وقلنا أن حياة العديد من الحيوانات مقترنة مع نظام بديع وعجيب، فما المانع من أن تكون أعمالها نتاج نوع من العقل والشعور فيها؟ وهل هناك ضرورة لأرجاع جميع هذه الأُمور إلى الغريزة؟ وفي هذه الحالة يمكن تصور نوع من الحشر والحساب لها (اقرأ شرحاً أكثر لهذا الموضوع في ذيل تفسير الآية 38 من سورة الأنعام).
ويحتمل في تفسير الآية أعلاه أن المقصود من (الجمع) الجانب المقابل لـ (بث)، أي أن (بت) تشير إلى خلق أنواع الكائنات الحية باختلافها، ثمّ إذا شاء الخالق (جمعها) وأفناها. فكما أن العديد من الأحياء ـ (على مدى التاريخ) ـ انتشرت بشكل عجيب، ثمّ انقرضت واختفت فيما بعد. كذلك جمعها وإبادتها يكون بيد الخالق، فهي في الحقيقة تشبه الآيات التي تقول: يحيي ويميت (أي الخالق).
وبهذا فإنّ قضية حساب الحيوانات سوف تكون أجنبية عن هذه الآية.
من الإستنتاجات المهمّة التي نستنتجها من خلال هذه الآية، أنّها تدل على وجود مختلف الأحياء في السماوات، وبالرغم من عدم صدور الرأي النهائي
للعلماء بهذا الخصوص، إلاّ أنّهم يقولون وعلى نحو الإيجاز: هناك احتمال قوي بوجود عدد كبير من النجوم من بين الكواكب السماوية تحتوي على كائنات حية، إلاّ أن القرآن يصرح بهذه الحقيقة من خلال: (وما بث فيهما من دابة).
وما يقوله بعض المفسّرين من احتمال تخصص (فيهما) بالكرة الأرضية غير سديد، لوجود ضمير المثنى والذي يعود إلى السماء والأرض معاً، وكذلك لا يصح ما قيل في تفسير (دابة) بالملائكة، لأن دابة تطلق عادة على الكائنات المادية.
ويمكن استفادة هذا المعنى أيضاً من خلال الآيات القرآنية المتعددة الأُخرى.
وفي حديث ورد عن الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور»(1).
وهناك روايات اُخرى متعددة في هذا المجال (يمكن مراجعة كتاب «الهيئة والإسلام» لمزيد من المعلومات).
وبما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن الرحمة الإلهية، لذا يُطرح سؤال في هذا المجال، وهو كيف تجتمع الرحمة وكل هذه المصائب التى تصيبنا؟
الآية الأُخرى تجيب على هذا السؤال وتقول: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم).
ثم إن هذا الجزاء ليس جزاءً على جميع أعمالكم القبيحة، لأنّه (ويعفو عن كثير).
* * *
1 ـ سفينة البحارـ كلمة نجم ـ المجلد الثّاني ـ ص574، نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم القمي.
ومن الضروري الإنتباه إلى بعض الملاحظات الواردة في هذه الآية:
1 ـ تبيّن هذه الآية وبوضوح أن المصائب التي تصيب الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي (بالرغم من وجود بعض الإستثناءات التي سنشير إليها فيما بعد).
وبهذا الترتيب سيتوضح لنا جانب من فلسفة الحوادث المؤلمة والمشاكل الحياتية.
والطريف في الأمر أنّنا نقرأ في حديث عن الإمام علي(عليه السلام) أنّه نقل عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)قوله: «خير آية في كتاب الله هذه الآية، يا علي ما من خدش عود، ولا نكبة قدم إلا بذنب، وما عفى الله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده»(1).
وهكذا فإنّ هذه المصائب إضافة إلى أنّها تقلل من حمل الإنسان، فإنها تجعله يتزن في المستقبل.
2 ـ بالرغم من عمومية الآية وشمولها كلّ المصائب، لكن توجد استثناءات لكلم عامّ، مثل المصائب والمشاكل التي أصابت الأنبياء والأئمة المعصومين(عليهم السلام)بهدف الإختبار أو رفع مقامهم.
وأيضاً المصائب بهدف الاختبار التي تشمل غير المعصومين. أو المصائب التي تحدث بسبب الجهل أو عدم الدقة في الأمور وعدم الإستشارة والتساهل والتي هي آثار تكوينية لأعمال الإنسان نفسه.
وبعبارة اُخرى فإن الجمع بين الآيات القرآنية المختلفة ـ والأحاديث ـ
1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، ص31 (نهاية الآيات التي نبحثها) وقد ورد ما يشبه هذا الحديث في (الدر المنثور) وتفسير (روح المعاني) مع بعض الإختلاف وذلك في نهاية الآيات التي نبحثها، والأحاديث في هذا المجال كثيرة.
يقتضي التخصيص في بعض الموارد بالنسبة لهذه الآية العامة، وليس هذا موضوعاً جديداً ليكون محل نقاش بعض المفسّرين.
وخلاصة القول فإنّ هناك غايات مختلفة للمصائب والمشاكل التي تصيب الإنسان، حيث تمّت الإشارة إليها في المواضيع التوحيدية وبحوث العدل الإلهي.
فالملكات تنمو وتتكامل تحت ضغط المصائب، ويكون هناك حذر بالنسبة للمستقبل، ويقظة من الغرور والغفلة وكفارة للذنب و...
وبما أن أغلب أعمال الأفراد لها طبيعة جزائية وتكفيرية، لذا فإنّ الآية تطرح ذلك بشكل عام.
ولذا فقد ورد في الحديث أنّه وعندما دخل علي بن الحسين(عليه السلام) على يزيد بن معاوية، نظر إليه يزيد وقال: يا على، ما أصابكم من مصيبة فبماكسبت أيديكم (إشارة إلى أنّ مأساة كربلاء هي نتيجة أعمالكم).
إلاّ أنّ الإمام(عليه السلام) أجابه مباشرة: «كلا ما نزلت هذه فينا، إنّما نزل فينا:(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم) فنحن الذين لا نأسى على مافاتنا من أمر الدنيا، ولا نفرح بما أوتينا»(1).
وننهي هذا الكلام بحديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) فعندما سئل عن تفسير الآية أعلاه قال: تعلمون أن علياً وأهل بيته قد أصيبوا بالمصائب من بعده، فهل كان ذلك بسبب أعمالهم؟ في حين أنّهم أهل بيت الطهر، والعصمة من الذنب، ثمّ أضاف: نص إنّ رسول الله كان يتوب إلى الله ويستغفر في كلّ يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب، إنّ الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب(2).
3 ـ البعض يشكك في أن يكون المقصود من المصائب في هذه الآية مصائب
1 ـ تفسير على بن بن إبراهيم طبقاً لنور الثقلين، المجلد الرابع، ص580.
2 ـ أصول الكافي طبقاً لنور الثقلين، المجلد الرابع، ص581.
الدنيا، لأن الدنيا هي دار العمل وليس دار الثواب والجزاء.
وهذا خطأ كبير، لوجود آيات وروايات متعددة تؤّكد أن الإنسان يرى ـ أحياناً ـ جانباً من نتيجة أعماله في هذه الدنيا، وما يقال من أن الدنيا ليست داراً للجزاء ولا تتم فيها تصفية جميع الحسابات، لا يعني عدم الجزاء بشكل مطلق، حيث أن إنكار هذه الحقيقة يشبه إنكار البديهيات، كما يقول المطّلعون على المفاهيم الاسلامية.
4 ـ أحياناً قد تكون المصائب جماعية، وبسب ذنوب الجماعة، كما نقرأ في الآية (41) من سورة الروم: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون).
وواضح أن هذا يختص بالمجتمعات الإنسانية التي أصيبت بالمصائب بسبب أعمالها.
وورد في الآية 11 من سورة الرعد: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
وهذه الآيات تدل على وجود إرتباط وعلاقة قريبة بين أعمال الإنسان والنظام التكويني للحياة، فإذا سار الناس وفقاً لأصول الفطرة وقوانين الخلق فستشملهم البركات الإلهية، وعند فسادهم يفسدون حياتهم.
وأحياناً قد يصدق هذا الأمر بخصوص آحاد الناس، فكل إنسان سيصاب في جسمه وروحه أو أمواله ومتعلقاته الأُخرى بسبب الذنب الذي يرتكبه، كما جاء في الآية أعلاه(1).
على أية حال، فقد يتصور البعض أنّهم يستطيعون الهروب من هذا القانون الإلهي الحتمي. لذا فإن آخر آية في هذا البحث تقول: (وما أنتم بمعجزين في
1 ـ الميزان، المجلد 18، ص61.
الأرض)(1). وفي السماء بطريق اولى وكيف تستطيعون الهروب من قدرته وحاكميته في حين أن كلّ عالم الوجود هو في قبضته ولا منازع له؟
وإذا كنتم تعتقدون بوجود من سيساعدكم وينصركم، فاعلموا: (ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير).
قد يكون الفرق بين (الولي) و (النصير) هو أن الولي هو الذي يقوم بجلب المنفعة، والنصير هو الذي يقوم بدفع الضرر، أو أن الولي يقال لمن يدافع بشكل مستقل، والنصير يقال لمن يقف إلى جانب الإنسان ويقوم بنصرته.
وفي الحقيقة فإن آخر آية تجسد ضعف وعجز الإنسان، والآية التي قبلها عدالة الخالق ورحمته(2).
* * *
يتصور العديد من الناس أن علاقة أعمال الإنسان بالجزاء الإلهي مثل العقود الدنيوية وما تحتويه من الأجر والعقاب، في حين قلنا ـ مراراً ـ إن هذه العلاقة أقرب ما تكون إلى الإرتباط التكويني منه إلى الإرتباط التشريعي.
وبعبارة اُخرى فإنّ الأجر والعقاب أكثر ما يكون بسبب النتيجة الطبيعية والتكوينية لأعمال الإنسان حيث يشملهم ذلك. والآيات أعلاه خير شاهد على هذه الحقيقة.
وبهذا الخصوص هناك روايات كثيرة في المصادر الإسلامية نشير إلى بعضها
1 ـ «معجزين» من كلمة (إعجاز) إلاّ أنّها وردت في العديد من الآيات القرآنية بمعنى الهروب من محيط القدرة الإلهية ومن عذابه، حيث يقتضي معناها ذلك.
2 ـ في ظلال القرآن ـ المجلد السابع ص290.
لتكميل الموضوع:
1 ـ ورد في إحدى خطب نهج البلاغة: «ماكان قوم قط في غض نعمة من عيش، فزال عنهم إلاّ بذنوب اجترحوها، لأن الله ليس بظلام للعبيد، ولو أنّ الناس حين تنزل بهم النقم، وتزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربّهم بصدق من نياتهم، ووله من قلوبهم، لردّ عليهم كلّ شارد، وأصلح لهم كلّ فاسد»(1).
2 ـ وهناك حديث آخر عن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) في (جامع الأخبار) حيث يقول: «إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة»(2).
وهذا الحديث خير شاهد للإستثناءات التي ذكرناها لهذه الآية.
وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) في الكافي أنّه قال: «إن العبد إذا كثرت ذنوبه، ولم يكن عنده من العمل ما يكفرها، ابتلاه بالحزن ليكفرها»(3).
4 ـ وهناك باب خاص لهذا الموضوع في كتاب أصول الكافي يشمل 12 حديثاً(4).
وكل هذه هي غير الذنوب التي صرحت الآية أعلاه بأن الخالق سيشملها بعفوه ورحمته، حيث أنّها ـ بحد ذاتها ـ كثيرة.
قد يستنتج البعض بشكل خاطىء من هذه الحقيقة القرآنية ويقول بوجوب الإستسلام لأي حادثة مؤسفة، إلاّ أن هذا الأمر خطير للغاية، لأنّه يستفيد من هذا الأصل القرآني التربوي بشكل معكوس ويستنتج نتيجة تخديرية.
1 ـ نهج البلاغة ـ الخطبة 178.
2 ـ بحار الأنوار، المجلد 81، ص198.
3 ـ الكافي،ـ المجلد الثّاني، كتاب الإيمان والكفر ـ باب تعجيل عقوبة الذنب ـ الحديث 2.
4 ـ المصدر السابق.
فالقرآن لا يقول أبداً بالإستسلام حيال المصائب وعدم السعي لحل المشاكل، والركون للظلم والجور والمرض، بل يقول: إذا شملتك المصائب بالرغم من سعيك ومحاولاتك لدفعها، فاعلم أن ذلك هو كفارة الذنوب التي قمت بها وارتكبتها، عليك أن تفكر بأعمالك السابقة، وتستغفر لذنوبك، وتصلح نفسك وتكتشف نقاط ضعفك.
وإذا ورد في الروايات أن هذه الآية من أفضل آيات القرآن، فذلك بسبب تأثيرها التربوي المهم، ومن جانب آخر تقوم بتخفيف هموم الإنسان، وتعيد الأمل وعشق الخالق إلى قلبه وروحه.
الذين يذهبون إلى زيارة قبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، يشاهدون مكاناً مرتفعاً قليلا عن الأرض في زاوية المسجد وقرب القبر الشريف حيث عزلت أطرافه بشكل جميل عن باقي المسجد، كما أن الكثير ينتخب هذا المكان لتلاوة القرآن والصلاة.
هذا المكان يذكرنا بمكان (الصفّة) وهو المحل الذي هيأه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لمجموعة من الغرباء الذين اعتنقوا الإسلام ولم يكن لديهم مأوى سوى المسجد(1).
أوّل شخص غريب اعتنق الإسلام ولم يكن يملك مكاناً في المدينة هو شاب من أهل اليمامة يسمى (جويبر) حيث أن قصة زواجه الشهيرة مع (الذلفاء) تعتبر من أجمل حوادث محاربة الفواصل الطبقية في التأريخ الإسلامي.
1 ـ «صفة» على وزن (غصّة) وتعني في اللغة الصيفية المغطاة بسعف النحل.
وقد سمح له الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالمبيت ليلا في المسجد، لأنّه لا يملك مكاناً للإستراحة والسكن، وعندما كثر عدد الغرباء ـ وكلهم سكن المسجد ـ أدى ذلك إلى وضع سلبي للمسجد، أمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بإخراجهم من المسجد وتطهيره، واغلقت أبواب بيوت الصحابة التي كانت شارعة إلى المسجد بأمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)ما عدا بيت علي وفاطمة(عليهما السلام).
عندها أمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بتسقيف مكان معين بسعف النخل ليكون محلا لسكن الغرباء والفقراء، وكان بنفسه يزورهم ويعطيهم الماء والتمر والخبز والمواد الغذائية الأُخرى، وقام باقي المسلمين بالإهتمام بهم ومساعدتهم عن طريق الزكاة وأنواع الإنفاق الأُخرى.
وقد اشترك هؤلاء في المعارك الإسلامية وجاهدوا بإخلاص، وقد وردت بعض الآيات القرآنية لتذكر فضلهم وصفاءهم وطهرهم، وقد سمّوا (بأصحاب الصُفّة) لأنّهم سكنوا تلك (الصفّة).
* * *
وَمِنْ ءَايَـتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاَْعْلَـمِ( 32 ) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيْحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهـرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَـتِ لِّكُلِّ صَبَّار شَكُور( 33 ) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعْفُ عَنْ كَثِير ( 34 )وَيَعْلَمُ الَّذِينَ يُجَـدِلُونَ فِى ءَايَـتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيص( 35 ) فَمَا أُوْتِيتُم مِّن شَىْء فَمَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( 36 )
مرّة اُخرى نشاهد أنّ هذه الآيات تقوم بتبيان علائم الخالق وأدلة التوحيد، وتستمر في البحث الذي أشارت إليه الآيات السابقة بهذا الخصوص.
وهنا تذكر موضوعاً يتعامل معه الإنسان كثيراً في حياته المادية، خصوصاً المسافرين عبر البحار وسكان السواحل، حيث تقول الآية: (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام).
«جوار» جمع (جارية) وهي صفة للسفن حيث لم تذكر للإختصار، وعادةً فإن
الآية تقصد حركة السفن، ولذا فقد استخدمت هذه الصفة.
ويقال للبنت الشابة «جارية» لأن الشباب والنشاط يجري في عروقها ووجودها.
«أعلام» جمع (علم) على وزن (قلم) وتعني الجبل، إلاّ أنّها في الأصل بمعنى العلامة والأثر الباقي الذي يخبر عن شيء معين، مثل (علم الطريق) و(علم الجيش) وما شابه.
أمّا لماذا سمّي الجبل بالعلم؟ فذلك لأنّه ظاهر من بعيد، وأحياناً كانوا يشعلون النّار فوق قمته حتى تكون مناراً للسائرين، إلاّ أن وجود النّار وعدمها لا يؤثر في التسمية.
وعلى هذا الأساس فإنّ القرآن يعتبر حركة السفن العملاقة في هذه الآية ـ كما في الآيات المتعددة الأُخرى ـ بسبب هبوب الرياح المنتظمة، من آيات الخالق.
فليس مهمّاً حركة السفينة الصغيرة أو الزوارق على سطح الماء بسبب هبوب الرياح، المهم حركة السفن والبواخر العملاقة بحمولتها الكبيرة ومسافريها المتعددين عند هبوب الرياح، فتقطع آلاف الأميال وتصل إلى مرساها.
فمن الذي خلق هذه المحيطات بخصوصياتها ومياهها و عمقها؟ من أعطى للخشب الذي تصنع منه السفن خاصية الطفو على سطح الماء؟
ومن يأمر الرياح بالهبوب بشكل منظم على سطح البحار والمحيطات كي يستطيع الانسان أن يصل من نقطة إلى اُخرى بالإستفادة من هذه الرياح؟
نعم، فلو أخذنا بعين الإعتبار الخرائط التي يملكها البّحارة بخصوص حركة الرياح، والمعلومات التي يملكها البشر حول هبوب الرياح من القطبين نحو خط الإستواء ومن خط الإستواء إلى القطبين، وأيضاً هبوب الرياح المتناوبة من السواحل واليابسة نحو البحار وبالعكس، عندها سندرك أن هذا الأمر مخطط وله
نظام.
في زماننا، تقوم المحركات الضخمة بتحريك السفن ودفعها إلى الأمام، إلاّ أنّ الرياح تبقى مؤثرة أيضاً في حركة هذه السفن.
وللتأكيد أكثر تقول الآية: (إنّ يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره). وكإستنتاح تضيف الآية في نهايتها: (إنّ في ذلك لآيات لكل صبار شكور).
نعم، فهبوب الرياح، وحركة السفن، وخلق البحار، والنظام الخاص المتناسق الذي يتحكم بهذه الأُمور... كلّها آيات مختلفة للذات المقدسة.
ونعلم أن هبوب الرياح يتمّ بسبب الإختلاف في درجة الحرارة بين منطقتين على الكرة الأرضية، لأنّ الهواء يتمدد بسبب الحرارة ويتحرك نحو الأعلى، ويضغط على الهواء المحيط به ويقوم بتحريكه، ومن جانب آخر يترك مكانه للهواء المجاور له عند تحركه نحو الطبقات العليا، فلو سحب الخالق هذه الخاصية (خاصية التمدد) من الهواء، عندها سيطغى السكون والهدوء القاتل وستقف السفن الشراعية في عرض البحار دون أية حركة.
«صبار» و(شكور) صيغتا مبالغة حيث تعطي الأولى معنى كثرة الصبر، والثانية كثرة الشكر. وهذان الوصفان الواردان في هذه الآية ـ وفي موارد اُخرى(1) ـ يشيران إلى ملاحظات لطيفة.
فهاتان الصفتان توضحان حقيقة الإيمان، لأن المؤمن صبور في المشاكل والإبتلاءات وشكور في النعم، وقد ورد في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): «الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر»(2).
إضافةً إلى ذلك، فإنّ البحث في أسرار نظام الخلق يحتاج إلى الصبر والإستمرار وتخصيص الوقت الكافي، ومن جانب ثان يستحق شكر لمنعم.
1 ـ إبراهيم ـ 5، لقمان ـ31، سبأ ـ19، والآية التي نبحثها.
2 ـ تفسير الصافي، مجمع البيان، الفخر الرازي والقرطبي نهاية الآية (31) من سورة لقمان.
فمتى ما توفر هذان العاملان عندها يكون الإنسان مؤهلا للبحث في هذه الآيات، وعادةً فإنّ البحث في أسرار الخلق يعتبر بحد ذاته نوعاً من الشكر.
ومن جانب ثالث، فإنّ هاتين الصفتين تتجسدان في الإنسان أكثر من أي وقت مضى متى ما ركب في السفينة، حيث الصبر حيال حوادث ومشاكل البحار، والشكر عند الوصول إلى الساحل.
مرّة اُخرى، لتجسيد عظمة هذه النعمة الإلهية، تقول الآية الأُخرى: (أو يوبقهن بما كسبوا) أيّ لو شاء لأباد هذه السفن بسبب الأعمال التي ارتكبها المسافرون.
وكما قرأنا في الآيات الماضية، فإنّ المصائب التي تصيب الإنسان غالباً ما ما تكون بسبب أعماله.
إلاّ أنّه بالرغم من ذلك فإن اللطف الإلهي يشمل الإنسان: (ويعف عن كثير). فلولا عفو الخالق لم يكن لينجو أحد من عذاب الخالق سوى المعصومين والخواص والطاهرين، كما نقرأ ذلك في الآية (45) من سورة فاطر: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخر هم إلى أجل مسمى).
نعم، فهو يستطيع أن يمنع الرياح من الهبوب حتى تقف السفن في وسط البحار والمحيطات، أو يحوّل هذه الرياح إلى عواصف هوجاء تدمر هذه السفن والبواخر، إلاّ أن لطفه العام يمنع هذا العمل.
(ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص)(1) وما لهم من ملجأ سوى ذاته المنزهة.
فهؤلاء سوف لا يشملهم العفو الإلهي، لأنّهم عارضوه بعلم ووعي، واستمروا
1 ـ جملة (ويعلم الذين يجادلون...) كما يقول الزمخشري في كشافه: وردت منصوبة بسبب عطفها على تعليل محذوف وتقديره: لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون... فالهدف أن ينتقم الخالق من هذه المجموعة، والهدف أن يعلم المجادلون بعدم وجود طريق للنجاة.
في محاربته عن عداوة وعناد، فهؤلاء سوف لا يشملهم عفوه ورحمته، ولا خلاص لهم من عذابه.
«محيص» مأخوذة من كلمة (حيص) على وزن (حيف) وتعني الرجوع والعدول عن أمر ما، وبما أن (محيص) اسم مكان، لذا وردت هذه الكلمة، بمعنى محل الهروب أو الملجأ.
والكلام في آخر آية موجّه إلى الجميع حيث تقول: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا).
فلا تتصوروا أنّه سيبقى لكم، لأنّه كالوميض الذي يبرق ثمّ يخبو، وكالشمعة في مهبّ الريح والفقاعة على سطح الماء، ولكن (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون).
فلو استطعتم أن تستبدلوا هذا المتاع الدنيوي الزائل المحدود التافه بمتاع أبدي خالد، فتلك هي التجارة المربحة العديمة النظير.
فالمواهب في هذه الدنيا لا تخلو من المشاكل، حيث توجد الأشواك دائماً إلى جانب الورود، والمحبطات إلى جانب الآمال، في حين أن الأجر الإلهي لا يحتوي على أي إزعاجات، بل هو خير خالص ومتكامل.
ومن جانب آخر فإن هذه المواهب مهما كانت فستزول حتماً، إلاّ أن الجزاء الأُخروي أبدي خالد، عندها هل يقبل العقل أن يستغني الإنسان عن هذه التجارة المربحة، أو يصاب بالغرور والغفلة وتبهره زخارف الدنيا؟
لذا فإننا نقرأ في الآية 38 من سورة التوبة: (ارضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل).
واساساً، فإنّ «الحياة الدنيا» (بالمعنى المتقدم) تشير إلى الحياة الدنية والحقيرة، وطبيعي أن أي متاع أو وسائل للإستفادة من مثل هذه الحياة ستكون ـ أيضاًـ مثلها في القيمة.
لذا فقد ورد في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «والله ما الدنيا في الآخرة إلاّ مثل أن يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع؟!»(1).
والملفت للنظر أنّه ورد في هذه الآية التأكيد على الإيمان والتوكل، وهذا بسبب أن نيل الأجر الإلهي هو للذين يفوضون أُمورهم في جميع الأعمال ويستسلمون له تعالى إضافة إلى الإيمان، لأن التوكل يعني تفويض الأمور. وتقابل هذه المجموعة أشخاص يجادلون في آيات الله بسبب حب الدنيا والإرتباط بالمتاع الزائل، ويقلبون الحقائق، وبهذا الترتيب فإن آخر آية هي بمثابة تعليل للآية التي قبلها، والتي كانت تتحدث عن الذين يجادلون في آيات الله.
* * *
1 ـ روح البيان، المجلد الثّالث، ص429 (نهاية الآية 38 من سورة التوبة)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـئِرَ الاِْثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ( 37 ) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنْفِقُونَ( 38 ) وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ( 39 ) وَجَزَؤُاْ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـلِمِينَ( 40 )
هذه الآيات استمرار للبحث الوارد في الآيات السابقة بخصوص الأجر الإلهي للمؤمنين المتوكلين.
فبعد ذكر الإيمان والتوكل اللذين لهما طبيعة قلبية، تشير هذه الآيات إلى سبعة أنواع من البرامج العملية للصفتين السابقتين سواء كانت إيجابية أو سلبية، فردية أو إجتماعية، مادية أو معنوية، وهذه البرامج توضح أسس المجتمع الصالح والحكومة الصالحة القوية.
والملفت للنظر أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة ـ كما يظهر ـ وفي ذلك اليوم لم
يكن قد تأسس المجتمع الإسلامي بعد، ولم يكن هناك وجود للحكومة الإسلامية، إلاّ أن هذه الآيات أعطت التفكير الإسلامي الصحيح في هذا الخصوص منذ ذلك اليوم، حيث كان الرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) يعلّمهم ويربّيهم لغرض الإستعداد لبناء المجتمع الإسلامي في المستقبل.
فأوّل صفة تبدأ من التطهير حيث تقول الآية أن الثواب الإلهي العظيم سوف يكون من نصيب المؤمنين المتوكلين: (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش)(1).
«كبائر» جمع «كبيرة» وتعني الذنوب الكبيرة، أمّا ما هو المعيار في الكبائر؟ البعض فسّرها بالذنوب التي توعد القرآن في آياته بعذاب النّار لها، وأحياناً الذنوب التي تستوجب الحدّ الشرعي.
وقد احتمل البعض أنّها إشارة للبدع وإيجاد الشبهات الإعتقادية في أذهان الناس.
ولكننا لو رجعنا إلى المعنى اللغوي كلمة «كبيرة» فإنّها تعني الذنب الذي يكون كبيراً ومهماً من وجهة نظر الإسلام، وأحد علائم أهميته أنّه ورد في القرآن المجيد وتوعد بالعذاب عليه، وقد ورد تفسير للكبائر في روايات أهل البيت(عليهم السلام)بأنّها: «التي أوجب الله عزّوجلّ عليها النّار»(2).
وعلى هذا الأساس فلو توضحت أهمية وعظمة الذنب بطرق اُخرى، عندها سيشمله عنوان (الكبائر).
«فواحش» جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة للغاية والممقوتة، وذكر هذه العبارة بعد كلمة (الكبائر) من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وفي الحقيقة فإنّ
1 ـ يعتقد غالب المفسّرين أن (الذين يجتنبون) عطف لـ(الذين آمنوا) في الآية السابقة، بالرغم من احتمال البعض أنّها مبتدأ خبره محذوف (وفي التقدير والذين يجتنبون... لهم مثل ذلك من الثواب) إلاّ أن المعنى الأوّل أفضل ظاهراً.