وللجواب على هذا السؤال يجب القول: إنّ للمعرفة مراحل، أعلاها هي تلك المعرفة التي تخص ذات الله المقدسة، والتي لا يمكن لأي أحد أن يعرفها أو يطلع عليها غير ذاته المقدسة التي تعرف كنه ذاته المقدسة، والحديث الشريف المذكور يشير إلى هذا المعنى.

أمّا بقية المراحل التي تأتي بعد هذه المرحلة والتي يمكن للعقل البشري أن يتعرف عليها، هي مرحلة معرفة صفات الله بصورة عامة ومعرفة أفعاله بصورة مفصلة، وهذه المرحلة كما ذكرنا ممكنة بالنسبة للإنسان، والمراد من معرفة الله الوصول إلى هذه المرحلة، والآية مورد بحثنا تحدثت عن هذه المرحلة، حيث أن المشركين يجهلون هذا المقدار من المعرفة أيضاً.

* * *

[148]

الآية

وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ اُخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ( 68 )

التّفسير

(النفخ في الصور) وموت وإحياء جميع العباد:

الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن يوم القيامة، وآية بحثنا الحالي تواصل الحديث عن ذلك اليوم مع ذكر إحدى الميزات المهمة له، إذ تبدأ الحديث بنهاية الحياة في الدنيا، وتقول: (ونفخ في الصور من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله).

يتّضح بصورة جيدة من هذه الآية أنّ حادثتين تقعان مع نهاية العالم وعند البعث، في الحادثة الأولى يموت الأحياء فوراً، وفي الحادثة الثانية ـ التي تقع بعد فترة من وقوع الحادثة الأولى ـ يعود كلّ الناس إلى الحياة مرّة اُخرى، و يقفون بانتظار الحساب.

القرآن المجيد عبّر عن هاتين الحادثتين بـ «النفخ في الصور»، وهذا التعبير كناية عن الحوادث المفاجئة والمتزامنة التي ستقع و «الصور» بمعنى البوق الذي يتخذ من قرن الثور ويكون مجوفاً عادة حيث يستخدم مثل هذا البوق في حركة

[149]

القوافل أو الجيش وتوقفها، وطبعاً هناك تفاوت بين النفخة للتحركة والنفخة للتوقف.

كما يبيّن هذا التعبير سهولة الأمر ويوضح كيف أن الباريء عزّوجلّ ـ من خلال أمر بسيط وهو النفخ في الصور ـ يميت كلّ من في السماء والأرض، وكيف أنّه يبعثهم من جديد بنفخة صور اُخرى.

وقلنا سابقاً إنّ الألفاظ التي نستخدمها في حياتنا اليومية عاجزة عن توضيح الحقائق المتعلقة بعالم ما وراء الطبيعة أو نهاية العالم وبدء عالم آخر بدقّة، ولهذا السبب يجب الاستفادة من أوسع معاني الألفاظ الدارجة والمتداولة مع الإلتفات إلى القرائن الموجودة.

توضيح: لقد وردت تعبيرات مختلفة في القرآن المجيد عن نهاية الحياة في هذا العالم وبدء حياة اُخرى في عالم آخر، حيث ورد الحديث عن (النفخ في الصور) في أكثر من عشر آيات(1).

في إحداها استخدمت عبارة النفر في الناقور (فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير)(2).

وفي بعضها استخدمت عبارة (القارعة) كما في الآيات (1 و2 و3 من سورة القارعة) (القارعة، ما القارعة، وما أدراك ما القارعة).

وأخيراً استخدمت في بعضها عبارة «صحيحة» والتي تعني الصوت العظيم، كما ورد ذلك في الآية (49) من سورة يس (ماينظرون إلاّ صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) التي تتحدث عن الصيحة التي تقع في نهاية العالم وتفاجىء كل بني آدم.

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الآيات التي ورد فيها ما يشير إلى النفخ في الصور هي: (الكهف ـ 99) و (المؤمنون ـ (101)، (يس ـ 51)، (الزمر ـ 68)، (ق ـ 20)، (الحاقة ـ 13)، (الأنعام ـ 73)، (طه ـ 102)، (النمل ـ 87)، (النبأ ـ 18).

2 ـ المدثر، الآية 8.

[150]

أمّا الآية (53) من سورة يس (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) فإنّها تتحدث عن صيحة (الإحياء) التي تبعث الناس من جديد وتحضرهم إلى محكمة العدل الإلهية.

من مجموع هذه الآيات يمكن أن يستشف بأن نهاية أهل السموات والأرض تتمّ بعد صيحة عظيمة وهي (صيحة الموت) وأنّهم يبعثون من جديد وهم قيام بصيحة عظيمة أيضاً، وهذه هي (صيحة بعث الحياة).

وأمّا كيف تكون هاتان الصيحتان؟

وما هي آثار الصيحة الأولى وتأثير الصيحة الثانية؟ فلا علم لأحد بهما إلاّ الله سبحانه وتعالى، ولذا ورد في بعض الرّوايات التي تصف (الصور) الذي ينفخ فيه «إسرافيل» في نهاية العالم، عن علي بن الحسين(عليه السلام): ـ «وللصور رأس واحد وطرفان، وبين طرف رأس كلّ منهما إلى الآخر مثل ما بين السماء إلى الأرض …» قال: فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي بلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلاّ صعق ومات، ويخرج الصوت من الطرف الذي بلي السماوات فلا يبقى في السماوات ذو روح إلاّ صعق ومات إلاّ إسرافيل، قال: فيقول الله لإسرافيل: يا إسرافيل، مت، فيموت إسرافيل...»(1).

على أية حال، فإنّ أكثر المفسّرين اعتبروا (النفخ في الصور) كناية لطيفة عن كيفية نهاية العالم وبدء البعث، ولكن مجموعة قليلة من المفسّرين قالوا: إن (صور) هي جمع (صورة) وطبقاً لهذا القول، فقد اعتبروا النفخ في الصور يعني النفخ في الوجه، مثل نفخ الروح في بدون الإنسان، ووفق هذا التّفسير ينفخ مرّة واحدة في وجوه بني آدم فيموتون جميعاً، وينفخ مرة اُخرى فيبعثون جميعاً(2).

هذا التّفسير إضافة إلى كونه لا يتطابق مع ما جاء في الروايات، فإنّه

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 502.

2 ـ يرجى الإنتباه إلى أنّ (صور) هي على وزن (نور)، و(صُوَر) هي على وزن (زحل) هما جمع (الصورة).

[151]

 لا يتطابق أيضاً مع الآية مورد بحثنا، لأنّ الضمير في عبارة (ثم نفخ فيه اُخرى)مفرد مذكر يعود على الصور، في حين لو كان يراد منه المعنى الثّاني لكان يجب استعمال ضمير المفرد المؤنث في العبارة لتصبح (نفخ فيها).

إنّ النفخ في الوجه في مجال إحياء الأموات يعد أمراً مناسباً (كما في معجزات عيسى (عليه السلام)) إلاّ أنّ هذا التعبير لا يمكن استخدامه في مجال قبض الأرواح.

* * *

بحوث

1 ـ هل أنّ النفخ في الصور يتمّ مرتين، أو أكثر؟

المشهور بين علماء المسلمين أنّه يتمّ مرّتين فقط، وظاهر الآية يوضّح هذا أيضأ، كما أنّ مراجعة آيات القرآن الأُخرى تبيّن أنّ هناك نفختين فقط، لكن البعض قال: إنّها ثلاث نفخات، والبعض الآخر قال: إنّها أربع.

وبهذا الشكل فالنفخة الأولى يقال لها نفخة (الفزع)، وهذه العبارة وردت في الآية (87) من سورة النمل (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض).

والنفختان الثانية والثّالثة يعتبرونها للإماتة والإحياء، والتي أشير إليها في آيات بحثنا وفي آيات قرآنية اُخرى، أولاهما يطلقون عليها نفخة (الصعق) (الصعق تعني فقدان الإنسان حالة الشعور، أي يغشى عليه، وتعني أيضاً الموت) والثانية يطلق عليها نفخة (القيام).

أمّا الذين احتملوا أن النفخات أربع، فيبدو أنّهم استشفوا ذلك من الآية (53) من سورة يس والتي تقول بعد نفخة الإحياء( إن كانت صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) وهذه النفخة هي (لجمعهم وإحضارهم).

[152]

والحقيقة أنّه ليس هناك أكثر من نفختين، ومسألة الفزع والرعب العام في الواقع هي مقدمة لموت جميع البشر والذي يتم بعد النفخة الأُولى أو الصيحة الأولى، كما أن نفخة الجمع هي تتمة لنفخة الإحياء والبعث، وبهذا الشكل فلا يوجد أكثر من نفختين (نفخة الموت) و (نفخة الإحياء)، وهناك شاهد آخر على هذا القول وهو الآيتان (6 و 7) من سورة النازعات، اللتان تقولان: (يوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة).

2 ـ ما هو صور إسرافيل:

هناك سؤال يتبادر إلى الذهن، وهو: كيف تملأه أمواج الصور الصوتية كلّ العالم في نفس اللحظة؟ رغم أنّنا نعلم أنّ سرعة الأمواج الصوتية بطيئة ولا تتجاوز الـ (240) متراً في الثانية، في حين أنّ سرعة الضوء هي أكثر بمليون مرة من هذه السرعة إذ تبلغ (300) ألف كيلومتر في الثانية.

يجب الاعتراف في البداية بأنّ معلوماتنا بشأن هذا الموضوع هي كمعلوماتنا بشأن الكثير من المسائل المتعلقة بيوم القيامة، فهي معلومات عامة لا أكثر، إذ نجهل الكثير من تفاصيل ذلك اليوم كما قلنا.

والتدقيق في الروايات الواردة في المصادر الإسلامية بشأن تفسير كلمة (الصور) تبيّن عكس ما يتصور البعض من أنّ (الصور) هو (زمارة) أو (مزمار) أو (بوق) اعتيادي.

وقد جاء في رواية عن الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الصور قرن عظيم له رأس واحد وطرفان، وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى الذي يلي السماء مثل تخوم الأرضين إلى فوق السماء السابعة، فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق»(1).

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ لئالي الأخبار، الصفحة 453.

[153]

وفي حديث ورد عن رسول الله، جاء فيه: «الصور قرن من نور فيه أثقاب على عدد أرواح العباد»(1).

طرح مسألة النور هنا بمثابة جواب على السؤال الثّاني المذكور أعلاه، ويوضح أن الصيحة العظيمة ليست من قبيل الأمواج الصوتية الإعتيادية، وإنّما هي صيحة أعظم وأعظم، وتكون أمواجها ذات سرعة فائقة وغير طبيعية حتى أنّها أسرع من الضوء الذي يجتاز السماء والأرض بفترة زمنية قصيرة جدّاً، ففي المرّة الأولى تكون مميتة، في المرة الثانية تكون باعثة للأموات.

أمّا كيف يتسبب مثل هذا الصوت في إماتة العالمين، فإنّ كان هذا الأمر عجيباً في السابق، فإنه غير عجيب اليوم، لأننا سمعنا كثيراً بأن الأمواج الإنفجارية تسببت في تمزق أجساد البعض وإصابة آخرين بالصميم، ورمي آخرين إلى مسافة بعيدة عن مكانهم، وتسببت في تدمير البيوت أيضاً، كما شاهد الكثير منّا كيف أنّ زيادة سرعة الطائرة وبعبارة اُخرى (اختراق حاجز الصوت) يولّد صوتاً مرعباً وأمواجاً مدمّرة، قد تحطم زجاج نوافذ الكثير من العمارات والبيوت.

فإذا كانت الأمواج الصوتية الصغيرة التي هي من صنع الإنسان تحدث مثل هذا التأثير، فما هي الآثار التي تتركها الصيحة الإلهية العظيمة، هي بلا شكّ انفجار عالمي كبير.

ولهذا السبب لا عجب أيضاً إن قلنا بوجود أمواج تقابل تلك الأمواج، وأنّها تهز الإنسان وتوقظه وتحييه، رغم أنّه من العسير علينا تصور هذا المعنى، ولكننا نرى دائماً كيف يوقظ النائم من نومه بواسطة الصوت، وكيف يعود الإنسان المغمى عليه إلى حالته الطبيعية بواسطة عدّة صعقات شديدة، ونكرر القول مرّة اُخرى، ونقول: إنّ علمنا المحدود لا يمكنه إدراك سوى ظلّ هذه الأُمور ومن بعيد.

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ علم اليقين، الصفحة 892.

[154]

3 ـ من هم المستثنون؟

كما مرّ علينا في الآية المبحوثة عنها فإنّ كلّ أهل السموات والأرض يموتون سوى مجموعة واحدة (إلا من شاء الله) فمن هي هذه المجموعة؟ هناك اختلاف بين المفسّرين بشأن هذا الأمر:

فمجموعة من المفسّرين قالوا: إنّهم ملائكة الله الكبار، كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وقد أشارت رواية إلى هذا المعنى(1).

البعض أضاف إلى أولئك الملائكة الكبار حملة عرش الله (كما وردت في رواية اُخرى)(2).

ومجموعة اُخرى قالت: إنّ أرواح الشهداء مستثناة من الموت، وفقاً لما جاء في آيات القرآن المجيد (أحياء عند ربهم يرزقون) كما ورد في رواية تشير إلى هذا المعنى(3).

وبالطبع فإنّ هذه الروايات لا تتعارض مع بعضها البعض، ولكن في كلّ الصور فإنّ هذه المجموعة المتبقية تموت في نهاية الأمر، كما أوضحته تلك الرّوايات، ولا يبقى أحد حياً في هذا العالم سوى الباريء عزّوجلّ إذ هو (حي  لا يموت).

وعن كيفية موت الملائكة وأرواح الشهداء والأنبياء والأولياء، فيحتمل أنّ المراد من موت أُولئك هو قطع إرتباط الروح عن قالبها المثالي، أو تعطيل نشاط الروح المستمر.

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ مجمع البيان ذيل آيات البحث.

2 ـ بحار الانوار، المجلد 6، الصفحة 329.

3 ـ نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 503، الحديث 119.

[155]

4 ـ فجائية النفختين:

آيات القرآن الكريم توضح بصورة جيدة أنّ النفختين تقعان بصورة مفاجئة، والنفخة الأولى تكون فجائية بحيث أنّ مجموعة كبيرة من الناس تكون منشغلة بالتجارة والجدال والنقاش في أموالهم وبيعهم وشرائهم، وفجأة يسمعون الصيحة، فيسقطون في أماكنهم ميتين، كما صرحت بذلك الآية (29) في سورة يس (إن كانت إلاّ صيحة واحدة فإذا هم خامدون).

وأمّا (الصيحة الثانية) فإنّ آيات القرآن الكريم ـ ومنها الآية التي هي مورد بحثناـ تبيّن بأنّها تقع فجأة أيضاً.

5 ـ ماهي الفاصلة الزمنية بين النفختين؟

الآيات القرآنية لم تذكر توضيحاً حول هذا الأمر، سوى كلمة (ثم) التي وردت ضمن آية بحثنا والتي تدل على وجود فاصل زمني بين النفختين، إلاّ أنّ بعض الرّوايات ذكرت بأن هذه الفاصلة مقدارها (40) عاماً(1). والمجهول بالنسبة لنا هو معيار هذه السنين، فهل هي سنوات اعتيادية كالتي نعيشها نحن، أم أنّها سنوات وأيّام كسنوات وأيّام القيامة.

على أية حال فالتفكر في نفخة الصور ونهاية العالم، وكذلك بالنفخة الثانية وبدء عالم جديد، ومع ملاحظة الإشارات التي وردت في القرآن المجيد، والتفاصيل الأُخرى في الرّوايات الإسلامية بهذا الشأن، يعطي دروساً تربوبة عميقة للإنسان، وخاصة أنّها توضح هذه الحقيقة، وهي البقاء على استعداد دائم لاستقبال مثل هذا الحادث العظيم والرهيب في كلّ لحظة، لأنّه لم يحدد لوقوعها تاريخ معين، إذ يحتمل وقوعها في أية لحظة، إضافة إلى أنّها تقع من دون مقدمات، لذا ورد في ذيل إحدى الرّوايات الخاصة بنفخ الصور والمذكورة آنفاً أنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ نور الثقلين، المجلد 4، الصفحة 503، الحديث 119.

[156]

الراوي قال، عندما وصل الكلام إلى هذا الأمر «رأيت علي بن الحسين يبكي عند ذلك «بكاء شديداً»، إذ كان قلقاً جدّاً من مسألة نهاية العالم ويوم القيامة، وإحضار الناس للحساب في محكمة العدل الإلهية»(1).

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ تفسير الصافي ذيل آية البحث.

[157]

الآيتان

وَ أَشْرَقَتِ الاَْرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَـبُ وَجِاْىءَ بِالنَّبِيِّنَ وَالشُّهَدآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( 69 )وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْس مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ( 70 )

التّفسير

ذلك اليوم الذي تشرق الأرض بنور ربّها:

آيتا بحثنا تواصلان استعراض الحديث عن القيامة والذي بدأ قبل عدّة آيات، وهاتان الآيتان تضمان سبع عبارات منسجمة، كلّ واحدة تتناول أمراً من أُمور المعاد، لتكمل بعضها البعض، أو أنّها تقيم دليلا على ذلك.

في البداية تقول: (وأشرقت الأرض بنور ربّها).

وقد اختلف المفسّرون في معنى إشراق الأرض بنور ربها، إذ ذكروا تفسيرات عديدة، اخترنا ثلاثاً منها، وهي :

1 ـ قالت مجموعة: إنّ المراد من نور الرب هما الحق والعدالة، الذي ينير بهما ربّ العالمين الأرض في ذلك اليوم، حيث قال العلامة المجلسي في بحارالأنوار: «أي أضاءت الأرض بعدل ربها يوم القيامة، لأن نور الأرض

[158]

بالعدل»(1).

والبعض الآخر اعتبر الحديث النبوي (الظلم ظلمات يوم القيامة) شاهداً على هذا المعنى(2).

فيما قال «الزمخشري» في تفسيره الكشاف: (وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات).

2 ـ البعض الآخر يعتقد أنّه إشارة إلى نور غير نور الشمس والقمر، يخلقه الله في ذلك اليوم خاصة.

3 ـ أمّا المفسّر الكبير العلاّمة الطباطبائي أعلى الله مقامه الشريف صاحب تفسير الميزان فقد قال: إنّ المراد من إشراق الأرض بنور ربّها هو ما يخصّ يوم القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها وبدو الأعمال من خير أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين. وقد استدل العلاّمة الطباطبائي على هذا الرأي بالآية (22) من سورة (ق) (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). وهذا الإشراق ـ وإن كان عاماً لكل شيء يسعه النور ـ لكن لما كان الغرض بيان ما للأرض وأهلها يومئذ من الشأن خصها بالبيان.

وبالطبع فإن هذه التفاسير لا تتعارض فيما بينها، ويمكن القول بصحتها جميعاً، مع أن التّفسيرين الأوّل والثّالث أنسب من غيرهما.

ومن دون شك فإنّ هذه الآية تتعلق بيوم القيامة، وإن وجدنا بعض روايات أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) تفسّرها على أنّها تعود إلى ظهور القائم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فهي في الواقع نوع من التطبيق والتشبيه،

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ بحار الانوار، المجلد 6، الصفحة 321.

2 ـ روح المعاني و روح البيان ذيل آية البحث.

[159]

وتأكيد لهذا المعنى، وهو عند ظهور المهدي (عج) تصبح الدنيا نموذجاً حياً من مشاهد القيامة، إذ يملأ هذا الإمام بالحق ونائب الرّسول الأكرم وخليفة الله الأرض بالعدل إلى الحد الذي ترتضيه الحياة الدنيا.

ونقل (المفضل بن عمر) عن الإمام الصادق (عليه السلام) «إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها واستغنى العباد عن ضوء الشمس وذهبت الظلمة»(1).

العبارة الثّانية في هذه الآية تتحدث عن صحائف الأعمال، إذ تقول: (ووضع الكتاب).

الصحائف التي تتضمن جميع صغائر وكبائر أعمال الإنسان، وكما يقول القرآن المجيد في الآية (49) من سورة الكهف (لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها).

وتضيف العبارات التي تتحدث عن الشهود (وجيء بالنّبيين والشهداء).

فالأنبياء يحضرون ليسألوا عن أدائهم لمهام الرسالة، كما ورد في الآية (6) من سورة الأعراف (ولنسألن المرسلين).

كما يحضر شهداء الأعمال في محكمة العدل الإلهية ليدلوا بشهاداتهم، صحيح أن الباريء عزّوجلّ مطلع على كلّ الأُمور، ولكن للتأكيد على مقام العدالة يدعو شهداء الأعمال للحضور في تلك المحكمة.

ذكر المفسّرون آراء عديدة بشأن أولئك الشهداء على الأعمال، حيث قال البعض: إنّهم الصالحون والطاهرون والعادلون في الأمّة، الذين يشهدون على أداء الأنبياء لرسالتهم، وعلى أعمال الناس الذين كانوا يعاصرونهم، و(الأئمة المعصومون) هم في طليعة شهداء الأعمال.

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ إرشاد المفيد والخبر ذاته في تفسير الصافي ونور الثقلين في ذيل آيات البحث، ونفس المعنى، ورد في المجلد الثّاني والخمسين الصفحة 330 من بحار الأنوار للمرحوم العلاّمة المجلسي، مع شيء من الإختصار.

[160]

في حين يعتقد البعض الآخر بأنّ الملائكة هم الشهداء على أعمال الإنسان، والآية (21) في سورة (ق) تعطي الدليل على هذا المعنى (وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد).

وقال البعض: إن أعضاء بدن الإنسان ومكان وزمان الطاعة والمعصية هم الذين يشهدون على الإنسان يوم القيامة.

ويبدو أن كلمة (شهداء) لها معان واسعة، أشار كلّ مفسر إلى جانب منها في تفسيره.

و احتمل البعض أنّها تخص «الشهداء» الذين قتلوا في سبيل الله، ولكن هذا الأحتمال غير وارد وبعيد، لأن الحديث هو عن شهداء محكمة العدل الإلهي، وليس عن شهداء طريق الحق، مع إمكانية انضمامهم إلى صفوف الشهود.

العبارة الرّابعة تقول: (وقضى بينهم بالحق).

والخامسة تضيف: (وهم لا يظلمون).

فمن البديهيات، عندما يكون الحاكم هو الباريء عزّوجلّ، وتشرق الأرض بنور عدالته، وتعرض صحائف أعمال الإنسان التي تبيّن كلّ صغيرة وكبيرة بدقّة، ويحضر الأنبياء والشهود والعدول، فلا يحكم الباريء عزّوجلّ إلا بالحق، وفي مثل هذا المحاكم لا وجود للظالم والاستبداد مطلقاً.

العبارة السادسة في الآية التالية أكملت الحديث بالقول: (ووفيت كلّ نفس ما عملت).

إنّ جزاء الأعمال وعواقبها سترد إليهم، وهل هناك مكافأة ومجازاة أعلى من أن يرد عمل الإنسان بصورة كاملة إلى الإنسان نفسه (نلفت الإنتباه إلى أن كلمة (وفيت) تعني الأداء بصورة كاملة) ويبقى مرافقاً له إلى الأبد.

فالذي يتمكن من تنفيذ مثل هذه المناهج العادلة بدقّة، هو الذي أحاط علمه

[161]

بكل شيء، لهذا فإن العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول: (وهو أعلم بما يفعلون).

إذن فلا حاجة حتى للشهود، لأنّ الله هو أعلم من كلّ أولئك الشهود، ولكن لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود، نعم فهذا هو مشهد يوم القيامة، فليستعد الجميع لذلك اليوم.

* * *

[162]

الآيتان

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ بَلَى وَلَـكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـفِرِينَ( 71 ) قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَبَ جَهَنَّمَ خَـلِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ( 72 )

التّفسير

الذين يدخلون جهنم زمراً:

تواصل الآيات هنا بحث المعاد، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء المؤمنين والكافرين الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة. وتبدأ بأهل جهنم، إذ تقول: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً).

فمن الذي يسوقهم إلى جهنم؟

كما هو معروف فإن ملائكة العذاب هي التي تسوقهم حتى أبواب جهنم، ونظير هذه العبارة ورد في الآية (21) من سورة (ق)، إذ تقول: (وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد).

[163]

عبارة «زمر» تعني الجماعة الصغيرة من الناس، وتوضح أن الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات مجموعات صغيرة ومتفرقة.

و«سيق» من مادة (سوق) وتعني (الحث على اسير).

ثم تضيف ( حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربّكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا)(1).

يتّضح بصورة جيدة من خلال هذه العبارة، أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل سوق أُولئك الكفرة، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين يراد سجنهم، وهذا لحدث المفاجيء يوجد رعباً ووحشة كبيرة في قلوب الكافرين، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ، الذين يقولون استهجاناً وتوبيخاً لهم: لم كفرتم وقد هيئت لكم كافة أسباب الهداية، ألم يرسل إليكم أنبياء منكم يتلون آيات الله عليكم باستمرار، ومعهم معجزات من خالقكم، وإنذار وإعلام بالأخطار التي ستصيبكم إن كفرتم بالله (2)؟ فكيف وصل بكم الحال إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟

حقّاً إنّ كلام خزنة جهنم يعد من أشد أنواع العذاب على الكافرين الذين يواجهون بمثل هذا اللوم فور دخولهم جهنم.

على أية حال، فإنّ الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها الحسرات، قائلين: (قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين).

مجموعة من المفسّرين الكبار اعتبروا (كلمة العذاب) إشارة إلى قوله تعالى حين هبط آدم على الأرض، أو حينما قرر الشيطان إغواء بني آدم، كما ورد في الآية (39) من سورة البقرة (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون).

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ «خزنة» جمع (خازن) من مادة (خزن) على وزن (جزم) وتعني حافظ الشيء، و(خازن) تطلق على المحافظ والحارس.

2 ـ «يتلون» و«ينذرون»: كليهما فعل مضارع ودليل على الإستمرارية.

[164]

و حينما قال الشيطان: لأغوينهم جميعاً إلاّ عبادك المخلصين، فأجابه الباريء عزّوجلّ (لأملأن جهنم من الجنّة والناس أجمعين)(1).

وبهذا الشكل اعترفوا بأنّهم كذبوا الأنبياء وانكروا آيات الله، وبالطبع فإن مصيرهم لن يكون أفضل من هذا.

كما يوجد احتمال في أنّ المراد من (حقّت كلمة العذاب) هو ما تعنيه الآية السابعة في سورة (يس) (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون).

وهو إشارة إلى أن الإنسان يصل أحياناً ـ بسبب كثرة ذنوبه وعدائه ولجاجته وتعصبه أمام الحق ـ إلى درجة يختم معها على قلبه ولا يبقى أمامه أيّ طريق للعودة، وفي هذه الحالة يصبح مستحقاً تماماً للعذاب.

وعلى أيّة حال، فإن مصدر كلّ هذه الأُمور هو عمل الإنسان ذاته، وليس من الصحيح الاستدلال على معنى الجبر وفقدان حرية الإرادة.

هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين).

فأبواب جهنم ـ كما أشرنا إليها من قبل ـ يمكن أن تكون قد نظمت حسب أعمال الإنسان، وإن كلّ مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها، وذلك مثل أبواب الجنّة التي يطلق على أحد أبوابها اسم «باب المجاهدين» وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة»(2).

والذي يلفت النظر هو أن ملائكة العذاب تؤّكد على مسألة التكبر من بين بقية الصفات الرذيلة التي تؤدي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم، وذلك إشارة إلى أن التكبر والغرور وعدم الإنصياع والإستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الم السجدة، 13.

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة (27).

[165]

للكفر والإنحراف وإرتكاب الذنب.

نعم، فالتكبر ستار سميك يغطي عيني الإنسان ويحول دون رؤيته للحقائق الساطعة المضيئة، ولهذا نقرأ في رواية عن الأمامين المعصومين الباقر و الصادق عليهما السلام «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(1).