفان» جمع «جفنة» بمعنى إناء الطعام.

«جوابي» جمع «جابية» بمعنى حوض الماء.

وهنا يستفاد أنّ المقصود من التعبير الوارد في الآية الكريمة، أنّ هؤلاء العمّال قد صنعوا لسليمان (عليه السلام) أواني للطعام كبيرة جدّاً، بحيث أنّ كلاًّ منها كان كالحوض،

ــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ وسائل الشيعة، ج12، ص219 ـ 220، ب94، ح1.

[409]

لكي يستطيع عدد كبير من الأفراد الجلوس حوله وتناول الطعام منه. والإستفادة من الأواني الجماعية الكبيرة لتناول الطعام كانت موجودة إلى أزمنة ليست بالبعيدة. وفي الحقيقة فإنّ مائدتهم كانت تلك الأواني الكبيرة التي لا تشبه ما نستعمله هذه الأيّام من أوان صغيرة ومستقلّة.

«قدور»: جمع «قدر» على وزن «قشر». بنفس معناه الحالي، أي الإناء الذي يطبخ فيه الطعام.

«راسيات»: جمع «راسية» بمعنى ثابتة، والمقصود أنّ القدور كانت من العظمة بحيث لا يمكن تحريكها من مكانها.

وتعرج الآية في الختام وبعد ذكر هذه المواهب الإلهية، إلى آل داود فتخاطبهم: (اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور).

وبديهي أنّ (الشكر) الذي أشارت إليه الآية، لو كان مقصوداً به الشكر باللسان لما كانت هناك أدنى مشكلة ولمّا كان العاملون به قليلين، ولكن المقصود هو (الشكر العملي). أي الإستفادة من تلك المواهب في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها. والمسلّم به أنّ الذين يستفيدون من المواهب الإلهية في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها هم الندرة النادرة.

قال بعض العلماء: إنّ للشكر ثلاثة مراحل: الشكر بالقلب، بتصوّر النعمة والرضى والسرور بها. والشكر باللسان، وبالحمد والثناء على المنعم. الشكر بسائر الأعضاء والجوارح، وذلك بتطبيق الأعمال مع متطلّبات تلك النعمة.

«شكور»: صيغة مبالغة. يعبّر بها عن كثرة الشكر ودوامه بالقلب واللسان والأعضاء والجوارح.

وهذه الصفة تطلق أحياناً على الله سبحانه وتعالى، كما ورد في الآية (17) من سورة التغابن: (إنّه سكور حليم). والمقصود به أنّ الله سبحانه وتعالى، يشمل العباد المطيعين بعطاياه وألطافه، ويشكرهم، ويزيدهم من فضله أكثر ممّا

[410]

يستحقّون.

كذلك يمكن أن يكون التعبير بـ (قليل من عبادي الشكور) إشارة إلى تعظيم مقام هذه المجموعة النموذجية، أو بمعنى حثّ المستمع ليكون من أفراد تلك الزمرة ويزيد جمع الشاكرين.

آخر آية من هذه الآيات، وهي آخر حديث عن النّبي سليمان (عليه السلام)، يخبرنا الله سبحانه وتعالى فيها بطريقة موت ذلك النّبي العجيبة والداعية للإعتبار، فيوضّح تلك الحقيقة الساطعة، وهي كيف أنّ نبيّاً بتلك العظمة وحاكماً بكلّ تلك القدرة والاُبّهة، لم يستطع حين أخذ الموت بتلابيبه من أن يستلقي على سرير مريح، وإنتزعت روحه من بدنه بتلك السهولة والسرعة. يقول تعالى: (فلمّا قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلاّ دابة الأرض تأكل منسأته)(1).

يستفاد من تعبير الآية ومن الروايات المتعدّدة الواردة في تفسيرها، أنّ سليمان كان واقفاً متّكئاً على عصاه حين فاجأه الموت واستلّ روحه من بدنه، وبقي جثمان سليمان مدّة على حالته، حتّى أكلت الأُرضةُ ـ التي عبّر عنها القرآن بـ «دابّة الأرض» ـ عصاه، فاختلّ توازنه وهوى على الأرض، وبذا عُلم بموته.

لذا تضيف الآية بعد ذلك (فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).