لقد كانوا رجالا مقاتلين أشدّاء، فأصيبوا بالغرور بسبب قدراتهم الظاهرية ومجدهم المادي، حتى ظنّوا أنّهم أفضل من الجميع، وأنّ قوّتهم لا تقهر، ولذلك قاموا بتكذيب الرسل والإنكار عليهم، وتكالبوا على نبيّهم «هود».

[371]

لكن القرآن يرد على هؤلاء ودعواهم بالقول: (أو لم يروا أنّ الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة).

أليس الذي خلقهم خلق السماوات والأرض؟

بل هل يمكن المقايسة بين هاتين القدرتين، فأين القدرة المحدودة الفانية من القدرة المطلقة اللامتناهية الأزلية؟!

ما للتراب وربّ الأرباب(1)؟!

تضيف الآية في النهاية قوله تعالى: (وكانوا بآياتنا يجحدون).

نعم، إنّ الإنسان الضعيف المحدود سوف يطغى بمجرّد أن يشعر بقليل من القدرة والقوة، وأحياناً بدافع من جهله، فيتوهم أنّه يصارع الله جلّ وعلا!!

لكن ما أسهل أن يبدل الله عوامل حياته إلى موت ودمار، كما تخبرنا الآية عن مآل قوم عاد: (فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحيوة الدنيا).

إنّ هذه الريح الصرصر، وكما تصرح بذلك آيات اُخرى، كانت تقتلعهم من الأرض بقوّة ثمّ ترطمهم بها، بحيث أصبحوا كأعجاز النخل الخاوية. (يلاحظ الوصف في سورة «القمر» الآية 19ـ20 وسورة الحاقة الآية 6 فما بعد).

لقد استمرت هذه الريح سبع ليال وثمانية أيّام، وحطّمت كيانهم وكل وسائل عيشهم، نكالا بما ركبوا من حماقة وعلو وغرور، ولم يبق منهم سوى أطلال تلك القصور العظيمة، وآثار تلك الحياة المرفهة.

هذا في الدنيا، وهناك في الآخرة: (ولعذاب الآخرة أخزى).

إنّ العذاب الأخروي هو في الواقع كالشرارة في مقابل بحر لجي من النّار.

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ إنّ هذا التعبير يشبه في الواقع جملة: «الله أكبر» حيث تقوم بتعريف الله (جلّ وعلا) بأنّه أعظم وأكبر من جميع الموجودات، ذلك أنّنا نعلم أن لا قياس بين الإثنين (التراب ورب الأرباب) ولكن الله يتحدّث إليها بلساننا، لذلك نرى أمثال هذه الألفاظ والتعابير في كلامه تعالى

[372]

والأنكى من ذلك أن ليس هناك من ينصرهم: (وهم لا ينصرون).

فبعد عمر من الجد والعمل في سبيل التظاهر بالعظمة والعلو، يصيبهم الله تعالى بعذاب أذلهم في هذه الدنيا، وفي العالم الآخر ينتظرهم ما هم أشد و أصعب!

«صرصر»: على وزن (دفتر) مشتقّة في الأصل من كلمة «صُرّ» على وزن «شرّ» وتعني الغلق بإحكام، لذا تستعمل كلمة «صرّه» للكيس الذي يحتوي على المال وهو مغلق بشكل جيّد. ثمّ أطلقت على الرياح الباردة جداً، أو التي فيها صوت عال، أو الرياح المسمومة القاتلة. وقد تكون الرياح العجيبة التي شملت قوم «عاد» تحمل كلّ هذه الصفات جميعاً.

(أيّام نحسات) تعني الأيام المشؤومة التي اعتبرها البعض بأنّها الأيّام المليئة بالتراب والغبار، أو الأيّام الباردة جداً، وهذه المعاني يمكن أن تكون مرادة من الآيات التي نحن بصددها.

لقد أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في خطب نهج البلاغة إلى قصة عاد، كي تكون درساً أخلاقياً تربوياً يتعظ منه الأخرون. يقول(عليه السلام): «واتعظوا فيها بالذين قالوا: من أشدّ منّا قوّة؟ حملوا إلى قبورهم، فلا يدعون ركباناً، وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفاناً، وجعل لهم من الصفيح أجنان، ومن التراب أكفان، ومن الرفات جيران»(1).

* * *

ملاحظتان

أوّلا: ما هي وسيلة فناء قوم عاد؟

وفقاً للآية (13) من هذه السورة، فإنّ قوم عاد وثمود أهلكوا بالصاعقة. في حين أنّ الآيات التي نبحثها تقول: إنّهم أبيدوا بالريح الصرصر العاتية، فهل هناك

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم (111).

[373]

تعارض بين الاثنين؟

في الجواب ذكر المفسّرون وعلماء اللغة معنيين للصاعقة، أحدهما عام، والآخر خاص.

فالصاعقة بمعناها العام تعني أي شيء يهلك الإنسان، وهي كما يقول العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان: «المهلكة من كلّ شيء».

أمّا المعنى الخاص، فالصاعقة شرارة عظيمة من النّار تنزل من السماء، وتحرق كلّ ما يوجد في طريقها، كما وضحنا ذلك آنفاً.

بناءً على هذا، لو كانت الصاعقة بالمعنى الأوّل فلا تعارض بينها وبين الرياح القوية.

يقول الراغب في المفردات: «قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله: (فصعق من في السموات ومن في الأرض) وقوله: (فأخذتهم الصاعقة)والعذاب كقوله: (أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)والنّار كقوله: (ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) وما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجوّ، ثمّ يكون منه نار فقط أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد وهذه الأشياء تأثيرات منها».

وثمة احتمال آخر، هو أن قوم عاد قد شملهم نوعان من العذاب: الأوّل الرياح الشديدة التي دمّرت كلّ شيء والتي سلطها الله عليهم أيّاماً عديدة، ثم جاء بعد ذلك دور الصاعقة النّارية المميتة التي شملتهم بأمرالله.

لكن المعنى الأوّل يبدو أكثر تناسباً مع الموضوع، خصوصاً إذا لاحظنا الآيات الأُخرى التي تتحدث عن عقاب قوم عاد وهلاكهم. (راجع الآيات في سورة الذاريات ـ آية41، وسورة الحاقة ـ آية6، والقمر الآيتان «18» و«19»).

[374]

ثانياً: أيام قوم عاد النحسة

البعض يعتقد أنّ أيّام السنة نوعان: أيّام نحسة مشؤومة، وأيام سعيدة مباركة. ويستدلون على ذلك بالآيات أعلاه، فيقولون: هناك تأثيرات مجهولة تؤثر في الليالي والأيّام، ونشعر نحن بآثار ذلك، بينما أسبابها ما تزال مبهمة بالنسبة لنا.

وقال البعض: إنّ الأيام النحسة في الآية التي نبحثها هي الأيّام المملوءة بالتراب والغبار.

وقوم عاد قد أصيبوا بمثل هذه الرياح الشديدة بحيث باتوا لا يرى أحدهم الآخر، كما تفيد ذلك الآيتان (24ـ25) من سورة «الأحقاف» في قوله تعالى: (فلّما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، تدمّر كلّ شيء بأمر ربّها فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين).

وسوف نقوم ببحث مفصل حول مفهوم الأيّام النحسة والأيّام السعيدة، في نهاية حديثنا عن الآية (19) من سورة القمر، إن شاء الله تعالى.

* * *

[375]

الآيتان

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صَـعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ( 17 ) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانَواْ يَتَّقُونَ( 18 )

التّفسير

عاقبة قوم ثمود:

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن قوم عاد، تبحث هاتان الآيتان في قضية قوم ثمود ومصيرهم، حيث تقول: إنّ الله قد بعث الرسل والأنبياء لهم مع الدلائل البينة، إلاّ أنّهم: (وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى).

لذلك: (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون).

وهؤلاء مجموعة تسكن «وادى القرى» (منطقة بين الحجاز والشام) وقد وهبهم الله أراضي خصبة خضراء مغمورة، وبساتين ذات نعم كثيرة، وكانوا يبذلون الكثير من جهدهم في الزراعة. ولقد وهبهم الله العمر الطويل والأجسام القوية، وكانوا مهرة في البناء القوي المتماسك، حيث يقول القرآن عنهم في ذلك: (وكانوا

[376]

ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين)(1).

لقد جاءهم نبيّهم بمنطق قوي وقلب ملؤه الحبّ، ومعه المعاجز الإلهية، إلاّ أنّ هؤلاء القوم المغرورين المستعلين لم يرفضوا دعوته ـ وحسب ـ بل آذوه وأتباعه القليلين، لذلك شملهم الله بعقابه في الدنيا، ولن يغني ذلك عن عذاب الآخرة شيئاً.

نقرأ في الآية (78) من سورة الأعراف أنّهم أصيبوا بزلزلة عظيمة، فبقيت أجسادهم في المنازل بدون حراك: (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين).

وفي الآية (5) من سورة الحاقة قوله تعالى بشأنهم: (فأمّا ثمود فأهلكوا بالطاغية).

أمّا الآية (67) من سورة هود فتقول عنهم: (و أخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين).

أمّا الآية التي نحن بصددها فقد استخدمت تعبير «صاعقة».

قد يتصور البعض أن هناك تعارضاً بين هذه التعابير، ولكن عند التدقيق يظهر أنّ الكلمات الأربع أعلاه (رجفة، طاغية، صيحة، صاعقة) ترجع جميعاً إلى حقيقة واحدة، لأنّ الصاعقة ـ كم قلنا سابقاً ـ لها صوت مخيف، بحيث يمكن أن نسميها بالصيحة السماوية، ولها أيضاً ناراً محرقة، وهي عندما تسقط على منطقة معينة تحدث هزّة شديدة، وكذلك هي وسيلة للتخريب.

في الواقع إنّ البلاغة القرآنية تستوجب أن تبيّن الأبعاد المختلفة للعذاب الإلهي بتعابير مختلفة وفي سياق آيات عديدة كيما تخلّف اثراً عميقاً في نفس الانسان.

وهؤلاء القوم قد واجهتهم عوامل مختلفة للموت في إطار حادثة واحدة، بحيث أن كلّ عامل لوحده يكفي لإبادتهم كالصيحة المميتة مثلا، أو الهزة الأرضية

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الحجر، الآية 82.

[377]

القاتلة، أو النّار المحرقة، وأخيراً الصاعقة المخيفة.

ولكن قد يتساءل عن مصير الاشخاص الذين آمنوا بصالح(عليه السلام) بين هذه الأمواج القاتلة من الصواعق، فهل احترقوا بنيران غيرهم؟

القرآن يجيبنا على ذلك بقول الله عزّوجلّ: (ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون).

لقد أنجى هذه المجموعة إيمانها وتقواها، بينما شمل العذاب تلك الكثرة الطاغية بسبب كفرها وعنادها، والمجموعتان يمكن أن تكونا نموذجاً لفئات من هذه الأُمة.

قال بعض المفسّرين: لقد آمن بنبيّ الله صالح (110) أشخاص من بين مجموع القوم، ولقد أنقذ الله هؤلاء وأنجاهم في الوقت المناسب.

* * *

ملاحظة

أنواع الهداية الإلهية:

الهداية على نوعين: أوّلا «الهداية التشريعة» وهي تشمل إبانة الطريق والكشف عنه بجميع العلائم. ثمّ هناك «الهداية التكوينية» التي هي في واقعها إيصال إلى المطلوب أو الوصول إلى الهدف.

لقد تجمعت الهدايتان معاً في الآيات التي نبحثها، فالآيات تتحدث أولا عن هداية ثمود و هذه هي الهداية التشريعية التي استبانوا من خلالها الطريق.

ثم أضافت الآية عن وصف حالهم بأنّهم استحبوا العمى على الهدى، وهذه هي عين الهداية التكوينية والتوصّل نحو الهدف.

وهكذا فإنّ الهداية بمعناها الأوّل قد تمّت من خلال بعثة الرسل والأنبياء، أمّا الهداية بمعناها الثّاني والتي ترتبط بإرادة واختيار أي إنسان، فلم تتمّ بسبب غرور

[378]

القوم وتكبرهم وعلوهم، لأنّهم: (فاستحبوا العمى على الهدى).

إنّ هذا ـ بحدّ ذاته ـ دليل على مبدأ «حرية الإرادة الإنسانية» وعدم الجبر.

ولكن ـ برغم صراحة ووضوح الآيات ـ نرى أنّ بعض المفسّرين كالفخر الرازي يصرون على إنكار دلالة الآية، وذكروا كلاماً لا يليق بمنزلة الباحث المحقق، وذلك بسبب ميولهم نحو عقيدة الجبر(1)!!

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ يلاحظ الفخر الرازي في التّفسير الكبير في نهاية حديثه عن هذه الآية.

[379]

الآيات

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ( 19 ) حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـرُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( 20 ) وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِى أَنْطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( 21 ) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـكِن ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ( 22 ) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِى ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الْخَـسِرِينَ( 23 )

التّفسير

كانت الآيات السابقة تتحدث عن الجزاء الدنيوي للكفار المغرورين والظالمين والمجرمين. أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدث عن العذاب الأخروي، وعن مراحل مختلفة من عقاب أعداء الله.

يقول تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النّار).

[380]

وكي تتصل الصفوف ببعضها يتمّ تأخيرالصفوف(1) حتى تلتحق بها الصفوف الأُخرى: (فهم يوزعون).

وحينذاك: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون)(2).

يا لهم من شهود؟ فأعضاء الإنسان تشهد بنفسها عليه ولا يمكن إنكار شهادتها، لأنّها كانت حاضرة في جميع المشاهد والمواقف وناظرة لكل الأعمال، وهي إذ تتحدث فبأمر الله تعالى.

وهنا يثار سؤال: هل تعني شهادة هذه الأعضاء من جسم الإنسان أنّ الله تبارك وتعالى يخلق فيها قدرة الإحساس والإدراك والشعور، وبالتالي القدرة على الكلام؟

أم أنّ آثار الذنوب سوف تظهر في ذلك اليوم (يوم البروز) لأنّها مطبوعة عليها طوال عمر الإنسان، كما نقول في تعبيراتنا الشائعة: إن صفحة وجهه تحكي وتخبر ما يخفيه فلان في سرّه؟

أو أنّ الأمر يكون كما في حال الشجرة التي أوجد الله تعالى فيها الصوت وأسمعه موسى(عليه السلام)؟

في الواقع يمكن قبول كلّ هذه التفاسير، وقد جاءت مبثوثة في تفاسير المفسّرين.

طبعاً لا يوجد مانع من أن يقوم تعالى بخلق الإدراك والشعور في الأعضاء، فتشهد في محضر الله تعالى عن علم ومعرفة، خصوصاً وأن ظاهر الآيات يشير للوهلة الأولى إلى هذا المعنى. وهو ما يعتقده البعض فيما يخص تسبيح وحمد

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ «يوزعون» من «وزع» وهي بمعنى المنع، وعندما تستخدم للجنود أو الصفوف الأُخرى، فإن مفهومها يعني أن يبقى المجموع إلى أن يلتحق بهم آخر نفر.

2 ـ «ما» في قوله تعالى: (إذا ما جاءوها) زائدة، وهي هنا للتأكيد.

[381]

وسجود ذرات العالم وكائنات الوجود بين يدي الله تبارك وتعالى.

والمعنى الثّاني محتمل أيضاً لإننا نعلم أنّ أي كائن في هذا العالم لا يفنى من الوجود، وأنّ آثار أقوالنا وأفعالنا سوف تبقى في أعضائنا وجوارحنا، ومن الطبيعي أن تعتبر «الشهادة التكوينية» هذه من أوضح الشهادات وأجلاها، إذ  لا مجال لإنكارها، كما في إصفرار الوجه ـ الذي يعتبر عادةً دليلاـ على الخوف  لا يمكن إنكاره، واحمراره دليل على الغضب أو الخجل.

وإطلاق النطق على هذا المعنى يكون مقبولا أيضاً.

أمّا الإحتمال الاخير في أن تنطق الأعضاء بإذن ا لله تعالى دون أن يكون لها شعور بذلك أو يظهر منها اثر تكويني، فإنّ ذلك بعيد ظاهراً، لأنّه في مثل هذه الحالة لا تعتبر الحالة مصداقاً للشهادة التشريعية ولا مصداقاً للشهادة التكوينية، فلا عقل هناك ولا شعور ولا الأثر الطبيعي للعمل، وسوف تفقد قيمة الشهادة في المحكمة الإلهية الكبرى.

ومن الضروري الانتباه إلى أنّ قوله تعالى: (حتى إذا ما جاءوها) يبيّن أنّ شهادة أعضاء الإنسان تتمّ في محكمة النّار، فهل مفهوم ذلك أنّ الشهادة تتمّ في النّار، في حين أنّ النّار هي نهاية المطاف، أم أنّ المحكمة تنعقد بالقرب من النّار؟

الإحتمال الثّاني هو الأقرب كما يظهر.

ثمّ ما هو المقصود من (جلود) بصيغة الجمع؟

الظاهر أنّ المقصود بذلك هو جلود الأعضاء المختلفة للجسم، جلد اليد والرجل والوجه وغير ذلك.

أمّا الروايات التي تفسّر ذلك بـ «الفروج» فهي في الحقيقة من باب بيان المصداق، وليس حصر مفهوم الجلود في ذلك.

ومن جانب آخر ربّ سائل يسأل: لماذا تشهد العين والأذن والجلود فقط، دون أعضاء الجسم الأُخرى؟ وهل الشهادة مقتصرة على هذه الأعضاء، أو أنّ

[382]

هناك أعضاء اُخرى تشهد؟

ما نستفيده من الآيات القرآنية الأُخرى أنّ هناك أعضاء اُخرى في جسم الإنسان تشهد عليه، إذ نقرأ في الآية (65) من سورة «يس» قوله تعالى: (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).

وفي الآية (24) من سورة «النور» قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم).

وهكذا يتضح أنّ هناك أعضاء اُخرى تقوم بالإدلاء بالشهادة، إلاّ أنّ ما تذكره الآية التي بين أيدينا من أعضاء تعتبر في الدرجة الأولى، لأن معظم أعمال الإنسان تتم بمساعدة العين والأذن، وإنّ الجلود هي أول من يقوم بملامسة الأعمال.

المجرمون يستغربون هذه الظاهرة، وآية استغرابهم قوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا).

لسان حالهم يقول: لقد كنّا لسنين مديدة نحافظ عليكم من الحر والبرد ونعتني بنظافتكم، فلماذا أنتم هكذا؟

وفي الجواب يقولون: (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء).

لقد أعطانا الله مهمّة القيام بالشهادة على أعمالكم في هذه المحكمة العظيمة، ولا نملك نحن سوى الطاعة، فالذي أعطى غيرنا من الكائنات قابلية النطق أعطانا ـ أيضاً ـ هذه القابلية(1).

والطريف هنا أن أُولئك يسألون جلودهم دون باقي الأعضاء من الشهود كالعين والأذن.

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ هذا التّفسير وارد عندما يكون معنى الآية: (أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء ناطق) ولكن يحتمل أن يكون معنى أنطق كل شيء بالمعنى المطلق، بمعنى أنّ الله الذي أنطق جميع الموجودات وهو يكشف عن جميع الأسرار اليوم، هو الذي أنطقنا، فلا تتعجبوا من كلامنا فجميع كائنات العالم ستنطق في هذا اليوم.

[383]

قد يكون السبب في ذلك أنّ شهادة الجلود هي أغرب وأعجب من جميع الأعضاء الأُخرى، وأوسع منها جميعاً، فتلك الجلود التي يجب عليها أن تذوق طعم العذاب الإلهي ـ قبل غيرها من الأعضاء ـ تقوم بمثل هذه الشهادة، وهذا الأمر محيّر حقاً!

ثم تستمر الآية بقوله تعالى: (وهو خلقكم أول مرّة وإليه ترجعون).

ومرة اُخرى تضيف: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم  ولا أبصاركم ولا جلودكم).

وإنّ سبب إخفائكم لأعمالكم هو: (ولكن ظننتم أنّ الله لا يعلم كثيراً ممّا تعملون).

كنتم غافلين عن أنّ الله يسمع ويرى، يشهد أعمالكم في كلّ حال ومكان، ويعلم أسراركم ما بطن منها وما ظهر، ثمّ هناك عناصر الرقابة التي ترافقكم وهي معكم في كلّ مكان، فهل تستطيعون إنجاز عمل مخفي عن أعينكم وآذانكم وجلودكم؟

إنّكم في قبضة القدرة الإلهية وتحت نظر الشهود المستترين والظاهرين حتى أدوات ذنبكم تشهد ضدكم؟!

يروي المفسّرين أنّ الآية أعلاه نزلت في ثلاثة نفر من كفار قريش وطائفة من بني ثقيف ذوي بطون كبيرة و رؤوس صغيرة اجتمعوا بجوار الكعبة وهم يتسارّون، فقال أحدهم: أتظنون أن الله يسمع كلامنا وحديثنا هذا؟

فأجاب آخر: تكلّم بهدوء واخفض صوتك، فإذا تحدثنا بصوت عال فهو (أي الله جلّ جلاله) يسمعه، وإذا خفضنا أصواتنا فلا يسمعنا.

فقال الثّالث: إذا كان الله يسمع الكلام العالي فهو حتماً يسمع الصوت الضعيف أيضاً.

[384]

وهنا نزلت الآية الكريمة: (وما كنتم تستترون أن...)(1).

ثم يقول تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربّكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين)(2)(3).

هل أن هذا الحديث هو من قبل الله تعالى، وأن كلام الأعضاء والجوارح ينتهي إلى قوله تعالى: (أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء)، أم أنّ مايليه استمرار له ؟

المعنى الثّاني يبدو أكثر توافقاً، وعبارات الآية تتلاءم معه أكثر، بالرغم من أن أعضاء الجسم وجوارحه إنّما تتحدث هنا بأمر الله تعالى وبإرادته، والمعنى في الحالتين واحد تقريباً.

* * *

بحثان

الأوّل: حسن الظن وسوء الظن بالله تعالى

توضح الآيات بشكل قاطع خطورة سوء الظن بالله تعالى، ومآل ذلك إلى الهلاك والخسران.

وبعكس ذلك فإنّ حسن الظن بالله تعالى سبب للنجاة في الدنيا والآخرة.

وفي حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) يقول: «ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنّه يشرف على النّار، ويرجوه رجاءً كأنّه من أهل الجنّة، إنّ الله تعالى يقول: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربّكم)...ثم قال: إنّ الله عند ظن عبده، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر»(4).

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ نقل هذه الحادثة (باختلاف) الكثير من المفسّرين، منهم: القرطبي، الطبرسي، الفخر الرازي، الألوسي، المراغي، وكذلك نقل الحادثة كلّ من البخاري ومسلم والترمذي، وما أوردناه أعلاه مأخوذ عن القرطبي مع التصرّف. المجلد الثامن، صفحة5795.

2 ـ «ذلكم» مبتدأ و (ظنكم) خبر له. لكن البعض احتمل أنّ (ظنكم) بدل و (أرداكم) خبر (ذلكم).

3 ـ «أرداكم» من «ردى» على وزن «رأى» وتعني الهلاك.

4 ـ عن مجمع البيان نهاية تفسير الآية مورد البحث.

[385]

وروي عن الصادق(عليه السلام)عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أنّ الله إذا حاسب الخلق يبقى رجل قد فضلت سيئاته على حسناته، فتأخذه الملائكة إلى النّار وهو يلتفت، فيأمر الله بردّه، فيقول له: لم إلتفت؟ ـ وهو تعالى أعلم به ـ فيقول: يا ربّ ما كان هذا ظنّي بك، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي! وعزّتي وجلالي والائي وعلوي وارتفاع مكاني، ما ظن بي عبدي هذا ساعة من خير قط، ولو ظنّ بي ساعة من خير ما ودعته بالنّار، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنّة». ثمّ أضاف رسول الله: ليس من عبد يظن بالله عزّوجلّ خيراً إلاّ كان عند ظنّه به وذلك قوله عزّوجلّ: (وذلكم ظنّكم الذي ظننتم بربّكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين)(1).

الثّاني: الشهود في محكمة القيامة

عندما تقول: إنّ جميع الناس سيحاكمون في العالم الآخر، فقد يتبادر إلى الذهن أنّ المحكمة هناك تشبه محاكم هذه الدنيا، إذ سيحضر كلّ فرد أمام القاضي وبيده ملفه، وثمّة شهود في القضية، ثمّ يبدأ السؤال والجواب قبل أن يصدر الحكم النهائي.

وقد أشرنا مراراً إلى أنّ الألفاظ سيكون لها مفهوم أعمق في ذلك العالم بحيث يصعب أو يستحيل علينا تصوّر مداليلها، لأننا سجناء هذه الدنيا ومقاييسها.

ولكن نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نقترب من بعض حقائق العالم الآخرمن خلال ما نستفيده من الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة المسلمين من أهل بيته(عليهم السلام)، وتتبيّن لنا آثار عن عظمة وعمق الحياة في ذلك العالم ومحكمة يوم البعث، ولو بشكل إجمالي.

فمثلا عندما يقال:«ميزان الأعمال» قد ينصرف الذهن إلى المعنى الذي نتصوّر فيه أعمالنا في ذلك اليوم خفيفة أو ثقيلة، حيث توزن في ميزان ذي كفتين.

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ عن تفسير علي بن إبراهيم كما نقل عنه تفسير نور الثقلين، المجلد الرابع، صفحة 544.

[386]

ولكن عندما نقرأ في روايات المعصومين(عليهم السلام) أنّ أمير المؤمنين علي(عليه السلام) هو ميزان الأعمال، بمعنى أنّ قيمة الأعمال وشخصية الأفراد ستقاس بمقياس يكون مركزه شخصياً الإمام العظيم وبمقدار مشابهة الإنسان لسلوك هذا الإمام العظيم واقترابه منه سيكون له وزن أكثر، وبمقدار بعده عنه سيكون خفيفاً في ميزان أعماله وحسابه.

ومن خلال هذا المعنى نفهم ماذا يعني ميزان الأعمال هناك.

وفي مسألة «الشهود» فإنّ الآيات القرآنية تكشف لنا الستار ـ كذلك ـ عن حقائق اُخرى، إذ يتبيّن أنّ مفهوم الشهود هناك يختلف عن شهود محاكم هذه الدنيا.

وفي قضية الشهود ـ بالذات ـ نستفيد من آيات القرآن الكريم أنّ هناك ستة أنواع من الشهود في تلك المحكمة:

1 ـ أنّ أول الشهود وأعلاهم شأناً هو الذات الإلهية الطاهرة: (وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلاّ كنّا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه)(1).

إنّ شهادة الله تكفي لكل شيء، إلاّ أنّ مقتضى اللطف الإلهي والعدالة الربوبية تستوجب أن يضع تعالى شهوداً آخرين.

2 ـ الأنبياء والأوصياء: يقول القرآن الكريم: (فكيف إذا جئنا من كلّ أُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)(2).

ونقرأ في حديث ورد في (الكافي) عن الإمام الصادق(عليه السلام) حول نزول هذه الآية وهو قوله (عليه السلام):«نزلت في أُمّة محمّد خاصة، في كلّ قرن منهم إمام منّا، شاهد

ــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ يونس، الآية 61.

2 ـ النساء، الآية 41.

[387]

عليهم ومحمّد شاهد علينا»(1).

3 ـ شهادة اللسان واليد والرجل والعين والأذن: كما في قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون )(2).

ومن الآية التي نحن بصددها نستفيد أنّ العين والأذن هما من قائمة الشهود أيضاً، ونستفيد كذلك من بعض الرّوايات أنّ كلّ أعضاء الجسم ستقوم بدورها بالشهادة على الأعمال التي قامت بها(3).

4 ـ شهادة الجلود: لقد تحدثت الآيات التي نحن بصددها عن هذا الموضوع بصراحة، بل وأضافت أنّ المذنبيين لم يكونوا يتوقعون أن تشهد عليهم جلودهم، فخاطبوها بالقول: (لم شهدتم علينا)؟ فيأتي الجواب من جلودهم: (أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء وهو خلقكم أول مرّة وإليه ترجعون)(4).