والتعبير بالأنهار، المراد منه نهر النيل، بسبب أن هذا النهر العظيم كالبحر المترامي الأطراف، وكان يتشعب إلى فروع كثيرة تروي كل المناطق العامرة في مصر.
وقال بعض المفسّرين: كان لنهر النيل (360) فرعاً، وكان أهمها: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس.
1 ـ الواو في جملة (وهذه الأنهار تجري من تحتي) يمكن أن تكون عاطفة على (ملك مصر) ويمكن أن تكون حالية (تفسير الكشاف). إلاّ أن الإحتمال الأوّل يبدو هو الأنسب.
أمّا لماذا يؤكّد فرعون على نهر النيل خاصّة؟ فذلك لأنّ كل عمران مصر وثروتها وقوتها وتطورها كان يستمد طاقته من النيل، من هنا فإنّ فرعون كان يُدِلّ به، ويفتخر به على موسى.
والتعبير بـ(تجري من تحتي) لا يعني أن نهر النيل يمر من تحت قصري، كما قال ذلك جمع من المفسّرين، لأنّ نهر النيل كان أعظم من أن يمرّ من تحت قصر فرعون ولو كان المراد أنّه يمرّ بمحاذاة قصره، فإنّ كثيراً من قصور مصر كانت على هذه الحال، وكان أغلب العمران على حافتي هذا الشط العظيم، بل المراد أنّ هذا النهر تحت أمري، ونظام تقسيمه على المزارع والمساكن حسب التعليمات التي أريدها.
ثمّ يضيف: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)(1) وبهذا يكون قد خص نفسه بافتخارين عظيمين ـ حكومة مصر، وملك النيل ـ، وذكر لموسى نقطتي ضعف: الفقر ولكنة اللسان.
هذا في الوقت الذي لم يكن بموسى أية لكنة في اللسان، لأنّ الله تعالى قد استجاب دعاءه، ورفع عنه عقدة لسانه، لأنّه سأل ربّه عند البعثة أن: (واحلل عقدة من لساني)(2)، ومن المسلّم أن دعاءه قد استجيب، والقرآن شاهد على ذلك أيضاً.
ليس عيباً عدم امتلاك الثروة الكثيرة، والألبسة الفاخرة، والقصور المزينة، والتي تحصل عادة عن طريق ظلم المحرومين والجور عليهم، بل هو فخر وكرامة وسمو.
إنّ التعبير بـ «مهين» لعله إشارة إلى الطبقات الإِجتماعيّة في ذلك الزمان، حيث كانوا يظنون أن الأشراف الأقوياء والأثرياء طبقة متعالية، والكادحين الفقراء
1 ـ اعتبر جماعة (أم) في الجملة أعلاه منقطعة، وأنها بمعنى (بل)، وذهب البعض أنها متصلة ومتعلقة بجملة (أفلا تبصرون)، وتقدير الجملة: أفلا تبصرون أم تبصرون أنا خير من هذا...
2 ـ طه، الآية 27.
طبقة واطئة، أو أنّه إشارة إلى أصل موسى حيث كان من بني إسرائيل، وكان الأقباط يرون أنهم ساداتهم وكبراؤهم.
ثمّ تشبث فرعون بذريعتين أخريين، فقال: (فلولا أُلقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين)(1) فلو أنّ الله قد جعله رسوله فلماذا لم يعطه أساور من ذهب، ومعاونين له كباقي الرسل؟
يقولون: إنّ الفراعنة كانوا يعتقدون أنّ الرؤساء يجب أن يزينوا أنفسهم بالأساور والقلائد الذهبية، ولذلك فإنّهم يتعجبون من موسى إذ لم يكن معه مثل آلات الزينة هذه، بل كان قد لبس بدل ذلك ملابس الرعي الصوفية، وهذا هو حال المجتمع الذي يكون معيار تقييم الشخصية في نظره الذهب والفضة وأدوات الزينة.
أمّا أنبياء الله فإنّهم باطراحهم هذه المسائل ـ بالذات ـ جانباً كانوا يريدون أن يبطلوا هذه المقاييس الكاذبة، وأن يزرعوا محلها القيم الإِنسانية الأصيلة ـ أي العلم والتقوى والطهارة ـ لأنّ نظام القيم إذا لم يُصلح في مجتمع فسوف لن يرى ذلك المجتمع وجه السعادة أبداً.
على أية حال، فإنّ ذريعة فرعون هذه تشبه الذريعة التي نقلت عن مشركي مكّة قبل عدّة آيات حيث كانوا يقولون: لِمَ لَم ينزل القرآن على عظيم من مكّة والطائف؟!
والحجّة الثانية هي تلك الحجّة المعروفة التي كانت تطرحها كثير من الأُمم الضالة العاصية في مواجهة الأنبياء، فكانوا يقولون أحياناً: لماذا أرسل الله بشراً وليس ملكاً؟ وأحياناً أُخرى: إذا كان إنساناً فلماذا لم يأت معه ملك؟
في حين أنّ الرسل المبعوثين إلى البشر يجب أن يكونوا من جنسهم ليلمسوا حاجاتهم، ويحسوا بمشاكلهم ومسائلهم ويجيبوهم، وليقدروا على أن يكونوا من
1 ـ جاءت كلمة «مقترنين» هنا بمعنى المتتابعين أو المتعاضدين، وقال البعض: إن الإقتران هنا بمعنى التقارن.
الناحية العملية قدوة وأسوة لهم(1).
ويلزم أن نذكر هنا أن «الأسورة» جمع سوار، سواء كان من الذهب أم من الفضة.
وتشير الآية التالية إلى نكتة لطيفة، وهي: إنّ فرعون لم يكن غافلاً عن واقع الأمر تماماً، وكان ملتفتاً إلى أن لا قيمة لهذه القيم والمعايير، إلاّ أنّه: (فاستخف قومه فأطاعوه).
إنّ طريقة كل الحكومات الجبارة الفاسدة من أجل الإِستمرار في تحقيق أهدافها وأنانياتها، هي الإِبقاء على الناس في مستوى مترد من الفكر والثقافة والوعي، وتسعى إلى تركهم حمقى لا يعون ما حولهم باستخدام أنواع الوسائل، فتجعلهم غرقى في حالة من الغفلة عن الوقائع والأحداث والحقائق، وتنصب لهم قيماً وموازين كاذبة منحطة بدلاً من الموازين الحقيقية، كما تمارس عملية غسل دماغ تام متواصل لهذه الشعوب، وذلك لأن يقظتها ووعيها، وتنامي رشدها الفكري يشكل أعظم خطر على الحكومات، ويعتبر أكبر عدو للحكومات المستبدة، فهذا الوعي بمثابة مارد يجب أن تحاربه بكل ما أوتيت من قوّة.
إنّ هذا الأسلوب الفرعوني ـ أي استخفاف العقول ـ حاكم على كل المجتمعات الفاسدة في عصرنا الحاضر، بكل قوّة واستحكام، وإذا كان تحت تصرف فرعون وسائل محدودة توصله إلى نيل هدفه، فإن طواغيت اليوم يستخفون عقول الشعوب بواسطة وسائل الإِتصال الجماعية، الصحف والمطبوعات، شبكات الراديو والتلفزيون، أنواع الأفلام، بل وحتى الرياضة في قالب الإِنحراف، وابتداع أنواع الأساليب المضحكة المستهجنة، لتغرق هذه الشعوب في بحر الغفلة، فيطيعوهم ويستسلموا لهم، ولهذا كانت المسؤولية الملقاة على عاتق علماء الدين والملتزمين به ـ والذين يحيون خط الأنبياء الفكري والعقائدي ـ ثقيلة في محاربة
1 ـ ورد في التّفسير الأمثل، ذيل الآية (9) من سورة الأنعام بحث مفصل في هذا الباب.
برامج استخفاف العقول، فهي من أهم واجباتهم.
والطريف أنّ الآية المذكورة تنتهي بجملة: (إنّهم كانوا قوماً فاسقين)، إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم الضالين لو لم يكونوا فاسقين ومتمردين على طاعة الله عزَّوجلّ وحكم العقل، لما كانوا يستسلمون لمثل هذه الدعايات والخزعبلات ويصغون إليها، فهم قد هيؤوا أسباب ضلالهم بأيديهم، ولذلك فإنّهم ليسوا معذورين في هذا الضلال أبداً.
صحيح أنّ فرعون قد سرق عقول هؤلاء وحملهم على طاعته، إلاّ أنّهم قد أعانوه على هذه السرقة باتباعهم الأعمى له.
نعم، كان هؤلاء قوماً فاسقين يتبعون فاسقاً.
كانت هذه جنايات فرعون وآل فرعون ومغالطاتهم في مواجهة رسول الله موسى(عليه السلام)، لكننا نرى الآن إلى أين وصلت عاقبة أمرهم بعد كل هذا الوعظ والإِرشاد وإتمام الحجج من طرق مختلفة، إذ لم يسملوا للحق:
تقول الآية: (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) فقد اختار الله سبحانه لهؤلاء عقوبة الإِغراق بالخصوص من بين كل العقوبات، وذلك لأنّ كلّ عزّتهم وشوكتهم وافتخارهم وقوّتهم كانت بنهر النيل العظيم وفروعه الكثيرة الكبيرة، والذي كان فرعون يؤكّد عليه من بين كل مصادر قوته، إذ قال: (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي)؟
نعم، يجب أن يكون مصدر حياتهم وقوّتهم، سبب هلاكهم وفنائهم، ويكون قبراً لهم ليعتبر الآخرون!
«آسفونا» من مادة الأسف، وهو الحزن والغم، ويأتي بمعنى الغضب، بل إنّه يقال للحزن المقترن بالغضب أحياناً ـ على قول الراغب في مفرداته(1) ـ وقد يقال لكل منهما على الإِنفراد. وحقيقته ثوران دم القلب، شهوة الإِنتقام، فمتى كان ذلك
1 ـ مفردات الراغب، مادة (أسف).
على من دونه انتشر فصار غضباً، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزناً، ولذلك سئل ابن عباس عن الحزن والغضب فقال: «مخرجهما واحد واللفظ مختلف».
وفسر بعضهم «آسفونا» بـ (آسفوا رسلنا)، إلاّ أن هذا التّفسير يبدو بعيداً، ولا ضرورة لمثل هذا الخلاف الظاهري.
وهنا نكتة تستحق الإِنتباه، وهي أنه لا معنى للحزن والغم بالنسبة إلى الله سبحانه، ولا الغضب بالمعنى المتعارف بيننا، بل إن غضب الله يعني «إرادة العقاب»، ورضاه يعني «إرادة الثواب».
وتقول الآية الأخيرة كاستخلاص لنتيجة مجموع ما مر من كلام: (فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين).
«السلف» في اللغة يعني كل شيء متقدم، ولذلك يقال للأجيال السابقة: سلف، وللأجيال الآتية: خلف، ويسمّون المعاملات التي تتمّ قبل الشراء «سلفاً»، لأنّ ثمن المشتري يدفع من قبل.
والمثل يقال للكلام الدائر بين الناس كعبرة، ولما كانت قصة فرعون والفراعنة ومصيرهم المؤلم عبرة عظمى، فقد ذكرت في هذه القصة كعبرة للأقوام الآخرين.
* * *
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( 57 )وَقَالُواْ ءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ( 58 ) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَـهُ مَثَلاً لِّبَنِى إِسْرءِيلَ( 59 ) وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُم مَّلَـئِكَةً فِى الأَرْضِ يَخْلُفُونَ( 60 ) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَـذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ( 61 ) وَلاَيَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـنُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ( 62 )
جاء في سيرة ابن هشام: «وجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً ـ فيما بلغني ـ مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أفحمه ثمّ تلا عليه
وعليهم: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون...).
ثمّ قام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأقبل عبدالله بن الزبعري السهمي حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً وما قعد، وقد زعم محمّد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبدالله: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمّداً: أكلُّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد عيسى بن مريم (عليهما السلام)، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبدالله بن الزّبعري، ورأوا أنّه قد احتجّ وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من قول ابن الزبعري، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إن كل من أحبّ أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنّهم إنّما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته»(1).
فنزلت الآية الشريفة (101) من سورة الأنبياء: (إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أُولئك عنها مبعدون) وكذلك نزلت الآية: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون).
* * *
تتحدث هذه الآيات حول مقام عبودية المسيح(عليه السلام)، ونفي مقولة المشركين بألوهيته وألوهية الأصنام، وهي تكملة للبحوث التي مرت في الآيات السابقة حول دعوة موسى ومحاربته للوثنية الفرعونية، وتحذير لمشركي عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وكل مشركي العالم.
1 ـ سيرة ابن هشام، المجلد الأوّل، صفحة 385، بتلخيص قليل.
وبالرغم من أنّ الآيات تتحدث بإبهام، إلاّ أنّ محتواها ليس معقّداً ولا غامضاً للقرائن الموجودة في نفس الآيات، وآيات القرآن الأُخرى، رغم التفاسير المختلفة التي ذكرها المفسّرون.
تقول الآية الأولى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون)(1).
أىّ مثل كان هذا؟ ومن الذي قاله في حقّ عيسى بن مريم؟
هذا هو السؤال الذي اختلف المفسّرون في جوابه على اقوال، إلاّ أنّ الدقّة في الآيات التالية توضح أنّ المثل كان من جانب المشركين، وضرب فيما يتعلق بالأصنام، لأنّا نقرأ في الآيات التالية: (ما ضربوه إلاّ جدلاً).
بملاحظة هذه الحقيقة، وما جاء في سبب النّزول، يتّضح أن المراد من المثل هو ما قاله المشركون استهزاء لدى سماعهم الآية الكريمة: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)(2)، وكان ما قالوه هو أن عيسى بن مريم قد كان معبوداً، فينبغي أن يكون في جهنم بحكم هذه الآية، وأي شيء أفضل من أن نكون نحن وأصنامنا مع عيسى؟! قالوا ذلك وضحكوا واستهزؤوا وسخروا!
ثمّ استمرّوا: (وقالوا أآلهتنا خير أم هو)؟ فإذا كان من أصحاب الجحيم، فإنّ آلهتنا ليست بأفضل منه ولا أسمى.
ولكن، اعلم أنّ هؤلاء يعلمون الحقيقة، و(ماضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون)(3).
إنّ هؤلاء يعلمون جيداً أنّ الآلهة الذين يردون جهنم هم الذين كانوا راضين بعبادة عابديهم، كفرعون الذي كان يدعوهم إلى عبادته، لا كالمسيح(عليه السلام) الذي كان ولا يزال رافضاً لعملهم هذا، ومتبرءاً منه.
1 ـ «يصدون» من مادة صد، ويكسر مضارعها، وهي تعني الضحك والصراخ، وإحداث الضجيج والغوغاء، حيث يضعون يداً بيد عند السخرية والإستهزاء عادة. يراجع لسان العرب، مادة: صدد.
2 ـ الأنبياء، الآية 98.
3 ـ «خصمون» جمع خصم، وهو الشخص الذي يجادل ويخاصم كثيراً.
بل: (إن هو إلاّ عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل) فقد كانت ولادته من غير أب آية من آيات الله، وتكلمه في المهد آية أُخرى، وكانت كل معجزة من معجزاته علامة بينة على عظمة الله سبحانه، وعلى مقام النبوّة.
لقد كان عيسى مقِراً طوال حياته بالعبودية لله، ودعا الجميع إلى عبوديته سبحانه، ولما كان موجوداً في أُمته لم يسمح لأحد بالإِنحراف عن مسير التوحيد، ولكن المسيحيين أوجدوا خرافة ألوهية المسيح، أو التثليث، بعده(1).
والطريف أن نقرأ في روايات عديدة وردت عن طريق الشيعة والسنة، أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام): «إن فيك مثلاً من عيسى، أحبّه قوم فهلكوا فيه، وأبغضه قوم فهلكوا فيه» فقال المنافقون: أما رضي له مثلاً إلاّ عيسى، فنزل قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون).
وما قلناه متن رواية أوردها الحافظ أبو بكر بن مردويه ـ من علماء أهل السنة المعروفين ـ في كتاب المناقب. طبقاً لنقل كشف الغمة صفحة 95.
1 ـ احتملوا في تفسير الآيات أعلاه احتمالات أُخرى، وكل منها لا يتناسب مع محتوى الآيات:
1 ـ فقال البعض: إنّ المراد من المثل الذي ضربه المشركون هو أنّهم قالوا بعد ذكر المسيح وقصته في آيات القرآن: إنّ محمّداً يهيء الأرضية ليدعونا إلى عبادته، والقرآن في مقام الدفاع عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لم يكن المسيح مدعياً للألوهية، وسوف لن يدعيها هو أيضاً. 2 ـ وقال البعض الآخر: إنّ المراد من المثل في الآيات المذكورة هو التشبيه الذي ذكره الله سبحانه في شأن المسيح في الآية (59) من سورة آل عمران، حيث يقول: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون)فإذا كان عيسى قد ولد من غير أب فإن ذلك لا يثير العجب، لأنّ آدم قد ولد من غير أب وأم، بل من التراب بأمر الله تعالى. 3 ـ واحتمل بعض آخر أنّ المراد من المثل هو قول المشركين حيث كانوا يقولون: إذا كان النصارى يعبدون المسيح، فلماذا لا تكون آلهتنا التي هي أسمى منه، لائقة للعبادة وأهلاً لها؟ غير أنّ الإلتفات إلى الخصوصيات التي ذكرت في هذه الآيات يوضح أن أيّاً من هذه التّفسيرات الثلاثة لا يصح، لأنّ الآيات تبيّن جيداً: أوّلاً: أنّ المثل كان من ناحية المشركين. ثانياً: كان الموضوع قد أثار ضجة وصخباً، وكان مضحكاً بنظرهم. ثالثاً: كان شيئاً على خلاف مقام عبودية المسيح (عليه السلام). رابعاً: أنّه كان يحقق هدف هؤلاء، وهو الجدال في أمر كان كاذباً. وهذه الخصائص لا تتناسب إلاّ مع ما قلناه في المتن فقط.وقد نقل جمع آخر من علماء السنة، وكبار علماء الشيعة هذه الحادثة في كتب عديدة، تارة بدون ذكر الآية أعلاه، وأُخرى مع ذكرها(1).
إنّ القرائن الموجودة في الآيات توحي بأن هذا الحديث المعروف من قبيل تطبيق المصداق، لا أنه سبب النّزول، وبتعبير آخر: فإنّ سبب نزول الآية هو قصة عيسى وقول المشركين وأصنامهم، لكن لما وقع لعلي(عليه السلام) حادث شبيه لذاك بعد ذلك القول التاريخي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هذه الآية هنا ليبين أنّ هذا الحادث كان مصداقاً لذاك من جهات مختلفة.
ولئلا يتوهموا أنّ الله سبحانه محتاج لعبوديتهم، وأنّه يصر عليها، فإنّه تعالى يقول في الآية التالية: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) ملائكة تخضع لأوامر الله، ولا تعرف عملاً إلاّ طاعته وعبادته.
واختار جمع من المفسّرين تفسيراً آخر للآية، يصبح معنى الآية على أساسه: ولو نشاء لجعلنا أبناءكم ملائكة يخلفونكم في الأرض. بناء على هذا فلا تعجبوا من أن يولد المسيح من دون أب، فإنّ الله عزَّوجلّ قادر على أن يخلق ملكاً من الإِنسان، وهو نوع يختلف عنه(2).
ولما كان تولد الملك من الإِنسان لا يبدوا مناسباً، فقد فسّره بعض كبار المفسّرين بولادة الأبناء الذين يتمتعون بصفات الملائكة، وقالوا: إن المراد: لا تعجبوا من أن تكون لعبد كالمسيح القدرة على إحياء الموتى، وإبراء المرضى بإذن الله، وهو في الوقت نفسه عبد مخلص مطيع لأمر الله، فإنّ الله قادر على أن يخلق
1 ـ لمزيد الإطلاع راجعوا: كتاب إحقاق الحق، المجلد 3، صفحة 398 وما بعدها، تفسير نور الثقلين، المجلد 4، صفحة 609 وما بعدها، وتفسير مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث.
2 ـ اختار التّفسير الأوّل، الطبرسي في مجمع البيان، والشيخ الطوسي في التبيان، وأبو الفتوح الرازي وآخرون.
أما التّفسير الثّاني فقد نقله القرطبي والآلوسي في روح المعاني، والزمخشري في الكشاف، والمراغي، على أنه المعنى الوحيد للآية، أو أنّه أحد معنيين لها.من ابنائكم من تكون فيه كل صفات الملائكة وطبائعهم(1).
إلاّ أن التّفسير الأوّل ينسجم مع ظاهر الآية أكثر من الجميع، وهذه التفاسير بعيدة(2).
والآية التالية إشارة إلى خصيصة أُخرى من خصائص المسيح (عليه السلام) فتقول: إن عيسى سبب العلم بالساعة (وإنه لعلم للساعة)إمّا أن ولادته من غير أب دليل على قدرة الله اللامتناهية، فتحُل على ضوئها مسألة الحياة بعد الموت، أو من جهة نزول المسيح (عليه السلام) من السماء في آخر الزمان طبقاً لروايات عديدة، ونزوله هذا دليل على اقتراب قيام الساعة.
يقول جابر بن عبدالله: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «ينزل عيسى بن مريم، فيقول أميرهم: تعال صلّ بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة من الله لهذه الأُمّة»(3).
ونقرأ في حديث آخر عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم»(4).
وعلى أية حال، فإنّ إطلاق (العلم) على المسيح نوع من التأكيد والمبالغة، وهو إشارة إلى أن نزوله من علامات القيامة حتماً.
واحتمل أيضاً أن يعود الضمير في (أنه) على القرآن، وعلى هذا يكون معنى الآية: إنّ نزول القرآن الذي هو آخر الكتب السماوية، دليل على اقتراب الساعة، ويخبر عن قيام القيامة.
غير أنّ الآيات السابقة واللاحقة حول عيسى تقوي التّفسير الأوّل.
ثمّ تقول الآية بعد ذلك: إن قيام الساعة حتم، ووقوعها قريب: (فلا تمترنَّ بها)
1 ـ الميزان، ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ طبقاً للتفسير الأوّل، فإن (من) للبدلية، وبناء على التّفسيرين الثّاني والثّالث فإن (من) للإنشاء والإبتداء.
3 ـ نقل هذا الحديث صاحب مجمع البيان عن صحيح مسلم في ذيل الآيات مورد البحث.
4 ـ مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث، وتفسير روح المعاني، المجلد 5، صفحة 88.
لا من حيث الإِعتقاد بها ولا من حيث الغفلة عنها.
(واتبعون هذا صراط مستقيم) وأي صراط أكثر استقامة من الذي يخبركم بالمستقبل الخطير الذي ينتظركم، ويحذركم منه، ويدلكم على طريق النجاة من أخطار يوم البعث؟!
إلاّ أن الشيطان يريد أن يبقيكم في عالم الغفلة والإِرتباط بها، فاحذروا: (ولا يصدنكم الشيطان إنّه لكم عدو مبين).
لقد أظهر عداءه لكم منذ اليوم الأوّل، مرّة عند وسوسته لأبيكم وأمكم ـ آدم وحواء ـ وإخراجهما من الجنّة، وأُخرى عندما أقسم على إضلال بني آدم وإغوائهم، إلاّ المخلَصين منهم، فكيف تخضعون أمام هكذا عدو لدود أقسم على أذاكم ودفعكم إلى الهاوية السحيقة؟ وكيف تسمحون له أن يتسلط على قلوبكم وأرواحكم، وأن يمنعكم عن طريق الحق بوساوسه المستمرة؟!
* * *
وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَـتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَطِيعُونِ( 63 ) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَطٌ مُّسْتَقِيمٌ( 64 ) فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْم أَلِيم( 65 )
مرت الإِشارة إلى جانب من خصائص حياة المسيح (عليه السلام) في الآيات السابقة، وتكمل هذه الآيات ذلك البحث، وتؤكّد بالخصوص على دعوة المسيح إلى التوحيد الخالص، ونفي كل شكل من أشكال الشرك.
تقول الآية أوّلاً: (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) وبهذا فقد كانت «البينات» ـ أي آيات الله والمعجزات ـ رأسمال عيسى، إذ كانت تبين حقانيته من جانب، وتبين من جانب آخر الحقائق
المرتبطة بالمبدأ والمعاد واحتياجات حياة البشر.
ويصف عيسى(عليه السلام) محتوى دعوته بـ «الحكمة» في عبارته، ونحن نعلم أن أساس الحكمة هو المنع من شيء بقصد إصلاحه، ثمّ أُطلقت على كل العقائد الحقّة، وبرامج الحياة الصحيحة التي تصون الإِنسان من أنواع الإِنحراف في العقيدة والعمل، وتتناول تهذيب نفسه وأخلاقه، وعلى هذا فإن للحكمة هنا معنى واسعاً يشمل «الحكمة العلمية» و«الحكمة العملية».
ولهذه الحكمة ـ إضافة إلى ما مرّ ـ هدف آخر، وهو رفع الإِختلافات التي تخلّ بنظام المجتمع، وتجعل الناس حيارى مضطربين، ولهذا السبب نرى المسيح(عليه السلام)يؤكّد على هذه المسألة.
وهنا يطرح سؤال التفت إليه أغلب المفسّرين، وهو: لماذا يقول: (قد جئتكم بالحكمة ولأُبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) ولم لا يبيّن الجميع؟
وقد ذكرت أجوبة عديدة لهذا السؤال، وأنسبها هو:
إنّ الإِختلافات التي بين الناس نوعان: منها ما يكون مؤثراً في مصيرهم من الناحية العقائدية والعملية، ومنها ما يكون في الأُمور غير المصيرية، كالنظريات المختلفة حول نشأة المنظومة الشمسية والسماوات، وكيفية الأفلاك والنجوم، وماهية روح الإِنسان، وحقيقة الحياة، وأمثال ذلك.
ومن الواضح أنّ الأنبياء مكلّفون أن ينهوا الإِختلافات من النوع الأوّل ويقتلعوها بواسطة تبيان الحقائق، ولكنّهم غير مكلّفين برفع أي اختلاف كان حتى وإن لم يكن له تأثير في مصير الإِنسان مطلقاً.
ويحتمل أيضاً أن تبيان بعض الإِختلافات نتيجة وغاية لدعوة الأنبياء، أي إنّهم سيوفقون أخيراً في حل بعض هذه الإِختلافات، أمّا حلّ جميع الإِختلافات في الدنيا فإنّه أمر غير ممكن، ولذلك تبيّن آيات متعددة من القرآن المجيد أن أحد خصائص القيامة هو ارتفاع كل الإِختلافات وانتهاؤها، فنقرأ في الآية (92) من
سورة النحل: (وليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون).
وقد جاء هذا المعنى في الآيات، 55 ـ آل عمران، 48 ـ المائدة، 164 ـ الأنعام، 69 ـ الحج، وغيرها(1).
وتضيف الآية في النهاية: (فاتقوا الله وأطيعون).
بعد ذلك، ومن أجل أن ترفع كل نوع من الإِبهام في مسألة عبوديته، تقول الآية: (إنّ الله هو ربّي وربّكم).
الملفت للإِنتباه تكرار كلمة «الرب» مرّتين في هذه الآية، مرّة في حقّه، وأُخرى في حق الناس، ليويضح للناس أنّي وإيّاكم متساوون، وربّي وربّكم واحد. وأنا مثلكم محتاج في كل وجودي إلى الخالق المدبر، فهو مالكي ودليلي.
وللتأكيد أكثر يضيف: (فاعبدوه) إذ لا يستحق العبادة غيره، ولا تليق إلاّ به، فهو الرب والكل مربوبون، وهو المالك والكل مملوكون.
ثمّ يؤكّد كلامه بجملة أُخرى حتى لا تبقى لمتذرع ذريعة، فيقول: (هذا صرط مستقيم)(2).
نعم، إنّ الصراط المستقيم هو طريق العبودية لله سبحانه ... ذلك الطريق الذي لا إنحراف فيه ولا اعوجاج، كما جاء في الآية (61) من سورة يس: (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم).
لكن العجب أن يختلف أقوام من بعده مع كل هذه التأكيدات: (فاختلف الأحزاب من بينهم)(3):
1 ـ قال بعض آخر من المفسّرين: إن (بعض) هنا بمعنى الكل، أو أن التعبير بـ (بعض الذي تختلفون فيه) إضافة موصوف إلى الصفة، أو أن هذا التعبير إشارة إلى أنّي أبيّن لكم أُمور الدين وحسب، لا اختلافاتكم في أمر الدنيا. إلاّ أن أيّاً من هذه التفاسير لا يستحق الإِهتمام.
2 ـ ورد نظير هذه الآية بتفاوت يسير في سورة مريم ـ 36، وسورة الأنعام ـ 51، وتكرار هذا المعنى تأكيد على أن عيسى (عليه السلام) قد أتمّ الحجة على جميع هؤلاء في مورد عبوديته وكونه عبداً لله سبحانه.